البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة [: كتاب الحبس
الثاني]
[مسألة: حبس داره على ولده وقال لفلان ريعها
لأحدهم في حبس واحد وكلام واحد]
كتاب الحبس الثاني من سماع عيسى من كتاب نقدها نقدها قال عيسى: وسئل ابن
القاسم عن رجل حبّس داره على ولده، وقال لفلان ربعُها لأحدهم في حبس واحد
وكلام واحد؛ إنه ليس له منها إلّا الربع الذي سمى له، ولو أنه حبس عليه
حبسا ثم حبس بعد ذلك حبسا آخر على جميع ولده أنه يدخل معهم.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قال في المسألتين جميعا لأنه إذا حبس على
ولده وقال ربعها فقد جعل الثلاثة الأرباع لسائِرِهِم قَلوا أو كثروا، وإذا
حبس عليه حبسا ثم حبس بعد ذلك حبسا آخر على جميع ولده وجب أن يدخل معهم
لأنه من ولده، وبالله التوفيق.
[مسألة: حبس حبسا على قوم وهم متكافئون في
الغنى والإقلال]
مسألة وقال فيمن حبس حبسا على قوم وهم مُتَكَافِئُون في الغِنَى والإقلال،
قال: أرى أن يجتهد في ذلك ليسكن فيها من رأى، أو يُكْرِيَها فيقسم كراءها
عليهم، قيل له فإن سبق بعضهم إليها فسكن؟ قال: من سبق فهو أولى ولا يُخرج
منها.
(12/253)
قال محمد بن رشد: معناه في غير المعينين
مثل أن يحبس على أولاده أو أولاد فلان، وأما إن كان الحبس على قوم بأعيانهم
مسمين ليس على التعقيب فلا يستحق السكنى من سبق إليه منهم، كلهم فيه وفي
غيره سواءٌ، حاضرهم وغائبهم، قاله ابن القاسم، قال محمد: وفقيرهم وغنيهم
سواء، ولا اختلاف أعلمه في هذا وبالله التوفيق.
[مسألة: كل ما كان يرجع حبسه فهو أقرب الناس به
يوم يرجع من ولد أو عصبة]
مسألة وقال ابن القاسم في الحبس، قال: كل ما كان يرجع ميراثا فهو على أقرب
الناس في يوم يموت، وكل ما كان يرجع حبسه فهو أقرب الناس به يوم يرجع من
وَلَدٍ أو عصبة، فإن كانوا بنات وعصبة فهو بينهم إن كان فيه سعة، فإن لم
يكن فيها سعة فالبنات أولى بها من العصبة، وأقْعَدُ من العصبة، إلَا أنهن
لا يَحُزْنَ وتدخل معهن الأم؛ لأن لها حقا ولا ترجع مَعَهُنَّ زوجة.
قلت: فإن لم يكن له أم وكانت له جدة أتكون بمنزلة أُمٍّ، أَم لَا؟ قال: أرى
ذلك، وقال: إذا اشترط مرجعها إليه فإنها ترجع ميراثا بين ورثته يوم يموت،
وأما إذا لم يشترط فإنها ترجع حبسا على عصبته وأقرب الناس إليه يوم يرجع.
قال محمد بن رشد: قوله في أول المسألة: كل ما كان يرجع ميراثا فهو على أقرب
الناس به يوم يموت، ليس على ظاهره، والمراد به فهو على أحق الناس بميراثه
يوم يموت على ما قال بعد ذلك، وإذا اشترط مرجعها إليه فإنها ترجع ميراثا
بين ورثته يوم يموت، وهذا مَا لَا اختلاف فيه أن ما كان يرجح ميراثا فهو
على أحق الناس بميراثه يوم مات، وأن ما كان يرجع حبسا فهو على أقرب الناس
به يوم يرجع، وقد وقع في كتاب الهبات في المدونة في هذه
(12/254)
الألفاظ غير بينة ترد بالتأويل إلى هذا
الذي ذكرناه؛ إذ لا اختلاف فيه.
وقوله: إن البنات أحق بمرجع الحبس من العصبة إذا لم يكن فيه سعة صحيح؛
لأنهن أقرب إلى المحبس من عصبته، وقوله إلا أنهن لا يحيزون معناه أنه لا
ينفردن بالمرجع دون من هو من المحبس بمنزلتهن، وهي الأم على ما ذكره؛ لأنها
أقرب النساء إليه من فوق، كما أنهن أقرب إليه من أسفل، فتدخل معهن فيه الأم
لاستوائها معهن في القرب حسبما وصفناه، ويكون بينهن على عددهن إن كانت
البنات ثلاثا كان للأم معهن من المرجع الربع.
وقوله: فإن لم تكن له أم وكانت جدة أتكون بمثابة أمّ، أم لا؟ قال: لا أرى
ذلك، معناه أنها لا تكون بمثابتها فتدخل مع البنات في المرَجع؛ لأنها أبعد
من المحبس منهن، لا أنها لا تكون بمثابة الأم إذا لم يكن المحبس أقربَ إليه
منها؛ لأن الأم إذا دخلت في مرجع الحبس على القول بأنها تدخل فيه فأمه أيضا
تدخل فيه، وقد قيل معناه أنه لا دخول للجد في مرجع الحبس بخلاف الأم،
والأول أظهر والله أعلم، وكذلك تدخل الأم مع بني المحبس الذكر كما تدخل مع
البنات على هذه الرواية، وقد مضى في أول رسم من سماع ابن القاسم تحصيلُ
الاختلاف فيما يرجع حبسا هل يدخل فيه النساء أم لا؟ ومن يدخل فيه منهن إِن
دخل وباللَّه التوفيق.
[: الحبس ليس بملك للمحبس عليه]
ومن كتاب استأذن سيده
في تدبير جاريته وسألته عن الرجل يُحَبِّسُ على أولادٍ له صغار وكبار دارا
ووكَّل
(12/255)
عليها من يحوزها لهم ويكريها، وكيف إِن قال
أولاده الكبار نحن نَحُوزها لأنفسنا؟ قال: لا يكون ذلك لهم، وهي على ما
وضعها عليه، قلت أيكون ذلك إليه ما عاش المحبس وبعد موته؟ قال: نعم، ذلك
إليه ما عاش، قلت فإذا مات فله أن يسنده إلى أحد؟ قال: لا، إذا مات وكان
المحبس حيا كان ذلك إليه أيضا بجعله إلى من أحب، وإن كان قد مات نظر
السلطان في ذلك فجعله إلى من رأى، وإن كان الكبار أهل رضى حَازوا لأنفسهم
بعد موت الوكيل. قيل له: فإن مات الوكيل بعد موت المحبس وقد قال المحبس
للوكيل: إن حدث بك حَدَثُ الموت فأسنده إلى من شئت، فمات فأسنده إلى غيره،
قال: وصيته جائزة، وليس للكبار ولا للصَغار في ذلك كلام، قيل له فإن كان لم
يقل له إذا مت فأسنده إلى من شئت، فمات الوكيل بعد موت المحبس وقد أوصى
المحبس إلى رجل بتركته أَيكونُ الوصيّ الناظرَ للصغار؟ قال يكون ذلك إليه
ويكون مكانه، وروى أصبغ عن ابن القاسم مثله.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الحبس ليس بملك للمحبَّس عليه كالهبة
التي هي ملك للموهوب له، فلا يصح للواهب أن يجعلها له على يدي غيره إذا كان
كبيرا وإنما يَغْتَلُّهُ المحبَّسُ عليه على ملك المحبس فللمحبس أن يوكل
عليه من يحوز للكبير ويجْرِي عليه غلته ويحوز عليه في حياته وبعد مماته في
ذلك، وكذلك إن كان المحبس عليهم صغارا وكبارا فليس للصغار منهم إذا كبروا
أن يَحُوزُوا لأنفسهم في حياة المحبس ولا بعد موته.
ولو كانوا صغارا كلهم يومَ وَكَّل الوكيلَ على القبض لهم كان لهم إذا كبروا
أن يقبضوا لأنفسهم، قال محمد بن المواز، وحكمه حكم الوكيل في أنه
(12/256)
ليس له أن يوكل غيره ولا أن يوصي بذلك إلا
أن يجعل ذلك إليه، وينزل وصي المحبس منزلة الوكيل على الحبس في النظر فيه
بعد موت الوكيل لما ذكرناه من أنه إنما يغتله على ملكه، فوجب أن ينظر فيه
الوصي كما ينظر في سائر مال من أوصى إليه، ولو قال له إذا مت فأسنده إلى من
شئت فمات فأوصى إلى رجل بالنظر في ماله وعلى من يصح له التقديم عليه من
بنيه لكان له النظر في الحبس الذي كان وكل على النظر فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يحبس مائة دينار على وارث ثم على رجل
من بعده]
مسألة وسئل: عن الرجل يحبس مائة دينار على وارث ثم على رجل من بعده، قال:
يقسمها الورثة على قدر سهامهم من الميت، فينتفعون بها حتى يموت الوارث الذي
حبست عليه، فإذا مات رجعت إلى الأجنبي الذي حبست عليه بعد الوارث، فإذا مات
الذي حبست عليه بعد الوارث رجعت ميراثا بين من ورث الميت المحبس يقتسمونها
على فرائض الله، فمن مات ممن ورث الميت المحبس فحقه لورثته.
قلت: ولا يرجع حبسا؟ قال: لا يرجع عليه حبسا، ولا يرجع حبسا إلا الدور
والعبيد ونحوهم؛ لأن مالكا قال لي: لو أن رجلا حبس مائة دينار على رجل
فأخذها فنقصت عنده أو ضاعت كان ضامنا لها، فليست الدنانير والدراهم حبسا.
قلت: أرأيت من حبس حليا أو ثيابا أو شيئا مما يغاب عليه أهو بمنزلة
الدنانير والدراهم؟ وهل يصدق في ذلك الذي حبس عليه إذا قال ضاع مني؟ قال:
بل أراه ضامنا ولا يصدق فيما ادعاه من هلاكه، ألا ترى أن المحبس كان بمنزلة
السلف في الدنانير، ألا ترى لو أن رجلا أعار رجلا ثوبا سنة فضاع منه في
السنة كان ضامنا، فإنما
(12/257)
حبس ما يغاب عليه مثل العارية التي يغاب
عليها أو السلف.
قال محمد بن رشد: قوله إلا الدور والعبيد ونحوهم خلاف ما مضى في رسم البز
من سماع ابن القاسم في العبيد؛ لأنه قال فيه في الأمة إنها لا ترجع بمرجع
الأحباس خلاف الدور، وقد مضى الكلام على هذا المعنى، وما يتعلق به مما هو
في معناه مستوفى في أول رسم من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، وبالله
التوفيق.
[: الحبس على الولد بشرط إخراج البنات منه]
ومن كتاب أوله يوصي لمكاتبه قال ابن القاسم: قال مالك في الذي يحبس الحائط
على بنيه الذكور والإناث فمن تزوج من البنات فلا حق لها إلا أن تردها رادة،
ثم هو بعد ذلك حبس على موالي، فمات البنون كلهم إلا ابنة واحدة متزوجة، ما
يصنع بالغلة؟ قال مالك: تكون للموالي أبدا حتى ترجع الابنة ولا تحبس الغلة
(عنها) عليها.
قال محمد بن رشد: مالك يكره الحبس على الولد بشرط إخراج البنات منه، ويرى
وجه الشأن فيه أن ينقض ويدخل فيه البنات ما لم يفت، وقد مضى الكلام على ذلك
في أول رسم من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، فإذا فات ولم يرد مضى على
شرطه، فإن تزوجت منهن واحدة رجع حظها على من بقي معها من إخوتها في الحبس
حتى تتأيم عن الزوج بموت أو فراق فترجع على حقها فيما يستقبل، وسواء قال
المحبس إلا أن تردها رادة أو سكت عن ذلك على قياس ما قاله مالك في رسم
الأقضية الثالث من سماع أشهب في
(12/258)
الذي حبس على يتيمين، وقال: من مات فلا حق
له، ومن ارتغب فلا حق له، وقد قيل: إنه يسقط حقها بالتزويج فيما يستقبل
أبدا إلا أن يقول إلا أن تردها رادة، وقد تئول أنه قول بعض العلماء الذي
أنكره مالك في مسألة رسم الأقضية المذكورة، وفي المجموعة نحوه من رواية ابن
القاسم عن مالك، قال فيمن حبس على أن من فرض له منهم في الديوان فلا شيء له
ففرض لهم فلم يأخذوه وأخذ من فرض له مرة ثم انقطع، فقال: من أخذه مدة فلا
شيء له في الغلة، وكذلك إذا لم يبق من بنيه المحبس عليهم إلا واحدة متزوجة
ترجع جميع الغلة إلى الذي إليه مرجع الحبس بالحكم أو بنص من المحبس على
قوله في هذه الرواية: إن الغلة تكون للموالي الذي جعل المحبس مرجع الحبس
إليهم، وهي تبين ما وقع في رسم الصبرة من سماع يحيى بعد هذا إذ لم يقع لذلك
فيه جواب، وقال مطرف وابن الماجشون: إذا لم يبق من المحبس عليهم إلا ابنة
متزوجة فتوقف الغلة؛ فإن رجعت أخذتها لأنها من ولد المحبس، فهي أولى ممن له
المرجع، وإن ماتت قبل أن تتأيم عن الزوج كانت الغلة الموقوفة للذي له
المرجع.
واختلف إن مضت مدة وهي مع الزوج ورحل أحق الناس بالمرجع ثم مات وخلفه آخر
مكانه هو أحق الناس بمرجع الحبس بعده، فمضت هذه أيضا، ثم ماتت وهي في عصمة
الزوج، فقال ابن الماجشون لكل واحد منهما من الغلة الموقوفة ما يجب للمرأة
التي عايشها فيها وهو أحق بمرجع الحبس، وقال مطرف: بل تكون جميع الغلة للذي
له المرجع يوم ماتت الابنة المتزوجة، وإن لم يبق من الولد المحبس عليهم إلا
بنات متزوجات فوقفت الغلة فتأيمت إحداهن بعد مدة أخذت جميع ما وقف وجميع
الغلة فيما يستقبل، فإن تأيمت الثانية بعد ذلك قاسمت أختها فيما أخذت
بنصفين، كأنهما ما تزوجتا، وإن تأيمت الثالثة رجعت على كل واحدة منهما بثلث
ما صار إليها مما وقف ومما استغلتاه بعد ذلك إلى حين تأيمها، والتعيين في
هذا وغير التعيين على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك سواء، وهو نص قول
أصبغ في الواضحة، وقال
(12/259)
ابن الماجشون: إن عينهن في التحبيس، وقال:
من تزوج منهن فلا حق لها سقط حق من تزوج منهن بالتزويج ولم يعد إليها أبدا،
إلا أن يقول: فإن تأيمت فهي على حقها في الحبس.
فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أن حق من تزوج منهن لا يسقط إلا ما
دامت متزوجة ولم يقل إلا أن تردها رادة، والثاني: أن حقها يسقط بالتزويج
أبدا إلا أن يقول: فإن ردتها رادة فهي على حقها، والثالث: الفرق بين
التعيين وغيره، فإن كان عينها سقط حقها بالتزويج أبدا إلا أن يقول: فإن
ردتها رادة فهي على حقها من الحبس، وإن كان لم يعينها لم يسقط حقها
بالتزويج إلا ما دامت متزوجة ولم يقل إلا أن تردها رادة، وبالله التوفيق.
[: الذي يحبس الحبس على ولده الذكر والأنثى فيه
سواء]
مسألة قال ابن القاسم: قال مالك، في الذي يحبس الحبس على ولده: الذكر
والأنثى فيه سواء، وليس للذكر مثل حظ الأنثيين إلا أن يشترط ذلك في حبسه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه إذا حبس عليهم فقد شرك بينهم فيما
حبسه عليهم، فوجب أن يكون الذكر والأنثى فيه سواء إلا أن يفضل أحدهما على
صاحبه، بدليل أن الله عز وجل لما شرك بين الإخوة للأم في الثلث ولم يفضل
الذكر منهم على الأنثى فيه كانوا فيه على السواء، ولم يقس ذلك على البنين
والبنات في قوله {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ
حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] ، ولا على الإخوة والأخوات في قوله
{وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] ، والله الموفق.
(12/260)
[مسألة: يحبس
على ولده حبسا ويشهد لهم ويكتب لهم بذلك كتابا]
ومن كتاب أوله
أوصى أن ينفق على أمهات أولاده
قال عيسى وأصبغ: وسألناه: عن الرجل يحبس على ولده حبسا ويشهد لهم ويكتب لهم
بذلك كتابا، ومثلهم يحوز لهم أبوهم ثم يتعدى فيرهنها فيموت وهي رهن كما هي،
قال: يبطل الرهن ويثبت الحبس ولا رهن، وقاله أصبغ، وقال: رهنه بمنزلة بيعه
إياها، كما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنه رهن الحبس بعد أن كان أبانه عن
نفسه، وحازه لابنه بأن رحل عنه إن كانت دارا يسكنها، أو كانت خالية إن كان
لا يسكنها فأشهد على تحبيسه إياها وحيازته، وأما لو كان حبسها وهو ساكن
فيها ثم رهنها لنفسه قبل أن يرحل عنها فلم يعثر على ذلك حتى مات لبطل
الحبس، وكذلك لو باعها بعد أن حبسها قبل أن يرحل عنها فلم يعثر على ذلك حتى
مرض أو مات، ولو عثر على ذلك في حياته وصحته لفسخ البيع والرهن فيها وصح
الحبس بالحيازة، ولو كانت صدقة من غير حبس فباعها قبل أن يرحل عنها لكان
الثمن للابن وإن مات الأب في الدار؛ لأنه إنما مات فيها وهي للمشتري، لا
لابنه إلا أن يكون باعها لنفسه نصا استرجاعا للصدقة فلم يعثر على ذلك حتى
مات فإن الصدقة تبطل، ولو عثر على ذلك في حياته وصحته لفسخ البيع فيها وردت
الدار لولده ولو باعها بعد أن رحل عنها وحازها لابنه لجاز البيع على الابن،
وكان له الثمن في مال أبيه، حيا كان الولد أو ميتا، وإن لم ينص على أنه باع
لابنه إلا أن يبيع نصا استرجاعا لصدقته فبيعه مردود إلى الولد، حيا كان
الولد أو ميتا؛ لأنها قد كانت صدقة ببينونته عنها إلى أن باعها والثمن
للمشتري في مال الأب، وجده أو لم يجده لا شيء على الولد منه، قاله ابن حبيب
في الواضحة، وبالله التوفيق.
(12/261)
[: قال الرجل
داري حبس على امرأتي وأم ولدي]
ومن كتاب أوله
بع ولا نقصان عليك وقال مالك: إذا قال الرجل داري حبس على امرأتي وأم ولدي
أو غلة داري حبس فمن تزوج منهما فلا حق لها فيها إلا أن تردها رادة، فتزوجت
واحدة منهما، قال: يرجع حظها في يد الأخرى التي لم تتزوج، فإن طلق التي
تزوجت زوجها أو مات عنها رجعت على حقها، قال: ولو قال: هو بينكما فمن تزوج
فلا حق لها إلا أن تردها رادة، فمن تزوج منهما رجع حظها على الورثة ولم
يرجع على صاحبتها، فإن طلقها زوجها أو مات عنها رجعت على حقها، فليس بينكما
وعليكما سواء، وهو بمنزلة من قال: غلامي يخدم فلانة يوما وفلانة يوما، فمن
تزوج منهما فلا حق لها إلا أن تردها رادة، فمن تزوج منهما رجع حظها على
جميع ورثة الميت، فإن طلقها زوجها أو مات عنها رجعت على حظها، ولو قال:
عليكما؛ رجع حظها إذا تزوجت على صاحبتها حتى يطلقها زوجها أو يموت عنها.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذه المسألة في الفرق بين أن يقول
بينكما وعليكما والاختلاف في ذلك في أول مسألة من سماع ابن القاسم فلا معنى
لإعادته، وقال أشهب: ولو قال حبست عليكما حياتكما وهو للآخر منكما فلا يكون
للآخر منهما إلا حبسا عليه حياته، وإذا لم يسم حياتهما فهو للآخر منهما
بتلا يصنع به ما شاء. وقول أشهب هذا في تفرقته بين أن يقول حياتكما أو لا
يقول ذلك - هو ما ذهب إليه محمد بن المواز، خلاف ما مضى من قول ابن القاسم
في آخر رسم يسلف، وقد مضى الكلام على ذلك هنالك وفي أول رسم من سماع ابن
القاسم، وبالله التوفيق.
(12/262)
[: قال الرجل
عند موته داري حبس ولم يسم أحدا]
ومن كتاب أوله لم يدرك قال: وإذا قال الرجل عند موته: داري حبس، ولم يسم
أحدا قسمت على المساكين وكانت حبسا عليهم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها في رسم الشجرة من سماع ابن
القاسم فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: بنات الأخ والعمة من العصبة الذين يرجع
عليهم الحبس]
مسألة قال: وبنات الأخ والعمة من العصبة الذين يرجع عليهم الحبس.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف ما في سماع سحنون من أنه لا تدخل العمة في مرجع
الحبس، ولا كل من لا يرث من النساء مثل ما في أول رسم من سماع ابن القاسم،
وقد مضى هنالك تحصيل الاختلاف في ذلك فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهد رجلان على أنهم كانوا يسمعون أن
هذه الدار حبس]
مسألة قال: وإذا شهد رجلان على أنهم كانوا يسمعون أن هذه الدار حبس جازت
شهادتهما وكانت حبسا على المساكين إن كان لم يسم أحدا، قيل له: فرجلان
يشهدان وفي القبيل مائة رجل من أسنانهم لا يعرفون منه شيئا؟ قال: إذا كان
كذلك فلا تقبل شهادتهما إلا بأمر يفشو ويكون عليهم شهود أكثر من اثنين،
وأما إذا شهد شيخان قديمان قد أدركا الناس وباد جيلهما أنهما سمعا أنه حبس
فشهادتهما جائزة.
(12/263)
قال محمد بن رشد: ابن الماجشون لا يجيز في
شهادة السماع أقل من أربعة شهداء، وإجازة ابن القاسم شهادة السماع في هذه
المسألة خلاف مذهبه في المدونة؛ لأنه قال فيها: إن شهادة السماع لا يثبت
بها النسب ولا الولاء، ويقضى له بالمال دون ثبات النسب والولاء، فعلى ما في
المدونة لا تجوز شهادة السماع في الحبس إلا مع القطع بأنها تحترم بحرمة
الأحباس، وذلك بين من مذهبه في المدونة، وهو على أصله فيها أنه يقضي بشهادة
السماع بالمال، ولا يثبت بذلك النسب ولا الولاء، فكذلك باليد للمحبس دون أن
يثبت الحبس، وقد مضى في نوازل سحنون من كتاب الشهادات تحصيل الخلاف فيما
يجوز فيه شهادة السماع مما لا يجوز، فلا معنى لإعادته هاهنا.
وقول ابن القاسم في هذه الرواية: إنه لا تجوز شهادة الشاهدين على السماع في
الحبس إلا أن يكونا شيخين قديمين قد أدركا الناس وباد جيلهما - معارض لما
له في كتاب الصيام من المدونة من إجازة شهادة شاهدين على رؤية الهلال في
الصحو والغيم؛ لأن الذي يأتي في مسألة الصيام على قياس قوله في هذه الرواية
ألا تجوز شهادة الشاهدين على رؤية الهلال إلا في الغيم.
ويتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يجوز في السماع على الحبس
إلا أكثر من شاهدين في كل حال وهو مذهب ابن الماجشون الذي ذكرناه، والثاني:
أنه تجوز شهادة شاهدين في كل حال، وهو الذي يأتي على قوله في المدونة في
مسألة الصيام، والثالث: تفرقته في هذه الرواية، ومعنى ما أجازه من شهادة
السماع في هذه الرواية إذا كانت المدة قد طالت طولا تبيد فيه الشهود، قال
في الشهادات من المدونة مثل الأربعين سنة والخمسين، وفي سماع عيسى من كتاب
القسمة أن في عشرين سنة تبيد الشهود، وابن الماجشون يجيز شهادة السماع في
الخمسة عشر عاما.
وقد اختلف إذا لم يشهد على الحبس إلا شاهد واحد عدل، ففي كتاب ابن المواز،
قال أصحابنا: إذا كان مبتلا ومعقبا فلا يصح فيه اليمين، وقال
(12/264)
عبد الملك عن مالك: إذا حلف الجل منهم نفذت
الوصية عليهم وعلى غائبهم إن قدم ومولودهم إن ولد وفي السبيل بعدهم، وروى
عنه ابن حبيب: يحلف من أهل الصدقة رجل واحد مع الشاهد وينفذ له ولأهلها
ولمن يأتي، قال عنه مالك: وإن باد شهودها فلم يثبت إلا بالسماع حلف أيضا
واحد من أهلها الذين شهدوا بأنهم لم يزالوا يسمعون من العدول أنها حبس على
بني فلان ثم تستحق حبسا، وهذا على ما في المدونة من أن الشهادة على السماع
لا يثبت بها النسب ولا الولاء، وإنما يستحق بها المال مع اليمين، فكذلك
يستحق الحبس بذلك مع اليمين على مذهب من يرى أنه يحلف واحد من المحبس عليهم
مع الشاهد الواحد على البت ويستحق الحبس، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى بأن يشترى عبد من ثلثه في سبيل
الله]
مسألة قال ابن القاسم، في رجل أوصى بأن يشترى عبد من ثلثه في سبيل الله،
قال: يشترى عبد فيجعل في الرباط يخدم الغزاة، قيل له: فمن يطعمه؟ قال: يعمل
في طعامه ويخدم.
قال محمد بن رشد: فإن لم يكن فيما يستعمل فيه ما يقوم منه نفقته ولم يوجد
من ينفق عليه بيع واشتري غيره مكانه ممن تكون نفقته في عمله، فإن لم يوجد
ذلك في ثمنه فرق في السبيل، وقد مضى هذا المعنى في رسم طلق من سماع ابن
القاسم، وبالله التوفيق.
[: أخدم نصف عبد له بينه وبين رجل رجلا سنة
فأعتق شريكه في العبد نصيبه]
ومن كتاب أوله سلف دينارا قال: وقال مالك، في رجل حبس على أم ولد له جارية
تخدمها حياتها ومات وله ولدان، فقال أحدهما: لأم الولد نصيبي من هذه
الجارية صدقة عليك، فأعتقت أم الولد ذلك النصيب الذي تصدق به
(12/265)
عليها وصار لها، قال: تخرج الجارية حرة
ساعتئذ ويقال لأم الولد أخرجي نصف القيمة فيؤخذ ذلك منها فيرجع ويوقف، فإن
ماتت الجارية المخدمة قبل أم الولد لم يكن لهذا الذي لم يتصدق شيء ورجع ذلك
إلى أم الولد، وإن ماتت أم الولد قبل الجارية دفع ذلك إلى هذا الذي لم
يتصدق أو ورثته إن كان قد مات، وإنما أوقفنا المال؛ لأن أم الولد لو هلكت
والجارية حية ذهب حق المتمسك بالرق؛ لأنه إنما له مرجعها بعد وفاة أم
الولد؛ ولأنا إنما أخذنا المال منها خوفا أن تفلس أم الولد وتعدم فيذهب حق
هذا، وتخرج الجارية حرة ساعتئذ، ولا يوقف نصفها للحرية التي ثبتت فيها،
فوقف نصف قيمتها بمنزلة وقفها إذا هلكت أم الولد وهي حية، ويعجل لها العتق
كما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أعتق شركا
له في مملوك» ، فهذا شرك، قال عيسى: وإن لم يكن لأم الولد مال وكانت عديمة
عتق منه نصيبها ويواجر النصف الآخر، فكلما اجتمع من إجارتها شيء له بال عتق
منها ذلك، وحبس ذلك الخراج؛ لأنه لم يكن لها فيها إلا الخدمة، فلما أعتقتها
كانت تاركة للخدمة فإن ماتت الخادم قبل أم الولد رجع ذلك الخراج الذي كان
حبسا إلى أم الولد، وإن ماتت أم الولد قبل ذلك كان ذلك الخراج للولد
المتمسك بالرق، وإن كان بقي من الأمة شيء لم يكن عتق كان ذلك له أيضا.
قال محمد بن رشد: ذكر ابن أبي زيد متصلا بهذه المسألة، قال ابن المواز: لا
أرى إيقاف القيمة، بل ينظر كم يسوى مرجعها على أمد العمرين عمر الأمة وعمر
أم الولد على الرجاء والخوف، فيعجل لهذا الابن ولا يبالى إن ماتت الأمة قبل
وقت مرجعها؛ لأنها على الغرر قومت، وإيقاف قيمتها ظلم، وكيف توقف أيضا
الأمة وقد يحدث فيها عيب قبل موت أم الولد؟ وقد روى عن
(12/266)
ابن القاسم أيضا أنه قال: ينظر إلى قيمة
مرجعها بعد أم الولد على الغرر والرجاء، فتوقف نصف القيمة من مال أم الولد
حتى يعلم أيهما تموت أولا، قال ابن المواز: وهذا أبعد من الأول، وأحب إلي
تعجيل نصف هذه القيمة للابن، وهو كما قال ابن المواز؛ لأن توقيف نصف القيمة
على الرجاء والخوف ظلم بين للابن؛ لأن نصف الأمة يصير ملكا له بموت أم
الولد ويرتفع الخوف منها، فكيف يعطي قيمتها بعد موت أم الولد على الرجاء
والخوف وقد ارتفع بصحة الملك له وتيقنه؟ ولأن إيقاف نصف قيمتها يوم أعتقتها
وهي لا تجب عليها إذ لا يدري لعلها ستموت قبلها فينكشف الأحق للابن فيها أو
تموت أم الولد قبلها فيعلم أنها إنما وجبت له حينئذ، فكيف يأخذ قيمتها التي
قومت به قبل أن يجب له، ولعلها أكثر من قيمتها يوم وجبت له، فيكون ذلك ظلما
لأم الولد أو أقل من قيمتها يوم وجبت له فيكون ذلك ظلما له في إعطائه أقل
من قيمتها يوم وجبت له.
فأعدل هذه الثلاثة الأقوال - ما قاله محمد بن المواز من أنه يعجل له نصف
قيمتها على الرجاء والخوف.
ويتخرج في المسألة قول رابع على قياس قول ابن القاسم في رسم يوصي لمكاتبه
من سماع عيسى من كتاب الخدمة فيمن أخدم نصف عبد له بينه وبين رجل رجلا سنة
فأعتق شريكه في العبد نصيبه أنه لا يقوم عليه نصيب المخدم حتى يجب له
بالقضاء السنة، وتوقف القيمة إلى انقضاء السنة إن خشى عليه عدم، وهو على
ألا يجب في أم الولد فيها قيمة بحال؛ لأنها إن ماتت قبلها انكشف بموتها
وجوب نصفها للابن ولم يصح أن يقوم عليها ذلك النصف بعد موتها على قولهم
فيمن أعتق شخصا له في عبد فلم يقوم عليه حتى مات أنه لا يقوم عليه بعد
الموت إلا أن يكون موتها قريبا من عتقها على اختلاف في ذلك، وهو قول مالك
في رواية أشهب عنه في العتبية ورواية مطرف وابن الماجشون عنه في الواضحة،
وبالله التوفيق.
(12/267)
[: الحوز في
الصدقات والأحباس]
ومن كتاب إن خرجت من هذه الدار فأنت طالق قال: وسألت عبد الرحمن بن القاسم
عن تفسير الحوز في الصدقات والأحباس ممن قد بلغ الحوز وما يجوز للأب حوزه
ممن تصدق عليه أو حبسه ممن يليه من ولد صغير أو كبير سفيه وعن قسمة الحبس
بين أهله فإنه ربما كان فيمن حبس عليه الصغير والكبير والحاضر والغائب
والغني والفقير، وربما استوت الحالات في الفقر والغنى وكثرة العيالات من
أحدهما، فقال: قد وصفت لك من ذلك ما حضرني ورضيت واخترت لنفسي ولا توفيق
إلا بالله.
فكل من تصدق بصدقة أو حبس حبسا على ولده صغارا أو كبارا فإن كانت الصدقة
والحبس على صغار كلهم فحيازة أبيهم لهم حوز إذا أشهد لهم وبتل لهم صدقتهم
أو حبسهم فكان هو القائم بأمرهم والناظر لهم في كراء إن كان أو ثمرة أو ما
تحتاج إليه الصدقات من المرمة والإصلاح حتى يبلغوا الحوز وترضى حالهم مع
البلوغ، والبلوغ الحلم للرجال مع الصلاح وحسن الحال، فإن بلغوا الحلم ورضيت
حالهم وتزوج النساء ودخل بهن أزواجهن ورضيت مع ذلك حالاتهن فلم يحوزوا
جميعا الرجال والنساء بعد أن بلغوا ما وصفت لك حتى هلك الأب فالصدقة لهم،
وهم بمنزلة من تصدق عليه وقد بلغ ورضي حاله ثم لم يحز لثلث ما تصدق به عليه
أو حبس حتى هلك من تصدق أو حبس فإن ذلك لا صدقة له ولا حبس بتركه حيازة
(12/268)
صدقته أو حبسه حتى مات المحبس له أو
المتصدق به.
وإن كانوا قد بلغوا الحالات التي قد وصفت لك من الاحتلام للرجال والدخول
بالنساء وهم جميعا في ذلك لا ترضي حالهم فإن حيازة الأب لهم جميعا حيازة؛
لأن السفيه بمنزلة الصغير؛ لأن كل من ولي عليه فحيازة من يليه حوز؛ لأنه
الناظر له والمدبر لأمره ولا رأي له في نفسه ولا ماله إلا بوليه، فلذلك رأى
أهل العلم أنهم يحاز لهم إذا كانوا على ما وصفت والنساء إذا بلغن ورضي
حالهن ولم يتزوجن ولم يدخل بهن مخالف للرجال، المرأة أبدا في ولاية أبيها
وإن رضي حالها يجوز عليها أمره وينفذ لها حكمه من تزويج أو غيره وإن بلغت.
والرجال ليسوا بهذه المنزلة إذا احتلم الرجل ورضي حاله لم يجز عليه أمر
غيره، فلذلك افترق الرجال عندي والنساء في هذا الوجه الذي ذكرت لك.
وإن كان من تصدق عليه أو حبس عليه صغارا وكبارا وفي الكبار من قد رضي حاله
فلم يحز له ولا للصغار حتى مات المتصدق أو المحبس فلا صدقة ولا حبس للصغير
ولا للكبير من قبل أنه لم يفرز للصغار شيئا بعينه فيكون أبوهم يحوزه ويرد
ما لم يحز للكبار ولكنه تصدق أو حبس بشيء مشاع ليس مقسوما عليهم جميعا ولم
يحز الكبار عن الأب فيجوز، ولم يعرف ما للصغار فيحوزه الأب لهم، فلما كان
ذلك رأيتها صدقة لم تحز حتى مات صاحبها الذي تصدق بها فلذلك رأيت ردها.
وإن كانت الصدقة أو الحبس على الصغار والكبار مفروزة
(12/269)
معروفة قد عرف ما للصغار منه وما للكبار
بتفرقته إياه وإشهاده عليه وإثابة بعضهم فيه من بعض ثم لم يحز الكبار حتى
مات المتصدق أو الحبس رأيت أن يجوز ما للصغار منه، ويرد ما للكبار لأنه
يحوز للصغار أبوهم ولا يحوز للكبار الذين قد بلغوا ورضي حالهم إلا أنفسهم.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة فإن بلغوا الحلم ورضيت حالهم وتزوج
النساء ودخل بهن أزواجهن ورضيت مع ذلك حالاتهن - يدل أن الغلام بعد
الاحتلام محمول على السفه، فلا يخرج من ولايته حتى يثبت رشده، وهو نص رواية
يحيى عن ابن القاسم في كتاب الصدقات والهبات.
قوله: وليس الاحتلام بالذي يخرجه من ولاية أبيه حتى يعرف حاله ويشهد العدول
على إصلاح أمره، وهو ظاهر سائر الروايات في المدونة وغيرها، إلا ما وقع في
أول كتاب النكاح من المدونة قوله فيه: إذا احتلم الغلام فله أن يذهب حيث
شاء، فإن ظاهره أنه بالاحتلام يكون محمولا على الرشد وتجوز أفعاله حتى يعلم
سفهه، وهي رواية زياد عن مالك في البكر أنها تخرج من ولاية أبيها بالحيض،
فكيف بالغلام؟ وقد تأول ابن أبي زيد قوله في المدونة: فله أن يذهب حيث شاء
- أن معناه: بنفسه، لا بما له، فعلى هذا اتفق الروايات كلها، ولا تخرج عنها
إلا رواية زياد عن مالك، وقد تأول أن قول مالك إذا احتلم الغلام فله أن
يذهب حيث شاء، معناه: إذا احتلم ورضيت حاله، بدليل قول ابن القاسم: إلا أن
يخاف من ناحية سفه فله أن يمنعه، وإلى هذا ذهب ابن لبابة، فقال: هذا هو
الحق، لو مات الأب وأوصى به لم يخرج من ولاية الوصي حتى يثبت رشده، فكيف
بالأب؟ ومثله في المدونة، وقوله: فقد منعهم الله من أموالهم مع الأوصياء
بعد البلوغ إلا بالرشد، فكيف بالآباء الذين هم أملك بهم من الأوصياء؟ وإنما
الأوصياء بسبب الآباء، ويدل أيضا على أن البكر وإن دخل بها زوجها فهي
محمولة على السفه حتى يثبت
(12/270)
رشدها، وهو قول مالك في الموطأ والمدونة،
وفي الواضحة من رواية مطرف عنه أنها في ولاية أبيها حتى تتزوج ويدخل بها
زوجها ويعرف من حالها، أي: يشهد العدول على صلاح أمرها، فهي على قول مالك
هذا ما لم تنكح ويدخل بها زوجها في ولايته مردودة أفعالها وإن علم رشدها،
فإذا دخل بها زوجها حملت على السفه وأقرت في ولايته وردت أفعالها ما لم
يظهر رشدها.
وقد اختلف في الحد الذي تخرج به الجارية من ولاية أبيها اختلافا كبيرا
تتحصل فيه ثمانية أقوال، قد ذكرتها في مسألة ملخصة في هذا المعنى ليس هذا
موضع ذكرها، وقوله فيها: المرأة أبدا في ولاية أبيها وإن رضي حالها يجوز
عليها أمره وينفذ لها حكمه من تزويج أو غيره - ظاهره: وإن عنست، وقد قيل:
إنها إذا عنست وبلغت الخمسين سنة فلا تجوز حيازته لها ولا تزويجه إياها إلا
برضاها، فإن زوجها بغير رضاها لم يفسخ، قاله مالك ورواه أصبغ عن ابن القاسم
في كتاب ابن المواز لأبي زيد عن ابن القاسم مثله في الستين سنة، وقد قيل:
إن حد تعنيسها أربعون سنة، فهي على القول بمراعاة التعنيس بعد التعنيس
محمولة على الرشد مجوزة أفعالها ما لم يعلم سفهها، وقيل: مردودة أفعالها
وإن علم رشدها، بخلاف الرجل؛ لأن الرجل بعد البلوغ محمول على الرشد حتى
يعلم سفهه، وقيل: على السفه حتى يعلم رشده، فيفترق الرجل من المرأة في هذا
الوجه كما قال في الرواية ويتفقان في جواز حيازة الأب عليهما جميعا.
وقوله: إن كان من تصدق عليه أو حبس عليه صغارا وكبارا ... إلى آخر قوله -
هو مثل قوله في المدونة في مساواته بين الحبس والصدقة في أنه إذا حبس على
صغار وكبار أو تصدق على صغار وكبار فلم يقبض الكبار لأنفسهم وللصغار ما
حبسه عليهم أو تصدق به عليهم لم يجز من ذلك للصغار شيء خلاف رواية علي بن
زياد عن مالك في المدونة في تفرقته في ذلك بين الحبس والصدقة فأبطل نصيب
الصغار في الحبس وأجازه في الصدقة، ومثل رواية علي بن زياد
(12/271)
عن مالك في أن نصيب الصغار يجوز في الصدقة،
روى أشهب عنه في كتاب الصدقات والهبات في رسم الوصية، وقاله ابن وهب أيضا
في سماع عبد الملك من الكتاب المذكور، فلا اختلاف في أن نصيب الصغار يبطل
في الحبس إذا لم يحزه الكبار، قال ابن حبيب في الواضحة، عن المدنيين
والمصريين جميعا: إلا أن يكون الأب قسم ذلك في أصل التحبيس والصدقة أو بعده
فحاز نصيب الصغار فإنه يجوز لهم ما حازه لهم، وفي ذلك نظر سنذكره إن شاء
الله في رسم المكاتب من سماع يحيى من كتاب الصدقات والهبات.
ووجه تفرقة مالك في ذلك بين الحبس والصدقة هو ما قاله في رواية علي بن زياد
عن مالك في المدونة من أن الحبس لا يقسم ولا يجزأ، والمعنى في ذلك عندي: أن
الحبس ليس للصغار منه جزء معلوم فتصح قسمته بينهم وبين الكبار؛ لأنه كلما
مات منهم ميت من الصغار أو الكبار رجع حظه على من بقي منهم، فلما لم يكن حظ
الصغار منهم معروفا لم يكن الأب حائزا له، ولو كان الحبس على ابنين له
بأعيانهما أحدهما صغير والآخر كبير فلم يحز الكبير منهما الحبس لوجب أن
يجوز حظ الصغير من ذلك عند مالك على القول؛ لأن من مات منهما لا يرجع حظه
على صاحبه ويرجع إلى المحبس أو إلى أقرب الناس به، وقاس ابن القاسم -
رَحِمَهُ اللَّهُ - الصدقة والهبة على قول مالك في الحبس فأبطل نصيب الصغار
منه إذا لم يحزه الكبار، والمعنى في ذلك عنده أنه لما تصدق على من يحوز له
وعلى من يحوز لنفسه وقد علم أن من حق الذي يحوز لنفسه أن يقاسمه فيحوز
لنفسه كان إنما تصدق على أن يحوز لبنيه الصغار مقسوما فلم يجز أن يحوز لهم
مشاعا وأجاز أن يحوز لبنيه الصغار مشاعا ما وهبه لهم مشاعا إذا لم يعمل على
أن يحوز لهم مقسوما، فأجاز إذا تصدق عليهم بنصف غنمه أو دوابه وأبقى النصف
الثاني لنفسه أو وهبه في السبيل أن يحوز لهم النصف الذي تصدق به عليهم على
الإشاعة إذ لم يعمل على أن يحوزه لهم مقسوما.
(12/272)
ومعنى ما ذهب إليه مالك أنه أجاز أن يحوز
لبنيه الصغار على الإشاعة ما وهبه لهم أو تصدق به عليهم على الإشاعة، كانت
إشاعتهم مع نفسه أو مع من يقوم بالحيازة لنفسه من كبير أو مع من لا يقوم
بها لنفسه مثل السبيل أو المساكين غير المعينين، وأصبغ لا يجيز أن يحوز
لبنيه الصغار ما تصدق به عليهم أو وهبه إياهم مشاعا إلا مقسوما بكل حال،
كانت إشاعتهم مع نفسه أو مع من يقوم بالحيازة لنفسه من كبير أو مع من لا
يقوم بها من سبيل أو مساكين غير معينين على ما يأتي في رسم البيوع من سماع
أصبغ من كتاب الصدقات والهبات، فهي ثلاثة أقوال: قول مالك وقول ابن القاسم
وقول أصبغ.
والحبس خارج عن هذا كله لا اختلاف في أنه إذا حبس على بنيه الصغار والكبار
فلم يحز الكبار يبطل نصيب الصغار من أجل أن القسمة فيما بينهم لا تصح من
أجل أنه لا يثبت نصيبهم على شيء واحد.
واختلف قول مالك فيمن تصدق على ابنه الصغير بعدة من غنمه أو خيله دون مسماة
ولا موسومة فمرة رآها كالجزء المشاع لأن الحكم يوجب له الشركة فيها بما يقع
للمتصدق بها من جملتها، فأجاز حيازتها له وإن لم يقسمها ولا وسمها.
ومرة لم يرها كالجزء المشاع، إذ ليس لشريك له فيها حتى يشتركا فيها، فلم
يجز حيازته له فيها حتى يقسمها ويسميها أو يسمها، فمن لم يجز حيازته له إذا
وهبه جزءا إلا بعد المقاسمة فأحرى ألا يجيز حيازته له إذا وهبه عددا إلا
بعد المقاسمة، ومن حيازته له إذا وهبه عددا فأحرى أن يجيزها له إذا وهبه
جزءا، فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: إجازة حيازته له في الموضعين والمنع
من ذلك في الموضعين والتفرقة بينهما، وبالله التوفيق.
وقد اختلف إذا تصدق على بنيه الصغار والكبار فحاز الكبار لأنفسهم وحاز هو
للصغار، فروى عن ابن القاسم أنه يبطل كله، وهو على أصله الذي ذكرناه. وقال
ابن المواز: يجوز كله. وهو الذي يأتي على أصل مالك الذي ذكرناه.
(12/273)
واختلف أيضا إذا تصدق رجل على رجل بنصف
أرضه على الإشاعة. فقال ابن القاسم في تفسير ابن مزين: هي حيازة، ولم يرها
أصبغ حيازة. وذلك على أصله الذي ذكرناه عنه، وبالله التوفيق.
[مسألة: لا يحوز للصغير ما وهبه إلا الأب
والوصي]
مسألة قال ابن القاسم: ومن تصدق على صغير أو سفيه أو أحد ممن تولى عليه
بصدقة من أم أو أخ أو قريب أو بعيد فحاز ذلك له وأشهد عليه فإن ذلك باطل لا
يجوز إلا أن يكون وصيا فيكون حوزه له حوزا أو يضعه له على يدي غيره ويبينها
عن نفسه فيكون لهم حوزا جائزا ماضيا، وليس ينزل أحد بمنزلة الأب في هذا إلا
من يلي السفيه ممن يوصي إليه، فالوصي في ذلك بمنزلة الأب في الحوز لهم
والقيام بصدقاتهم ثم يكون حائزا لهم ماضيا عليهم. قال محمد بن رشد: هذا هو
المشهور في المذهب المعلوم من مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك أنه لا يحوز
للرجل ما وهبه إلا أب أو وصي، وفي رسم الأقضية من سماع يحيى من كتاب
الصدقات والهبات من قول ابن وهب إنه لا يحوز للصغير ما وهبه إلا الأب
والوصي، والأم إذا كان يتيما في حجرها وإن لم يكن موصا إليها بمنزلة الوصي،
والأجداد بمنزلة الأب إذا لم يكن أب وكان في حجر الجد يليه، والجدات بمنزلة
الأم إذا لم تكن أم وكان في حجر الجدة تليه، قال: وأما من سوى هؤلاء فلا
يكون حوزه حوزا للصغير إلا أن يبرأ به إلى رجل يليه للصغير.
وفي سماع عبد الملك من كتاب الوصايا أن كل من ولي يتيما من قريب أو بعيد
فإنه يحوز له ما وهب له، ومثله من بيده اللقيط، ورواه ابن غانم عن مالك،
ونحوه في كتاب القسمة من المدونة أن الرجل تجوز مقاسمته على من التقطه،
وأنزل في النكاح الأول من المدونة الحاضن والمربي للجارية في حياة الأب
بمنزلة وكيل الأب، فرأى
(12/274)
تزويجه إياها جائزا عليها بغير إذنها.
قاله في مسألة رجال من الموالي يأخذون صبيانا من صبيان العرب تصيبهم السنة
فيكفلون لهم أبناءهم ويربونهم فتكون فيهم الجارية.
وذكر ابن حبيب المسألة على خلاف ما وقعت في المدونة، فقال: فتكون فيهم
الجارية قد مات أبوها وغاب أهلها، فإن الذي كفلها ورباها أولى بعقد نكاحها
يريد من ولاتها، فأنزله بمنزلة الوصي وذلك نحو ما في كتاب القسمة من
المدونة ورواية ابن غانم عن مالك، ومثله لابن كنانة، سئل: عن يتيم صغير له
إخوة أكابروهم الذين يلونه وينفقون عليه فزوجوه ابنة عم له، قال: ذلك يلزمه
إذا كانوا هم الذين يلونه وينفقون عليه، وقال ابن القاسم: لا يلزمه ولا
يتوارثان، ولا يجوز على الصبي إلا نكاح أبيه أو وصيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: تصدق بصدقة أوحبس حبسا من دار أو دور
فسكن بعضها وأسلم بقيتها]
مسألة قال: وكل من تصدق بصدقة أو حبس حبسا من دار أو دور فسكن بعضها وأسلم
بقيتها أو كان يليها لمن تصدق عليه بها أو حبس إذا كانوا على ما وصفت لك
ممن يحوز له المتصدق أو المحبس فيحوز ذلك لهم، فإن كان الذي سكن من الدار
الشيء التافه فيما حبس أو تصدق مثل الدار ذات المنازل وكثرة المرافق فسكن
منها ما لا خطب له فيها لقلته وصغر شأنه جاز له ما سكن وما لم يسكن، وإن
كان ذلك الذي سكنه له بال في الدار وقدر، وهو جل ذلك وأكثره لم يجز ذلك
وكانت صدقة لم تقبض؛ لأن التافه اليسير إذا سكنه وأفرز بقيتها فقد أسلمها
وكان ما بقي في يديه تبعا لها؛ لأنه قد أسلم جلها وعضمها وما لا خطب لمن
احتبس منها معه، فلما كان ما احتبس وسكن تبعا كان ذلك كله جائزا.
وإن كان الذي احتبس وسكن أكثره وجله وأسلم أدناها وأقلها كان الذي فرز من
ذلك تبعا للذي هو أكثر فكان بمنزلة من لم يسلم ولم يحز عنه، وإن كانت
الصدقة أو
(12/275)
الحبس دورا وكان الولد صغارا فسكن منها
دارا فإنه ينظر في ذلك على ما وصفت لك في الدار ذات المنازل.
فإن كانت هذه الدار من الدور هي جل تلك الدور في القدر والثمن لم يجز ذلك
الحبس، لا الدار التي سكن ولا الدور التي لم يسكن فإن كانت تلك الدار التي
سكن ليست عضم ذلك في القدر ولا جله وإنما هي تبع فيما حبس جاز حبس تلك
الدور كلها ما سكن وما لم يسكن.
وإن كان الولد الذين حبس عليهم تلك الدور كبارا مرضيين فكانت تلك الدار
التي سكن أعظم تلك الدور كلها لم يجز تلك الدار وجازت بقية الدور إذا كان
الكبار قد حازوها، وإن كانت تافهة جازت الدور كلها إذا كانوا قد حازوا
الدور وإن لم يحوزوا الدور لم تجز الدار ولا الدور.
قال محمد بن رشد: قوله وإن كان الذي احتبس وسكن أكثره وجله وأسلم أدناها
وأقلها كان الذي أفرز من ذلك تبعا للذي هو أكثر، فكان بمنزلة من لم يسلم
ولم يحز عنه.
وهو مثل قوله في آخر كتاب الرهون من المدونة في بعض الروايات: إن الدار
الواحدة إذا سكن المحبس أكثرها فسواء حاز البقية منها هو للصغار أو حازه
الكبار لأنفسهم يبطل جميعها خلاف ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن ابن القاسم
وأصبغ من أن الأب إذا سكن أكثر الدار وحاز الولد الكبار لأنفسهم بقيتها جاز
لهم ما حازوه منها، بخلاف إذا حاز الأب للصغار كالدور الكثيرة إذا سكن الأب
أكثرها وحاز الكبار بقيتها جاز لهم ما حازوه منها بخلاف إذا حازه الأب
للصغار.
فعلى ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن ابن القاسم وأصبغ لا خلاف في هذا بين
الدار والدور، وعلى ما في هذه الرواية وفي المدونة فرق في هذا بين الدار
والدور فحصل الاختلاف من هذا الموضع في الدار الواحدة لا في الدور، وأصبغ
لا يراعي التبع من غير التبع في الدور ويرى الحكم فيها وإن كانت محبسة في
صفقة واحدة بمنزلة إذا حبس كل دار منها على حدة. وقد مضى بيان القول في هذه
المسألة في
(12/276)
أول رسم من سماع ابن القاسم فلا معنى
لإعادته.
[مسألة: انقطع من البلد الذي حبس عليه فيها
وكانت سكنى]
مسألة قال: وأما ما يبدأ به أهل الحبس بعضهم على بعض من غلة أو سكنى إذا
كانوا جميعا محبسين عليهم. فإن ذلك ليس يكون على كثرة العدد، وإنما المبدأ
بها والمقدم فيما كان من سكنى أو غلة أهل الحاجة، حيث كانوا بهم يبدأ
وإياهم يؤثر، وليس يقسم ذلك بينهم أيضا على عددهم ولكن على كثرة عيال أحدهم
إن كان سكنى فعلى عظم مؤنته وخفة مؤنته على قدر ما يتبع كل واحد منهم من
قدره وقدر عياله، والقسم إن كانت غلة على قدر حاجتهم، وأعظمهم فيها حظا
أشدهم فاقة وأظهر حاجة، فإذا سدت حاجتهم وفضل عنهم فضل رد على الأغنياء
فسكن كل واحد منهم قدر ماله وكثره حاجته.
وليس العزب الفرد كالمتأهل المعيل، والحاضر أولى بالسكنى من الغائب، والغلة
بين الحاضر والغائب سواء، والمحتاج الغائب أولى من الغني الحاضر.
وذلك على الاجتهاد على ما وصفت لك على ما يرى واليها والناظر فيها، ولا
يخرج أحد من مسكن كان يسكنه، ومن انقطع من البلد الذي حبس عليه فيها وكانت
سكنى ولم تكن غلة كان من أقام أولى منه إذا كان سكناه البلد التي خرج إليها
سكنى انقطاع، وإن قدم منها لم يخرج له غيره، وإن كان القادم أحوج منه؛ لأنه
لم يسكنه الذي هو فيه على وجه الضرورة، وإنما مسكنه حيث تركه القادم وانقطع
عنه، ولو لم يخرج كان أولى بالمسكن ممن هو فيه وكان لا يدخل عليه وهو حاضر
معه؛ لأنه أحوج، وإن لم يكن في الدار سعة.
وكذلك إذا سكن الغني وانقطع المحتاج ثم قدم لم يخرج الغني له؛ لأنه لم يدخل
عليه ولكنه
(12/277)
سكن بها حيث لم يكن أحد أولى بها منه، ومن
مات منهم رجع حصته على أصحابه لأنه حبس عليهم جميعا حتى ينقرضوا فيصير
آخرها إلى ما صيرها إليه صاحبها من سبيل الله أو غير ذلك مما سمى وشرط، وإن
كان الخارج منها لم يخرج خروج انقطاع وإنما خرج لبعض ما يخرج الناس إليه من
أسفارهم ثم رجع إلى بلده كان بمنزلة الحاضر من أهل الحبس.
قال محمد بن رشد: كل ما ذكره ابن القاسم في هذه المسألة من وجه قسم الحبس
المعقب في السكنى والغلة هو المنصوص له المعلوم من مذهبه، وابن الماجشون
يخالف في ذلك ما حكاه عنه ابن المواز، فيرى أنه لا يفضل الفقير على الغني
في الحبس المعقب، كما لا يفضل في الحبس على المعينين، ويؤخذ من مذهب ابن
القاسم في مسائله ما يستقرأ منه مثل قول ابن الماجشون.
وقد مضى بيان ذلك كله في آخر أول رسم من سماع ابن القاسم وفي رسم البز منه،
فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: الوصي يتصدق على أحد ممن يليه وهو في
حجره]
مسألة قال: وكل وصي رجل كان أو امرأة- تصدق على أحد ممن يليه وهو في حجره
فحوزه له حوز بمنزلة الأب في ابنه على ما فسرت لك ووصفت.
قال محمد بن رشد: هذا ما لا اختلاف فيه من أن الوصي في الحوز على من يلي
ممن إلى نظره بمنزلة الأب سواء.
وإنما الاختلاف هل ينزل منزلته في ذلك سواه من قريب أو حاضر حسبما مضى
القول فيه قبل هذا في هذا الرسم، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
(12/278)
[: الدار الحبس
على قبيلة فيأتي رجل منهم فيبني فيها الحوانيت والبيوت]
ومن كتاب أوله حمل صبيا على دابة قال ابن القاسم: في الدار الحبس على قبيلة
فيأتي رجل منهم فيبني فيها الحوانيت والبيوت للغلة والسكنى.
قال ابن القاسم: أما السكنى فمن سكن منهم فهو أولى بما سكن مما يكفيه ولا
يدخل عليه غيره.
وأما ما بنى للغلة فينبغي أن يقاضي نفسه بما يستوفي من الخراج، فيتقاضى من
الخراج ما أنفق في البنيان، فإذا تقاضى ما أنفق في البنيان فالكراء بعد ذلك
لجميع من حبس عليه حاضرهم وغائبهم، ويؤثر بذلك أهل الحاجة منهم والمسكنة.
فإن بقي بعد ذلك شيء قسم بين الأغنياء، فإن جاء رجل فأراد أن يدخل مع الذي
بنى في الغلة فإنه يغرم للذي بنى نصف ما بقي له من حقه ويدخل معه فيه فيكون
في يديه نصف ما بقي للغلة يأخذ غلتها ويقاص نفسه حتى يستوفي حقه، فإذا
استوفى حقه كانت الغلة بين من حسبت عليه على ما وصفت لك. فهذا وجه الحبس.
فإن كانت القاعة لا كراء لها قبل البناء، قال: نعم وإن كانت القاعة لا كراء
لها قبل ذلك فإن غلة الحوانيت والدور التي بنى بها يقاص بها نفسه من يوم
أخذ لها غلة جاءه أحد أو لم يجئه.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة فيكون في يديه نصف ما بقي للغلة،
صوابه: فيكون في يديه نصف ما بنى للغلة وكذلك في بعض الرواية. وهي مسألة
بينة لا إشكال فيها ولا التباس في شيء من معانيها.
وقال ابن دحون: إنه يدخل فيها جميع الاختلاف الذي في الرحا تخرب فيبنيها
بعض أهلها والبير تتهور فيصلحها بعض أهلها. ولا يدخل فيه جميع ذلك الاختلاف
كما ذكره. وإنما يدخل فيها أكثره فيدخل فيها من ذلك الاختلاف القول بأن
(12/279)
الغلة كذلك تكون للباني إلا أن يريد شريك
أن يدخل معه فيها فيأتيه بما يجب عليه من النفقة التي أنفق أو من قيمتها
على الاختلاف في ذلك. وهذا إذا أراد الدخول معه بحدثان ما بنى.
وأما إن لم يرد الدخول معه حتى بلي البنيان فلا يلزمه أن يدفع إليه إلا ما
ينوبه من قيمة البنيان على حالته التي هو عليها من البلا قولا واحدا.
وقد مضى وجه العمل في ذلك في نوازل عيسى من كتاب السداد والأنهار، فإن كان
للحبس كراء قبل أن يبنى فيه هذا البناء كان على الباني لإشراكه في الحبس ما
يجب لهم من ذلك الكراء، ولا اختلاف في هذا، وإن كان لم يكن للحبس كراء قبل
أن يبني.
فيدخل فيها الاختلاف الذي في الرحا الخربة يبنيها بعض الأشراك على هذا
القول، هل يكون عليه فيها كراء أم لا؟ وقد مضى فيها توجيه هذا الاختلاف في
النوازل المذكورة.
ولا يدخل في هذه المسألة قول محمد بن إبراهيم الذي في الرحا الخربة يبنيها
بعض الأشراك إن الغلة تكون بينهم فيكون للعامل منها بقدر ما أنفق وبقدر ما
كان له فيها قبل أن ينفق، والذي لم يعمل منها بقدر ما له من قاعتها؛ لأن
الحبس ليس بملك للمحبس عليهم فيشتركون فيه على ما ذكره في الرحا الخربة بين
الأشراك. وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
[: حبس في مرضه فقال على ولدي وولد ولدي وترك
زوجه وأمه]
ومن كتاب القطعان قال يحيى: وسألت ابن القاسم عمن حبس في مرضه فقال على
ولدي وولد ولدي وترك زوجه وأمه وغيرهم من الورثة، فقال: يقسم بين أعيان
الولد وولد الولد ذكرهم وأنثاهم شرعا سواء على
(12/280)
عددهم للذكر مثل حظ الأنثى، فما صار لولد
الولد أسلم إليهم لأنهم ليسوا بورثة المحبس، فجازت الوصية لهم، وما كان من
ولد الأعيان شركهم من ورث الميت المحبس من امرأة أو أم أو ولد أو غيرهم
يقتسمون ذلك بينهم على قدر مواريثهم من فرائض الله.
وتفسير ذلك أنه إن كان ولد الولد أربعة وولد الأعيان ثلاثة قسم الحبس على
سبعة أجزاء فأعطي ولد أربعة أجزاء، وأعطى ولد الأعيان ثلاثة أجزاء، ثم رجع
جميع من ورث المحبس من أم أو ولد أو زوجة أو غيرهم فيقتسمون تلك الثلاثة
الأجزاء على مواريثهم من الميت؛ لأنها وصية لوارث، ولا تجوز وصية لوارث.
غير أن ذلك يكون حبسا في أيديهم ولا يبيعون ولا يهبون حتى تنقطع أعيان
الولد لأنه قد جعل مرجعه إلى غير وارث وهم ولد الولد، فإذا انقطع ولد
الأعيان رجع جميع ذلك الحبس إلى ولد الولد، فإن مات أحد من ولد الأعيان أو
ولد الولد رجع نصيبه على من بقي من ولد الأعيان وولد الولد فاقتسموه أيضا
ثانية، فما صار لولد الولد أسلم إليهم وما صار لولد الأعيان دخل فيه جميع
من ورث الميت من الأعيان وغيرهم، فيقتسمونه بينهم على قدر مواريثهم من
الميت.
(12/281)
وتفسير ذلك أن الحبس قسم أولا على سبعة
أجزاء فكان لأعيان الولد ثلاثة أجزاء، فقسمت تلك الثلاثة الأجزاء على جميع
ورثة المحبس، فإذا مات واحد من ولد الأعيان وقسم سهمه الثانية فإنه يقسم
سهمه ذلك الذي صار له من السبعة الأجزاء على ستة أجزاء، فيكون لولد الولد
أربعة أجزاء ولولد الأعيان اثنان؛ لأنهما الآن اثنين، ثم يقسم الجزآن
اللذان صارا لولد الأعيان على الميت من ولد الأعيان وعلى الباقين منهم وعلى
جميع من ورث الميت المحبس فما كان للباقين أخذاه، وما صار للميت من أعيان
الولد دفع إلى ورثته فاقتسموه بينهم على فرائض الله، يدخل فيه امرأته وأخته
وأمه وجميع من يرثه فيستمتعون بذلك ما عاش واحد من أعيان الولد، ويضرب ولد
هذا الميت من أعيان الولد في هذا السهم الذي مات عنه أبوه بسهمين، سهم مع
المحبس عليهم من ولد الولد وولد الأعيان، وسهم مع ورثة أبيه الميت فيما صار
لأبيه من السهمين اللذين صارا لولد الأعيان حين قسم على ورثة المحبس.
فإن مات أحد من ورثة المحبس من غير ولد الأعيان أو واحد من ورثة الابن
الميت من أعيان الولد.
فإن مات منهم فسهمه بين من يرثه من أهل ميراثه من أم أو زوجة أو غيرهم على
فرائض الله لا يدخل فيه غيرهم، ولا تنتقض القسمة بموت من مات منهم لأنهم
ليسوا ممن حبس عليهم.
فإن مات أحد من ولد الأعيان فإن سهمه لا يرثه ورثته وإنما يرجع على من حبس
عليه معه، فإذا مات على ما وصفت لك، وولد الأعيان ثلاثة وكان ولد الولد
أربعة فمات منهم هذا الواحد وصاروا ثلاثة فإن سهمه الذي صار له من السبعة
الأجزاء
(12/282)
يقسم على ستة أجزاء فيعطي ولد الولد ثلاثة
وولد الأعيان ثلاثة، فما صار لولد الأعيان دخل فيه جميع من ورث المحبس ميتا
كان أو حيا فاقتسموه على فرائض الله، فما صار للأحياء من ورثته أخذوه، وما
صار للميت من ورثته دفع إلى ورثة الميت فاقتسموه بينهم على مواريثهم منه.
وكل ما ولد لولد الولد أو ولد الأعيان الولد فإن القسمة تنتقض وتقسم على
عدد ولد الولد وولد الأعيان قلوا أو كثروا ولو لم يبق من أعيان الولد إلا
واحد وقد صار ولد الولد عشرة فإن الحبس يقسم على أحد عشر فيكون للباقي من
ولد الأعيان جزء، ولولد الولد عشرة أجزاء.
فعلى هذا يقسم الحبس أبدا على ما فسرت لك، ولا تنتقض القسمة بموت من مات من
أعيان الولد ولا من ولد الولد، وإنما يقسم سهمه قط على ما فسرت لك.
وليست تنتقض القسمة إلا إذا زاد ولد الولد فإنها تنتقض وتقسم ثانية على من
زاد وعلى من هو في الحبس ممن هو حي، فما صار لمن بقي من أعيان الولد دخل في
ذلك جميع من ورث المحبس ميتهم وحيهم فما صار للحي منهم دفع إليه، وما صار
للميت دفع إلى ورثته، وورثته ورثته على ما ينوبهم فيه، فإذا مات جميع ولد
الأعيان سقط هؤلاء كلهم، ورجع الحبس كله إلى ولد الولد أو إلى أقرب الناس
بالمحبس من عصبته إن لم يبق أحد من أعيان الولد ولا من ولد الولد.
وسئل: عنها سحنون، فقيل له: الرجل يحبس على ولده وولد ولده وله أم وزوجة
هلكوا؟ قال: هذه من حسان المسائل وقل من يعرفها، وأصلها في كتاب ابن القاسم
في غير موضع، فهي في
(12/283)
بعض الكتب خطأ وفي بعضها صواب والصواب فيها
أنه ينظر كم ولده وولد ولده؟ فإن يكن ولده ثلاثة وولد ولده ثلاثة وحالهم
واحدة قسمت الحبس على ستة أسهم، فلولد الولد ثلاثة أسهم، وهو النصف، ولولد
الأعيان النصف، ثم يقسم نصيب الأعيان على فرائض الله، فتأخذ الأم السدس
والزوجة الثمن ويكون ما بقي لولد الأعيان فإن انقرض ولد الولد قبل ولد
الأعيان رجع ما كان في أيديهم إلى أقرب الناس بالمحبس وهم ولد الأعيان فكان
في أيديهم على سنة الحبس، وليس للأم ولا للزوجة فيه شيء؛ لأن وصية الميت
نفذت لهم وسقطت المحاباة؛ فإذا انقرضوا رجع ما كان في أيديهم ويد الأم
والزوجة إلى أولي الناس بالمحبس الأول، وإن مات واحد من ولد الأعيان أخذ ما
في يديه فاقتسم على فرائض الله، فللأم سدسه، وللزوجة ثمنه، ولولد الأعيان
ما بقي. فإن هلك الثاني أخذت الأم مما في يديه سدسه، وللزوجة ثمنه.
وإن هلك الثالث نزع ما في يد الأم والزوجة وما كان في يد الولد ورجع إلى
أولى الناس بالمحبس وإنما يقاسم الأم والزوجة ولد الأعيان إذا هلك الأول
وبقي اثنان.
وإذا هلك الثاني وبقي واحد أخذ ما في أيديهم من النصف الأول الذي صار لهم،
وأما ما رجع إليهم من حق ولد الولد فإن ذلك لا تدخل فيه الأم والزوجة لأن
ذلك مما يرجع إليهم من وصية قد أنفذت لوجهها ولم يكن فيها محاباة لوارث.
ألا ترى لو أن رجلا أوصى لولد ولده بدار حبس عليهم وله ولد لصلبه وأم وزوجة
لكانت نافذة لهم لأنهم غير ورثة ولم يكن للزوجة فيها وصية مقال ولا للأم،
فلو هلكوا كلهم ولد الولد رجع كل ما بأيديهم إلى أولى الناس
(12/284)
بالمحبس وهو ولده لصلبه ولم يكن للأم ولا
للزوجة مقال.
ألا ترى أنه لو أوصى لولد ولده بثلث ماله وصية لهم يكون لهم مال ويأكلونه
وينتفعون به وله ولد وأم وزوجة لكانت وصية جائزة لهم لأنهم غير ورثة، ولم
يكن للأم ولا للزوجة كلام، ولو هلك ولد الولد لكان ما كان لهم مما أوصى به
جدهم لهم ميراثا لولده لصلبه، ولم يكن للزوجة ولا للأم كلام. وقد فسرتها لك
وجها وجها، وهي من حسان المسائل.
وقد قيل: إن مات ولد الولد وبقي ولد الأعيان أو واحد من ولد الأعيان فإن
نصيبهم الذي كان لهم يرجع إلى ولده لصلبه.
وكذلك الواحد منهم يقسم نصيبه على من بقي من ولد الولد وولد الأعيان فما
صار لولد الأعيان أحد قائم.
فإذا انقرض ولد الأعيان وقد كان صار إليهم ما كان لولد الولد كلهم أو ما
صار إليهم من نصيب الواحد منهم مما أدخلنا في جميع ما رجع إليهم نصيب
الزوجة والأم فإذا مات ولد الأعيان كلهم رجع ما في أيديهم ويد الزوجة إلي
أولى الناس بالمحبس، وهذا الذي عليه أكثر الرواة، والله أعلم.
قال محمد بن رشد: الحبس في المرض على الولد وولد الولد وصية لوارث وغير
وارث؛ لأن الولد ورثة، وولد الولد غير ورثة، وحكم الحبس على الولد وولد
الولد أن يرجع حظ من مات منهم على بقيتهم.
فالوصية للوارت في هذا التحبيس تقل بموت من ولد الولد وتكثر بموت من يموت
من ولد الولد ولسائر الورثة مع الولد أن يدخلوا عليهم فيما صار لهم من هذا
الحبس قل أو كثر، فيكون بينهم على سبيل الميراث إذ لا تجوز وصية لوارث إلا
أن يجيزها الورثة، فإن كان الولد ثلاثة وولد الولد أربعة على ما نزل
(12/285)
المسألة عليه في الرواية فقسم الحبس بينهم
أسباعا إن استوت حالتهم على المشهور من مذهب ابن القاسم أو استوت أو لم
تستو على ظاهر هذه الرواية وهو مذهب ابن الماجشون على ما حكاه ابن المواز،
وجب لسائر الورثة الدخول على الولد في الثلاثة الأسباع، على سبيل الميراث.
وكذلك إن مات واحد من ولد الولد فقسم حظه [من الحبس على بقيتهم] يدخل سائر
الورثة أيضا على [الولد فيما نابهم] ، من حظ الميت فيكون بينهم على سبيل
الميراث.
وكذلك إن مات الثاني من ولد الولد ثم الثالث ثم الرابع، كلما مات منهم ميت
يدخل سائر الورثة فيما ناب الولد من حظ الميت من ولد الولد، فإذا لم يبق من
ولد الولد أحد رجع جميع الحبس ميراثا بين جميع الورثة، ومن مات منهم كان
حظه لورثته ما بقي من الولد أحد.
فإذا انقرض جميعهم بموت آخرهم رجع الحبس كله إلى أقرب الناس بالمحبس حبسا
وسقط منه حق جميع الورثة وورثة الورثة.
وأما إن مات من الولد أحد قبل موت ولد الولد وقد كان الحبس قسم أولا على
سبعة أسهم، فحصل منه للولد ثلاثة أسهم أخذت منها الزوجة الثمن والأم السدس.
فقال في الرواية: إنه يقسم سهمه ذلك الذي صار له من السبعة الأجزاء على ستة
أجزاء، فيكون لولد الولد أربعة أجزاء ولولد الأعيان جزآن؛ لأنهما الآن
اثنان.
ثم يقسم الجزآن اللذان صارا لولد الأعيان على الميت من ولد الأعيان وعلى
الباقين منهم وعلى جميع من ورث الميت المحبس.
فما كان للباقين أخذاه وما صار للميت من أعيان الولد دفع إلى ورثته
فاقتسموه بينهم على فرائض الله يدخل فيه أمه وأخته وجميع من يرثه فيستمتعون
بذلك ما عاش واحد من أعيان الولد.
وفي قوله: فيستمتعون بذلك ما عاش واحد من أعيان الولد - نظر، إذ لا
يستمتعون بجميعه
(12/286)
ما عاش واحد من أعيان الولد كما قال؛ لأنه
إذا مات واحد من أعيان الولد بعد ذلك وجب أن يردوا مما صار لهم ما يجب لهم
من ذلك لولد الولد، وإنما يستمتع كل من صار بيده من الورثة شيء من الحبس
بجميع ما صار له ما بقي أحد من أعيان الولد إذا مات جميع ولد الولد يرجع
جميع الحبس إلى الولد حسبما ذكرناه.
وقال ابن دحون: قوله إذا مات أحد ولد الأعيان فقسم حظه على من بقي من ولد
الأعيان وعلى ولد الولد إن الجزأين اللذين صارا لولد الأعيان يقتسمان على
الميت من ولد الأعيان وعلى الباقين منهم وعلى جميع الورثة غلط، بل يرد
الورثة كل ما بأيديهم إلى الجزأين ويقتسمون ذلك على فرائض الله.
وإنما قال ابن دحون ذلك؛ لأنه تأول على ابن القاسم أن الواحد من ولد
الأعيان إذا مات يؤخذ جميع ما بيده فيضاف إليه ثلث سدس الأم وثلث ثمن
الزوجة فيصير سبعا تاما، ثم يقسم هذا السبع على ما ذكر في الرواية، ولذلك
قال: إن قوله يقسم الجزآن غلط، بل يرد الورثة كل ما بأيديهم إلى الجزأين
ويقتسمون ذلك على فرائض الله كما تأول أبو إسحاق التونسي على ما في
المدونة، وهو تأويل خطأ تفسد به المسألة.
والصواب الذي يصح أن يحمل عليه ما في الرواية أن الواحد من ولد الأعيان إذا
مات لا يؤخذ جميع ما في يديه، وإنما يؤخذ سهمه الذي صار له من السبعة
الأجزاء حين قسم الحبس على ولد الأعيان وعلى ولد الولد مما بيده ومما بيد
الباقين من ولد الأعيان ومما بيد الأم والزوجة؛ لأنه قد قسم ذلك عليهم
أجمعين مع السبعين الآخرين اللذين كانا صارا لولدي الأعيان، فيأخذ مما بيد
كل واحد منهم ثلثه؛ لأن ولد الأعيان ثلاثة فيكمل السبع على هذا ثم يقسم هذا
السبع على الباقين من ولد الأعيان وعلى ولد الولد، فما ناب ولد الأعيان منه
قسم على الميت من ولد الأعيان وعلى الباقين منهم وعلى الأم والزوجة، فما
ناب الميت من ولد
(12/287)
الأعيان كان لورثته مضافا إلى ما كان بقي
بيد الميت موروثهم، وما ناب الباقين من ولد الأعيان والأم والزوجة كان لهم
مضافا إلى ما كان بقي في أيديهم، فيتساوون على هذا في جميع ذلك على قدر
مواريثهم كما يتساوون في بعض القسم على ما روى يحيى.
وفي رد الورثة كل ما بأيديهم إلى الجزأين واقتسام ذلك كله على جميع الورثة
إذا أخذ جميع ما في يد الميت من ولد الأعيان على تأويلهما الفاسد والله
الموفق للصواب برحمته.
وقول ابن القاسم إذا مات واحد من ولد الولد إن ما صار من حظه لولد الأعيان
دخل فيه جميع من ورث المحبس ميتا كان أو حيا فاقتسموه على فرائض الله ...
إلى آخر قوله.
هو خلاف مذهب سحنون في أن ما صار لأعيان الولد من قبل ولد الولد لا يدخل
فيه الورثة؛ لأنه إنما يصير إليه بمرجع الحبس لا بالوصية، وقد قيل: إن
سحنون إنما يقول ذلك إذا مات جميع ولد الولد.
وأما إذا مات واحد منهم فيدخل الورثة فيما صار إلى ولد الأعيان من قبله،
والرواية عنه منصوصة بخلاف ذلك أن الورثة لا يدخلون فيما صار لأعيان الولد
من قبلهم مات جميعهم أو واحد منهم.
وقوله في هذه الرواية: إن القسمة لا تنتقض بموت من مات من ولد الأعيان ولا
من ولد الولد وإنما يقسم حظه فقط، معناه: إذا كان ينقسم - خلاف ظاهر ما في
سماع يحيى من أن القسمة كلها تنتقض كما إذا زاد ولد الولد، وأما إذا لم
ينقسم حظ من مات من الولد أو ولد الولد على من بقي منهم فلا اختلاف في أن
القسمة كلها تنتقض من أصلها كما إذا زاد ولد الولد، ورواية يحيى في أن
القسمة تنتقض بموت من مات منهم ليست بمخالفة لهذه الرواية فيما تخرجه
القسمة لكل واحد منهم في القلة والكثرة إذا لم تنقض، فليست بمخالفة لها إلا
في صفة العمل. ورواية يحيى أولى لما في ترك نقض القسمة من التشغيب والعناء
مما لا يؤدي إلى معنى.
وقول سحنون والصواب أن ينظركم ولده وولد ولده، فإن يكن ولد ولده
(12/288)
ثلاثة وحالهم واحدة قسمت الحبس على ستة
أسهم.
قيل: إنه تفسير لقول ابن القاسم.
وقيل: إنه خلاف له، إذ قال: إن الحبس يقسم على عددهم ولم يشترط تساوي
أحوالهم.
وقد قيل: إن ابن القاسم فرق بين التحبيس في المرض لما كان بمعنى الوصية
فرأى ألا يفضل فقيرهم على غنيهم، بخلاف من حبس في صحته، واتفقا جميعا أعني
ابن القاسم وسحنون على ألا يفضل في هذه المسألة الولد على ولد الولد.
وذلك خلاف ما في المدونة من قول ابن القاسم وروايته عن مالك مثل قول
المخزومي وغيره في قوله: وكان المغيرة وغيره يستوي بينهم.
وقد مضى تحصيل الاختلاف في هذا في أول رسم من سماع ابن القاسم فلا معنى
لإعادته.
وقول سحنون: فإذا انقرض ولد الولد قبل ولد الأعيان يريد أو واحد منهم على
ما قاله في غير هذا الكتاب - رجع ما كان في أيديهم إلى أقرب الناس بالمحبس
وهم ولده الأعيان فكان في أيديهم على سنة الحبس، وليس للأم ولا للزوجة فيه
شيء؛ لأن وصية الميت نفذت لهم وسقطت المحاباة، ليس بصحيح وهو غلط بين؛ لأنه
إنما يرجع إلى من معه في الحبس، وإنما يرجع الحبس إلى أقرب الناس بالمحبس
إذا انقرض المحبس عليهم كلهم.
فأما ما بقي منهم قوم فذلك راجع إليهم على جهة الوصية التي لهم لا على جهة
أنهم أقرب الناس بالمحبس.
وإذا كان هذا هكذا فالأم والزوجة يدخلان فيما رجع إلى ولد الأعيان من قبل
ولد الولد وإن انقرضوا كلهم لأنها وصية رجعت إليهم.
وقال ابن أبي زيد في المختصر: إنما قال سحنون: إن الأم والزوجة لا يدخلان
فيما رجع إلى الولد من قبل ولد الولد إذا ماتوا كلهم، فأما في موت واحد
منهم فتدخل الأم والزوجة فيما يصيب ولد الأعيان من نصيب ولد الولد في قول
جميعهم؛ لأن أسباب المواريث قائمة بينهم. وكذلك تأول عليه ابن دحون.
وهو تأويل لا يعضده نظر، ويرده أيضا الرواية الموجودة عن سحنون بأن الواحد
منهم إذا مات فلا تدخل الأم والزوجة فيما رجع من حظه إلى ولد الأعيان.
(12/289)
وقول سحنون في الرواية: وإن مات واحد من
ولد الأعيان، يريد: إن مات بعد انقراض ولد الولد أخذ ما في يديه، يريد:
جميع السدس الذي صار له أولا من الحبس حين قسم على الولد وولد الولد فاقتسم
على فرائض الله، فللأم سدسه وللزوجة ثمنه، يريد: وقد أخذتا ذلك فلا يسترد
من عندهما ولد الأعيان ما بقي، يريد: مما صار له بالميراث خاصة دون ما صار
له من رجوع الحبس من قبل ولد الولد، فالذي صار إليه بالميراث هو الذي يقسم
على ورثته.
وأما ما صار إليه بالرجوع عن ولد الولد فإنما يرجع إلى أخيه، فإن لم يكن له
أخ رجع إلى أقرب الناس بالمحبس على مذهب سحنون، وهو غلط على ما بيناه.
وقوله فإن هلك الثاني أخذت الأم مما في يديه سدسه غلط؛ لأنه إنما تأخذ
الثلث إلى أن يموت هذا الثاني عن ولد الولد.
وقول سحنون: وإنما يقاسم الأم والزوجة ولد الأعيان إذا هلك الأول وبقي
اثنان وإذا هلك الثاني وبقي واحد صحيح.
وقوله بعد ذلك: أخذ ما في أيديهم، يريد: فإذا هلك ذلك الواحد الذي بقي أخذ
ما في أيديهم من النصف الذي صار لهم، يريد: أنه يؤخذ منهم فيكون ميراثا عن
المحبس لورثته وورثة من مات من ورثته.
وأما قوله: وأما ما رجع إليهم من حق ولد الولد فإن ذلك لا يدخل فيه الأم
والزوجة؛ لأن ذلك مما رجع إليهم من وصية قد أنفذت لوجهها ولم يكن فيها
محاباة لوارث ... إلى آخر قوله.
فقد بينا وجه الغلط فيه وأن قول ابن القاسم: إن الزوجة والأم يدخلان فيه -
هو الصحيح؛ لأنه وصية لوارث؛ إذ لم ترجع إليهم بمرجع الأحباس وإنما رجع
إليهم بحكم تحبيس المحبس عليهم.
وقع في النوادر قال سحنون في العتبية: وإذا انقرض ولد الولد وصار ما
بأيديهم لولد الأعيان ثم مات واحد منهم فتأخذ الأم والزوجة ميراثهما مما
(12/290)
في يديه من السدس الذي أخذ أولا مما دار
إليه عن ولد الولد فما بقي قسم بين ولدي الأعيان.
قال أبو محمد: ينبغي أن يكون والله أعلم إنما أخذ أولا هذا السدس بالميراث
فعند الأم سدسه وعند الزوجة ثمنه فلا يرد من عندهما لانقراض ولد الولد
الذين لهم في ذلك حجة ولكن يقسم ما بيده من بقية ذلك السدس على ورثته، لأمه
سدسه ولزوجته حقها الربع ولبقية ورثته ما بقي، فإن كان إخوته هذين فهو
لهما، وأما ما بيده على ولد الولد وهو سدس ثان فهو كسبيل الأحباس عنده في
رواية العتبي لا شيء لورثته فيه ويرد إلى أولى الناس بالمحبس وهما أخوا هذا
الميت بينهما بنصفين. كما وقع قول سحنون في النوادر، وهو يبين قوله في
الكتاب ففيه لبس. وقول ابن أبي زيد مفسر لقول سحنون لا خلاف له، إن شاء
الله.
وقوله في آخر المسألة: وقد قيل: إذا مات ولد الولد وبقي ولد الأعيان هو قول
ابن القاسم. وقد تقدم وجه تصحيحه فلم يأت سحنون في هذه المسألة بشيء؛ لأنه
أخطأ فيما خالف فيه ابن القاسم وأتى في تفسيره بكلام غير بين ولا مستقيم
يفتقر إلى ما بيناه به من التفسير، وبالله التوفيق.
[: حبس على بنات له حبسا]
ومن كتاب العشور قال مالك: من حبس على بنات له حبسا فبنات بنيه الذكور
يدخلن مع بناته لصلبه في الحبس.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن بنات ابنه يقع عليهن اسم بنات في اللغة،
ولهن حكم البنات في الميراث إذا لم يكن دونهن ولد فوجب أن يدخلن مع بناته
لصلبه في الحبس. وقد مضى ذلك في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم،
وبالله التوفيق.
(12/291)
[: حبسه عليه
وشرط أن مرجعه إليه ليجعله حيث يراه]
ومن كتاب الجواب قال: وسألته: عن الرجل يحبس الشيء من ماله على رجل ويستثني
أن مرجعه إليه يجعله حيث شاء أو أنه يرجع مرجعه حيث شاء، ثم مرض المحبس
فيجعل مرجعه وهو مريض لوارث.
قال ابن القاسم: لا يجوز ذلك للوارث ولا يجوز له منه شيء لا من رأس المال
ولا من الثلث إلا أن يشاء الورثة؛ لأن مالكا قال في الرجل يخدم الرجل عبده
حياته ثم يمرض المخدم فيجعله بعد مرجعه لرجل آخر بتلا. قال لي مالك: هو من
الثلث لصاحب البتل.
فلما جعل مالك هذا من الثلث كان الذي جعل مرجعه في مرضه لوارث باطلا؛ لأنه
مال من ماله بعد المرجع يورثه مع ما يورث، وهذه وصية لوارث فلا تجوز، إلا
أن يجيزها [للوصية] الورثة.
قال محمد بن رشد: أما إذا حبس الشيء من ماله على الرجل واستثنى أن مرجعه
إليه ولم يقل ليجعله حيث شاء فذلك كمسألة مالك في الإخدام سواء، إن صرف
المرجع في مرضه لوارث فهو باطل، وإن صرفه لغير وارث فهو من ثلثه، يقوم فيه
قيمة صحيحة إن كان قد رجع وقيمته على الرجاء والخوف إن كان لم يرجع بعد.
وكذلك إن حبسه عليه حياته ولم يشترط أن مرجعه إليه ملكا على القول بأن
الحكم يوجب ذلك.
وأما إن حبسه عليه وشرط أن مرجعه إليه ليجعله حيث يراه فأصبغ يقول إن سبله
فيما رأى وأحب في مرضه فهو من رأس المال، وإن سبله على وارث فهو ميراث إلا
أن يمضي ذلك له الورثة، خلاف قول ابن القاسم هذا، وبالله التوفيق.
(12/292)
[: يحبس دارا
على بناته ويشترط أن أيتهن تزوجت فلا حق لها في الحبس]
من سماع يحيى بن يحيى
من ابن القاسم من كتاب الصبرة قال يحيى: وسألته: عن الرجل يحبس دارا على
بناته ويشترط أن أيتهن تزوجت فلا حق لها في الحبس، فإن ردها طلاق زوج أو
موته فهي على حقها من الحبس، فإذا متن كلهن فهي صدقة على رجل خصه من قرابته
أو غيرهم أو مرجعا إلى بعد موتهم، فتزوجن كلهن فلم يجد المتصدق عليه سبيلا
إلى أخذ الدار بالصدقة لبقاء البنات أو هو بما استثنى وأخرج البنات من
الحبس بتزويجهن، فقلت: لمن تكون غلة الدار إلى أن يرد بعض البنات رادة من
موت زوج أو طلاق أو إلى أن يمتن فتصير للمتصدق عليه أو إلى المحبس؟ فقال:
أرى غلتها في تلك الفترة للمحبس إن كان استثنى مرجعها إليه وكان حيا أو
لورثته إن كان ميتا، قلت له: الورثة من غير البنات؟ فقال: لا بل لأقعد
الناس به ممن يرثه مع بناته ويكون لهم ولهن الغلة في تلك الفترة على حال
الميراث، وليس على حال الحبس.
قلت: أرأيت إن دخلت البنات مع غيرهن من الورثة بأن لم يكن له وارث إلا
بناته اللائي حبس عليهن وبقية ذلك لجماعة المسلمين أيعطيهن ثلث الغلة أم لا
يرجع إليهن إلا أن يكون معهن وارث من الولد أو ولد الولد يرد ذلك عليهن؟
قال: وإن كان جعلها صدقة على رجل بعد موتهن فالغلة في الفترة للمتصدقة بها
عليه ولا توقف الغلة على حال لأنك إذا أوقفتها إذا متن رددتها إلى المحبس
إن كان استثنى مرجعها إليه أو إلى المتصدق بها عليه إن كان تصدق بها بعد
موتهن، فإن كنت إنما توقف الغلة لموتهن ثم تدفعها إلى من تصير الدار له
فحبس ذلك عد من الظلم.
قال: وإن أوقفتها فإن ردتهن رادة دفعت الغلة
(12/293)
إليهن كنت كمن أجرى لهن الغلة في الحين
الذي لم يكن لهن في الدار شيء، فأحب ذلك أن تدفع الغلة في الفترة معجلة إلى
من استثنى المحبس مصير الدار إليه بعد موتهن.
قلت: أرأيت إن كان إنما جعلها حبسا على الرجل بعد موت البنات أيعطي الغلة
أيضا في الفترة كما أعطيها حين ابتلت له بالصدقة.
قال محمد بن رشد: لم يجب ابن القاسم من هذه المسألة في موضعين:
أحدهما: إذا تزوج البنات كلهن وقد استثنى المحبس مرجع الدار إليه بعدهن.
فقال: إن الغلة تكون في تلك الفترة للمحبس إن كان حيا بما استثنى من مرجع
الحبس إليه أو لورثته إن كان ميتا: بناته المتزوجات وغيرهن على سبيل
الميراث، فسأله: إن لم يكن له وارث معهن غير جماعة المسلمين أيكون لهن ثلث
الغلة أو لا يكون لهن منها شيء إلا أن يكون معهن وارث من الولد أو ولد
الولد للمحبس، يرد ذلك عليهن؟ فلم يجب على ذلك.
والجواب عليه: أنه يكون لهن ثلثا الغلة، والثلث لجماعة المسلمين لأنهم هم
الوارثون للمحبس معهن، ولا إشكال في ذلك على مذهبه.
والموضع الثاني: إذا جعل الدار بعد البنات حبسا على رجل لا صدقة مبتلة هل
تكون الغلة له في تلك الفترة وهي ما دامت البنات متزوجات، والجواب في ذلك:
أنها تكون له على ما وقع من رواية ابن القاسم عن مالك في رسم يوصي لمكاتبه
من سماع عيسى، وقد مضى هذا الكلام هناك على معاني هذه المسألة، فلا معنى
لإعادته.
ويدخل في تحبيس الرجل داره على بناته بنات بنيه الذكور حسبما مضى في رسم
العشور من سماع عيسى قبل هذا، وقد مضى بيانه، وبالله التوفيق.
(12/294)
[: الدار تقسم
على عدد الولد الذكور والإناث وولد الولد الذكور والإناث شرعا سواء]
ومن كتاب الصلاة وسئل: عن رجل حبس منزلا له في وصيته على ولده وولد ولده
فإذا انقرضوا فهي حبس في سبيل الله واستثنى أيما امرأة تزوجت من بناته أو
بنات بنيه فلا حق لها في الحبس إلا أن تردها رادة من موت زوج أو طلاقه.
فقال: إن وسع ذلك الثلث قسم المنزل على عدد الولد الذكور والإناث وولده،
الولد الذكور والإناث شرعا سواء فما صار لولد الولد ولهم خاصة لا يدخل معهم
فيه أحد من ورثة الموصي، وما صار لأعيان ولد الموصي من قسمة الدار المحبسة
دخلت عليهم فيه أم الميت وزوجته وكل من ورثه فاقتسموه على كتاب الله؛ لأنه
أوصى لوارث.
قال: فإن تزوج من أعيان بنات الميت المحبس دنية أخذ القسم بينهم ثانية فقسم
بين الأعيان أجمعين ما عدا المتزوجة وولد الولد وأنزلت المتزوجة كأن لم تكن
من بنات الميت، فما صار من ذلك لولد الولد فلهم خاصة لا يدخل عليهم فيه أحد
من ورثة الميت، وما صار لأعيان ولد الميت دنية قسم بينهم وبين جميع من ورث
الميت على كتاب الله، ودخلت معهم الابنة المتزوجة لأن الذي استثنى عليها
أبوها لا يخرجها من حقها من الميراث.
وإنما يطرح عندما يقسم المنزل بين أعيان ولد الميت وولد ولده ليستكمل ولد
الولد وصاياهم المحبسة عليهم.
قال: فإن ردت الابنة رادة كانت على حقها في السكنى وأعيد أيضا القسم ثالثة
فعدل الحبس بين من حبس عليه شرعا سواء ولد الأعيان جميعا وابنته الرابعة
معهم وولد الولد كلهم، فما صار لولد الولد من
(12/295)
ذلك لم يدخل عليهم فيه غيرهم، وما صار
لأعيان الولد الابنة المردودة وغيرها فهو يقسم على جميع ورثة الميت على
كتاب الله.
قال: من تزوج من بنات البنين سقط أيضا حقها من السكنى وأعيد القسم بينهم
على ما فسرت لك، وألغيت المتزوجة من بنات الأبناء من القسم وأنزلتها كأن لم
تكن، فإن ردتها رجعت على حقها من السكنى وأعيد القسم من أجل رجوعها بين ولد
الولد وأعيان ولد الميت، وكلما أعيد القسم بتزويج ابنة أو ابنة ابن أو
لرجوعها فإن ما حصل لولد الولد لا يدخل عليهم فيه غيرهم، وما حصل لأعيان
الولد يدخل فيه معهم جميع ورثة الميت.
قال: وإن مات أحد من أعيان ولد الميت أعيد القسم وطرح الهالك، فإذا أعطى
ولد الولد حقهم نظر إلى ما صار لأعيان الولد فقسم عليهم وأعيد سهم الهالك
معهم وجميع من ورث.
فما صار في القسمة للهالك اقتسمه كل من ورث الهالك من أعيان ولد الميت من
كانوا على كتاب الله.
وكلما انقرض من أعيان ولد الميت أحد أعيد القسم على ما فسرت لك، وجعل حظ
الهالك لورثته حتى ينقرض أعيان ولد الميت أجمعون.
فإذا لم يبق منهم أحد فبقي ولد الولد سقطت مواريث كل من ورث بانقراض أعيان
ولده، وصار الحبس إلى ولد الولد يقسم بينهم على ما حبسه جدهم، ومن مات من
ولد الولد رجع حقه على من بقي ما بقي منهم أحد أو من أهل الحبس معهم أحد.
فإذا انقرض جميع من حبس عليه صارت إلى ما حبسها عليه الميت من سبيل الله.
قال: وإن انقرض ولد الولد قبل أعيان الولد رجع الحبس كله إلى أعيان الولد
فقسم بينهم وبين من ورث الميت على فرائض الله.
فإذا انقرض أعيان الولد كلهم سقطت حقوق أهل المواريث
(12/296)
كلها ورجعت حبسا في سبيل الله.
قال محمد بن رشد: قوله إن الدار تقسم على عدد الولد الذكور والإناث وولد
الولد الذكور والإناث شرعا سواء، هو مثل ما تقدم له في رسم القطعان من سماع
عيسى. وظاهره وإن اختلفت أحوالهم.
وقيل: معناه إن استوت أحوالهم. قاله سحنون وإليه ذهب ابن المواز، وإنما
تقسم الدار على عددهم كما قال: إذا لم يكن بد من ذلك، مثل أن يكون عددهم
خمسة أو سبعة أو أحد عشر أو ثمانية والولد الذي للصلب واحد أو كلهم للصلب
إلا واحدا أو تسعة أربعة منهم للصلب أو خمسة وما أشبه ذلك.
وأما إن كان الذين للصلب منهم أربعة وولد الولد أربعة فإنما تقسم الدار
بينهم بنصفين فيدخل في النصف الذي صار للولد الأعيان جميع ورثة المحبس،
وسكن ولد الولد في النصف الذي صار لهم منها إن حملهم السكنى، فإن لم يحملهم
السكنى أكري واقتسم بينهم الكراء بالسواء للذكر مثل حظ الأنثى، والنصف
الثاني الذي صار لولد الأعيان يكون بين جميع الورثة على سبيل الميراث إن لم
يتفقوا على سكناه اقتسموا كراءه على حسب الميراث.
وقوله: فإن تزوج أحد من أعيان بنات الميت المحبس دنية أعيد القسم بينهم
ثانية فقسم بين الأعيان أجمعين ما عدا المتزوجة وولد الولد وأنزلت المتزوجة
كأن لم تكن من بنات الميت، فما صار من ذلك لولد الولد فلهم خاصة لا يدخل
عليهم فيه أحد من ورثة الميت، وما صار لأعيان ولد الميت دينه قسم بينهم
وبين جميع من ورث الميت على كتاب الله، ودخلت معهم الابنة المتزوجة لأن
الذي استثنى عليها أبوها لا يخرجها من حقها من الميراث.
هو خلاف قوله المتقدم في رسم القطعان من سماع عيسى أنه لا يعاد القسم إلا
إذا زاد عدد ولد الولد.
وأما إذا نقص عددهم بموت أحدهم فلا ينقض القسم وإنما يقسم حظ الميت من ولد
الأعيان الذي صار له في القسم من الدار حين قسمت على عدد الولد وولد الولد
كاملا بعد أن يرد للزوجة قيمة
(12/297)
الثمن الذي قبضت منه والأم السدس الذي قبضت
على من بقي من ولد الميت دينه وعلى ولد الولد.
فما صار من ذلك لولد الأعيان كان ميراثا بين جميع ورثة الميت المحبس الزوجة
والأم والولد الميت ومن بقي من أولاده الأحياء، فما ناب الميت من ذلك كان
لجميع ورثته من زوجة وأم إن كانت له زوجة وأم ومن سواهم.
وهذا إن انقسم حظ الميت منهم على عدد من بقي منهم وعلى عدد ولد الولد.
وأما إن لم ينقسم عليهم فلا بد من أن تعاد القسمة في الجميع كما قال في هذه
الرواية فيحتمل أن يكون تكلم في هذه الرواية على أن حظ المتزوجة من أعيان
بنات الميت المحبس أو من بنات ولده لا ينقسم على عدد من بقي من ولده
الأعيان وعدد ولد ولده.
وتكلم في رسم القطعان من سماع عيسى على أن حظ الميت من ولد الأعيان أو ولد
الولد ينقسم على عدد من بقي منهم وعدد الآخرين، فلا يكون بين الروايتين
اختلاف.
وظاهر رواية يحيى هذه أن يعاد قسم الجميع وإن كان حظ المتزوجة الذي صار لها
بالقسم الأول ينقسم خلاف ما في رسم القطعان من سماع عيسى أنه يقسم معناه
إذا كان ينقسم. ورواية عيسى أنه يقسم إذا كان ينقسم أصح في المعنى، إلا أنه
يبعد أن ينقسم.
وأما إذا كان لا ينقسم فلا اختلاف في أنه لا يقسم ولو لم تنقسم الدار كلها
من أول عدد الولد وولد الولد لكان الحكم فيها أن تكرى ويقسم الكراء بينهم
على عددهم، فما ناب ولد الأعيان منه كان ميراثا بين جميع الورثة، وما ناب
كل واحد من ولد الولد كان له إلا أن يموت أحد منهم أو يتزوج فيقسم ما اجتمع
من غلة الدار من يوم مات الميت منهم على من بقي منهم حسبما وصفناه، فما وجب
لولد الأعيان كان ميراثا بين جميع ورثة الميت المحبس فمن كان منهم حيا أخذ
حقه، ومن كان منهم قد مات ورث حقه عنه ورثته.
وقوله في هذه الرواية في آخر هذه المسألة وان انقرض ولد الولد قبل أعيان
الولد رجع الحبس كله إلى أعيان الولد فيقسم بينهم وبين من ورث الميت على
فرائض الله صحيح على مذهب ابن القاسم، خلاف ما
(12/298)
تقدم من قول سحنون في رسم القطعان من سماع
عيسى.
والأصل في هذا على مذهب ابن القاسم أن كل ما رجع إلى الولد من جهة ولد
الولد على طريق رجوع الأحباس إلى الأقرب بالمحبس فلا دخول للزوجة ولا للأم
ولا للميت من الولد في ذلك، وما رجع إلى الولد من جهة ولد الولد على طريق
حكم الوصية التي أوصى بها المحبس فالأم والزوجة تدخلان في ذلك مع من مات من
الولد.
وسحنون يقول: إن ما رجع إلى الولد من جهة ولد الولد فلا تدخل فيه الأم
والزوجة ولا من مات من ورثة المحبس، سواء رجع إليهم ذلك بحكم مرجع الأحباس
بعد انقراض جميع الولد المحبس عليهم، أو بحكم الحبس في وجوب رجوع حظ من مات
منهم إلى أصحابه في الحبس، وهو خطأ من القول على ما بيناه في رسم القطعان
من سماع عيسى، وبالله التوفيق.
[: الحبس المعقب كالحبس على المعينين يقسم
عليهم بالسواء]
من سماع سحنون بن سعيد وسؤاله ابن القاسم قال سحنون: سألت ابن القاسم عن
وجه قسم الحبس إذا قال الرجل داري حبس على بني فلان وهم حضور كلهم أو بعضهم
حضور والآخرون غيب في بلدان شتى قد اتخذوها دورا أو غيب في تجارات وحوائج
لهم، قال: إذا كانوا حضورا أوثر أهل الحاجة فسكنوا، فإن فضل فضل كان
للأغنياء، وإن كان فضل أكرى وأوثر أهل الحاجة أيضا، وإن لم يكن إلا قدر
السكنى أوثر أهل الحاجة فكانوا أحق، فإن استغنى أهل الحاجة وافتقر بعض
الأغنياء لم يخرج الذين سكنوا أولا منهم، وكان ذلك لولد أولادهم على الأحوج
فالأحوج، ولم يخرج الأغنياء الذين افتقروا، وإن كان بعضهم غنيا في بلد
سكنوها قسم للحاضر وأوثر أهل الحاجة منهم إلا أن يكون فضل فيكرى ويؤثر أهل
الحاجة به.
فإن قدم أولئك لم يخرج لهم أحد من أولئك وكذلك إن خرج أحد ممن قسم له إلى
بلد
(12/299)
فسكنها واتخذها دارا فسكن منزله ثم رجع لم
يكن له في منزله حق إلا أن يكون خرج في حاجة له فهو أحق به ولا يسكن له
منزله.
وأما إن كان بعضهم حضورا وبعضهم غيبا في حوائج أو تجارة وليس غيبتهم فيها
سكنا في بلد فأرى أن تقسم لهم حقوقهم في ذلك، فهذا أوجه ما سمعت.
قال محمد بن رشد: هذا من قول ابن القاسم مثل ما تقدم من قوله في رسم إن
خرجت من سماع عيسى ومن روايته عن مالك في رسم البز من سماعه.
وهو المعلوم من مذهبه خلاف مذهب ابن الماجشون فيما حكى عنه ابن المواز من
أن الحبس المعقب كالحبس على المعينين يقسم عليهم بالسواء، ولا يفضل الفقير
منهم على الغني، ويوجد مثله لابن القاسم بالمعنى، والظاهر حسبما ذكرناه في
أول رسم من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[مسألة: رجوع الحبس بعد انقراض المحبس عليهم]
مسألة قال ابن القاسم في تفسير يرجع إلى أولى الناس بالمحبس حبسا: إنما ذلك
على من يرثه، وليس على أولى الناس به ممن لا يرثه من عمة أو خالة أو نحوها.
قال محمد بن رشد: أما الخالة فلا اختلاف في أنه لا مدخل لها في مرجع الحبس،
وكذلك الأخوات والإخوة للأم وبنات الأخوات ما كن وبنات البنات وبنو البنات
وبنو الأخوات. وأما العمة فتدخل فيه على اختلاف قد مضى تحصيله في أول سماع
ابن القاسم.
فإن كان أصل الحبس على محتاجين مثل أن يقول هو حبس على الفقراء من ولدي
وولد ولدي أو على محتاجي آل فلان وما أشبه ذلك فلا يرجع الحبس إلا إلى أقرب
الناس بالمحبس من الفقراء.
وأما إذا كان الحبس على ولده أو على آل فلان دون أن يخص الفقير
(12/300)
منهم فالمشهور أن الحبس يرجع بعد انقراض
المحبس عليهم إلى أقرب الناس من المحبس من الفقراء.
وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة، وقد روى ابن نافع عن مالك
في المدونة أنه يرجع إلى أقرب الناس به من الأغنياء والفقراء إلا أن يبدأ
الفقير على الغني.
وقد قيل: إنه إن كان سكنى دخل فيه الغني والفقير إن لم يكن له مسكن إذ لا
يستغني الغني عن مسكن، وإن كان غلة لم يكن للغني فيها مدخل. وبالله تعالى
التوفيق.
[مسألة: قال غلامي يخدم فلانا يوما وفلانا يوما
في الوقف]
مسألة قال سحنون: وإذا قال: غلامي يخدم فلانا يوما وفلانا يوما فهو بمنزلة
ما يقسم إن مات منهما أحد رجع نصيبه إلى صاحب الأصل، وإنما يكون ما فسرت لك
إذا كان حبس عليهما العبد جميعا يخدمهما حيث كانا ولم يقسم هو الخدمة
بينهما.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول فيها في أول سماع ابن القاسم، وبالله
التوفيق.
[مسألة: المبدأ في الحبس أهل الحاجة على
الأغنياء في الغلة والسكنى]
مسألة وقال أشهب في القوم يحبس عليهم الدار وبعضهم غيب في سفر وهم فقراء
وآخرون حضور وهم أغنياء، والدار حاضرة مع الأغنياء. قال: توقف للفقراء إلا
أن يتخذوا الموضع الذي سافروا إليه وطنا فيعطاها من هاهنا من الأغنياء ولا
يخرجوا عنها بعد ذلك، وإن لم يتخذ الفقراء الذين هم به وطنا ورجعوا كانوا
أحق بالدار إن كان سكنى فهم أحق، وإن كانت غلة فهم أحق إلا أن يكون في
الدار فضل فيعطاها الأغنياء، وإن فضل فضل أكرى وأوثر أهل
(12/301)
الحاجة، قلت: فإن كانت الدار واسعة فقال
الأغنياء نحن لا نحتاج، ولكن.
ينظر إلى قدر ما يصير لنا من السكنى فيسكنه من أحببنا ونكريه؟ قال: ذلك
لهم.
قال محمد بن رشد: هذا نحو ما تقدم قبل هذا في هذا السماع من قول ابن
القاسم.
وفي المواضع المذكورة منه.
والأصل في هذا أن المبدأ في الحبس أهل الحاجة على الأغنياء في الغلة
والسكنى.
فإن كان سكنى فلا شيء للأغنياء معهم فيه إلا ما يفضل عنهم، وإن كان منهم
أحد غائبا في مبتدأ القسم انتظر إلا أن يتخذ موضعه الذي غاب إليه وطنا.
وكذلك إن كان غاب بعد أن سكن لم يدخل عليه أحد إلا أن يتخذ موضعه الذي غاب
إليه وطنا، فإن استووا في الفقر أو الغناء ولم يسعهم السكنى أكري ذلك عليهم
وقسم الكراء بينهم شرعا سواء، إلا أن يرضى أحدهم أن يكون عليه ما يصير
لأصحابه من الكراء ويسكن فيها فيكون ذلك له.
قاله ابن المواز، وإن كان الحبس غلة ولم يكن سكنى أوثر أهل الحاجة منهم على
الأغنياء وكان حق من غاب في ذلك كمن حضر سواء، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول داري حبس على ابنتي وعلى ولدها]
مسألة قال: وسئل ابن القاسم: عن الذي يقول: داري حبس على ابنتي وعلى ولدها،
قال: فولدها يدخلون ذكورهم وإناثهم، وإذا ماتوا كان ذلك لأولاد الذكور من
ولدها ذكورهم وإناثهم، ولم يكن لولد بناتها شيء ذكورهم ولا إناثهم.
وكذلك قال مالك: إنما يكون حبسا على كل من يرجع نسبه إلى الابنة، [وقال
غيره: إنما تكون حبسا على ولد الابنة دنية من الذكور والإناث] فإذا ماتوا
لم يكن لأولاد أولادهم شيء.
(12/302)
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم وروايته
عن مالك في أن ولد الابنة كل من يرجع نسبه إليها من ولد الولد الذكور ذكورا
كانوا أو إناثا وأن ولد بناتها ليسوا بولدها ولا بعقبها ولا شيء لهم - هو
مذهب مالك الذي لم يختلف قوله فيه بنص ولا دليل، فهو أدخلهم في الحبس على
مذهبه فلم يدخلهم من أجل أنهم عقب، وإنما أدخلهم فيه بإدخال المحبس إياهم
في حبسه وإن لم يكونوا عقبا له بقوله حبست على ولدي وولد ولدي أو على عقبي
وعقب عقبي.
وقد حصلنا القول في هذه المسألة في غير هذا الديوان وهو كتاب المقدمات [فمن
أراد الوقوف على الشفا في ذلك تأمله هنالك] .
وقد مضى الكلام على وجه قول غير هذا في آخر أول رسم من سماع ابن القاسم،
وبالله التوفيق.
[: حبس غلاما على رجل عشر سنين فأراد أن يقاطعه
ويضع عنه الخدمة]
من مسائل نوازل سئل عنها سحنون قال سحنون: أخبرني علي بن زياد عن مالك أنه
قال، في رجل حبس غلاما على رجل عشر سنين فأراد الذي حبس عليه الغلام أن
يقاطعه على شيء يأخذه منه ويضع عنه الخدمة: لم يكن ذلك له إلا أن يشاء
السيد.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه إنما حبس عليه خدمة العبد، فلا حق له
في ماله يجوز له مقاطعته على الخدمة بشيء منه، وبالله التوفيق.
(12/303)
[مسألة: حبس
دارا له على ولده وولد ولده وكان عليه دين من قبل أن يحبس]
مسألة وسئل سحنون: عن رجل حبس دارا له على ولده وولد ولده وكان عليه دين من
قبل أن يحبس فاستحدث أيضا دينا بعد الحبس. فما ترى يباع منها؟ أيباع بمقدار
الدين الأول فقط؟ أم ترى إذا بيع الدين الأول أن يدخل معهم أهل الدين
الآخر؟
قال سحنون: قد قيل: إنه يباع الدين الأول ويدخل عليه أهل الدين الآخر ولا
يدخل عليه غير ذلك.
وقد قيل أيضا: إنه إذا بيع للأول فدخل عليهم الآخرون بالحصص ويباع لهم
أيضا، إنه انتقصوهم، فإذا بيع دخل عليهم الآخرون هكذا حتى يستوفوا أو ينفذ
الحبس، فلا يكون فيه قضاء، وأصحابنا يقولون هذين القولين في العتق والحبس
مثله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم البيوع من
سماع أصبغ من كتاب المديان والتفليس، وبالله التوفيق.
[مسألة: الدار المحبسة هل يجوز بيعها]
مسألة وسئل سحنون: عن الدار المحبسة هل يجوز بيعها؟
فقال: لم يجز أصحابنا بيع الحبس على حال إلا أن يكون دارا في جوار مسجد
فيحتاج إليها لتدخل في المسجد ويوسع بها المسجد فإنهم وسعوا في بيعها في
مثل هذا، ورأى أن يشترى بثمنها دارا مثلها فتكون حبسا. وقد أدخل في مسجد
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دور كانت محبسة.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة في رسم طلق من سماع ابن
القاسم، وبالله التوفيق.
(12/304)
[مسألة: أكرى
داره خمسين سنة أو أكثر وقبض الكراء ثم مات]
مسألة قال سحنون، في رجل حبس دارا له على ولده وولد ولده: لا تباع ولا تورث
حبسا صدقة والولد صغار في حجر أو كبار بالغون فأكراها الأب المحبس من رجل
خمسين سنة أو أكثر وقبض الكراء ثم مات بعد ذلك بيسير وترك مالا أو مات
عديما لا مال له، ثم قام هؤلاء المحبس عليهم فأرادوا فسخ الكراء، هل ترى
لهم ذلك أم لا؟ وكيف إن كان الولد صغارا في حجر أبيهم وأشهد لهم الأب أنه
إنما أكرى هذه الدار لهم أو لم يشهد لهم بذلك؟ وكيف إن لم يوجد للأب مال
ورأيت فسخ الكراء، هل يباع من هذه الدار شيء قدر الكراء أم لا؟ ما القول في
ذلك كله؟.
قال سحنون: أما حبسه على الأكابر البالغين فأراه غير جائز لأنهم لم يقبضوا
-وهم ممن يقبض- حتى أغلق الكراء فيها ثم مات ولم يقم عليه.
وأما الولد الصغار فإذا أشهد لهم بالحبس وهو القابض لهم ثم فعل من إغلاقها
بالكراء إلى الأمد الذي لا يحوز له وإنما كان يجوز له أن يكري عليهم إلى
مقدار بلوغهم ونحو ذلك، فإذا مات قبل بلوغ الصغار فإن كراءه لا يجوز إلى
هذا الأمد البعيد ويفسخ ما فات منه وبعد، ويرجع الذين اكتروا بما بقي لهم
من بعدهم في مال الأب إن كان له مال، وإن لم يكن له مال فهو دين يطلب به في
الآخرة.
قال محمد بن رشد: هذا كله بين على ما قاله، أما الكبار فلما لم يحوزهم ما
حبس عليهم حتى مات وقد كان أغلق الكراء عليها وجب أن يبطل الحبس لعدم
الحيازة فيه، وإن بطل الحبس وجب أن ينفذ الكراء على ورثته في الدار إلى
الأمد الذي أكراها إليه، كمن أكرى داره خمسين سنة أو أكثر وقبض الكراء ثم
مات.
(12/305)
وأما الصغار فلا يبطل تحبيسه الدار عليهم
بكرائه إياها المدة الطويلة إذا أشهد لهم بالحبس؛ لأنه هو الناظر لهم.
وقوله: إنه يفسخ ما زاد من الكراء على قدر بلوغهم - هو على ما قاله ابن
القاسم في الجعل والإجارة من المدونة من أن الأب كالوصي لا يجوز له أن يكري
على ابنه أرضه وماله السنين الكثيرة التي يعلم أن الصبي يحتلم قبل
انقضائها، وليس إجازته الكراء عليهم إلى بلوغهم- يريد وإن انتقد- بمعارض
لما في الوصايا الثاني من المدونة أنه من أخدم عبدا حياته فلا يجوز له أن
يكريه إلا الأمد القريب السنة والسنتين والأمد المأمون من أجل أن الكراء
ينفسخ بموته؛ لأن ولد الصغار في هذه المسألة وإن كان ينتقض الكراء في حظ كل
واحد منهم بموته ويرجع إلى إخوته وهم إلى نظره فهم بخلاف الواحد في هذا؛
لأن الغرر يخف في الجماعة فتدبر ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول ثمر حائطي حبس على فلان ولا يقول
حياته ولا يجعل لذلك وقتا]
مسألة وسئل: عن الرجل يقول: ثمر حائطي حبس على فلان، ولا يقول: حياته، ولا
يجعل لذلك وقتا؟ فقال: إن كان فيها ثمر يوم قال هذه المقالة فلك ثمرة تلك
السنة.
قال محمد بن رشد: فإن لم يكن في الحائط ثمر يوم قال هذه المقالة فله ثمرة
ذلك الحائط. قاله ابن القاسم، وتابعه عليه سحنون في رسم إن خرجت من سماع
عيسى من كتاب الوصايا فيمن قال في مرضه: لفلان ثمر حائطي ولم يقل حبسا فكيف
إذا قال حبسا.
ووجه ذلك: أنه إذا كان للحائط يوم قال ذلك ثمرة احتمل أن يكون أراد تلك
الثمرة خاصة ولم يرد سواها، فوجب ألا يكون له ما سواها إلا بيقين، وإذا لم
يكن في الحائط ثمرة ذلك
(12/306)
اليوم وجب أن يكون له ثمرته فيما يستقبل
حياته لتناول لفظه لذلك تناولا واحدا، وبالله التوفيق.
[يكون حبسا على حال ما كان عليه الآخر]
من سماع محمد بن خالد وسؤاله ابن القاسم قال محمد بن خالد: سألت عبد الرحمن
بن القاسم: عن رجل حبس فرسا له في سبيل الله يحمل عليه رجلا يغزو عليه فغزا
فلما دخل الجيش أرض العدو جعل الإمام لكل من عقر له فرسه أخلفه له، ثم إن
ذلك الرجل المحمول على الفرس عقر الفرس تحته فأخلفه له الإمام غيره، فقال
ابن القاسم: أرى أن يكون حبسا على حال ما كان
عليه الآخر.
قال محمد بن خالد: وقد كنت سألت ابن نافع عن ذلك فلا أعلم إلا أنه قال
كقوله.
قلت لابن القاسم: أرأيت لو لم يكن حبسا إلا أنه حمل عليه رجلا يقضي عليه
غزاته فإذا قضاها رده إلى سيده كيف يكون هذا الفرس الذي حمل عليه؟ قال ابن
القاسم: يكون أنه يرجع إلى سيده؛ لأنه إنما جعل مكانه فكأنه لم يصب به.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال لأنه إنما أراد خلف الفرس المعقور، فوجب أن
يكون مكانه على حاله التي كان عليها من ملك أو يحبس على رجل بعينه أو في
سبيل ولا أذكر في هذا اختلافا.
[مسألة: أوصى لرجل بدار حبسا عليه حياته ولرجل
آخر بما بقي من الثلث]
مسألة وقال ابن القاسم في رجل أوصى لرجل بدار حبسا عليه حياته ولرجل آخر
بما بقي من الثلث فنظر في ماله من بعد موت
(12/307)
الموصي، فوجدت الدار كفافا من الثلث لا فضل
عنها، قال: يكون حبسا على الرجل حياته فإذا رجعت صارت إلى الذي أوصى له بما
بقي من الثلث لأنها إذا رجعت فهي بقية الثلث.
قال محمد بن خالد: سئل أشهب عن ذلك فقال كقوله، قلت لأشهب: فإن كان في
الثلث فضل عن الدار مثل ثمر الدار؟ قال: يعطاه الذي أوصى له ببقية الثلث،
ثم إذا رجعت الدار صارت إلى الذي أوصى له ببقية الثلث.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال. وهو مما لا اختلاف فيه أحفظه؛ لأن الدار إذا
كانت كفاف الثلث فمرجعها هو بقية الثلث، وإن كان في الثلث فضل عنها فللموصى
له ببقية الثلث ذلك الفضل والدار إذا رجعت؛ لأن مرجعها من بقية الثلث،
وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى فقال ما بقي من ثلثي فهو لفلان ثم
لم يوص بأكثر من ذلك حتى مات]
مسألة قال محمد: قلت: لأشهب فرجل أوصى فقال ما بقي من ثلثي فهو لفلان ثم لم
يوص بأكثر من ذلك حتى مات. قال: يعطي الموصى له ببقية الثلث ثلث الميت.
قال محمد بن خالد: قال داود بن سعيد: لا شيء له مثل قول ابن القاسم.
قال محمد بن رشد: وقعت رواية محمد هذه عن أشهب في بعض الكتب وسقطت من بعضها
والصواب ثبوتها؛ لأن رواية داود بن سعيد بعدها لا تصح أن تعطف على المسألة
التي قبلها.
ووقعت رواية محمد هذه عن أشهب في سماعه أيضا من كتاب الوصايا وفي بعض
الروايات فيها مكان ثلث الميت ثلث الثلث. فقيل: إن ذلك غلط في الرواية
وتصحيف فيها. وقيل: إنه
(12/308)
اختلاف من قول أشهب.
وقول ثالث في المسألة على ذلك حمله ابن حارث في كتاب الاتفاق والاختلاف له.
ولمالك مثل قول ابن القاسم أنه لا شيء له في رسم أسلم ورسم أوصى ورسم بع من
سماع عيسى من كتاب الوصايا.
ووجه ذلك: أنه قد كان مجمعا على أن يوصي ولا يدري لو أوصى هل كان يفضل من
الثلث شيء أم لا، ولا تكون الوصايا بالشك كما لا يكون الميراث بالشك.
ووجه قول أشهب: أنه لما لم يوص بشيء بعد أن جعل لهذا ما بقي من الثلث فقد
أبقى له جميع الثلث؛ فلكلا القولين وجه.
وأما أن يكون له ثلث الثلث على ما وقع لأشهب في بعض الكتب فهو بعيد لا حظ
له في النظر، ولو قيل: إنه يكون له نصف الثلث لكان قولا له وجه؛ لأنه يقول
لي جميع الثلث؛ لأن الميت لما لم يوص فيه بشيء فقد تركه كله لي، ويقول له
الورثة: لا شيء لك إذ لم يوص فيعلم ما يبقى لك بعد وصاياه، فيقسم بينهما
الثلث بنصفين على هذا الوجه، وبالله التوفيق.
[: قال خذوا من مالي مائة فأنفقوها في داري
التي حبست في سبيل الله فاستحقت الدار]
من سماع عبد الملك من ابن وهب قال عبد الملك: سألت ابن وهب: عمن قال: خذوا
من مالي مائة فأنفقوها في داري التي حبست في سبيل الله، فاستحقت الدار؟
قال: ترد المائة إلى الورثة، قيل له: فإن كانت أنفقت في الدار؟ قال: إن
أنفقت أو أنفق بعضها رد جميعها إلى الورثة.
قال محمد بن رشد: يريد أنه كما ترد إذا لم ينفق إلى الورثة، فكذلك يرد
إليهم ما أخذ من المستحق إن كانت قد أنفقت؛ لأنهم لما كان لهم أن يأخذوا من
المستحق ما أنفقه في الدار أو قيمة البنيان قائما على الاختلاف المعلوم في
ذلك فكأن المائة قائمة، وبالله التوفيق.
(12/309)
[: الرجل يسكن
الرجل الدار عشرين سنة ثم المرجع إليه فيبيع المرجع]
من سماع أصبغ بن الفرج من ابن القاسم من كتاب البيع والصرف قال أصبغ: سمعت
ابن القاسم، يقول في الرجل يسكن الرجل الدار عشرين سنة ثم المرجع إليه
فيبيع المرجع: إنه لا خير فيه؛ لأنه غرر، ولا يدري كيف يرجع؟ ولو كان ذلك
أيضا مزرعة وما أشبه ذلك لم يكن به بأس أو سكنى قرية مأمونة فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: وقع في بعض الروايات مكان "أو سكنى قرية مأمونة": أو سكنى
قريبا مأمونا.
والمعنى في الروايتين صحيح؛ لأن قوله: أو سكنى قرية مأمونة، يريد: من تغير
بنائها إلى الحد الذي استثناه، وأما قوله "أو سكنى قريبا مأمونا" فلا إشكال
في معناه.
وقد مضى القول على هذه المسألة في رسم البيوع الأول من سماع أشهب. وذكرنا
هناك ما فيها من الاختلاف ووجهه فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: حبس داره على رجل فقال لا تباع ولا توهب ثم
بدا له أن يبتلها]
ومن كتاب الوصايا والأقضية قال أصبغ: وسمعت ابن وهب، وسئل: عن رجل حبس داره
على رجل، فقال: لا تباع ولا توهب، ثم بدا له أن يبتلها، فقال له: هي عليك
صدقة، فقال: هي له يصنع فيها ما يشاء، فروجع فيها، وقال: إنه لم يقل ذلك،
إنما قال: هي حبس عليك أو قد حبستها عليك لا تباع ولا توهب، ثم بدا له،
فقال: الذي حبست عليك هو صدقة عليك
(12/310)
إنما أبتله لك الساعة فهو له يصنع به ما
شاء، وذلك جائز لأنه يجوز له أن يتصدق بماله.
قال أصبغ: ولا يقول ذلك ويقول هي حبس أبدا ومجراها مجرى الحبس المؤبد بعد
موته، قيل له: فإن قال حبس عليك وعلى عقبك ثم أراد أن يبتلها له الساعة،
فقال: لا يجوز له ذلك إذا أشرك معه غيره فليس ذلك له ولا يجوز.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ يأتي على قول مالك في المدونة لأنه لم يختلف
قوله فيها أنه إذا قال حبسا صدقة أو قال حبسا لا يباع أنها لا ترجع إلى
المحبس ملكا، وإنما ترجع إلى أقرب الناس بالمحبس حبسا فإذا لم ترجع إليه
على قوله فيها ملكا فلا يجوز له أن يبتلها ويبطل المرجع إذ قد انبتت منه
ووجب المرجع لأقرب الناس حبسا عليه كما قال أصبغ.
وعلى قول مالك في مختصر ابن عبد الحكم أنها ترجع إليه ملكا. وإن قال حبسا
صدقة يجوز له أن يبتلها. وإن قال: لا تباع ولا توهب؛ لاحتمال أن يكون أراد
بقوله صدقة أي صدقة عليه ما عاش وأن يكون أراد بقوله لا تباع ولا توهب أي
لا تباع ولا توهب ما عاش.
فلم ير على ما في كتاب ابن عبد الحكم من قول مالك، وهو مثل قول ابن وهب هذا
لن يرتفع ملك المحبس عن الحبس إذا حبسه على معين إلا بيقين، فقول ابن وهب
وأصبغ جاريان على اختلاف قول مالك، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال داري لفلان يسكنها أيستغلها]
مسألة وسئل: عن رجل قال داري لفلان يسكنها أيستغلها؟ قال: نعم هو يستغلها
إن شاء سكن وإن شاء استغل.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إنه إذا قال يسكنها فله أن يستغلها
(12/311)
وإذا قال يستغلها فله أن يسكنها لأنه قد
أباح له منفعتها في الوجهين فله أن يأخذها كيف شاء إن شاء بسكناه فيها وإن
شاء باستغلاله لها، وأما إن حبسها على أن يسكنها أو على أن يستغلها بشرط
فلا يكون له أن يخالف ما شرط عليه فيها من السكنى والاستغلال، إذ قد يكون
له غرض فيما اشترط من ذلك عليه، فيلزمه الشرط لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المسلمون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم
حلالا» .
[مسألة: قال داري لفلان يسكنها وفلان يستغلها
ولفلان رقبتها]
مسألة وسئل: عن رجل قال: داري لفلان يسكنها وفلان يستغلها ولفلان رقبتها
فتعدى رجل على بيت في الدار فهدمه، قال: يغرم قيمته، قيل له: فقد غرمها لمن
يكون؟ قال: يبنى بها ذلك البيت، قيل له: فلصاحب الرقبة شيء؟ قال: لا حتى
يموت هذان يسكنها هذا ويستغلها هذا، فإذا انقرض هذان كانت الدار لصاحب
الرقبة، قيل له: فإن انهدمت الدار؟ قال: إن أحب هؤلاء -يريد: صاحب السكنى
وصاحب الغلة- أن يبنوا، قيل: فبنوا أي شيء يكون لهم؟ قال: يسكنوا ويستغلوا
على ما كانت ويكون لهم ما أنفقوا على الذي جعلت له الرقبة؛ لأن الدار تصير
إليه، قيل له: فإن قالا لا نبني ليس عندنا شيء؟ قال: يقال لصاحب الرقبة
ابن، فإذا بنى كان له أن يستوفي منها قيمة ما بنى من غلة الدار في معنى
قوله فإذا استوفى قيمة ما بنى كانت الدار لهذين صاحب الغلة وصاحب السكنى
حتى
(12/312)
يموتا، فإذا ماتا رجعت إلى الذي جعلت له
الرقبة.
قيل: فمات أحدهما صاحب الغلة؟ قال: إذا مات أحدهما رجع نصيبه إلى صاحب
الرقبة.
قيل: فإن كانت الدار هي الثلث، قال: كيف يكون الثلث؟ قال السائل: أوصى
فقال: داري لفلان يسكنها وفلان يستغلها ولفلان رقبتها، فإذا هي الثلث سواء،
فتوفي صاحب الغلة أو السكنى، فقال: نعم أما إذا مات أحدهما رجع نصيبه إلى
الذي جعلت له الرقبة؛ لأنه بمنزلة صاحبها لو كان حيا.
قال محمد بن رشد: معنى قوله لفلان يسكنها وفلان يستغلها أن يكون للذي جعل
له سكناها أن يسكنها بقيمة سكناها، فيكون الكراء للذي جعل له استغلالها،
فإن مات صاحب الغلة رجع نصيبه إلى صاحب الرقبة كما قال؛ لأنه إنما جعل له
استغلالها طول حياته لا أكثر، وإن مات صاحب السكنى رجع ما كان من الحق له
في ذلك إلى صاحب الرقبة على ما قاله في آخر المسألة إذا كان ذلك في وصية
فيتحمل الدار الثلث، إذ لا فرق بين أن يقول ذلك في صحته أو في وصيته، فيحمل
الدار الثلث.
ولم يجر في انهدام على أصل؛ لأنه قال: إن بناها صاحب السكنى والغلة سكن هذا
واستغل هذا على ما كانا عليه، ورجعا بنفقتها على صاحب الرقبة، وإن بناها
صاحب الرقبة كان له أن يستوفي نفقته من غلتها فجعل البنيان إذا بناها صاحب
صاحب الغلة على صاحب الرقبة إذ أوجب له الرجوع عليه.
وإذا بناها صاحب الرقبة على صاحب الغلة إذ أوجب له أن يستوفي نفقته من
غلتها وإنما في المسألة قولان على ما في كتاب الجنايات من المدونة في الرجل
يوصي بخدمة عبده لرجل وبرقبته لآخر فيجني العبد جناية، أحدهما أن البنيان
على صاحب الرقبة فإن بناها هو لم يكن له سبيل إلى الدار حتى يموت صاحب
الغلة، وإن بناها صاحب الغلة كانت له الغلة على حالها ورجع بنفقته على صاحب
الرقبة.
والقول الثاني: أن البنيان على صاحب الغلة فإن بناها هو اغتل على ما كان له
من حقه،
(12/313)
ولم يكن له رجوع على صاحب الرقبة بشيء من
نفقته، وإن بناها صاحب الرقبة كان له أن يستوفي حقه من كرائها.
وعلى القول بأن البنيان على صاحب الغلة يكون هو المبدأ بالتخيير بين أن
يبني أو يترك، ويختلف على القول بأن البنيان على صاحب الرقبة هل يكون هو
المبدأ بالتخيير بين أن يبني أو يترك أو صاحب الغلة. والقولان قائمان من
المدونة من مسألة العبد المخدم التي ذكرناها. فهذا وجه القول في هذه
المسألة، وبالله التوفيق.
[مسألة: يحبس الدار على فقراء بني فلان
فيستغنوا]
مسألة وسئل: عن الذي يحبس الدار على فقراء بني فلان فيستغنوا.
قال: ينزع منهم وترجع إلى عصبة المحبس، فقيل: له ابنة واحدة؟ فقال: ليس
النساء عصبة إنما ترجع إلى الرجال، قيل له: فافتقر بعض بني فلان؟ قال: تنزع
من العصبة وترد إليهم.
قال أصبغ مثله، إلا قوله في البنت فهي عصبة لأنها لو كانت رجلا في مرتبتها
كانت عصبة، وأراه كله له.
قال محمد بن رشد: قوله إذا حبس الدار على بني فلان فاستغنوا إنها ترجع إلى
عصبة المحبس صحيح؛ لأنهم غير معينين، فإنما قصد الفقر والحاجة لكثرة الأجر
في ذلك دون التعيين، ولو عين المحبس عليهم وسماهم فقال هذه الدار حبس على
فلان وفلان وفلان الفقراء من بني فلان فاستغنوا لم تنتزع منهم، وكانوا أحق
بها وإن استغنوا بطول حياتهم؛ لأن قوله الفقراء إذا سماهم إنما هو زيادة في
بيان التعيين لهم بما وصفهم به، كما لو قال الجمال أو العمال أو العلماء أو
الحلماء لم يسقط حقهم بانتقالهم من تلك الصفة إلى غيرها.
فلا يبعد دخول الاختلاف في تحبيس الرجل داره على الفقراء من بني فلان بأن
يحكم لهم بحكم التعيين فلا يسقط حقهم باستغنائهم لا سيما إذا علم المحبس
منهم الفقير من الغني كما قال ابن الماجشون فيمن حبس على ولده إنه يساوي
بينهم في الحبس وإن كان بعضهم فقراء وبعضهم أغنياء. وعلى
(12/314)
قول من قال: إن من مات منهم بعد طيب الثمرة
فقد وجب حقه فيها لورثته. وقد ذكرنا ذلك والاختلاف فيه في أول رسم من سماع
ابن القاسم.
وأما قوله إن النساء لسن عصبة، فهو خلاف مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك.
وقد مضى تحصيل ذلك في أول رسم من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى في مرضه فقال داري حبس على ولدي
وعلى امرأتي]
مسألة قال أصبغ: وسألت ابن وهب: عن رجل أوصى في مرضه فقال داري حبس على
ولدي وعلى امرأتي ثم مات ولا مال له غيرها، قال: يخرج ثلثها فيكون حبسا على
الفرائض على جميع ورثته كلهم من سمى ومن لم يسم، ويكون الثلثان ميراثا، قال
أصبغ مثله، وله تفسير، وتفسيره أن يكون غلتها على الفرائض ما دام أعيان
الولد حيا وغير ذلك من الوجوه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال أصبغ إن له تفسيرا لأنه حبس في وصيته على
وارث وغير وارث، فوجب أن يكون ما ناب الوارث من الحبس بين جميع الورثة إلا
أن يجيزوا ذلك له، حكم من حبس في مرضه على ولده وولد ولده وقد مضى الكلام
على ذلك في رسم القطعان من سماع عيسى، وفي سماع يحيى، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى فقال داري على ولدي وعلى فلان أخي
حبس كيف يقسم]
مسألة وسئل ابن وهب: عمن أوصى فقال داري على ولدي وعلى فلان أخي حبس كيف
يقسم؟ قال: ينظر إلى العدد، فإن كانوا خمسة كان للأخ خمس ذلك، وكان ما بقي
على الفرائض. وقال أصبغ مثل التي فوقها لو كان مع الولد ولد.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة مثل التي فوقها والقول فيها ما قال أصبغ؛ لأنه
حبس في مرضه على ولده وولد ولده. وقد مضى القول على
(12/315)
ذلك في رسم القطعان من سماع عيسى وفي سماع
يحيى، وبالله التوفيق.
[مسألة: أعتق أمته ثم تزوجها ثم قال داري حبس
على موالي]
مسألة وقال أصبغ: سألت ابن وهب عن رجل أعتق أمته ثم تزوجها ثم قال داري حبس
على موالي، فقال: أراها من الموالي.
قلت له: إنها وارث، قال: متى قال ذلك في الصحة منه؟
قلت: نعم.
فقال: الرجل يصنع في ماله ما شاء وقد حبس ابن عمر على امرأته.
قلت: فإن قال ذلك في وصيته؟
قال: في هذا شيء.
قلت: فأي شيء ترى في هذا؟ قال: أرى أنها من مواليه.
قلت: إن تقاسما أليس لها الثمن؟
قال: تأخذ الثمن وترجع تأخذ مع الموالي فيما صار لهم ويدخل الورثة معها
فيما صار لها مما أخذت مع الموالي على فرائض الله، فإن مات أحد من الورثة
فورثته بمنزلته ما عاشت حتى تموت، فإذا ماتت انقطع حقوق الورثة ورجع الذي
كان لها إلى الموالي الذين حبس عليهم. قال أصبغ: جيدة صحيحة.
قال محمد بن رشد: هذه مثل المسألتين اللتين فوقها؛ لأنه إذا حبس على مواليه
وامرأته من مواليه لأنه اعتقها ثم تزوجها فقد حبس على وارث وغير وارث فوجب
أن يدخل سائر الورثة معها فما نابها من الحبس مع الموالي حتى تموت فيرجع
ذلك كله إلى الموالي.
فقوله: إن تقاسما أليس لها الثمن، قال: تأخذ الثمن، معناه: أنها تأخذ الثمن
مما تخلفه زوجها سوى الدار، ثم ترجع فتأخذ مع الموالي ما يجب لها من الدار
المحبسة إذا قسم الحبس عليها وعلى سائر الموالي لأنها من الموالي فيما
نابها منه على عددهم دخل جميع الورثة عليها فيه، فيكون لها منه الثمن إن
كان لزوجها الموصي ولد أو الربع إن لم يكن له فإن مات أحد من الورثة فورثته
بمنزلته ما عاشت حتى تموت، فإذا
(12/316)
ماتت انقطع حقوق الورثة ورجع الذي كان لها
إلى الموالي الذين حبس عليهم كما قال، يريد ويرجع أيضا سائر ما بأيدي
الورثة من الدار المحبسة عليهم لانقطاع حقوقهم منها بموت الزوجة. فهذا
تفسير ما في الرواية من مشكل ألفاظها، والله الموفق.
[: قال غلامي فلان حبس على فلان فإن مات فهو حر]
ومن كتاب الوصايا قال: وسمعت ابن القاسم وسئل: عن رجل قال غلامي فلان حبس
على فلان فإن مات فهو حر، وإن مت فهو حبس على فلان أو صدقة على فلان أو
قال: فرسي هذا حبس على فلان فإن مت فهو في سبيل الله، ثم لم يزل العبد في
يديه والفرس حتى هلك.
قال: أرى أن يعتق الغلام في الثلث بعد موته ويخرج الفرس في سبيل الله بعد
موته من الثلث أيضا.
قال محمد بن رشد: أما إذا لم يخرج الغلام أو الفرس من يد المحبس حتى مات
كما قال في الرواية، أو كان قد دفعها إليه فرجع إليه بموته على حكم التحبيس
على معين فلا اختلاف في أنه يكون بعد موته من الثلث في الوجه الذي جعله
فيه، وأما إن دفعه إلى المحبس عليه فمات المحبس وهو في يد المحبس عليه.
فاختلف هل يكون من رأس المال أو الثلث، ذهب ابن لبابة إلى أنه يكون من رأس
المال. والصحيح أنه يكون من الثلث حسبما مضى القول فيه في أول سماع ابن
القاسم.
[: حبس داره على قوم حياتهم فلما انقرضوا رجعت
الدار]
من مسائل نوازل سئل عنها أصبغ قال أصبغ فيمن حبس داره على قوم حياتهم فلما
انقرضوا رجعت الدار وليس للميت إلا بنات أخ وأخت لأمه، قال: فبنات
(12/317)
الأخ أولى من أخته لأمه. قيل: فإن لم يكن
له إلا الأخت لأمه؟ قال: لا يرجع إليها من الدار شيء.
قال محمد بن رشد: أما الأخت للأم فلا مدخل لها في مرجع الحبس باتفاق إلا أن
تكون من بنات العم، فقوله إن بنات الأخ أولى منها يبينه قوله بعد ذلك إنه
لا يرجع إليها من الدار شيء وإن لم يكن له غيرها. وكذلك الخالات وبنو
الأخوات.
وأما الأخوات الشقائق والتي لأب فيدخلن في مرجع الحبس على اختلاف قد مضى
تحصيله في أول سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[مسألة: بيع الوقف والاستبدال به]
مسألة وسئل أصبغ: عن رجل قام احتسابا فجمع من قوم مالا على أن يشتري مملوكا
يقوم باستقاء الماء في المسجد الجامع ويخدم فيه، فاشترى هذا المحتسب بما
اجتمع في يديه مملوكا بالغا، فكان يستقي الماء في السقاية ويخدم ويرش سنين،
وكان ينتهي إلى أمر هذا المحتسب وكان المحتسب هو القائم بأمر المسجد ثم إن
المملوك تعاصى وتخلق عليه وامتنع من المسجد ومن الاستقاء والخدمة، أفيجوز
لهذا المحتسب أن يبيعه ويشتري به آخر مكانه يقوم بما يقوم به هذا؟ قال
أصبغ: لا أرى بذلك بأسا إذا كان وجه النظر والاختلاف.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال أصبغ إن بيعه والاستبدال به جائز إذا تخلق
وامتنع من الخدمة، ولا يدخل في هذا عندي الاختلاف في جواز بيع العبيد
والثياب المحبسة في السبيل حسبما ذكرناه في رسم طلق من سماع ابن القاسم، إذ
لم يحبسه مالكه، وإنما حبسه المحتسب بما جمع من أموال الناس، فلا تقوى
حرمته في التحبيس من أموال الناس، وبالله التوفيق.
(12/318)
[: كتاب القراض]
[مسألة: اصطراف صاحب المال من المقارض قبل أن
يعمل بالمال]
كتاب القراض من سماع ابن القاسم من مالك رواية سحنون
من كتاب الرطب باليابس قال سحنون: قال عبد الرحمن بن القاسم: قال مالك: لا
ينبغي أن يصطرف صاحب المال من صاحبه الذي قارضه قبل أن يعمل. ولا بأس أن
يشتري منه الثوب والثوبين أو يوليه إذا صح.
قال محمد بن رشد: أما اصطراف صاحب المال من المقارض قبل أن يعمل بالمال
فالمكروه فيه بين، والذي يدخله الصرف المتأخر؛ لأنه إذا كان رأس مال القراض
ورقا فصرفه بذهب، وذهبا فصرفه منه بورق كان قد رجع إليه رأس ماله وصار قد
أعطاه ذهبا على أن يرد إليه عند المفاصلة ورقا أو ورقا على أن يرد إليه عند
المفاصلة ذهبا.
فيتهمان على القصد إلى ذلك والعمل به فإن وقع ذلك في اليسير من رأس المال
صدقا على أنهما لم يعملا على ذلك وجاز القراض.
وإن وقعت المصارفة في جميع رأس المال أو في جله لم يصدقا ووجب أن يفسخ
القراض إلا أن يفوت بالعمل فيردان فيه إلى إجارة المثل على أصل ابن القاسم
وروايته عن مالك في هذا النوع من الفساد في القراض، وسواء صارفه فيما دفع
إليه من الدنانير أو الدراهم قبل أن يغيب
(12/319)
عليها أو بعد أن غاب عليها، إلا أن المكروه
فيها قبل أن يغيب عليها أبين.
وقوله لا بأس أن يشتري منه الثوب والثوبين، معناه: لا بأس أن يشتري العامل
من رب الثوب والثوبين لنفسه خاصة لا للتجارة، أو يولي من رب المال العامل
الثوب والثوبين لنفسه خاصة أيضا لا للتجارة، وفي كتاب محمد بيان هذا.
وأما إن باع رب المال من العامل سلعة أو ولاه إياها للتجارة فهذا الذي قال
فيه في المدونة لا يعجبني أن يعمل به لأني أخاف إن صح هذا من هذين لا يصح
من غيرهما.
ولابن القاسم في كتاب ابن المواز أن قول مالك اختلف في ذلك؛ لأنه وجد في
كتاب عبد الرحمن أن مالكا خففه، وقال: لا بأس به إذا صح الأمر بينهما
فالخلاف في هذا عندي إنما يرجع إلى التصديق في وقوع الأمر بينهما على
الصحة، فلم يصدقهما في المدونة وصدقهما في رواية عبد الرحمن عنه. هذا عندي
إذا وقع الشراء في المال الذي دفع إليه قبل أن يصرفه كان قد غاب عليه أولم
يغب عليه.
وأما إن وقع الشراء بما نض بيد العامل مما باعه من السلع التي اشترى
للقراض، فيصدقان على أنهما لم يعملا على ذلك قولا واحدا والله أعلم، والذي
أراه في هذه المسألة أن يصدقا إذا اشترى باليسير من مال القراض، وألا يصدقا
إذا اشترى بجميعه أو بجله؛ لأنهما يتهمان على القصد إلى القراض بالعروض.
فهذا الذي أراه قول ثالث في المسألة.
وأما شراء العامل من رب المال جميع سلع القراض أو ما بقي بعد المفاصلة منها
بثمن إلى أجل ففي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أن ذلك جائز. وهو قول الليث بن سعيد ويحيى بن سعيد. وروى مثله ابن
وهب عن مالك، ومثله حكى ابن حبيب في الواضحة عن أصحاب مالك حاشى ابن القاسم
في شراء ما بقي من السلع بعد المفاصلة، ولا فرق بين شراء جميعها وبين شراء
ما بقي منها بعد المفاضلة.
والثاني: أن ذلك لا يجوز ويفسخ وإن فات كانت فيه القيمة. وهو قول ابن
القاسم في كتاب ابن المواز. ومعنى ذلك إذا اشتراها
(12/320)
بأكثر من رأس المال واشترى بقيتها بأكثر
مما بقي من رأس المال. وأما إن اشتراها بمثل رأس المال فأقل واشترى بقيتها
بمثل ما بقي من رأس المال فأقل فلا اختلاف في أن ذلك جائز.
وذلك بين مما وقع في رسم تأخير صلاة العشاء في الحرس من سماع ابن القاسم
بعد هذا، ومما وقع في رسم القطعان من سماع عيسى أيضا.
والقول الثالث: الفرق بين أن تكون السلع حاضرة أو غائبة، فإن كانت حاضرة لم
يفسخ البيع إذا فات، وإن كانت غائبة فسخ البيع في القيام ورد إلى القيمة في
الفوات.
وكذلك إذا اشترى العامل بعض سلع القراض بأكثر من قيمتها إلى أجل يدخل في
ذلك الثلاثة الأقوال المذكورة.
مثال ذلك: أن يدفع الرجل إلى الرجل مائة دينار قراضا يشتري بها سلعا فيعرض
إحداها للبيع وشراؤها عشرة فلا يعطى فيها إلا ثمانية، فيقول العامل أنا
أبتاعها منه بعشرة إلى أجل، فلا يجوز ذلك لأنه يؤخره لئلا يخسر من رأس ماله
شيئا.
وجه القول الأول بأن ذلك جائز - هو أنه كأنه قد التزم السلع برأس ماله
فيتفاضلا في القراض ثم باعها من العامل.
ووجه القول الثاني بأن ذلك لا يجوز - هو أنه لو طلبه برأس ماله لم ينض له
منه إلا ثمانون فأخره بها على أن يأخذ منه مائة.
ووجه القول الثالث في الفرق بين أن تكون السلع حاضرة أو غائبة - هو أنه إذا
كانت حاضرة ارتفعت التهمة؛ لأنه باع ما رأى بعد أن رضيه والتزمه، وإذا كانت
غائبة لعلها لم تكن ثم سلع أصلا، والمال قد خسر فيه فرجع ثمانين فأخره به
على أن يأخذ منه مائة بشراء العامل من رب المال سلعة من غير سلع القراض قبل
أن يعمل فالقراض لا يجوز بالنقد، ويجوز إلى أجل، وشراؤه سلعة من سلع القراض
لا تجوز إلى أجل ويجوز بالنقد، وأما شراء رب المال من العامل سلعة من
القراض أو من غير القراض فيجوز بالنقد وإلى أجل، وبالله التوفيق.
(12/321)
[مسألة:
يأخذالمقارض من شريكه ربحا ذهبا من غير الذهب التي هي بينهما]
مسألة قال مالك: لا بأس أن يأخذ المقارض من شريكه ربحا ذهبا من غير الذهب
التي هي بينهما، قال: يدفع إليه ربحه من ماله ثم يأخذه من مال القراض.
وسئل عنها سحنون، فقال: لا يجوز أن يعطيه ربحا من غير ربح القراض إلا أن
يكون حاضرا فيكون يدا بيد وزنا بوزن.
قال محمد بن رشد: رأيت لبعض أهل النظر في هذه المسألة أنه قال فيها: قول
سحنون جيد؛ لأن ربحه ليس في ذمة العامل في المال وإنما هو في المال نفسه،
فلا يجوز أن يعطيه من غيره إلا أن يكون مال القراض حاضرا لأنه إذا لم يكن
حاضرا دخله دراهم حاضرة بدراهم غائبة أو ذهب حاضرة بذهب غائبة.
وهو تعليل جيد لقول سحنون إذا كان إنما أعطاه الربح من ماله على سبيل
الاشتراء منه للربح الذي في يده من مال القراض.
وقول مالك جيد أيضا إذا كان إنما أعطاه الربح من ماله على سبيل السلف له
حتى يقتضيه من الربح الذي في يده من مال القراض.
ولو نص في ذلك على السلف فقال أنا أسلفك الربح الذي يجب لك من مالي حتى
أقبضه من مال القراض لما قال سحنون في ذلك إنه لا يجوز، ولو نص في ذلك أيضا
على الشراء فقال أنا اشتري منك الربح الذي لك في المال القراض هذا الذهب
الذي أدفعه إليك من مالي لما قال مالك إن ذلك لا بأس به.
فحصل الاختلاف بين مالك وسحنون، إنما هو ما يحمل عليه على الأمر عند
الإبهام، فحمله مالك على السلف فأجازه، وحمله سحنون على البيع فلم يجره،
فهذا وجه القول في هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[مسألة: مقارض باع بدين أو سلف في طعام ثم كره
التقاضي]
مسألة قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول في مقارض باع بدين أو
(12/322)
سلف في طعام ثم كره التقاضي فأسلم ذلك برضا
صاحب المال، قال: لا بأس بذلك، وهو مثل الموت إذا أسلمه الورثة. أنكرها
سحنون.
قال محمد بن رشد: هذا من قول مالك مثل ما يأتي في رسم الشجرة بعد هذا،
وإنكار سحنون لجواز هذه المسألة صحيح؛ لأن الورثة لا يلزمهم تقاضي دين
القراض ولا تنضيضه، وهو حق لهم إن طلبوه فكان من حقهم أن يسلموه فيكونون
بإسلامهم إياه قد وهبوا لرب المال ما عمل موروثهم في المال. فلا معنى في
جواز ذلك.
وأما المقارض فتقاضى دين القراض وتنضيضه واجب عليه، لرب المال أن يأخذه به،
ويلزمه الاستئجار عليه من ماله إن أبى أن يليه بنفسه كما لا يجوز أن يستأجر
على ذلك بنصيبه من الربح.
فكذلك لا يجوز له أن يسلمه إلى رب المال؛ لأنه إذا أسلمه إليه فكأنه قد
استأجره على تقاضي الدين وتنضيض المال بالجزء الواجب له من الربح، فالأظهر
أنه لا يجوز.
ووجه القول بجوازه أنه إذا أسلمه إليه فقد وهب ما تقدم من عمله فيه، ولم
يكن كأنه استأجره عليه بجزء من الربح، إذ لا يلزمه إذا أسلمه تقاضي الدين
ولا تنضيض المال؛ لأنه ماله يفعل فيه ما شاء إن شاء تقاضاه وباع الطعام حتى
يصير عينا، وإن شاء وهب الدين أو أكل الطعام إذا قبضه ولم يصيره عينا كما
دفعه إلى المقارض الذي أسلمه إليه. فعلى هذا أجازه مالك بقوله: وهو مثل
الموت إذا أسلمه الورثة.
معناه: هو مثله في أن ذلك جائز وإن كان وجه الجواز في ذلك مختلفا، يجوز في
الورثة من أجل أن تنضيض المال لا يلزمهم ويجوز في المقارض من أجل أن رب
المال لا يلزمه تنضيض ماله، وبالله التوفيق.
[: من استأجر أجيرا فليعلمه أجره]
ومن كتاب حلف ألا يبيع سلعة وسئل مالك: عن الرجل يدفع إلى الرجل المال
القراض فيقيم
(12/323)
في يديه أياما ويتجهز بذلك يريد سفرا
فيلقاه صاحب المال فيقول له: هل لك أن أخرج معك؟ فأخرج ذهبا آخر مثل الذي
أعطيتك ونشترك جميعا.
قال مالك: ما أرى أمرا بينا وما يحضرني فيه مكروه، وكأنه خففه من غير
تحقيق.
وقال ابن القاسم: ولا أرى بذلك بأسا إذا صح على غير موعد ولا رأي ولا عادة.
قال أصبغ: لا خير فيه، قال سحنون: هو الربا بعينه.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم مفسر لقول مالك؛ لأن مالكا إنما خفف ذلك
على السلامة على التواطي على ذلك من قبل أن يتجهز بالمال، إذ لو أتاه قبل
أن يتجهز بالمال لما جاز؛ لأنه يصير كأنه استأجره على أن يعمل معه في ماله
على أن له نصيبا من ربحه، وكرهه أصبغ وقال لا خير فيه مخافة أن يكون تواطأ
معه على ذلك قبل أن يتجهز بالمال.
فإن وقع ذلك مضى ولم يفسخ على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، وفسخ على
مذهب أصبغ ما لم يفت بالعمل، فإن فات مضى وكان العامل في عمله على شرطه من
الربح.
وأما على مذهب سحنون الذي قال فيه: إنه هو الربا بعينه فينفسخ متى ما عثر
عليه، ويكون الربح كله لرب المال ويكون للعامل أجرة مثله، وإنما قال فيه
إنه الربا بعينه على سبيل التجوز في اللفظ إرادة التغليظ في المنع منه، إذ
ليس بربا بعينه كما قال، وإنما هو على مذهبه استئجار للعامل على عمله معه
بجزء من ربح المال، وذلك ما لا يحل ولا يجوز.
لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من استأجر أجيرا فليعلمه أجره» ،
ولقوله: «من استأجر أجيرا فليواجر بأجر معلوم إلى أجل معلوم» ، وكنهيه عن
بيع الغرر، والإجارة بيع
(12/324)
من البيوع لا يجوز فيها الغرر والمجهول،
فلما كان ذلك لا يحل كما لا يحل الربا قال فيه إنه ربا، وبالله التوفيق.
[مسألة: إذا خرج في حاجة نفسه فضت نفقته على
نفقة مثله وعلى مال القراض]
مسألة وسئل مالك عن رجل تجهز يريد اليمن فجاءه رجل ليلة يخرج فقال له: خذ
مني هذا المال قراضا فأخذه الرجل فخرج به فاشترى به رقيقا نحوا من ستين
رأسا، فأصيب منهم بضعة وأربعون، فقدم الرجل فطلب أن يعطى نفقته من مال
الرجل، قال مالك: أرى أن تحسب نفقته كم تكون إلى اليمن في ذهابه ورجعته، كم
هو؟ فإن كانت قيمة ذلك مائة دينار والذي دفع إليه الرجل سبعمائة دينار رأيت
أن يحمل على صاحب المال سبعة أجزاء من ثمانية، وعلى العامل جزء من ذلك.
فعلى هذا يحتسب قل المال أو كثر أو كثرت النفقة أو قلت.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنه تجهز في السفر في حاجة نفسه لا
للتجارة بماله.
ولو كان إنما تجهز للتجارة بماله لوجب أن نكون النفقة مفضوضة على المالين،
ماله الذي خرج للتجارة به، ومال الرجل الذي دفعه إليه.
ومثل هذا في المدونة أنه إذا خرج في حاجة نفسه فضت نفقته على نفقة مثله
وعلى مال القراض، وفي كتاب محمد أنه ينظر إلى قضاء حاجته فيجعل ذلك رأس مال
تفض عليه وعلى مال القراض. قال محمد: وهو استحسان.
فالقياس أن تكون النفقة عليه كما إذا خرج حاجا أو غازيا فأعطاه رجل مالا
قراضا فخرج به، وهو قول ابن عبد الحكم.
وسحنون بأنه لا شيء من النفقة على مال القراض إذا خرج في حاجة نفسه عما إذا
خرج حاجا أو غازيا.
قال أبو إسحاق التونسي: ولعل ابن القاسم أراد أنه خرج لإصلاح ضيعته، فتكون
نفقته مقدرة بإصلاح ماله، فجعل ذلك رأس مال
(12/325)
تفض عليه النفقة مع مال القراض، وأما لو
خرج لزيارة أهله أو لغير إصلاح ماله لا نبغي ألا يكون على المال القراض شيء
من نفقته كما لو خرج حاجا أو غازيا. هذا معنى قوله دون لفظه، وبالله
التوفيق.
[: المقارض يسأله السائل فيعطيه الكسرة]
ومن كتاب أوله شك في طوافه وسئل مالك عن المقارض يسأله السائل فيعطيه
الكسرة، قال: لا بأس بذلك، وكذلك الثمرات والماء يسقيه السائل فلا بأس
بذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه من الشيء اليسير الذي لا يتشاح في
مثله.
والأصل في ذلك قول الله عز وجل {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى
الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61] إلى قوله
{أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور: 61] فإذا لم
يكن على الوكيل حرج في الأكل من مال موكله الذي اؤتمن عليه وجعلت مفاتحه في
يديه دون علم موكله. بنص القرآن ما جرت به العادة من الشيء اليسير الذي لا
يتشاح في مثله جاز ذلك للمقارض في المال الذي بيده؛ لأنه مؤتمن عليه ولذلك
قال الليث في المقارض المقيم الذي لا نفقة له في المال إنه لا بأس أن يتغدى
منه بالأفلس إذا اشتغل بالتجارة في السوق، فإذا جاز له أن يأكل هذا القدر
وإن لم يجب له فيه نفقة كان أحرى أن يجوز له التصدق به، فيكون له في ذلك من
الأجر إن شاء الله بقدر ما له فيه من الربح.
وكذلك الوصي أيضا يعطي السائل من مال يتيمه يرجو بركة ذلك لليتيم.
وليس قول مالك في هذه الرواية عندي بخلاف قوله في موطئه إنه لا يهب منه
شيئا ولا يعطي منه سائلا ولا غيره؛ لأن المعنى
(12/326)
في ذلك إنما هو فيما كثر وخرج عن حد ما لا
يتشاح في مثله، وبالله التوفيق.
[مسألة: يعطيه قراضا فيشتري به طعاما فيقول له
رب المال بع جملة]
مسألة وسئل مالك: عن الرجل يعطي الرجل المال القراض فيشتري به طعاما ثم
يأتي به إلى السوق ويريد بيعه، فيقول صاحب المال بع جملة واقبض الثمن،
ويقول المقارض البيع على يدي أكثر للربح، وأنا أريد أن أبيع على يدي، قال:
ينظر في ذلك إلى الذي يرى أنه وجه الشأن فيه، فيحملان عليه ولا ينظر في قول
واحد منهما.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن لكل واحد منهما حقا في المال،
فوجب ألا يغلب قول واحد منهما على صاحبه وأن يسأل عن ذلك أهل المعرفة به،
فمن رئي الصواب في رأيه منهما حملا عليه، وبالله التوفيق.
[مسألة: أخذ العامل في القراض ربحه بإذن رب
المال وترك هو ربحه في المال]
مسألة وسئل مالك: عن العامل في القراض يأذن له صاحبه أن يأخذ ربحه، فقال:
لا يأخذ شيئا حتى يقتسما وإن أذن له فيه صاحبه.
قال محمد بن رشد: أما إذا أخذ العامل في المال ربحه بإذن رب المال وترك رب
المال ربحه في المال، فالمكروه في ذلك بين؛ لأن رب المال إذا ترك حظه من
الربح في المال بعد أن أخذ العامل حظه منه بإذن رب المال فكأنه أعطاه حظه
من الربح قراضا على أن يخلطه بالقراض الأول وهو لم ينض بعد إذ لم يتحقق
نضوضه.
فهذا على هذا التأويل مثل ما في المدونة من أنه لا يجوز إذا دفع الرجل إلى
الرجل مالا قراضا فشغله في سلع أن يدفع إليه مالا آخر قراضا على أن يخلطه
به؛ لأنه غرر إن نقص فيه وربح في الأول صيره من ربح الأول وإن ربح فيه وخسر
في المال الأول صيره من ربحه.
وقال الفضل
(12/327)
فيه: إنه إن وقع كان في القراض الأول على
حاله، ورد في الثاني إلى إجارة مثله، ولو تحقق نضوض المال في هذه المسألة
لجاز؛ لأنه كان يكون بمنزلة من دفع إلى رجل مالا قراضا ثم دفع إليه بعد ذلك
مالا آخر قراضا على أن يخلطه به.
وإنما كره هذه المسألة مخافة ألا ينض رأس المال بعد أو لعله قد نض إلا أن
فيه خسارة فكذبه فيما زعم أن فيه من الربح ليقره بيده ولا ينزعه منه، ولهذه
العلة لم يجز مالك في موطئه أن يقتسم المتقارضان الربح دون حضور رأس المال
ونضوضه، فقال في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا فعمل به ثم جاءه بمال فقال هذا
حصتك من الربح وقد أخذت لنفسي مثله ورأس مالك وافر عندي فأقره، قال: لا أحب
ذلك حتى يحضر المال كله ويحاسبه ويعلم أنه وافر ويصير إليه، ثم إن شاء رده
إليه على قراضه وإن شاء أمسكه، وإنما يجب حضور المال مخافة أن يكون نقص فيه
فهو يحب ألا ينتزع منه وإن نقص عنده.
هذا نص قول مالك في موطئه، وظاهر ما في الواضحة أن اقتسامهما الربح على غير
محاسبة ولا اعتماد مفاصلة جائز؛ لأنه قال: إذا كانا يفعلان ذلك وجاء في
المال نقصان جبر من الربح الذي اقتسماه، وبالله التوفيق.
[مسألة: دفع إلى رجل مالا قراضا فشارك رجلا
بمال له فعملا جميعا]
مسألة وسئل مالك: عن رجل دفع إلى رجل مالا قراضا فشارك رجلا بمال له فعملا
جميعا، قال: أراه ضامنا حين أدخل في مال الرجل غيره؛ لأن الرجل قد يقارض
الرجل بثلاثة أرباع ويقارض بالنصف لموضع أمانته، فقيل له: أفتراه ضامنا؟
قال: نعم، أراه ضامنا إن تلف أو نقص غرم، وإن كان ربحا كان على قسمة قراضه.
قال محمد بن رشد: هذا مفسر لما في المدونة أنه إن شارك المقارض بمال القراض
فهو ضامن إذا لم ينض فيها أنه إن كان فيه ربح كان على قسمة قراضهما. وزاد
في المدونة أن الرجل إذا قارض رجلين كل واحد
(12/328)
منهما على حدة فلا يجوز أن يشتركا وإن كان
المال لواحد. وهذا كله بين لا وجه للقول فيه، وبالله التوفيق.
[: يعطي الرجل المال القراض فيخرج به إلى الريف
فيبتاع به القمح الكثير]
ومن كتاب الشجرة تطعم بطنين في السنة وسئل مالك: عن الرجل يعطي الرجل المال
القراض فيخرج به إلى الريف فيبتاع به القمح الكثير والشعير فيكثر عليه ذلك
فيتكارى سفنا ويستأجر أجراء فيحملها ويبعث فيها الأجراء ويكتب إلى صاحب
المال أن يقوم معهم في خزنه ويقسم إن أحب ذلك من غير شرط يكون في أصل ذلك.
قال: لا يعجبني هذا ولو كان الشيء الخفيف ما رأيت به بأسا، قيل له: قدر
المائة الدينار أو مائة وخمسين؟ قال: إن كان الشيء الخفيف وإلا فلا خير
فيه، هذا يكثر فلا يعجبني.
قال محمد بن رشد: كره ذلك في الكثير مخافة الذريعة إلى استجازة ذلك على
شرط، أو رأي، أو عادة، فإن وقع ذلك على غير شرط ولا رأي ولا عادة نفذ ذلك
ومضى، ولم يحولا عن شرطهما فيه، والله الموفق.
[مسألة: دفع إلى رجل مالا قراضا فلما أراد
السفر قال إني أريد أن أخرج بمالي]
مسألة وسئل مالك: عن رجل دفع إلى رجل مالا قراضا فلما أراد أن يخرج إلى
سفره، قال لصاحبه: إني أريد أن أخرج بمالي معي أتجر فيه، وإني لست أحمل على
مالك نفقة، وأنا أنفق من مالي فإنه لا يحمل ذلك.
قال: لا يعجبني ذلك وإنما ذلك بمنزلة ما لو قال له ذلك عند دفعه إياه، ولكن
ليعمل فيهما والنفقة على المالين،
(12/329)
وسواء قال ذلك عند خروجه أو عندما يدفعه
إليه وفيه تفسير.
قال عيسى: وتفسيره إن كان قال ذلك في حين يجوز له منعه من الخروج لم يكن
فيه خير، وإن كان ذلك في حين لا يجوز له منعه وذلك بعد أن يتجهز ويشتري فلا
بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: وقع في بعض الروايات فإنه يحمل ذلك ولا يغير ذلك من حكم
المسألة شيئا.
وتفسير عيسى صحيح مبين لقول مالك، فمعنى قوله: وسواء قال ذلك عند خروجه أو
عندما يدفعه إليه، يريد: إذا كان خروجه بالمال وهو ناض قبل أن يشتري به
ويتجهز.
وأما لو قال ذلك بعد أن اشترى بالمال وتجهز لجاز ذلك ولزم على القول بلزوم
العدة لأنها عدة، وإذا قال ذلك له عندما دفع إليه المال أو عند خروجه
والمال بحاله فهو مكروه ولا يلزم ولا يبلغ به الفسخ إلا أن يكون ذلك القول
عندهما كالشرط، وبالله التوفيق.
[مسألة: يأخذ المال قراضا على أنه يدفعه إلى
غيره يعمل به]
مسألة وسئل مالك: عن الرجل يأخذ المال قراضا على أنه يدفعه إلى غيره يعمل
به، فكره ذلك، وقال: ما يعجبني، ثم ردد فيه الكراهية، فقيل له: أفرأيت إن
قال له إني أبعث فيه غلامي ومولاي إلى بعض إخواني يشترون به ويبيعون؟ فقال:
إني لأرجو أن يكون خفيفا، وما هو من عمل الناس.
قال محمد بن رشد: لا فرق بين أن يأخذ منه المال قراضا على أن يعطيه لغيره
يعمل به قراضا، أو على أن يرسل فيه غلامه أو مولاه إلى من يشتري به ويبيع
من إخوانه كما أنه لا فرق بين أن يأخذ منه المال قراضا فيقول إني أدفعه إلى
غيري يعمل به قراضا أو إني أبعثه مع غلامي أو مولاي إلى من يشتري به ويبيع
من إخواني، فإذا كان على الشرط في المسألتين
(12/330)
جميعا لم يجز، وإذا كان على غير الشرط في
المسألتين جميعا جاز. وإنما افترقت المسألتان عنده لأن الأولى بشرط،
والثانية بغير شرط.
والمكروه فيهما جميعا إذا كان ذلك على وجه الشرط بين؛ لأنه كأنه استأجره
على أن يدفع ماله إلى غيره قراضا أو على أن يبعثه مع ولاه أو غلامه إلى من
يشتري به ويبيع من إخوانه على سبيل القراض بالجزء الفاضل من الربح إن دفعه
بأكثر مما أخذه، وقد يدفعه بأقل فيخسر، وبمثل الجزء فلا يربح، فذلك غرر بين
وإجارة فاسدة.
فقوله في ذلك إنه مكروه تجاوز في اللفظ، فإن وقع ذلك كانت له أجرة مثله في
دفعه المال إلى غيره قراضا وفي بعثه به إلى من يعمل به من إخوانه قراضا،
وكان العامل فيه على الجزء الذي اشترطه من القراض.
وأما إذا قال له حين أخذه المال منه إني أدفعه إلى من يعمل فيه قراضا أو
أبعثه إلى من يعمل به قراضا ولم يشترط ذلك، فذلك إذن منه له في أن يقارض
به، فإن قارض فيه بأكثر من الجزء الذي اشترطه كان الفاضل لرب المال لا له.
وهو نص قول مالك في كتاب ابن المواز، بخلاف المساقاة والفرق في هذا بين
القراض والمساقاة أن المساقاة يلزم بالعقد فكان له أن يأخذ الفضل، والقراض
لا يلزم بالعقد فلم يكن له الفضل.
وإن قارض فيه بأقل من الجزء الذي اشترطه مثل أن يقارض رب المال على النصف
فيقارض هو غيره على أن يكون له الثلث وللعامل الثلثان فرب المال أحق بالنصف
ويرجع العامل الثاني على المقارض الأول بمثل سدس الربح الذي استحق صاحب
المال من يده. وهذا إذا لم يعلم رب المال أن المقارض الأول قارض المقارض
الثاني على أكثر مما قارضه هو عليه.
وأما إذا علم ورضي فلا يكون له إلا ما رضي به واختلف إذا علم أو حضر فسكت.
فقيل: سكوته كالإذن، ولا يكون له من الربح إلا ما اشترط منه المقارض الأول
على المقارض الثاني. وقيل: لا يكون كالإذن ويكون أحق بالجزء الذي قارض عليه
هو
(12/331)
المقارض الأول. وقد مضى هذا المعنى في رسم
باع غلاما من سماع ابن القاسم من كتاب المساقاة.
وفرق في كتاب محمد في الذي يأخذ المال قراضا بين أن يقول أبعثه مع مولاي
إلى بلد آخر إلى من يكفيني أمره أو إلى قوم يشترون ويبيعون. فقال في الأول:
إنه لا يصلح، وفي الثاني: أرجو أن يكون خفيفا. قال محمد: ما لم يشترط.
وجه الفرق بينهما أنه إذا قال: أبعثه إلى من يكفيني أمره فإنما معناه أبعثه
إلى من ينزل منزلتي في العمل فيه بالجزء الذي أخذته به، وقد يجد ذلك وقد لا
يجده. فلذلك كرهه، وقال: إنه لا يصح، وإذا قال: أبعثه إلى قوم يشترون
ويبيعون، فإنما معناه إلى قوم يشترون به ويبيعون على ما أواجبهم عليه من
الربح على سبيل القراض أو من الأجرة على سبيل الاستئجار على الوجه الذي تصح
عليه الإجارة. وذلك لا يتعذر وجوده. فلذلك أجازه ورآه خفيفا. وأما إذا كان
ذلك بشرط فقد مضى وجه فساده، وبالله التوفيق.
[مسألة: دفع إلى رجل مالا قراضا وأذن له في
مداينة الناس فداين وعمل]
مسألة وسئل مالك: عن رجل دفع إلى رجل مالا قراضا وأذن له في مداينة الناس
فداين وعمل، ثم إنه وقع بينهما كلام، فقال له العامل: هذا ما اشتريت بمالك
حاضرا، وما كان منه غائبا فهذه ذكور حقوقك فخذ ذلك كله وأخرجني منه واقبض
لنفسك وبع لها. قال: لا بأس بذلك.
فقلت: له: أفلا ترى فيه غررا؟
قال: لا، إنما هو مثل الذي يموت فيأبى الورثة أن يعملوا فيكون له، أو الرجل
يأخذ المال قراضا فيشتري فيصيبه مرض أو يضعف عن القيام فيه فيسلم ذلك إلى
صاحب المال فلا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: أما مرض أو ضعف عن القيام في المال فالأمر في جواز ذلك
ظاهر؛ لأنه يشبه الموت. وأما إذا أسلم المال إلى رب المال
(12/332)
وتخلى عن القراض إليه برضاه وهو قد أنشب
المال في سلع وديون فالأظهر أنه لا يجوز على ما قاله سحنون في أول رسم من
السماع. وقد مضى الكلام على ذلك هنالك فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: السنة في القراض لا يقسم الربح إلا عند
المفاصلة]
مسألة وسئل مالك: عن الرجل يأخذ المال قراضا فيشتري متاعا ويداين فإذا كان
على رأس حول دعا صاحبه إلى أن يحاسبه فيقول عندي كذا وكذا من النقد، وكذا
وكذا من العروض، والدين كذا وكذا، ويقول له صاحب المال: أنا أعطيك ربحك من
النقد وأبريك من الدين وهو رأس مالي والعرض إن دخل فيه نقضان إلا أن العامل
يعمل فيه كما هو، قال: لا خير فيه حتى يحصل المال.
قال محمد بن رشد: قوله إلا أن العامل يعمل فيه كما هو، أي: حتى ينض المال
بقبض الدين وبيع العروض وقبض أثمانها، وإنما لم يجز ذلك، وقال: إنه لا خير
فيه لأن السنة في القراض لا يقسم الربح إلا عند المفاصلة إما بعد نضوض
المال وإما بأن يرضي رب المال أن يخرج في رأس ماله إلى دين أو يأخذ فيه
عرضا.
فقد حكى ابن حبيب في الواضحة عن مالك أنه قال: وإذا تفاصل رب المال مع
العامل في القراض واقتسما الربح فلا بأس أن يأخذ رب المال رأس المال عينا
ثم يقاسمه ما بقي من سلع أو غيرها، أو يأخذ رب المال في رأس ماله سلعة ثم
يقاسمه فيما بقي من عين أو عرض.
فإذا لم يكن للعامل أن يقبض حصته من الربح حتى ينض رأس المال إلا برضا رب
المال بالمفاصلة قبل نضوضه كان رب المال إنما فاصله قبل نضوضه وعجل له حصته
من الربح قبل أن ينض رأس المال على أن يعمل في المال حتى ينض باطلا بغير
شيء يكون له، فيدخله سلف جر منفعة، وبالله التوفيق.
(12/333)
[: المقارض
يحاسب صاحبه ثم يأتي بعد ذلك يذكر أنه نسي الزكاة]
ومن كتاب حلف ليرفعن أمرا إلى السلطان قال: سئل مالك: عن المقارض يحاسب
صاحبه ويقول قد تهضمت لك وحملت على نفسي، ثم يأتي بعد ذلك يذكر أنه نسي
الزكاة وغير ذلك.
قال: لا يقبل قوله إلا أن يأتي على ذلك ببينة أو أمر لا يستنكر فيه قوله،
وأمر يعرف به وجه ثبات ما رفع من ذلك.
قال ابن القاسم: وسمعته وسألناه عن مقارض عمل ودفع إلى صاحبه رأس ماله
وربحه ثم جاء بعد ذلك يطلب نفقته ويقول أنفقت من مالي ونسيت حتى دفعت إليك.
قال: لا يحلف ويكون القول قوله.
قال محمد بن رشد: أما المسألة الأولى فلا اختلاف فيها أنه لا يصدق فيما
ادعى أنه نسيه عند المحاسبة لقوله قد تهضمت لك وحملت على نفسي لاحتمال أن
يكون هذا الذي ادعى أنه نسيه هو الذي تهضم فيه وحمل فيه على نفسه، إلا أن
يأتي بدليل على صحة دعواه.
وأما المسألة الثانية ففي المسألة خلافها أنه لا يقبل قوله فيما ادعى أن له
في المال بعد أن حاسب صاحبه وقاسمه ودفع إليه ماله وهو الأظهر؛ لأن دفع
ماله إليه كالإقرار أنه لا حق له فيه، فهو مدعى عليه فما يريد أن يخرجه من
يده بعد أن دفعه إليه.
ووجه القول الثاني: أن الغلط والنسيان ليس أحد بمعصوم منه، فوجب أن يصدق
بعد كما كان يصدق قبل، وهذا يشبه اختلافهم فيمن باع مساومة ثم ادعى الغلط،
وبالله التوفيق.
[: أقام في الحضر في تجارة القراض مشتغلا بها
نهاره كله]
ومن كتاب أوله سلف في المتاع وقال مالك فيمن أقام في الحضر في تجارة القراض
مشتغلا بها نهاره كله: لا أرى أن ينفق من مال القراض شيئا على نفسه في غداء
ولا غيره.
(12/334)
قال محمد بن رشد: هذا خلاف قول الليث بن
سعد في المدونة أنه لا بأس إذا اشتغل في السوق أن يتغدى بالأفلس، وقوله
أظهر. وقد مضى من قول مالك في أول رسم شك ما يضاهي قوله على ما بيناه هناك،
وبالله تعالى التوفيق.
[: يقارضه بمال فيشتري متاعا فيريد أن يبيع
المتاع فلا يعجبه الثمن]
ومن كتاب أوله تأخير صلاة العشاء في الحرس وسئل مالك: عن الرجل يقارض الرجل
بمال فيشتري متاعا فيريد المقارض أن يبيع المتاع فلا يجد به ما يعجبه من
الثمن، فيقول لصاحب المال: بعنيه وأنا أنقدك من ثمنه كذا وكذا، ثم أنظرني
ببقية الثمن شهرا أو شهرين، قال: لا خير في ذلك، قال ابن القاسم: وقد سمعته
غير مرة يكرهه وكأنه ينحو إلى وجه كأنه أعطاه مائة بخمسين ومائة إلى أجل.
قال محمد بن رشد: في النوادر متصل بهذه المسألة. قال ابن القاسم في رواية
يحيى: إن ابتاعه بنقد فجائز، وإن كان بتأخير بمثل الثمن فأقل فجائز، وإن
كان بأكثر فلا يجوز، وإن أراد رب المال أن يشتريها بنقد أو إلى أجل فلا بأس
به، ومثله في رسم القطعان من سماع عيسى بعد هذا من هذا الكتاب وهو صحيح
لهذه الرواية وغيرها.
وقد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في أول مسألة من سماع ابن القاسم،
فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: دفع إلى رجل مالا قراضا فتجهز منه بطعام
وكسوة ثم هلك الرجل]
ومن كلاب باع غلاما وسئل مالك: عن رجل دفع إلى رجل مالا قراضا فتجهز منه
(12/335)
بطعام وكسوة ثم هلك الرجل فأراد الوصي أن
يأخذ ذلك المال. قال: أرى ذلك له، وأرى أن يأخذ منه ذلك الطعام والكسوة
التي اشترى من مال الميت.
قال سحنون: ليس ذلك للوصي؛ لأنه هو لو كان حيا لم يكن له أن يأخذ ذلك منه،
إلا أن يكون لم يحرك من المال إلا في كسوة نفسه وطعامه، فهو كما ذكر في
المسألة.
قال محمد بن رشد: معنى ما تكلم عليه مالك أن العامل لم يتجهز من المال إلا
في كسوة نفسه وطعامه، وذلك بين من قوله: وأرى أن يأخذ منه ذلك الطعام
والكسوة التي اشتريت من مال الميت، يريد: ولا يترك له من أجل أنه اشتراها
لنفسه، وإن كان قدر ذلك يسيرا إذا لم يعمل بالمال فيترك له الشيء اليسير
كما قال في المسألة التي بعدها، ويحتمل أن يريد وهو الأظهر أنه يؤخذ منه
ذلك الطعام وتلك الكسوة، ولا يضمن الثمن التي اشتراها به من أجل أنه
اشتراها لنفسه، إذ لو رأى إذا تجهز من المال بطعام وكسوة للتجارة لا لنفسه
أن يؤخذ المال منه لما كان إشكال في أنه يؤخذ منه ما كان تجهز به حتى يحتاج
إلى بيانه، فقول سحنون صحيح في أنه لا فرق في ذلك بين الوصي وبينه هو لو
كان حيا، وتأويله على مالك أنه فرق بين الوجهين غير صحيح.
وينبغي إذا أخذت منه الكسوة أنه اشتراها لنفسه والطعام وأخرج من القراض أن
يعطى أجرة مثله في ابتياعه الكسوة والطعام، وبالله التوفيق.
[مسألة: ما يفضل عند المقارض إذا قدم من سفره
مثل الجبة وأشباه ذلك]
مسألة وقال مالك فيما يفضل عند المقارض إذا قدم من سفره مثل الجبة وأشباه
ذلك، فقال: ما علمت أنه يؤخذ منه مثل هذا.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في نوازل سحنون أن رب المال إذا أخذ ماله من
العامل لا يؤخذ منه الثياب التي كان اشتراها لسفره من مال القراض إلا أن
يكون لها قدر وبال. ومثله لمالك في موطئه. وهو استحسان
(12/336)
على غير حقيقة القياس ليسارة ذلك مع العرف
الجاري فيه على أصله في كتاب الحدود في القذف من المدونة في الرجل يكسو
امرأته كسوة السنة بفريضة من السلطان أو بغير فريضة ثم يموت أحدهما قبل
انقضاء السنة أنه استحسن ألا يتبع المرأة بشيء من ذلك لما بقي من السنة
بخلاف النفقة، وبالله التوفيق.
[: تجار حبوب لا تحمل أموالهم ما يشترون فيأتون
إلى أقوام يسألونهم قراضا]
ومن كتاب أوله مساجد القبائل وسئل مالك: عن القوم يشترون التجارات من
الحبوب والصوف وأشباه ذلك فلا تحمل أموالهم ما يشترون، فيأتون إلى أقوام
يسألونهم أن يعطوهم أموالا قراضا ولا يعلمونهم بما كانوا اشتروا ويجعلونها
قراضا فيما بينهم وبين الذين قارضوهم، أترى ذلك يصلح؟ قال: لو صح ذلك لم أر
به بأسا، قيل له: فما الذي تخاف ألا يصح؟ قال: يشتري سلعة غائبة فيندم فيها
فيأخذ هذا المال فينقده فيها.
قال ابن القاسم: لا يعجبني العمل بهذا وإن صح، قال سحنون مثله.
قال محمد بن رشد: كراهية مالك لهذا العمل مخافة ألا يصح، وإجازته له إذا صح
هو مذهبه في المدونة؛ لأنه قال فيها: إني أخاف أن يكون قد استغلاها فيدخل
مال الرجل فيه فلا أحب هذا.
وزاد في أصل الأسدية تتميما لقوله ولو أعلم أن ذلك صحيح لم يكن لغلا وقع
فيه وما أشبهه لم يكن به بأس وقول ابن القاسم لا يعجبني العمل بهذا وإن صح
أصح والله أعلم؛ لأن الذي نواه أخذ المال من أن ينفذ ماله فيما قد اشتراه
لو علم به رب المال لما جاز باتفاق.
وإن صح أن ذلك لم يفعله لغلاء وقع فيه لأنه بمنزلة رجل سلف رجلا مالا على
أن ينفذه في سلعة اشتراها على أن له نصف ما يربح فيها
(12/337)
وعليه جميع ما كان فيها من وضيعة، وذلك أنه
يحمل أمرهما على أنه لما اشترى السلعة فقصر ما عنده عن ثمنها وعلم أنه إن
سأل الرجل أن يسلفه ما نقصه من ثمنها يأبى ذلك عليه، وإن قال له: أعطني ما
نقصني من ثمنها ويكون لك نصف ربحها كان ذلك حراما لا يجوز أخذه منه باسم
القراض ونيته فيه ما تقدم، فوجب ألا يجوز. ولذلك تابعه عليه سحنون فقال لا
خير فيه.
ففرق مالك بين أن يعلمه بذلك أو لا يعلمه به في المدونة، وساوى بينهما ابن
القاسم على ما وقع له هاهنا، وسحنون أيضا.
ولذلك قال فيما رأيت له في بعض حواشي كتب المدونة على المسألة الثانية إذا
أعلمه: هذه جيدة أصح من الأولى، يريد: إذا لم يعلمه، فإذا وقع ذلك كان
الحكم فيه على مذهب مالك أن يكون لرب المال أن يأخذ ماله كاملا إن بيعت
السلعة بوضعية إلا أن يبين العامل أنه لم يفعل ذلك إلا على وجه الصحة لا
لغلاء وقع فيه، وإن عجز عن تبيين ذلك ودعا إلى تحليف رب المال على أنه قد
أعلمه كان ذلك له إن حقق عليه الدعوى باتفاق، وإن لم يحققها عليه على
اختلاف، وأما إن باع العامل السلعة بربح فادعى أنه كان استغلاها ولذلك أخذ
المال لينقده فيها ليرد إلى رب المال رأس ماله ويستبد هو بالربح لم يصدق في
ذلك إلا أن يقيم عليه بينة.
وأما على مذهب ابن القاسم وسحنون فليس لرب المال إلا رأس ماله بيعت السلعة
بربح أو وضيعة، وإن تلفت فالعامل ضامن للمال بمنزلة إذا أعلمه أنه ينقده
ماله في السلعة التي اشترى لأنه إذا أخذه لينقده في ثمن السلعة التي اشترى
فكأنه استسلفه منه على أن له نصف ما يربح في السلعة، فإذا لم يعلم رب المال
بذلك كان هو المنفرد بالإثم دونه، ووجب عليه أن يرد إليه رأس ماله، وإذا
أعلمه بذلك اشتركا في الإثم، فهذا وجه القول في هذه المسألة.
وأما إذا أتاه قبل أن يشتري فقال له إني وجدت سلعة رخيصة فادفع إلي مالا
أشتريها به على سبيل القراض فذلك جائز، وقد فعله عثمان بن عفان إذا لم يسم
السلعة ولا صاحبها البائع لها، فإن سمى السلعة أو الرجل لم تجز وكان العامل
في ذلك أجيرا، وبالله التوفيق.
(12/338)
[مسألة: قراض
النقدين الذهب والفضة]
مسألة وسئل مالك: عن قراض النقرين الذهب والفضة؟ فقال: لا.
قال ابن القاسم: إذا وقع لم أفسخه وأنفذت بينهما شرطهما من الربح. قال ابن
القاسم: عمل أو لم يعمل، ربح أو لم يربح، هو قراض ما هو واجب لهما متاركته
إذا لم يعمل.
قال أصبغ: قلت لابن القاسم: فالفلوس أيقارض بها؟ قال: لا، أنا أكرهه وكره
القراض بها، قلت: فإن وقع وجاء فيه ربح أو وضيعة فوقف ولم يجب فيه بشيء،
قال أصبغ: هو عندي كالنقر أرى أن يمضي. وقد جرى مجرى العين من كتاب البيع
والصرف.
قال محمد بن رشد: أما القراض بنقر الذهب والفضة في البلد الذي يدار فيه نقر
الفضة والذهب وأتبارهما ويتبايع فيه فذلك جائز على ما وقع في سماع يحيى بعد
هذا من هذا الكتاب ولا اختلاف في هذا.
وأما القراض بها في البلد الذي لا تدار فيه وإنما يبتاع الناس فيه
بالدنانير والدراهم المضروبة، ففي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أن ذلك لا يجوز. وهو ظاهر قول مالك في رواية ابن القاسم هذه عنه.
وقد روي عنه مثل هذا الظاهر نصا أن ذلك لا يجوز.
والعلة في ذلك: أنه لما كان البلد لا يبتاع بها فيه فكأنه قال له بعها أو
استضربها واعمل قراضا بالثمن الذي تبيعها به أو بالعدد الذي يخرج في الضرب
منها، فأشبه القراض بالعروض إذا قال له بعها واعمل بثمنها قراضا، فإن وقع
ذلك كان له أجر مثلها في بيعها أو استضرابها، ويكون رأس المال الذي يرد إذا
نص القراض الثمن الذي باعها به أو العدد الذي خرج منها، ويكون في ذلك على
قراض مثله.
والقول الثاني: يكره ابتداء فإن وقع
(12/339)
نفذ ومضى على شرطهما من الربح عمل أو لم
يعمل ربح أو لم يربح.
وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية وفي سماع يحمى بعد هذا وقول أصبغ في
كتاب محمد وقول ابن حبيب في الواضحة، ويكون رأس المال الذي يرد العامل إذا
نض المال مثل النقد الذي أخذ في طيبها وزنتها، فإن لم يعرفا لها زنة فرأس
ماله فيه الثمن الذي باعها به أو العدد الذي خرج فيها إن كان استضربها ولم
يبعها، وان كان باعها بعروض ولم يعرفا لها وزنا فرأس المال فيه قيمتها من
الذهب إن كانت نقر فضة أو قيمتها من الفضة إن كانت نقر ذهب. قال ابن حبيب
في الواضحة: إلا أن يكون يوم قارضه قال له بعها أو استضربها فيكون رأس ماله
ما باعها به أو ما خرج في استضرابها عرفا وزن التبر والنقر التي أعطاه أو
جهلاه، ويكون له أجرة مثله في بيعه إياها بالدنانير أو استضرابه لها إن كان
في ذلك مؤنة وفي مثله كراء، ثم يكون فيما نض في لديه من ذلك على قراض مثله.
هذا قول ابن حبيب في الواضحة، ففرق بين أن يشترط عليه بيعها أو استضرابها
وبين أن لا يشترط ذلك عليه.
وقد علم أنه لا بد له من بيعها أو استضرابها وإن لم يشترط ذلك عليه إذا كان
البلد لا يبتاع فيه بها، والمعنى في ذلك: أنه إذا اشترط عليه ذلك فقد شرط
أن القراض إنما يكون من بعد بيعها أو استضرابها وإذا لم يشترط ذلك عليه فقد
جعلها قراضا من يوم دفعها إليه، وقد يبيعها بعروض وإن كان البلد لا يبتاع
فيه بها، فيكون بيعه لها بالعروض من التجارة، ويرد مثل ما دفع إليه إذا نض
القراض؛ لأنها لا تتغير ولا تختلف أسواقها، بخلاف العروض، فلذلك جاز القراض
بها عند من أجازه.
والقول الثالث: أن القراض بها جائز ابتداء. وهو قول مالك في رواية أشهب عنه
بعد هذا في رسم مسائل بيوع. وقد سئل: عن القراض في نقر الذهب والفضة أيصلح؟
قال: نعم في رأيي قد قارض الناس قبل أن يضرب الذهب والفضة، قلت: ويرد نقرا
مثلها؟ قال: نعم، وقول ابن وهب وروايته عن مالك.
وأما القراض بالفلوس فهو أشد عند ابن القاسم من القراض بنقر الفضة
(12/340)
والذهب؛ لأنها تشبه العروض في أنها تحول
بالنفاق والكساد والفساد فلذلك وقف فيه، إذا لم يعثر عليه حين وقع حتى جاء
فيه ربح أو وضيعة. وفيها أيضا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها كالعروض في أن القراض لا يجوز بها من أجل أنها تحول إلى النفاق
والكساد والفساد، وهو قول ابن القاسم في أول كتاب القراض من المدونة.
واحتج بأنها تشبه العروض ولا تشبه العين برواية عبد الرحمن عن مالك في
إجازة شرائها بالدنانير والدراهم نظرة، فإن وقع القراض بها على هذا القول
رد العامل فيها إلى قراض مثله، وكان رأس المال الذي يرده إذا نض المال قيمة
الفلوس من الدنانير والدراهم يوم دفعها إليه.
والقول الثاني: أن القراض بها مكروه فإذا وقع مضى على شرطهما من الربح ولم
يرد، وكان رأس المال الذي يرده العامل إذا نض المال مثل الفلوس الذي دفع
إليه رب المال.
والقول الثالث: أن القراض بها جائز ابتداء وهو قول أشهب في ديوانه، قال:
لأنها كالعين في أنه لا يجوز بيعها بالدنانير والدراهم نظرة وليس الاعتبار
بالصرف في جواز القراض بها ولا منعه ببين.
إذ قد اختلف في ذلك قول مالك، وإنما العلة الصحيحة التي يجب الاعتبار بها
في ذلك حوالتها إلى النفاق والكساد والفساد، فإن كان يؤمن ذلك في الغالب
عليها وكان يتبايع بها في البلد لم يجز القراض بها، إنما يجوز القراض بها
عند من أجازه في الشيء اليسير الذي يتبايع فيه بالفلوس كالبقول والفواكه
وشبه ذلك، مع أنه رأى باجتهاده أنها لا تحول عن حالها من النفاق والكساد في
أغلب الأحوال، والله أعلم.
واختلف قول مالك أيضا في جواز القراض بالحلي، فحكى ابن الجلاب عنه
الروايتين في ذلك، ولم يجزه في كتاب ابن المواز ولا في سماع أشهب بعد هذا،
وهو الصحيح المعروف.
قال في الموضعين: وقد سئل أيصلح أن يقارض من الذهب والفضة فيما كان مصوغا؟
ليس هكذا يقارض الناس. فقيل له: ذلك أحب إليك؟ قال: بل هو الشأن متى يأتي
هذا المقارض بمثل الخلخال والسوار حتى يرد مثله.
وقال بعض المتأخرين:
(12/341)
القراض بالمصوغ على ثلاثة أوجه: جائز إذا
كانوا يتبايعون به مثل ما بالمغرب بأرض المصامدة، ومكروه: إذا كانوا لا
يتبايعون به ولا يتعذر عندهم المثل، وممنوع إذا كان المثل يتعذر، كما قال
مالك: فمن أين يأتي بهذا الخلخال؟ وبالله التوفيق.
[: اشترى سلعة بألف دينار على أن ينقده مائة
فنقد المائة التي عنده قراضا]
ومن كتاب القبلة قال مالك: من كانت عنده مائة دينار قراضا فاشترى سلعة بألف
دينار على أن ينقده مائة، فنقد المائة التي عنده قراضا.
قال: هما شريكان في الزكاة بالحصص، وتقوم السلعة بالنقد فإن كانت قيمتها
تسعمائة كان للقراض التسع من تلك القيمة.
قال ابن القاسم: وكذا الربح والوضيعة فيما بلغني عن مالك.
قال محمد بن رشد: قوله على أن ينقده مائة، يريد: والتسعمائة قبله وفي ذمته
إلى أجل معلوم، والشراء له وللمال القراض، ولو كان اشتراها على أن تكون
السلعة كلها للقراض ويؤدي رب المال التسعمائة عنده إذا حل الأجل لكان
بالخيار بين أن يجيز ذلك ويؤدي التسعمائة إذا حل الأجل وتكون السلعة كلها
على القراض، وبين ألا يجيز ذلك فلا يكون منها على القراض إلا بقدر المائة
التي دفع إليه من قيمة السلعة يوم اشتراها، ويكون للمقارض منها قدر ما زادت
قيمتها على المائة التي دفع إليه، هذا قوله في هذه الرواية أن السلعة تقوم
بالنقد يريد يوم اشتراها، فإن كانت قيمتها تسعمائة كان للقراض التسع، ومثله
في المجموعة وفي كتاب ابن المواز في القراض من المدونة. وقال محمد بن
المواز: ليس هذا بشيء؛ لأنه إن استرخص لم ينتفع القراض بذلك، وإن استغلى لم
يلحقه الغلاء، إذ لو كانت قيمتها بالنقد ألفا أو ألفا وخمسمائة لم يقع
للقراض من ذلك إلا مائة.
والصواب من ذلك أن يقوم
(12/342)
الدين. وقد روى عن مالك وعن ابن القاسم
وأشهب أن ينظر إلى قيمته التسعمائة أن لو نقد بعرض، وينظر إلى قيمة العرض،
فإن سوى ستمائة كان للقراض سبع السلعة فيما يقع لذلك من ربح أو وضيعة، وهو
القياس؛ لأن الدين حكمه حكم العرض فكأنه قد اشترى السلعة بالمائة القراض
وبعرض. فالواجب في ذلك بلا خلاف أن ينظر إلى قيمة العرض.
فإن كانت قيمته ستمائة كان للقراض السبع وإن كانت قيمته سبعمائة كان للقراض
الثمن، وكذلك على هذا المثال ما زادت قيمته أو نقصت، وعلى هذا أصلح سحنون
مسألة المدونة أن يقوم الثمن المؤجل لا السلعة، ووجه ما وقع في المدونة من
تقويم السلعة هو أن الديون لما لم تجر العادة بتقويمها كانت قيمتها غير
معروفة.
والغالب أن السلعة إنما تشترى بقيمتها دون غبن يجري في ذلك على البائع وعلى
المبتاع. فالأحسن في هذا من أجل أن العادة لم تجر بتقويم الديون وأن السلع
قد يتغابن في شرائها وإن كان الأغلب أنها إنما تشترى بالقيمة دون تغابن أن
تقوم السلعة بالنقد وعلى أن يتأخر من الثمن تسعمائة إلى الأجل، فإن كانت
قيمتها بالنقد ألف دينار وإن يتأخر من الثمن تسعمائة إلى ذلك الأجل ألف
ومائتان، علمنا أنه قد زاد على قيمة السلعة بالنقد من أجل التأخير سدس
الثمن؛ لأن المائتين التي بين الألف وبين الألف والمائتين سدس الألف
والمائتين، فيحط من الألف التي اشترى بها السلعة سدسها وهو مائة وستة وستون
وثلثان، فيكون الباقي هو ثمن السلعة وذلك ثمانمائة وثلاثة وثلاثون وثلث،
يكون القراض منها مائة، وذلك عشرها وخمسة أسباع عشر عشرها. وكذلك ما زاد أو
نقص على هذا الحساب.
وكذلك لو اشترى سلعة بالنقد بأكثر من رأس مال القراض لكان شريكا للقراض
بالزائد، وفي ذلك تفصيل وقع تفسيره في الدمياطية.
قال ابن القاسم فيها: في القراض وجهان لا يأبه كثير من الناس إليها، رجل
أخذ مائة دينار قراضا وله مائة دينار لنفسه فخلطها بها ثم اشترى سلعة، قال:
فهما شريكان وليس صاحب المال هنا مخيرا.
قال: وإن كان إنما أخذ مائة دينار قراضا ثم اشترى سلعة فيسلف فيها
(12/343)
مائة دينار فصاحب المال بالخيار، إن شاء أن
يؤدي ما سلف عليه أداه، وإن شاء كان شريكا في السلعة كذا وقع في الدمياطية،
ولا فرق في القياس والنظر أن يخلط مائة بمائة القراض قبل الشراء، أو لا
يخلطها بها إن قال في الوجهين جميعا إنما زدت المائة من مالي على أن أكون
شريكا في السلعة بها، صدق في ذلك، ولم يكن لرب المال عليه في ذلك خيار.
وإن قال إنما زدت المائة من مالي على سبيل السلف لرب المال كان رب المال
بالخيار إن شاء أن يؤدي المائة وتكون السلعة كلها على القراض كان ذلك له،
وإن شاء كان شريكا في السلعة معه بها وللعامل في القراض إذا كان مديرا أن
يشتري على القراض بالدين إلى أن يبيع ويقضي.
وأما إذا كان غير مدير فاشترى سلعة بجميع مال القراض فليس له أن يشتري
غيرها بالدين على القراض، فإن فعل لم يكن على القراض وكان له ربحها وعليه
وضيعتها، وإن أذن له رب المال في ذلك إلا أن يأذن له في أن يشتري على
القراض على أنه إن ضاع مال القراض كان ضامنا لذلك في ذمته، فيجوز وتكون
السلعة على القراض وسيأتي هذا المعنى في سماع أبي زيد.
وكذلك لو اشترى بالمال القراض سلعة فلم ينقده حتى اشترى سلعة أخرى على
القراض كان ربحها له ووضعيتها عليه؛ لأن صاحب السلعة الأولى أحق بمال
القراض إلا أن يأذن له رب المال في شرائها على القراض أنه ضامن للثمن إن
تلف مال القراض، ولم يعط في المدونة في هذه المسألة جوابا بينا.
وإذا باع العامل السلعة التي اشترى للقراض بربح قبل إن ينقد ثمنها فالربح
بينهما بمنزلة أن لو باعها بعد أن نقد.
وكذلك إن اشترى السلعة للقراض والمال غائب في بيته بمال من عنده أو بسلف من
رب المال أو من غيره، فالربح بينهما على القراض وإن كان بيعه إياها قبل أن
يقضي الثمن الذي تسلفه من المال الذي في البيت، وإن اشترى سلعة ثانية
بالمال الذي في البيت بعد أن باع السلعة الأولى كانت على القراض أيضا، فإن
خسر فيها جبره من ربح السلعة الأولى.
قاله ابن القاسم بعد هذا في رسم إن خرجت من سماع عيسى، ولو اشترى السلعة
الثانية بالمال الذي في البيت قبل أن يبيع
(12/344)
السلعة الأولى لم يكن على القراض وكان
النقصان منه إن بيعت بنقصان لأنه متعد إذا اشترى به، وبائع السلعة الأولى
أحق به، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
[: يأخذ المال قراضا فيعمل فيه ثم يشتري جارية
فيطأها فتحمل منه ثم نقص المال]
ومن كتاب أوله لا قسامة في العبيد وقال مالك، في الرجل يأخذ المال قراضا
فيعمل فيه ثم يشتري من ربح المال أو من جملته جارية فيطأها فتحمل منه ثم
نقص المال. قال مالك: إن كان له مال أخذت قيمة الجارية من ماله فيجبر به
القراض، ثم ما كان من ربح بعد وفاء المال فهو بينهما، قال ابن القاسم: وإن
لم يكن له مال اتبع بقيمتها دينا ولم تبع.
قال سحنون: قول ابن القاسم يكون دينا يتبع به - غير معتدل عندي وتباع إلا
أن يكون فيها فضل فيباع منها بقدر رأس مال رب المال وربحه ويبقى ما بقي
منها بحال أم الولد.
قال محمد بن رشد: قول مالك في هذه المسألة هو نص قول مالك في الموطأ، وزاد
فيه: فإن لم يكن له مال بيعت الجارية حتى يجبر المال من ثمنها.
وهذا هو الحكم فيها إذا اشتراها ثم وطئها فحملت، والقيمة في ذلك إذا كان له
يوم حملت. فلم يفرق مالك على قوله هذا وهو قوله في موطئه بين أن يشتريها من
مال القراض فيطأها وبين أن يطأها بعد أن اشتراها للقراض، وفرق ابن القاسم
بين المسألتين، فقال: إنه إذا اشتراها من مال القراض ليطأها فوطئها أنها لا
تباع إن لم يكن له مال، قال مرة: وتؤخذ منه قيمتها إن كان له مال فيجبر به
القراض، ويتبع بها إن لم يكن له مال ولا تباع وهو قوله في هذه الرواية.
ومعناه عندي: إن كانت القيمة أكثر من الثمن فإرادته أنه يتبع بالأكثر من
الثمن أو القيمة، وقال مرة: إنه يؤخذ منه الثمن فيجبر به القراض إن كان له
(12/345)
مال، ولا تباع، وهو قوله في رسم جاع فباع
امرأته من سماع عيسى بعد هذا.
وإذا أخذ منه الثمن الذي اشتراها به أو الأكثر من القيمة أو الثمن على ما
تأولنا عليه قوله في هذه الرواية واتبع بذلك دينا ثابتا في ذمته كانت له أم
ولد ولم يتبع بقيمة الولد على ما قاله عيسى بن دينار في رسم جاع فباع
امرأته من سماع عيسى؛ لأنه لم يقل إنه يتبع بقيمة الولد إلا إذا اشتراها
للقراض ثم وطئها، وسنذكر هناك وجه قوله إن شاء الله. وعاب سحنون قول ابن
القاسم واختار قول مالك أنها تباع إن لم يكن لها مال وتباع على مذهبه، وما
اختاره من قول مالك فيما لزمه من قيمتها يوم حملت فإن لم يف ثمنها الذي
بيعت به بقيمتها يوم حملت اتبع بما نقص من قيمتها يوم حملت وإذا أخذت منه
قيمتها يوم حملت أو بيعت في ذلك إن لم يكن له مال على هذا القول يخرج
اتباعه أيضا مع هذا بقيمة الولد على قولين قد ذكرنا وجههما في نوازل سحنون
من كتاب الاستبراء. وهذا إذا لم يكن فيها فضل.
وأما إن كان فيها فضل، فقيل: إنه يباع منها على العامل إن لم يكن له مال
لرب المال بقدر رأس ماله وربحه ويبقى ما بقي منها بحال أم ولد. وهو قول
سحنون هاهنا.
وقيل: يكون حكمها حكم الأمة بين الشريكين يطأها أحدهما فتحمل ولا مال له،
وهو قول عيسى بن دينار في رسم جاع من سماعه.
هذا تحصيل القول في هذه المسألة على ما حملها عليه بعض أهل النظر باتباع
ظواهر الروايات، والذي أقول به في هذه المسألة: إن الاختلاف في بيعها إذا
حملت وهو عديم إنما هو إذا اشترى ووطئ ولم يعلم إن كان اشترى للقراض أو
لنفسه بمال استسلفه من القراض إلا بقوله.
فحمله مالك على أنه اشتراها للقراض ولم يصدقه أنه اشتراها لنفسه بمال
استسلفه من القراض.
ولذلك قال: إنها تباع إن لم يكن له مال، وحمله ابن القاسم على أنه اشتراها
لنفسه بمال تسلفه من القراض بل لم يصدقه أنه اشتراها للقراض إن زعم ذلك على
ما روى عنه أبو زيد في سماعه. ولذلك
(12/346)
قال: إنها لا تباع. وأما إن علم أنه
اشتراها لنفسه بمال تسلفه من القراض فلا تباع ويتبع بالثمن الذي اشتراها به
قي ذمته قولا دون اختلاف، كما لا يختلف إذا اشتراها للقراض ببينة تقوم على
ذلك ثم وطئها فحملت ولا مال له في أنها تباع فيما لزمه من قيمتها، وبالله
التوفيق.
[: رجل قارض رجلا ثم إنه أشركه بعد ذلك في سلعة
اشتراها]
ومن كتاب أوله مرض وله أم ولد فحاضت قال: وسئل مالك: عن رجل قارض رجلا ثم
إنه أشركه بعد ذلك في سلعة اشتراها.
قال: إن كان صح ذلك فلا أرى بأسا.
قال عيسى: لا بأس من اشترى منهما سلعة من صاحبه فأشرك صاحبه فيها، المقارض
كان المقارض، كان من مال القراض أو من مال نفسه.
قال محمد بن رشد: أما إذا أشرك العامل لرب المال القراض في سلعة اشتراها
لنفسه من ماله أو للقراض من مال القراض فلا إشكال في جواز ذلك.
إذ لا اختلاف في أنه يجوز أن يبيع العامل من رب المال سلعة إلا أن يكون ذلك
والمال ناض عنده وقيمة السلعة أكثر من الثمن الذي باعها به منه فيكره ذلك
مخافة أن يكون إنما حاباه بها ليقر القراض بيده ولا يأخذه منه.
وأما إذا أشرك رب المال العامل في سلعة اشتراها فإن كان ذلك بعد أن نقد
الثمن فذلك بمنزلة إذا باع منه في سلعة سواء.
ولذلك قال مالك: إن كان صح ذلك فلا أرى به بأسا. وقد مضى تحصيل القول في
ذلك في أول سماع ابن القاسم. ورأى عيسى التهمة في ذلك مرتفعة من أجل أن
الشركة على وجه المعروف.
وأما إن كان أشركه فيها قبل أن ينقد الثمن بحضرة البيع فلا إشكال في أن ذلك
جائز إذ لا تهمة فيه من أجل أنه إنما يدفع الثمن إلى البائع والعهدة عليه
فكأنه إنما اشترى منه.
ويحتمل أن يكون تكلم مالك على أنه قد نقد وعيسى على أنه لم ينقد وبالله
سبحانه وتعالى التوفيق.
(12/347)
[: يدفع إلى
رجل مالا قراضا ويشترط عليه أن زكاة ربح المال في حصتك من الربح]
من سماع أشهب وابن نافع من مالك
رواية سحنون من كتاب أوله قراض قال سحنون: قال أشهب وابن نافع: سئل مالك:
عن الرجل يدفع إلى رجل مالا قراضا ويشترط عليه أن زكاة ربح المال في حصتك
من الربح، قال: لا خير فيه، ثم سئل عنها من الغد أيضا، فقيل له: الرجل
يقارض الرجل ويشترط عليه أن عليك زكاة ربح المال في حصتك من الربح؟ فقال:
ما هذا بحسن.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في أصل الأسدية من أنه لا يجوز لواحد منهما أن
يشترط زكاة الربح على صاحبه. خلاف قوله في المدونة أنه يجوز أن يشترط ذلك
واحد على صاحبه.
وقد مضى في آخر سماع أشهب من كتاب المساقاة وجه الاختلاف في ذلك إذا اشترط
أحد المتساقيين على صاحبه زكاة الثمرة فأغنانا ذلك عن إعادته هنا.
إذ لا فرق بين اشتراط أحد المتساقيين على صاحبه جميع زكاة الثمرة في
المساقاة وبين أن يشترط أحد المتقارضين زكاة ربح المال على صاحبه في
القراض.
وأما زكاة رأس المال فهو على صاحب المال لا يجوز له أن يشترطه على العامل
باتفاق، وبالله التوفيق.
[مسألة: يأخذ من الرجل مائة دينار قراضا ويقول
له إن احتجت زدتك]
مسألة وسئل مالك: عن الرجل يأخذ من الرجل مائة دينار قراضا، ويقول له: إن
احتجت زدتك فيشتري العكم البز بمائة دينار وعشرة دنانير ثم يأتي فيأخذ منه
العشرة بعد اشترائه العكم.
فقال: ما أرى بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قاله؛ لأنه اشترى ذلك
(12/348)
العكم بالزيادة التي زاده على ما دفع إليه
أولا في صفقة واحدة، ولو اشترى العكم البز بمائة دينار ثم أراد أن يشتري
سلعة أخرى بزيادة يأخذها منه لم تجز إلا على أن يكون قراضا على حدة لا
يخلطها، ولو زاده زيادة بعد أن باع العكم الذي اشتراه أولا بالمائة بربح أو
وضيعة لما جاز ذلك على أن تخلطه بالمال الأول ولا على ألا يخلطه به إذا كان
على خلاف الجزء الأول.
واختلف إن كان زاده الزيادة على مثل الجزء الأول. فقيل: إن ذلك لا يجوز
أيضا بحال. وهو قول ابن القاسم في المدونة.
وقال غيره فيها: إن ذلك جائز على ألا يخلطه بالمال الأول، وبالله التوفيق.
[: رجل أخذ من رجلين مالا قراضا فأراد أن يخلطه
بغير إذنهما]
ومن كتاب أوله مسائل بيوع وسئل مالك: عن رجل أخذ من رجلين مالا قراضا فأراد
أن يخلطه بغير إذنهما، فقال: يستأذنهما أحسن وأحب إلي، فإن لم يستأذنهم فلا
أرى عليه سبيلا، قيل له: فإنه استأذن أحدهما فأذن له ولم يأذن له الآخر
فخلطهما، قال: يستغفر الله ولا يعد.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة سواء في المعنى في الرجل يأخذ مالا
قراضا وله مال يتجر فيه أن له أن يخلطه فيتجر بهما جميعا معا والصواب أن
يفعل ذلك تحريا للعدل فيما بينه وبينه إن خشي إن قدم ماله وقع الرخص فيه
وإن قدم مال الرجل أن يقع الرخص في الآخر، فكذلك هذان المالان له أن
يخلطهما بعد إذن صاحبيهما تحريا للعدل فيما بينهما ولما يرجو من استغزار
الربح بخلطهما، واستئذانهما أحسن إذ قد يكره كل واحد منهما ذلك لما يعتقد
من أن ماله أطيب من مال الآخر، فإن خلطه بغير اختيار
(12/349)
صاحبيهما لم يلزمه في ذلك ضمان إذ لا ضرر
في خلطتهما على واحد منهما ولا وجه من وجوه التضييع، وبالله التوفيق.
[مسألة: القراض في نقر الذهب والفضة]
مسألة وسألته: عن القراض في نقر الذهب والفضة أيصح؟ فقال: نعم في رأيي قد
قارض الناس قبل أن يضرب الذهب والفضة.
قلت له: ويرد نقرا مثلها؟ قال: نعم.
قلت له: ولا يصح أن يقارض من الذهب والفضة فيما كان مصوغا؟ فقال: ليس هكذا
يقارض الناس، يبيع ذلك الخلخال والسوار ويعطيه دنانير.
قلت له: ذلك أحب إليك؟ قال: لا بل هو الشأن متى يأتي هذا المقارض بمثل هذا
الخلخال وهذا السوار ويرد عليه مثله.
قال محمد بن رشد: مضى القول في القراض بالنقر من الذهب والفضة في رسم مساجد
القبائل من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته. ومضى فيه أيضا ذكر الاختلاف
في القراض بالحلي المصوغ.
ولمالك في كتاب ابن المواز: أن ذلك لا يجوز، مثل قوله هنا، وزاد: أنه إن
وقع القراض بالحلي المصوغ من الذهب أو الفضة فهو أجير في بيعه وعلى قراض
مثله في الثمن، وهو مفسر لقوله في هذه الرواية؛ لأن الصياغة كالعروض،
وبالله التوفيق.
[مسألة: المقارض أيشرب الدواء ويحتجم ويدخل
الحمام من القراض]
مسألة وسئل مالك: عن المقارض أيشرب الدواء ويحتجم ويدخل الحمام من القراض،
فقال: ما كانت هذه الأشياء يوم كان القراض إن قلم ظفرا أو أخذ من شعره كان
من القراض!!! ما كانت هذه الأشياء حين كان القراض، وأما في الحجامة والحمام
فأرجو أن يكون خفيفا.
(12/350)
قال محمد بن رشد: قوله ما كانت هذه الأشياء
يوم كان القراض، يريد: أنه لم يكن يؤخذ عليها في الزمن الأول أعواض.
والواجب أن يرجع في هذه الأشياء كلها إلى العرف والعادة في كل زمن وكل بلد،
فما لم تجر العادة أن يؤخذ عليه عوض من ذلك لم يصح له أن يعطي عليه عوضا من
القراض، وما جرت العادة أن يؤخذ عليه عوض من ذلك وقدره يسير يتكرر جاز له
أن يعطيه من مال القراض؛ لأن رب المال قد علم بذلك ودخل عليه لتكرره، بخلاف
الدواء الذي إنما يؤخذ عند المرض فلا يصح له أن يعطيه من القراض إذ لم يدخل
على ذلك رب المال معه، وبالله التوفيق.
[مسألة: زكاة القراض]
مسألة وسألته عن زكاة القراض، فقال: زكاة رأس المال على رب المال، وزكاة
الربح من بينهما على قراضهما، وذلك أن يكون رأس المال ألف دينار فيرفع فيها
خمسة وعشرين دينارا فيؤدي من الألف رأس المال زكاتها خمسة وعشرين دينارا
على رب المال، ثم يؤخذ من الخمسة وعشرين دينارا زكاتهما ربع العشر ثم
يقتسمان ما بقي بينهما على قراضهما.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أن ربح القراض يزكى كما يزكى رأس المال،
قيل: إذا كان في رأس المال وحصة رب المال من الربح ما تجب فيه الزكاة وهو
المشهور من مذهب ابن القاسم.
وقيل: إذا كان في جميع المال بربحه ما تجب فيه الزكاة وهو قول أشهب وروايته
عن مالك ومذهب سحنون واختيار محمد بن المواز.
وقيل: إنه لا يجب على العامل في حظه من الربح زكاة حتى يكون ما تجب فيه
الزكاة فرأس المال وحصة رب المال من الربح مزكاة على ملكه باتفاق، لا يجب
في ذلك زكاة إلا أن يكون حرا مسلما لا دين عليه ويكون قد حال عليه الحول
وفيه ما تجب فيه الزكاة وفيه مال سواه إن كان له مال سواه قد حال عليه
الحول ما تجب فيه الزكاة.
(12/351)
واختلف في زكاة حصة العامل من الربح. فقيل:
إنها مزكاة على ملك رب المال لا يراعى شروط وجوب الزكاة المذكورة إلا فيه
لا في العامل.
وقيل: إنها مزكاة على ملك رب المال لا تراعى شروط وجوب الزكاة المذكورة إلا
فيه لا في رب المال.
وقيل: إنها مزكاة على ملكهما جميعا، فتراعى الشروط المذكورة فيهما جميعا.
ولم يجر ابن القاسم في ذلك على قياس؛ لأنه راعى الإسلام والحرية وعدم الدين
في كل واحد منهما. واضطرب قوله في النصاب والحول، فله في النصاب ثلاثة
أقوال:
أحدها: وهو المشهور من قوله أنه لا يجب على العامل في حظه الزكاة حتى يكون
في رأس المال وحصته من الربح ما تجب فيه الزكاة.
والثاني: وهو قوله في رواية أصبغ عنه أنه لا تجب على العامل في حظه الزكاة
حتى يكون في رأس مال رب المال وجميع الربح ما تجب فيه الزكاة.
والثالث: أنه لا يجب على العامل في حظه من الربح زكاة حتى يكون في رأس مال
رب المال وحصته من الربح ما تجب فيه ويكون أيضا في حظه من الربح ما يجب
فيه. وهذا القول تأوله محمد بن المواز على ابن القاسم ولا يوجد له نصا.
والثلاثة الأقوال كلها استحسان ليست بجارية على أصل ولا قياس، إذ لم يعتبر
في ذلك ملك أحدهما دون صاحبه على انفراد ولا ملكهما كما فعل في الحرية
والإسلام وعدم الدين إذ اقتصر في النصاب على رأس المال وحصة رب المال من
الربح دون أن يضيف إلى ذلك ما لرب المال من مال غير مال القراض، وعلى حصة
العامل من الربح دون أن يضيف إلى ذلك أيضا ماله من مال حال عليه الحول فيتم
به النصاب، وله في الحول قولان: أحدهما: أن العامل لا تجب عليه في حظه من
الربح الزكاة حتى يقيم المال بيده حولا من يوم أخذه وإن لم يعمل به إلا قبل
أن يحول عليه الحول بيسير. قاله في الزكاة في المدونة، وله في القراض منها
دليل على أن الزكاة تجب عليه في حظه من الربح وإن لم يقم المال بيده حولا
إذا كان في رأس مال رب المال وحصته من الربح ما تجب فيه الزكاة وحال عليه
الحول، وإلى هذا ذهب ابن المواز وعليه حمل قول مالك، وهو الأقيس ألا يراعى
في حقه
(12/352)
الحول كما لا يراعى فيه النصاب.
والقول الأول هو أجرى على أصله وأظهر من مذهبه، وقد فرغنا من تحصيل القول
في هذه المسألة في غير هذا الكتاب، وبالله التوفيق.
[: يدفع إلى الرجل مالا قراضا ويشترط عليه أن
زكاة الربح في حصتك من الربح]
ومن كتاب الزكاة قال: وسئل مالك: عن الرجل يدفع إلى الرجل مالا قراضا
ويشترط عليه أن زكاة الربح في حصتك من الربح.
فقال: ليست فيه خير حتى تكون الزكاة على المال كله، ثم قيل له بعد ذلك:
إنما اشترط عليه أن زكاة ربح المال عليه في حصته، فقال: لا خير فيه وليس
هذا بحسن.
قال أشهب: لا أرى بذلك بأسا لأنه جزء من الربح.
قال محمد بن رشد: قول أشهب هذا على ما في المدونة من قول ابن القاسم
وروايته عن مالك، وفي كتاب ابن المواز وغيره من رواية ابن القاسم وغيره
خلاف روايته هذه عن مالك، وخلاف ما في أصل الأسدية. وقد تقدم ذلك في أول
السماع، وبالله التوفيق.
[مسألة: دفع إليه تسعة عشر دينارا قراضا فربح
فيها دينارا أعليه الزكاة]
مسألة قال: وسئل مالك: عمن دفع إليه تسعة عشر دينارا قراضا فربح فيها
دينارا، أترى عليه الزكاة؟
قال: نعم عليهما الزكاة، وإنما ذلك كهيئة أن يدفع إليه تسعة وثلاثين دينارا
قراضا يربح فيها دينارا فتصير أربعين دينارا، فزكاتها دينار يزكى كل واحد
منهما ماله.
قال محمد بن رشد: قول مالك هذا في رواية أشهب عنه إنه يزكي التسعة عشر
دينارا إذا ربح المقارض فيها دينارا وحال عليها هو مثل قول أشهب وابن
القاسم وأصبغ، في سماع أصبغ خلاف قول ابن القاسم في سماع سحنون
(12/353)
بعد هذا وخلاف ما في المدونة من أنه لا تجب
على العامل في حظه من الربح زكاة حتى يكون في رأس مال رب المال وحصته من
الربح ما يجب فيه الزكاة. وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في الرسم
الذي قبل هذا، وبالله التوفيق.
[: أخذ من رجل مالا قراضا على أن يدفعه إلى رجل
آخر سماه]
من سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم
من كتاب أوله نقدها نقدها قال عيسى: وسئل ابن القاسم: عن رجل أخذ من رجل
مالا قراضا على أن يدفعه إلى رجل آخر سماه قراضا ويكون على الآخر الضمان.
قال ابن القاسم: يردان إلى قراض مثلهما، وهو بمنزلة ما لو دفعه إليه نفسه
على الضمان، فإنه يرد إلى قراض مثله، وليس على الآخر من الضمان شيء.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة عندي أنه أخذ منه المال قراضا
بالضمان على أن يدفعه قراضا إلى رجل سمى إن شاء، فصار كأنه دفع إليه قراضا
على أن يكون له ضامنا وأذن له أن يقارض به رجلا سماه، فوجب أن يكون حكمه
حكم القراض بالضمان يرد فيه إلى قراض مثله إذا فات بالعمل وعمل هو به أو
دفعه إلى الرجل المسمى، وإن لم يعمل هو به ودفعه إلى الرجل المسمى قراضا
فللرجل المسمى الجزء الذي اشترطه إذ لا فساد فيما بينه وبينه ولمالك في
كتاب ابن المواز أن للعامل في القراض على الضمان الأقل من قراض مثله أو
المسمى.
وهذا على الاختلاف في البيع والسلف إذا وقع وفات هل تكون فيه القيمة بالغة
ما بلغت أو الأقل من القيمة أو الثمن إذا كان المبتاع هو الذي أسلف، فإن
كان في مسألتا هذه قد أخذ القراض على النصف بالضمان فدفعه إلى الرجل المسمى
على النصف أيضا
(12/354)
فرد إلى قراض مثله على ألا ضمان عليه وهو
الثلث، كان السدس الفاضل من الربح لرب المال لأنه أحق بالربح بمنزلة إذا
أخذه على أن يكون له الثلث ودفعه إلى غيره على النصف، ولو كان قراض مثله
الثلثين فرد إليه على القول بأنه يرد إلى قراض مثله بالغا ما بلغ لكان رب
المال أحق بثلثي الربح ويرجع المقارض الثاني على المقارض الأول بمثل سدس
الربح لاستحقاق رب المال ذلك من يديه.
فمعنى قوله على ما حملنا عليه المسألة، وهو بمنزلة ما لو دفعه إليه نفسه
على الضمان، أي: وهو بمنزلة ما لو دفعه إليه نفسه على الضمان ولم يقل له
شيئا ووقع في بعض الكتب على الآخر على الآخذ بالذال، في الموضعين جميعا
بالذال، وفي بعضها على الآخر بالراء في الموضعين جميعا وفي بعضها في الأول
بالذال وفي الثاني بالراء، وفي بعضها بعكس ذلك من غير تقييد رواية بشيء من
ذلك يلزم الرجوع إليه.
والصواب ما حملنا عليه المسألة أن يقرأ الأول بالذال والثاني بالراء، ولو
كان إنما دفع إليه المال قراضا على أنه ضامن له بشرط ألا يعمل هو به وأن
يدفعه إلى الرجل المسمى قراضا لوجب أن يكون الثاني على قراضه، ويكون للأول
أجرة مثله في دفعه المال إلى الثاني، إن كان ذلك شيء له أجرة. وقد مضى بيان
هذا في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة من سماع ابن القاسم.
وقد تأول بعض أهل النظر المسألة على أن المعنى فيها أنه دفع إليه المال
قراضا على أن يدفعه إلى رجل سماه قراضا ويشترط عليه الضمان، فعلى هذا يرد
الثاني إلى قراض مثله، فعلى هذا يكون الأول من اللفظين على الآخر بالراء،
والثاني على الآخذ بالذال.
وقد اختلف في القراض الفاسد إذا لم يعثر عليه حتى فات بالعمل على أربعة
أقوال:
أحدها: أنه يرد فيه كله إلى إجارة مثله، وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة
وإليه ذهب الشافعي وأبو حنيفة.
والثاني: أنه يرد فيه كله إلى قراض المثل وهو قول أشهب وقول ابن الماجشون
وروايته عن مالك.
والثالث:
(12/355)
أنه يرد إلى قراض مثله إلا أن يكون قراض
مثله أكثر من المسمى فلا يزاد على المسمى إذا كان الفساد بما اشترطه رب
المال على العامل أو أقل من المسمى فلا ينقص من المسمى إذا كان الفساد بما
اشترطه العامل على رب المال، وهو يأتي على ما حكاه ابن المواز عن مالك في
القراض بالضمان أن له الأقل من قراض مثله أو المسمى.
والرابع: أنه يرد إلى قراض مثله في كل منفعة اشترطها أحد المتقارضين على
صاحبه في المال ليست بخارجة عنه ولا منفصلة منه ولا خالصة لمشترطها، وإلى
إجارة مثله في كل منفعة اشترطها أحد المتقارضين على صاحبه خارجة عن القراض
ومنفصلة عنه وخالصة لمشترطها وفي كل غرر وحرام خرجا به عن سنة القراض. وهو
مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك وقول مطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم
وأصبغ، وإياه اختار ابن حبيب، وبالله التوفيق.
[: قارض رجلا بمال فسار به إلى الحجاز فاشترى
به تمرا واكترى مركبا]
ومن كتاب استأذن سيده وسئل ابن القاسم: عن رجل من أهل القلزم قارض رجلا
بمال فسار المقارض بالمال إلى الحجاز فاشترى به تمرا واكترى مركبا بأحد
وعشرين دينارا، فلما قدم القلزم، قال صاحب المركب: لمن هذا التمر؟ قيل له:
لفلان صاحب المال، فقال: والله ما كنت لآخذ منه شيئا قد أولاني من نفسه
خيرا وعارفة.
فأراد صاحب المال أن يكون له الأحد وعشرون وحده، قال: إن لم يكن علم صاحب
المركب أن المال كان قراضا فالأحد وعشرون لصاحب المال، وإن كان علم أن
المال قراض، وقال: والله ما تركتها إلا له وحده - كان القول قوله في ذلك
أيضا، وإن قال: قد علمت أنها قراض فتركتها على وجه المكافأة ولم أذكر له
وحده كانت بينهما على قراضهما.
(12/356)
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه إذا لم
يعلم صاحب المركب أن المال قراض فالأحد والعشرون دينارا لصاحب المال؛ لأنه
لم يرد بعطيته سواه، وأما إذا علم أن المال قراض فالعطية بينهما على
قراضهما؛ لأنه لما ترك كراء مركبه ووهبه وهو يعلم أنه قراض حصل التمر
محمولا بغير كراء، فحصلت العطية لهما إلا أن يقول صاحب المركب: إنما أردت
أن يختص صاحب المال بجميع الكراء إذ قد كان وجب لي، فيكون ذلك له، وبالله
التوفيق.
[: أيجوز لرب المال أن يأخذ الدنانير القائمة
ويعطي العمل قدر ربحه تبرا]
ومن كتاب العارية وقال، في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا عشرة دنانير تنقص
خروبة فاشترى به سلعة فباعها بعشرة دنانير قائمة فأراد الذي له الدنانير أن
يأخذها ويعطيه قيمة ربحه ورقا أو تبرا أو يأخذها ويعطيه قدر ما ينوبه
دنانير.
قال ابن القاسم: لا يصلح ذلك من قبل الذهب بالذهب متفاضلا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال إنه لا يجوز لرب المال أن يأخذ
الدنانير القائمة ويعطيه قدر ربحه منها تبرا ذهبا أو دنانير؛ لأن ربحه لم
يتعين في الدنانير القائمة التي باع بها السلعة ولا حصل شريكا مع رب المال
فيها بقدر ربحه، إذ لا يجوز له الربح إلا بعد أن ينض رأس المال لصاحبه
دنانير ناقصة خروبة على ما دفعه إليه، وذلك لا يكون إلا بعد بيع الدنانير
القائمة بدراهم وبيع الدراهم بدنانير ناقصة خروبة كما دفعها إليها هو، وهو
الآن لا يدري إذا فعل ذلك كم ينض له من الربح أو هل يكون له ربح أم لا، إذ
لعله سيستلف من الدنانير أو الدراهم شيئا في حال تصريفه إياها، فدخل ذلك
الغرر مع ما ذكره ابن القاسم في الرواية من بيع الذهب بالذهب متفاضلا، ولم
يجب ابن القاسم في الرواية إذا أعطاه قيمة ربحه ورقا. ويظهر
(12/357)
من تعليله في الذهب أنه يدخله الذهب بالذهب
متفاضلا أن ذلك يجوز في الورق، ولا يجوز ذلك على ما بيناه؛ لأنه يبقى فيه
علة الغرر حسبما وصفناه.
ولو كان باع السلعة بدنانير من صفة الدنانير التي دفع إليه في رأس مال
القراض أكثر من الدنانير التي دفع إليه فوجب له ربحه فيها بعض دينار لجاز
أن يعطيه في حظه منه تبرا ذهبا مراطلة بأن يزن جميع المثقال فيعطيه قدر
الجزء الذي له فيه تبرا ذهبا أو مثقالا صغيرا بوزنه إذ لا ينقسم المثقال
على ما قالوا في الحلي من الذهب يكون بين الشريكين: إنه يجوز أن يزناه
فيعطي أحدهما صاحبه وزن حظه ذهبا. ولا اختلاف في هذا، بخلاف النقرة تكون
بين الشريكين فأجاز ذلك ابن القاسم فيها ورواه عن مالك لما في قسمتها من
المؤنة، ولم يجز ذلك مالك في رواية أشهب عنه، إذ لا مضرة في قسمتها بخلاف
الحلي. وأما بيع نصيبه من شريكه بدنانير إن كانت فضة أو بدراهم إن كانت
ذهبا فلا اختلاف في جوازه.
وقد عارض الفضل قول ابن القاسم في هذه المسألة بقول مالك في أول رسم من
سماع ابن القاسم أنه لا بأس أن يأخذ المقارض من شريكه ربحا ذهبا من غير
الذهب التي هي بينهما.
وليست بمعارضة صحيحة لما بيناه من أن الربح في هذه المسألة لم يتعين بعد
للمقارضة في الدنانير القائمة. وقد مضى القول على مسألة سماع ابن القاسم،
فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: يشتري بمال القراض قمحا فيقول له رب المال
إني احتجت القمح لعيالي]
ومن كتاب أوله يوصي لمكاتبه بوضع نجم من نجومه قال: وقال مالك، في رجل
يقارض الرجل بمائة دينار فيذهب فيشتري بها قمحا فيأتيه رب المال، فيقول:
إني احتجت إلى قمح لعيالي فقاسمني هذا، أعطني نصفه واحبس نصفه فتبيعه ولك
ربحه خالصا، قال مالك: لا خير فيه، قلت لابن القاسم: لم؟ قال: لمخاطرة
الربح
(12/358)
لعله لا يخرج إلا رأس ماله أو لعله ينقص أو
لعله لا يربح إلا درهما فقد خاطره بما لا يعلم.
قال محمد بن رشد: قد بين ابن القاسم معنى قول مالك وفسره. وهو تفسير صحيح
يدل على صحته تعليلنا لقوله في المسألة التي قبل هذه، قال ابن حبيب في
الواضحة: إلا أن يكون باعه ذلك بيعا بنصف رأس ماله الباقي فيكون ضمانه بعد
من العامل فلا بأس به. وكذلك فسره، وقال ابن القاسم: ومعنى ذلك إذا باعه
منه بنقد أو إلى أجل بأقل من ثمنه نقدا على ما مضى في رسم تأخير صلاة
العشاء في الحرس من سماع ابن القاسم، وعلى ما يأتي أيضا في رسم القطعان من
هذا السماع، وبالله التوفيق.
[: أخذ من رجل مالا قراضا فاشترى متاعا فقام
عليه غرماء لصاحب المال]
ومن كتاب أوصى أن ينفق على أمهات أولاده وقال ابن القاسم، في رجل أخذ من
رجل مالا قراضا فاشترى متاعا وخرج إلى طرابلس، فقام عليه بطرابلس غرماء
لصاحب المال.
قال: فرق مالك بين أن يقوم عليه غرماء صاحب المال وغرماء العامل، فقال: إذا
قام به غرماء صاحب المال بيع فأعطى العامل من ذلك حصته، وكان ما بقي لغرماء
صاحب المال وإذا قام على العامل غرماؤه فأرادوا أن يباع فيأخذوا ربحه لأن
فيه فضلا لم يبع حتى يحضر صاحب المال.
قال محمد بن رشد: قوله إنه إذا قام على العامل غرماء صاحب المال بيع فأعطى
العامل من ذلك حصته وكان ما بقي لغرماء صاحب المال، معناه: إذا كان لبيعه
وجه لا ضرر فيه على العامل، فإن كان عليه فيه ضرر لربح
(12/359)
يرتجيه في أسواقه لم يبع عليه حتى تأتي
أسواقه. وكذلك في تفسير ابن مزين وكتاب ابن المواز عن مالك: أنه لا تباع
إلا أن يرى لذلك وجه ومصلحة. وهو معنى ما في المدونة.
وأما إذا قام على العامل غرماؤه فلا إشكال في أنه لا يباع المال عليه حتى
يحضر صاحبه لأنه لا ربح له في المال حتى يرجع إلى رب المال رأس ماله.
وقد تكررت هذه المسألة والكلام عليها في رسم البيوع من سماع أصبغ من كتاب
المديان والتفليس، وفيها زيادة من قول أصبغ مشكلة قد مضى الكلام عليها
هناك، وإنما لم تبع عروض القراض لغرماء العامل إذا قاموا عليه وصاحب المال
غائب وإن كان فيها فضل بين لما على صاحب المال من الضرر في أن يفاصل عليه
في القراض فيوقف ماله على يدي من لم يرض بأمانته ولو كان صاحب المال حاضرا
لبيعت على العامل العروض لغرمائه فأخذوا حظه من الربح في الموضع الذي لو
سأل صاحب المال أن تباع، فيأخذ رأس ماله كان ذلك له، والله الموفق.
[: أخذ مالا قراضا فاشترى به ظهرا فأكراه فنما
المال أو نقص]
ومن كتاب أوله بع ولا نقصان عليك وعن رجل أخذ مالا قراضا فاشترى به ظهرا
فأكراه فنما المال أو نقص. قال: أراه متعديا وأراه ضامنا.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا يجوز لمن أخذ مالا قراضا أن يشتري به ظهرا
فيكريه خلاف مذهبه في المدونة؛ لأنه أجاز فيها من أخذ مالا قراضا أن يشتري
به أرضا أو يكريها ويشتري به زريعة وأزواجا فيزرع لأنها تجارة من التجارات.
قال: إلا أن يكون خاطرا لذلك لظلم العمال، إذ لا فرق بين المسألتين في
المعنى، بل شراء الظهر للكراء أدخل في باب التجارة من أن يزرع به، فإذا لم
يجز للمقارض أن يشتري بمال القراض ظهرا للكراء كان أحرى ألا يجيز له أن
يشتري به أرضا أو يكتريها فيزرع فيها به، إذ ليس ذلك مما ينطلق عليه اسم
التجارة بإطلاقه، وإذا أجاز له أن يشتري أرضا أو يكتريها ويزرعها بمال
القراض فأحرى أن يجيز له أن يشتري به ظهرا للكراء.
(12/360)
فحمل القراض في هذه الرواية على التجارة
المعروفة العامة. وحملها في المدونة على كل ما هو تجارة وإن لم يكن ذلك من
عام التجارة إلا أن يأخذ القراض على أن يزرع به فلا يجوز ويكون أجيرا إن
وقع.
قاله في المدونة، وقد قيل: إنه يجوز أن يأخذه بشرط أن يزرع به، وقع ذلك في
كتاب ابن شعبان واختلف إذا شرط أن يزرع، فأجيز، وكره، وكذلك الكراء سواء.
فيتحصل في ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أن ذلك لا يجوز بحال. وهو قوله في هذه الرواية.
والثاني: أنه يجوز بكل حال وهو أحد القولين في كتاب ابن شعبان.
والثالث: الفرق بين أن يشترط ذلك عليه أو لا يشترط، فإن اشترط عليه أن يزرع
به لم يجز، وإن زرع به من غير شرط واشترى به ظهرا للكراء جاز، ولم يكن عليه
ضمان. وهو قوله في المدونة. والله الموفق.
[: مال القراض يقيم في يدي العامل سنين من قبل
أن يتفاصلا]
ومن كتاب سلف دينارا في ثوب
وقال مالك، في مال القراض يقيم في يدي العامل سنين من قبل أن يتفاصلا، قال:
يزكي رأس ماله وربحه مرة واحدة إلا أن يكون كان يدار فيزكي للسنين الماضية.
قال ابن القاسم: وكذلك العامل بالقراض بمنزلة سواء في نصيبه إذا كان يدار.
قلت: أرأيت إن كان رب المال مديرا والعامل غير مدير.
قال: يزكي أيضا لكل سنة مضت، وإن كان رب المال غير مدير والعامل مديرا فإنه
يزكيه أيضا لكل سنة مضت.
قال محمد بن رشد: قوله في مال القراض يقيم في يد العامل سنين من قبل أن
يتفاصلا إنه يزكي رأس ماله وربحه مرة واحدة إلا أن يكون كان مديرا فيزكي
للسنين الماضية.
يدل على أن الحكم عنده في مال القراض لا يزكي إلا عند المفاصلة وإن أقام
بيد العامل أعواما على ما في رسم أبي زيد وفي القراض من المدونة، فإن كان
لا يدار زكاه زكاة واحدة حين البيع والانفصال، وإن كان يدار زكاه لكل سنة
مضت قبل على قيمة ما كان بيده كل
(12/361)
سنة زاد أو نقص.
وقيل: إنه إذا نقص لم يزكه للأعوام الماضية إلا على ما رجع إليه من
النقصان.
وقوله: وكذلك العامل في القراض بمنزلة سواء في نصيبه إذا كان يدار، يريد:
إذا كان القراض يدار فيزكي جميعه بربحه كله لكل سنة مضت منه، فتكون الزكاة
قد حصلت على العامل في حظه من الربح كما حصلت على رب المال في رأس ماله
وحظه من الربح.
وأما قوله إذا كان رب المال مديرا والعامل غير مدير فإنه يزكي لكل سنة مضت،
فالمعنى في ذلك: إذا كان المال غائبا عنه أو حاضرا معه فغفل عن تقويمه مع
ما يدير من ماله؛ لأن الحكم في ذلك إذا كان حاضرا معه أن يقومه في كل سنة
ويزكيه مع ما يدير من ماله، قال ابن حبيب: بجميع ربحه، وقال ابن القاسم: في
سماع أصبغ من كتاب الزكاة: بل بحصته خاصة من الربح ويخرج الزكاة عن قولهما
جميعا من ماله لا من مال القراض.
وقوله: وإن كان رب المال غير مدير والعامل مدير فإنه يزكيه أيضا لكل سنة
مضت، يريد: من مال القراض لا من مال نفسه؛ لأن العامل إذا كان مديرا فسواء
كان رب المال مديرا تخرج الزكاة منه عند المفاصلة لما مضى من الأعوام، فيقع
على العامل منها بقدر حصته من الربح، فإنما يستوي أن يكون المدير هو العامل
أو رب المال في وجوب إخراج الزكاة عن الأعوام المتقدمة إن كانت لم تخرج منه
الزكاة في كل عام عند حلوله، ويفترق في حكم إخراجها على ما بيناه وذكرناه،
وبالله التوفيق.
[مسألة: زكاة الفطرة عن عبيد القراض]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن رجل أخذ من رجل عشرة دنانير أو خمسة قراضا
فاشترى بها أربعين من الغنم فحال عليها الحول عنده؟ إن فيها شاة وإنها على
صاحب المال، قلت: فإن باعها بعد ذلك بعشرين دينارا؟ قال: تقوم الشاة كم
قيمتها من الثمن الذي ابتاع به الغنم فإن كان دينارا وكان رأس المال خمسة
رد إليه أربعة في رأس ماله، واقتسما ما بقي.
(12/362)
قال محمد بن رشد: مثل هذا في المدونة في
هذه المسألة بعينها وإن كانت هذه أفسر وأبين منها، وكذلك قال في المدونة في
زكاة الفطرة عن عبيد القراض إنها على رب المال، يريد: أنها تحسب عليه من
رأس ماله كزكاة الغنم.
ووقع في بعض الكتب في زكاة الفطرة عن عبيد القراض أنها على رب المال وليس
من مال القراض، وهو قريب من الأول؛ لأنها إذا عدت من رأس ماله فقد أخذت من
ماله.
وأشهب يقول في زكاة الفطر عن عبيد القراض: إنها كزكاة مال القراض يكون على
العامل منها بقدر ماله فيهم من الربح إن بيعوا بربح.
وقال ابن حبيب في مسألة الغنم هذه: إنها مجتمع عليها من رواية المدنيين
والمصريين؛ لأن الذي يؤخذ منها هو نقصان منها، فهو كشيء استحق من رأس المال
وزكاة الفطرة، ليست في رقاب الرقيق ولا نقصانا من عددهم، وإنما أجعل أنا
فطرتهم كنفقتهم من جملة مال القراض يجبر من الربح ويكون رأس المال بحاله
وهو الذي قال ابن حبيب: ليس ببين لا فرق في القياس بين المسألتين.
وقد ساوى عبد الله بن عبد الحكم بينهما، فقال: إنهما كالنفقة تجبر من الربح
ويكون رأس المال على حاله. وهو الأظهر لأن العامل أدخل ذلك على رب المال
إذا اشترى بماله عبيدا أو دواب ينفق عليهم ولم يشتر سلعا لا ينفق عليهم.
ويتحصل في هاتين المسألتين أربعة أقوال:
أحدها: أنهما جميعا ملغاة كالنفقة، وهو قول عبد الله بن الحكم.
والثاني: أنهما يؤخذان من مال القراض ويجب على رب المال في رأس ماله، وهو
قول ابن القاسم في هذه الرواية ومذهب مالك في المدونة واختيار ابن حبيب.
والثالث: أنهما يؤخذان من رب المال لا من مال القراض بمنزلة زكاة مال
القراض إذا كان رب المال مديرا والعامل غير مدير وهو الذي وقع في بعض
روايات المدونة من قوله في زكاة الفطرة عن عبيد القراض أنهما على رب المال
في ماله وليس من مال
(12/363)
القراض.
والرابع: الفرق الذي ذهب إليه ابن حبيب بين المسألتين، والله الموفق.
[: النفقة للمقارض في المال القليل إذا كان
السفر قريبا]
ومن كتاب التفسير قال ابن القاسم: في المال الذي يحمل الكسوة والطعام إذا
كان قليلا ويخرج إلى مثل الأرض ودمياط ونحوها في اليمن والصوف والجزر وما
خرج له فإنه يأكل منه ولا يكتسي، وإذا كان قليلا وأراد مكانا بعيدا فلا
كسوة فيه ولا طعام وإذا كان المال كثيرا وكان السفر قريبا مثل دمياط ونحوها
ففيه طعام وليس فيه كسوة إلا أن يكون يريد مقاما مثل أن يشتري الحبوب
وغيرها فيقيم الشهرين والثلاثة فإن ذلك سفر وإن قرب المكان، قال: وإنما
ينظر إلى المال ونحوه بقدر السفر والحاجة إليه ينظر إلى المكان الذي يريد
إليه وإلى النفقة فيكون ذلك على ما يرى ولم يحد لنا فيه حدا.
قال محمد بن رشد: أوجب ابن القاسم في هذه الرواية النفقة للمقارض في المال
القليل إذا كان السفر قريبا، وذلك خلاف ظاهر ما حكى ابن حبيب في الواضحة من
أنه لا نفقة للعامل في المال القليل ولا ركوب ولا كسوة، وإن كان السفر
قريبا ولم يحد في هذه الرواية ولا في الواضحة قدر قليل المال من كثيره ولا
قدر قريب السفر من بعيده، والقليل من المال يختلف فيكون بعضه أقل من بعض،
وكذلك القريب من السفر يختلف فيكون بعضه أقرب من بعض، فإنما في ذلك
الاجتهاد كما قال في الرواية بأن ينظر إلى المال ونحوه وإلى قدر السفر
ونحوه، فإن كان يحمل النفقة ذلك المال على قلته في ذلك السفر على قربه كانت
النفقة فيه، وإلا فلا.
وقد روى أشهب عن مالك فيمن دفع إليه خمسون دينارا قراضا فشخص فيها، أيكون
له فيها نفقة؟ فقال: نعم، وما أقل ما تحمل هذه من النفقة إلا إن شخص إلى
المكان القريب وفي هذا بيان ما يعتبر به، وبالله التوفيق.
(12/364)
[مسألة: دفع
الرجل إلى الرجل وإلى عبده مالا قراضا]
مسألة وإذا دفع الرجل إلى الرجل وإلى عبده مالا قراضا، فإن كان إنما يجعل
العبد ليكون على الآخر عينا وليحفظ عليه أو ليعلمه فلا خير فيه، وإن كانا
أمينين تاجرين، وإن كان العبد أدنى عملا من الآخر فلا بأس به إذا لم يكن ما
ذكرت.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله إذا كانا أمينين تاجرين فذلك جائز
وإن كان الرجل أبصر بالتجارة من العبد لأن الرجل يجوز أن يدفع إلى عبده
مالا قراضا على ما قاله في المدونة وغيرها، فإذا جاز ذلك جاز أن يدفعه إليه
وإلى غيره على أن يشتركا في العمل به وإن كان أحدهما أبصر بالتجارة من
صاحبه لأن الشركة جائزة في التجارة بين الرجلين، وإن كان أحدهما أقعد بها
من الآخر، وفي الصناعة، وإن كان أحدهما أصنع من الآخر، إذ لا بد أن يكون
التجار بعضهم أتجر من بعض والصناع بعضهم أصنع من بعض.
وأما إن كان العبد غير بصير بالتجارة فدفع إليهما القراض ليعلمه التجارة أو
كان الرجل غير أمين فدفع إليهما المال ليكون العبد عليه عينا في حفظه لا
يجوز ذلك، فإن وقع الأمر على هذا ولم يعثر عليه حتى فات بالعمل رد الرجل في
عمله إلى إجارة مثله، وذلك إذا قامت البينة أن عملهما كان على هذا الوجه أو
تقارا بذلك صاحب المال والرجل طلبا للحلال، وأما إذا اختلفا في ذلك فادعى
أحدهما الإفصاح بأحد الشرطين وأنكره الآخر فالقول قول من ادعى الصحة منهما
إلا أن يكون مدعي الفساد هو الذي يشبه قوله بما يعلم من صفة حال العبد
والرجل فيكون القول قوله، وأما إن قال السيد: كانت تلك نيتي ومقصدي
وإرادتي، وقال الرجل: لم أعلم بذلك من مقصدك، وإرادتك، ولو علمت لما دخلت
معك فيه لوجب أن ينظر، فإن كانت إجارة مثله أكثر من حصته من الربح وفاه
ذلك؛ لأنه مقر له به، وإن كانت مثلها أو أقل لم يكن عليه شيء، وبالله
التوفيق.
(12/365)
[: قارض رجلين
معا صفقة واحدة فخرجا إلى بلد فمات أحدهما]
ومن كتاب أوله إن خرجت من هذه الدار وسئل ابن القاسم: عن رجل قارض رجلين
معا صفقة واحدة فخرجا إلى بلد فمات أحدهما فاشترى الآخر بجميع المال، فإن
صاحب المال بالخيار إن شاء كان على قراضه، وإن شاء ضمنه لأنه لم يكن له أن
يشتري شيئا إلا بإذن صاحبه حين مات شريكه في القراض فلما اشترى كان متعديا،
قلت: فإن كان اشترى قبل أن يموت ببعض المال أو اشتريا بالمال كله كيف الأمر
فيه؟ أو هل لورثة الميت من الميت من الربح شيء فيما اشترى شريك صاحبهم بعد
موته أو قبل موته؟ قال: إن اشترى بالمال كله قبل موته فهما على قراضهما وقد
تم القراض بينهما ويقوم ورثة الميت معه في بيع المال أو يقوموا أمينا يقوم
فيه، وإن كانا اشتريا ببعض وبقي بعض فورثة الميت شركاء فيما اشترى قبل موت
صاحبهم يقومون معه، وما اشترى بعد موت صاحبه فهو على ما فسرت لك، صاحبه
بالخيار إن شاء كان على قراضه فيما اشترى بعد موت صاحبه، وإن شاء ضمنه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة على معنى ما في المدونة وغيرها.
وقوله: إذا اشتريا بالمال كله قبل موته إن القراض قد تم بينهما، معناه: قد
لزم، إذ لا يتم القراض إلا بنضوض المال.
وقوله: ويقوم ورثة الميت معه في بيع المال. معناه: إن كانوا أمناء وهم
محمولون على غير الأمانة حتى يعلم أنهم أمناء، بخلاف ورثة المساقي إذا مات
قبل تمام عمل المساقي وهم محمولون على الأمانة حتى يعلم أنهم غير أمناء،
فإن لم يكن ورثة الميت من المقارضين في مسألتي أمناء ولا أتوا بأمين
انسلخوا من القراض، ولم يكن لهم فيما تقدم من عمل موروثهم فيه شيء.
وإن كان في المال ربح لم يكن لهم
(12/366)
فيه حق، قاله في المدونة وغيرها وهو صحيح؛
لأنهم قد مكنوا من الوصول إلى حق موروثهم فيما عمل لئلا يخسروه فتركوه؛
لأنهم نزلوا بمنزلته في ذلك ولم ينزلوا بمنزلته في إلزامهم العمل في ماله
إلى أن ينض المال؛ لأن العمل إنما كان متعينا في عينه لا في ذمته، وفارق في
ذلك حكم الأجير يستأجر على عمل الشيء فيموت قبل تمامه أنه ليس للورثة أن
يكملوا العمل ويستحقوا الأجرة من أجل أنه يجب له حقه فيما مضى من عمله.
وهذا كله ما لا خلاف فيه.
وقد ذهب اللخمي في التبصرة له إلى أنه إن كان في المال ربح يوم مات المقارض
فترك الورثة العمل فيه لم يبطل حقهم فيما عمل موروثهم، على قولهم في الذي
يجعل له الجعل على حفر البئر فيترك العمل باختياره قبل أن يتم حفرها إن
الجاعل إن استأجر على تمام حفر البئر أو جاعل أحدا على ذلك كان للأول بقدر
ما انتفع به من عمله على الاختلاف فيما يكون له من ذلك إن كانت قيمة عمله
يوم عمله، أو يوم انتفع به صاحب البئر، أو قدر ما انحط عنه من الجعل عليها
أو الاستئجار بسبب ما تقدم فيها من عمله.
قال: لأنه إذا لم يبطل حق المجعول له فيها بتركه العمل باختياره فأحرى ألا
يبطل حق المقارض فيما عمل بموته؛ لأن من حيل بينه وبين التمام أعذر في ألا
يبطل عمله، وليس ذلك بصحيح.
والفرق بين المسألتين بين وهو أن القراض يلزم المتقارضين بعمل العامل، فإذا
اشترى بالمال لزمه البيع والتقاضي، وإذا لزمه ذلك كان من حق صاحب المال أن
يقول له: إما أن تبيع وتقتضي، وإما أن تنسلخ من القراض وتترك حقك فيما
عملت، والمجعول له على حفر البئر لا يلزمه بالشروع في حفرها تمامها إذ من
حكم الجعل ألا يلزم المجعول له التمادي على العمل، وإذا لم يلزمه ذلك كان
من حقه أن يترك تمام حفرها ويكون على حقه فيما حفر منها إن انتفع بذلك
صاحبها، ولو مات المجعول له قبل تمام حفر البئر نزل ورثته بمنزلته وكان من
حقهم أن يتموا حفرها ويستوجبوا الجعل أو يتركوا حفرها ويكونوا على حقهم
فيما حفر موروثهم منها إن انتفع
(12/367)
بذلك صاحبها، فليس حكم الجعل حكم القراض،
بل لكل واحد منهما حكم على حياله؛ لأن القراض لا يلزم المتقارضين بالعقد
ويلزمهما جميعا بالعمل، والجعل لا يلزم المجعول له بحال.
واختلف في الجاعل، فقيل: إنه يلزمه بالعقد، وقيل: لا يلزمه إلا بشروع
المجعول له في العمل، والجعل لا يكون إلا معلوما، بخلاف القراض الذي إنما
يعمل فيه المقارض على أجر غير معلوم، وهو الجزء الذي يشترطه من الربح،
وإنما يستويان في أن المقارض لا يجب له الربح إلا بعد تمام العمل بتنضيض
المال كما أن الجعل لا يجب للمجعول له إلا بتمام العمل، فلا يصح قياس
أحدهما على الآخر في جميع الوجوه، وبالله التوفيق.
[مسألة: قارضه بمائة دينار فاشترى سلعة بمائة
دينار واستسلف مائة أخرى]
مسألة وقال ابن القاسم: ولو أن رجلا قارض رجلا بمائة دينار فاشترى سلعة
بمائة دينار فلم يكن معه المائة الدينار فاستسلف مائة دينار من صاحب المائة
أو من رجل أجنبي على أن يقضيه المائة التي في البيت التي أخذ قراضا فباع
تلك السلعة قبل أن يقضي صاحب المائة مائته بربح واشترى بعد ذلك بالمائة
التي في البيت سلعة فباعها بنقصان وباع السلعة التي اشترى بالمائة السلف
بربح هل يجبر نقصان هذه بربح هذه؟ قال: إذا كان اشتراؤه إياها على المائة
القراض فالربح بينهما على ما تقارضا ونقصان المائة القراض يجبر بربح المائة
السلف.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، ولو اشترى السلعة الثانية بالمائة
التي في البيت قبل بيع السلعة الأولى لكان نقصان الثانية منه إن بيعت
بنقصان؛ لأنه متعد إذا اشترى بها، ومسلف المائة أحق بها، بخلاف ما لو اشترى
السلعة الثانية بعد أن باع الأولى؛ لأن في يديه مائتين مائة القراض
(12/368)
يؤديها في ثمن هذه السلعة ومائة أخذها في
السلعة الأولى يؤديها في السلف، وقد مضى هذا المعنى في رسم القبلة من سماع
ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[: دفع إلى رجل مالا قراضا فسأله ماله فجحده
حينا ثم زعم بعد ذلك أنه قد قضاه]
ومن كتاب أسلم وله بنون صغار وسئل ابن القاسم: عن رجل دفع إلى رجل مائة
دينار وجعل الآخر خمسين على أن يشخص صاحب الخمسين ويكون الفضل بينهما على
النصف، فضرب بالمال ثم قدم، فلما قدم سأله صاحب المائة عن ماله، فقال: لم
تعطني شيئا، فجحده حينا، ثم قال بعد ذلك: تلف مني.
قال ابن القاسم: دفع ناس من أهل المدينة إلى رجل كان إلى الجار مالا يسلفه
إلى الجار ويدفعه إلى أقوام سموا له فخرج بالمال ثم رجع إليهم فسألوه عما
صنع في المال أو قدم الذين سير إليهم المال فأخبروا أنه لم يدفع إليهم شيئا
فسألوه عن المال فجحده، وقال: لم تبعثوا معي بمال ولم تدفعوا إلي شيئا،
فأقاموا عليه البينة بدفع ذلك إليه فلما شهدت عليه البينة، قال: ضاع مني
فاختصموا عند ذلك. فرأى مالك أن يحلف بالله الذي لا إله إلا هو أنه ضاع ثم
يبرأ ولا شيء عليه.
فأرى مسألتك مثلها يحلف صاحبك بالله الذي لا إله إلا هو: إن ضاع ولا شيء
عليه، قال عيسى: إذا جحد حتى قامت عليه البينة ثم زعم أنه ضاع منه لم يصدق
وغرم. وكذلك بلغني عن مالك.
وسئل ابن القاسم عن رجل دفع إلى رجل مالا قراضا فسأله ماله فجحده حينا ثم
زعم بعد ذلك أنه قد قضاه، قال: إن لم يأت بالبينة على أنه قضاه غرمه، وليس
من
(12/369)
ادعى القضاء مثل من زعم أنه ضاع، وفي سماع
ابن القاسم عن مالك في كتاب أوله حديث طلق بن حبيب، قال مالك: ما أرى عليه
إلا يمينه بالله ويبرأ.
قال محمد بن رشد: تكررت هذه المسألة في مواضع، منها ما في سماع ابن القاسم
من كتاب البضائع والوكالات. وما في سماع عيسى من كتاب الشركة.
ووقع الاختلاف فيها هنا مجموعا، فتحصل فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يصدق مع يمينه بعد الإنكار في دعواه الرد والضياع.
والثاني: أنه لا يصدق في ذلك بعد الإنكار.
والثالث: أنه يصدق في دعواه الضياع ولا يصدق في دعواه الرد، ومن هذا الأصل
من ملك امرأته بكلام يقتضي التمليك فقضت بالثلاث فأنكر أن يكون أراد بذلك
الطلاق ثم قال: أردت واحدة، قيل: إنه لا يصدق أنه أراد واحدة بعد أن زعم
أنه لم يرد بذلك الطلاق، وقيل: يصدق في ذلك مع يمينه، والقولان في رسم كتب
عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم من كتاب التخيير والتمليك.
ومن هذا الأصل أيضا أن يدعي على الرجل دعوى فينكرها، فلما قامت عليه البينة
جاء بالمخرج منها من بينة على البراءة أو دعوى لو جاء بها قبل الإنكار
لقبلت منه وما أشبه ذلك.
فقيل: إن ذلك لا يقبل منه؛ لأنه قد كذبه أولا بجحوده. وقيل: إنها تقبل منه،
وقيل: إنها لا تقبل منه إلا في اللعان إذا ادعى رؤية بعد إنكاره القذف
وأراد أن يلاعن وما أشبه اللعان من الحدود، وهو قول محمد بن المواز.
وقيل: إن ذلك لا يقبل منه إلا في الحدود والأصول ولا يقبل منه في الحقوق،
وهو قول ابن كنانة وابن القاسم في المدونة.
فيتحصل في ذلك أربعة أقوال: بالتفرقة بين الحدود وما سواها في ذلك وبين
الحدود والأصول وما سواهما، وبالله التوفيق.
[: المضارب في المال يستسلف من المال فيبتاع
الجارية فيطأها فتحمل]
ومن كتاب أوله جاع فباع امرأته وسألته: عن المضارب في المال يستسلف من
المال فيبتاع
(12/370)
الجارية فيطأها فتحمل، أو تعدى على جارية
قد اشتراها من مال القراض فيطأها فتحمل، هل هذان الوجهان عندك سواء؟
قال: أما في الاستسلاف فقد علمت قول مالك، وأرى أن يؤخذ منه ما اشتراها به
من مال القراض إن كان مليا، وإن كان معدما اتبع به دينا، وأما إذا عدا
عليها بعد أن اشتراها فإني لا أراه مثله، وأرى أن تباع إذا لم يكن له مال.
قال عيسى: ويتبع بقيمة الولد دينا إلا أن يكون في القراض فضل فيكون بمنزلة
من وطئ جارية بينه وبين آخر لأن له في الجارية شركا بفضله فإن كان مليا
قومت عليه، وإن كان معدما خير رب المال فإن شاء أخذ من الجارية قدر نصيبه
منها واتبعه بما يصيبه من قيمة الولد، وليس له فيما نقصها الحمل والوطء
قليل ولا كثير، وإن أبى بيع له نصيبه منها فإن نقص ما بيع به نصيبه منها من
قيمة ذلك النصيب يوم وطئها اتبعه بذلك النقصان وبنصيبه من قيمة ولدها دينا
عليه.
قال ابن القاسم: وإذا كره جميع هذا وضمنه قيمة نصيبه منها فليس له من قيمة
ولدها ولا ما نقصها الوطء قليل ولا كثير.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة في رسم لا قسامة في العبيد من سماع
ابن القاسم، وتكلمنا هناك على توجيه الاختلاف الحاصل في هذه المسألة بين
مالك وابن القاسم في وجوب بيع الجارية إذا وطئها المقارض فحملت ولا مال له
فلا وجه لإعادته.
ولا اختلاف بينهم إذا عدا عليها بعد أن اشتراها للقراض فوطئها فحملت ولا
مال له في أنها تباع كما قال ابن القاسم، يريد: أنها تباع فيما لزمه من
قيمتها يوم حملت أو يوم وطئها على الاختلاف في ذلك؛ إذ قد قيل: إن القيمة
في ذلك يوم الوطء. وقيل: يوم الحمل. وقيل: ربها مخير بين أن يقومها عليه
يوم الوطء أو يوم الحمل. وهذا الاختلاف مبني على الاختلاف في وجوب تقويمها
عليه إذا وطئها فلم تحمل،
(12/371)
فإن نقص ثمنها الذي بيعت به من قيمتها يوم
حملت أو يوم وطئها على الاختلاف الذي ذكرناه في ذلك اتبعه بما نقص يومئذ.
وقول عيسى بن دينار إنه يتبع مع ذلك بقيمة الولد دينا هو على القول بأنها
تباع عليه في قيمتها يوم الحمل. وفي ذلك اختلاف. قيل: إنه لا يتبع بقيمة
الولد.
وأما على القول بأنها تباع عليه في قيمتها يوم الوطء، فلا خلاف في أنه لا
يتبع بقيمة الولد؛ لأن الولد إنما حدث في الوطء الذي حملت به بعد وجوب
القيمة عليه في الوطء الأول. هذا إذا تحققنا إن الحمل من الوطء الثاني.
وهذا كله إذا لم يكن في الجارية فضل على رأس المال.
وأما إن كان فيها فضل، فقول سحنون المتقدم في سماع ابن القاسم: إنه يباع
منها لرب المال بقدر رأس ماله وحصته من الربح ويكون ما تبقى منها بحساب أم
ولد للمقارض.
وذهب عيسى بن دينار إلى أن الحكم في ذلك حكم الأمة بين الشريكين يطؤها
أحدهما فتحمل ولا مال له. وفي ذلك اختلاف كثير. يتحصل فيه ثمانية أقوال:
أحدها: أنها تقوم عليه يوم حملت ويتبع بالقيمة دينا وتكون له أم ولد ولا
يتبع بقيمة الولد.
والثاني: أنها تقوم عليه أيضا يوم حملت ويتبع بالقيمة دينا وتكون له أم ولد
ويتبع أيضا بقيمة الولد.
والثالث: أنه يباع عليه نصيب الشريك فيما لزمه من قيمتها، فإن نقص ذلك عما
لزمه من نصف قيمتها اتبعه بما نقص من ذلك وبنصف قيمة ولدها إن كانت بينهما
بنصفين.
والرابع: مثل الثالث، في البيع إلا أنه لا يتبعه بشيء من قيمة الولد.
والخامس: أنه مخير بين أن يتمسك بنصيبه ويتبعه بنصف قيمة الولد وبين أن
يقومها عليه ويتبعه بنصف قيمتها دينا عليه مع نصف قيمة الولد.
والسادس: أنه يخير أيضا بين أن يتمسك بنصيبه ويتبعه بنصف قيمة الولد وبين
أن يقومها عليه فيبيعه بنصف قيمتها دينا عليه ولا شيء له عليه من قيمة
الولد.
والسابع: أنه مخير بين أن يتمسك بحظه منها ويبيعه بنصف قيمة الولد وبين أن
يباع عليه حظه منها فيما لزمه من نصف قيمتها، فإن نقص ما بيع به عما لزمه
من نصف قيمتها يوم وطئها اتبعه بما نقص من ذلك وبنصف قيمة الولد، وهو قول
عيسى بن
(12/372)
دينار في هذه الرواية.
والثامن: مثل القول السابع غير أنه لا يتبعه بنصف قيمة الولد، وهو قول ابن
القاسم في هذه الرواية.
وقول عيسى بن دينار: إنه إن اختار أن يأخذ من الجارية قدر نصيبه فليس له
مما نقصها الحمل والوطء قليل ولا كثير، هو مذهب أشهب وقول ابن القاسم في
كتاب الحدود في القذف من المدونة، خلاف المشهور من مذهبه في أن من جنى على
رجل في ثوبه جناية كثيرة فهو مخير بين أن يضمنه قيمته وبين أن يأخذه وما
نقصته الجارية.
وأما قول ابن القاسم إنه إذا ضمنه قيمة نصيبه فليس له مما نقصها الوطء قليل
ولا كثير فلا يستقيم، وهو كلام وقع على غير تحصيل، إذ لا يصح أن يضمنه قيمة
نصيبه معيبا بعيب الوطء، وإنما يضمنه إياه سالما منه، وإنما ضمنه إياه
سالما منه فقد حصل على ما نقصها الوطء. وهذا بين وبالله سبحانه وتعالى
التوفيق.
[: إذا دفع إليهما المال يعملان به جميعا فهما
شريكان في العمل به]
ومن كتاب أوله إن أمكنتني قال عيسى: وكتب إليه يسأل: عن رجل دفع إلى رجلين
مالا يعملان به جميعا فمات أحدهما وأقر دافع المال أن الحي منهما قد دفع
إليه شطر ذلك القراض، هل يلزم ذلك الحي شيء مما على الميت إن كان الميت لم
يدع وفاء أو يلزم الميت إن كان الحي مفلسا في ماله شيء مما على الحي؟
فقال ابن القاسم: أرى كل واحد منهما ضامنا لما على صاحبه إلا أن يكونا
ادعيا هلاكها أو يدعيه أحدهما فيحلف على ذلك، وإن لم يدعيا هلاكا فإنما هو
تفويض من أحدهما إلى صاحبه فهو ضامن إلا أن يكونا لم يفرطا فلا ضمان
عليهما، وإنما يلزمهما الضمان فيما فوض أحدهما إلى
(12/373)
صاحبه فأسلمه إليه وتركه يعمل فيه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال لأنه إذا دفع إليهما المال يعملان به جميعا
فهما شريكان في العمل به وكل واحد منهما مطلوب بجميعه لأنه حميل عن صاحبه
بما يلزمه من أداء نصفه، فما دفعه أحدهما من المال إلى صاحبه فهو متأد
عنهما، وما بقي من المال فهو عليهما حتى يبرءا منه أو يدعيان فيه هلاكا
فيصدق من ادعاه منهما مع يمينه وإن سلمه أحدهما إلى صاحبه لينفرد بالعمل به
دونه فهو ضامن له، وبالله التوفيق.
[مسألة: المقارضين يقتسمان المال فيتلف من
أحدهما ويؤدي الآخر]
مسألة قلت: أرأيت المقارضين يقتسمان المال فيتلف من أحدهما ويؤدي الآخر هل
يلزم الذي أدى غرم ما لم يؤد صاحبه أو لا ضمان عليه فيما تلف بيد صاحبه؟
وهل يكونان متعديين حين اقتسما المال؟ وما الأمر فيه؟ قال: نعم، يلزم الذي
أدى ما تلف من صاحبه.
قال محمد بن رشد: أوجب ابن القاسم على المقارضين ضمان المال إذا اقتسماه،
وهو قول ابن الماجشون في الوصيين يضمن كل واحد منهما على مذهبهما ما بيده
وما بيد صاحبه إن تلف شيء من ذلك يضمن ما تلف بيده لرضاه برفع يد صاحبه
عنه، ويضمن ما بيد صاحبه بتسليمه إليه، وكذلك المودعان والمستبضعان.
ووجه ذلك: أنه حمل الأمر على أن رب المال أراد أن يكون المال عند أحدهما
برضا الآخر إذ لا يمكن أن يكون جميع المال عند كل واحد منهما فوجب إذا
اقتسماه أن يضمناه وإن سلماه إلى أحدهما لم يضمناه.
ولسحنون في نوازله بعد هذا في الوديعة والقراض أنهما إن اقتسماهما لم
يضمناهما، وكذلك البضاعة على مذهبه؛ إذ لا فرق في ذلك بين القراض والوديعة
والبضاعة وهو قول أشهب وابن عبد الحكم في
(12/374)
الوصيين.
ووجه ذلك: أن رب المال لما رضي أن يكون المال عند كل واحد منهما برضا الآخر
فقد رضي أن يكون نصفه عند كل واحد منهما. وقول ابن القاسم أظهر؛ لأنهما إذا
اقتسماه على سبيل التشاح فلما ترك كل واحد منهما نصف المال لصاحبه بما ترك
له صاحبه من نصفه الآخر فاتهما على أنهما فعلا ذلك لأنفسهما لا نظرا لصاحب
المال فوجب أن يضمنا.
والحكم في ذلك إذا تشاحا واختلفا عند من يكون منهما فأراد كل واحد منهما أن
يكون عنده أو أراد كل واحد منهما أن يكون عند صاحبه أن يتبع قول صاحب المال
في ذلك على ما قال في أول رسم من سماع أصبغ بعد هذا وذلك ما لم يقبض المال
بعد، فإن كان قد قبض أقر بيد الذي دفعه صاحبه إليه منهما.
قال في رواية أصبغ المذكورة: فإن كان دفعه إليهما جميعا فجميعا وذلك يكون
مثل أن يأتي بالمال إليهما وهو في المسجد أو في غير منزل أحدهما فيضعه بين
أيديهما، ويقول لهما: هذا المال وديعة عندكما، أو قراض بأيديكما أو بضاعة
عندكما ويذهب عنهما.
فيختلفان عند من يكون منهما، وليس في قوله فإن كان دفع إليهما جميعا فجميعا
بيان في وجه الحكم في ذلك، إذ لا يمكن أن يكون المال كله عندهما جميعا. فهو
كلام فيه إشكال.
يحتمل أن يريد به أنه لا مزية لواحد منهما على صاحبه فيه فيجعله الإمام عند
من رأى منهما، ويحتمل أن يريد وهو الأظهر أن الإمام يقسمه منهما على ما روى
علي بن زياد عن مالك في الوصيين يتشاحان في المال أنه يقسم بينهما. وليس
قول ابن القاسم هذا على هذا التأويل، ولا رواية علي بن زياد عن مالك
بمخالفة لما اتفقت عليه الروايات من أنه ليس لهما أن يقتسما المال بينهما.
فتحصيل هذا أنهم اتفقوا على أنه لا يجوز لهما أن يقتسما المال بينهما.
واختلفوا إن اقتسماه هل يضمناه أم لا؟ واختلفوا أيضا إذا تشاحا عند من يكون
منهما ورب المال غائب أو ميت ولم يدفعه إلى أحدهما ولا قبضه واحد منهما
بعد، أو قبضه دون إذن صاحبه ودفعه إليهما جميعا فلم يبن به واحد منهما بعد
أن بان به دون صاحبه. فقيل: إنه يقسم بينهما. وهو قول مالك في
(12/375)
رواية علي بن زياد عنه. وظاهر ما في سماع
أصبغ على الأظهر من التأويلين.
وقيل: إنه يدفع إلى الأعدل منهما وهو قول مالك في كتاب الوديعة من المدونة
في الوصيين، ويحتمل ألا يكون ذلك اختلافا من القول، وأن يكون الوجه فيه أن
الإمام يقسمه بينهما على ما روى علي بن زياد عن مالك إن كان ذلك عنده وجه
النظر فيه ويجعله عند أعدلهما على ما في المدونة: إن كان ذلك عنده هو وجه
النظر فيه، وقد كان من أدركنا من الشيوخ يذهب إلى أن لهما هاهنا أن يقتسماه
بينهما ابتداء على رواية علي بن زياد عن مالك، وذلك لا يصح؛ لأن الإمام
يفعل من ذلك ما يراه وجه النظر ولا تهمة عليه فيه، وهما فيما اقتسما إياه
متهمان على ما ذكرناه، وأما إن كان صاحب المال حاضرا فيتبع قوله فيمن يحب
أن يكون عنده منهما.
وكذلك إن كان قد دفعه إلى أحدهما فهو أحق أن يكون عنده، وكذلك إذا كان قد
قبضه أحدهما بإذن صاحبه كان أحق أن يكون عنده.
وشبه في المدونة المودعين والمستبضعين بالوصيين في أن المال يجعل عند
أعدلهما. وذلك صحيح على ما بيناه من أن المودعين إذا اختلفا فيمن يكون
المال عنده منهما وصاحبه غائب ولم يدفعه إلى أحدهما أنهما كالوصيين في أنه
يجعل عند أعدلهما أو يقسم بينهما على قول مالك في رواية علي بن زياد عنه.
وقال سحنون: لا يشبه المودعان الوصيين لأن المال لا ينزع من المودع ويجعل
عند الأعدل كما ينزع من الوصي ويجعل عند الأعدل.
وليس قوله بصحيح؛ لأن المال إذا صار عند أحد المودعين بغير علم صاحب المال
ولا إذن شريكه فدعا شريكه إلى أن يكون عنده المال وصاحبه غائب وجب أن ينظر
الإمام في ذلك، فإن كان شريكه أعدل منه أخرجه من يده ووضعه عند الأعدل كما
يفعل في الوصيين، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
[: العامل بالقراض إذا أعطى بالسلعة عطاء أيجوز
له أن يشتريها بمثل رأس مال]
ومن كتاب القطعان وسئل ابن القاسم: عن العامل بالقراض إذا قدم بالسلعة التي
(12/376)
اشترى فعرضها فأعطى بها عطاء فأراد العامل
أن يشتريها بمثل رأس مال.
قال: لا بأس أن يشتريها بنقد وإن تأخر النقد فلا خير فيه إلا أن يشتريها
بمثل رأس مال القراض وبوضيعة منه فأرجو أن يكون خفيفا، قال: وإن أراد صاحب
المال شراءها بنقد أو إلى أجل فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في أول سماع ابن
القاسم فلا معنى لإعادته.
[مسألة: يدفعان إليه المال قراضا فيقولان له
أخلط مالينا ولك ثلث الربح]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن الرجل يدفع إليه الرجلان المال قراضا فيقولان له
أخلط مالينا ولك ثلث ربحه كله ولكل واحد منا الثلث؟
قال: لا خير في هذا الشرط إلا أن يشتري هو سلعة فيخلط المال من قبل نفسه
بغير شرط فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه لا فرق بين أن يأخذ منهما القراض على
أن يخلط ماليهما وبين أن يأخذه من أحدهما على أن يخلطه بماله لما يدخله من
اغتزار الزيادة في الربح بكثرة المال.
وقد اختلف إذا وقع ذلك، فقيل: إنه يرد إلى قراض مثله، وهو قول ابن حبيب،
والظاهر من قول مالك في المدونة أن ذلك لا يجوز أنه يرد إلى إجارة مثله،
وهو قول سحنون نصا أنه يرد إلى إجارة مثله، وقيل: إنه إن وقع مضى على سنته
ولم يفسخ، وهو قول أصبغ، وأشهب يخفف ذلك ولا يرى به بأسا حتى يكون ذلك شرطا
تعمداه لا استغزارا لربح، مثل أن يشترط عليه أن يضمه وهو يسير إلى مال له
كثير، وحكاه ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ، وقال: إنه إذا وقع يقسم
الربح على المالين، فتكون حصة مال العامل له، وحصة مال القراض بينهما على
قراض مثلهما من غير شرط.
وروى أصبغ عن ابن القاسم: أنه لا خير في أن يأخذ مالا قراضا على أن يخلطه
بماله، ولا على أنه إن شاء أن يخلطه بماله
(12/377)
خلطه وإن شاء أن يفرده أفرده. وقاله أصبغ،
وقال: ليس بحرام وهو ذريعة للزيادة والأول أقر وهو واحد، وإن وقع لم أر أن
يفسخ ومضى على سنته، وبالله التوفيق.
[مسألة: المقارض بالمالين يزعم أنه ربح خمسين
ولا يدري من أي المالين الربح]
مسألة وسئل مالك: عن المقارضين بالمال يزعم أنه قد ربح خمسين دينارا ولا
يدري من أي المالين الربح، نسي ذلك، فقال: لا شيء له من الخمسين وتكون
لصاحبي المال، لكل واحد منهما خمسة وعشرون دينارا.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف ما في رسم يوصى من سماع عيسى من كتاب الدعوى
والصلح في الوديعة يقر بها الرجل للرجلين ويقول لا أدري لمن هي منهما أنهما
يحلفان جميعا ويقتسمانها بينهما، بخلاف إذا قال: علي مائة دينار دين لا
أدري هل هي لفلان أو لفلان فادعاها الرجلان جميعا أنهما يحلفان ويغرم لكل
واحد منهما مائة مائة؛ لأن الدين في ذمته والوديعة في أمانته، وكذلك ربح
القراض في أمانته يلزم فيه على ما في كتاب الدعوى والصلح في الوديعة أن
تكون الخمسة وعشرون من الخمسين له والخمسة والعشرون الأخرى لصاحبي المالين
يقتسمانها بينهما بنصفين بعد أيمانهما إن ادعى كل واحد منهما أن الربح كان
من ماله أو بغير يمين، إن قال كل واحد منهما: لا أدري ولم يدع على صاحبه
أنه يدري، وإن ادعى كل واحد منهما على صاحبه أنه يعلم أنها ليست من ماله
حلف كل واحد منهما أنه لا يعلم أنها من مال صاحبه فاقتسماها بينهما بنصفين
إلا أن يسلمها أحدهما لصاحبه.
ولو قال أحدهما: هي من مالي، وقال الآخر: لا أدري. قيل للذي قال لا أدري:
احلف إنك ما تدري، فإن حلف على ذلك حلف الآخر
(12/378)
إنها من ماله وأخذها، وإن نكل الذي قال لا
أدري عن اليمين، أخذها الذي قال إنها من ماله دون يمين، وإن نكلا جميعا عن
اليمين اقتسماها بينهما إلا أن يسلمها أحدهما لصاحبه، وقد روى عيسى عن ابن
القاسم في رسم يدير ماله من كتاب المديان والتفليس في الدين أنه ليس عليه
أكثر من المائة التي أقر بها، ويقتسمها الرجلان بينهما بعد أيمانهما، فإن
حلفا أو نكلا كانت بينهما بنصفين، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر عن اليمين
كانت للحالف منهما.
فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يلزمه من الغرم لكل واحد منهما ما أقر به في الوديعة والدين،
وهو الذي يأتي على قوله في مسألة القراض هذه؛ لأنه إذا أوجب ذلك عليه فيما
في أمانته فأحرى أن يوجب ذلك عليه فيما في ذمته.
والقول الثاني: أنه لا يلزمه إلا مائة واحدة في الوديعة، والدين يكون
بينهما بعد أيمانهما. وهو الذي يأتي على ما في رسم يدير من سماع عيسى من
كتاب المديان والتفليس؛ لأنه إذا لم يلزمه في الدين الذي هو في ذمته إلا ما
أقر به، فأحرى ألا يجب ذلك عليه فيما في أمانته.
والقول الثالث: الفرق بين الذمة والأمانة. وهو قول ابن القاسم في سماع عيسى
من كتاب الدعوى والصلح على ما ذكرناه، والله الموفق.
[: كاتب المقارض عبدا من مال القراض]
من سماع يحيى بن يحيى
من ابن القاسم من كتاب المكاتب قال يحيى: وسألت ابن القاسم: عن رجل أخذ من
رجل مالا قراضا فاشترى به عبدا فكاتبه وأجاز ذلك صاحب المال.
قال: الكتابة إذا أجازها صاحب المال جائزة. قلت: أرأيت إن أدى المكاتب ما
عليه فكان ذلك قدر أصل المال، لمن يكون ولاؤه؟ قال: لصاحب المال خالصا دون
العامل.
قلت: فإن كان فيما كوتب به فضل عن أصل المال؟ قال: يقتسمان الربح على
شرطهما ويكون الولاء
(12/379)
بينهما على قدر المال. قلت: أنصفين مثل
الربح.
قال: بل ينظر إلى قدر حصة العامل من الربح ما هي من جميع الربح ورأس المال
فإن كان سدسا أو خمسا أو سبعا أو نحو ذلك أي جزء كان حظ العامل من الربح من
جميع رأس المال فكان شريكا بمثله في ولاء المكاتب.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن المقارض ليس له أن يكاتب عبدا من مال
القراض إلا بإذن رب المال؛ لأن الكتابة ليست من التجارة التي أعطاه ماله
بسببها. يبين ذلك قوله في كتاب المكاتب من المدونة المأذون له في التجارة
لا يجوز له أن يكاتب عبده؛ لأنه لا يجوز له أن يعتقه، فإن كاتَب المقارض
عبدا من مال القراض كان لرب المال أن يفسخ كتابته، وإن لم يعلم بذلك حتى
أدى جميع كتابته ويكون ما قبض منه كالغلة، قاله في كتاب ابن المواز.
وقال أحمد بن ميسر: إلا أن يكون إنما أدى عنه أجنبي فأعتقه العامل فينفذ
عتقه إن كان لم يحاب الأجنبي في ذلك، ولو علم رب المال بذلك فسكت ولم ينكر
للزمه.
وقوله في الولاء إنه يكون للمقارض منه إذا أجاز رب المال كتابته بقدر ربحه
من جملة المال والربح إن كان فيه ربح صحيح؛ لأنه شريك فيه بقدر ربحه فيكون
بمنزلة العبد بين الشريكين يكاتبانه جميعا، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقارض الرجل بتبر الذهب والفضة]
مسألة سألته: عن الرجل يقارض الرجل بتبر الذهب والفضة، فقال: أكره ذلك في
البلد الذي لا يدار فيه إلا الدنانير والدراهم المضروبة، فإن وقع أجزته ولم
أره كالقراض بالعروض، ولا أرى به بأسا في البلد الذي يدار فيه الذهب والفضة
تبرا إذا كانوا يشترون بها ويبيعون.
قلت: أرأيت إن أخذها ببلد لا يدار فيه، فاستضرب الفضة
(12/380)
دراهم فنقصت، ماذا يرد على صاحبها عند
التفصيل؟ فقال: يرد مثل الذي أخذ وزنها وطيبها، ثم يقتسمان ما بقي.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم مساجد
القبائل من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: المسلم هل يقارض النصراني]
من سماع عبد الملك بن الحسن من ابن وهب
قال عبد الملك بن الحسن: سئل ابن وهب، وأنا أسمع: عن المسلم هل يقارض
النصراني؟ فقال: لا بأس به.
قال محمد بن رشد: معنى ما ذهب إليه ابن وهب في إجازته ذلك والله أعلم هو
إذا كان إنما يتجر في البز ونحوه ويبيع بالنقد فيتحقق سلامته من الربا،
وأما إذا خشي أن يعمل بالربا فلا يجوز له أن يقارضه، هذا مذهب مالك وجميع
أصحابه.
فقد قال في المدونة: إنه لا ينبغي للرجل أن يقارض من يستحل شيئا من الحرام
في البيع والشراء وإن كان مسلما، ولا من لا يعرف الحلال والحرام، وقال ابن
المواز: إنه إن قارض النصراني فربح فُسخ القراض ورد إلى المسلم رأس ماله،
وهذا عندي إذا قارضه على علم منه أنه يعمل بالربا.
وأما إن قارضه وهو يرى أنه لا يعمل بالربا ثم خشي أن يكون قد عمل به تصدق
بالربح استحسانا، وإن تحقق ذلك تصدق إيجابا، ولو خشي أن يكون قد اشترى به
خمرا أو خنازير لابتغي له أن يتصدق بجميع المال استحسانا. ولو تحقق ذلك
لوجب عليه أن يتصدق به.
وقد قيل: إنه إذا اشترى به خمرا أو خنازير لزمه ضمانه؛ لأنه قد دخل مع
المسلم على ألا يتجر بماله إلا فيما يجوز للمسلمين ملكه.
وذلك يتخرج على الخلاف في منع الرجل امرأته النصرانية من شرب الخمر والذهاب
إلى كنيستها، ففي المدونة: أنه ليس له أن يمنعها من ذلك. فعلى قياس ذلك ليس
له أن يمنعه من التجر فيما يستبيحه في
(12/381)
دينه. وقد قيل: إن له أن يمنعه من ذلك؛
لأنها قد دخلت معه على حكمه. فعلى قياس ذلك ليس له أن يشتري بماله إلا ما
يجوز للمسلمين ملكه، فإن فعل ذلك لزمه ضمانه، وأما مساقاة المسلم النصراني
فهي جائزة إذا كان لا يعصر خمرا، فإن قاسمه فأراد أن يعمل خمرا لم يمنع
ولكن لا يعود المسلم إلى معاملته.
وأما أخذ المسلم من النصراني كرمه مساقاة أو ماله قراضا فأجيز وكره، كرهه
مالك في المدونة وأجازه في رواية ابن نافع عنه في المدنية. فقال: لا بأس
به، والكراهية فيه أبين وأصح، فإن وقع لم يفسخ.
وأما إذا آجره نفسه على عمل يكون فيه عنده وتحت ملكه فلا يجوز ويفسخ، فإن
فات بالعمل مضى واستوجب جميع أجره إلا أن يكون عمله في عصر خمر وحرز خنازير
فلا يمكن من الأجر ويتصدق به على المساكين. وأما إن عمل له عملا في داره أو
حانوته كالصانع يخيط له ثوبا وما أشبه ذلك فهو له جائز.
فعلى هذه الوجوه الأربعة تكون إجارة المسلم نفسه من النصراني: وجه جائز،
ووجه مكروه، ووجه غير جائز، ووجه حرام، وبالله التوفيق.
[: لا زكاة على العامل حتى يكون في حظ رب المال
ما تجب فيه الزكاة]
من سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم قال سحنون: وسألت ابن القاسم: عن الرجل
يدفع إلى الرجل مائة دينار يعمل بها قراضا فعمل بها عشرة أشهر، ثم ابتاع رب
المال من بعض السلع التي في يديه بمائة دينار فأخذ ذلك رب المال وبقيت سلع
فأقروها فيما بينهم؛ لأنها ربح فباعوها بعد شهرين أو ثلاثة بعشرين دينارا
أو بثلاثين دينارا لرب المال النصف، قال: لا زكاة على العامل حتى تباع
السلعة بمال يكون لرب المال منه ما تجب فيه
(12/382)
الزكاة مثل أن يباع بأربعين أو خمسين.
قلت: لم؟ قال: لأنه كان المعاملة إنما كانت في هذه السلعة. فأما ما أخذ من
رأس المال قبل ذلك فكأنه لم يكن. وكذلك لو أخذ بعض المال وترك بعضه كان مثل
هذا.
قلت: فإن كانت المعاملة على أن للعامل الثلثين ولرب المال الثلث فباعا
السلعة التي بقيت بعد أخذ رب المال رأس ماله بشهرين أو ثلاثة تمام السنة؟
قال: لا زكاة على العامل حتى يكون في حظ رب المال ما تجب فيه الزكاة.
وإنما هو بمنزلة من دفع إلى رجل دينارا على أن يعمل به قراضا على أن للعامل
الثلثين ولرب المال الثلث وربحوا حتى صارت اثنين وثلاثين دينارا على أن
يعمل به قراضا، فلرب المال رأس ماله دينار وثلث الأحد وثلاثين دينارا، وليس
على العامل زكاة وإن كان له ما تجب فيه الزكاة، وإنما يكون على العامل
الزكاة في ربحه إذا كان في رأس مال رب المال الذي يعمل به العامل وربحه ما
تجب فيه الزكاة.
قلت لابن القاسم: فإن دفع رجل إلى رجل عشرة دنانير يعمل بها وله في بيته
مائة دينار فيعمل العامل فباعوا بعد الحول بخمسة وعشرين دينارا، والمائة
الدينار التي لرب المال هي عنده كما هي، هل يكون على رب المال وعلى العامل
زكاة؛ لأن المال الذي عمل به العامل من أصل ما تجب فيه الزكاة.
قال: لا ليس ذلك على العامل، وإنما يكون على العامل الزكاة في ربحه إذا عمل
سنة وفي مال رب المال الذي يعمل به وربحه ما يجب فيه الزكاة. ولا يلتفت إلى
ما في يدي رب المال مما لم يدفعه إلى العامل، فيكون على رب المال الزكاة في
ماله الذي في يديه وفي المال الذي يأخذه من العامل من رأس ماله وربحه، ولا
شيء على العامل. قال لي:
(12/383)
وكذلك قال مالك في المال يكون عند ربه عشرة
أشهر وهي مائة دينار، فيدفعها إلى رجل يعمل به شهرين فيربح فيهما ويقاسمه:
إن الزكاة على رب المال في ماله وربحه ولا يكون على العامل شيء وإن كان في
ربحه ما تجب فيه الزكاة حتى يعمل به سنة.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم: إن ما أخذ رب المال من رأس ماله من
العامل قبل أن يحول عليه من يوم دفعه إليه لا يعتبر فيه في وجوب الزكاة على
العامل في حظه من الربح - صحيح على أصله الذي لم أعلمه اختلف فيه قوله في
أن العامل لا يجب عليه في حظه من الربح زكاة، وإن عمل في المال حولا وكان
في حظه منه ما تجب فيه الزكاة إذا لم يكن في رأس مال رب المال وربحه ما تجب
فيه الزكاة، وإن وجبت على رب المال فيه الزكاة بإضافته إلى مال له قد كان
بيده لم يدفعه إلى العامل؛ لأن ما قبض من العامل قبل أن يحول عليه الحول
عنده من يوم دفعه إليه فكأنه لم يدفعه إليه وأبقاه بيده.
وسواء على ما نص عليه في هذه الرواية قبض قبل الحول منه جميع رأس ماله أو
بعضه إنما ينظر إلى ما يجب إليه مما بقي كان ربحا خالصا أو بقية رأس ماله
وحصته من الربح، فإن كان ما يجب فيه الزكاة وجبت على العامل في حظه الزكاة،
وإن لم يبلغ ذلك ما يجب فيه الزكاة لم يجب على العامل في حظه من الربح
زكاة، وقد قال في رواية أصبغ عنه: إن الزكاة تجب على العامل في حظه من
الربح إذا كان في رأس المال وجميع الربح ما تجب فيه الزكاة.
وهو قول أشهب وروايته عن مالك فيما تقدم وقول أصبغ في سماعه وقول سحنون في
كتاب ابنه، فعلى هذا إذا قبض قبل أن يحول الحول على ما بيده جميع رأس ماله
أو بعضه فحصل بعد الحول في جميع الربح أو في جميعه مع ما بقي عنده من رأس
المال ما تجب فيه الزكاة وجبت على العامل في حظه الزكاة. والأول هو المشهور
من قول ابن القاسم المعلوم من مذهبه في المدونة وغيرها.
وفرق محمد بن المواز فيما تأول على ابن القاسم بين أن يقبض قبل
(12/384)
الحول منه جميع رأس ماله أو بعضه، فقال:
إذا قبض منه قبل الحول جميع رأس ماله فلا زكاة على العامل في حظه من الربح،
وإن صار لرب المال في حظه الذي قبض منه بعد الحول ما تجب فيه الزكاة وأنه
إن قبض منه بعض رأس المال قبل الحول وأبقى بيده بعضَه حتى حال عليه الحول
فصار له في بقية رأس ماله وحصته ما تجب فيه الزكاة وجبت على العامل الزكاة
في حظه، وإن لم يصر له في ذلك ما يجب فيه الزكاة ولا بقي له من المال قبل
الحول ما يتم به النصاب لم يجب على العامل في حظه الزكاة لسقوط الزكاة عن
رب المال، وإن كان قد بقي بيده مما قبض قبل الحول تَتِمّة النصاب زكى ذلك،
وزكى العاملُ من ربحه ما ينوب منه ما بقي بيده من رأس المال إلى أن حال
عليه الحول وهذا تناقض؛ إذ لا فرق في القياس فيما يجب على العامل في حظه من
الزكاة بين أن يجب على رب المال زكاةُ ما بقي بيده، أو ما ينوبه من الربح
ببلوغه ما تجب فيه الزكاة أو بإضافته إلى ما قبض منه قبل الحول من رأس
ماله.
وقولُ ابن القاسم الذي تأول عليه محمد بن المواز هذا التأويل الذي ذكرناه
عنه هو قولُه في رواية أبي زيد عنه في سماعه من هذا الكتاب، وقد كان القياس
أن يجب على العامل زكاةُ جميع حظه من الربح إذا وجبت على رب المال الزكاة
فيما قبض بعد الحول من العامل من ربحه أو من بقية رأس ماله وربحه ببلوغ ذلك
ما تجب فيه الزكاة أو بإضافته إلى ما قبض منه قبل الحول من رأس ماله أو إلى
مال له سِوَاهُ لم يدفعه إليه وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يكون عنده الوديعة فيأمره الذي
له الوديعة أن يعمل بها قراضا]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن الرجل يكون عنده الوديعة أو يكون قِبَلَه الدين
فيأمره الذي له الدين أو الوديعة أن يعمل بهما قراضا، فقال: أما في الدين
فإن الرِّبح للذي عليه الدين، وهو لما نقص ضامِنٌ.
وأما في الوديعة فإن مالكا كان يكرهه، فإن وقع وكان ربحٌ كان بينهما، وإن
ادعى أنه تَلِف صُدِّق وكان القولُ قولَه.
(12/385)
قال محمد بن رشد: العلة في أن ذلك لا يجوز
في الدين بينة، وذلك أنه أنْظَرَهُ بدينه على أن يتجر فيه ويكون له نصف
الربح وذلك ربا بَيِّنٌ، فوجب أن يكون الحكم فيه ما ذكره.
قال في المدونة: إلّا أن يقبض دينه ثم يرده عليه، ويأتي على ما في كتاب
الصرف من المدونة في الذي يصرف دنانير بدراهم ثم يريد أن يصرفها منه
بدنانير مختلفة لعيونها؛ أن ذلك لا يجوز في المجلس ولا بعد اليوم واليومين
والثلاثة حتى يبرأ من التهمة؛ لأنه لا يجوز أن يصرف إليه الدين على القراض
إلّا بعد أيام حتى يَبْرأ مِنْ التهمة.
ويأتي على ما حكى ابنُ حبيب في الواضحة في القراض يضيع بعضُهُ فيعلم بذلك
صاحبُهُ فيقول له: اعمل بما بقي إن ذلك يكون قراضا مؤتنفا أنه يبرأ في هذه
المسألة من التهمة بإحضار الدين، وإن لم يقبضه منه، ويكون قراضا صحيحا، وقد
مضى في رسم القطعان من سَماع عيسى من كتاب الكفالة والحوالة ما فيه بيان
لهذه المسألة فقف على ذلك، وقد روى أشهب عنه إن نزل مضى، وهو بعيد جدا.
وأما الوديعة: فإنما كره القراض بها مخافة أن يكون قد أنفقها وصارت دَيْنا
عليه؛ فإذا وقع القراض بها مضى حتى يعرف أنه حركها على قوله في هذه
الرواية، خلافُ ظاهر قوله في المدونة من أن ذلك بمنزلة الدين، ولو أحضراها
لَجَاز القراض بها، ولم يَرَ محمد بن المواز بذلك بأسا، وإن لم
يُحضِرَاهَا، وقاله ابن حبيب في الثقة المأمون، فيتحصل في ذلك في الدين
قولان؛ أحدهما: أن ذلك لا يجوز، وهو الصحيح في النظر.
والثاني: أن ذلك يكره ابتداء فإن وقع مضى وهو قول أشهب وهو بعيد إذ لم
يَجْرِ في ذلك على أصل، فقال: إنه إن نقص ضمن، ولو قال إنه إن نقص لم يضمن
لكان وجه قوله أنه صدّقه في إخراج المال من ذمته إلى أمَانَتِهِ؛ إذ قد
أمره بذلك، وهو أصل مختلف فيه في المدونة وغيرها.
وفي الوديعة أربعة أقوال؛ أحدها: أن ذلك لا يجوز كالدين وهو ظاهر ما في
(12/386)
المدونة لابن القاسم.
والثاني: أن ذلك يكره؛ فإن وقع مضى ولم يفسخ.
والثالث: أن ذلك جائز وهو قول ابن المواز.
والرابع: تفرقة ابن حبيب بين المأمون وغير المأمون، وكذلك إن أحضرها ولم
يعرفها بعينها، وبالله التوفيق.
[مسألة: يدفع إليه عشرة دنانير قراضا فيشتري
سلعة فيبيعها بعد الحول بعشرين]
مسألة وقال ابنُ القاسم في الرجل يدفع إلى الرجل عشرة دنانير قراضا فيشتري
سلعة فيبيعها بعد الحول بعشرين دينارا أيزكونها مثل المساقاة؟ قال: لا حتى
يبيعوها بثمن يكون في يدي صاحب المال من ماله وحصته من الربح ما يجب فيه
الزكاة مثل أن يبيعها بثلاثين أو أربعين، أو نحو ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما تقدم من قوله في المسألة التي قبل هذه، وهو
المشهور من قوله المعلوم من مذهبه في المدونة وغيرها، خلاف ما في سماع أصبغ
عنه وعن أشهب، وخلاف ما مضى في سماع أشهب، وخلافُ قول سحنون، وخلافُ قول
أصبغ من رأيه في سماعه، وبالله التوفيق.
[: اختلفا رب المال والمضارب في شرط الربح]
من مسائل نوازل سئل عنها سحنون بن سعيد وسئل سحنون: عن رجل دفع إلى رجل
مالا قراضا على ما اشترطا عليه من أجزاء الربح، فعمل العامل بالمال ثم أتاه
به ثم اختلفا في رأس المال فقال رب المال: مالي مائتا دينار وهو جميع ما
أتَى بِهِ العامل، وقال العامل: بل رأس المال مائة، فقال: القولُ قول
العامل في رأس المال؛ لأنه لم يقر أنه قبض إلّا مائة دينار: قال: فإن كانت
لصاحب المال بينة وإلّا فيمين العامل، فإن نَكَلَ العامل عن
(12/387)
اليمين إذا لم يكن لرب المال بينة قيل لرب
المال: احلف وخذ المائتين، فإن نكل عن اليمين لم يكن إلّا ما أقر به
العامل، فإن أقام المدعي البينة وهو رب المال، وأقام العامل البينة،
وتكافأت البينتان في العدالة سقطت البينتان، وكانا كمن لا بينة لهما، وكان
الجوابُ فيهما كما وصفت لك، قال: وإن كانت البينتان مختلفتين في العدالة
أُخذ بأعدل البينتين.
قيل: فإن اختلفا في شرط الربح، فقال رب المال: لي الثلثان، وقال العامل: لي
الثلثان ولك الثلث، فالقول قول العامل؛ لأن ذلك عمل يده، وإنما ذلك بمنزلة
الصانع فالقولُ قولُهُ في الإِجارة إذا ادعى ما يُشبه ورب المال هو المدعي؛
لأن العامل هو البائع لعمل يده وَلمَا أدخل من الصنعة، وقد قال رسول الله:
«إذَا اخْتَلَفَ المُتَبَايِعَانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ البَائِع» فإن أتيا
بالبينة فَتَكَافأتا أو لم تتكافئا أو لَمْ يكن لهما بينة كانت الأيمانُ
بينهما على ما وصفتُ لك في صدر الكتاب.
قال محمد بن رشد: قول سحنون إذا اختلف العامل ورب المال في عدد رأس المال
إنّ القولَ قولُ العامل، وإن أحضر من المال مثلَ ما يدعي صاحب المال وادعى
أن الزائد على ما يقر به رِبْحٌ صحيحٌ.
وقد روى أصبغ مثلَه عن ابن القاسم وأشهب، وهو ظاهر ما في المدونة إذا ادعى
رب المال أن
(12/388)
رأس ماله ألفان، وقال العامل: بل هو ألف إن
القول قولُ العامل إذ لَمْ يفرق فيها بين أن يكون في المال ربح أو لا يكون،
ولو كان ذلك يفترق عنده لبينه؛ والله أعلم.
بخلاف إذا اختلفا في رد رأس المال فقال العامل: قد رددته وهذا الذي معي
ربح، وقال رب المال لم ترده، وهذا الذي معك هو رأس مالي، والفرق بينهما أن
هذا مدع في رد رأس المال فوجب ألّا يصدق فيه إذا كان في يديه مثلُهُ أو
أكثر فادعى أنه كله ربح، فالعامل في هذه المسألة مدع في الربح، إذا لم يثبت
ما ادعاه من الرد، ورب المال في المسألة الأولى مدع في الربح إذا لم يثبت
ما ادعاه من عدد رأس المال، وقد حكمت السنة أن البينة على المدعي واليمين
على من أنكره.
وأما قولُ سحنون: إنه إنْ أقام كل واحد منهما البينة على دعواه وَتَكَافَأت
البينتان أنها تسقط، ويكونا كمن لا بينة لهما فقد روى مثلُهُ عن ابن
القاسم، والمشهور عنه أن ذلك لا يكون تكاذبا وتهاترا، ويؤخذ بشهادة من شهد
بالأكثر؛ لأنها زادت، والقولان قائمان من المدونة، وفي المسألة قول ثالث:
وهو الفرق بين أن تكون الزيادة بزيادة لفظ مثل أن يشهد الشاهدان أنه أقر له
بعشرين ويقول الآخرانِ: بل أقر له بخمسة وعشرين أو بغير زيادة لفظ مثل أن
يقول الشاهدان أقر له بخمسة وعشر، ويقول الآخران: بل أقر له بعشرين وهي
تفرقة لها حظ من النظر، وقد مضى هذا المعنى في نوازل أصبغ من كتاب التخيير
والتمليك، وفي رسم الصبرة من سماع يحيى من كتاب الشهادات وفي نوازل سحنون
منه.
وأما قولُ سحنون: إذا اختلفا في الربح فادعى كل واحد منهما أن الثلثين له
فالقولُ قول العامِل؛ لأنّ ذلك عمل يده بمنزلة الصانع يكون القولُ قولَه في
الإجارة إِذا ادعى ما يشبه؛ لأنه هو البائع لعمل يده وَلمِا أدخل من
الصنعة، فإنه قول صحيحٌ من جوابه فَاسِدٌ من اعتلاله، إذ لم يكن القولُ
قولَ الصانع فيما يدعي
(12/389)
من الأجرة إلّا إذا أشبه قولهُ من أجل أنه
بائع لعمله، ولما أدخله من الصنعة؛ إذ لو صحت هذه العلةُ لَوَجَبَ أن يكون
القولُ قولَ بائع الثوب في ثمنه إذا أشبه قولُهُ، وهذا ما لا يصح، وإنما
كان القول قول الصانع في مبلغ الأجرة من أجل أن الشيء المصنوع كالرهن في
يده بما يدعي من الأجرة في عمله، ولو اختلفا في الأجرة بعد دفع الشيء
المصنوع إلى ربه لكان القولُ قولَ رب الثوب؛ إذ لم يبق بيد الصانع ما يشهد
له على ما يدعي من الأجرة، وأما العامل في القراض فالقولُ قولُهُ فيما
يُقِرّ به لصاحب المال إذا أشبه؛ فإن لم يشبه كان القول قول رب المال إذا
أشبه أيضا، فإن لم يشبه حلفا جميعا وكان له قراض مثله، وإن نكل أحدهما وحلف
الآخر وقد أتيا جميعا بما لا يشبه كان القولُ قولَ الحالف منهما على ما
ادعاه، وإن لم يشبه؛ لأن صاحبه قد أمكنه من جميع دعواه بنكوله، وكذلك أن
أتَى أحدُهُما بما يشبه كان القول قولَ الذي أتى منهما بما لا يشبه، فإن
نكل عن اليمين أيضاَ كان القول قول الذي أتى بما يشبه دون يمين، فإن أتيا
جميعا بما يشبه ونكلا عن اليمين كان للعامل ما ادعاه دون يمين، وإن نَكَلَا
جميعا إذا أتيا بما لا يشبه كان له قراض مثله كما إذا حلفا، فهذا وجه
الأيمان فيما بينهما في هذه المسألة على معنى ما وصفه في صدر الكتاب في
المسألة الأولى؛ لأن ذلك إنما يكون إذا لم تكن لهما بينة أو كانت لكل واحد
منهما بينة فتكافأتا في العدالة فسقطتا، وأما إذا لم تتكافيا فالأيمان
بينهما؛ لأن الحكم أن يقضى بالأعدل منهما. فقوله: وإن لم تتكافيا لفظ وقع
على غير تحصيل، وبالله التوفيق.
[مسألة: القول قول العامل إذا اختلف مع رب
المال]
مسألة قيل له: فإن دفع إلى رجلين مالا قراضا فعملا بالمال ثم أتيا ومعهما
مائتا دينار فقال أحدهما: رأس ماله مائة دينار والربح مائة، وكذَّبه رب
المال وقال الآخر: رأسُ المال مائتان وصدَّقه رب
(12/390)
المال. فإن كان الذي زعم أن رأس المال
مائتان عدلا حلف رب المال مع شاهده واستحق المائتين، وإن كان غير عدل قيل
لهما: أعطيا المائة التي اجتمعتما عليها؛ لأنها رأس المال فيأخذ من هذا
خمسين ومن هذا خمسين وبقيت في يد كل واحد منهما خمسون، ويقال للذي أقر: أن
رأس المال مائتان أعط ما في يديك؛ لأنه لا ربح لك حتى يتم رأس المال، ويقال
للآخر الذي بقي في يديه خمسون ما في يديك من المال قد زعمت أن نصفه لك
ونصفه لرب المال، والنصفُ الآخر لرب المال في يدي الذي أقر أنه لا ربح في
المال، فأنت تصدق على ما في يديك من المال فلا يلزمك أكثرُ مما أقررت به.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه إذا دفع إليهما المال قراضا فقد حصلا
شريكين في العمل به على الإشاعَة، فكأن المالَ بيد كل واحد منهما نصفه، وإن
كان بيد أحدهما جميعه، فالذي يقر أَنَّ رأس المال مائتان مقر على نفسه أنه
لا حق له في المال وشاهد على صاحبه فيما يدعي من أن رأس المال مائة
والمائةُ الثانيةُ ربح، فوجب أن يحلف مع شهادته إن كان عدلا كما ذكر ويستحق
المائتين، وإن لم يكن عدلا كان للثاني بعد يمينه أن رأس المال مائة، وأن
المائة الثانية ربح على ما تقدم في المسألة التي قبل هذه من أن القول قول
العامل إذا اختلف مع رب المال في عدد رأس المال ما يجب له من المائة التي
زعم أنها ربح، وذلك خمسة وعشرون دينارا؛ لأن نصف الربح لرب المال والنصف
الثاني فيما بينه وبين صاحبه بنصفين، وسكت عن اليمين للعلم الحاصل بها، فإن
نكل عن اليمين حلف رب المال أن رأس ماله مائتان وأخذ جميعها ولم يكن لواحد
منهما شيء، هذا وجه قوله في الرواية، وما قاله فيها من أنه يأخذ من هذا
خمسين ومن هذا خمسين وبقيت
(12/391)
في يد كل واحد منهما خمسون، فيقال للذي أقر
أن رأس المال مائتان: أعط ما في يديك؛ لأنه لا ربح لك حتى يتم رأس المال
إلى آخر قوله هو كلام ساقه على طريق التقريب لا على سبيل التحقيق؛ لأن
المال لم يكن بيد كل واحد منهما نصفه، إذ لو اقتسماه وانفرد كل واحد منهما
بالعمل بنصفه لكانا متعديين في ذلك، ولوجب إنْ ربحَ أحدُهما وخسر الآخر لا
تجبر الخسارة من الربح، وأن يكونا ضامنين جميعا للخسارة التي خسرها أحدهما
لرب المال، ويكون الربح الذي ربحه الآخر بينهم نصفه لرب المال ونصفه بينهما
على ما شرطوه، ولكنه لما كانا يتجران به جميعا على الإِشاعة فكان نصفه بيد
كل واحد منهما؛ لأنه وإن لم يكن كذلك في الحقيقة فهو كذلك في المعنى، وما
يوجبه الحكم والله الموفق.
[مسألة: لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين ولا جار
إلى نفسه]
مسألة قيل له: أرأيت لو أتيا بثلاثمائة دينار، والمسألة على حالها فاختلفا،
فقال أحد العاملين: رأسُ المال مائةٌ والربحُ مائتان وكذّبه رب المال، وقال
العامل الآخر: بل رأس المال مائتان والربح مائة وصدقه بذلك رب المال قال:
يقال للعاملين: قد اجتمعتُما على رأس المال أنه مائة فأخرجاها، فيخرج كل
واحد منهما خمسين، ويبقى بيد كل واحد منهما مائة مائة، وإن كان الذي أقر أن
رأس المال مائتان عدلا لم يحلف رب المال مع شاهده؛ لأنه جَارٌّ إلى نفسه،
أَلَا ترى أنه إذا بقيت في يديه مائة قال له رب المال: أعطنيها فإنه لا ربح
لك منها؛ لأنك مقر أن رأس المال مائتان ولا ربح لك إلَّا بعد استيفائي رأس
مالي، فمن هناك سقطت شهادته، أَلَا ترى أني لو أجزت شهادته لأخذ رب المال
المائةَ منهما جميعا ويبقى بيد كل واحد منهما خمسون فيصيرُ له ربح ما بقي
بيده، فلما جَر بشهادته إلى نفسه طرحت شهادته؛ لأن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا
(12/392)
تجوز شهادة خصم ولا ظنين ولا جَارّ إلى
نفسه» فلما سقطت شهادته وأخذ رب المال ما اجتمعا عليه من رأس المال، وهي
المائة التي أخرج كل واحد منهما خمسين خمسين وبقيت في يد كل واحد منهما
مائة، قيل: للمُقِر: إن رأس المال مائتان هات ما في يديك؛ لأنه لا ربح لك
إلَّا بعد الاِستيفاء لرأس المال، فيؤخذ منه فيستوفي رب المال رأس ماله، ثم
يقال للآخر الذي زعم أن المال الذي في يديه ربح له ولرب المال هات شطرَها،
وإنما لم يُؤخذ منه أكثرُ من شطرها؛ لأنه زعم في إقراره أن لرب النصف في
أيديهما جميعا وأنه لم يقر لرب المال فيما في يديه بأكثر مما ادعى لنفسه،
وإنما هو كرجل قال لرجل ما في يدي نصفٌ لك ونصفُ لي، فلم يقر له إلا بمثل
ما أقر لنفسه، فليس لرب المال مما في يديه إلَّا نصف ما في يديه وهو خمسون،
وليس للمقر الذي زعم أن رأس المال مائتان في يدي رب المال من الخمسين التي
صارت فضلا حجة أن يقول له: قد بلغتك رأس مالك، وقد صار في يديك فضل خمسين
فلا تذهب بها دوني؛ لأنه يقال له: أنت مقر أن لرب المال نصف الربح، وأنك لا
تدخل عليه في نصفه، وإنما دخولُك على صاحبك، وصاحبك يجحدك، ألا ترى أن
الزوج يقر بأخ مع إخوةٍ كانوا ورثة معه معروفين أنه لا يدخل عليه في شيء
قال سحنون: وقد قيل في العامل: إنه يرجع عليه في النصف الذي في يديه
فيقاسمه على ثلاثة أسهم للعامل سهم وسهمان لرب المال.
قال محمد بن رشد: قوله: وإن كان الذي أقر أن رأس المال مائتان عدلا لم يحلف
ربُّ المال مع شاهده؛ لأنه جَارّ إلى نفسه صحيح؛ لأنه يدعي أن المائة ربح
فله منها خمسة وعشرون على دعواه ولصاحبه خمسة وعشرون ويقر أن لرب المال
مائتي رأس ماله وخمسون نصف المائة الربح، فإن أعملنا
(12/393)
شهادته مع يمين رب المال استوجب من الربح
خمسة وعشرين ربع المائة الربح على قوله، وإن لم تعمل شهادته وجب أن يحلف
صاحبه على ما يدعى من أن رأس المال مائة فيستحق إذا حلف من الربح خمسين
دينارا ربع المائتين الربح على قوله، ويأخذ رب المال الباقي وذلك مائتان
وخمسون بإقراره أن رأس المال مائتان، إذ يجب له على قوله من المائة الربح
نصفُها فلا يجب له على إقراره شيءٌ إذ لم نُعْمِلْ شهادَتَه وإن أعلمتَها
وجب له خمسة وعشرون، فوجب من أجل هذا ألّا نُعمِل شهادته وأن يأخذ صاحب
المال مائتين وخمسين بإقراره له بها وصاحبه خمسين بيمينه أن رأس المال مائة
ولا يكون له هو شيء.
ووجهُ القول الثاني في أنه يرجع على رب المال في النصف الذي في يديه من
الربح وهو خمسون دينارا فيقاسمه إياها على ثلاثة أسهم، له سهم ولرب المال
سهمان هو أنه يدعى من الخمسين الربح نصفها إذ يجب له من الربح خمسة وعشرون
على ما يزعم من أن رأس المال مائتان، ورب المال يدعي أن له الخمسين كلها
فتقسم الخمسون بينهم على الثلث والثلثين كَمَالٍ يتَدَاعَى فيه رجلان، يدعي
أحدهما جميعَه والثاني نصفَه على المشهور من مذهب مالك في هذا النوع من
التداعي.
ويتخرج على هذا التوجيه في المسألة قولٌ ثالث، وهو أن يقسم بينهما
أَرْبَاعا؛ لأن العامل قد سلم له نصف الخمسين وينازعه في النصف الآخر منها
بينهما بنصفين، وهو المشهور من مذهب ابن القاسم في هذا النوع من التداعي،
وإلى القول الثاني ذهب محمد بن المواز، قال: ولا يحسب على رأس المال شيء من
الظلم ولا التلف إنما يقع ذلك على الربح، وروي عن أشهب خلافُه وأن لكل واحد
من العاملين ما يدعيه من الربح فيأخذ الذي أقر أن رأس المال مائتان خمسة
وعشرين؛ لأنه هو الذي يجب له من ربح المائة، ويأخذ الذي ادعى أن رأس المال
مائة، خمسين بعد يمينه أن رأس المال مائة على ما تقدم؛ لأنه هو الذي تجب له
من ربح المائتين، وهو قول رابع في المسألة له حظ من النظر،
(12/394)
وذلك أن العامل الذي أقر أن رأس المال
مائتان أحق بحظه من المائة الربح إذ لم يقر به لأحد والخمسون التي يجب منها
لرب المال قد استحق العاملُ الثاني عليه نصفَها بيمينه أن رأس المال إنما
كان مائة وبالله التوفيق.
[مسألة: أخذ مالا من رجل قراضا على النصف وأخذ
من رجل آخر على الثلث]
مسألة قيل له: أرأيت لو أن رجلا أخذ مالا من رجل قراضا على النصف وأخذ من
رجل آخر أيضا مالا على الثلث، فاشترى سلعتين صفقتين بثمنين مختلفين بكل مال
على حياله، فالتبس عليه الأمر فلم يدر أيتهما السلعة الرفيعة الثمن من
الأخرى، وفي أحد السلعتين ربح وفي الأخرى نقصان، فادعى كل واحد منهما
السلعة الرفيعة أنه اشتراها بماله، على المقارض ضمان، فقال: ليس على
المقارض ضمان؛ لأنه هو كرجل استودع مالين لرجلين لرجل مائة والآخر خمسون
فنسي صاحب المائة من صاحب الخمسين، وادعى الرجلان المائة أنهما يحلفان
جميعا على المائة ويقتسمانها، والخمسون الأخرى بيد المستودَع ليس لها مدع،
ومن رأى أنه يضمن المستودَعُ مائة لكل واحد بغير يمين إذا ادعى كل واحد
منهما أن وديعته مائة ضمنه فمسألتك في القراض مثل ما وصفتُ لك في الوديعة.
قال محمد بن رشد: قوله: فالتبس عليه الأمر فلم يدر أيتهما السلعة الرفيعة
الثمن من الأخرى يريد أنه التبس عليه الأمر في السلعتين فلم يدر أيتهما
الرفيعة التي فيها الربح من الوضيعة التي لا ربح فيها، ولو علم من أي مالٍ
اشترى كل سلعة منها لما صح أن يتداعى صاحب المالين في السلعة الرفيعة
(12/395)
ولوجب أن يكون من المال الذي قال المقارض
إنه اشتراها منه، ولم يكن في ذلك كلام ولا خلاف، فقوله: إذا لم يدر
المقارَض من مال من اشترى السلعة الرفيعة فيتداعيا فيها إنّ ذلك بمنزلة من
استودع مالين لرجلين لأحدهما مائة، للآخر خمسون فنسي صاحبَ المائة من صاحب
الخمسين، وادعيا جميعا المائة إنهما يحلفان عليها ويقتسمانها وتبقى الخمسون
بيد المستودع ليس لها مودع إلى آخر قوله، يقتضي ألّا يلزم المقارَض ضمان
بنسيانه، ويحلف كل واحد من صاحبي المال على السلعة الرفيعة أنه اشتراها من
ماله، ويكون من ماليهما جميعا نصفها من مال هذا ونصفها من مال هذا، وتبقى
الأخرى بيد المقارض إذا لم يكذب أحدُهما نفسَه في دعواه السلعة الأولى
ويقول: بل هذه هي التي اشترى من مالي فتكون من ماله ويخلص السلعة الأولى
كلها، وفي هذا اختلاف، قد قيل: إنه لا يقبل دعواهما فيه بعد أن
أَنْكَرَاهَا، وقيل: إنها تكون لهما بإقرار المقارَض أنها لأحدهما، وإن
كانا متماديين على إنكارها.
وقول سحنون في هذه المسألة: إن المقارَض لا يلزمه ضمان لنسيانه من اشترى
السلعة من ماله يأتي على قياس رواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب الدعوى
والصلح في الرجل يقر بالوديعة لأحد رجلين لا يدري من هو منهما؟ أنه لا
يلزمه غيرُها وتكون بينهما بعد أيْمَانِهما، ومثل قول ابن كنانة في مسألة
الرجل يأخذ من الرجل ثوبا من كل واحد منهما على أنه فيه بالخيار فيردهما
ولا يعرف ثوب هذا من ثوب هذا ويدعيان جميعا أحدَهما ويُنكر الآخر، إن الثوب
الذي ادعياه يكون بينهما بعد أيمانهما ويبقى الآخر بيد المشتري حتى يأتي له
طالب.
وقد ذكرنا ذلك والاختلاف فيه فيِ سماع يحيى من كتاب بيع الخيار، ويأتي في
هذه المسألة على قياس ما مضى في رسم القطعان من سماع عيسى من هذا الكتاب في
المقارَض بالمالين يزعم أنه ربح خمسين دينارا لا يدري من أي المالين، أنه
لا شيء له من الخمسين وتكون لصاحبي المالين أن يلزمه لكل واحد منهما ضمانُ
الثمن الذي اشترى به السلعة من ماله، وهي رواية أَبِي زيد عن ابن القاسم في
سماعه بعد هذا، قال: هما مخيران بين أن يضمناه السلعتين
(12/396)
ويأخذ أموالهما، وبين أن يأخذ السلعتين
فتباع بهما ويعطى كل واحد منهما رأس ماله ويكون للمقارض ربحه إن كان فيهما
ربح.
وحكي عن ابن كنانة مثل قول ابن القاسم خلاف ما حكيناه عنه في مسألة الذي
يأخذ الثوبين من الرجلين بالخيار فَتَخْتَلِطُ عليه.
وقال عن ابن القاسم: إلّا أن تكون قيمة السلعة الأدْنى أكثرَ من الثمن الذي
اشترى به السلعة الأولى فلا خيار لهما في تضمينه، وتكون السلعتان على
القراض على قدر أموالهما، وقال محمد بن المواز: إنْ اتفقت قيمتهما فلا حجة
لصاحب الأكثر على صاحب الأقل ولا على العامل، وإن اختلفت غرم العاملُ فضلَ
قيمة الرفيعة على الدنية؛ لأن كل واحد منهما يدعي الرفيعة ويرجو ذلك،
والعامل لا يدفعهما وإنما تعتبر قيمتهما اليوم وهو نحو رواية أبي زيد فتدبر
ذلك كله وبالله التوفيق.
[مسألة: يقسم الربح على المالين جميعا]
مسألة وسئل سحنون: عن رجل دفع إلى رجل مالا قراضا، ثم إن العامل عمل به
وربح فحاسبه رب المال فأخذ ربحه وترك المال عند العامل ثم زاده رب المال
آخر مثل الذي كان دفع إليه أولا فعمل بالمالين جميعا فربح فيهما، قال: يقسم
الربح على المالين جميعا فما صار للمال الأول كان على قراضهما وما صار
للمال الثاني كان لرب المال، ويكون له أجرةُ مثله، قلت: فلو خسر؟ قال
سحنون: تحسب الخسارة على المالين جميعا فما أصاب المال الأول من الخسارة
جُبِر بالربح الذي وصل إلى العامل، وإلى رب المال، ويكون للعامل أُجرة مثله
في المال الآخر ولا ضمان عليه فيما خسر فيه؛ لأنه فيه أجير وليس له فيما
ربح فيه شيء وهو في المال الأول على قراضه.
قال محمد بن رشد: جواب سحنون في هذه المسألة على مذهب
(12/397)
ابن القاسم في المدونة أن المفاصلة لا تتم
بينهما إلا بقبض المال لا بالمحاسبة خلاف ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن
مطرف وابن الماجشون وغيرهما من أصحاب مالك حاشى ابن القاسم فيجوز على ما
ذهب إليه ابن حبيب وحكاه عن أصبغ أن يدفع إليه مالا آخر بعد أن حاسب في
المال الأول وقبض ربحه منه على أن يخلطه ويعمل فيهما معا، كان على ذلك
الجزء أو على جزء آخر، ولا يجوز إلا بخلطه به ويعمل بكل مال على حدة إذا
كان على جزء آخر، وأما إن كان على مثل الجزء الأول فقد قيل: إنه يجوز، ذكره
ابن المواز في قول، وهو ظاهر ما في المدونة، وقيل: إنه لا يجوز حكى ذلك ابن
المواز عن ابن القاسم من رواية أبي زيد عنه، فإن دفع إليه مالا آخر قبل أن
يفاصله في المال الأول وفيه ربح أو خسارة على مثل الجزء الأول أو أقل أو
أكثر على أن يخلطه به لم يجز.
قال ابن حبيب في الواضحة: فإن عمل على هذا قسم الربح على عدد المال الأول
حين يخلطه بالمال الثاني وعلى عدة الثاني فتكون حصة الأول من الربح بينهما
على شرطهما.
ولا يجبر نقصانُ واحد من المالين بربح المال الثاني، وحصةُ المال الثاني
على قراض مثلهما على غير شرط أن يخلطه بالأول؛ لأنها زيادة داخلة في المال
غير خارجة عنه.
وقال فضل: وهو مذهب ابن القاسم في المستخرجة؛ لأنها زيادة داخلة في المال،
ولا أعرف هذه المسألة في المستخرجة في روايتنا، وقد رأيت للفضل أنه يرد في
المال الثاني إلى إجارة مثله على مذهب ابن القاسم في المدونة مثل قول سحنون
ها هنا؛ لأنه جعل شرط الخلط مثل ما لو اشترط إن وضعتَ في هذا المال الثاني
جَبَرْتَهُ من الأول فصارت زيادة خارجة اشترطها رب المال لنفسه مع الغرر إذ
قد يخسر وقد لا يخسر وبالله التوفيق.
[مسألة: يأخذان المال من رجل قراضا هل يجوز
لهما أن يقتسما المال]
مسألة وسئل سحنون: عن الرجلين يأخذان المال من رجل قراضا هل
(12/398)
يجوز لهما أن يقتسما المال إن أحبا؟ قال:
ليس ذلك لهما، قيل: فلو أن رجلين دفع إليهما رجل مَالا وديعة هل يجوز لهما
أن يقتسماه؟ قال: ليس ذلك لهما، وجميع ما سألت عنه من المقارضين
والمستودعين واحد لا يجوز لهما أن يقتسماه فإن فعلا فتلف المال لم يضمنا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم إن أمكنتني
من سماع عيسى وبالله التوفيق.
[مسألة: ليس من سنة القراض أن يبضع العامل مع
رب المال]
مسألة قيل لسحنون: أرأيت الرجل يدفع إلى الرجل المال قراضا ويأذن له في أن
يُبْضِعَ إن أَحَبَّ فيعرض لرب المال سفرٌ فَيُبْضِعُ معه العاملُ، فلما
جاء البلدةَ عرف رب المال الخريطة وعرف المال أنه ماله بعينه، فاشترى به
لمن ترى الفضل؟ قال: أراه لرب المال؛ لأن العامل لم يشتر به شيئا ولم يعمل
له فيه، وليس هذا من سنة القراض أن يبضع العامل مع رب المال.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأنه إنما أذِن له أن يبضع مع غيره
لا معه، هذا هو الوجه الذي يعرف في إذنه له في ذلك.
[مسألة: أخذ تسعة وثلاثين دينارا قراضا فربح
العامل في المال دينارا]
مسألة وقال سحنون في رجل أخذ تسعة وثلاثين دينارا قراضا فربح العامل في
المال دينارا تَمَّ على المال الحولُ: إن الزكاة تخرج من الأربعين دينارا
كلها قبل أن يقتسما الذي ربح، ثم يقع على المقارض في نصف ديناره حصة الزكاة
ما يقع عليه من الأربعين، ليس عليه أكثرُ من ربع عشر نصف الدينار الذي ربح،
ليس يقع عليه
(12/399)
أكثر من الحصة من جميع الأربعين.
قال محمد بن رشد: هذا هو المشهور في المذهب أن العامل يجب عليه في حَظِّهِ
الزكاةُ وإن كان أقل من نصابٍ إذا كان في رأس مال رب المال وحصته من الربح
ما تجب فيه الزكاة، أو في رأس مال رب المال وجميع الربح ما تجب فيه الزكاة.
وقد قيل: إنه لا يجب عليه في حظه من الربح زكاة حتى يكون في رأس مال رب
المال وحصته من الربح ما تجب فيه الزكاة، ويكون أيضا في حظه من الربح ما
يجب فيه الزكاة، وهذا القول تأوله محمد بن المواز على ابن القاسم ولا
يُوجدُ له نصا، والثلاثةُ الأقوال كلها استحسان ليست بجارية على أصل ولا
قياس، وقد مضى بيان هذا كله في رسم أوله مسائل بيوع من سماع أشهب فلا معنى
لإِعادته.
[مسألة: أخذ المال قراضا يعمل به ثم أخذ منه رب
المال ماله وللعامل ثياب يلبسها]
مسألة وسئل سحنون: عن الرجل إذا أخذ المال قراضا يعمل به ثم أخذ منه رب
المال ماله وللعامل ثياب يلبسها كان اشتراها لسفره من مال القراض هل يكون
لرب المال أن يأخذ منه الثياب التي كان يلبس العامل؟ قال: إذا كانت ثيابا
لها قدرٌ وبالٌ فإِنها ترد وتباع ويدخل ثمنها في جملة مال القراض، وإن كانت
ثيابا خَلِقَة تافهة ليس لها قدر تركت للعامل كما قال مالك في القِرْبَةِ
والحبل والشيء الخفيف.
قال محمد بن رشد: هذا نحو ما مضى في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم
ونحوُ ما في الموطأ، وهو مما لا اختلاف فيه احفظه وبالله التوفيق.
[مسألة: المقارض يسلب هل يكتسي من مال القراض]
مسألة وسئل سحنون: عن المقارض يُسْلَبُ هل يكتسي من مال القراض؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأنه إذا كان من حقه أن
(12/400)
يكتسي في سفره من مال القراض إذ فرق بين
الأولى والثانية وبالله التوفيق.
[مسألة: اشترى النصرانِي بالمال خمرا فأسلم رب المال والخمر قائمة في يد
المقارض]
مسألة وسُئِل سحنون عن نَصْرَانِي دفع إلى نصرَانِي مالا قراضا فاشترى
النصرانِي بذلك المال خمرا فأسلم ربُّ المال والخمر قائمة في يد المقارَض
لم تبَع وهي حين أَسْلَمَ رب المال في ثمنها ربح أَوْ لَا ربح فيها،
والعاملُ يقول: خذ خمرك ورب المال يقول: إِنَّمَا قارضتك بمال ولم أقارضك
بخمر فأدفع إِليَ مالي، وكيف إن قال رب المال: أدفع إلى هذا الخمر يكسرها
فإنه لا يَحِلُّ لي ملكها، فقال الآخر: لا، أدفع إليك فيذهب ربحي!! أو قال:
أنا أنتظر بها الأسواق؟ قال سحنون: هي مصيبة وقعت على رب المال، وينظر إلى
قدر فضل النصراني فيها فيعطى منها ويهراق ما صار للمسلم.
قال محمد بن رشد: قولُ سحنون في نوازله الثانية من كتاب المديان والتفليس
في المركب من الروم يُرْسِي بساحل المسلمين ومعهم الخمر للبيع وغير ذلك إن
السلطان لا يجبرهم على بيعها للعشور، ولكن يوكل من يتحفظ بها حتى إذا بيعت
أخذ من ثمنها العشور معارض لقوله في هذه المسألة، وقد مضى الكلام على ذلك
هناك فلا معنى لِإعادته.
[: الرجل يدفع إلى الرجلين المال قراضا
فيختلفان في المال عند من يكون منهما]
من سماع أصبغ بن الفرج من عبد الرحمن بن القاسم من كتاب البيوع والصرف قال
أصبغ: سألت ابن القاسم عن الرجل يدفع إلى الرجلين
(12/401)
المال قراضاَ فيختلفان في المال عند من
يكون منهما، قال: إذا كان ذلك نظر إلى صاحب المال فَاتُّبع قولُهُ فإن
حَضَرَ الاشتراءُ أَحْضَرَاهُ، قلت: فإن اختلفا في الاشتراء أو البيع وقال
هذا لا أراه؟ قال: لا بد لهما من أن يجتمعا ويتسالما وإلا رد المال وانسلخا
منه، وليس للسلطان في هذا مَقالٌ ولا نظر، قال: وهذا في رأيي ما لم
يُقْبَضْ المالُ فإذا قبض فهو إلى من دفعه ربه عند مقارضتهما إن كان دفع
إليهما جميعا، وإن كان أحدهما فأحدهما وليس للآخر بعدُ كلام ولا مقال إذا
كان يعلمه قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يتكلم فجمعت ذلك وتكلمنا معه فيهما.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القولُ فيها مستوفى في رسم إن أمكنتني
من سماع عيسى فلا معنى لإِعادته وبالله التوفيق.
[: دفع إليهما المال قراضا على غير شرط فعملا
فيه جميعا ثم اختلفا]
ومن كتاب البيوع والصرف قال: وسألته عن الذي يدفع إلى الرجلين المال قراضا
على أن لصاحب المال النصف ولأحدهما الثلث وللآخر السدس والعمل بينهما على
قدر ذلك؟ قال: ليس في هذا خير، قال أصبغ: وإذا وقع فسخ ما لم يقع العمل
ويفوت فإن فات بربح أو وضيعة وفراع رأيت أن ينفذ ذلك إذا لم يكن فيه اشتراط
على صاحب السدس بأكثر من جُزْئِهِ من العمل، والنظرُ والكفايةُ لهما جميعا
فإن كان كذلك وفات كانا على شرطهما في الأجزاء وكان للعامل فضل زيادة العمل
الذي اشترط عليه بأجرة مثله.
قال محمد بن رشد: كراهيةُ ابن القاسم لمقارضته إياهما على أجزاء
(12/402)
مختلفة هل يكون العمل بينهما على قدر
أجزائهما من الربح بقوله: ليس في هذا خير، ضعيفةٌ على أصله في المدونة؛ إذ
لم يراع فيها اختلافَ العاملين في النفاد في التجر والبصر به، فقال: إنه
إذا قارضهما على أن يكون أحدهما بسدس الربح وللآخر الثلث إن ذلك لا يجوز؛
لأنه كأنه قال لأحدهما: اعمل مع هذا على أن لك ربح بعض عمل هذا، فالذي يأتي
على تعليله في المدونة وهو الظاهر من قوله فيها أنه إذا قارضهما على أن
لأحدهما ثلث الربح وللآخر السدس والعمل بينهما على قدر ذلك أن ذلك جائز؛
لأن الشركة بين العاملين على هذا جائزة، لو دفع إليهما المال قراضا على
النصف من غير شرط فاشتركا همَا على العمل فيه على الثلث والثلثين على أن
يكون على صاحب الثلث من العمل الثلث وعلى صاحب الثلثين الثلثان لجاز، وإنما
تصح الكراهية في ذلك على مراعاة اختلاف العاملين في البصر بالتجر، وعلى ذلك
يأتي اعتراض سحنون في المدونة عن ابن القاسم بقوله: أو ليس قد يجوز لصاحب
المال أن يدفع المال قراضا على النصف وأقل من ذلك وأكثر؟ وهو اعتراض بين،
ألا ترى أنه لو قارض أحدهما في مائة دينار على انفراد على أن يكون له ثلث
الربح، وقارض الآخر في مائة على انفراد على أن يكون له ثلثا الربح فاشتركا
جميعا في العمل بإذن صاحب المال دون شرط لَوجب أَلَّا يكون لواحد منهما من
الربح إِلاَّ ما اشترط فيأخذ صاحب المال جميع ربح المائتين ويأخذ الذي قورض
في المائة على الثلثين الثلث والذي قورض في المائة الأخرى على الثلث السدس.
فوجه الكراهية في ذلك على هذا أن العاملين لم يرض الذي هو أَبْصَرُ
بالتجارة من صاحبه أن يكون له من الربح على قدر عمله إلَّا بما شرط عليه
صاحب المال، فكأنه قال لِلْمُقْصِرِ في التجر منهما أعمل مع هذا على أن
يكون لك من الربح مائة، وهذا القولُ أظهر، ألا ترى أنه لو دفع إليهما المال
قراضا على غير شرط فعملا فيه جميعا ثم اختلفا في قسمة الربح بينهما لوجب أن
يقسم بينهما على أن يكون حظه من الربح بينهما بنصفين، أو على أن يكون
لأحدهما من الربح الثلث وللآخر السدس والعمل عليهما على قدر ذلك جاز على
أصل ابن القاسم في المدونة، وكَرِهَهُ في هذه الرواية، فإن فات
(12/403)
بربح أو وضيعة مضى على شرطهما، وإذا
قارضهما على أن يكون لأحدهما من الربح الثلث وللآخر السدس والعمل بينهما
بنصفين جاز على ما يدل عليه مذهب سحنون في اعتراضه على ابن القاسم، وهو
الأظهر على ما ذكرناه، ولم يجز على مذهب ابن القاسم، قال فضل: القياس على
مذهبه أن يُرَدَ العاملُ إلى قراض المثيل؛ لأنها زيادة داخلة في القراض،
والصحيح عندي في القياس على مذهبه أن يُرَدَ إلى إجارة المثيل، ألا ترى أنه
قال في المدونة كأنه قال لأحدهما اعمل على هذا على أن لك ربح بعض عمل هذا
فما اشترط رب المال من المنفعة لأحد العاملين، فكأنه إنما يشترطها لنفسه
لماله من القراض في جر النفع إليه.
يبين ذلك المسألةُ الواقعة بعد هذا في الكتاب، ومسألة المدونة إذا دفع إليه
مالا على أن يجعله معه من يبصره بالتجارة.
وقولْه: فإن كان كذلك، يريد فإن كان الشرط أنَّ الربح بينهما على الثلث
والثلثين والعمل عليهما بنصفين كانا على شرطهما في الأجزاء، وكان للعامل
فضل زيادة العمل الذي اشترط عليه بأجرة مثله، فهو خلافُ قوله في المدونة،
لأنه لم يراع الشرط، وإلّا فسد به القراض إذ جعل الربحَ بينهما على شرطهما
وأرجع الذي عمل أكثر من جزئه من الربح بأجرة مثله في الزايد، فَجَعَلَ
الكلامَ إِنما هو بين العاملين كالمتزارعين على الثلث والثلثين مستويان في
العمل ويسلمان في العمل في مُزَارَعَتِهِمَا من كراء الأرض بما يخرج منها
على ما ذهب إليه ابنُ حبيب من أنهما لا يُحَوَّلَانِ عن شرطهما، ويتعادلان
فيما يخرجان، وبالله التوفيق.
[مسألة: مغاررة وبيع غرر]
مسألة قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن رجل دفع إِلى رجل مالا قراضا فاشترى
سلعة، ثم إن العامل قال لصاحب المال: هل لك أن أدفع إليك مالك على أن يكون
فلان بمثابتك في الربح متى ما بعنا فإِن كان ربحٌ قاسمته إياه كما أقاسمك،
فرضي بذلك قال: هذا حرام لا يحل. وقاله أصبغ وهو مُغَارَرَةٌ وبيع غرر،
وقليل في كثير وغير
(12/404)
ذلك من سلف جر منفعة وغيره من قبل ما يجر
من الربح بما أعطى إلى من يُحِبُّ ممن يجعل في مثابة رب المال، فهو جار إلى
نفسه بماله الذي عمل، فكل هذه الأوجه من الفساد والإِغْرَار وأكثُرها تدخله
ويجري فيه فلا خير فيه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله إِنَّ ذلك لا يجوز؛ لأنه عجل رأس
المال لصاحبه قبل أَنْ ينض جميعُه على أن يعطي حظه من الربح لمن يريد منفعة
ورفعه، فيدخله سلف جر منفعة، والربحُ أيضا غير معلوم قد يقل ويكثر فهو غرر
وربا وبالله التوفيق.
[مسألة: يأخذ المال قراضا على أن يرسل فيه
غلمانه ومن أحب]
مسألة وسألته: عن الذي يأخذ المال قراضا على أن يُرسل فيه غِلْمَانَهُ ومن
أحب ولا يخرج هو إِن شاء، قال: لا يصلح.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم الشجرة من
سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته.
[مسألة: يقارض الرجل على أن يخرج إلى البحيرة
أوالفيوم يشتري طعاما]
مسألة وسئل ابنُ القاسم: عن الذي يقارض الرجل على أن يخرج إلى البحيرة أو
الفيوم يشتري طعاما، فقال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: إلى هذا ذهب ابن حبيب في الواضحة أنه جائز ما لم يشترط
عليه جلبَ ما اشترى هناك من السلع إلى هلم، أو يسمى له سلعا يشتريها هنالك
ويأتي بها، أو يحمل من هنا إلى هنالك سلعا يبيعها ثَمَّ فيكون فيه أجيرا؛
لأنه رسول بأجرة غرر، وهو كله خلافُ ما في المدونة؛ لأنه لم يُجِز فيها أن
يدفع الرجل إلى الرجل مالا قراضا على أن يخرج به إلى بلد من البلدان يشتري
به تجارة؛ لأنه قد حَجَّرَ عليه أَلَّا يشتري حتى يبلغ ذلك البلد، وروى
الحارث عن ابن وهب أن مالكا سئل عن رجل يقال له: أخرج إلى مالي في موضع كذا
فاعمل به
(12/405)
قراضا، قال: لا خيرَ فيه لِموضع قوله أخرج،
وكأنه رآه من وجه المنفعة.
قال: وسمعت مالكا وسئل عن الرجل يكون بالمدينة وهو من أهل مصر، فسأل الرجل
بالمدينة أن يعطيه مالا قراضا يبتاع به متاعا بالمدينة ويخرج به إلى مصر
ويبيعه ويدفع إليه رأس ماله وما يصيبه من الربح في نصيبه إلى وكيله
بالفسطاط، قال مالك: لا بأس بذلك فرُوجع في ذلك وقيل له: إِنما أعطاه المال
على أن يبتاع به ويخرج إلى مصر أَلَا تراه شرطا؟ قال: هذا لا بأس به هي
بلده وإليها يخرج.
وروى ابن أبي أويس عن مالك مثلَه، وقول مالك هذا في رواية ابن وهب وابن أبي
زيد وابن أبي أويس ليس بخلاف لما في المدونة، والحجة في جواز ذلك جعل عمر
بن الخطاب المال الذي دفعه أبو موسى الأشعري إلى عبد الله وعبيد الله
ليبتاعا به متاعا بالعراق ويبيعانه بالمدينة قراضا بإِشارة مَنْ أشار عليه
بذلك من جُلسائه وبالله التوفيق.
[: أخذ من رجل تسعة عشر دينارا قراضا فربح فيها
دينارا أفيها الزكاة]
ومن كتاب الزكاة والصيام وسئل أشهب: عن رجل أخذ من رجل تسعة عشر دينارا
قراضا فربح فيها دينارا فصارت عشرين أفيها الزكاة؟ قال: إن كانا لم يكونا
تقاسما قبل الحول ففيها نصف دينار يزكي التسعةَ عشر دينارا رُبُعُ عشرها،
ويدفع بقيتها إلى ربها ويزكي الدينار رُيُعُ عشره، ثم يقتسمان ما بقي
بينهما على قراضهما، وقاله أصبغ، وقال ابن القاسم جملة: إِنَّ فيها الزكاة.
قال محمد بن رشد: قول أشهب وأصبغ: إِن العامل يجب عليه في ربحه الزكاة مع
جملة المال إذا كان في جميعه بحظ العامل ما تجب فيه الزكاة، هو مثلُ ما مضى
من قول مالك في رسم الزكاة من سماع أشهب، وهو مذهب سحنون، خلافُ المشهور من
قول ابن القاسم وروايته عن مالك أن العامل لا
(12/406)
يجب عليه في حظه من الربح زكاة حتى يكون في
رأس مال رب المال وحصته من الربح ما تجب فيه الزكاة.
وأما اشتراطهما في ذلك إِن لم يكونا تقاسما قبل الحول فهو مثلُ ما في كتاب
الزكاة من المدونة أن العامل لا يجب عليه في حظه من الربح زكاةَ حَتَّى
يَمرَّ الحولُ عليه من يوم يدفع المال إليه، وإن لم يعمل به إِلَّا قبل أن
يحول عليه الحول بيسير، خلافُ ظاهر ما في كتاب القراض منها أن الزكاة تجب
عليه في حظه من الربح، وإن لم يحل الحول عليه من يوم دفع إليه إذا كان قد
حال الحول على رأس مال رب المال وربحه من يوم أفاد أو زكاة، وهو ظاهرُ قول
ابن القاسم في هذه الرواية، وظاهرُ قوله فيها أيضا أن الزكاة تجب عليه في
حظه من الربح إذا كان في جملة المال بربحه كله ما تجب فيه الزكاة خلاف
المشهور من قوله وروايته عن مالك مثل قول أشهب، وروايته عن مالك ومثل قول
سحنون وأصبغ وبالله التوفيق.
[: يدفع إلى الرجل مالا قراضا على أن الثلث لرب
المال وللعامل الثلثان]
من نوازل سئل عنها أصبغ بن الفرج قال: سئل أصبغُ عن الرجل يدفع إلى الرجل
مالا قراضا على أنَّ الثلث لرب المال وللعامل الثلثان فيقول العامل بعد
القبض والِإشهاد أنا خارجٌ أَكْتَرِي دابة وأخرج، فيقول رب المال: أنا أكري
منك دابة على أن تعطني نصف ربحك وهو الثلث، فيكون لي من الربح الثلثان،
ويكون لك الثلث، فيقول: نعم فيعمل على ذلك فيربح أو يخسر، مالذي يكون
للعامل أو لرب المال.
قال أصبغ: أرى أن ينظر إِلَى أمر الدابة وركوبها، فإن كان أمرُها يسيرا ليس
بزيادة لها بال إلى سفر من الأسفار كثيرا، أو كثير المؤنة وبال مما لو
اشترطها بَدْءا عند أصل
(12/407)
القراض لجاز لخفة ذلك ويسارتِه، فأرى
القراض صحيحا، وأرى لرب الدابة شرطه وأراه كفاسخٍ القراضَ الأول، فيقارضه
ثانية بزيادة في الشرط؛ لأنه لم يعمل ولم يخرج، وقد كان لرب المال استرجاع
ماله على هذا، فهو كقراض مستأنف له كما لو لم يكن بينهما ذكر دابة ولا
كراء، فيقارضه على الثلث فلم يخرج حتى بَدَا لرب المال فاستغل ذلك فرجع
إليه فسأله أن يزيده في الشرط ويأخذه على النصف أو يرده، ففعل كان ذلك
جائزا، وكان ذلك له ولم يكن به بأس، وحمل أمرهما على الأمر الثاني، فكذلك
هذا في مسألتك إذا كان أمر الدابة خفيفا مما قد كان يجوز اشتراط مثلها مع
القراض ونحوها بمثلها، فإن كان على غير ذلك وكان لها بال وزيادة بينة في
القراض وعون كبير يسافر عليها إلى مصرٍ من الأمصار ويحمل عليها الأمر
الغليظ الذي يكف غيره من الأكرية ويكون زيادة بينة كبيرة فالقراض فيها فاسد
ولو ابْتُدِئ، فكذلك في عاقب مسألتك حين أراد الخروج فجعله له بتلك الزيادة
بالشرط وبما يخرج ويستوجب العمل والقراض فهو كالاِبتداء به، وهو فاسد عندي
وينقض ما لم يفت، فإن فات بالعمل فهو أجير على قول ابن القاسم في الزيادة
إنه بها أجير ويذكره زَعَمَ عن مالك، والربح والنقصان لرب المال، وعليه
للعامل إجارة مثله كالرسول والأجير.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إِن القراض ليس بإجارَة تلزم بالقول، وهو
يشبه في بعض حالاته الجُعل ويفارقه في أكثر أحواله، فله حكم على حياله يشبه
المساقي إلا أنه لا يلزم بالعقد ولا بالقبض، وكل واحد منهما بالخيار ما لم
يُشْغَلْ المالُ أو بعضه أو يسافر به، فإن شغله لم يكن له أن يرده ولا كان
لرب المال أن يسترده حتى ينض، وكذلك إن سافر به لم يكن له أن يرده في غير
البلد الذي أخذه فيه ولا لرب المال أن يأخذه منه بعد أن شخص
(12/408)
به، فإذا كانا بالخيار وإن تشاهَدَا على
القراض بجزء اتفقا عليه، فجائز أن يتفاسخاه إلَى قراض آخر يبتدئانه على ما
يجوز فيه من الشروط وبالله التوفيق.
[مسألة: الزكاة لا تجب عليه في ربحه حتى يحول
عليه الحول من يوم قبضه]
مسألة وسألته: عن المقارض يعمل بالمال منه فيفاصِل صاحبَه ويقتضي حصته من
الربح وله مال لا يحمل في مثله الزكاة وقد حال عليه الحول إِلَّا أنه إذا
جمع إلى ما ربح في القراض صار ما تجب فيه الزكاة، هل يضمه إلى ربح هذا
القراض فيزكيه معه؟ أم يجعل ربح هذا القراض كالفائدة، وإن كان قد أخرج
زكاته فيضمه إلى ماله الذي كان في يديه ويستقبل حولا.؟ قال أصبغ: قد أسقطت
المأحذ في مسألتك وحجتك، أما تعلم أَنَّ المقارَض الذي ذكرتَ يصير له بعد
الحول في ربحه لا ما يجب فيه الزكاة أنه يزكيه وإِن لم يكن مالا، وهذا قول
مالك في موطإِه وغيره كثير من قوله وروايةُ أصحابه واجتماعُهم عليه وقولهم
به أصلا من أصله وأصولهم، فأين يدخل إن كان له مال؟ هذا ليس بشيء في سؤالك،
هذا خطأ والزكاة عليه فيما أصاب بعد أن يكون قد حال المال بيده كما استثنى
مالك ما قل منه أو كثر، فلما كان هذا هكذا وَاجِبا لم يكن ذلك مالا يضيفه
إلى فائدة إن كانت عنده لم يجب فيها شيء ولا غيره مما يعيد عند ذلك فافهم
إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: قد تكررت هذه المسألة في نوازل أصبغ من كتاب زكاة العين،
وهي ها هنا أكْمَلُ وأبينُ، ومرادُ أصبغ في الموضعين جميعا أن المقارَض لا
يضم مالَه من مال قد حال عليه الحول ولا يبلغ ما تجب فيه الزكاة إلى ما ربح
في القراض فيزكيه مكانه إن كان يبلغ بإضافته إليه ما تجب فيه الزكاة، وإن
كان قد زكى الربح، ولكنه يضيفه إليه ويستقبل به حولا من أجل أن الربح وإن
كان قد زكاه فلم يزكه على ملكه وإنما زكاه على ملك رب
(12/409)
المال بدليل أنه يزكيه وإِن لم يبلغ ما تجب
فيه الزكاة، ولم يذكر في السؤال الحجة التي احتج بها عليه السائل في أنْ
يضيف ماله من مال قد حال عليه الحول ولا تجب فيه الزكاة إِلى ربح القراض
الذي زكاه فيزكيه مكانه إِنْ كان يبلغ بإضافته إليه ما تجب فيه الزكاة،
فَضعَّفَهَا هو وقال له: قد أسقطت المأخذ في مسألتك وحجتك، فيحتمل أن يكون
احتج عليه بأن ربح العامل مزكي على ملكه لا على ملك رب المال بقول مالك
وابن القاسم: إن الزكاة لا تجب عليه في ربحه حتى يحول عليه الحول من يوم
قبضه، فأسقط هو حجته عنده التي احتج بها عليه بأنه لو كان الربحُ الواجبُ
له في القراض مزكى على ملكه لما وجب عليه فيه الزكاة وإن كان قد حال عليه
الحول من يوم قبضه إِلَّا أنْ يبلغ ما تجب فيه الزكاة، ولعمري إِن الحجة
لكل واحد منهما على صاحبه فيما احتج به عليه لازمة له إذا لم يكن حظه من
الربح مزكى على ملكه ولا أعتبر فيه النصاب، فيلزم أَلاَّ يعتبر فيه الحول،
وهو ظاهر ما في كتاب القراض من المدونة أن المقارض يجب عليه في حظه من
الربح الزكاة وإِن لم يقم المالُ بيده حولا إذا كان في رأس مال رب المال
وحصته من الربح ما تجب فيه الزكاة، ولأنه أيضا إِنْ قلت: إِنَّ حظه من
الربح مزكى على ملكه ولذلك اعتبرتَ الحول في حقه من يوم قبض المال وصار في
يده، فيلزم أن يعتبر فيه النصاب وأَلاَّ تجب عليه فيه الزكاةُ إِلَّا أن
يبلغ ما تجب فيه، وهذا القول تأوله محمد بن المواز على ابن القاسم ولا
يُوجِدُ له نصا، فالمسألة على كل حال غير راجعة إلى أصل ولا جارية على قياس
إذ لم يعتبر في ذلك ملك أحدهما دون صاحبه على انفراد في النصاب والحول كما
اشترط فيها الحرية والإِسلام وعدم الدّين ولا ملكهما جميعا في ذلك أيضا،
كما اشترط فيهما الحرية والإِسلام وعدم الدين، وقد مضى القولُ على هذا
المعنى في رسم أوله مسائل بيوع من سماع أشهب وبالله التوفيق.
[مسألة: تمر الحائط المساقي إذا بلغ بجملته ما
تجب فيه الزكاة]
مسألة قيل له: فالمساقي يصير في حصته من الثمن وَسْقَانِ يجذ من
(12/410)
نخل له ثلاثة أوسق هل يضم جميع ذلك فيزكيه
أم لا زكاة عليه إلا في الوسقين؟ قال أصبغ: وهذه أيضا كنت تستدل عليها
بمسألة المساقي الذي لا تمر له سواه، تخرج مساقاتُه خمسة أوسق فإنما يصير
له بعضها أن عليه أن يزكي ما صار له ولا يسقط الزكاة حين فرضت في الجميع
بخمسة أوسق ووجبت كما وجبت في القراض الزكاة عليهما جميعا إذا كان عشرون
فصاعدا، فهذه وتلك سواءٌ، على العامل أن يزكي ما كان له واجبا، فلما كان
ذلك عليه لم يضف إلى غيره مما لم تجب وكان هذا بزكاته وسنته وهذا بسنته.
قال محمد بن رشد: أما المساقاة فلا اختلاف أحفظه في أن زكاة ثمرتها كلها حظ
المساقي وحظ رب الحائط مزكاة على ملك رب الحائط لا على ملك العامل، فلا
تعتبر شرائط وجوب الزكاة من الحرية والِإسلام والنصاب إلا في حق رب الحائط
لا في حق العامل، فالزكاةُ واجبة في تمر الحائط المساقي إذا بلغ بِجُمْلته
ما تجب فيه الزكاة أو لم يبلغ بجملته ما تجب فيه الزكاة إلا أن لرب الحائط
حائطا غيره فيه من التمر ما إذا أضافه إلى تمر حائط المساقاة وجبت فيه
الزكاة إذا كان حرا مسلما، وإن كان العامل في الحائط عبدا أو نصرانيا.
وإن جَذَّ المساقي من نخل له ثلاثة أوسق أو أربعة أوسق فلا تجب عليه فيها
الزكاة، وإن كان قد صار له في حظه من تمر المساقاة ما إذا أضافه إليها وجبت
فيها الزكاة، كان قد زكى ببلوغ تمر الحائط ما تجب فيه الزكاة أو لم يزك؛
لأنه إن كان زكى فإنما زكى على ملك رب الحائط لا على ملكه، وهذا ما لا
اختلاف فيه، فكان وجه القياس أن يرد ما اختلف فيه من زكاة حظ العامل من ربح
القراض إلى ما اتفق عليه من زكاة حظ العامل من تمر المساقاة ولكنهم لَمْ
يَقُولُوا ذلك فانظر فيه وبالله التوفيق.
(12/411)
[مسألة: العامل
في المزارعة شريك]
مسألة قلتُ: فالمزارع إذا زارع على النصف والثلث أو الربع أو الخمس إذا صار
في سهمه مَا لَا تجب فيه الزكاة غيرَ أنه إذا جمع الجميع وجبت فيه الزكاة؟
فقال: هو مثل هذا.
قال محمد بن رشد: مسألة المزارع هذه مخالفة للأصول وليست كالمساقاة؛ لأن
العامل في المزارعة شريك، ومن قول مالك وجميع أصحابه أنه لا زكاة عليه حتى
يبلغ حظه ما تجب فيه الزكاة، لا اختلاف بينهم في ذلك.
والمسألة مضروب عليها في كتاب أحمد، وذكر أنها لم تصح لأبي صالح، ويحتمل أن
يريد أن المزارع كالمساقي في أنه إذا رفع من زرعه الذي بينه وبين شريكه ما
لا تجب فيه الزكاة ولو زرع على انفراد لا تجب فيه إلا أنه إذا أضافه إلى ما
رفع مع شريكه وجبت فيه الزكاة أنه لا زكاة عليه فيه، فتصح المسألة على هذا
التأويل وإن كان فيه بعدٌ؛ لأن هذا الوجه يستوي فيه المزارع والمساقي
وبالله التوفيق.
[مسألة: الربح والوضيعة على الربع والثلاثة
أرباع]
مسألة قيل لأصبغ: أرأيت الرجل يبعث إلى الرجل بمائة دينار يشتري له بها
طعاما على أن نصف الربح لرب المال والنصف فيما بينه وبين العامل وشرطا أنَّ
ما كان فيه من وضيعة فعلى العامل ربعُ الوضيعة، كيف العمل إن جاء ربح أو
وضيعة؟ قال أصبغ: أراه كالسلف وأراه سلفا لرب المال وأرى الربح والوضيعة
على الربع والثلاثة أرباع، والعامل إجارة مثله في كفاية الثلاثة أرباع
وعنايته والقيام فيها في الاشتراء والبيع.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه لما شرط أن له ربح ربع
(12/412)
المال وعليه وضيعة حَكِمَ له بحكم السلف إذ
هذا وجه من وجوه أحكامه، فحمله عليه وصار كأنه أسلفه ربع المال على أن
يشتري له طعاما بثلاثة أرباعه ويبيعه له فوجب أن يكون ضامنا لرُبع المال في
ذمته، ويكون له إجارة مثله في شرائه الطعام بثلاثة أرباعه وبيعه، ولو
عُثِرَ على هذا قبل الشراء لفسخ الأمر بينهما وقبض ماله، ولو لم يعثر عليه
إلَّا بعد أن اشترى الطعام وقبل أنْ يبيعه لوجب أن يُقاسِمه الطعامَ فيأخذ
ثلاثة أرباعه ويعطيه أُجرةَ مثله في ابتياعه، ويأخذ منه ربع المائة دينار
يتبعه بذلك دينا ثابتا في ذمته، يُباع عليه فيها حصته من الطعام، وما سوى
ذلك من ماله وبالله التوفيق.
[: اشترى جارية من مال القراض فوطئها فحملت
فقال اشتريتها للقراض]
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر من ابن القاسم قال أبو زيد: قال ابن القاسم
في رجل اشترى جارية من مال القراض فوطئها فحملت، فقال: اشتريتها للقراض،
قال: لا لأنه يتهم أن يكون أراد بيع أم ولده، قيل له: فإن أتى على ذلك
بشاهدين أنه اشتراها للقراض؟ قال: تباع.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم لا قسامة في
العبيد من سماع ابن القاسم وفي رسم جاع فباع امرأته من سماع عيسى، فلا معنى
لإعادة شيء من ذلك وبالله التوفيق.
[مسألة: يأخذ الخمسين متاعه من صاحب المال إن
كان قد أشهد على المقارض]
مسألة وقال ابن القاسم في رجل دفع إلى رجل مائة دينار قراضا فخسر فيها
خمسين، فأتى إلى أخ له فأخبره بما خسر وقال: إني أحب
(12/413)
أن تسلفني خمسين دينارا حتى أريها صاحبي
فتطيب نفسه، فإذا رآها أعطيتُك مالك فلما دفع احتبَس صاحبُ المال مالَه
أترى إن قام بخمسين على صاحب المال أن يأخذها، فقال: نعم إذا كان قد أشهد
على ذلك وأخبر بما خسر.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن له أن يأخذ الخمسين متاعه من صاحب المال
إن كان قد أشهد على المقارض بما ذكر من أنه خسر في المال، وأنه دفعها إليه
على الوجه الذي ذكره، وذلك إذا كان ما ادعاه من خسارة الخمسين يشبه، ويكون
القول قوله في ذلك مع يمينه ولو لم يشبه قوله أو نكل عن اليمين أو لم يُعرف
قوله إلا بإقراره به على نفسه بعد دفع المال لم يكن لصاحبه إليه سبيل إلا
أن يعرف المال بعينه أنه له ببينة عدلة لم تفارقه وبالله التوفيق.
[مسألة: شرط خلط مال القراض بغيره]
مسألة وعن رجل دفع إلى رجل ألف دينار فأخرج الرجل من عنده مائة فكان صاحب
المائة هو الذي عمل في المَال، والربح بينهما، فكانا يتحاسبان كل سنة
فيتقسمان ذلك، ثم إنه خسر في آخر ذلك، قال: يرد ما ربح من أول ثم يقتسمان
الربح على عدة المال ويكون للعامل صاحب المائة أجرة عمله في الألف.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنه دفع إليه ألف دينار على أن
يضيف إليها مائة من ماله ويعمل بها ويكون الربح بينهما بنصفين فَرآهُ قراضا
فاسدا رَدَّهُمَا فيه إلى إجارة المثل، ولذلك قال في الجواب يرد ما ربح من
أول ثم يقتسمان الربح على عدة المال ويكون للعامل صاحب المائة أجرة عمله،
والفساد في ذلك إنما هو بما وقع فيه من شرطِ خَلْطِ مال القراض إلى ماله لا
بما شرط عليه من أن يكون له نصف ربح الجميع؛ لأن ذلك يرجع إلى جزء
(12/414)
معلوم كَأَنّهُ دفع إليه ألفه قراضا على أن
يكون له من الربح خمسة أعشاره ونصف عشره، وذلك خلافُ مذهبه في المدونة؛ لأن
الذي يأتي على مذهبه فيها في شرط خلط مال القراض بغيره أن يُرَدَّ العاملُ
فيه إلى قراض مثله وهو قول ابن حبيب؛ لأنها منفعة داخلة في المال غير خارجة
عنه ولا منفصلة منه.
وقد قيل: إن ذلك يكره فان وقع مضى، وهو قول أصبغ وروايتُه عن ابن القاسم،
وقيل: يجوز ابتداء وهو قول أشهب.
فالذي يأتي في هذه المسألة على مذهب ابن القاسم في المدونة أَنْ يُرَدّ
العاملُ إلى قراض مثله في الألف للأعوام كلها، وتجبر الخسارة في العام
الآخِر من ربح الأعوام المتقدمة كما قال، إلّا أن يكون كلما حاسبه وقبض
حصته من الربح قال له: اعمل بما في يدك قراضا مُؤْتَنَفا فلا يجبر ما خسر
بعد ذلك من الربح المتقدم على ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن
الماجشون وغيرهما من أصحاب مالكٍ إلّا ابن القاسم، وأما على مذهب ابن
القاسم في المدونة فهما على القراض من أول ما دفعه إليه، وإن حاسبه في كل
سنة وقبض حصته من الربح، وقال له: اعمل في يديك قراضا مؤتَنفا، وكذلك على
مذهبه الذي قد نص عليه، وإن أحضر المالَ ما لم يدفعه إليه ثم يرده عليه على
قراض مؤتنف، وقد قيل: إنهما على القراض الأول إذا رده إليه في الحين حتى
يطول الأمر ويبرأ من التهمة، وقد مضى هذا المعنى في سماع سحنون وبالله
التوفيق.
[مسألة: دفع إلى رجل مالا قراضا فابتاع به سلعة
فقال صاحب المال قد نهيتك عنها]
مسألة وعن رجل دفع إلى رجل مالا قراضا فابتاع به سلعة فقال صاحبُ المال: قد
نهيتك عنها، ويقول العاملُ: لم تَنْهَنِي عنها، قال: يحلف العاملُ أنه ما
نَهَاهُ ويكون القولُ قولَه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأنه رب
المال مدع عليه العدا ويريد تضمينه، وقد أحكمت السنة أن البينة على من ادعى
واليمين على من أنكر وبالله التوفيق.
(12/415)
[مسألة:
المقارض يشتري المتاع بنظرة أيام]
مسألة وسئل: عن المقارَض يشتري المتاع بنَظِرَةِ أيَّامٍ، قال: لا خير فيه؛
لأنه يضمن ذلك الدَّين إذا تلف، وَإن ربح فيه أعطاه نصف الربح.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه إذا اشترى سلعا بجميع المال فليس له أن
يشتري متاعا بنظرةٍ على القراض، فإن فعل لم يكن له المتاع على القراض، وكان
الربحُ له والوضيعة عليه، وهذا قوله في كتاب ابن المواز وهو ظاهر ما في
المدونة، وإن أذن له رب المال في ذلك إلا أن يأذن له في أن يشتري على
القراض على أنه إن ضاع مالُ القراض كان ضامنا لذلك في ذمته فيجوز وتكون
السلعة على القراض، ولا يقام من قوله في هذه الرواية إن ربح فيه أعطاه نصف
الربح أنه إن فعل ذلك يكون المتاع على القراض فيكون الربح بينهما والنقصان
على القراض؛ لأن المعنى في ذلك إنما هو أنهما عملا على ذلك ولا خير فيه،
فلا يكون الحكمُ في ذلك على ما عملا عليه وكان الرب للمقارَض والنقصان
عليه، وهذا في غير المُدِير وأما المُدِيرُ فله أن يشتري على القراض بالدين
إلى أن يبيع ويقضي، وقد مضى هذا المعنى في رسم القبلة من سماع ابن القاسم
وبالله التوفيق.
[مسألة: حضروا المحاسبةَ فجاء بماله كله إلا عشرا دنانير بقيت في دين]
مسألة قلت له: أرأيت لو حضروا المحاسبةَ فجاء بماله كله إلا عشرا دنانير
بقيت في دين، فقال صاحب المال: أنا آخذ هذه السلعة بعشرة دنانير تكون دينا
لك علي، قال: لا خير فيه، قيل له: أرأيت إن جهلا ذلك حتى عملا به وفات
المتاع، قال: أرى عليه قيمة المتاع.
قال محمد بن رشد: قد مضى القّول على هذه المسألة والاختلافُ
(12/416)
فيها مستوفى في أول سماع ابن القاسم فلا
معنى لإِعادته، وقد مضت المسألة أيضا في رسم تأخير صلاة العشاء في الحرس من
سماع ابن القاسم، وفي رسم القطعان من سماع عيسى وبالله التوفيق.
[مسألة: ابتاع تجارة أو سلعة ليسافر بها فمات
رب المال]
مسألة وعن رجل دفع إلى رجل مالا يعمل فيه فيسير في سفره، ثم يبدو لصاحب
المال فيريد أخذ ماله فيُدْركُه في بعض الطريق فيأخذ ماله على من ترى نفقة
العامل وهو راجع؟ قال: على صاحب المال حتى يرجع إلى أهله.
قال محمد بن رشد: هذا خلافُ ما في المدونة إلا أن يريد هنا أن العامل رضي
بذلك، قال محمد بن المواز: وكذلك لو ابتاع تجارة أو سلعة ليسافر بها فمات
رب المال فليس للورثة ولا للوصي منعُه إلا أن يرى الإمام لذلك وجها، قال
أحمد: ما لم يكن سفرا يطول أمره جدا، وأما إذا أراد الوصي أخذ المال وبعضه
عين لم يكن ذلك له حتى ينض جميعه، ولا ينبغي للعامل أن يُحْدِثَ فيه حدثا
يريد أنه ليس له بعد موت رب المال أن يشتري بالمال إذا كان لم يشتر به شيئا
بعدُ وبالله التوفيق.
[مسألة: دفع إلى رجل عشرة دنانير قراضا وآخر
عشرين فاشترى بها سلعتين]
مسألة قال: ولو أن رجلا دفع إلى رجل عشرة دنانير قراضا ودفع إليه آخر عشرين
دينارا قراضا فاشترى بها سلعتين لا يدري بأيتهما اشترى واحدة منهما، قال:
فإنهما بالخيار إن أحبا أن يضمناه السلعتني ويأخذا أموالهما فَعَلا، وإن
أحبا أن يأخذا السلعتين فَعَلاَ فإن أخذاهما بيعتا لهما، فأعطى كلُّ واحد
منهما رأس ماله وأعطى المقارض ربحه إن كانا أعطيا على النصف أخذ نصف الربح
واقتسماه جميعا
(12/417)
الباقي على قدر أموالهما وإن ضمناه مالهما
وبرئا من السلعتين فإن كانا فيهما نقصانٌ فعليه النقصان، وله الربح إن كان
فيهما ربح، قال أبو زيد: أخبرني ابنُ كنانة وابن القاسم في هذه المسألة على
نحو هذا.
قال ابن القاسم إلا أن تكون أدنى السلعتين خيرا من عشرين أو ثمن عشرين فلا
خيار لهما، فيكونان على قراضهما على قدر أموالهما؛ لأنهما ليس لهما في هذا
كلام يقول أحدُهما: لا أدري أيتهما سلعتي، وهذه السلعة قد نقصت من عشرين،
فإذا كانت أدنى السلعتين أدنى من عشرين بيعتا فأخذ صاحبُ العشرة عشرته
وصاحب العشرين عشرتيه وكان الفضل بينهما على قدر رؤوس أموالهما، وكان
للعامل في كل مال من الربح ما اشترط.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة قد مضى الكلام عليها في نوازل سحنون بما لا
مزيد عليه وبالله التوفيق.
[مسألة: اشترى سلعة بالمائة التي كانت قراضا في
يديه فباع نصفها بمائة دينار]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن رجل دفع إلى رجل مائة دينار قراضا فعمل فيها
ثمانية أشهر ثم تحاسبا فجاءه برأس ماله وبقي الربح في سلعته ثم بيعت السلعة
عند رأس الحول فصار للعامل عشرون دينارا؟ فلا زكاة عليه، ويستقبل بها حولا،
قيل له: أرأيت لو أن العامل اشترى سلعة بالمائة التي كانت قراضا في يديه
فباع نصفها بمائة دينار ودفع إلى صاحب المال، وقال صاحب المال: أقر نصف تلك
السلعة قراضا بيني وبينك؟ قال: لا خير فيه إنما هي الآن شركة ولا يصلح
إلَّا أن يعملا فيها جميعا، قلت له: أرأيت لو أن العامل عمل
(12/418)
في المائة ثمانية أشهر فجاءه بخمسة وتسعين
دينارا وبقيت خمسة من المائة وما ربح في سلعة، وأنفق صاحبُ المال الخمسة
والتسعين أو لم ينفقها، ثم باع تلك السلعة عند رأس الحول بخمسة وعشرين؟
قال: إن كان صاحب المائة أنفق الخمسة وتسعين لم يكن عليه زكاة الخمسة عشر
الدينار التي يأخذها من مقارضه ولا على العامل، وإن كان لم ينفق الخمسة
وتسعين فإنه يضم الخمسة عشر إليها فيزكيهما جميعا، ولا زكاة على العامل في
العشرة حتى يحول عليها الحولُ.
قال محمد بن رشد: قولُ ابن القاسم في هذه الرواية إنه إذا قبض رب المال
جميع ماله قبل الحول ثم صار للعامل بعد الحول من السلعة الربح التي كان
أبقاها بيده عشرون دينارا فلا زكاة عليه فيها، ويستقبل حولا ظاهرُه خلافُ
ما تقدم من قوله في، سماع سحنون: إنه سواء قبض رب المال قبل الحول جميع رأس
المال أو بعضه إن صار لرب المال بعد الحول في نصيبه من الربح ما تجب فيه
الزكاة أو فيما أبقاه بيده من رأس ماله مع حصته من الربح ما تجب فيه الزكاة
وجبت على العامل في حصته الزكاة؛ لأنه إذا كان في حظ العامل من الربح عشرون
دينارا كان في حظ رب المال منه مثلُ ذلك إلَّا أن يتأول أن الربح كان
بينهما على الثلث لرب المال والثلثين للعامل فلا يكون قولُه في هذه الرواية
على هذا التأويل مخالفا لقوله في سماع سحنون، وهو تأويل محتمل، غير أنه لم
يره محمد بن المواز وذهب إلى أنه إذا قبض رب المال من العامل قبل الحول
جميعَ رأس ماله فلا زكاة على العامل في حظه من الربح الذيِ أبقاه بيده إلى
أن حال عليه الحول، وإن صار في حظ كل واحد منهما ما تجب فيه الزكاة.
وأما إن قبض رب المال من العامل قبل الحول بعض رأس المال وأبقى بيده بعضا
فصار له بعد الحول فيما أبقاه بيده من رأس ماله وفي حصته من الربح ما تجب
فيه الزكاة فإنه يجب على العامل في حصته الزكاة قلت: أو كثرت
(12/419)
وهذا ما لم يختلف فيه قول ابن القاسم، وأما
إن كان لم يبلغ ما أبقاه بيده من رأس ماله مع حصته من الربح ما تجب فيه
الزكاة فزكاه، وذهب محمد بن المواز إلى أنه إذا كان قد بقي بيد رب المال
مما قبض قبل الحول ما إذا أضافه إلى الخمسة التي أبقاها بيده من رأس ماله
وإلى العشرة التي وجبت له من الربح فزكاها وجب على العامل أن يزكي من
العشرة التي وجبت له من الربح ما يقع منها للخمسة التي أبقى بيده من رأس
المال، وذلك نصف دينار؛ لأن رأس المال مائة فالخمسة التي أبقى بيد العامل
منها نصف عشرها ونصف عشر الربح دينار له منه نصفه فيخرج زكاة نصف دينار من
العشرة الربح التي صارت له، وذلك تَنَاقض إذ لا فرق فيما يجب على العامل في
حظه من الزكاة بين أن يجب على رب المال زكاةُ ما أبقى بيده مع ما يصير له
من الربح ببلوغ ذلك ما تجب فيه الزكاة، أو بإضافته إلى ما بقي بيده مما قبض
منه قبل الحول.
وقولُه: إذا قال رب المال: أقر نصف تلك السلعة قراضا بيني وبينك إنّ ذلك لا
خير فيه؛ لأنها شركة ولا تصلح إلا أن يعملا فيها معناه إذا قال له: اعمل
بها كلها قراضا على أن يكون لك نصف الربح ولي النصف إذْ هي مشتركة بينهما
بنصفين، وأما لو أراد أن يعمل بها كلها فتكون حصته منها هي القراض فيكون له
ربح الجميع لما كانت شركة، ولكان قراضا فاسدا من جهتين؛ أحدهما: القراض
بالعروض.
والثاني: اشتراطُه عليه أن يضيف العاملُ ماله إلى مال القراض فيعمل بهما
معا، وقد مضى حكم القراض بالعروض في غير ما موضع فلا معنى لِإعادة ذكره
وبالله التوفيق.
[مسألة: دفع إلى رجل مالا قراضا فاشترى العامل
سلعة فبارت عليه]
مسألة وقال ابن القاسم في رجل ممن يُدِيرَ دفع إلى رجل مالا قراضا فاشترى
العامل سلعة فَبَارَتْ عليه فَحَلّ حولُ صاحب المال أترى أن تقَوّمَ السلعة
التي بيد مقارَضه؟ قال: لا؛ لأنه لا يدري أيربح أم
(12/420)
يخسر؟ ولكن إذا قبض ماله زكاه لِمَا مضى من
السنين، وكذلك قال مالك.
قال محمد بن رشد: قولُه: فاشترى العامل سلعة فبارت عليه دليلٌ على أنه كان
مديرا وإذا بارت على المدير سلعته فلا يخرج بذلك عن حكم الِإدارة، فإذا كان
في حكم المدير وإنْ بارت عليه سلعته وجب ألّا يقوم رب المال مع ماله الذي
يدير ما بيد مقارَضه إذا كان يدار على ما في كتاب القراض من المدونة وفي
غيرها من أنّ مال القراض لا يزكى إلّا عند المفاصلة وإن أقام بيد العامل
أعواما فيزكيه عند المفاصلة، لِمَا مضى من الأعوام على قيمته ما كان بيده
في كل عام زادت قيمته في كل عام أو نقصت، وقيل: إنه إن نقص في العام الثاني
عَمّا كان عليه في العام الأول زكاة للعام الأول على ما رجع إليه في العام
الثاني إلّا ما نقصته زكاة العام الأول، وإنما يقوم رب المال في كل عام
ماله بيد مقارَضه إذا كان هو يديرُ والعامل لا يدير قيل: فيزكي رأس ماله
وحصته من الربح خاصة دون حصة العامل منه، وهو قول ابن القاسم في سماع أصبغ
من كتاب زكاة العين، وقيل: بل يزكي رأس ماله وجميع الربح وهو قول ابن حبيب
في الواضحة، وقد فَرَغْنَا من تفسير هذه المسألة في غير هذا الديوان
والحمدُ لله رب العالمين.
تم كتاب القراض
(12/421)
|