البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة [: كتاب الحبس
الأول]
[مسألة: حبس خادما على قوم مفترقين]
كتاب الحبس الأول من سماع ابن القاسم من مالك
من كتاب الرطب باليابس
قال سحنون: أخبرني ابن القاسم قال مالك من حبس خادِما على أهل بيت لمِ يدخل
عليهم أحد من غيرهم وكانت لِلآخِرِ منهم، ومن حبس خادماَ على قوم مفترقين
فمن مات منهم فنصيبُه للذي حبسه، قال ابن القاسم: قال مالك: إن قال لهذا
يوم ولهذا يوم رجع نصيب الذي مات إلى الذي حبسه، وإن كان حبسه على قوم ولم
يقل لهذا يوم ولهذا يوم فمن مات فنصيبه على من بقي من أصحابه في الحبس،
وقال سحنون: هذا أصل جيد فعليه فقس وهي جيدة.
قال محمد بن رشد: أهل البيت هم المنتسبون إلى رجل واحد من رجل أو امرأة
انتسابا معروفا يجب به الميراث، فمن حبس حبسا على أهل بيت رجل وجبَ الحبُس
للمنتسبين إلى من ينتسب إلى ذلك الرجل من رجل أو امرأة، وفي دُخول ذلك
الرجل فيه اختلافٌ، قيل إنه يدخل فيه بالمعنى إذا كان على مثل حالهم من
الفقر أو الغنى، وقيل إنه لا يدخل فيه لأنه إنما حبس على أهل بيته ولم يحبس
عليه، والقولان يتخرجان على المعنى الذي ذكرته في رسم البز من سماع
(12/185)
ابن القاسم من كتاب البضائع والوكالات.
ولا يدخل في ذلك أزواجه إذا لم يُكُنَّ من أهل بيته وإن كن ساكنات معه في
بيته، والأصل في ذلك ما روي «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ لما
نزلت هذه الآية {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ
أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33] دَعَا عليا وفاطمة وحسنا وحسينا - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ - فقال: اللَّهُمْ هَؤُلاَءِ أَهْلِي» وروي أيضا أنه
أدخلهم تحت ثوبه ثم جَأَرَ إلى الله عز وجل فقال: «يَا رِبِّ هَؤُلاَءِ
أَهْلِي» وزاد هذا بيانا ما روي عن أم سلمة أنها قالت: «نزلت هذه الآية في
بيتي {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ
الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33] فقلت يا رسول الله: ألَسْتُ مِنْ أَهْلِ
البَيْتِ؟ قال: أنتِ على خير إنك من أزواج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -»
، وفي البيت عليّ وفاطمة والحسن والحسين، إلَّا أن يعلم أن المحبس أراد
بتحبيسه على أهل بيت الرجل السكانَ معه في بيته من أزواجه وغيرهِن بِنَص
منه على ذلك أو دليل يدل عليه من عرف بين أو بساط ظاهر.
قال محمد بن رشد: وقولُه في الرواية إن من حبس على أهل بيت لم يدخل عليهم
غيرهم صحيحٌ لا اختلاف فيه، إذ لا يدخل في الحبس سوى من حبس عليه، وأما
قولُه: وكانت للآخِر ِمنهم، يريد مِلْكا، فوجه ذلك أن مَالِكَا كره في
تحبيس الحيوان أن يكون على العقب بخلاف الرباع إلّا أنه إن وقع أمضاه على
ما شرطوا إن أرادَ تغيره إلى ما هو أفضلُ للعبد وأقربُ إلى الله فعل، وقال
ابن القاسم: كرهه لأنه ضيق على العبد إن كان المحبس عبدا، وقد قال مالك في
رسم البز بعد هذا: من حبس خادما على أمه وأخته حُبُسا صدقه لا تباع، وهي
على الباقية منهما، فماتت أخته أَلَهُ أن يُبَتِّلَهَا لأمه تبيعها إن
شاءت؟ قال: ذلك له إن شاء بعد تفكره فيها وكأنه لم يَرَهَا من ناحية الدور،
وفي كتاب ابن المواز وكأنه رَآهُ من البر، وهذا في الحيوان، ولا يجوز في
الرباع، قال محمد: وهذا
(12/186)
لأنه حق له إلى ما هو أفضل للعبد وله هو في
بِرّ ِأمه وأفضل لأمه، فإذا كان أفضلَ للثلاثة فأجيز. في الحيوان، قال ابن
القاسم ولو حول الحيوان إلى ما ليس بأفضل مما سبلها فيه لم يجز، قاله مالك،
بخلاف الدور لأن الأمة تموت وتمرض، فلما رأى الحبس في الحيوان مكروها،
واستحب للمحبس أن ينقضه ويَرُده إلى ما هو أفضل رأى أن يكون الخادم إذا
حبسها على أهل البيت للآخر منهم ملكا إذْ لم ينص في تحبيسه أنها ترجع بمرجع
الأحباس ولا تباع أبدا، إذ لو نص على ذلك لأمضاه على ما أتت به الرواية عنه
إذا فات الأمر بموت المحبس، وأشهب يرى الحبس نافذا على ما شرط في الرقيق
والدواب مثل الرباع يلزمه ذلك ويرجع كما ترجع الدور على الأقرب فالأقرب من
عصبة المحبس فيسلك بها مسلك الحبس أبدا لا يباع.
وقولُه في الرواية: ومن حبس خادما على قوم مفترقين فمن مات منهم فنصيبه
للذي حبسه معناه معَيِّنينَ، ومفترقين من أهل أبيات شتى أو مجتمعين من أهل
بيت واحد، وظاهره أن ذلك سواء قسم الخدمة بينهم فقال: لهذا يوم ولهذا يوم،
أو سكت عن ذلك لأن الحكْمَ يوجِبه إن سكت عنه، خلاف ما حكى ابنُ القاسم عن
مالك بعد ذلك واختاره سحنون واستحسنه وقال فيه إنه أصل جيد، والذي حكى عن
مالك من تفرقته بين أن يقسم الخدمة بينهم أو يسكت عن ذلك، وهو نحو ما يأتي
في رسم بع ولا نُقْصَانَ عليك من سماع عيسى من تفرقته بين أن يقول في
تحبيسه على امرأته وعلى أم ولده بينكما أو عليكما، وذلك كله خلافُ ما في
رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب في الذي أوصى في غنم له بأنها حبس على
يتيمين ليسا من ورثته لهذا منها قطيع عليه يسميه، ولهذا منها قطيع عليه
وقال: من مات منهما فلا حق له: إن من مات منهما رجع حظه على صاحبه.
فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أن من مات منهما أو منهم إن كانوا
جماعة رجع حظه على صاحبه أو على أصحابه جملة من غير تفصيل، والثاني: أن
(12/187)
حظه يرجع إلى المحبس ولا يرجع على صاحبه
ولا على أصحابه جملة من غير تفضيل، والثالث: الفرق بين أن يقسم الخدمة
بينهما أو بينهم فيقول لهذا يوم ولهذا يوم أو يقسم الغنم بينهما أو بينهم
لهذا منها قطيع بسهمه ولهذا منها قطيع بسهمه، أو يقول في تحبيسه: حبست هذا
الشيء بينكما أو بينكم أو يسكت عن ذلك كله، فلا يقسم الخدمة بينهما في
الخادم ولا الغنم بينهما ولا يقول في تحبيسه الشيء: هو بينكما أو بينكم
ويقول: هو عليكما أو عليكم، فإن قسم الخدمة بينهما أو الغنم أو قال في
التحبيس: بينكما ولم يقل عليكما رجع حظ الميت منهما إلى المحبس، وإن لم
يقسم الخدمة بينهما ولا الغنم أو وقال في التحبيس: عليكما ولم يقل بينكما
رجع حظ الميت منهما على صاحبه ولم يرجع إلى المحبس.
فإذا انقرضا جميعا رجعت الخادم إلى المحبس مالا من ماله إن كان حيا أو إلى
ورثته إن كان ميتا، وعلى قول مالك الثاني في المدونة ترجع الخادم بعد
انفراضهما لأقرب الناس بالمحبس حبسا ولا ترجع إليه ملكا مطلقا على ما قاله
ابن القاسم في رسم استأذن من سماع عيسى من أن الدور والعبيد ترجع بمرجع
الأحباس على أقرب الناس بالمحبس حبسا يريد على أحد قولي مالك في المدونة.
بخلاف الدنانير والدراهم إنها ترجع بانقراض المحبس عليه إلى المحبس ملكا؛
لأن الدنانير والدراهم يضمنها المحبس عليه ويكره تحبيسها، فلا ترجع بمرجع
الأحباس، فالدور والعقار يجوز التحبيس فيها ولا يكره، فيلزم وينفذ على سنته
ويرجع بمرجع الأحباس في الموضع الذي نصوا فيه على ذلك، وأما الحيوان فقيل
إن التحبيس فيها جائز وهو مذهب أشهب وظاهر ما في المدونة، وقيل هو مكروه،
وقيل يجوز في الخيل وحدها ويكره فيما عداها من الدواب والأنعام والعبيد
والإماء خاصة لما يرجى لهم من العتق، ويجوز فيما سوى ذلك من الحيوان، وهذا
القول هو المنصوص عليه لمالك، فعلى القول بجواز الحبس في ذلك ينفذ الحبس
فيها على سنته ويرجع بمرجع
(12/188)
الأحباس في الموضع الذي يرجع فيه العقار
بمرجع الأحباس، وعلى القول بالكراهة لا يرجع بمرجع الأحباس ويكون لآخر
العقب ملكا إن كان الحبس معقبا وهو قول مالك في هذه الرواية: من حبس خادما
على أهل بيت لم يدخل عليهم أحد من غيرهم وكانت للآخر منهم، وإن لم يكن
معقبا وكان على معينين لم ترجع بمرجع الأحباس، وإن قال فيه حبسا صدّقه لا
تباع ولا توهب ويرجع إلى المحبس ملكا بعد انقراض المحبس عليهم، وهو قول
مالك في رسم البز في الذي حبس جارية له على أخته وأمه صدقة لا تباع ولا
توهب ولا تورث وأيهما ماتت قبل صاحبتها رجعت على الباقية: إن له أن يبتلها
لأمه إذا ماتت أخته إذ لو لم ترجع إليه بعد انقراض أمه ملكا لما صح له أن
يبتلها لها، وكذلك العروض والسلاح والزروع والثياب قيل تحبيسها جائز وقيل
مكروه، فعلى القول بجواز تحبيسها ترجع بمرجع الأحباس في الموضع الذي يرجع
فيه العقار بمرجع الأحباس، وعلى القول بكراهة تحبيسها لا ترجع بمرجع
الأحباس وتكون لآخر العقب ملكا أو ترجع إلى المحبس إن لم يكن الحبس معقبا
وكان على معينين، وهذا الاختلاف كله إنما هو في التحبيس المعقب أو على
النفر بأعيانهم، وأما تحبيس ذلك كله لينتفع بعينه في السبيل أو ليجعل غله
ماله غلة من ذلك بكراء وغيره موقوفة لإصلاح الطرق أو منافع المساجد أو
لتفرق على المساكين أو ما أشبه ذلك، فلا اختلاف في جوازه ما عدا العبيد
والإماء، فإن ذلك يكره فيهما لما فيه من التضييق عليهما من أجل ما يرجى
لهما من العتق، فإن وقع وفات نفذ ومضى، وما لم يفت استحب لمحبسه أن يصرفه
إلى ما هو أفضل منه.
وأما الدنانير والدراهم وما لا يعرف بعينه إذا غيب عليه فالتحبيس مكروه،
فإن وقع كان لآخر العقب ملكا إن كان معقبا، وإن لم يكن معقبا وكان لمعينين
رجع إليه بعد انقراض المحبس عليهم، والفرق بين العقار وبين
(12/189)
ما سواه عند من يكره تحبيسه أن ما عدى
العقار لم يأت فيه عمل يرده على العقب، فوجب رجوعه إليه بانقراض المحبس
عليهم أو كونه لآِخر العقب ملكا ومن أجازه قاسه على العقار، وبالله
التوفيق.
فهذا وجه القول في هذه المسألة، وقد رأيتُ لابن دحون فيها كلاما غير محصل،
قال: أجاز مالك في الحيوان خاصة أن يبيع للآخر منهم إن بتله له إذا حبسه
على أهل بيت أو على قوم مفترقين مجهولين، فإن كانوا معلومين رجع نصيب من
مات منهم إلى الذي حبس ذلك، وقيل عنه يرجع إلى أصحابه، وذلك غير صحيح؛ إذ
لا فرق بين الحيوان وغيره في أن الآخر منهم له أن يبيع ما حبس عليهم إذا
بُتل له، وبالله التوفيق.
[مسألة: حبس حبسا صدقة لا تباع ولا توهب ولا
تورث على نفر ما عاشوا]
مسألة قال ابن القاسم وسمعت مالك قال: من حبس حبسا صدقة لا تباع ولا توهب
ولا تورث على نفر ما عاشوا، ثم هلك الذين حبس عليهم وانقرضوا قال: يَرْجِعُ
إلى عَصَبَةِ المحبس ويدخل معهم النساء في السكنى إن كان سكنى أو في الغلة
إن كانت غلة، قال ابن القاسم: يريد البنات والأخوات والأمهات والجدات
والعمات ولا يدخل في ذلك الزوجات ويبدأ بالأقرب فالأقرب في ذلك.
قال محمد بن رشد: قولُه من حبس حبسا صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث على
نفر ما عاشوا ثم هلك الذين حبس عليهم وانقرضوا: إن ذلك يرجع بمرجع الأحباس
إلى عصبة المحبِّس، يريد ولا ترجع إلى المحبس ملكا مطلقا، هو نص قول مالك
في المدونة، وحكى ابنُ القاسم عنه فيها أن قوله لَمْ يختلف فيه، وليس ذلك
بصحيح، قد روى ابنُ عبد الحكم عن مالك في كتابه أنه ترجع إليه ملكا مطلقا
بعد موت المحبس عليه وإن قال حبسا صدقة إذا كان على معين، وهو قولُ ابن وهب
في رسم الوصايا والأقضية من
(12/190)
سماع أصبغ أنه ترجع إليه ملكا مطلقا إذا
حبس على معين وإن قال في حبسه: لا تُباع ولا توهب لاحتمال قوله لا تُباع
ولا توهب حياة المحبَّس عليه، كما يحتمل قوله أيضا: صدقة، صدقة الغلة عليه
حياته.
وأما قوله: ويدخل معهم النساء في السكنى إن كان سكنى أو في الغلة إذا كانت
غلة، ففي ذلك اختلاف يتحصل فيه ثلاثة أقوال أحدها: أنه يدخل فيه من أهل بيت
المحبس من النساء من يرث منهن وهن البنات وبنات الأبناء وإن سَفُلُوا،
والأخوات الشقائق واللواتي لأب ومن لو كان رجلا منهن وَرِثَ وهن العمات
وبناتُ الأخ وبناتُ ابن الأخ وبناتُ العَمّ وبناتُ ابن العم وبنات المولى
المعتق، وهو الذي يأتي على قول ابن القاسم في هذه الرواية، والقول الثاني:
أنه لا يدخل فيه من أهل بيت المحبس من النساء إلا من ترث منهن خاصة، وهن
البنات وبنات الأبناء والأخوات الشقائق واللواتي لأب، وهو قول ابن القاسم
في سماع سحنون، والقول الثالث: أنه لا يدخل فيه أحد من النساء وإنما مرجع
الُحبُس إلى العصبة من الرجال وهو الذي في سماع أصبغ أراه لابن وهب، ولا
يدخل الأبْعَدُ مع الأقرب من الرجال أو النساء إلَّا فيما فضل عنه أو عنها،
وإذا كان الرجال والنساء في درجة واحدة فهم فيه شَرَعٌ سواء للذكر منهم مثل
حظ الأنثى، واختلف أيضا هل تدخل فيه الأمهات والجدات، فقيل: إنهن يدخلن فيه
لأنهن من قرابة المحبس، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية، وقيل: إنهن لا
يدخلن فيه؛ لأنهن ليس من حرم نسب المحبس، وهو قول مالك في رواية أشهب عنه
ومذهب عبد الملك بن الماجشون وقيل: تدخل الأم ولا تدخل الجدة، وهو قول ابن
القاسم في رسم نقدها من سماع عيسى بعد هذا على ما تأوله بعضُ أهل النظر في
الرواية حسبما نذكره إن شاء الله، وقيل تدخل الجدة للأب ولا تدخل الجدة
للأم، وهو قول ابن القاسم في الواضحة، ولا اختلاف في أنه لا يدخل فيه من
النساء الأخوات للأم ولا الخالات ولا بنات البنات ولا بنات الأخوات، ولا
يدخل فيه أيضا الإخوة للأم ولا بنو البنات ولا بنو الأخوات، وسنذكر في سماع
سحنون إن شاء الله
(12/191)
الاختلاف فيمن يرجع إليه الحبس من قرابة
المحبس هل يختص بذلك الفقراء منهم دون الأغنياء أو يدخل معهم فيه الأغنياء
إذا لم يكن أصلُ الحبس على الفقراء وبالله التوفيق.
[مسألة: حبس حبسا على آل فلان]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال: من حبس حُبُسا على آل فلان فإنها
حبس على آله ما بقىِ منهم أحد لأبنائهم وأبناء أبنائهم، وإن سمى قوما
بأعيانهم فإنها ترجع بعدهم إلى أقرب الناس به حبسا على ما وضعه، قال ابن
القاسم: آله وأهلُه سَوَاءٌ، هُمْ العصبة والأخوات والبنات والعمات ولا أرى
ذلك للخالات.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم: آلهُ وأهلُه سَوَاءٌ، همْ العصبة
والأخوات والبنات والعمات ولا أرى ذلك للخالات مفسر لِقول مالك، فَصَوَابُه
في التأليف أن يكون متصلا به، وفصل العتبي بينهما بقوله: وإن سمى قوما
بأعيانهم إلى آخر قوله تقصير في التأليف والآل والأهل سواء كما قال ابن
القاسم إلَّا أن الآل إنما يستعمل في الرجل الكبير الذيِ له العشيرة
بالأبناء الرجال والنساء من قبل أبيه الذين يُعرف نسبُهم منه وتقوم به
الشهادات وتثبت به المواريث فيمن يرث منهم.
وقولُه: ولا أرى ذلك للخالات، ظاهرهُ وإن لم يبق من قرابته من قِبَلِ أبيه
أحدٌ فلا دخول في ذلك لقرابته من قبل أُمه، وهو قول أبي زيد بن أبي الغمر
إن الرجل إذا أوصى لقرابته أو لأهله إِنه لا يدخل في ذلك أحد من قبل أُمه
خال ولا خالة وإن لم يبق من قرابته أحدٌ سواهم.
وأما إذا لم يكن له حين أوصى أو حين حبس قرابة من قبل أبيه فيكون الحبس أو
الوصية لقرابته من قبل أمه على ما قاله مالك في رسم أسلم من
(12/192)
سماع عيسى من كتاب الوصايا في الذي أوصى
لقرابته إِن الوصية تكون لقرابته من قبل أبيه إلَّا ألا يكونَ له قرابة من
قبل أبيه فيكون لقرابته من قبل أمه، والنساء والرجال فيه شَرَعُ سواء،
واستحب أشهب في الرسم المذكور أن تدخل في ذلك قرابتُه من قبل الرجال
والنساء لأبيه وأمه، وفي هذا خارج المذهب اختلافٌ كثير قد ذكره الطحاوي
ورجح منه ما حكيناه على المذهب من أن الوصية والحبس يكونان لمن جمعه
والمُوصي لأهله أو المحبِّس على أهله أب واحد في الجاهلية أو الإسلام ببينة
تقوم على ذلك.
وقوله في الرواية: وإن سمى قوما بأعيانهم فإنها ترجع بعدهم إلى أقرب الناس
به حبسا على ما وضعه، هو مثل أحد قولي مالك في المدونة، والقولُ الثاني
أنها ترجع إليه ملكا مطلقا أو إلى ورثته يوم مات إن كان مات قبل أن ينقرض
المحبَّس عليهم بأعيانهم.
وذهب محمد بن المواز إلى أنه إذا حبس على معين وقال حياته أو أجل أجلا خرجت
المسألة من الاختلاف، واعترض ذلك أبو إسحاق التونسي وقال: لا فرق بين أن
يقول حياتَه أو يسكت عن ذلك؛ لأن ذلك مفهوم من إرادته وإن سكت عنه، ألا
تَرى أنه لو حبس على غير معينين وقال حياتهم لم يكن لذكر ذلك تأثيرٌ
ولَوَجب أن يرجع الحبس بعد انقراض المحبس عليهم إلى أقرب الناس بالمحبس
حبسا، وهذا الذي قاله هو مذهب أصبغ، وأما مذهب مطرف فعنده أنه إذا عقِّب
الحبس وقال مع ذلك: ما عاشوا، أنها حبس عليه وعلى عقبه ما عاشوا، فإذا
انقرض عقبه رجعت إلى صاحبها إن كان حيا يبيع ويصنع ما شاء، وإلى ورثته من
بعده، وعندي أنه لا فرق بين الموضعين فإذا قال: ما عاشوا في المعينين أو في
الحبس المعقب، رجعت إلى المحبس ملكا عند ابن المواز ومطرف، وإذا سكت عن ذلك
رجع الحبس المعقب إلى أقرب الناس بالمحبس، وكذلك غير المعقب على أحد قولي
مالك على مذهب أصبغ لا فرق بين أن يقول ما عاشوا أو يسكت عن ذلك في
المسألتين جميعا يرجع
(12/193)
الحبس المعقب إلى أقرب الناس بالمحبس،
وغيرُ المعقب يجري على اختلاف قول مالك بين هذا، ويدل على صحته ما وقع في
رسم يسلف بعد هذا من أنه إذا حبس على أجنبي حياته يرجع الحبس بموت المحبس
عليه إلى أقرب الناس بالمحبس يوم يرجع.
فيتحصل في الحبس على المعينين ثلاثة أقوال: قولان، وتفرقةٌ بين أن يقول
حياتَهم وبين أن يسكت عن ذلك، وفي الحبس المعقب قولان إذا قال حياتهم، ولا
اختلاف إذا لم يقل حياتهم أنه يرجع بمرجع الأحباس، وأما إذا ضرب أَجَلا فلا
اختلاف عندي في أنها ترجع إليه أو إلى ورثته بعد الأجل ملكا مطلقا، وقد ذهب
أبو إسحاق التونسي إلى أنه لا فرق بين أن يقول حياتَه أو يضرب أجلا، والفرق
بينهما عندي بين، وبالله التوفيق.
[مسألة: حبس شيئا في سبيل الله فأنفذ ذلك زمانا
ثم أراد أن ينتفع به مع الناس]
مسألة قال مالك: من حبس دارا في سبيل الله أو سلاحا أو دابة فأنفذ ذلك في
تلك الوجوه زمانا ثم أراد أن ينتفع به مع الناس، قال: إن كان ذلك من حاجة
فلا أرى بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: قوله ثم أراد أن ينتفع به مع الناس معناه ينتفع به فيما
سَبَّله فيه من السبيل، لا فيما سِوى ذلك من منافعه، فلهذا لم يَرَ بذلك
بأسا إذا فعل ذلك من حاجة؛ لأن الاِختيار فيما جُعِلَ في السبيل ألا يعطي
فيه إلاَّ لأهل الحاجة إليه، فإذا احتاج إليه في السبيل فاستعمله فيه لم
يكن ذلك رجوعا منه فيما حبسه ولا عودا منه في صدقته، والله أعلم.
[مسألة: حبس على أحد حبسا وقال هي لك حياتي ثم
هي في سبيل الله أو صدقة]
مسألة قال مالك: ومن حبس على أحد حبسا، وقال: هي لك حياتي ثم هي في سبيل
الله أو صدقة فإذا مات فهي في ثلثه.
(12/194)
قال محمد بن رشد: قد روى عن أشهب في هذا
الأصل خلافُ هذا أنه يرى أن ذلك عنده من رأس المالِ؛ لأنه لَا يَرْجِع إليه
ولا لورثته من بعده شيء منه أبدا، قاله ابن المواز، وقال ابن عبد الحكم عن
أشهب وابن القاسم مثلَ قول مالك، وقال ابنُ لبابة إنما يكون من الثلث إن
مات المحبَّس عليه قبل المحبس، وإما إن مات المحبس قبل موت المحبس عليه فهي
من رأس المال لأنه قد بتلها في صحته فإنما ترجع إلى المتصدق عليه أو إلى
السبيل من ملك المحبس عليه لا من ملكه، وجه قول مالك: إن ذلك يكون بعد موته
من ثلثه صدقة على فلان أو في سبيل الله هو أن ذلك لم يبتل بَعْدُ للمتصدق
عليه ولا في السبيل، وإن المحبس عليه إنما يستغله أو يسكنه طول حياة المحبس
على ملكه، فإذا مات نفذ من ثلثه في الصدقة أو السبيل، فلو تَدَايَنَ على
قياس هذا القول لَوجب أن يُباع في دينه، ووجه القول بأن ذلك يكون من رأس
المال هو أن الحبس لما كان لا رجوع له إلى المحبس ولا إلى ورثته على حال من
الأحوال كان كأنه قد أنْبَتّ منه وحصل ملكا للمتصدق عليه أو مبتولا للسبيل،
والمحبَّسُ عليه إنما يستغله أو يسكنه على ملك من إليه المرجع.
وعلى هذا الأصل اختلف قولُ مالك في الرجل يُخْدِمُ عبدَه رجلا سنين ومرجعه
لآخر فيُقتَل العبدُ أو يجْرَحُ أو يموت وله مال، هل يكون عقله إن قتل وأرش
جرحه إن جرح أو ماله إن مات لسيده الذي أخدمه أو للذي له المرجع، وقع
اختلاف قولُ مالك في هذا في رسم العتق من سماع عيسى من كتاب الجنايات،
واختلف قولُ ابن القاسم في ذلك أيضَاَ فأشار في رسم العتق من الكتاب
المذكور أن ذلك لسيده الأول، وله مثلُ ذلك في رسم القضاء العاشر من سماع
أصبغ من كتاب الخدمة، وخلافُه مثلُ قول مالك الآخر في رسم يشتري الدور
والمزارع من سماع يحيى من كتاب الخدمة أيضا، وعلى هذا الأصل اختلف أيضا في
الرجل يُخْدِمُ عبده رجلا سنة ثم هو له بعد السنة هل يباع قبل تمام السنة
في دينه أم لا؟ فقال في رسم العتق من سماع عيسى من كتاب الخدمة: إنه لا
يباع في دينه حتى تنقضي السنة وتجب له، وخالف في ذلك ابن حبيب فقال: إنه
(12/195)
يباع في دينه ولا ينتظر به انقضاء الخدمة،
وحكاه عن مطرف وقال: هذا ما لا شك فيه عندنا ولا اختلاف، فلكلا القولين في
مسألتنا وجه من النظر، والأظهر منها ما قاله مالك من أنه يكون من الثلث ولو
لم يجز الحبس عن المحبس حتى مات وهو بيده لكان من ثلثه في السبيل أو الصدقة
قولا واحدا على ما قاله في رسم الوصايا من سماع أصبغ، وأما قول ابن لبابة
في تفرقته بين أن يموت المحبس عليه قبل المحبس أو بعده فتفرقةٌ لا وَجْهَ
لها في النظر؛ لأن المحبس عليه إن مات قبل المحبس لا يرجع الحبس إليه،
وإنما يكون لورثة المحبس عليه إلى أن يموت المحبس، فلا فرق بين أن يموت
قبله أو بعده في كونه من ليأس المال أو من الثلث وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى بوصية لبعض ورثته دون بعض ثم
جعلها من بعدهم لغيرهم]
مسألة قال مالك: من أوصى بوصية لبعض ورثته دون بعض ثم جعلها من بعدهم
لغيرهم فهي على سائر الورثة الزوجة والأم، ومن لم يوص له بشيء يدخلون معهم
فيأخذون قدرَ ما يصيبهم من الميراث، فإذا هلك رجل من الورثة الذين أوصى لهم
صار نصيبه لولده وخرج نصيب الأم والزوجة والأخت من ذلك وثبت في غيره في
حظوظ أعيان الولد حتى ينقرض أخرهم، فإذا انقرض أعيان الولد الذين أوصى لهم
سقط نصيب الزوجة والأم، فإن هلكت الزوجةُ والأم دخل من يرثهما مكانَهما في
الميراث مع الولد، فإذا هلك الولد ورثه ولده وانقطع ميراث الأم والزوجة
وميراث من ورثهم إن كانوا قد هلكوا.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنه أوصى لبعض ورثته دون بعض
بحُبُس تجري عليهم غلته بدليل قوله: ثم جعلها من بعدهم لغيرهم، إذ لو أوصى
لبعض ورثته دون بعض بوصية قال: لم يصح أن يكون
(12/196)
لغيرهم من بعدهم ولوجب إن لم يُجِزْ ذلك
سائر الورثة أن يبطل ويرجع ميراثا بين جميعهم، ولم يكن في ذلك كلام ولا
إشكال.
وتنزيلُ المسألة على المعنى الذي أراده أن يكون الموصي قد ترك من الورثة
أربعة بنين وابنة وزوجة وأُمَّا وأوصى أن يحبس على الذكران من أَوْلَادهِ
ثم على أولادهم من بعدهم حُبُسا له غلة يكون موقوفا عليهم، فلم يجز ذلك
سائر الورثة الذين لم يوص لهم، وهم الزوجة والأم والأخت أنهم يدخلون مع
الموصي لهم في غلة الحبس فيقتسمونها بينهم على سبيل الميراث، وذلك الذي
أراد بقوله: فهي على سائر الورثة الزوجة والأم ومن لم يوص له بشيء يدخلون
معهم، فيأخذون قدر ما يصيبهم من الميراث.
وقوله بعد ذلك: فإذا هلك رجل من الورثة الذين أوصى لهم صار نصيبُه لولده
وخرج نصيب الأم والأخت والزوجة من ذلك، يريد صار نصيبه كاملا لولده دون أن
تأخذ منه الأم والأخت والزوجة شيئا وهو الربع؛ لأن المحبس عليهم أربعةٌ
فإذا توفي أحدهم صار الربع كاملا لولده لأنهم غير ورثة فلا تدخل عليهم فيه
الزوجة ولا الأم ولا الأخت.
وقولُه: وثبت في غيره من حظوظ أعيان الولد حتى ينقرضوا يريد أن الثلاثة
الأرباع يدخل فيها مع الإِخوة الثلاثة الباقين لأنهم ورثة الأم والزوجة
والأخت، فيكون ذلك بينهم على فرائض الله.
وقوله: حتى ينقرض أخرهم يريد أن يُعمل في موت من مات منهم بعد الأول ما
عمِل في موت الأول من أن يكون الربعُ الثاني لولده لأنهم غير ورثة فلا تدخل
عليهم فيه الزوجة ولا الأم ولا الأخت، وكذا إذا مات الثالث وكذلك إذا مات
الرابع وهو أخرهم يصير الربعُ لولده كاملا لأنهم غير ورثة ويسقط نصيبُ
الزوجة والأم يريد والأخت جملة فلا يكون لهن شيء.
وقوله: فإن هلكت الزوجة والأم يريد أو الأخت دخل من يرثهما مكانهما في
الميراث مع الولد يريد معهم كلهم في جميع الغلة أو مع من بقي منهم في
(12/197)
حظه منها وهو الربع لأنهم أربعة على
التنزيل الذي لنا عليه المسألة، فإذا انقرضوا كلهم رجع الحبس إلى أولادهم
لأنهم غير ورثة ولم يكن لمن لم يوص له من الورثة في ذلك حجة ولا كلام؛ لأن
الحبس قد صار إلى غير ورثة، فهذا بيان هذه المسألة وفيها معنى ينبغي أن
يوقف عليه وهو قوله فيها فإن هلك رجل من الورثة الذين أوصى لهم صار نصيبه
لولده وهو قد حبس عليهم ثم على أولادهم من بعدهم إذ لا يقتضي قوله: ثم على
أولادهم من بعدهم إلا يدخل ولو من مات منهم في الحبس حتى يموتوا كلهم؛ لأن
قوله ثم على أولادهم من بعدهم يحتمل أن يريد به ثم على أعقابهم من بعد
انقراض جميعهم، وأن يريد به ثم على أعقاب من انقرض منهم إلى أن ينقرض منهم
إلى أن ينقرض جميعهم لاحتمال اللفظ للوجهين جميعا احتمالا واحدا، وكذلك كل
ما كان على صيغته من الألفاظ عَطْفَ جمع على جمع بحرف ثَم يجوز أن يعبر به
عن كل واحد من الوجهين، وذلك بين من قَوْله تَعَالَى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ
بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ
يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28] لأنه قد علم أنه أراد بقوله عز وجل فأحياكم ثم
يميتكم، أنه أمات كل واحد منهم بعد أن أحياه قبل أن يحيي بقيتهم وأنه أراد
عز وجل ثم يحييكم أنه لا يحيي منهم أحدا حتى يُميت جميعَهم، والصيغة في
الفصلين واحدة فلولا أن كلّ واحدة منهما محتملةٌ للوجهين لما صح أن يريد
بالواحدة غيرَ مراده بالأخرى، وهذا أَبْيَنُ من أن يخفى، فإذا كان قولُه:
ثم على أولادهم محتملا للوجهين وجب أن يكون حظ من مات منهم لولده، ولا يرجع
إلى إخوته؛ لأن ما هلك عنه الرجل فولده أحق به من إخوته، فترجِّح بذلك أحدُ
الاحتمالين في اللفظ؛ لأن الأظهر من قصد المحبس وإرادته أن يكون ذلك بينهم
على سبيل الميراث فقال: ثم على أعقابهم، ألَّا يدخل الولدُ مع والده في
الحبس حتى يموت، ولو أراد ألا يدخل في الحبس حتى يموت والدُه وجميع أعمامه
المحبس عليهم مع والده لقال: ثم
(12/198)
على أولادهم من بعد انقراض جميعهم، فلا
اختلاف أعلمه في هذه المسألة نصا، وقد وقع لابن الماجشون في الواضحة ما
ظاهره خلافُ هذا، وهو محتمل للتأويل، وقد ذهب بعضُ فقهاء زماننا إلى أن
الولد لا يدخل في الحبس بهذا اللفظ حتى يموت والده وجميع أعمامه، وقال: إن
لفظة (ثم) تقتضي التعقيب في اللسان العربي دون خلاف، فلا ينبغي أن يختلف
إذا قال: (ثم على أولادهم) في أنه لا يدخل أحدٌ من الأولاد في الحبس إلا
بعد انقراض جميع الأب، وتعلق بظاهر قول ابن الماجشون في الواضحة، ولا تعلق
له فيه لاحتماله التأويل فقوله خَطَأٌ صُرَاحٌ بما بيناه.
وإنما يختلف في المذهب إذا حبس على جماعة معينين ثم صرف الحبس من بعدهم إلى
من سِوَى أولادهم من وجه آخر يجعل مرجعَ الحبس إليه بعدهم على ثلاثة أقوال
تقوم من المدونة فيمن حبس حائطه على قوم بأعيانهم فمات بعضهم وفي الحائط
ثمرة لم تؤبر، أحدها: أن حظ الميت منهم يرجع إلى الوجه الذي جعل مرجع الحبس
إليه بعدهم، وذلك على قياس قوله في مسألة المدونة إن حظ الميت منهم يرجع
إلى المحبس، والقول الثاني: أن حظ الميت منهم يرجع إلى بقيتهم، وذلك على
قياس قوله في المدونة: إن حظ الميت منهم يرجع على بقيتهم، والقول الثالث:
أنه إن كان الحبس مما تقسم غلته كالثمرة والخراج رجع حظ الميت منهم إلى
الوجه الذي جعل مرجع الحبس إليه بعدهم، وإن كان مما لا تقسم غلته عليهم
كالعبد يَخْتَدِمُونَهُ والدار يسكنونها أو الحائط يَلُونَ عَمَله رجع نصيب
الميت منهم إلى بقيتهم، وذلك على قياس مَا رواه الرواة عن مالك وأخذوا به
حاشى ابن القاسم من التفرقة بين الوجهين، وقد حكى عبدُ الوهاب في المعونة
أنَ الاختلافَ في هذه المسألة إنما هو فيما يقسم كالغلة والثمرة، وأنه لا
اختلاف فيما لا يقسم كالعبد يُخْتَدَمُ والدار تسكن، وليس ذلك بصحيح على ما
بيناه، وبالله التوفيق.
(12/199)
[مسألة: الحبس
على الموالي]
مسألة قال مالك: من حبس حبسا على مَوَالِيهِ ولهم أولاد وله مَوَالِي لبعض
أقاربه رجع إليه وَلَاؤُهُمْ، قال: لا يكون الحبس إلا لِمَوَالِيهِ الذين
أعتق، وأولادهم يدخلون مع آبائهم في الحبس؛ لأنهم مواليه إلا أن يخصهم
بتسمية، قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال بعد ذلك: أرى موالي الأب والابن
يدخلون مع مواليه ويُبَدَّأُ بالأقرب فالأقرب من ذوي الحاجة إِلَّا أن يكون
الأبَاعِدُ أحْوَجَ فيؤثرون، وهذا قول مالك، وهو أَحَبُّ ما فيه إِلَي.
قال محمد بن رشد: كذا وقع في رواية ابن لبابة وله مَوالي لبعض أقاربه رجع
إليه وَلاؤهم، وفي رواية أبي صالح يرجع إليه ولاؤهم، والصواب رجع إليه
ولاؤهم؛ لأن من لم يرجع إليه ولاؤهم فليسوا بموالي له، فقوله بعد ذلك: (أرى
موالي الأب والابن) يريد والأخ على ما قال في سماع ابن القاسم من كتاب
الوصايا يدخلون مع مواليه معناه إذا كان ولاؤهم قد رجع إليه، وكذلك قال
أصبغ في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم من كتاب الوَصَايَا في الوصية:
وهذا إذا كان ولاؤهم قد رجع إلى هذا الموصي فأما إذا لم يكن ولاؤهم قد رجع
إليه فلا يدخلون في وصية، وفي المجموعة مثلُ قول مالك، الثاني قال غير ابن
القاسم في الحبس على الموالِي: إنه يدخل فيه موالي ولد الولد والأجداد
والأم والجدة يريد الجدة أم الأب وأم الجد لا أم الأم ولا أم أم الابن لأن
النساء لا يرثن الوَلَاءَ، قال: والأخوة، ولا يدخل فيه موالي بني الأخوة
والعمومة، قال: ولو أدخلت موالي هؤلاء أدخلت موالي القبيلة، وقد قيل إنه
يدخل فيه من موالي قرابته كل من لو مات لَوَرِثَهُ وهو القايس على قول مالك
الثاني وعلى ما قاله غير ابن القاسم في المجموعة من أنه يدخل فيه موالي
الآباء والأبناء والإِخوة، ولا يلزم ما قال من أنه لو أدخل موالي بني
الإخوة
(12/200)
والعمومة لأدخل موالي القبيلة، كما لا يلزم
إذا ورث بنو الأخ والعمومة أن يرث جميع القبيلة؛ لأن الميراث لا يكون إلَّا
مع ثبوت النسب وكذلك الولاء.
وظاهر قول ابن وهب في سماع أصبغ من كتاب الوصايا أنه لا يدخل في وصية
الموصي لمواليه إلا موالي عتاقته، وكذلك الحبس على قوله لا يدخل فيه أولادُ
مواليه ولا موالي مواليه ويدخلون فيه على مذهب مالك، قاله في هذه الرواية
في أولاد مواليهم، وقاله في رسم الشريكين بعد هذا السماع في موالي مواليه،
ومثلُه لعلي في المجموعة.
فيتحصل في المسألة أربعةُ أقوال أحدها: أنه لا يدخل في ذلك إلا موالي
عتاقته خاصة، والثاني: أنه يدخل في ذلك موالي عتاقته وأولادهم ومِواليهم،
والثالث: أنه يدخل في ذلك موالي عتاقته وأولادهم ومواليهم وموالي أبيه وجده
وولده وولد ولده وإخوته، والرابع: أنه يدخل فيه موالي عتاقته وأولادهم
ومواليهم وموالي أبيه وابنه وجده وجميع عصبته، ولا يدخل فيه على مذهب ابن
القاسم وروايته عن مالك مع الموالي الأسفلين الذين أنعم عليهم الموالي
الأعلون الذين أنعموا عليه، هذا منصوص في الوصايا من المدونة، وأشهب يرى
أنهم يدخلون معهم ويُقسم الثلثُ أو الحبس بينهم بنصفين إن كان هؤلاء ثلاثة
فأكثر، وهؤلاء ثلاثة فأكثر، وإن كان عدد هؤلاء ثلاثة وعدد هؤلاء عشرة
فالثلث بينهم بنصفين كمال تدعيه طائفتان فيقسم بينهما بنصفين، وإن كان عدد
الطائفة الواحدة أكثر عددا من الطائفة الأخرى فإن كان عدد أحدهما أقل من
ثلاثة وعدد الآخر ثلاثة فأكثر فالثلث أو الحبس للذين عددهم ثلاثة فأكثر ولا
شيء للذين عددهم أقل من ثلاثة لأنه إنما أوصى لجماعة فلا يكون للذين أقل من
ثلاثة شيء، وإن كان عدد هؤلاء أقل من ثلاثة وعدد هؤلاء أقل من ثلاثة كان
الثلث أو الحبس بينهما بنصفين؛ لأنه إنما أوصى لجماعة وهي لا تجتمع إلّاَ
من الطائفين، فيقسم ذلك بينهم جميعا على عددهم، وهذا مذهب أشهب، ولو قال
قائل: إنه يقسم بينهم جميعا على عددهم ما كانوا إن استووا في الحاجة
(12/201)
لكان قولا له وجه؛ لأنه إذا احتمل أن يريد
الذين من فوق والذين من أسفل احتمل أن يريدهم جميعا؛ لأن كل واحد منهم
ينطلق عليه اسم مولى، فهذا أظهر من قول أشهب وأولى.
ومن أهل العلم خارج المذهب من يرى أن يقرع بينهما، ومنهم من يرى أن الوصية
باطل إذْ لا يُعلم من أراد الموصِي منهما فيتحصل في المسألة خمسة أقوال لا
وجه لقول منها إِلَّا ما غلب على ظن قائله من أن المحبس أو الموصي قصده
وأراده بعرف أو عادة أو ظاهر مقتضى التسمية، وهذا إذا لم يكن ثَمَّ دَليل
على أنه أراد الأعلى دون الأسفل أو الأسفل دون الأعلى مثل أن يكون أهل
أحدهما أغنياء وأهل الثاني فقراء فيعلم أنه إنما قصد بوصيته إلى الفقراء
دون الأغنياء كانوا من فوق أو من أسفل ومن دخل معهم على قول كل قائل فيبدأ
منهم الأقرب على الأبعد إِلَّا أن يكون الأبعد أحوج كما قال في الرواية،
وقد قيل: إنه لا يفضل الأقرب على الأبعد وهو ظاهر ما يأتي في رسم الشريكين
بعد هذا كما قيل؛ لأنه لا يفضل الولد على ولد الولد، وفي هذا تفصيل واختلاف
سنخلصه فيما يأتي في آخر هذا الرسم إن شاء الله وبه التوفيق.
[مسألة: ما حازه الكبار لأنفسهم يجوز]
مسألة وقال مالك: من أسكن ولده وولد ولده دارا واستخلف عليها ولدا لولده
كبيرا ليحوزَهَا لنفسه ومن سماها له معه، ثم إن الابن أسكن أباه الدار،
قال: إن كان أسكنه بيتا في الدار فذلك جائز، وإن كان أسكنه الدار كلها فليس
بجائز، وهي ترد في الميراث، قال ابن القاسم: وذلك رأيي، قال: وأخبرني مالك
عن زيد بن ثابت وابن عمر مثل ذلك، قال ابن القاسم - قال مالك: حبس عمر وعلي
وزيد وابن عمر.
(12/202)
قال محمد بن رشد: قوله إن كان أسكنه بيتا
في الدار فذلك جائز معناه إن كان البيت يقع في ثلث الدار فأقل، وأما قوله
وإن كان أسكنه الدار كلها فليس بجائز وهي ترد في الميراث فذلك ما لا اختلاف
فيه وإنما يختلف إن كان أسكنه جلها أو ما هو أكثر من الثلث منها؛ لأن حيازة
الكبير للصغار ولنفسه كحيازته لنفسه لو كان هو المحبَّس عليه وحده،
فالمنصوص عليه لابن القاسم وأصبغ في الواضحة أن ما حازه الكبار لأنفسهم
يجوز وإن كان الذي سكن الأب من الدار هو الأكثر، وفي آخر كتاب الرهون من
المدونة في بعض الروايات أن الكل يبطل إذا سكن الأب الأكثر من الدار سواء
حاز الأب البقية للصغار أو حازه الكبار لأنفسهم، ومثلُه لابن القاسم في رسم
إن خرجت بعد هذا من هذا الكتاب، وأما الدور إذا سكن الأب أكثرها وحاز
الكبار لأنفسهم بقيتها فيجوز لهم ما حازوه على ما قاله ابن القاسم في رسم
إِن خرجت من سماع عيسى، ولا أعرف في ذلك نص خلاف.
وفرق أصبغ ما بين الدار والدور فقال: في الدور إن كل دار منها صغرت أو كبرت
تصير كأنها محبسة على حدة، فإن سكن الأب جلها أو أكثر من الثلث منها بطل
الحبس فيها كلها إن كان الأب هو الحائز لبقيتها، وإن كان الكبار هم
الحائزون لبقيتها جاز لهم ما حازوه منها، وأما ما سواها من الدور فيجوز
الحبس فيما حازه الأب للصغار أو حازه الكبار لأنفسهم، ومذهب ابن القاسم في
الدور أن الأب إذا سكن الجل منها بطل الباقي إن كان الأب هو الحائز له،
وجاز للكبار إن حازوه لأنفسهم، والحبسُ والهبة والصدقةُ في ذلك كله سواءٌ
على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، وَفَرَّقَ مطرف وابن الماجشون بين
الهبة والصدقة وبين الحبس فقال في الحبس: إذا كان هو الحائز له كقول ابن
القاسم في أن سكناه اليسير منه لا يُبطل الحبسَ لماله من العذر في سكناه
ليكون بإزائه لعمارته وإصلاحه وتسكينه، وقال في الهبة والصدقة وفي الحبس
إذا لم يكن هو الحائز له إما بأن يكون الحبس على من يَحُوز لنفسه وإما بأن
يكون على من يحوز له فأسند حيازته إلى غيره إِن ما سكن يبطل وما لم يسكن
(12/203)
يجوز من غير تفصيل بين دار أو دور أو سكنى
يسير أو كثير، فهذا تحصيل القول في هذه المسألة وبالله التوفيق.
[مسألة: قوم حبست عليهم دار فخربت فأرادوا
بيعها وابتياع دونها]
مسألة قال ابن القاسم وسمعت مالكا قال في قوم حبست عليهم دارٌ فخربت
فأرادُوا بيعها وابتياع دُونهَا: إِن ذلك لا يجوز لهم، وأما الفرس يكلب أو
يخبث فإنه يباع ويشتري بثمنه فرس يحبس مكانه.
قال محمد بن رشد: هذا هو مذهب ما في المدونة أن الرِّبْعَ الحُبُسَ لا يباع
بأن خشي عليه الخراب، ومثله في رسم الأقضية، الثاني من سماع أشهب من كتاب
جَامِع البيوع بخلاف ما بلى من الثياب وضعف من الدواب، والفرق بين ذلك أن
الربع وإن خرب فلا تذهب البقعة ويمكن أن يعاد إلى حاله، وابن الماجشون يرى
ألّا يُبَاعَ شيء من ذلك كله وهو قول غير ابن القاسم في المدونة، وروى عن
ربيعة أن الإِمام يبيع الرِّبْعَ إذا رأى ذلك لِخَرَابِه كالدواب والثياب،
وهو قول مالك في إحدى روايتي أبي الفرج عنه، قال: لا يباع الربع المحبس،
وقال في موضع آخر: إِلَّا أن يخرب والله الموفق.
[مسألة: حبس حبسا على ذكور ولده وأخرج الإناث
منه إذا تزوجن]
مسألة قال مالك: من حبس حبسا على ذكور ولده وأخرج الإِناث منه إذا تزوجن
فإني لا أرى ذلك جائزا وإنه من أمر الجاهلية، وليس على هذا توضع الصدقات
لله وما يُرَادُ به وجهه إِلَّا ما تصدق به رجل وجعله بعد انقراض ولده في
سبيل من سبيل الخير.
قال ابنُ القاسم: فقلت لمالك: أفترى لمن حبس حبسا وأخرج بناته منه إذا
تزوجن أن يبطل ذلك ويسجل الحبس؟ قال: نعم وذلك وجه الشأن فيه، قال ابن
القاسم: ولكن إذا فات ذلك فهو على ما
(12/204)
حبس قال ابن القاسم: إن كان المحبس حيا ولم
يُحَزْ الحبس فأرى أن يفسخه ويدخل فيه الإِناث، وإن كان قد حيز أو مات فهو
فوت، وهو على ما جعله عليه.
قال محمد بن رشد: ظاهر قول مالك هذا أَن الحبس لا يجوز ويبطل على كل حال
خلافُ مذهب ابن القاسم في أنه يمضي إذا فات ولا ينقض، وفوت الحبس عنده أن
يحاز عن المحبس على ما قاله في هذه الرواية، فرأى للمحبس ما لم يُحَز الحبس
عنه أن يُبْطِلَ الحبسَ ويُدْخل الإناث فيه ظاهر قوله وإن كره ذلك المحبس
عليهم مُرَاعاة لقول من يقول إن الصدقات والهبات والأحباس لا تلزم ولا يجب
الحكم بها حتى تقبض، وقد رُوي عن مالك أن ذلك مكروه من العمل، فعلى قوله
هذا لا يفسخ الحبس إلّا أن يرضي المحبس عليهم بفسخه وهم كبار، وذهب محمد بن
المواز إلى أنَ ذلك ليس باختلاف من قول مالك: فقال: إنما يفعل ما قال مالك
من فسخ الحبس وأن يجعله مسجلا إنما ذلك ما لم يَأبَ عليه من حُبس عليهم،
فإن أبَوْا لم يجز له فسخه ويقر على ما حبس وإن كان حيا إلا أن يرضوا له
برده وهم كبار، قال مالك: إن لم يخاصم فليرد الحبس حتى يجعله على صواب،
ظاهرهُ وإن كان لم يحَزْ عنه، وهو على قياس القول بأن ذلك عنده مكروه من
الفعل، وقال ابن القاسم: وإن خوصم فليقره على حاله، ومعنى ذلك على مذهب
والله أعلم إذا كان قد حيز عنه وهو الذي ذهبت إليه من التأويل في هذه
المسألة على ابن القاسم من أنه فرق في فسخ الحبس بين أن يحاز عنه أو لا
يحاز هو ظاهر قوله في هذه الرواية إن كان المحبِّس حيا ولم يحز الحبس فأرى
أن يفسخه ويدخل فيه الإِناث، وإن كان قد حيز أو مات يريد أو مات بعد أن حيز
فهو فوت، وهو على ما جعله عليه، وقد تأول على ما حكاه محمد بن المواز عن
مالك وابن القاسم أنه ليس له أن يفسخ الحبس وإن كان لم يحز عنه إلا بأذن
المحبس عليهم ورضاهم، وقد تأول أيضَاَ أنَ له أن يفسخه وإن كان قد حيز عنه
وإن أبى المحبَّس عليهم مراعاة لقول من لا يرى إعمال الحبس جملة، وهو ظاهر
قول
(12/205)
ابن القاسم في رسم شك بعد هذا من هذا
السماع، وفي رسم نذر، وتأول على ظاهر قول مالك في هذه الرواية أنَ الحبس
يفسخ على كل حال وإن مات المحبس بعد أن حيز عنه الحبس.
فيتحصل على هذا في المسألة أربعة أقوال أحدها هذا، والثاني أن المحبس يفسخه
ويدخل فيه الِإناث وإن حيز عنه، والثالث أنه يفسخه ويدخل فيه الإِناث ما لم
يحز عنه فإن حيز عنه لم يفعل ذلك إلا برضى المحبس عليهم، والرابع أنه لا
يفسخه ويدخل فيه الإِناث وإن لم يحز عنه إلا برضى المحبس عليهم.
وإخراج الإِناث من الحبس عند مالك أَشَرُّ في الكراهية من هبة الرجل لبعض
ولده دون بعض على ما سيأتي القول فيه في رسم الشجرةِ ورسم نذر سنة من كتاب
الصدقات وفي رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب منه إذ لم يختلف قوله في أن
هبة الرجل الشيء من ماله لبعض ولده دون بعض جائز نافد وإن كان ذلك مكروها
لقول الله عز وجل: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ
خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} [الأنعام: 139]
وهو الذي أراد بقوله في الرواية وإنه من أمر الجاهلية وبالله التوفيق.
[مسألة: أعمر عمري دارا أو خادما له ولعقبه ما
عاشوا]
مسألة قال مالك: لو أن رجلا أعمر عمري دارا أو خادما له ولعقبه ما عاشوا
ولم يقل مرجعه إِلَيَ ولم يجعل لمرجعها وجها ترجع إليه رجعت إليه كما لو
اشترط.
قال محمد بن رشد: هذا هو مذهب مالك وجميع أصحابه أن العمري ترجع إِلى الذي
أعمرها بعد موت المُعْمَرِ إن لم تكن معقبة وبعد
(12/206)
انقراض العقب إِن كانت معقبة، ولم يأخذ
مالك في العُمْرى بحديثه الذي رواه في موطئه عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن
جابر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ قال: «أَيُّما رَجلٍ أَعْمَرَ
عُمْرَىَ لَهُ وَلِعقِبِهِ فَإنَّهَا للذِي يُعْطَاهَا لاَ تَرْجِعُ إلَى
الذِي أَعْطَاهَا» لَأنَّه أَعْطَى عَطَاء وَقَعْتْ فِيهِ المَوَارِيث،
وذهب في ذلك إلى ما رواه عن ابن القاسم بن محمد أنه قال: ما أدركت الناس
إِلَّا وهم على شروطهم في أموالهم وفيما أعطوا، فقال معنى الحديث أن العمرى
لا ترجع إلى الذي أعطاها حتى ينقرض العقب، بدليل قوله في الحديث فإنها للذي
يُعطاها والذي أعْطِيِّهَا هو المُعْمَر وعقيبه فَوَجب أن تكون لهم بنص
الحديث وترجع بعد انقراضهم إلى المُعْمَر بالتأويل الصحيح، إذ لا يصح أن
يكون ملكا لجميع العقب فمن قال إن العمرى المعقبة تكون ملكا للمُعْمَرِ فقد
خالف الحديث، ومالك أَسْعَدُ به.
ومن أهل العلم من قال إن العمرى تكون ملكا للمُعْمَرِ وإن لم تكن معقبة،
وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وجماعة من أهل العلم سواهم على ما روي عن
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من قوله: «مَن أُعْمِرَ شَيئا فَهُوَ لَه
حَياتَهُ وَمَمَاتَهُ» ومن قوله أيضا: «العُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ» ،
ومن قوله أيضا: «مَنْ أُعْمِرَ عمْرَى فَهِي لَهُ وَلِعَقِبهِ يَرِثُهَا
مَنْ يَرِثهَا مِنْ عَقِبِهِ» ، ولم يصح عند مالك شيء من هذه الآثار وإنما
صح عنده حديث جابر الذي ذكرناه فأخذ به على ما تأوله عليه من معناه.
ففي العمرى لأهل العلم ثلاثة أقوال أحدها: أنها تكون ملكا للمعمر قال فيها:
هي لك عمرى أو هي لك ولعقبك عمري، والثاني: أنها تكون ملكا للمعمر في واحد
من الوجهين وترجع إلى المُعْمِر ملكا بعد موت المعمَر أو بعد موته
(12/207)
وانقراض عقبه إن كانت معقبة وهو مذهب مالك،
والثالث: أنها تكون للمُعْمَر ملكا! إن كانت معقبة وترجع إلى المُعْمِر
ملكا بعد موت المعْمَر إن لم تكن معقبة وبالله التوفيق.
[مسألة: أخدمه أو أعمره أمة ثم عدا عليها
فأحبلها صاحب الرقبة]
مسألة وسمعت مالكا قال: من أعمر خادما أو عبدا حياته ولا مال له ثم أَفَادَ
مالا أو وُلدَ له ولدٌ قال مالك: ما ولد للأمة أو كان للعبد من أمة يملكا
فهو على مثابتهما يخدمان المُعْمَرَ حياتَه، وما كان من مال فهو مَوْقُوفٌ
على أيديهما يأكلان فيه ويكتسيان بالمعروف، وليس للمعمر ولا للمعمر أن
ينتزعاه منهما ما عاشا، فإذا ماتا ورثهما سيدهما الذي يملك رقابهما، وإن
قتل العبد عمدا أو خطا فإن عقله لسيده مثلُ الميراث، قال ابن القاسم وإن
قَتَلَهُ سيده خَطَأ فلا شيء عليه، وإنَ قتله عمدا كان عقله عليه في السنين
التي أعمر، فإن فضل فضل كان له.
قال عيسى بن دينار: تفسيره أن يغرم سيدُه القاتلُ القيمة فتوقّف للمُعْمَر
فَيُسْتَأْجَر له منها من يخدمه مكانه، فإن مَات قبل أن يستنفذ الثمن رجع
ما بقي من قيمته إلى سيده، قال ابن القاسم: ويكون عليه أن يستأجر له من
يخدمه في تلك السنين بقيمته، فإن مات رجع فضل ذلك إلى سيده، قال سحنون وقد
كان عبد الرحمن يقول: يُشْتَرَى بتلك القيمة عبدٌ آخر مكانه، وكذلك لو
أخدمه أو أعمره أَمَة ثم عدا عليها فأحبلها صاحبُ الرقبة أن عليه أن يشتري
أخرى مكانها، قال مكانها قال مالك: ما كان من ولد للعبد المُعْمَرِ من
جاريتِه فهو بمنزلته.
(12/208)
قال محمد بن رشد: تكررت هذه المسألة على
نصها في سماع ابن القاسم من كتاب الخدمة وقوله فيها إن ما ولد للأمة
المُخدَمة أو العبد المخدم فهو بمنزلتهما صحيحُ لَا اعْتِرَاضَ فيه لقول
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «كُل ذَاتِ رَحِم فَوَلَدُهَا
بِمَنْزِلَتِهَا» .
وأما قوله فيما وهب لهما من مَال إنه يكون موقوفا على أيْدِيهِمَا يأكلان
فيه ويكتسيان بالمعروف وإنه ليس لواحد منهما أن يَنْتزعه ففيه نظر لأن نفقة
الأمة المخدمة وكسوتها على المُخْدَم على المشهور في المذهب، فالقياس أن
يكون ما وهب لهما من مال لسيدهما الذي أخدمهما والذي يَملك رقابهما ينتزع
ذلك إن شاء، ولا يكون لهما أن يأكلا منه ولا يكتسيا فيه، وقد قيل إن النفقة
على سيده الذي أخدمه، فعلى قياس هذا يصح جوابه في هذَه الرواية وكذلك قولُه
في المُعْمِر إذا قتل العبد الذي أعمره عمدا أو خطأ أو كانت أمة فأولدها:
إنه يغرم القيمة فيستأجر منها للمُعْمَر من يخدمه مكانه فيه نظر؛ لأن
القيمة إن نفذت والمخدَم حي يسقط حقه ولم يكن له شيء على قوله ومن حجته أن
يقول لو لم تقتل لكان لي خدمتها إلى أن أموت، وهي في أم الولد أظهر؛ لأنه
يقول كيف يبطل حقي الذي لي في خدْمتها إلى أن أموت وهى باقية لم تمت، فكان
القياس أن يكون على قاتلها عمدا قيمة خدمتها على الرجَا والخَوْف، وقد وقع
في المدنِيَة من رواية محمد بن يحيى السبائي عن مالك ما يشهد لما قلناه،
وذلك أنه سئل عن امرأة أخدمت خادما لها امرأتين عمرهما ثم إنهما اشترت من
إحداهما ما جعلت لها من الخدمة حياتها، ثم أعتقت الخادم كيف يصنع في ذلك؟
أتبطل الخدمة عن المعمرة الثانية التي لم تبع أم تقوم على المعتِقَة كيف
الأمر في ذلك؟ قال: بل تقوم عليها قدرُ تلك الخدمة التي أخدمتها حياتها
يريد على الرجا والخوف؛ لأنها لا تقدر على الرجوع في التي أخدمتها، فيقوم
ذلك عليها ويتم العتق عليها، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
قال: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكَا لَهُ فِي عَبْدٍ قُوِّمَ عَلَيْهِ حَظُّ مَنْ
بَقِيَ مِنْ شرَكَائِهِ وَعَتَقَ
(12/209)
عَلَيْهِ العَبْدُ كُلُّهُ» فلا أرى هذا
إلّا شِرْكا وإن لم يكن شريكه في الرقبة فإني أراها شركة بالخدمة، وهذا مثل
ما قلناه من أن القياس أن يكون على المُعْمِرِ إذا قتل الأمة التي أعمرها
عمدا أو أولدها قيمةُ خدمتها على الرّجاء والخوف إذ لا فرق بين تفويت
الخدمة عليها بالعتق وبالإِيلاد أو بالقتل عمدا، ومن الدليل على ذلك رواية
عيسى عن ابن القاسم في المدنية في مسألة السبائي عن مالك أن على المعتقة أن
تُخرج نصف قيمة الخادم وليس قيمة الخدمة فتواجر التي لم تبع خدمتها منها
حَيَاتَها وتعتق الخادم، فإن ماتت المخدمة قبل أن يستتمها رجع الفضل إلى
المُعْتِقَةِ، فإن استتمتها قبل الموت فلا شيء لها عليها، وإن ماتت الخادم
أيضا قبل الخدمة رجعت بقيمة الخدمة إلى المُعْتِقَة، قال: وكذلك وجدت في
مسائل عبد الرحيم عن مالك، فَجَرَى ابنُ القاسم في العتق على أصله في القتل
وَالإِيَلادِ، وكذلك قولُه في الرواية: إذا قتل الأجنبي العبد المخدم إن
القيمة تكون لسيده مثل الميراث، ويبطل حق المُخْدَم ليس بوجه القياس
والنظر، والذي يوجبه القياس على أُصولهم أن يتحاصا جميعا في القيمة يضرب
فيها سيد العبد بقيمة المرجع على غرره، والمُخْدَم بقيمة الخدمة على غررها
أيضا وبالله التوفيق.
[مسألة: الذين سمى لهم كيلا معلوما أولى من
الآخرين]
مسألة قال مالك: من حبس حبسا على ولده وغيرهم حائطا أو ما أشبه ذلك مما
يثمر وُيسَمِّي لبعضهم ما يُعْطَى في كل كيلا معلوما ولا يسمى للآخرين
شيئا، قال: الذين سمى لهم كيلا معلوما أولى من الآخرين بما خرج من الثمر
إلا أن يعمل فيه عاملٌ فيكون أولى بحقه
(12/210)
في ذلك، ويأخذه قال ابن القاسم: وكذلك
الغلة في الدور.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة لا إشكال فيها وقد قال ابن دحون:
إنها مُعارضة لقوله في الوصايا: إن من أوصِيَ له بكيل معلوم هو مثل من
أوصِيَ له بنصيب من الثمرة لا يدري كم يخرج في كيله يتحاصون ولا يقدم
أحدهما على الآخر، ولا تعارض بينهما بوجه؛ لأنه لما حبس الحائط عليهما وسمى
لأحدهما مكيلة من الثمرة وسكت عن الثاني فلم يجعل له إلّا ما بقي، ولو سمى
لأحدهما مكيلة من الثمرة وللثاني، جزءا منها لوجب أن يتحاصا في ثمرتها كما
قال في مسألة الوصية سواء وبالله التوفيق.
[مسألة: يحبس غلامه على رجل يخدمه فيموت العبد
قبل أن تنقضي خدمته وله مال]
مسألة قال مالك في الرجل يحبس غلامه على رجل يخدمه فيموت العبد قبل أن
تنقضي خدمته وله مال: إنّ مالَه لسيده، وليس للمحبس عليه شيء؛ لأنه إنما
حبس عليه الخدمة.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لا إشكال فيه والحمد لله.
[مسألة: أخدم عبدا له رجلا عشر سنين ثم هو حر
فوهب له الذي أخدمه خدمته]
مسألة وسمعت مالكا قال: من أخدم عبدا له رجلا عشر سنين ثم هو حُرٌّ فوهب له
الذي أخْدِمَهُ خِدْمَتَهُ كان حرا، ولو باعه الخدمة أيضا كان حرا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لا إشكال فيه؛ لأنه إنما كان بقي
عليه من الرق ما عليه من الخدمة، فإذا أسقِطَتْ عنه باشتراء أو وهبة
بُتِلَتْ حريتُه وبالله التوفيق.
(12/211)
[مسألة: حبس
عليه وعلى عقبه ولعقبه ولد]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال: من حُبِّسَ عليه وعلى عقبه، ولعقبه
ولد فهم مع آبائهم في الحبس بالسواء، إلّا أنه يفضل ذو العيال بقدر عياله،
لا يكون الآباء أولى من الأبناء والذكر والأنثى فيهم سواء.
قال محمد بن رشد: قوله في ولد عقب الرجل إنهم مع آبائهم في الحبس إذا كان
الحبسُ عليه وعلى عقبه صحيح لا اختلاف فيه؛ لأن عقب الرجل ولده وولد ولده
ما سفلوا وإن بَعُدوا، وقوله: إنه يفضل ذو العيال بقدر عياله هو المشهور في
المذهب أن المحبس المُعَقّب يُقسم قدْرَ الحاجة وكثرة العيال من قلتهم،
وحكى محمد بن المواز عن ابن الماجشون أنه لا يفضل ذو الحاجة على الغنى في
الحبس إلّا بشرط من المحبس، وهو ظاهر ما في رسم القطعان من سماع عيسى في
الذي يحبس في مرضه على ولده وولد ولده لأنه قال فيه: إن الحبس يقسم بين
أعيان الولد وولد الولد ذكورهم وإناثهم شَرَعا سواء على عددهم للذكر مثل حظ
الأنثى، مثله في رسم الصلاة من سماع يحيى إلّا أن يقال معنى ذلك إذا استوت
حالتُهُم، فقد قال ذلك سحنون وابن المواز، والظاهر خلافُ ذلك، وعلى هذا
يأتي ما حكى محمد بن المواز عن ابن القاسم أن من مات منهم بعد الطياب في
الثمرة فحقه لورثته، ومن ولد منهم بعد طيابها فلا حق له فيها، ومن ولد منهم
قبل طيابها بعد الإِبار أو قبْله فحقه ثابت فيها، إلّا أنّ الذي يأتي على
قياس المشهور أنها تقسم على قدر الحاجة أن يسقط حق من مات منهم قبل القسمة
وإن كان ذلك بعد طيب الثمرة، وأن يدخل فيها من ولد منهم قبل القسمة وإن كان
ذلك بعد طيب الثمرة، وهو نص قول ابن كنانة وابن نافع في المدنية، وفرق ابنُ
نافع فيها بين السكنى والغلة، فقال في السكنى: إن الغني والفقير فيه سواء،
بخلاف الغلة، وساوى ابن القاسم بين السكنى والغلة بأنه يؤثر بذلك الفقير
على الغني، هذا قوله في
(12/212)
المدنية وهو على المشهور في المذهب في أن
الحبس المعقب يؤثر فيه المحتاج على الغني.
وقولُهُ في الرواية فهم مع آبائهم في الحبس سواء، ولا يكون الآباء أولى من
الأبناء هو نص ما في رسم القطعان من سماع عيسى وما في رسم الصلاة من سماع
يحيى، وما حكى سحنون في المدونة عن المغيرة وغيره من أنه كان يُسَوي بينهم
خلافُ ما في المسألة التي بعد هذه وخلاف المعلوم من مذهب ابن القاسم وما في
المدونة لمالك من أن الآباء يؤثرون على الأبناء، ولا يكون للأبناء معهم في
السكنى إلّا ما فضل عنهم، وسواء على قولهما قال: حُبُسٌ على ولدي ولم يزد
فدخل معهم الأبناء بالمعنى، أو قال: على ولدي وولد ولدي فدخلوا معهم بالنص،
وقد فرق بين ذلك أشهب فقال: إذا دخلوا بالمعنى بُدئ الآباء عليهم، وإن
دخلوا بالنص لم يبدءوا عليهمَ وكانوا بمنزلتهم، وهذه الثلاثة الأقوال في
تفضيل من سمى من الآباء على من لم يسم من الأبناء وعلى من سمى منهم، وأما
من سفُلَ منهم ممن لم تتناوله تسمية المحبِّس فلا يفضل الآباء منهم على
الأبناء إذا استووا في الحاجة هذا نص قول مالك في المدونة، ولا أعرف في ذلك
نص خلاف، وقد يدخل فيه الخِلَاف بالمعنى من قوله فيما تقدم في الموالي
ويبدأ بالأقرب فالأقرب من ذوي الحَاجَةِ إلّا أن يكون الأباعد أحوج
فيؤثرون، قال: وهذا قول مالك وهو أحب ما فيه إلي، وفي قوله: (وهو أحب ما
فيه إلي) دليلٌ على الخلاف، وهو ما وقع في رسم الشريكين بعد هذا من أن
موالي الموالي يدخلون مع الموالي ولا يفضلون عليهم في ظاهر قوله: (إذا
استوت حاجتهم) فيتحصل في المسألة أربعة أقوال: أحدها: أنه لا يُبَدَّأ
الآباءُ على الأبناء جملة من غير تفصيل، والثاني: أنهم يبَدِّأونَ عليهم
جملة من غير تفصيل أيضا، والثالث: أنه يبدأ منهم من دخل بالنص على من دخل
بالمعنى، ولا يبدأ منهم من دخل بالنص على من دخل بالنص ولا من دخل بالمعنى
على من دخل بالمعنى، والرابع: أنه يبدأ منهم من دخل بالنص على من دخل
بالمعنى ومن دخل بالنص على من دخل
(12/213)
بالنص، ولا يُبَدّأ منهم من دخل بالمعنى
على من دخل بالمعنى. وهذا القول أضعف الأقوال؛ لأنه إذا بدئ من دخل بالنص
على من دخل بالنص وجب أن يُبَدّأ من دخل بالمعنى على من دخل بالمعنى،
وبالله التوفيِق.
[مسألة: حبس الرجل داره على ولده وعلى ولد ولده]
مسألة قال مالك: إذا حبَّس الرجلُ دارَه على ولده وعلى ولد ولده، فإن ولد
الولد يسكنون معهم إن وَجَدُوا فضلا، وإن لم يكن فضل فالأدْنَوْنَ أولى،
فإن كان فضل أو خرج بعض الأدنين إلى سفر سكن الذين يلونهم، فإن جاء أحد من
الأدنين لم يخرج عنه كما لم يدخل عليه، وذلك شأن الحبس والسكنى إذا تصدق
عليهم بالسكنى.
قال محمد بن رشد: قول مالك في هذه المسألة خلافُ قوله في المسألة التي
قبلها مثلُ قوله في المدونة؛ لأنّه إذا رأى في المسألة التي قبل هذه ولد
العقب مع العقب بالسواء وإن كانوا إنما دخلوا في الحبس بالمعنى، فأحرى أن
يَرَى في هذه المسألة وَلَدَ الولد مع الولد بالسواء لإِدخالهم معهم بالنص،
وقدْ مضى تحصيلُ القول في ذلك قبل هذا فلا معنى لإِعادته، وقوله: أو خرج
بعض الأدنين إلى سفر فسكن الذين يلونهم ثم جاء لم يخرج عنه كما لم يدخل
عليه، معناه إذا خرج إلى سفر بعيد يشبه الانقطاع أو كان يريد المقام في
الموضع الذي سافر إليه. وأما إذا سافر ليعود فهو على حقه، وهذا نص قول مالك
في رسم البز بعد هذا، وتفسير ابن القاسم في المدونةّ لقول مالك فيها أنه إن
غاب أو مات سكن مسكنه، أي إن كان يريد المُقام في الموضع الذي غاب إليه،
وأما إن كان سافر ليرجع فهو على حقه وقال علي في روايته: إن غاب مُسْجلا
ولم يذكر ما قال ابن القاسم ولا يخالف علي لابن القاسم في تفسيره والله
أعلم، والخلافُ في هذه المسألة إنما يكون فيما يحمل عليه
(12/214)
غيبته فيكون على ظاهر قول مالك في رواية
علي عنه محمولة على الِانقطاع والمقام حتى يتبين خلافُ ذلك، وعلى ظاهر قول
ابن القاسم محمولة على الرجوع وعلى غير الانقطاع حتى يتبين خلافُ ذلك
وبالله التوفيق.
[مسألة: تصدق على بناته بصدقة حبسا فإذا انقرض
بناته فهي لذكور ولده]
مسألة وسُئِلَ مالك عن رجل تصدق على بناته بصدقة حبسا فإذا انقرض بناتُهُ
فهي لذكور ولده وهو صحيح فيُبَتِّلُ ذلك لهن فتكون للِإناث حتى يهلكن
جميعُهُن وللرجل يومَ هلكن كلهن ولدٌ وولدُ ولدٍ ذكور، فقال ولدُ الولد:
نحنُ من ولده ندخل في صدقة جدنا، وقال ولده لصلبه: نحن آثَرُ وَأوْلَى،
فقال مالك: أرى أن يدخل معهم ولد الولد، وذلك أني أراهم ولده يكونون معهم
فيها.
قال محمد بن رشد: قوله: (إنه يدخل ولد الولد مع الولد) بقوله: (فهي لذكور
ولده) صحيح على المشهور في المذهب؛ لأن الولد يقع على الولد الذكر والأنثى
وعلى ولد الولد الذكر؛ لأن ولد الولد الذكر بمنزلة الولد إذا لم يكن ولد في
الميراث، فلما كان له حكم الولد في الميراث وجب أن يدخل في الحبس.
وكذلك تدخل مع بناته لصلبه إذا تصدق على بناته بصدقة حبس بناتُ بنيه الذكور
من بنت الابن بمنزلة الابنة في الميراث إذا لم يكن ابنٌ ولا ابنة، فلا شيء
لذكور ولد المحبس في هذه المسألة حتى تنقرض بَنَاتُهُ وبنات بنيه الذكور،
وقد نص على ذلك في رسم العشور من سماع عيسى وقال: إنه يدخل ولدُ الولد مع
الولد ولا يفضل الولد عليه في ظاهر قوله، فهو خلاف قوله في المسألة التي
قبلها موافق لقوله في المسألة التي فوقها، وقد مضى تحصيل القول في ذلك في
تكلمنا عليها فلا معنى لِإعادته، وقد قيل إنه لا يدخل في تحبيس الرجل على
ولده إلّا وَلَدٌ لصلبه ذكورهم وإناثهم، وهو قول غير ابن
(12/215)
القاسم في سماع سحنون في الذي يحبس على
ابنته وعلى ولدها، ويأتي على رواية أصبغ عن ابن القاسم في كتاب الوصايا
فيمن أوصى لولد فلان أن الوصية تكون لذكور ولد، ولا يدخل في ذلك إناثهم
بخلاف إذا قال: لبني فلان، فإنه يدخل في ذلك بنو فلان ذكورهم وإناثهم، إن
من حبس على ولده لا يدخل في الحبس إلا ذكور ولده لصلبه خاصة.
وجه القول الأول: أن ولد الولد الذكر ذكورا كانوا أو إناثا لما كان لهم حكم
الولد في الميراث إذا لم يكن فوقهم ولد وجب أن يدخلوا في الحبس على الولد.
وجه القول الثاني: أن الحبس على الولد لو كان يدخل فيه ولد الولد كما يدخل
فيه إذا حبس على ولده لم يكن لذكر ولد الولد في التحبيس فائدة ولكان لغوا
لا فائدة فيه.
ووجه القول الثالث الذي يتخرج على رواية أصبغ في الوصية: أن الولد قد يعرف
عند عامة الناس بالولد الذكر للصلب خاصة، وإذا سألت من ليس له، ولد ذكر وإن
كان له بنات أو أولاد أوْلاَدٍ هل لك ولد؟ يقول كل ليس لي ولد، وإنما لي
بنات وحفدا أولاد أولادي، ولا يعرف أن الولد يقع علىكل من يرجع نسبه إلى
الرجل إلّا الخاص من العلماء، فتحققنا أن المحبس أراد ذكور ولده لصلبه
بقوله: " حبست على ولدي "، ولم يتحقق أنه أراد دخول من سواهم فيه، فوجب ألا
يدخلوا فيه بشك.
وأما أولاد البنات فلا يدخلون في الحبس على مذهب مالك بقول المحبس: " حبست
على ولدي " لم يختلف في ذلك قولُهُ ولا التأويل عليه فيه؛ لأنهم لا ينتسبون
إليه ولا يرثونه وإن كان اسم الولد يقع عليهم في حقيقة اللغة بدليل قول
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحسن: «إنّ ابْنِي
هَذَا سَيد
(12/216)
وَلَعَل اللهَ يُصْلِحُ بِهِ بَيْنَ
فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» ومن الناس من ذهب إلى أنه
لا يسمى ولد البنت ولدا إلّا مجازا لا حقيقة، وليس ذلك بصحيح؛ لأن ولد
البنت أحق بالتسمية من جهة اللغة من ولد الولد.
واختلف إذا قال حبست على وُلْدِي ووُلْد ولدي هل يدخل ولد البنات في ذلك
على مذهب مالك أم لا؟ وقد فرَغنا من بيان هذه المسألة وتفسيرها في غير هذا
الديوان، وهو كتاب المقدمات وبالله التوفيق.
[: جعل دارا له حبسا صدقة على ولده لا تباع إلا
أن يحتاجوا إلى بيعها]
ومن كتاب أوله: حلف ألّا يبيع
رجلا سلعة سماها
وسُئِلَ مالك عن رجل جعل دارا له حبسا صدقة على ولده لا تُبَاعُ إلّا أن
يحتاجوا إلى بيعها فإن احتاجوا إليها واجتمع ملاؤهم على ذلك باعوا واقتسموا
سواء ذكرهم وأنثاهم فهلكوا جميعا إلّا رجل فأرادَ بيعها، أذلك له وقد احتاج
إلى بيعها؟ قال: نعم، فقيل له فإن امرأة ثَمّ وهي بنت أخت الباقي الذي يريد
أن يبيع وهي من بنات المحبس قالت: إن بعتَ فأنا آخذ ميراثي من أمي؟ قال: لا
أرى لها في ذلك شيئا، قال ابن القاسم: ولو اجتمع ملاؤهم على بيعها قسموا
ثمنها على الذكر والأنثى سواء؛ لأنها صدقة حازوها وليست ترجع بما ترجع به
المواريث إلى عَصَبَةِ الذي تصدق بها.
قال محمد بن رشد: قوله إلّا أن يحتاجوا إلى بيعها يريد أو يحتاج أحدهم إلى
بيع حظه منها بالحبس قَلّ لكثرة عددهم أو كَثُرَ لقلتهم، فيكون
(12/217)
ذلك له ويبطل الحبس فيه ويكون ثمنه مالا من
ماله، وكذلك إن احتاجوا كلهم فباعوا كان الثمن لهم مالا مر مَالِهِم على
قدر حقهم في الحبس كثروا أو قلوا وإن لم يبق منهم إلا واحد فاحتاج كان له
الثمن كله وبطل الحبسُ في الجميع بشرط المحبس، ومن مات منهم قبل أن يحتاج
سقط حقه؛ لأنه إنما مات عن حبس لا يورث عنه ويرجع إلى من معه في الحبس ولا
يورث شيء منه على المحبس لأنه قد انْبَتَّ منه إذ قد حبسه حبسا صدقة على
غير معينين وحيز عنه في حياته، فالحكم فيه أن يرجع بعد انقراض المحبس عليهم
إلى أقرب الناس بالمُحَبِّسَ إلا أن يحتاجوا فيكون لهم البيع بشرط المحبس،
ويعودُ ما كان بأيديهم منه بالحبس ملكا يجوز لهم بيعه وأخذ ثمنه، ولا يعود
شيء منه إلى المحبس ملكا ولا يورث عنه.
وقوله في آخر المسألة: وليست ترجع بما ترجع به المواريث إلى عصبة الذي تصدق
بها، يريد أنها لا ترجع إلى ورثته وإنما ترجع إلى أقرب الناس بالمحبس حبسا
عليهم إن انْقَرَضَ المحبَّس عليهم قبل أن يحتاجوا أو يبيعوا، وبيانُ هذا
الذي ذكرتُهُ كله في كتاب ابن المواز، قال مالك فيه: من حبس على ولده وشرط
إن احتاجوا باعوا فذلك جائز، فمن احتاج منهم فله بيع حظه، فإن باعوا فلا
يدخل أحد في ثمن ذلك من ورثة الميت، فإن انقرض من حبس عليه إلا واحدا
فاحتاج فباع فالثمنُ كله له ليس لورثة أهل الحبس ممن مات منهم فيه شيء؛ لأن
من انقرض سقط حقه وصار لمن بعده، قال محمد بن المواز: وإن انقرض قبل أن
يحتاج فليس لورثته ولا لغيرهم فيها شَيْءٌ ورجعت كما يرجع غيرها من الأحباس
وبالله التوفيق.
[: تصدق على ثلاثة نفر بثمر حائطه فابروها ثم
أحدهم مات]
ومن كتاب أوله: اغتسل على غير نية وسئِلَ عن رجل تصدق على ثلاثة نفر بثمر
حائطه فابّرُوها، ثم
(12/218)
إن أحدهم مات، قال: ما أراها إلّا لهم
كلهم؛ لأنه قد أَبّرَ وَسَقَى فهي بينهم كلهم، ثم نزلت وقضى فيها أنه ليس
له فيها شيء للذي مات إذا كان حبسا، وإنما يكون لورثة من مات منهم إذا مات
بعدَ أنْ تطيب الثمرة، ومن مات منهم قبل أن تطيب الثمرة فلا حق له، وإنما
تكون منهم إذا مات وقد أبرت إذا لم تكن حبسا فأما الحبس فلا يكون لهم حتى
يطيب، وكذلك قال مالك، وأما إذا كانت صدقة من غير حبس فهي لورثة الميتَ
أبِّرَتْ أو لم تُؤبر.
قال محمد بن رشد: معنى قوله: تصدق على ثَلاثة نفر بثمر حائطه أي حبسها
عليهم، ويحتمل أن يريد أنه حبسها عليهم حبسا صدقة، وعلى ذلك تكلم لأن
الصدقة المبتولة من غير حبس لا اختلاف في أنّ حظ مَن مات منهم لورثته وإن
لم تؤبر، وذلك بين من قوله: وإنما يكون لمن مات منهم إذا مات وقد أبرت إذا
لم تكن حبسا، وقوله: ما أراها إلّا لهم لأنه قد أبَّر وسقي فهي بينهم، هو
خلاف ما في المدونة من قول ابن القاسم وغيره من الرواة، وقولُه: ثم نزلت
فقضى أنه ليس فيها شيء للذي مات وإنما يكون لورثة من مات منهم إذا مات بعد
أن تطيب الثمرة، هو قول ابن القاسم وروايتُهُ عن مالك في المدونة، ولا
اختلاف في أنها تجب بالطياب لمن مات منهم بعده، ولا في أنها لا تجب لمن مات
منهم قبل الِإبار في الحبس وإنما الاختلاف إذا مات أحدهم بعد الإبار وقبل
الطياب أو ماتوا جميعا.
فإذا مات أحدهم ففي ذلك خمسة أقوال: أحدها: أن حظه يرجع إلى المحبس،
والثاني: أنه يكون لمن بقي منهم وهذا القول هو الذي رجع إليه مالك في
المدونة وإياه اختار ابن القاسم، والثالث: أنه يكون لمن بقي منهم إن كانوا
يلون عملها أو كان عبدا يخدمهم أو دارا يسكنونها وترجع إلى المحبس إِن
كانوا لا يلون عملها وإنما يقسم عليهم ثمرتها، والرابع: أن الميت يجب له
حضه بالإِبار إن كان قد أبر وسقى، وهو القول الأول في هذه الرواية: ما
أراها
(12/219)
إلا لهم كلهم، لأنه أبِّرَ وسَقى، والخامس
أن الميت يجب له حظه بالإِبّارِ وإن لم يؤبر ولا سقي، وهو قول غير واحد من
الرواة في المدونة: وإن مات منهم ميت والثمرة قد أبرت فحقه فيها ثابت، وهو
مذهب أشهب.
وأما إذا ماتوا معا كلهم ففي ذلك ثلاثة أقوال أحدها: أن الثمرة ترجع إلى
المحبس، والثاني: أنها تكون لورثتهم لأنه قد استوجبها كل واحد منهم
بالإِبار، وهو مذهب أشهب، والثالث: أنها تكون لورثتهم إن كانوا قد أبَّرُوا
وسقوا وترجع إلى المحبس إن كانوا لم يؤبروا ولا سَقَوا، وهو القول الأول في
هذه الرواية؛ لأن موتهم كلهم بمنزلة إذا كان المحبَّس عليه واحدا فمات، وإن
مات واحد بعد واحد ففي موت الآخر منهم ثلاثة أقوال وإنما ترجع الثمرة إلى
المحبس في الموضع الذي ترجع إليه على القول بأنها ترجع إليه إذا قال حبسا
ولم يقل حبسا صدقة، وأما إن قال حبسا صدقة فإنما ترجع إلى أقرب الناس
بالمحبس حبسا ولا ترجع إليه ملكا، لم يختلف قولُ مالك في ذلك على ما حكى
ابن القاسم في المدونة، وفي كتاب ابن عبد الحكم إن قوله اختلف في ذلك أيضا.
فيتحصل فيما تجب به الثمرة للمحبَّس عليهم بأعيانهم ثلاثةُ أقوال أحدها:
أنها تجب لهم بالإِبار، والثاني: أنها لا تجب لهم بالإِبار إلّا مع أن
يكونوا هم سقوها وأبروها، والثالث: أنها لا تجب إلا بالطياب.
وأما إن لم يكونوا معينين مثل أن يكون المحبس على رجل وعقبه، فقيل إنها تجب
لهم بالطياب وقيل إنها لا تجب لهم إلا بالقسمة.
وأما إن كان الحبس على مثل بني زهرة أو بني تميم فلا تجب لأحد منهم فيها حق
إلا بالقسمة، فمن مات قبلها بطل حقه ومن ولد قبلها كان من أهلها، هذا تحصيل
القول في هذه المسألة لأنه قال فيها إن من مات منهم قبل أن تطيب الثمرة فلا
حق له، ولم يبين لمن تكون؟ وإذا كان الميت منهم قد أبر
(12/220)
وسقى فلم يكن له الثمرة على القول الثاني
ورجعت إلى المحبس إن كانت لمن بقي منهم كان لورثته الرجوع عليه بما أبر
وسقى ورأيت لابن دحون في هذه المسألة أنه قال فيها المسألة التي نزلت فأفتى
فيها أنه ليس له شيء وإن كانت قد أبرت معناها أنهم لم يعلموا، فليس ذلك
اختلاف من قوله وإنما فَرْقٌ بين المسألتين، وقولُهُ بعيد من لفظ المسألة
ولا يصح في المسألة سوى ما قلنا وبينا وبالله التوفيق.
[مسألة: يحبس دارا له أو أرضا على رجل حياته أو
يعمرها فيفقد]
مسألة وسئل عن الرجل يحبس دارا له أوْ أرضا على رجل حياته أو يُعْمَرُهَا
فيفقد قال: توقف كما يوقف ماله حتى يُسْتَبَانَ أمره.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنها قد وجبت له قبل أن يفقد فوجب أنْ توقف
له إذا فُقدَ، وهو نص قول مالك في كتاب ابن المواز، قال: توقف غلتها إلى
حِين لَا يَحْيىَ لِمثله، فيكون ذلك لورثته إلَّا أن يعلم أنه مات قبل ذلك
فيرجع الفضل إلى ربها، قال محمد: أو حَيْثُ أَرْجَعَهُ ولو كان الحبس عليه
أو العُمْرَى له بعد أن فقد لوجب أن توقف الغلة، فإن عُرفت حياتُه كان له
من الغلة ما يجب له منها من يوم أُعْمِر َإياها إلى يوم وفاته ورجع الفضل
إلى المحبس أو إلى حيث أرجعه وإن لم تعرف حياته حتى أتى عليه من السنين ما
لا يحيى لمثلها رجع جميع ذلك للمحبس أو إلى حيث أرجعه وبالله التوفيق.
[مسألة: حبس دارا له على رجل حياته فبنى في
الدار مسكنا ثم مات]
مسألة قال: وسئل عن رجل حبس دارا له أو أرضا على رجل حياته فبنى في الدار
مسكنا أو غرس في الأرض نخلا ثم مات، فقال إن
(12/221)
أرْضَى صاحبَ الدار ورثةُ الرجل فذلك له،
وإلا قلعوا نخلهم وأخذوا نقضهم من الدار.
قال الإِمام القاضي: وقعت هذه المسألة في نص الروايات هاهنا، وستأتي في
موضعها بعد هذا من هذا السماع، وهي خلافُ قول ابن القاسم وروايته عن مالك
في كتاب الحبس من المدونة مثل قول المخزومي فيه، ومثل ما في كتاب الشفعة
منها، ومثل ما في التفسير لابن القاسم من رواية يحيى عنه، وقوله: " إن أرضى
صاحبَ الدار ورثَهُ الميت وإلا قلعوا نخلهم وأخذوا نقضهم " معناه إن مات
بحدثان ما بَنَى وغرس، وأما إن لم يمت حتى مضى من المدة ما يُرى أنه بنى
وغرس إلى مثله فيكون لصاحب الدار أن يأخذ النقض والنخل بقيمتها مقلوعة إن
شاء وإن أبَى قلعوا نخلهم وأخذوا نقضهم على مذهب ابن القاسم فيمن بنى فيما
اكْترَى وكذلك في اَلنوادر لمالك من رواية ابن القاسم عنه أن لهم أن يقلعوا
نقضهم إِلا أن يعطيهم قيمةَ ذلك مطروحا بالأرض، ومعنى ذلك إذا كان قد مضى
من المدة ما يُرى أنه بنى إلى مثلها على ما ذكرناه، وأما على رواية
المدنيين عن مالك في أن للمكتري قيمةَ بنيانه قائما، فيكون الحكم في الحبس
ما قاله في الرواية من أن صاحب الدار إن أرضى الورثة وإلا قلعوا نخلهم
وأخذوا نقضهم طالت المدة أو قصرت، وهو ظاهر قول المخزومي في الحبس من
المدونة إِن البناء الذي له القدرُ مالٌ من ماله يُباع في دَيْنِهِ، فهذا
حكم ما بنى للسكنى إذا مات، وأما إذا لم يمت فهو أحق بسكنى ما بنى لا يدخل
عليه فيه غيره، ولو بنى حوانيت وبيوتا للغلة والكراء لَقَاصَّ نفسه بما قبض
من الخراج حتى يستوي ما أنفق في ذلك حسبما يأتي في رسم حمل صبيا من سماع
عيسى بعد هذا وبالله التوفيق.
[: حبس منازل له على ولده وكن أربع بنات]
ومن كتاب أوله: شك في طوافه وسئل عن رجل حبس منازلَ له على ولده وَكُنّ
أربعَ بنات وقد
(12/222)
بلغن وتزوجن وحزن أموالهن ودفع إليهن
أموالهن وكان عَم لهن يَلِي حبسهن فاتهمنه في غلتهن وطلب بعضهن أن تُوَكَّل
بحقها ويدفع ذلك إليها، قال: أرى أن يُنظَرَ في ذلك، فإن كان حسن النظر لم
أر ذلك لها، وإن كان غير ذلك رأيت أن يجعل معه من يوكله بذلك.
قال محمد بن رشد: قوله: " وكان عم لهن يَلِي حبسهن" معناه أنه كان يليه
بجعل المحبس ذلك إليه، إذ لو كان يليه بجعلهن ذلك هن إليه لكان لمن شاءت
منهن أن توكل بحقها من شاءت سواه، ولم يكن للسلطان في ذلك نظر؛ لأن لكل
واحدة منهن أن تعزله عن النظر لها إن شاءت متى شاءت، وقولُه: ينظر في ذلك
فإن كان حسن النظر يريد ثقة مأمونا غير متهم لم أر ذلك لها، وقوله: وإن كان
على غير ذلك يريد سيئ النظر أو غير مأمون رأيت أن يجِعل معه من توكله بذلك،
وإنما رأى لها أن توكل بحقها ولم تعزله عن النظر لكونه سيئ النظر غير
مأمون، من أجل أنهن مالكات لأمورهن، وقد رضي به بعضهن، وَلَوْ لَمْ ترض به
واحدة منهن لعزله القاضي عنهن وكان من حقهن أن يوكلن من رضين به، ولو كُنَّ
غير مالكات لأمور أنفسهن لوجب إذا ثبت عند السلطان أنه سيئ النظر غير مأمون
أن يعزله ويقدم سواه، ولم يلتفت إلى رضا من رضي به منهن، وقد رأيت لابن
دحون أنه قال: لو اتهمه جميعُهن لكان لهن إخراج ذلك من يديه، وإنما بقي في
يديه لأنهن اختلفن فاتهمه بعضهن ولم يتهمه الباقون، وفي قوله نظر فتدبره
وباللَه التوفيق.
[مسألة: الفرس يحبس في سبيل الله فيأتي بعض من
يريد أن ينزيه فيمنعه من ذلك]
مسألة وسئل مالك عن الفرس يحبس في سبيل الله فيعطاه رجل فيأتي بعض من يريد
أن يُنْزِيَه فيمنعه من ذلك أترى ذلك واسعا؟ قال: نعم النزو يُضْعِف فأرى
أن يمنعه ويستبقيه لما جعل له فيه، قال مالك: وكذلك الإِبل.
(12/223)
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لا
إشكال فيه ولا موضع للقول وبالله التوفيق.
[مسألة: حبس عدقين عَلى مسجد في مصباحه]
مسألة وسئل عن رجل حبس عدقين عَلى مسجد في مصباحه ومرَمّتِهِ في دار من دور
الأنصار، فانقرض أهل تلك الدار وسكنها قوم آخرون وبقي رجل من أهل تلك الدار
الذين انقرضوا فانتقل ذلك الرجل إلى دار أخرى وأخذ تَمَرَ ذينك العدقيْن
يَأكُلهمَا ويصنع فيهما ما شاء فَكُلِّمَ في ذلك، فقال: إنما كان ذلك حين
كان أهل الدار ثَمَّ فَلمَا انقرضوا فهما لي أصنع فيهما ما شئتُ، قال مالك:
ليس ذلك له، وهما على ما وضعهما عليه صاحبها من شأن المسجد من مصباح المسجد
ومرمته.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، إذ لا تَعَلّقَ لحبسه بسكنى الأنصار في
الدار؛ لأنه إنما حبس العدقين اللذين كَانَا له مِلكا ومَالا في دار
الأنصار، ولم يقل إنه حبسهما ما دامت الدار للأنصار ولا في لَفْظِهِ في
التحبيس ما يدل على ذلك فلا يصدق فيه إِن ادعاه وبالله التوفيق.
[مسألة: أحد الورثة إذا اشترى قدر حظه من
السكنى يملك بذلك التصرف في حظه]
مسألة وسئل عن رجل حبس دارا له على ولد له وابن أخ له حَيَاتَهُمَا ولم
يجعل لعقبهما شيئا، ومرجعُهما إليه، فأراد أن يشتري صاحب الحبس من ابن أخيه
ما حَبَّس عليه، واستغنى ابنُ أخيه عنها فأراد بِيعها من الذي حبسها عليه
قال: ذلك جائز وكره أن يبيعها من غيره، وقال: كيف يشتريها غيره ولا يدري ما
يعيش؟
قال محمد بن رشد: مثل هذا في المدونة في كتاب الصلح وكتاب
(12/224)
الوصايا وفي غير ما موضع من هذا الكتاب،
ومن كتاب الصدقات والهبات من ذلك ما وقع في رسم طلق بعد هذا من هذا السماع
وفي رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب الصدقات والهبات وفي رسم أصبغ منه،
وإنما جاز ذلك وإن كانت مدة حياتهما مجهولة لأنه يملك بذلك التصرف في
الدار، فكأنه إنما ابتاع رقبتها، وكذلك ورثته يُنَزَلون منزلةُ في اشتراء
السكنى منه، ولا يجوز لأحد منهم أن يشتري أكثر من حظه منها عند ابن القاسم،
وأجاز ذلك المخزومي، ولم يجز ابن كنانة لأحدهم أن يشتري قدر نصيبه إِلَّا
أن يجتمعوا فيشتروا الجميع، وقول ابن القاسم هو الصحيح في النظر؛ لأن أَحَد
الورثة إذا اشترى قدرَ حظه من السكنى يملك بذلك التصرف في حظه، وكذلك يجوز
للمحبس عليهما السكنى حياتهما أن يشتريا المرجع من الذي يرجع إليه فيملك
بذلك رقبة الدار على ما قاله في المواضع المذكورة من هذاَ الكتاب، ومن كتاب
الصدقات والهبات، ووقع في رسم البيوع الأول من سماع أشهب بعد هذا من هذا
الكتاب أنه لا يجوز لمن حبست عليه وصيفة حياتَه أن يبتاع المرجع من غرماء
المُحَبِّس، فقيل إن ذلك اختلاف من القول، وقيل ليس ذلك باختلاف منه، ويجوز
للمُخَدَم حياته أن يشتري مرجع الجارية من الذي أخدمه إياها فيملك بذلك
الرقبة ملكا تاما، ولا يجوز له أن يشتريه من غرمائه إذا كان عليه دين،
والأول أظهر أن ذلك اختلاف من القول؛ لأن حق الغرماء ليس في عين مرجع
الوصيفة، وإنما هو في ذمة المحبس وعلى ملكه يباع، فلا فرق بين أن يبيعه
عليه الغرماء في دَيْنِهم أو يبيعه هو ليؤدي دينه أو لبعض حاجته فيما يجوز
من ابتياع المرجع، وكذلك لو بيع بعد موت المحبس فيما عليه من الدين؛ لأن
الدين إِنما هو في ذمة الميت لا في عين التركة على الصحيح من الأقوال،
ولأنه يملك الرقبة باشتراء المرجع، اشتراه من الذي أخدمه أو من ورثته أو من
غرمائه، ولا يجوز على القول الآخر اشتراه منه أو من ورثته أو من غرمائه؛
لأنه غرر، إذ لا يدري متى يرجع المرجع إلى الذي باعه منه، ووجه التفرقة بين
الموضعين أن المُخْدِم والمُحَبِّسَ لما كانا فعلا معروفا
(12/225)
بمن أخدماه وأسكناه جاز لهما أن يشتريا
الخدمة والسكنى ليملكا بذلك التصرف في الدار أو العبد بالبيع فيكونا إذا
فعلا ذلك كأنهما إنما اشتريا الرقبة جاز لهما أن يبيعا منه المرجع من
المخدم والمسكن؛ لأنه يملك بذلك الرقبة، ولما كان الغرماء لا يجوز لهم
اشتراء الخدمة لم يجز لهم بيع المرجع.
ولا يجوز باتفاق اشتراء الخدمة أو السكنى لغير الذي له الرقبة ولا اشتراء
المرجع لغير الذي له الخدمة والسكنى، وينزل ورثة المحبس والمخدم منزلة
موروثهما فيما يجوز لهما من اشتراء الخدمة أو السكنى، ويُخْتَلَفُ هل ينزل
الموهوب الخدمة والسكنى منزلة الواهب في جواز ابتياع المرجع، وهل ينزل
الموهوب له المرجع منزلة الواهب في جواز ابتياع الخدمةَ والسكنى على قولين،
الأظهر منهما أنه ينزل منزلتهما في ذلك على ما قاله في العَرَايَا من
المدونة من أنه يجوز لمن أسكن رجلا حياته أن يبتاع السكنى ممن وهب إياه،
وبالله التوفيق.
[مسألة: الحبس يحبسه الرجل على ولده ويقول إن
تزوجت امرأة فلا حق لها]
مسألة وسئل مالكٌ عن الحبس يحبسه الرجل على ولده ويقول: إن تزوجت امرأة فلا
حق لها، قال: إني لأكره هذا من العمل، قال عيسى: قال ابن القاسم: وأنا أكره
ذلك، فإن كان صاحب الحبس حيا رأيت أن يفسخه ويجعله مُسْجَلا ولو مات صاحبه
حتى ينفذ ذلك لم أَر للقاضي أن يفسخه لم يكن قول ابن القاسم في رواية سحنون
وأنكره ولم يعرفه.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذه المسألة في أول رسم من السماع فلا
معنى لإِعادته وبالله التوفيق.
(12/226)
[: حبس دارا له
حبسا في ثلثه لم يجعل لها مخرجا]
ومن كتاب أوله الشجرة تطعم بطنين في السنة وسئل مالك عن رجل حبس دارا له
حبسا في ثلثه لم يجعل لها مخرجا فكيف ترى أن تقسم؟ قال: أرى أن تقسم على
ذوي الحاجة، قيل فإن له ولد محتاجين وأغنياء أفترى أن يعطوا منها؟ قال: لا،
ولكن أرى أن يعطي المحتاجين منهم منها مع غيرهم من المحتاجين.
قال محمد بن رشد: مثلُ هذا في المدونة وفي رسم لم يدرك من سماع عيسى أن من
حبس حبسا ولم يجعل له مخرجا فسبيله أن يكون حبسا على الفقراء والمساكين،
وقوله في الدار المحبسة على هذا السبيل إنهَا تقسم على ذوي الحاجة، يريد
يُقْسَم سُكْنَاهَا عليهم، ومن حصل في مسكن منها لم يخرج منه لغيره إِلَّا
أن يستغنى، وقوله: إنه يعطي ولده المحتاجون منها مع غيرهم من المحتاجين
صحيح؛ لأن الميت لم يُوصِ بذلك فتكون وصيته لوارث، وإنما هذا أمر يفعله
الناظر في تنفيذ الوصية باجتهاده، وسواء كانوا يوم أوصى بالتحبيس محتاجين
أو أغنياء ثم احتاجوا بعد ذلك لأنها إنما ردت إلى المساكين بالحكم فوجب أن
يستوي في ذلك ورثته وغيرُهم، كمرجع الحبس، ولو أوصى بِتحبيسها على المساكين
لكان الحكم في ذلك حكم من أوصى بصدقة ثلث ماله على المساكين فلم يقسم حتى
افتقر بعضُ ورثته أو كانوا فقراء، فقال مطرف: إنهم يعطون من الثلث في
الحالتين، وقال ابن القاسم في رواية أصبغ عنه: إنهم لا يعطون من الثلث شيئا
في الحالتين أيضا، وفرق ابنُ الماجشون بين الحالتين فقال: إن كانوا يوم
أوصى مساكينَ لم يُعْطَوا منه؛ لأنه أوصى وَهُوَ يعرف حالهم، فكأنه قد
أزاحه عنهم، وإن كانوا يوم أوصى أغنياء ثم افتقروا أُعْطُوا منه.
ولو حبس في صحته أصلا يجري غلته على المساكين لأعطى ورثته
(12/227)
الفقراء منه، كانوا يوم مات أو يوم حبس
فقراء أو أغنياء ثم افتقروا بعد ذلك، حكى ذلك ابن حبيب عن مطرف وابن
الماجشون، وقالا: إن بذلك حكمت القضاةُ يرى مالك وغيره من الفقهاء غير أنهم
لا يعطون جميع غلة الحبس مخافة أن يدرس شأنه وينقطع التحبيس منه، ولكن يبقى
منه سهم يجري على المساكيِن ليبقى بذلك اسمُ الحُبُس ويكتب على الورثة
كتابٌ بأنهم إنما أعطوا منه على المسكنة والحاجة لا على أن لهم فيه حقا دون
المساكين وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل وأهله هم المنتسبون من الرجال والنساء إِلى من ينتسب إليه]
مسألة وسئل مالك عمن حبس على رجل وعلى أهله أوْسُقا مسماة من حائط، فهلك
رجل من ولد ذلك الرجل الذي حبس عليه وعلى أهله، وولد ولد لم يكن حيا في
حياة الجد يوم حبس عليه، أترى أن يدخل في الصدقة؟ قال: نعم، هو من أهله.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الرجل وأهله هم المنتسبون من الرجال
والنساء إِلى من ينتسب إليه فولده وولد ولده من أهله وهُم غيرُ معينين
فيدخل فيما حبسه عليهم من كان حيا يوم القسمة وإن كان ولد بعد التحبيس، ولا
خِلَافَ في هذا، كما أن من حبس على ولده فيدخل في حبسه من ولد من ولد ولده
بعد التحبيس وإن سفُلُوا، وقد مضى في صدر أول رسم من هذا السماع الكلامُ
على الآل والأهل فلا معنى لإِعادته وبالله التوفيق.
[مسألة: من حبس أو وهب أو تصدق ليس له أن يرجع]
مسألة وسئل عن رجل أسكن رجلا بيتا له ولعقبه ما عاشوا وما عمروا فيه من شيء
فهو لهم، فأراد الذي أسكنه في ذلك أن يرجع أترى ذلك له؟ قال: لا، ثم قال
أخذ على ذلك ثوابا؟ قال: لا، وكان في
(12/228)
كتاب سكناهم ابتغاء وجه الله، قال: لا أرى
ذلك له، فقال له منذ كم كان؟ قال: منذ سنين، قال ليس ذلك له.
قال محمد بن رشد: ليست هذه المسألة في كل الروايات، وهي مسألة صحيحة لا
اختلاف في المذهب في أنَ من حبس أو وهب أو تصدق ليس له أن يرجع عَنْ ذلك،
ويحكم به عليه وإن كان لم يقبض منه إن كان لمعين باتفاق، وإن كان لغير معين
فعلى اختلاف، والقولان في المدونة على اختلاف الرواية فيها، والإِسكان في
هذه المسألة لمعين، فلا اختلاف فيه، والسؤال إنما هو هل له أن يرجع فيه ما
لم يقبض منه، إذ من أهل العلم من يرى أَلَّا يُحكم به عليه ما نم يقبض منه،
وأما إذا قبض منه فلا كلام فيه، وإنما سأله هل أخذ في ذلك ثوابا؛ لأنه لو
أخذ في ذلك ثوابا اشترطه لكان بيعا فاسدا يجب فسخه وبالله التوفيق.
[: الثمرة لا تجب للمحبس عليهم إلا بالطياب]
ومن كتاب طلق بن حبيب
وسئل عن قوم حبست عليهم ثمرة يجري عليهم في كل عام، فبلغت الثمرة الإِبار
فأبَّرُوها ثم ولد لرجل منهم بعد الإِبار ولد فلما حضر القسم قال أنا أريد
أن آخذ لولدي، وكان ممن أدخل في الصدقة، قال ذلك له يأخذ بقدر ما جعل له
فيه.
قال محمد بن رشد: هذا على القول بأن الثمرة لا تجب للمحبَّس عليهم إِلاَّ
بالطياب، وهو أحد القولين في رسم اغْتسل، وعلى القول الثاني فيه أنها تجب
لهم بالإِبار إذا كانوا هم قد سقوا وأبروا، لا يكون لمن ولد بعد ذلك فيها
حق، وقد مضى تحصيل الاختلاف في ذلك هنالك موعَبا مستقصى، فلا معنى لإعادته
وبالله التوفيق.
[مسألة: يشتري من المرأة ما أمنعها إياه حياتها]
مسألة قال ابن القاسم وسئل مالك عن رجل كانت عنده امرأة وأنه
(12/229)
اشترى متاعا من متاع البيت من نحاس طست
ومهراس وغيره، وأشهد لها أنه لها حياتَها تستمتع به، ثم إنه فارقها وخاف أن
تُبْدِلَهُ وتأتي بغيره، فأردت أن أزنه عليها، قال: الوزن يختلف وينقص، لا
أرى ذلك، ولكن أكتب صفته وأشهد على معرفته وأنقش فيه إن أردت، ثم قال له:
اشتره منها، قال قد فعلت فأبت فقال: أشهد على ما قلت لك من صفته ومعرفته،
وأكتب بذلك كتابا وأستاني به أن تبيعك إياه أو تشتريه منك.
قال محمد بن رشد: أجاز مالك في هذه المسألة للرجل أن يشتري من المرأة ما
أمْتَعَهَا إياه حياتَها، ولها أن تشتري منه مرجع ذلك، فيصح لكل واحد منهما
بالشراء مِلْكُ الأصل وينفرد به؛ ولا خلاف في جوَاز شرائه هو لِمَا أمتع
المرأة، وإنما الاختلاف في جواز شراء المرأة للمرجع على ما ذكرناه في رسم
شك من الاختلاف في تأويل ما وقع في رسم البيوع الأول من سماع أشهب هل هو
خلاف لسائر الروايات أو يفرق بين المسألتين، وقد مضى الكلام على ذلك مستوفى
فلا معنى لإِعادته وباللَّه التوفيق.
[مسألة: كانت لهم دار حبس فباعوها وأدخلوها في
المسجد]
مسألة وسئل عن قوم كانت لهم دار حُبُسٌ فباعوها وأدخلوها في المسجد، قال:
أرى أن يشتروا بالذهب دارا أخرى يجعلونها في صدقة أبيهم، قيل له أفيقضي
عليهم بذلك؟ قال: لا، إلَّا أن يتطوعوا، فقيل له أفترى لهم أن يشتروا بها
دارا؟ قال: نعم، إني لأرى ذلك لهم.
قال محمد بن رشد: قولُه وأدخلوها في المسجد يدل على أن ذلك جائز في كل
مسجد، مثل ما في نوازل سحنون بعد هذا من هذا الكتاب خلافُ ما حكى ابن حبيب
عن مطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ من أن
(12/230)
ذلك لا يجوز إِلَا في مساجد الجوامع إذا
احتيج إلى ذلك، وأما مسجد الجماعات فلا، إذ ليست الضرورةُ في ذلك مثلَ
الجوامع، وفي النوادر لمالك أن ذلك في كل مسجد مثل ظاهر هذه الرواية، وقولُ
سحنون في نوازله وقولُ مالك إنه لا يقضي عليهم أن يشتروا بالثمن دارا
يجعلونها حُبسا كما كانت التي باعوا هو قولُ ابن القاسم، وقال ابنُ
الماجشون يقضي بذلك عليه، ولو استحقت فأخذ فيها ثمنا فإنه يصنع فيه ما شاء،
قاله مالك وابن القاسم، وظاهر قوله فباعوها وأدخلوها في المسجد أنهم طاعوا
بذلك وفعلوه باختيارهم، وقد اختلف الشيوخ المتأخرون إذا أبَوا من ذلك في
المسجد، فقال أكثرهم تؤخذ منهم بالقيمة جبْرا على ما أحَبوا أو كرهوا، وهو
الذي يأتي على قياس قول مالك في هذه الرواية وما روى عن ابن القاسم أيضا من
أنه لا يحكم عليهم بجعل الثمن في دار أخرى تكون حبسا مكانها لأنه إذا كان
الحق يوجب أن تؤخذ منهم بالقيمة جَبْرا صار ذلك كالاستحقاق الذي يبطل
الحبس، فلا يجب صرف الثمن المأخوذ فيه في حبس مثله، ويأتي على قياس قول ابن
الماجشون إنه يقضي عليهم أن يجعلوا الثمن الذي باعوها به في دار أخرى تكون
حبسا مكانَها أنه لا يقضي عليهم ببيعها إذا أبَوا؛ لأنهم إذا باعوها
باختيارهم في موضع لا يحكم عليهم به لو امتنعوا منه كان الحكمُ عليهم بصرف
الثمن في دار تكون حبسا مكانَها واجبا لما في ذلك من الحق لغيرهم إن كان
الحبس معقبا، وكذلك إن كان عليهم بأعيانهم على القول بأنها ترجع بعدهم إلى
أقرب الناس بالمُحَبِّسُ حبسا وقد روى أبو زيد عنه في الثمانية أنه يقضي
عليهم ببيعها ليتوسع بها في المسجد الجامع، فقولُه إنه يقضي عليهم بجعل
الثمن في دار تكون حبسا مكانها ليس على أصله، فلعله إنما قال إنه يقضي
عليهم بذلك فيما عدى المسجد الجامع من المساجد، ومن مذهبه أنه لا يقضي عليه
ببيعها إلا في المسجد الجامع وبالله التوفيق.
(12/231)
[مسألة: بقرات
أوصى بهن رجل أن يقسم ألبانها في المساكين]
مسألة وسئل مالك عن بقرات أوصى بهن رجلٌ أن يقسم أَلْبَانُها في المساكين
كيف يُصْنَعُ بها إن ولدت، قال: ما ولدت من أنثى كان كسبيلها يحبس معها،
وما ولدت من ذكر حُبِّسَ لنزوها، فإن كثر الذكور عن نزوها بيع ما فضل عن
ذكورها واشترى به إناث فزيد فيها، وما كبرت من أنثى حتى ينقطع لبنها بيعت
فردت فيها، فاشترى بها إناثا يرد ما يباع منها فيها من ذكورها وما كبر من
إناثها في إناث يجعلهن معها وفي مصلحتها في عُلُوفَتها يعمل فيها كما يعمل
الرجل في ماله، إلَّا أنه لا يباع من إناثها شيء له منفعة، وما بيع من فضل
ذكورها وكبار إناثها رُدَّ في إناث تشترى معها وفي علوفتها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة جيدة حسنة صحيحة على معنى ما في المدونة من أن
ما ضعف من الدواب المحبَّسة في سبيل الله أو بَلِيَ من الثياب حتى لم يكن
في الدواب قوة للغزو، ولا في الثياب منفعة، فإن ذلك يباع ويشترى بثمن
الدواب غيرُه من الخيل فيجعله في السبيل، فإن لم يبلغ ذلك ما يشتري به فرسا
أو هجينا أو برذونا أعين به في ثمن فرس، ويشتري بثمن الثياب ثيابا ينتفع
بها، وإن لم يبلغ ذلك ما يشتري شيء ينتفع به فُرِّقَ في السبيل، خلافُ ما
روى غيره من أن ما جُعِلَ في سبيل الله من العبيد والثياب لا يباعُ، وقال:
لو بيعت لبيع الربْعُ المحبس، وهو مذهب ابن الماجشون أن من تصدق على قوم
بغلام له صدقة محرمة فلا يجوز إن كبر فتخلف وكثرت سرقاته وإباقه أن يباع
ويشترى بثمنه غيره يكون مكانه على مثل ما كان عليه من التحريم والحبس، إلا
أن يكون شرط ذلك في تحريم صدقته، قال: وكذلك لو تصدق بالبعير أو التيس من
غنمه للضراب صدقة محبسة فلا يجوز إنْ كَبِرُوا
(12/232)
فانقطع ضرابهم أن يباعوا ويشتري بثمنهما
غيرُهما إلا أن يكون شرط المتصدق ذلك في أصل تحريم صدقته وموضع الخلاف في
ذلك إنما هو في بيع ما كثر من الذكور عن نزوها ليشتري به إناثا لها دَرُّ
وفي بيع ما كبر من الإِناث فانقطع درُها ليشتري به إناثا لها دَرُّ وأما
بيع ما كثر من الذكور عن نزوها أو كبر من الإناث فانقطع درها فيما يلزم من
علوفتها والقيام عليها في رعيها فلا اختلاف في جواز ذلك.
لأن الأحباس في جواز بيعها والاستبدال منها إذا انقطعت المنفعة منها تنقسم
على ثلاثة أقسام قسم يجوز بيعه باتفاق، وهو ما انقطعت منفعته ولم يرج أن
يعود وفي إبقائه ضرر، مثلُ الحيوان الذي يحتاج إلى الإِنفاق عليه ولا يمكن
أن يستعمل في نفقته، فيضر الإِنفاق عليه بالمحبَّس عليه أو ببيت المال إن
كان محبسا في السبيل أو على المساكين، وقسم لا يجوز بيعه باتفاقَ وهو ما
يرجى أن تعود منفعته ولا ضرر في بقائه، وقسم يختلف في جواز بيعه والاستبدال
به، وهو ما انقطعت منفعته فلم يرج أن يعود ولا ضرر في إبقائه، وَخَرَابُ
الربع المحبس الذي اختلف في جواز بيعه من هذا القسم وبالله التوفيق.
[: حبس حبسا على ذكور ولده لا يباع ولا يورث
حتى يرثها الله فانقرض ذكور ولده]
ومن كتاب أوله: سنّ
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسئل مالك عن رجل حبس حبسا على ذكور
ولده لا يباعِ ولا يورث حتى يرثها الله، فانقرض ذكورُ ولده، قال: أراها
حبساَ على بنات ذكور ولده وعلى العصبة إِلَّا أَلَّا يكون فيها سعة، فيكون
بنات ذكور ولده أحق بها يُبَدَّيْنَ على العصبة إن لم يكن لهم فيها سعة.
(12/233)
قال محمد بن رشد: قوله إنها ترجع حبسا بعد
انقراض ذكور ولده، صحيح لا اختلاف فيه، لوجهين: أحدهما: أن ذكور ولده غير
معينين لأنه يدخل في ذكور ولده ذكور ولد ولده ما سفلوا، والثاني قوله لا
يباع ولا يورث حتى يرثها الله، ولو قال: لا تباع ولا تورث ما عاشوا أو حتى
ينقرضوا لرجعت إليه بعد انقراضهم ملكا مطلقا ولورثته إن كان قد مات، ولو
قال ما عاشوا أو حتى ينقرضوا، ولم يقل لا تباع ولا تورث لرجعت إليه ملكا
مطلقا عند مطرف، وقد مضى هذا المعنى مستوفى في أول رسم من السماع فلا معنى
لِإعادته.
وقوله: إنها ترجع حبسا على بنات ذكور ولده وعلى العصبة معناه إذا لم يكن له
بنات لصلبه؛ لأن بناته أقرب إليه من بنات بنيه، وقد مضى في أول رسم من
السماع ذكر من يرجع إليه الحبس حبسا بعد انقراض المحبَّس عليهم وما في ذلك
من الاِختلاف في النساء فلا معنى لإِعادته وبالله التوفيق.
[مسألة: اتخاذ المساجد على القبور]
مسألة قال ابن القاسم في اتخاذ المساجد على القبور: إنما أَكْرَهُ من ذلك
هذه المساجد التي تبنى عليها، فأما لو أن مقبرة عفت فبنى قوم عليها مسجدا
فاجتمعوا للصلاة فيه لم أر بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: إنما كره اتخاذ المساجد على القبور صيانة لها لئلا يكون
ذلك ذريعة إلى الصلاة عليها، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «اللَهَم لاَ تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنا بَعْدِي يُعْبَدُ
اشْتَدَ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أنْبِيَائِهِمْ
مَسَاجِدَ» وأما إذا عفت المقبرة وانقطع الدفن فيها
(12/234)
فلا بأس أن يبني عليها مسجد للصلاة فيه؛
لأن المسجد والمقبرة حبسان على المسلمين لصلاتهم ودفن موتاهم، فلا بأس أن
يستعان ببعض ذلك في بعض وينقل بعضه إلى بعض على أنفع ذلك لهم وأرفقه بهم
وأحوجه ما هم إليه، قال ذلك ابن الماجشون في الواضحة، وإذا بنى المسجد على
المقبرة لم يتناول المُصَلِّي فيه نهيُ النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن
الصلاة في المقبرة عند من حمل الحديث على عمومه في جميع المقابر من أهل
الحديث؛ لأنها قد خربت من أن تكون مقبرة وتحولت إلى ما تحولت إليه من
كَوْنها مسجدا والدليل على ذلك ما جاء من أنه كان في الموضع الذي بنى فيه
النبيُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قُبُورٌ للمشركين فأمر بها فَنُبِشَت، وقد
روى أبو المصعب عن مالك كراهية الصلاة فيها للحديث، وهذا الذي ذهب إليه عبد
الوهاب قال: تُكْرَهُ الصلاة فيها، إلا أن تكون فيها نبش؛ فلا تجوز الصلاة
فيها، والمشهور المعلوم من مذهب مالك إجازة الصلاة فيها إما لأن الحديث لم
يصح عنده، وإما لأنه حمله على أن المراد به مقابر المشركين كما فعل ابنُ
حبيب وبالله التوفيق.
[: بنت الابن تسمى بنتا ولها حكم البنت في
الميراث إذا لم يكن للميت ابن]
ومن كتاب أوله: أخذ يشرب خمرا قال: وسئل عن رجل حبس حبسا وحبس على ابنين له
منزلا بعينه وقال في حبسه: وما كان لي من ابنة فهي معهما في حبسهما، أترى
بنات ابنه يدخلن معهما في ذلك الحبس الذي لابنيْه؟ قال:
(12/235)
قال مالك: نعم، أرى أن يدخلن في ذلك.
" قال محمد بن رشد: هذا كما قال، ومثلُه من قوله في رسم العشور من سماع
عيسى بعد هذا: وذلك لأن بنت الِابن تسمى بنتا ولها حكم البِنْتِ وفي
الميراث إذا لم يكن للميت ابن ذكر ولا أنثى، بخلاف بنت الاِبنة لأنها وإن
كانت تسمى ابنة بدليل قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الحسن: «إن
ابني هذا سيد» فليس لها حكم البنت في النسب ولا في الميراث وبالله التوفيق.
[مسألة: يفلس وله أم ولد ومدبرون ولهم أموال]
مسألة وسئل مالك عمن تصدق على ابنتين بدار على وجه الحبس وكتب لهما في كتاب
صدقته، قال: إن شاءتا باعتا، وإن شاءتا أمسكتا، فَرَهَقَ ابنتيه دين كثير
دَايَنَتَا به الناس، فقام عليهما الغرماء فقالوا: نحن نبيع الدار قد كتب
أبوكما في صدقته إن شئتما بعتما، وإن شئتما أمسكتما، قال مالك: صَدَقوا ذلك
لهم أن يبيعوا الدار حتى يستوفوا حقوقهم.
قال محمد بن رشد: لمالك في كتاب ابن المواز خلافُ قوله هذا إنه ليس للغرماء
ذلك، وهو الذي يأتي على مَالَهُ في كتَاب التفليس من المدونة في الرجل
يُفَلَّسُ وله أم ولد ومدبرون ولهم أموال، أنه ليس للغرماء أن يجبروه على
أن يأخذ أموالهم فيقضيها إياهم، ولا لهم أن يأخذوها إلا أن يشاء هو أن يفعل
ذلك وبالله التوفيق.
[مسألة: تغير ما حبسه في مرضه]
مسألة وسئل عن رجل حبس حبسا في مرضه دارا له وجعلها بعد حبسه في سبيل الله
حبسا، فأراد أن يغير ذلك في مرضه أذلك له؟ قال: نعم، ذلك له.
(12/236)
قال محمد بن رشد: قوله إن له أن يغير ذلك
في مرضه، يريد فينفذ تغيره ويبطل الحبس إن مات من مرضه ذلك، وأما إن صح
فيلزمه الحبس ويُحْكَمُ به عليه وإن كان قد رجع عنه وغيره في مرضه، ووجه
ذلك أنه لما كان الحبس لا ينفذ إن مات من مرضه ذلك إلَّا من الثلث حكم له
بحكم الوصية في أن له أن يرجع فيه، فعلى قياس هذا إن مات من مرضه قبل أن
يغير حبسه وقد أوصى بوصايا مال، فلم يحمل ذلك ثُلُثُه تَحَاصا في الثلث ولم
يُبَدَّأ الحبس المبتل في المرض على الوصية بالمال، وهذا أصل قد اختلف فيه
قولُ مالك فيمن بَتَلَ عتق عبد له في مرضه وأوصى بعتق عبد له آخر، فروى ابن
القاسم وابن وهب عن مالك أن المبتل في المرض يُبَدّأ على الموصى بعتقه،
وأخذ بذلك ابن القاسم وابن وهب وابن عبد الحكم وابن دينار، وإياه اختار
محمد بن المواز فعلى هذا لا يجوز للمريض تغير ما حَبَّسَهُ في مرضه ولا ما
بَتَّلَ عتقه فيه، وروى أشهب عن مالك أنهما يتحاصان المبتل في المرض
والموصى بعتقه فيه، قال أشهبُ وإنما ذلك عندي بمنزلة ما لو أوصى بعتق عبدين
له في مرضه، ثم قال في أحدهما: إن صححت من مرضي فهو حر، فمات من مرضه،
أنهما يتحاصان، وقال محمد بن المواز: أما هذا فكما قال، ولا يشبه ذلك أن
يوصي بعتق أحدهما ويبتل عتق الآخر في مرضه، بأن يقول له: أنت حر بَتْلا عشت
أو مت، وقد قال لي بعض أصحاب مالك: إن مالكا رجع إلى هذا القول، وعليه لقي
الله عز وجل، فقولُهُ في هذه الرواية له أن يغير حبسه الذي حبسه في مرضه
يأتي على قول مالك هذا الذي رَجَعَ إليه من أنهما يتحاصان ولا يُبدَأُ
المبتل في المرض على الموصي بعتقه، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
[: حبس على ولده فلا يدخل في حبسه أولاد البنات]
ومن كتاب أوله:
يسلف في المتاع والحيوان وسئل مالك عن حائط كان صدقة فلم يزل ذلك يجري على
(12/237)
ولده للذكر مثل حظ الأنثيين فتزوج الرجل
منهم المرأة ثم يموت فتذهب المرأة ولا حق لها وتتزوج المرأة من بناته ثم
تموت فيذهب ولدها ولاحق لهم ويرجع نصيبها على من بقي من ولده، فلم يزل ذلك
حتى بقي بَعْدُ امرأةٌ ورجلٌ فكانا يأخذان للذكر مثل حظ الأنثيين، ثم مات
الرجل فصارت للمرأة الصدقة تأخذها كلها، ثم هلكت وتركت أولادا، وَشَهِدَ
رجالٌ بالسماع أنهم لم يزالوا يسمعون أنها صدقة، هل ترى لولد المرأة في ذلك
حقا؟ قال مالك: لا، ولكن ترجع إلى الأقرب فالأقرب من عصبة المتَصَدِّقِ
حُبُسا عليهم، قال عيسى: قلت لابن القاسم: لم كانت للذكر مثل حظ الأنثيين؟
قال: اشترط ذلك.
قال محمد بن رشد: قولُه: " وسئل عن حائط كان صدقة فلم يزل ذلك يجري على
ولده " معناه: وسئل عن حائط كان صدقة تصدق به رجل على ولده فلم يزل ذلك
يجري على ولده للذكر مثل حظ الأنثيين، وقوله: " وشهد رجال بالسماع أنهم لم
يزالوا يسمعون أنها صدقة " معناه: لم يزالوا يسمعون أنها صدقة يتصدق بها
ذلك الرجل حبسا صدقة على ولده، هل ترى لولد المرأة في ذلك حقا؟ فقال: لا،
وذلك على مذهبه الذي يختلف فيه قولُه أن من حبس على ولده فلا يدخل في حبسه
أولاد البنات إذ ليسوا بولد لهم حكم الولد في الميراث والنسب؛ لأنهم وإن
كانوا في حكم ولده في حقيقة التسمية في اللغة فهم ولد رجل آخر في التسمية
والميراث والنسب، فهو بهم أولى.
وقوله: " إنها ترجع إلى الأقرب فالأقرب من عصبة المتَصَدِّق حبسا عليهم "
صحيح بين لا اختلاف فيه؛ لأنه حبس على غير معينين فلا ترجع إلى المحبس ملكا
في قول مالك وأصحابه أجمعين، إلَّا أن يقول ما عاشوا فترجع إليه ملكا على
قول مطرف منهم خاصة، وقد مضى هذا في أول رسم وفي غيره من المواضع وبالله
التوفيق.
(12/238)
[مسألة: قال
داري حبس على امرأتي ما عاشت فلم يجز ذلك الورثة]
مسألة قال ابن القاسم في رجل قال داري حبس على امرأتي ما عاشت فلم يُجِزْ
ذلك الورثة، قال: ترجع ميراثا على فرائض الله إن شاءوا باعوا، وإِن شاءوا
أمسكوا.
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة إذا حبس الدار عليهما ما عاشت في مرضه
الذي توفي منه أو أوصى بذلك، وقوله: " إنها ترجع ميراثا على فرائض الله إذا
لم يُجِز ذلك الورثةُ " معناه على أحد قولي مالك في أن الحبس على معين يرجع
بعد انقراض المحبس عليه إلى المحبس ملكا أو إلى ورثته بعده، وأما على قوله
الآخر إنها ترجع إلى أقرب الناس بالمحبس حبسا ولا ترجع إليه ملكا مطلقا
فإذا لم يُجِز ذلك الورثةُ يدخلون معها في سكنى الدار حياتها، فإذا ماتت
رجعت الدار إلى أقرب الناس بالمحبس حبسا وسقط حقهم فيها، ولو أسكنها في
مرضه الدار ما عاشت أو أوصى لها بذلك لرجعت إذا لم يُجِز الورثة ميراثا
باتفاق والله الموفق.
[مسألة: قال داري هذه حبس على امرأتي ما عاشت
وبقية ثلثي لفلان وثلث الدار]
مسألة قيل لابن القاسم: فإن قال داري هذه حبس على امرأتي ما عاشت وبقية
ثلثي لفلان وثلث الدار، قال ابن القاسم: يقال للورثة أسلموا لامرأته ما حبس
عليها، فإن قالوا: لا، فهم معها على فرائض الله يسكنون، فإذا انقرضت امرأته
صارت الدار لِلذي أوصى له ببقية الثلث فإن أسلموا لامرأته الدار لم يكن
للذي أوصى له ببقية الثلث شيءٌ حتى تموت امرأته فإذا ماتت المرأة أخذ الذي
أوصى له ببقية الثلث الدارَ، قال ابن القاسم: وسواء عليه قال في هذا
الموضع. حُبسا أو سكنى.
(12/239)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة
يُبَينها ما ذكرناه في المسألة التي فوقها، وقول ابن القاسم في آخرها:
وسواء عليه، قال في هذا الموضع حبسا أو سكنى صحيح؛ لأنه قد بين المرجع ونص
عليه بقوله وبقية ثلثي لفلان فلا يدخل في هذه المسألة اختلافُ قول مالك
فيمن حبس على معين هل يرجع الحبس إليه أو إلى أقرب الناس به حبسا عليهم،
كما دخل في المسألة التي فوقها. وباللَه التوفيق.
[مسألة: أسكن دارا له أجنبيا حياته ثم مات الذي
أسكن]
مسألة قال ابن القاسم: وإن أسكن دارا له أجنبيا حياته ثم مات الذي أسكن
رجعت ميراثا لأقرب الناس بالمُسْكِنِ يوم مات المسكن، وإن حبس على أجنبي
حياته ثم مات الذي حبس عليه رجعت حبسا على أقرب الناس بالمحبس يوم ترجع.
قال محمد بن رشد: أما إذا أسكن دارا له أجنبيا حياته فلا اختلاف ولا إشكَال
في أنها ترجع إلى المُسْكِن ملكا يوم مات المُسْكَن، وأما إذا حبس على
أجنبي حياته ثم مات الذي حبس عليه، فقيل إنها ترجع إلى المحبس ملكا مطلقا،
وقيل إنها ترجع إلى أقرب الناس به حبسا عليه، اخْتَلَفَ في ذلك قولُ مالك،
فقوله في هذه المسألة رجعت حبسا على أقرب الناس بالمحبس يوم ترجع يريد على
أحد قولي مالك، وهذه المسألة تبين أنه لا فرق إذا حبس على معين بين أن يقول
حياتَه أو يسكت عن ذلك في إن اختلاف قول مالك يدخل في ذلك دخولا واحدا
خلافُ ما ذهب إليه محمد بن المواز من أنه إذا حبس على معين وقال حياتَه أو
سمى أجَلا خرجت المسألة من الخلاف حسبما ذكرناه عنه في أول رسم من السماع
وباللَّه التوفيق.
(12/240)
[: حبس داره
على مواليه ثم هلكت]
ومن كتاب الشريكين يكون لهما مال قال: وسألت مالكا عن رجل حبس داره على
مواليه ثم هلكت فقام موالي الموالي فقالوا: نحن معكم، وقال الموالي: نحن
أحق بها، قال: أراهم كلَّهُم فيها وأراها حبسا على الموالي وموالي الموالي
يدخلون معهم.
قال محمد بن رشد: قولُه أراهم كلهم فيها ظاهرُه أنه لا يؤثر الأقرب منهم
على الأبعد إذا استوت حاجتهم، وذلك ما مضى في أول رسم من السماع، وكذلك
اختلف أيضا في تفضيل الآباء على الأبناء حسبما مضى تحصيل القول فيه في أول
رسم من السماع فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.
[: حبس حبسا دارا له على رجل حياته فبنىِ في الدار مسكنا ثم مات]
ومن كتاب اغتسل على غير نية وسئل عن رجل حبس حبسا دارا له وأرضا على رجل
حياته فبنىِ في الدار مسكنا أو غرس في الأرض نخلا، ثم مات، فقال: إن أَرْضى
صاحبُ الدار ورثة الرجل فذلك له وإلّا قلعوا نخلهم وأخذوا نقضهم من الدور.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والكلامُ عليها مستوفى فيما تقدم في
هذا الرسم في بعض الروايات فلا معنى لِإعادته وبالله التوفيق.
[: حبس جارية له على أخته وأمه حبسا صدقة لا
تباع ولا توهب ولا تورث]
ومن كتاب البَزِّ قال وسئل مالك عن رجل حبس جارية له على أخته وأمه حبسا
صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث، وأيهما ماتت قبل صاحبتها فهي
(12/241)
على الباقية منهما، فماتت أخته فأراد أن
يُبَتِّلَها لأمه تبيعها أو تَصْنَعُ بها ما شاءت، قال: أرى ذلك له إن شاء
بعد تفكره فيها، وكأنه لم يرها من ناحية الدور، قال ابن القاسم: ولو أن
رجلا حبس دارا أو أرضا ثم أراد أن يفعل ذلك لم يكن ذلك له إلَّا أن يكون
اشترط أن مرجعهما إليه فهو يجوز أن يفعل ذلك، ويفعله في غيرهما بعدهما إن
أراد ذلك.
قال محمد بن رشد: إنما أجاز له أن يُبَتِّلَهَا لأمه لأنه رأى أنها ترجع
إليه بعد موتها ملكا مطلقا، ولا ترجع بمرجع الأحباس كالدور، وهو معنى قوله:
ولم يرها من ناحية الدور، وإنما لم يرها كالدور لأنه رأى التحبيس المعقب
المحرم فيها مكروها، واستحب له أن يَصرِفَهُ إلى ما هو أفضل منه، فرأى
تبتلها لأمه أفضل لما في ذلك من البر بأمه، ورفع الضرر عن الجارية ما يُرجى
لها من العتق، وهذا هو معنى ما في كتاب ابن المواز من قوله في هذه المسألة
وكأنه رآهُ من ناحية البِرِّ وفي رسم استأذن من سماع عيسى بعد هذا أنها
ترجع بمرجع الأحباس كالدور، وقد مضى الكلام على هذا المعنى وما يتعلق به
مما هو من معناه شي أول مسألة من الكتاب وبالله التوفيق.
[مسألة: تصدق بدار له حبسا على ولده وولد ولده]
مسألة وسئل مالك عن رجل تصدق بدار له حبسا على ولده وولد وَلَدِه فخرج
إنسان منهم إلى بعض البلدان ثم قدم فأراد أن يسحَن الدار ويخرج له بعض من
يسكنها من منزله الذي كان يسكنه، قال مالك: إن كان خرج في تجارة أو في طلب
حاجة فإني أرى ذلك له، وإن كان انقطع إلى بعض البلدان ثم بَدَا له فرجع لم
أر لَهُ أن يُخرَجَ له من منزل كان يسكنه أحد ممن يسكنه.
قال محمد بن رشد: هذا من قول مالك، وما قال ابن القاسم في المدونة يبين
قوله المتقدم في آخر أول رسم من سماع ابن القاسم، وقد ذكرنا
(12/242)
ذلك هنالك وَمَا يمكن أن يُقَامَ من قوله
في المدونة، وقال علي في روايته: [إن غاب مُسْجَلٌ] ، ولم يذكر ما قال ابن
القاسم وهذا في السكنى، وأما في فضلة الكراء والغلات من الثمرة وغيرها فإن
حق من انتجَعَ وغاب لا يسقط وإنما يسقط عنه السكنى إذا لم يكن فيه فضل،
قاله مالك في النوادر، وقال ابن القاسم فيها وأما ذلك فيمن حبس على ولده أو
لد فلان أو آل فلان، فأما على قوم بأعيانهم ممن ليس على العقب فإن حق من
انتجع منهم ثابت في السكنى وهم فيه على السواء حاضرهم وغائبهم وفقيرهم
وغنيهم، وبالله التوفيق.
[مسألة: حبس دارا له على أربعة نفر من ولده]
مسألة وسُئِلَ عن رجل حبس دارا له على أربعة نفر من ولده وشرط في حبسه أن
من مات منهم من ولده فولده على مصابته من الحبس، فمات اثنان منهم وترك
أولادا فكان الأخوان منهما لا أولاد لهما، ثمِ مات أحد الباقين ولا ولد له
فلمن ترى نصيبه؟ قال: أرى أن يرجع حبساَ على جميع ولد إخوته الميتين وأخيه
الباقي وُيخَصّ بذلك أهل الحاجة منهم دون الأغنياء، ولا تكون فيها قسمة
وأرى أن يؤثر أهل الحاجة منهم من ولد بني الأخ والأخ.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه لما شرط أن يكون حظ من مات منهم لولده
رجع الحبس بذلك معقبا على غير معينين، وكان الحكم فيمن مات منهم وَلَا ولد
له أن يرجع حظه على جميع من في الحبس من أهل الحاجة كمن حبس على ولده
وعقبهم وفيهم غني ومحتاج أن الحبس يقسم على أهل الحاجة من الأخ وبني الأخ
دون الأغنياء منهم، ولا يقسم عليهم بالسواء، وهو
(12/243)
الذي أراد بقوله ولا يكون فيها قسمة، وقد
قيل إن الحبس المعقب يقسم على السواء بين الغني والفقير وقيل إنه يبدأ
الأقرب على الأبعد وقد مضى بيان ذلك كله وتحصيله في آخر أول رسم من السماع
فلا معنى لِإعادته وبالله الموفق.
[: حبس دارا له على ولده وشرط أن من تزوج من
بناته فلا حق لها]
ومن كتاب أوله: نَذَرَ سَتَة يَصُومُهَا وسئل مالك عن رجل حبس دارا له على
ولده وشرط أن من تزوج من بناته فلا حق لها إلا أَن تَرُدَهَا رَادَّة أترى
أن يُنْقَضَ ذلك وَينْحَل الحبسُ، قال: نعم، إني لأرى ذلك وجهَ الصواب،
وكأنه أعجبه نقضه.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقولُ فيها في أول رسم من السماع
فلا معنى لإِعادته وبالله التوفيق.
[مسألة: يحبس دوره على ولد له صغار فيشترط أنه
القائم بأمرهم حتى يبلغوا]
مسألة وسئل عن الرجل يحبس دوره على وُلْدٍ لَهُ صِغَارٍ فيشترط أنه القائم
بأمرهم حتى يبلغوا، قال: إني لأكره ذلك، قال ابن القاسم وقال مالك: وإذا لم
يشترطه وكان الولد صغارا فلا بأس به إذا لم يكن فيهم كبير قد بلغ حد الرضى.
قال محمد بن رشد: وقع في كتاب التفسير قال يحيى: قلت لابن القاسم لِمَ
كَرِهَهُ مالك؟ قال: لأنه قد اشترط في حبسه ملكا له ثابتا يحكم به في ذلك
الحبس حَتَى يموت، قلت: وما بأس ما اشترط من ذلك؟ قد كان له بلا شرط، أَلَا
ترى أنه الحائز على ولده والقائم لهم بلا شرط؟ مثل ما اشترط لم يزدد بشرطه
المُشْتَرَط شيئَاَ على ما كان يصنعه بغير شرط، قال: سأله عنه ابن أبي موسى
فنهاه عنه وكرهه، قلت أرأيت إن وقع الأمر به، فمات وولده أصاغر أيفْسِدُ
هذا الشرطُ شيئا من حوزه عليهم؟ قال: لا بل أجير الصدقة، وإنما
(12/244)
كره له الشرط فإن وقع لم تفسُدْ الصدقة،
هذا نص مَا وَقَعَ في كتاب التفسير، فقال بعض أهل النّظَرِ هذه كراهية لا
وجه لها؛ لأنه اشترط ما يوجبه الحكمُ له، واشتِرَاطُ ما يوجبه الحكم لا وجه
لكراهيته.
والكراهيةُ فيها بينة لوجهين أحدهما: أنه لما شرط أنه القائم بأمرهم فقد
منع نفسه ما كان له جائزا من أن يُولِي غيرَه يقوم به لهم، والثاني: أنه قد
اشترط أنه القائم بأمرهم حتى يبلغوا، وبلوغهم لا يكون في وقت واحد فكان قد
اشترط في ظاهر أمره ألّا يسلم لمن بلغ منهم حظه حتى يبلغوا كلهم وهذا مما
يبطل الحيازة؛ لأنه إن بلغ فلم يدفع إليه حظه، ومات وهو في يديه بطلت
الصدقة في حظه، وفي المسألة وجه ثالث يصحح الكراهة، وهو اشتراط ذلك حتى
يبلغوا، وقد يَبْلُغُوا وهم لا تُرْضَى أحوالهم ولا تجوز أفعالهم، فبِطل أن
يكون الشرط صحيحا، ولو اشترط أن له أن يحُوزَ لكل واحد منهم حظه حتى يبلغ
ويملك أمر نفسه لَتخلِّصَ من هذه المعاني كلها وصح اشتراطه، ولم يكن فيه
وجه للكراهة، والله أعلم وبه التوفيقَ.
[: حكم العمرى]
من سماع أشهب وابن نافع عن مالك
رواية سحنون بن سعيد من كتاب العتق قال أشهب: وسمعت مالكا وسئل عمن أعْمَرَ
أمَّه عبدين) حياتها وشرط إن مات قبلها فهما لها حياتَها وإن ماتت قبله
فهما عليه رَد، ثم حضرته الوفاة قبلها فأعْتَقَ أحدهما، قال: لا يجوز ذلك
إلا أن تجيز أمه ذلك، فإن أجازت ذلك وطاعت بعتقه جاز وعتق، ولم ينظر إلى ما
يقول الورثة إن مرجعه إلينا وإن لم يجز عتق إذا ماتت أمه وكانت تلك البقية
في ثلثه.
قال محمد بن رشد: حكم العُمرى أن تكون للمعمَر حياتَه عاش
(12/245)
المعمِر أو مات قبل ذلك، فإذا مات المعمَر
رجعت العمرى إلى المعمِر إن كان حيا، وإن كان قد مات رجعت إلى ورثته يوم
مات، فقوله وشَرطَ إن مات قبلها فهما لها حياتَها، وإن ماتت قبله فهما عليه
رَدٌ، ليس بشرط يُحِيلُ العمرى عن حكمها وسبيلها، وإنما هو بيان لحكمها،
والمُعْمِر لا يملك من العبدين إذا أعمرهما أمه إلّا المرجع بعد وفاتها،
وهو مجهول، إذ لا يدري متى تموت فيجوز له أن يهبه ويعتقه في صحته ولا يجوز
له أن يبيعه إلا من أمه، ويجوز له أيضا أن يعتقه في مرضه إن حمله ثلثه،
ويختلف فيما بَتَلَهُ المريض في مرضه هل ينظر فيه وهو مريض أو بعد موته،
فقيل إنه ينظر فيه في مرضه فإن حمله الثلث عتق، وقيل إنه لا ينظر فيه إلا
بعد موته إذ قد يذهب مالُه في مرضه فيكون للورثة في ذلك.
حُجّة من أجل أنه لا ينفذ قضاؤه بعد موته في أكثر من ثلث ماله، فرأى مالكٌ
في هذه المسألة إن أجازت أمّه ذلك وطاعت بترك حقها في خدمته أن ينظر بذلك
في مرضه، وُيعَجِّلَ له العتق إن حمل ثلثه المَرْجِعَ بأن يُقَوَّم على
غرره، ولم ينظر إلى ما يقوله الورثة إن أرادوا ألا يُنْظَرَ فيه إلّا بعد
موته، وهو معنى قوله: ولم ينظر إلى ما يقوله الورثة: إن مرجعه إلينا ورأى
إن لم تجِزْ الأم ذلك لا ينظر فيه حتى تموت، إذ لا سبيل إلى تعجيل عتقه من
أجل حقها في خدمته طول حياتها، فإذا مات نظر فيه، فإن حمل ثلثُه المرجعَ
على غرره عتق جميعه بعد موتها، وهو معنى قوله: وإن لم تجز عَتَقَ إذا مات
وكانت تلك البقية في ثلثه، يريد المرجع على غرره، وإن لم يحمل الثلثُ
المرجعَ عتق منه بعد موتها ما حمل الثلث منه، فهذا معنى قول مالك في هذه
المسألة ووجهُهُ مشروحا مبينا.
وقد رأيت لابن دحون في هذه المسألة أنه قال فيها: هذا الكلام فيه نظر
فتدبره والذي ينبغي إن لم يُجز الورثةُ ذلك أن يكون المرجع من الثلث أجازت
الأم أو لم تجز، فإن أجازت عجل العتق، وإن لم تجز عجل بعد موتها.
(12/246)
وكلامه هو الذي فيه النظر؛ لأنه حمل قول
مالك على غير وجهه، فتأول عليه أنه أراد بقوله: " ولم ينظر إلى ما يقوله
الورثة " أنه يعجل له العتق إذا أجازت الأم وطاعت، وإن لم يحمل ثلثه
المرجعَ، وهو تأويل خطأ لا يصح أن يُتَأَوَل مثلُهُ على مالك، ومعناه إنما
هو ما ذكرناه من أنه لا ينظر إلى قولهم إن أرادوا تأخير النظر في تقويم
المرجع في الثلث إلى أن يموت إذا أجازت الأم، فالمسألة صحيحة بينة مستقيمة
لا نظر فيها ولا اعتراض وبالله التوفيق.
[: يحبس الحائط صدقة على المساكين أيقسم على
المساكين بينهم تمرا]
ومن كتاب الأقضية الثالث وسئل عن الرجل يحبس الحائط صدقة على المساكين
أيقسم على المساكين بينهم تمرا أمْ يباع ثم يقسم ثمنا بينهم، فقال: ذلك
يختلف، وذلك إلى ما قال فيه المتصدق، أو إلى رأي الذي يلي ذلك، واجتهاده إن
كان المتصدقُ لمِ يقل في ذلك شيئا، إن رأى خيرا أن يبيع ويقسم ثمنه وإن رأى
خيراَ أن يقسم تمره قسموه تمرا فذلك يختلف، وربما كان الحائط نائيا
بالمدينة، فإن حُمِلَ أضَرّ ذلك بالمساكين حملُه، وربما كان في الناس
الحاجة إلى الطعام فيكون ذلك خيرا لهم من الثمن فيقسم إذا كان هكذا فهو
أفضل وخير، وهذه صدقات عُمر بن الخطاب منها ما يُباع فيقسم ثمنُهُ ومنها ما
يُقسم تمرا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله إن ذلك مصروف إلى اجتهاد الناظر في
ذلك إن لم يقل المتصدق في ذلك شيئا، وإن قال فيه شيئا وَحَدّ فيه حَدّا وجب
أن يتبع قوله في صدقته ولا يخالف فيه حَدُّهُ وبالله التوفيق.
(12/247)
[مسألة: أوصى
في غنم له بأنها حبس على يتيمين ليسا من الورثة]
مسألة وسئل عن رجل توفي فأوصى في غنم له بأنها حبس على يتيمين ليسا من
الورثة، وجعلها على يدي ابن له كبير، وقال: من مات منهما فلا حق له ومن
ارتغب فلا حق له، فمات أحدهما، ثم ارتغب الآخر منهما [فلمن تراها؟] فقال:
ما أراها إلّا للآخر منهما، قيل له إنه حبسها عليهما لهذا منها قطيع عليه
[سِمَتُهُ ولهذا] قطيع عليه سِمَتهُ وقال من مات فلا حق له فمات أحدهما
[ثم] ارتغب الآخر فلمن تراها؟ فقال: ما أراها إلّا للآخر منهما، أرى هذا
إنما أراد مثلَ ما يقول بعضُ الناس يحبس على الجماعة ويقول من هلك فلا حق
له فأراها للآخر منهما، قيل له إنه قد كان في وصيته من ارتغب فلا حق له فقد
هلك واحد وارتغب الآخر فخرج، وقد بلغ وصار رجلَا، فقال ما أرَاها إلا
للباقي وأحرى به أن يرجع فلو وقفت هذه الغنم حتى يرجع هذا الذي ذهب، قيل له
إن بعض العلماء قال: يُرْجَعَ على الوارث، فقال: والله ما أرى ذلك قد أوصى
بها وحبسها فكيف ترجع على الوارث؟.
قال محمد بن رشد: قوله ارتغب واغترب سواء مثل جذب وجبذ وقيل ليس هو من
المقلوب، وإنما هو مأخوذ من الرغبة في الشيء، والرغبة عنه، فمعنى ارتغب رغب
عن سكنى البلد ورَغِبَ في سكنى سواه، فخرج إليه، وقال ابن لبابة أرْتَغبُ
أتركُ، فالمعنى المرادُ مفهوم معلوم وإن اختلفت الألفاظ، وحمل قوله من
اغترب فلا حق له أي لا حق في حين مغيبه لا أنه يسقط حقه بمغيبه جملة
كالموت، فلذلك قال: فلو وقفت هذه الغنم حتى يرجع، وقوله في رواية أشهب هذه
عنه: إن حظ الميت من الغنم وإن كانت مَوْسُومَة
(12/248)
يرجع على صاحبه خلافُ قوله في رواية ابن
القاسم عنه في أول سماعه إن حظ الميت من خدمة الخادم إذا حبسها على قوم
مفترقين وقسم الخدمة بينهم ترجع إلى المحبس لا إلى أصحابه، فعلى قوله في
سماع ابن القاسم يكون حظ الميت من اليتيمين من الغنم الموسومَة للمحبِس
ويوقف حظ الغائب وحده حتى يرجع، وهذا القول هو الذي أنكره لما قيل له: إن
بعض العلماء قاله، فقال والله ما أرى ذلك، قد أوصى بها وحبسها فكيف ترجع
إلى الوارث؟ وقد يحتمل أن يكون إنما أنكر قول من قال: إن من اغترب يسقط حقه
ويرجع إلى الوارث الذي له المرجع ولا يعود إليه إن رجع من اغترابه، على
ظاهر قوله: ومن اغترب فلا حق له، إذ لم يقل إلا أن يرجع فهو على حقه.
فيتحصل في المسألة ثلاثةُ أقوال حسبما ذكرناه في سماع ابن اِلقاسم أحدها:
أن حظ الميت من الغنم يرجع إلى المحبس ويوقف نصيب الغائب وحده كانت الغنم
قد قسمها المحبس بينهما وَوَسم نصيبَه كل واحد منهما أو لم يقسمها،
والثاني: أن حظ الميت منهما يرجع على صاحبه فيوقف جميعُ الغنم إذا غاب
الثاني حتى يرجع فيأخذها، وهو قوله في هذه الرواية، والقول الثالث: الفرق
بين أن يكون قد قسم الغنم بينهما أو لم يقسمها، فإن كان فد قسمها بينهما
ووسم نصيب كل واحد منهما رجع نصيب الميت منهما إلى المحبس، ووقف للغائب
نصيبه خاصة، وإن كان حبسها عليهما ولم يقسمها بينهما رجع نصيبُ الميت منهما
إلى صاحبه ووقفت له جميع الغنم إذا غاب حتى يرجع، وهذا هو أظهر الأقوال
والذي اختاره سحنون، وإذا وقفت الغنم كلها أو حظ الغائب منها كلى الاختلاف
المذكور فالغلةُ في حين التوقيف للوارث الذي له المرجع، وقد قيل إن الغنم
لا توقف وتدفع إلى الوارث يستغلها، فإن رجع الغائب رُدّتْ إليه الغنمُ
يستغلها حتى يموت، فترجع إلى الوارث، وأما إن مات قبل أن يَرجع صحت للوارث
مِلكا، وقد قيل إن الغلة توقف فإن رجع [أفادها] وإن مات كانت للوارث، وهذا
القول قد أنكره في رسم الصبرة وبَيّن وجهَ فساده وبالله التوفيق.
(12/249)
[: حبس على أمه
وصيفة له حياتها فحازتها]
ومن كتاب البيوع الأول وسُئِلَ عمن حبس على أمه وصيفة له حياتَها
فَحَازَتْها، ثم توفي ابنها وعليه دين فأرادت الأم أن تَبْتَاعَ مرجعَ
الجارية من الغرماء لتكون لها الجارية بَتْلا أيصلح ذلك؟ فقال: لا، ولا
يصلح شيء من ذلك حتى تموت فيتحاص فيها الغرماء.
قال محمد بن رشد: أجاز في رسم طلق من سماع ابن القاسم وفي غير ما موضع لمن
أمْتَعَ شيئا حياتَه أن يشتري المرجعَ من الذي أمتعه المنافعَ حياتَه،
وكذلك يجوز له أن يبتاعه من ورثته، ولم يجز في هذه الرواية أن يشتري الذي
أخدِمَ الجاريةَ حياتَه مرجعَها من الغرماء، فقيل: إن ذلك اختلاف من القول،
وقيل بل تفترق المسألتان، وقد مضى القولُ على هذا مستوفى في رسم شك من سماع
ابن القاسم فلا معنى لإِعادته وبالله التوفيق.
[مسألة: حبس دارا له على أقاربه اثنا عشرة سنة
ثم مات بعد شهرين]
مسألة وسُئِلَ عمن حبس دارا له على أقاربه اثنا عشرة سنة ثم مات بعد شهرين
فَجَاءَ آتِ إلى الورثة فقال: بيعوني مرجع هذه الدار، فقال: لا يعجبني هذا
لعل الدار ترجع متهدمة أو غير ذلك لا يدري كيف ترجع، واثنتا عشرة سنة
كثيرٌ، أرأيت لو كان ذلك عشرين سنة أو ثلاثين سنة، ولكن لو كان شيء يسير،
قيل له ألَيس للرجل أن يَتَكَارَى الدارَ اثنا عشرة سنة، فإن أصابها شيءٌ
رجع فأخذ منه كراءَه؟ قال: بلى، قيل له كيف لا يشتريها بعد عشر سنين؟ قال
له مالك: أليس يستأجر العبدَ سنة؟ فقال: بلى، فقال مالك: فيشتريه بعد سنة،
لا يصلح هذا، قلت له أرأيت إن اشترى مرجعَ
(12/250)
الدار بعد اثنتا عشرة سنة ولم ينقد حتى
ترجع الدار، فقال: ما يعجبني هذا نَقَد أولم يَنْقُد، هذا بعيد.
قال محمد بن رشد: إذا لم يجز أن يبتاع مرجع الدار بعد اثنتا عشرة سنة لأن
البناء يتغير عنده إلى هذه المدة فلا يدري كيف ترجع الدار فلا فرق في هذا
بين أن ينقد أو لا ينقد، وكذلك على هذا لا يجوز لمن باع داره أن يستثني
سكناها اثنتا عشرة سنة، إذ لا فرق بين أن يستثني البائع السكنى أو يكون
لغيره فيشترطه على المبتاع، ومثل هذا في رسم البيع والصرف من سماع أصبغ بعد
هذا في العشرة الأعوام، وقد اختلف في ذلك فتقوم إجارته من مسألة كتاب
العارية من المدونة في الذي يستعير الأرض من الرجل على أن يبنيها ويسكنها
عشر سنين، ويكون البناء لصاحب الدار أن ذلك جائز إذا بَيّن البُنيَانَ على
ما قاله بعض أهل النظر.
والصوابُ أن مسألة العارية من المدونة صحيحة خارجة من الاختلاف؛ لأن كل ما
بَنَى المستعير شيئا وجب لصاحب العرصة، فلا غرر في ذلك وإن طالت المدة،
وَأجَازَ ذلك أيضا ابنُ القاسم في كتاب ابن المواز ومثلُه لابن شهاب في
المدونة، وقد قيل: إن أبعدَ ما يجوز من ذلك السنةُ، وهو قول ابن القاسم في
سماع يحيى من كتاب السلم والآجال، وروى ابنُ وهب عن مالك السنةَ ونصفا،
وروى عن سحنون الثلاثةُ الأعوام، يقوم من قوله في سماع أبي زيد من كتاب
طلاق السنة إجازةُ الخمسة الأعوام من مسألة الذي يشتري الدار ويشترط عليه
فيها سكنى المرأة طول عدتها فَتُسْتَرَابُ أنه لا كلام للمشتري في ذلك إلى
انقضاء الرِّيبَةِ وهي الخمسة الأعوام؛ لأن المشتري قد تقدم على ذلك، وأما
الأرض فيجوز فيها استثناء العشرة الأعوام عند ابن القاسم على ما وقع له في
سماع أصبغ بعد هذا، وقال المغيرة: يجوز في الدار العشرةُ الأعوام وفي الأرض
السنين ذوات العدد، وهذا الاختلاف إنما يرجع إلى ما يغلب على الظن أن
البناء يتعير فيه، فمرة رأى أنه لا يُؤمَنُ تغيُرُه
(12/251)
في أكثر من عام، ومرة رأى أنه لا يُؤمَنُ
تغيره في أكثر من عشرة أعوام ويؤمن في العشرة فما دونها، وينبغي أن
يُنْظَرَ في هذا إلى جَوْدَةِ البناء ووثاقته، فرب بناء يتغير في أكثر من
عام، ورب بناء لا يتغير في العشرة الأعوام وبالله التوفيق.
[: حبس غلاما له على ابنه حتى يستغني]
ومن كتاب الأقضية وسُئِلَ عن رجل حبس غلاما له على ابنه حتى يستغني ما
حَدُّ الاستغناء؟ قال: يلي مالَه ونفسَه وتلا هذه الآية: {وَابْتَلُوا
الْيَتَامَى} [النساء: 6] .
قال محمد بن رشد: هذا بيّن إن كان حبَّسه عليه ليتصرف له فيما يحتاج إليه
من حَوائجه فيكون معنى الاِستغناء أن يستغني بذاته عنه فيما يحتاج إليه من
أموره، ولو كان عبدا للخدمة فحبسه عليه ليخدم له في صنعته الخدمة التي لا
تُشْبِهُ أن يَلِيها هو بنفسه لكان وجه الاستغناء في ذلك أن يقدر على
العِوَضِ منه بوجه من الوجوه، وبالله التوفيق.
تَمَّ الأول من جُزْئي كتاب الحبس بحمد الله تعالى.
(12/252)
|