البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة

 [: كتاب الوصايا الأول] [مسألة: الرجل إذا استخلف على تنفيذ وصيته وارثا من ورثته]
من سماع ابن القاسم من كتاب الرطب باليابس قال سحنون: أخبرني ابن القاسم سمعت مالكا قال في الرجل يوصي بأن يُعتق عنه وأن يُحْمَلَ بمال في سبيل الله ويستخلف على ذلك وارثا فيريد بعضُ الورثة أن يُنَفذ ذلك وينظرَ فيه معه، قال: إن كان وارثا رأيت ذلك عليه، وإن لم يكن المستخلَف وارثا فليس ذلك عليه إلا فيما تبقى منفعته للورثة: العتق وما أشبهه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أنّ الرجل إذا استخلف على تنفيذ وصيته وارثا من ورثته فليس له أن يغيب على تنفيذ ذلك سائرُهُم ولمن قام منهم أن ينفذ ذلك وينظر معه فيه مخافة أن يكون أوصى لهم بالوصية، والوصيةُ للوارث لا تجوز إلّا أن يجيزها الورثة، وسواء له سمّى له الميت ما يُنَفِّذُها فيه من عتق أو صدقة مال في السبيل أو بما سوى ذلك من وجوه البر على ما في هذه الرواية، أو كان قد فَوّض إليه جعل ذلك حيث أراه الله على ما قاله في رسم الشريكين بعد هذا، وأنه إذا استخلف على ذلك غيرَ وارث فليس عليه أن ينفذ شيئا من ذلك بحضرتهم ولا لهم أن يكشفوه عن

(12/423)


ذلك.
قال في الرواية: إلَّا فيما تبقى منفعتُهُ للورثة العتق وما أشبهه، والمنفعة التي تبقى في العتق هو الولاء الذي ينجر عن المتوفى إلى من يرثه عنه، فلا يختص بذلك الورثة دون غيرهم؛ إذ قد يرثه من لا ينجر إليه من الولاء بشيء، ومن البنات والأخوات والزوجات والأمهات والجدات، وقد ينجر إلى من لا يرثه ممن حجب مِن ميراثه من الإِخوة والعصبة، فلا حق في كشف الوصي الأجْنَبِيّ عن العتق، إِنما هو لمن ينجر إليه الولاء عن الميت، وإن لم يكن وَارِثا له ولا كَلام في ذلك لمن لا ينجر إليه الولاء عنه وإن كان وارثا له، والذي يشبه العتق في بقاء المنفعة فيه للورثة هو الإِخدام والتعمير والتحبيس، فأما الإِخدام والتعمير فالحق فيه لجميع ورثته؛ لأن المرجع في ذلك إليهم، وأما التحبيس فمنها ما يرجع إلى أقرب الناس بالمحبس، ومنه ما يُخْتَلَفُ هل يرجع إلى ورثته أو إلى أقرب الناس به حسبما مضى تحصيلُهُ في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الحبس، فالحق في الحبس الذي يرجع إلى أقرب الناس بالمحبس لمن يرجع إليه منهم، والحق في الحبس الذي يختلف فيه هل يرجع إلى ورثته أو إلى أقرب الناس به لجميع ورثته وقرابته من الرجال والنساء من قام منهم كان له كشفه عنه حتى يعلم أنه قد أنفذه لِمَا قد يكون له فيه من المنفعة باتفاق أو على اختلاف، وهذا في الوصي المأمون، وأما غير المأمون فيكشف عن الوصايا كلها من العتق والصدقة بالعين وغير ذلك على ما قاله في رسم الوصايا من سماع أشهب بعد هذا: إِن السفيه المُعْلِنَ المارِق يُكْشَفُ عن كل شيء الصدقة وغيرها وهو محمول على أنه مأمون حتى يثبت أنه غير مأمون، ومن هذا المعنى كشف المرأة الموصى إليها بولدها إذا تزوجت حسبما يأتي القولُ فيه في رسم حلف ورسم كتب عليه ذكر حق من هذا السماع وباللَّه التوفيق.

(12/424)


[مسألة: أوصى بثلث ماله يجعله حيث أراه الله]
مسألة قال مالك: إذا أوصى بثلث ماله يجعله حيث أراه الله فليجعله في سبيل الخير، وإن قال حيث شئت أو أَحْبَبْتَ فصرفه إلى أقاربه يعني أقاربَ الموصي أو إخوته فلم يُجِزْ الورثة ذلك فهي مردودة على كتاب الله.
قال ابن القاسم: إذا قال له حيث شئت فجعلها في بعض ورثة الميت، قيل له: اتق الله اجعلها في غيرهم، فإن أبَى إلّا فيهم ولم يُجِزْ ذلك الورثةُ كانت على موروثه على فرائض الله، قلت: ولا يجبره السلطان أن يجعلها في سبيل الخير، قال: لا ليس للسلطان في ذلك كلام.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله إنه إذا أوصى إليه بثلث ماله يجعله حيث أراه الله أنه يجعله في سبيل الخير؛ لأنه لم يجعل الأمر في ذلك إلى اختياره، وإنما وكله إلى اجتهاده في أفضل وجوه البر وليس له أن يأخذه لنفسه ولا لولده ولا لِأحَدٍ من قرابته على ما قاله في رسم الشريكين بعد هذا وفي المدونة، بخلاف إذا قال له: اجعله حيث شئت أو حيث أحببتَ هذا إن أعطاه لولده أو لمن شاء من قرابته جاز ذلك؛ لأنه قد جعل الأمر فيه إلى اختياره، فله أن يفعل فيه ما شاء ما عدا أن يجعله لبعض ورثة الموصي فلا يجوز ذلك له إلّا أن يجيزه الورثة؛ لأنه يتهم أن يكون الميتُ أمره بذلك فتكون وصية لوارث.
فمعنى قوله: فصرفه بعض إلى أقارب الموصى أو إخوته أي أقاربه وإخوته الذين من ورثته، ولو صرفه إلى أقاربه وإخوته وهم ليسوا من ورثته لجاز ذلك، لا فرق بين أن يصرفه لقرابته نفسه أو لقرابة الموصي إذا لم يكن وارثا له، وقول ابن القاسم: إنه إن جعلها في بعض ورثة الميت قيل له: أتق الله اجعلها في غيرهم، معناه ما لم يبتل ذلك لهم فإن بتله لهم فلم يجز ذلك الورثة كانت موروثة على فرائض الله على ما قاله مالك، فقول ابن القاسم ليس بخلاف لقول مالك والله الموفق.

(12/425)


[مسألة: أوصى بدين لوارث أو غير وارث وأوصى بعتق فأبطل ذلك الدين]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال فيمن أوصى بدين لوارث أو غير وارث، وأوصى بعتق فأبطل ذلك الدينُ ولم يَجُزْ لمن أقر له به، فإن ذلك العِتْقَ لا يكون إلّا في الثلث ما يبقى بعد ذلك الدين، ولا تدخل الوصايا في شيء من ذلك الدَّين، فإذا أوصى بوصايا لوارث أو غير وارث عتق العبد ولم تضره الوصايا قال ابن القاسم: وفرق بين الدين والوصايا في هذا؛ لأن الرجل إنما يوصي فيما بعد الدين فإن كان صادقا أو كاذبا لم يكن للعبد حجة إلّا فيما بعده؛ لأن الرجل لو قال: أعتقوا عبْدي بعد مائة دينار تدفعونها إلى وصيه له بدأه على ذلك جاز أو لم يجز لم يعتق العبد إلا بعد تلك المائة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة على معنى ما في المدونة وغيرها؛ لأن قوله فيمن أوصى بدين لوارث، أو غير وارث معناه فيمن أقر بدين لوارث أو غير وارث؛ وقد بين ابن القاسم وجه قول مالك فيها بما لا مزيد عليه فلا وجه للقول فيها، وبالله التوفيق.

[مسألة: مات وقد أوصى بعتق بعض رقيقه فمرض بعضهم]
مسألة قال مالك فيمن مات وقد أوصى بعتق بعض رقيقه فمرض بعضهم إنه يُقَوَّمُ مريضا ولا ينتظر به الصحة مخافة أن يموت إذا جمع المال.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: لأن الميت إذا مات وجب تنفيذ ما أوصى به من العتق وغيره، فوجب ألّا يؤخر ذلك من أجل مرضه.

[مسألة: الوصية لا تجوز إذا أبقاها بيده ولم يخرجها إلى غيره]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال في رجل أوصى وأشهد

(12/426)


في وصيته: أنه إن هلك من مرضه ذلك أو فيما بينه وبين سنة بكذا وكذا، ثم سَلِمَ وجاز الأجل ثم هلك والوصية كما هي لم يغيرها ولم يوص بغيرها أنها جائزة ولا ينقضها توانيه ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا مثل أحد قولي مالك في رسم سلعة سماها بعد هذا.
والقول الثاني: أن الوصية لا تجوز إذا أبقاها بيده ولم يخرجها إلى غيره.
وتحصيل القول في هذه المسألة: أن الرجل لا يخلو في حين وصيته من حالين؛ أحدهما: أن يكون صحيحا دون مرض أصابه ولا سفر أراده وإنما أوصى لما جاء من التَرغِيب في استعداد الوصية.
والثاني: أن يكون أوصى في مرض أصابه أو عند سفر أَراده لغزو أو غيره.
فأما إذا أوصى في صحته دون سفر ولا مرض فَسَوَاءٌ قال فيها متى مَا مِت أو إن مت أَوْ إذا مت، وسواء أشهد على ذلك بغير كتاب أو بكتاب أقره عند نفسه أو وضعه عند غيره، ينفذ على كل حال متى ما مات إلّا أن يكون استصرف الكتاب بعد أن وضعه عند غيره فتبطل بذلك وصيته وكذلك إن أوصى في مرض أصابه أو عند سفر أراده، فقال في وصيته: متى ما مت وأما إن كان أوصى في مرض أصابه أو عند سفر أراده لغزو أو غيره فقال في وصيته إن مت ولم يزد، أو قال من مَرَضِي هذا أو سفري هذا أو قال يُخْرَجُ عني كذا وكذا ولم يذكر الموت بحال، فإن كان أشهد بذلك من غير كتاب فلا ينفذ الوصية إلّا أن يموت من ذلك المرض أو في ذلك السفر، وأما إن كان كتب بذلك كتابا وضعه عند غيره فإنها تنفذ على كل حال متى مات، وإنْ مات من غير ذلك المرض وفي غير ذلك السفر، واختلف قولُ مالك إن أقر الكتاب عنده ولم يضعه عند غيره فمرة قال: ينفذ على كل حال متى ما مات، وَمَرّة قال لا ينفذ إلا إن مات من ذلك المرض أو في ذلك السفر.
وجه القول الأول أن الوصية لما لم يكن لتنفيذها بمرض بعينه أو سفر بعينه قُرْبَةٌ في البر والأجر على غيره وكتب بذلك كتابا أقره عند نفسه بعد صحته من مرضه أو قدومه من سفره دل ذلك على أنه أراد إبقاء الوصية على حالها، ولعله لم

(12/427)


يقصد أوّلا إلى تقيدها بذلك السفر أو المرض بعينه، وإنما ذكره دون غيره لغالب ظنه أنه يموت فيه، ووجه القول الثاني اتبَاع ما يقتضيه ظاهر اللفظ من التقييد، فالقول الأول أظهرُ من جهة المعنى، والثاني أظهر من جهة اللفظ، وكذلك إن قال وهو صحيح دون مرض أصابه ولا سفر أراده إن مت في هذا العام فيخرج عني كذا وكذا هو بمنزلة إذا قال إن مت من مرضي هذا أو سفري هذا، وأشهب يقول: إن قيدها بمرض بعينه، فيجوز إن مات من مرضٍ غيره ولا يجوز إن مات في غير مرض وإن قيدها بسفر بعينه فيجوز إن مات في سفر غيره ولا يجوز إن مات في غير سفر، وهو قول بعيد في النظر وبالله التوفيق.

[مسألة: أوصى لقرابته أو ذوي قرابته]
مسألة قال مالك فيمن أوصى لِقَرَابَتِهِ أو ذوي قرابته قال: لا أرى أن يدخل ولد البنات في ذلك.
قال عيسى بن دينار: وينظر في ذلك على قدر ما يرى قريبا لم يترك من قرابته غيرها ولا يعني ولد البنات وولد الخالات.
قال محمد بن رشد: قولُ مالك لا أرى أن يدخل في ذلك ولد البنات، ظاهره وإن لم يبق من قرابته من قبل أبيه يوم مات سواهم، وهو قول ابن القاسم في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الحبس خلافُ قول عيسى بن دينار، ولأشهب في رسم أسلم من سماع عيسى بعد هذا أنه استحب أن يدخل في ذلك قرابتُهُ من قبل الرجال والنساء لأبيه وأمه، ومثله لابن أبي حازم في المدنية أنهم في ذلك شركاء شَرعا سواء لا يُفضل منهم أحد على صاحبه.
فهي ثلاثة أقوال في المذهب؛ أحدها: أنه لا دخول في ذلك لِقَرَابَتِهِ من قبل النساء بحال وهو قول ابن القاسم.
والثاني: أنهم يدخلون في ذلك بكل حال وهو قول مطرف وابن الماجشون وروايتهما عن مالك وحكى ابن حبيب: أنه

(12/428)


قول جميع أصحاب مالك.
والثالث: قول عيسى بن ينار: أنه لا يدخل في ذلك قرابته من قبل النساء إلّا ألّا يبقى من قرابته من قبل الرجال أحد.
وأما إن لم يكن له يوم أوصى قرابة إلّا من قبل النساء فلا اختلاف في أن الوصية تكون لهم على ما قاله ابن القاسم في رسم أسلم بعد هذا، وعلى ما قال أيضاَ في الواضحة من رواية أصبغ عنه، قال: وكذلك إن كانوا قليَلا الواحد والاِثنين.
ويختلف هل يقسم ذلك بينهم بالاجتهاد أو على السواء؟ والقولان لابن القاسم في كتاب الوصايا، واختار سحنون إذا كان المال ناجزا أن يقسم بينهم بالسوية بخلاف غلة الحبس، وحكى ابن حبيب في الواضحة من رواية مطرف عن مالك أنه يقسم على الأقرب فالأقرب، والأحوج فالأحوج على قدر الحاجة وقرب القرابة كما يقسم الأحباس، ولا يلزم عمومهم على هذا القول، وإنما يُسْتَحْسنُ ذلك ومثلُهُ في رسم الوصايا والأقضية من سماع أصبغ أراه لابن وهب والله اعلم، وأما على القول بأنه يقسم بينهم بالسوية إذا كان يحاط بمعرفتهم فيلزم عمومهم وبالله التوفيق.

[مسألة: يوصي بمائة دينار نقدا ولأخر بمائة دينار سلفا فلم يحمل ذلك ثلثه]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال في الرجل يوصي بمائة دينار نقدا وَلأخَرَ بمائة دينار سلفا فلم يحمل ذلك ثُلثُه، قال: إن لم يجز ذلك الورثة نُظِرَ إلى قيمة ربحها مُعَايَنَة فيحاص بها، وكان ما صار له في حصته بَتْلا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن معنى السلف الانتفاع به للتجر وغيره، فَيُنْظَرُ إلى ما يربح في المائة السلف إلى ذلك الأجل فيكون ذلك القدر كأنه هو الذي أوصى له به فيحاص به، ومثلُهُ في المجموعة لابن وهب وَعَلِيٍ عن مالك، وقال عنه علي: إلّا أن يكون أكثرَ من نصف الثلث فلا

(12/429)


يزاد ولا تكون المائة سلفا أكثر من مائة بتلا، وهو يحمل على التفسير لرواية ابن القاسم هذه وبالله التوفيق.

[مسألة: أوصى عند موته بعتق مكاتبه وأن يكاتب غلام له آخر فلم يحمل ذلك الثلث]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعتُ مالكا قال فيمن أوصى عند موته بعتق مكاتبه وأن يُكَاتَبَ غلامٌ له آخر فلم يحمل ذلك الثلثُ: إنه يبدأ بالمكاتب الذي اعتق؛ لأنه عجل له العتق ولأنه لا يدري أتتم كتابة الآخر وعتقه أم لا.
قال محمد بن رشد: هذا بين صحيح على معنى ما في المدونة وغيرها من أن الثلث إذا ضاق عن الوصايا يبدأ الأوْكَدُ فالآكد منها فإن استوت في التأكيد حوص فيما بينها وبالله التوفيق.

[: الربح للأيتام والضمان عليهم]
ومن كتاب قطع الشجر قال مالك في الذي يوصي إلى رجل بولده ويترك ثلاثمائة دينار ويأمر الوصي أن ينظر لهم فيها، فيتجر لهم فيها الوصي فتصير ستمائة دينار، ثم يأتي دين على الميت ألفُ دينار، أترى أن تدخل الستمائة دينار كلها في الدين؟ وذلك أن الستمائة دينار لو أنفقها الوصيُ على الورثة لم يضمنها الوصي له، ولم يضمنها له الورثةُ المُوَلّى عليهم، ولو كان الورثة كبارا كلهم لا يولي عليهم وليس

(12/430)


مثلهم يولي عليهم باعوا مالَ الميت ثم تَجِرُوا بما نَضّ في أيديهم من المال لم يكن عليهم إلا ما كان نض في أيديهم، ولهم نماؤُه وعليهم نقصانه، وكذلك ما غابوا عليه من العين، وأما الحيوان الذي ورثوه ثم نما أو تلف فإنه ليس عليهم ضمان ما مات من ذلك إذا مات بأيديهم.
قال ابن القاسم: أخبرني بهذه المسألة من أثق به عن مالك، ولم اسمعها أنا من مالك.
قال محمد بن رشد: المخزومي يرى الربح للأيتام والضمان عليهم وسواء كان الذي ترك المُتوفي ناضا أو عروضا فباعها الوصي وتجز فيها للأيتام، وفرّق ابنُ الماجشون بين العين والعروض، فقال في العين كقول ابن القاسم، وقال في العروض كقول المخزومي، والاختلاف في هذا مَبني على اختلافهم في الدين الطارئ على الميت هل هو متعين في عَيْنِ التركة أو واجب في ذمة الميت، وقد مضى الكلام على هذه المسألة مستوفى في هذا الرسم بعينه من هذا السماع من كتاب المديان والتفليس لتكرر المسألة هناك فاكتفينا بذلك عن إعادتها هنا مرة أخرى والله الموفق.

[: يدفع إليه السلطان مال الغلام المولى عليه فيحسن حاله فيدفعه إليه]
ومن كتاب أوله سلعة سماها وسئل عن الرجل يدفع إليه السلطان مال الغلام المولى عليه فيحسن حاله فيدفعه إليه أترى أن ذلك بمنزلة الوصي إذا رأى من حال وليه ما يرضيه فيدفعه إليه؟ قال: إن ذلك عندي لخفيف، أما كل من يَبِينُ أمرُهُ في سِنِّهِ وفضله فلا أرى عليه شيئا، وأراه يشبه الوصي في ذلك، وأما كل من كان فيه شك فلا أراه مثله وكأنه يراه ها هنا ضامنا إلّا أن يكون ممن لا يشك فيه فلا يرى عليه شيئا فأراه مثل الموصي.

(12/431)


قال محمد بن رشد: ظاهرُ هذه الرواية أن الموصى من قبل الأب يجوز إطلاقُه مَن إلى نظره من الوِلَاية، وُيصَدَّق فيما يذكر من حاله، وإن لم يعرف ذلك إلا من قوله، وقد قيل: إن إطلاقه لا يجوز إلّا أن يتبين حالُهُ ويعلم رشده، وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم في رسم الكراء والأقضية من سماعه بعد هذا من هذا الكتاب. وأما الوصي من قبل القاضي فقيل: إنه يجوز إطلاقه إذا تبين حاله وعلمِ رشده، وهو ظاهر هذه الرواية، فإذا عَقَدَ له بذلك عَقْدا ضمنه معرفة شهد آيَةَ لرشده، وقيل: إنه لا يجوز إطلاقُهُ بحال، وإلى هذا ذهب ابن زرب وهو دليل قول ابن القاسم في سماع أصبغ؛ لأنه إذا لم يجر ذلك للوصي من قبل الأب حتى يتبين حاله، فالوصي من قبل السلطان لا يجوز له ذلك بحال، إذْ هو أضعف حَالا، وقد قيل: إن إطلاق وصي القاضي من إلى نظره جائز بغير إذن القاضي وإن لم يُعرف ذلك إلّا بقوله، وبالله التوفيق.

[مسألة: يقول أنفقوا على فلان ما عاش فيغرق له مال فيموت]
مسألة وسُئِلَ: عن رجل قال: أنفقوا على فلان عشر سنين فعزلت نفقة عشر سنين ثم أنفق عليه فهلك بعد سنتين أو ثلاثة لمن ترى بقية ما بقي مما عزل؟ قال: أراه لورثة المُوصِي وليس لورثة الذي أوصى له منه شيء، وإنما هذا عندي بمنزلة من يقول: أنفقوا على فلان ما عَاشَ فيُعْزَق له مالٌ فيموت فيرجع ذلك لورثة الذي أوصى، فهذا مثله.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه إذا أوصى أن يُنْفق عليه عشر سنين فعزلت نفقته العشر سنين فهلك بعد سنة أو سنتين إنَّ ما بقي يكون لورثة الموصي؛ لأن المعنى فيما أوصى به أن يُنفق عليه عشر سنين إن هو عاش إليها، وذلك بخلاف لو أوصى له بخدمة عبد عشر سنين أو بسكنى دار عشر

(12/432)


سنين هذا إن مات المخدَم أو المُسْكَن قبل تمام العشر سنين كان لورثته ما بقي من السنين في الِإخدام والسكنى على ما قاله في المدونة وغيرها، ولو أوصى أن يقام بإخدَامِهِ أو بإسكانه عشر سنين من غير تعيين لكان ذلك كالنفقة يرجع ما بقي منها إن مات قبل تمام السنين لورثة الموصي، وهذا إذا حَمَلَ الثلثُ نفقةَ العشر سنين أو لم يحملها فأجاز ذلك الورثة وقطعوا له بالثلث في نفقة العشر سنين فيكون ذلك بتلا لا يرجع شيء منه إلى ورثة الموصي على ما يأتي في رسم العارية من سماع عيسى، وكذلك إن كان مع هذه النفقة أهلُ وصايا فيُحَاصُّوا معها يكون ما صار للنفقة بالمحاصة بتلا للموصي له بها إن مات قبل أن يستنفذوه كان لورثته على ما في رسم العادية، وفي ذلك اختلاف سيأتي في غير ما موضع من الكتاب، من ذلك ما وقع في أول رسم الأقضية الثانيِ من سماع أشهب وفي آخر الرسم الأول من سماع أصبغ وبالله التوفيق.

[مسألة: يوصي بالوصية ويكتب فيها إن مات من مرضه هذا ثم يصح]
مسألة وسئل: عن الذي يوصي بالوصية ويكتب فيها إن مات في سفره هذا أو من مرضه هذا ثم صح فتركها على حالها ثم يموت بعد ذلك، قال: إن وضعها على يدي رجل رأيتُ ذلك مجزيا عنه، فقلت: أفرأيت إن كانت في سنة؟ فكأنه أنكر ذلك ورأيته فيما أرى يرى ذلك جائزا إذا كانت عنده وإن أشهد عليها إلّا أن يضعها على يدي رجل، فقلت له: إنه قد أشهد عليها وهي عنده موضوعة، فقال لي: كَيْفَ ذَا يضعها عنده ويجوز؟ قال: لا، كأنه يقول: لا أرى ذلك قال سحنون: جيدة من قوله، وقد قال مالك في غير هذا الكتاب من كتاب باع غلاما بعشرين دينارا.
قال ابن القاسم: وسمعتُ مالكا يقول في الرجل يوصي بالوصية في مرضه أو عند سفره فيقول: إن أصابني في سفري هذا أو في مرضي هذا موت فجاريتي

(12/433)


حرة ويوصي بوصايا، ثم يصح من ذلك المرض أو يقدم من ذلك السفر ثم يمكث حينا ثم يمرض فيموت فتوجد تلك الوصية بعينها ولم يُذْكَرْ لها ذُكْرٌ عند مَوْته ولا تغير ولا إجازة.
قال مالك: أراها جائزة.
قال سحنون: قول مالك في المسألة الأولى أجود، ولا يجوز إلا أن يكون أخرجها من يده وجعلها عند غيره وإلّا لم تجز.
قال محمد بن رشد: قد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في أول رسم من هذا السماع فلا معنى لإعادتْه وبالله التوفيق.

[مسألة: قال لموالي مائة دينار في وصيته أيدخل معهم موالي أبيه وأخيه]
مسألة وسُئِلَ: عن رجل قال: لمَوَالِي مائةُ دينار في وصيته أترى أن يدخل معهم موالي أبيه وأخيه؟ قال: إِنهم لموالي وما في ذلك أمر بين إلّا ما يستدل به عليه من كلامه، وما يرى أنه أراد به الموصي من ذلك، قال أصبغ: هذا إذا كان وَلَاؤهُم قد رجع إلى هذا المُوصِي، فأما إن لم يكن ولاؤهم رجع إليه فلا يدخلون في وصية، قال عيسى: قال لي ابن القاسم: إن بَيّنَ من أعتق فخاصة، وإلّا فكلهم موالية.
قال سحنون: قال ابن القاسم وسمعته غَيْرَ عَامّ وهو يقول: يدخلون معهم.
قال ابن القاسم: وذلك رَأْيي إلّا أن يسَتدل على أنه إنما أراد من أعتق خاصة.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ تفسير لقول مالك، بدليل مَا لَهُ في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الحبس، وقال مطرف وابنُ الماجشون: إن كان يُحاط بموإليه الذين أعتق ولا يدخل معهم غيرُهُم، وإن كثروا حتى لا يحاط بهم دخل معهم موالي الموالي وأبناؤهم وكل من رجع إليه وَلَاؤُهم من قبل أبيه وجده وأخته؛ لأنه رمى به مَرْمَى الولاء إلا أن يقول

(12/434)


عتاقتي، وقد مضى هناك القول على هذه المسألة مستوفى فأغنى ذلك عن إعادته وبالله التوفيق.

[مسألة: أوصى بثلثه لثلاثة نفر ثم قال لفلان عشرين ولفلان عشرة وسكت]
مسألة وسئل: عمن أوصى بثلثه لثلاثة نفر، ثم قال: لفلان عشرين ولفلان عشرة وسكت عن الثالث إِن للذي سكت عنه ثلث الثلث، ويعطي الذين أوصى لهم بالقسمة صاحب العشرة عشرة وصاحب العشرين عشرين، ثم يُنظر ما بقي من جميع الثلث فيقسم على ثلث الثلث وعلى العشرين والعشرة بالحصص.
قال محمد بن رشد: قوله: ثم لفلان عشرين ولفلان عشرة معناه قال ذلك على سبيل التفسير لما أوصى به لفلان عشرين ولفلان عشرة، فقال: إنه يكون للذي سكت عنه ثلث الثلث أقل أو أكثر، ويكون من الباقي لصاحب العشرة عشرة ولصاحب العشرين عشرين، فما بقي من الثلث قسم على ثلث الثلث وعلى العشرين والعشرة بالحصص، وذلك يرجع إلى أن يقتسموا جميع الثلث قل أو كثر على هذه التجزية يضرب فيه المسكوت عنه بثلث الثلث وصاحب العشرة بعشرة وصاحب العشرين بعشرين، فإن كان الثلث في التمثيل تسعين ضرب فيه المسكوت عنه بثلاثين وصاحب العشرة بعشرة وصاحب العشرين بعشرين فيصير للمسكوت عنه نصف التسعين خمسة وأربعون، ولصاحب العشرة سدس التسعين خمسة عشر، وأصاحب العشرين ثلث التسعين ثلاثون، وإن كان الثلث خمسة وأربعين كان للمسكوت عنه ثلثها خمسة عشر ولصاحب العشرة عشرة ولصاحب العشرين عشرين، وإن كان الثلث ثلاثين تحاص جميعهم فيها المسكوت عنه بعشرة ثلث الثلاثين، وصاحب العشرة بعشرة، وصاحب العشرين بعشرين، فيصير للمسكوت عنه ربع الثلاثين ولصاحب

(12/435)


العشرة ربعها، ولصاحب العشرين نصفها، وكذلك على هذا القياس ما كان الثلث قَلَّ أو كثر على ما في سماع أبي زيد؛ لأن قول ابن القاسم فيه تفسير لهذه الرواية، وقد حكاها ابن حبيب على نصها من رواية أصبغ عن ابن القاسم ووصل بها.
قال أصبغ: وكذلك أن قَصُرَ الثلث، فبان بذلك ما ذكرناه من أن رواية ابن أبي زيد مفسرة لهذه الرواية، ولو كان قوله لفلان عشرين ولفلان عشرة لحمل ذلك على أنها وصية أخرى، ولوجب أن يضرب كل واحد منهما في الثلث مع المسكوت عنه بالأكثر مما سمى له أو من الثلث على ما قاله ابن القاسم في رسم استأذن من سماع عيسى في الرجل يوصي بثلاثة أعبد لرجلين، ثم يقول بعد ذلك فلان وفلان من أولئك الرقيق لفلان لأحد الرجلين، وفلان للرجل الآخر أنه يضرب كل منهما فيهم بأكثر الوصيتين العبد الذي سمى لأحدهما، أو نصف الثلاثة الأعْبُدِ، أو العَبْدَانِ اللذان سميا للآخر ونصف الثلاثة الَأعْبُدِ، وقد حمل الفضل هذه الرواية على ظاهرها من أن قوله فيها لفلان عشرين ولفلان عشرة كان لِغير الفور، فقال: إنها على خلاف أصل ابن القاسم يريد في مسألة الأعبد التي ذكرناها والأولى أَنْ يُتَأَوَّلَ على ما يخرج فيه عن أصله فيما ذكرناه.
وقال أصبغ في كتاب ابن المواز: يأخذ المسكوت عنه ثُلُثَ الثلث، ويقسم ثلثا الثلث بين المسمى لهما على ثلاثة أجزاء لصاحب العشرة جزء ولصاحب العشرين جزءان، واستحسنه محمد بن المواز، قال: لأنه إنما قسم وصية الرجلين من الثلث، كيف يقسم بينهما وصاحبهما الثالث لم يُزَدْ في وصيته على ثلث الثلث ولا نقص منه.
قال الفضل: وإنَّ تفسير ابن المواز لَحَسَنٌ، وسواء على هذه الرواية كان المال عينا أو عرضا أو بعضه عينا وبعضه عرضا؛ لأنه لم يحمل قوله لفلان عشرين ولفلان عشرة على أنها وصية أخرى لهما بالعشرة والعشرين، ولو حمله على ذلك لقال: إِنَّ كل واحد منهما يحاص بالأكثر من وصيته، وإنما حمله على التفسير لما أوصى بها فَرَآهَا وصية واحدة لكل واحد منهما يحاص فيها المسكوت عنه بثلث الثلث إن ضاق الثلثُ عن وصاياهما أو فضلت منه فضلة بعد أن أخذ المسكوت عنه ثلث الثلث وأخذ

(12/436)


صاحب العشرة عشرة، وصاحب العشرين عشرين، ورأيت لأبي صالح وابن لبابة أنهما قالا في هذه الرواية: معناها أن المال كله ناض فإذا كان في المال عرض وناض قسم العرض أثلاثا، وقسم ثلث الناض على المحاصة فحاص الذي سكت عنه بِثُلثِهِ، ويحاص صاحباه بأكثر وصيتهما، وإن كان المال عرضا كله حاص المسكوت عنه في الثلث بثلث الثلث، وحاص صاحباه بثلث الثلث وبالعدة المسماة لكل واحد منهما، فلا يصح أن يكون قولهما مفسرا للرواية، بل هو على خلاف مذهبه فيها حسبما بيناه، وقول أبي صالح هذا على ما لأصبغ في رسم الوصايا الصغير من سماعه من تفسيره لقول ابن القاسم، وسيأتي الكلام على ذلك هنالك إن شاء الله وبه التوفيق.

[مسألة: يوصي في أمة له إِن وسعها الثلث أن تعتق فنظر فإذا هي لا تخرج منه]
مسألة وسُئِل مالك: عن الرجل يوصي في أمة له إِن وسعها الثلث أن تعتق فنظر فإذا هي لا تخرج منه، فكيف ترى فيه؟ فقال: أرى إن كان يبقى منه الشيءُ الذي له بال لم أَرَ أن تعتق وإن كان الشيءُ الذي يبقى الشيءَ اليسير لم أر أن يمنع العتق لذلك، وأرى أن تعتق إِن كان الذي خسِر يسيرا.
قال ابن القاسم: وتغرَم هي ذلك اليسير.
قال سحنون: وأرى أن يكون ذلك رِقّا باقيا فيها.
قال محمد بن رشد: ظاهر قول مالك هذا أنها تعتق كلها ولا تغرَم شيئا إِن كان الذي زادت قيمتُها على الثلث الشيءَ اليسير، قال في الكفالة من المدونة مثلُ الدينار والدينارين، ولا تغرَم هي ذلك اليسير، خلاف مذهب ابن القاسم أنها تغرمه.
قال في المدونة: فإِن لم يكن عندها اتبعت به دينا تؤديه إلى الورثة، وخلاف قول سحنون: إن ذلك يكون رِقّا باقيا فيها ولابن كنانة في المجموعة مثلُ قول سحنون إنه إن زادت قيمتُها على الثلث الشيء اليسير كان ذلك اليسير رقا باقيا فيها، وإن زادت قيمتُها على الثلث الشيء الكثير لم يعتق

(12/437)


منها شيء، وله في المدنِيَة أنه إن كان حملها الثلث إلا الشيء اليسير منها مثل السدس من ثمنها أو نحو ذلك فما يُرَى أنه لا يضر الورثة لقلته ويسير خطبه عتقت كلها، وإن كان حمل منها اليسير لم يعتق منها شيء كما وقع له في المجموعة.
قال محمد بن رشد: وإنما قال مالك: إِنها تعتق كلها ولا تتبع بشيء إذا كانت قيمتها أكثر من الثلث بالشيء اليسير الدينار والدنانير؛ لأن هذا القدر مما لا يتَحقَّقُ زيادة لا سيما في الأمة الرفيعة؛ لأنها إنما تقوم بالاجتهاد، وقد يختلف البصر أبِالقيمة في تقويمها في مثل هذا القدر وشبهه، وإنما قال ابن القاسم: إن الجارية تُقَدِّمُ ذلك الشيء اليسير إِن كان لها مال مراعاة لقول من قال: إِنها إن لم يحملها الثلث بمالها تقوم بما حمل منها ويكون بقيته للسيد مضافا إلى ماله، وهو قول ربيعة والليث بن سعد ويحيى بن سعيد وابن وهب في رسم الثمرة من سماع عيسى من كتاب المدير، وقال: إنها تتبع به دينا إن لم يكن لها مال مراعاة لقول من يقول بالِإسْتِسْعَاءِ في العبد بين الشريكين يعتق أحدُهما حظّه منه ولا مال له، وقول سحنون: إِنَّ ذلك يكون رِقّا باقيا فيها بعيدٌ؛ لأن الموصِي إنما أوصى بعتقها إِنْ حملها الثلث، ومثل قوله في المجموعة لابن كنانة خلاف ما له في المدنِيَة.
ويتحصل في المسألة على ظاهر الروايات إن زادت قيمةُ الأمة على الثلث الشيءَ اليسير ثلاثةُ أقوال؛ أحدها: أنها تعتق ولا تتبع بشيء، وهو قول مالك.
والثاني: أنها تعتق وتتبع بما زادت قيمتها على الثلث وهو قول ابن القاسم.
والثالث: أن ذلك يكون رقا باقيا فيها وهو قولُ سحنون وأحد قولي ابن كنانة، الذي أقول به وينبغي أن تكون الروايات عليه إِن كانت الزيادة اليسيرة متيقَّنة لا يمكن اختلاف البصراء فيها ففيها ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن تتبع بذلك دينا إن لم يكن لها، مال ويؤخذ من مالها إذا كان لها مال، وهو قول ابن

(12/438)


القاسم.
والثاني: أنها يبقى ذلك رِقا فيها وهو قول سحنون.
والثالث: أنها تعتق قول ابن كنانة في المدينة وأنه إن كانت الزيادة اليسيرة كالدينار والدنانير في قيمة الأمة في الثلاثة والخمسين فلا بشيء كما قال مالك، ولا خلاف فإن زادت قيمتها على الثلث الكثير، قليل ولا كثير وله في المدونة أنه يعتق منها ما حمله الثلث وإن كان يسيرا ويرق الباقي، وإن كان حمل الثلثُ أكثرَها ولم يبق إلَّا اليسير منها الذي لا يضر بالورثة مثل السدس من ثمنها أو نحو ذلك أعتقت كلها، وهو بعيد جدا، فقول مالك في هذه المسألة أصح الأقوال وَأَوْلَاهَا بالصواب وبالله التوفيق.

[: أوصى بثلث ماله للفقراء من فخده فإن لم يكن فيهم ففي الذين يلونهم]
ومن كتاب أوله شك في طوافه وسئل مالك: عن رجل أوصى بثلث ماله للفقراء من فخده، فإن لم يكن فيهم ففي الذين يلونهم.
قال مالك: أرى أن يبدأ بالذين قال يُعطي فقراؤهم بقدر ولا يُعطي أغنياؤهم شيئا، وإن فضِل فضلٌ أُعطي مسكنةُ الأقْصَيْن.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله إِنه يخص بذلك الفقراءُ من فخده دون الأغنياء، ويُعْطَوْن منه بقدر على سبيل الاجتهاد، ويؤثر في ذلك الأقرب على الأبعد والأجوحُ على من هو دونه في الحاجة، ويجعل الفضل فيمن بعدهم، والفَخِدُ أعم من العصبة وأخص من البَطْنِ والقبيلة، والبطنُ والقبيلةُ أخص من العشيرة. وبالله التوفيق.

[مسألة: وصيتها تنفذ وإن لم تمت من حملها إذا كتبت بذلك كتابا]
مسألة وسئل مالك: عن امرأة أوصت إن حدث بها حدَثُ الموت من

(12/439)


حملها هذا فافعلوا كذا وكذا، ثم إِنها وضعت وأقامت سنين، ثم هلكت؟ قال مالك: أكتبت بذلك كتابا؟ قال: نعم وفي وصيتها قَبْلَ أن تغيرها، قال: هي جائزة وينفذُ ما فيها.
قال محمد بن رشد: قولُه: إِن وصيتها تنفذ وإن لم تمت من حملها إذا كتبت بذلك كتابا، هو مثلُ أحد قوليه في رسم سلعة سماها، ولو كانت قد وضعت الكتابَ بيد غيرها لجاز قولا واحدا، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في أول رسم من السماع فلا معنى لِإعادته، واحْكُمْ في المسألة لقوله فيها قبل أن تغيرها؛ لَأنَّ ذلك حق لها قالته أو سكتت عنه.

[: الوصية التي يوصي بها الناس ويتشهدون فيها قبل أن يوصوا]
ومن كتاب أوله الشجرة تطعم بطنين في السنة قال سحنون: أخبرني ابن القاسم قال: سئل مالك عن الوصية التي يوصي بها الناس ويتشهدون فيها قبل أن يوصوا، قال: ذلك يعجبني وأراه حسنا، ومَا زالَ ذلك من شأن الناس، والذي أدركتهم عليه يكتبون التشهد قبل أن يوصوا، قال مالك في أثر الوصية في التشهد حين قال هو الذي أدركت عليه الناس.
قال أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: ما أدركت عليه الناس بهذه البلدة يعني المدينة، فلا شك فيه أنه الحق، وروى أشهبُ في كتاب الوصية الذي فيه الحج والزكاة في التشهد مثلَ هذا وزاد قال، فقيل له: فإن رجلا عندنا كتب وصيته وكتب فيها أُؤمِنُ بالقَدَرِ خيرِه وشرِّه حُلْوِه ومُره، قال: لا والله لا أراه أَفَلَا كتبتَ والصُّفْرِية والَأبَاضِية، ليس هذا بشيء، وقد كتب من مضى وصاياهم فلم يكتب

(12/440)


أحد منهم هذا في وصيته.
قال محمد بن رشد: هذا كله بيّن على ما قاله؛ لأنَ الرشد في الاتباع ويكره في الأمة كلها الابتداع فلن يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مِمَّا كان عليه أولها (والمدينة) دارُ الهجرة وبها توفي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، والصحابةُ خير الأمة الذين اختارهم الله لصحبة نبيه وتبليغ دينه وإقامة شرعه بها مُتَوَافِرُونَ، فما عملوا فيه ودرجوا عليه هو الهدى الذي لا ينبغي العدول عنه وبالله التوفيق.

[مسألة: يوصِي بالرقبة أترى أن يشتري أبوه فيعتق عنه]
مسألة وسئل: عن الرجل يُوصِي بالرقبة أترى أن يُشْتَرَي أبوه فيعتق عنه؟ .
قال: إن كان تطوعا فإني أرى ذلك، وإن كان ظهارا أو ما أشبهه مما هو عليه فغيرُه أَحَبُّ إلي منه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إِن ذلك جائز في التطوع بل هو المختار المستحب؛ لِأنه أعظمُ في الأجر من عتق الأجنبي، لما في ذلك من صلة القرابة، وقد روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «لاَ يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ إِلا أَنْ يَجدَهُ مَمْلُوكا فَيَشْتَرِيهِ فَيُعْتِقُهُ» أي فيكون حرا بنفس شرائه إياه، لا أنه يستحِدثُ له عتقا بعد مِلْكِه إياه، إذْ لا يستقر له عليه ملك إِلَّا أنه يصير بشرائه إياه في حكم المملوك المعتق في وجوب الولاء له.
وأما قولهُ: إن كان ظهارا أو مما أشبهه مما هو عليه فغيرُه أحب إلي منه فتجاوزٌ في اللفظ ليس على ظاهره في استحاب عتق سِوَاهُ بل هو الواجب، إذ لا يُجْزِئ عنه في الظهار، والوصي ضامن إن فعل ذلك.

(12/441)


وأما إن لم يعلم الوصي إنْ كان العتق الذي أوصى به تطوعا أو واجبا فلا ينبغي أن يَعتِقَ عنه من يعتق عليه من أب أو أخ ولا يصح له ملكه مخافة أن تكون وصيته بعتق واجب عليه، فإن فعل لم يلزمه ضمان وبالله التوفيق.

[مسألة: الوارث إذا زاد مما ورثه فكأنه قد أجاز للميت الوصية بأكثر من ثلث ماله]
مسألة وسئل: عن رجل أوصى بمائة درهم في عتق رقبة من غلة حائط له منذ خمس وثلاثين، وكان قبل عتق الرقبة وصايا قدمت قبله، وكان في ذلك الزَّمان الرقبة توجد بمائة درهم، وهي اليوم لا توجد بذلك، فقال له الوصي: أفترى أن أزيد من عندي في ثمنها؟ فإِن نفسي بذلك طيبة، قال: لا يعجبني ذلك، فقيل له: فبعض من ورثه أو من أقاربه أو ممن أوصى له إن أحب أن يزيد في ذلك؟ فقال: ما أرى به بأسا، فقال له الرجل: أفترى أن يشتري له بأرض الروم رقبة؟ فإني أجدها بهذا الثمن إِلَّا أنها أعجمية؟ قال: ليس هذا الذي أراد الرجل ولا يعجبني ذلك، قيل له: أَفَيُعِينُ بهذا في عتق رقبة يتم بها عتقها؟. قال: ويكون غيره الذي يعتقها؟ قال: نعم، قال: لا خير فيه، فقيل له: أفنشتري نحن آخر رقبة بمائتي درهم فيعتقها عنهما؟. قال: لو أني أعلم أنك لا تجد لرأيت ذلك، فقال فإن لم أجد أفترى لي ذلك؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: لم يُجِز للموصى إذا لم يحمل الثلثُ ثمنَ الرقبة أن يزيد فيها من عنده، وأجاز ذلك لبعض من ورث الميت أو أوصى له بوصية، والمعنى في ذلك أن الزيادة إن كانتَ من مال الميت الموصى جاز ذلك، وإن كانت من غير أصل مَاله لم يجز ذلك، فقولُه: أو من أقاربه معناه من أقاربه الذين يرثونه؛ لأن الوارث إذا زاد مما ورثه فكأنه قد أجاز للميت الوصية بأكثر من ثلث ماله، وكذلك الموصَى له إِن زاد من الوصية التي أوصى له بها

(12/442)


الميت فكأنه قد ترك ذلك له ولم يجز للوصي إذا لم يحمل الثلث ما يشتري به رقبة في أرض الإِسلام أن يشتريها من أرض الروم؛ لأن ذلك خلاف ما أراد الموصِي كما قال، ولم يجز له أن يُعِينَ بذلك في رقبة يكون ولاؤها لغير الموصى فقال: لا خير في ذلك، ومعناه إذا كان في ذلك ما يشارك به في عتق رقبة فلا بأس أن يُعِينَ بها مكاتبا في آخر كتابته، وكذلك قال في الوصايا الأول من المدونة: إنه إن لم يكن في ذلك ما يشتري به رقبة شورك به في رقبة، فإن لم يجدوا إلَاّ أن يعينوا بها مكاتبا في آخر كتابَتِه فعلوا، قال: وهذا قول مالك فهو يحمل على التفسير لقوله في هذه الرواية وبالله التوفيق.

[مسألة: الوصي يريد بيع متاع الرجل مساومة]
مسألة وسئل: عن الوصي يريد بَيْعَ متاع الرجل مساومة ويرى أن ذلك خير له مثل ما يسومه الرجل بالدار وما أشبهه فَيُتَمِّنُه ويرى أن بيعه غِبْطَة، قال: لا بأس بذلك مساومة، أو فيمن يريد إذا كان ذلك منه على وجه النظر.
قال محمد بن رشد: معناه في الوصي على الثلث إذا باع بإذن الورثة أو على الصغار إذا باع بإذن الكِبَار أو في الوصي على الصغار إن لم يكن لأحد معهم في ذلك شرك، وأمّا إذا كان وصيا على الصغار وهم شركاء مع الكبار فباع الجميعَ بغير إذنهم فلا يجوز ذلك عليهم، وكذلك إذا كان وصيا على الثلث فباع بغير إذن الورثة، وسيأتي الكلامُ على ذلك في رسم سلف دينارا من سماع عيسى بعد هذا إن شاء الله، وبه التوفيق.

[مسألة: أوصى بخمسمائة درهم في رقبة بخمسمائة بشرط أن يعتق ثمن سبعمائة]
مسألة وسئل: عن رجل أوصى بخمسمائة درهم في رقبة بخمسمائة بشرط أن يعتق ثمن سبعمائة، وإن اشترى بخمسمائة بغير شرط لم

(12/443)


يجد مثلَها أفيشتريها بشرط أو يشتري دونها بغير شرط؟ قال: بل يشتري بغير شرط يعني غيرها وإن كانت دونها.
قال محمد بن رشد: أما إذا كانت الرقبة واجبة فلا يجوز أن يشتريها بشرط، فإن فعل ضمن؛ لأن الرقبة الواجِبَةَ لا يجوز شراؤها بشرط العتق، وأما إن كانت الرقبة تطوعا فيكره له أن يفعل ذلك، فإن فعل لم يضمن وبالله التوفيق.

[: هلك زوجها وأوصى إليها بولدها وبما كان له من مال فتزوجت]
ومن كتاب أوله حلف بطلاق امرأته وسئل مالك: عن امرأة هلك زوجها وأوصى إليها بولدها وبما كان له من مال، فتزوجت المرأةُ وخِيفَ على المال أَتَرَى أن يكشف؟ قال مالك: إن كانت المرأة لا بأس بحالها فلا أرى ذلك، وإن كان يُخَافُ كشف ما قِبَلَها.
قال محمد بن رشد: إنما يكشف ما قبلها إِن كان يخاف على المال عندها ولا يكشف إِن كانت لا بأس بحالها ولم يبين على ما يحمل عليه من جهل حالها، والظاهر من قول مالك في رسم الوصايا من سماع أشهب بعد هذا، أن المرأة إذا تزوجت غُلِبَتْ على جُل أمرها حتى تعمل بما ليس بصواب أنها عنده محمولة على الخوف عليها إذا تزوجت فيكشف ما قبلها، إِلَاّ أن يعلم أنه لا بأس بحالها وينزع الولد منها وإِن لم يقل الميتُ إِن تزوجت فانزعوهم منها إِلا أن يجعلهم في بيت على حدة ويقيم لهم ما يصلحهم من خادمهم ونفقتهم على ما قاله في رسم كتب عليه ذُكر حق بعد هذا، وكذلك لا يعزلون منها إذا عَزَلَتْهم في مكان عندها وأقامت لهم ما يصلحهم من نفقة وخادم وإن كان الميت قد قال: إِن تزوجت فانزعوهم منها، قَاله مالك في كتاب ابن المواز.

(12/444)


قاله محمد؛ لأن الميت لم يقل: إن تزوجت فلا وصية لها وإِنما قال: إِن تزوجت فانزعوهم منها معناه إِنْ لم تَنْزِعْهم عن بيتها وتجعلْهم في بيت على حدة مع من يخدمهم بنفقة تقيمها لهم، ومثلُ ذلك في المدنية لمالك من رواية محمد بن يحيى السبائي عنه، وزاد فإن خشيت عليهم الضيعة فأولياؤهم أحق بهم.
قال ابن المواز. قال ابن القاسم: وأما المال فوجه ما سمعت فيه أَنْ يُنظر إلى حالها فإن رُضِي حالُها وسيرتُها والمال يسير لم يؤخذ منها (محمد) ولم يكشفه إِن كان المال كثيرا وهي مقلة وخيف من ناحيتها، وأرى أن ينزع المال منها، وقاله أصبغُ وهي على الوصية على كل حال إِلاَّ أن يكون مرره إلا من مر إبقاء المال عندها بعد النكاح في الحرم والدين واليسر والحرز فيقر بيدها، قلت: وإذا خيف على المال عندها فنزع منها ولم تعزل هي عن الوصية فليقدم معها من يكون المال عنده ويشاركها في النظر لهم وبالله التوفيق.

[مسألة: شهد هو والوصي معه أن أباه أعتق هذا الرقيق]
مسألة وسئل مالك: عن رجل أوصى إلى ابن له كبير وله ولد صغار ذكور وإناث وأشهد معه رجلا آخر وأعتق رقيقا أتجوز عتاقهم بشهادة ابنه وهو وصي مع الرجل؟ قال: نعم إذا لم يتهم مثل أن يَجُرَّ وَلَاء.
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة أنه شهد هو والوصي معه أنَ أباه أعتق هذا الرقيق أو أنه أوصى بعتقهم فتجوز شهادته مع الوصي إِن لم يكن لولائهم خطب، وإن كان لولائهم خطب لَمْ تجز شهادته إذا كان في الورثة نساء مِمن لا يثبت له الولاء، وإِن لَمْ يكن في الورثة إِلَّا من يثبت له الولاء جازت شهادته عليهم.
هذا نص قوله في المدونة وغيرها، وأما إن أعتقا العبيد ثم شهدا بعد تنفيذ العتق لهم أن الميت أوصى بذلك إليهما لم تجز شهادتهما؛ لأنهما يشهدان على فعل أنفسهما ليجيزاه وبالله التوفيق.

(12/445)


[مسألة: أوصى في جارية له أن تباع رقبة فأبت الجارية وأحبت البيع على غير عتق]
مسألة وسئل مالك: عن رجل أوصى في جارية له أن تباع رقبة فأبت الجارية وأحبت البيعَ على غير عتق، قال: إن كانت الجاريةُ رائعة رأيت أن تباع على غير شرط في العَتَاقَة وإن كانت من الخدم مِثْل ثَمَن سِتِّينَ دينارا رَأَيْتُ أن تباع رقبة بشرط.
قال محمد بن رشد: هذا في الوصايا الأول من المدونة أنها إن كانت من جواري الوطء ممن تتخذ، كان ذلك لها، وإن لم تكن منهن بيعت ممن يعتقها إلّا أنه لم يذكر في أثمانهن حدا، وقال في كتاب العيوب منها: إنّ أثمانَ الخمسين والستين من المرتفعات، فقيل: إن ذلك لما ها هنا إذ جعل أثمان الخمسين والستين من المرتفعات.
والصواب أنّ ذلك اختلاف من القول، فأثْمَان الخمسين والستين من المرتفعات اللاتي تجب المواضعة فيهن ولا يجوز التَّبَرِّي مِنْ حملهن وَلَسْنَ من المرتفعات اللائي لهن أنْ يُبَعن على غير شرط فتبطل الوصية فيهن، بدليل قوله في سماع أبي زيد: وأثمان الستين ليست بِرائعة في هذا، قال في كتاب الوصايا الأول من المدونة، وقد قيل: لا ينظر إلى قولها وتبَاع للعتق إلّا ألّا يُوجَدَ من يشتريها بوضيعة الثلث إن كان للميت مال يحمل الجارية، وقوله: إن كان للميت مال يحمل الجارية مفسر عندي لقول ابن القاسم وروايته عن مالك؛ لأن الرجل لو أوصى أن يُباع عبده لم يجز ذلك على الورثة إذْ لم يحمله ثلث، وقد قال ابن لبابة في قوله في المدونة بيعوا عبدي من فلان لَمّا لم يأمر الموصي أن يعطاه إلّا بثمن لم يقل أحد إنه ينظر إلى العبد إن كان يخرج من الثلث أمْ لا يخَرج منه، وليس قوله بصحيح إِذ ليس للميت أن يحجر على ورثته إمساك عبد من عبيده إذا كان أكثر من ثلث ماله، وإنما كان للجارية الرائعة أن تباع على غير العتق؛ لأن العتق أضَرُّ بالجارية النفيسة.
قال ابن المواز: وهو كما قْال؛ لأنها قد تتخذ أمّ ولد فتعتق فيكون ذلك خيرا لها، والخادِم تبقى مملوكة أبدا فلا تعتق أحسنُ لها وإن لم

(12/446)


ترض بذلك.
قال ابن المواز: وقد أبطل مالك وصية ابن سليمان إذ أوصى أن يعتق جواريه بعد سبعين سنة وَرَآهُ من الضرر.
قال ابن المواز: فإن بيعت بشرط العتق وضع ثلث ثمنها، وإن بيعت بغير شرط لم يوضع من ثمنها شيء، وبالله التوفيق.

[: تباع إن اختارت البيع]
ومن كتاب طلق بن حبيب وسئل مالك: عن رجل يوصي في جارية له لَهَا القدرُ أن تخير فإن شاءت بيعت، وإن شاءت أعتقت، ويعتقها بعض من كان ورثها ولعله قد كان بينه وبينها شيء، قال: ليس عتقه بشيء، وأرى أن تباع إن اختارت البيع، ثم قال: ما لهم ولها يعتقونها ليس لهم من ذلك شيء، هو ماله يصنع فيه ما أحب يعني المُوصِي فلا أرى لهم في ذلك قضاء حتى ينفذ من جعل ذلك له، فإما أعتق وإما باع ليس للورثة في ذلك قضاء.
قال محمد بن رشد: قولُهُ: هو مالُه يصنع فيه ما أحب يريد فتُنفَّذُ فيه وصيتُهُ بالتخيير لها بين البيع والعتق، وذلك إذا كان الثلث يحملها، والمسألة متكررة في رسم جاع من سماع عيسى، وقال في سماع سحنون: إن لها أن ترجع إلى البيع بعد أن اختارت العتق، وإلى العتق بعد أن اختارت البيع ما لم يفت الأمر فيها بالبيع والتقويم في العتق، وقال في رسم القطعان من سماع عيسى: إنها إنْ اختارت البيع فبيعت ثم ردت، فقالت: أنا أحب أن أعتق الآن قال: ليس ذلك لها.
وقال ابن وهب: ذلك لها؛ لأن بيعها لم ينفذ، ومعناه إذَا رُدَت بعيب، فالاختلاف في هذا على الاختلاف في الرد بالعيب هل هو نقض بيع أو ابتداء بيع، وبالله التوفيق.

(12/447)


[مسألة: الصدقة والوصيةِ والرجل في مرضه ولا يحملها الثلث]
مسألة وسئل: عن الصدقة والوصيةِ والرجلُ في مرضه ولا يحملها الثلث أتَرَى أن يبدأ بالصدقة؟ قال: لَا بَلْ يتحاصون، وقد سألني رجل عن رجل أوصى ليتيم ولقوم فلم يَسَعْ ذلك الثلثُ، فقال الرجل: إنّ اليتيم محتاج كأنه رَآهُ من وجه الصدقة فقلتُ له: هم يتحاصون، فقيل له: أفرأيت إن قال في الصدقة بَتْلا لا رجوع فيها عشت أو مت، قال: فلا أدري، قلت له: أفيتحاص الذي تصدق بها عليه والذي أوصى له؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: ظاهرُ هذه الرواية أنّ السؤال فيها إنما هو عن الوصية بالصدقة والصدقَةُ على سبيل العطية هل يتحاصان الوصية بالصدقة على الوصية على سبيل العطية؟ فقال: إنهما يتحاصان. ولا اختلاف أحفظه في ذلك، وقد رأيت لابن دحون أنه قال: قد قيل: إن الصدقة تقدم على الوصية؛ لأنها للفقراء والوصية للأغنياء فتؤخذ، ولا أعرف هذا القول ولا له وجه يصح، إذ قد يتصدق الرجل على الغني ويعطي الفقير، فلو كانت الصدقة على الغني تبدأ على العطية للفقير لَبَطَلت العلة التي عللت بها تبدية الصدقة على العطية، وإن قلت: إن العطية تبدأ على الصدقة من أجل أنها على فقير لزمك أن تبدي الوصية للفقير على الوصية للغني، وذلك خلاف الإِجماع، وإنما الاختلافُ المعلومُ في الصدقة المبَتلة في المرض والوصية، هل يتحاصان بعد الموت لاتفاقهما جميعا على أنهما من الثلث، أو تبدأ الصدقة المبتلة من أجل أنها تلزم المتصدق إن صح من مرضه، فروى الحارث عن ابن وهب قال: سمعت مالكا يقول في الرجل يتصدق بالصدقة في مرضه ويوصي للناس بوصايا ثم يموت فيريد أهل الوصايا أن يدخلوا على المتصدق عليه في الصدقة قال: لا أرى ذلك لهم؛ لأنه لو عاش ثُمّ أراد أن

(12/448)


يرجع في صدقته لم يكن ذلك لَه ومثل هذا في كتاب ابن حبيب وفي المختصر لابن عبد الحكم عن مالك، وقد اختلف قولُ مالك من هذا الأصل فيمن بتل عتق عبد في مرضه وأوصى بعتق عبد له آخر، فكان أولَ زمانه يقول: إنه يبدأ المبتل في المرض ثم رجع إلى أنهما يتحاصان وهو الذي يأتي على ما في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم من كتاب الحبس من أنّ للرجل أنْ يرجع عما حبسه في مرضه إن مات منه وقد مضى الكلام على ذلك هناك مشروحا فلا معنى لإِعادته.

[: أوصى بعتقٍ بتل ودبر]
ومن كتاب سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ابن القاسم: ولو أن رجلا أوصى بعتقٍ بتلٍ ودبر قال: إن كان في كلمة واحدة تحاصا، وإن لم يكن ذلك في كلام واحدٍ يبدّأ بالأول في الأول.
قال محمد بن رشد: قولُهُ: أوصى بعتق بتل لَا يستقيم، فمعناه أنه بتل عتقه في مرضه ودبر عبدا له آخر، وفي ذلك ثلاثة أقوال؛ أحدها: قوله في هذه الرواية إنهما يتحاصان إن كان ذلك في كلمة واحدة أي في كلام متصل، وهذا عندي على القول بأنه ليس له أن يرجع عما بتله في مرضه إن مات منه خلافُ ما في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم من كتاب الحبس من أن للرجل أن يرجع عما حبس في مرضه إن مات منه.
والقول الثاني: أن المدبر يبدأ على المبتل، وهذا عندي على القول بأن له أن يرجع عما بتله في مرضه.
والقول الثالث: أنه يبدأ المبتل في المرض بما له من مزية عليه في أنه إن صح من مرضه عجل عتقه، وهذا كله إذا كان التدبير والتبتل في فور واحد، وأما إن كان أحدهما قبل صاحبه فيبدأ الأول، واختلفَ قولُ مالك في تبدية العتق المبتل في المرض والمدبر فيه على الموصي بعتقه فقال: يبدأ المبَتل والمدبر، وقال أشهب: يتحاصان، قال: وبلغني أن هذا أحد قولي مالك، فأما الاختلاف في المبتل في المرض والموصي بعتقه فله وجه، وهو ما ذكرت

(12/449)


من الاختلاف في الرجوع في المبتل في المرض، وأما المدبر في المرض والموصي بعتقه فلا وجه للقول بأنهما يتحاصان؛ لأن الموصي بعتقه يصح الرجوع عنه باتفاق، والمدبر لا يصح الرجوع عنه باتفاق، فوجب ألّا يُختلف في تبدية المدبر وبالله التوفيق.

[مسألة: أوصت أن عندها خمسة وثلاثين درهما وأن لها على زوجها أربعة أبعرة]
مسألة وسئل: عن امرأة مرضت فأوصت أن عندها خمسة وثلاثين درهما وأن لها على زوجها أربعة أبعرة، فقالت لزوجها وللورثة: إما أن تجعلوا الخمسة والثلاثين الدرهم التي عندي في سبيل الله، وإما أن تجعلوا بعيرا مما لي على زوجي في سبيل الله وتأخذوا الخمسة والثلاثين الدرهم، فلما حضرتها الوفاة سألوها عن الدرهم فلم تخبرهم وهلكت.
قال مالك: أرى أن يخرج عنها في ثلثها البعير الذي جعلته من الأربعة الأبعرة التي لها على زوجها، ولا ينظر في شأن الدراهم التي لم توجد.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الدراهم التي لم توجد مصيبتها منهم، ولا بد من تنفيذ وصيتها بإخراج البعير من الخمسة الأبعرة التي لها على زوجها، وإنما ذلك بمنزلة من أوصى بعتق أحَدِ هَؤلاءِ الأعبد الخمسة فمات منهم واحد قبل موته وبالله التوفيق.

[مسألة: هلكت وأوصت إلى امرأة بوضع ثلثها في مواضع]
مسألة وسئل: عن امرأة هلكت وأوصت إلى امرأة بوضع ثلثها في مواضع وأن تجعل البقية حيثُ أراها الله، فكانت تقسمه ثم إن المرأة احتاجت التي استخلفت فقالت: هل ترى لي أن آخذ منه

(12/450)


شيئا؟ قال: لا أرى أن تأخذي منه شيئا ولا تأكليه.
قال محمد بن رشد: إذا كانت الموصية قد فوضت إلى هذه المرأة جعل البقية حيث أراها الله من وجوه البر، فكان الذي أراها الله بوجه الاجتهاد أن يفرق تلك البقّية في المَسَاكين فاحتاجت هي حتى صارت في الحاجة بمنزلة من يفرق عليهم تلك البقية من المحتاجين، فلها أن تأخذ منها لنفسها مثل ما يعطي غيرها على ما قاله في رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب البضائع والوكالات في الذي خرج غازيا فبعث معه بمال ليعطي منه كل منقطع به فاحتاج هو ولم يكن عنده ما يقوي به إنّ له أن يأخذ منه بالمعروف والمعروف في ذلك هو أن يأخذ منه مثلَ ما يُعطي غيرَه ولا يُحَابى نفسَه في ذلك، وجوازُ ذلك يتخرج على قولين حسبما بينا وجهه هناك، وأما إن كان الذي أراها الله بوجه الاجتهاد من وجوه البر في تلك البقية جَعْلَهَا في غير الصدفة أو في الصدفة على من ليس مثل حالها فلا يصح لها أن تأخذ لنفسها من ذلك شيئا وإنْ كانت محتاجة وبالله التوفيق.

[: أوصى لجارية له بعشرة دنانير من ثمنها]
ومن كتاب أوله أخذ يشرب خمرا وسئل: عن رجل أوصى لجارية له بعشرة دنانير من ثمنها أتراه عتقا؟ قال: لا ليس هذا عتقا.
قال عيسى: قال ابن القاسم: وإذا أوصى لها ببعضهما لم يعتق منها إلّا ما أوصى إلّا أن يكون لها مال فيقوم بقيتها في مالها فيعْتق على نفسها وإذا أوصى لها بثلثه عتقت في ثلثه وقومت فيه؛ لأنه حين عتق عليها من نفسها شقص أيحمل عليها مَا بقي من عتق نفسها بمنزلة من أعتق شِرْكا له في رأس فكان يُقوم عليه، فالذي يعتق عليه يتبعض عن نفسه أحْرى أن يُقَوّم عليه ما بقي من نفسه فيما يملك، وهو قول مالك: قال ابن القاسم: ولو

(12/451)


كان فيما أوصى لصاحبه ما لا يتم به عتقُها وكان لها مالٌ قبل ذلك عتقت فيه وأخذ منها.
قال محمد بن رشد: أما الذي أوصى لجاريته بعشرة دنانير من ثمنها فبين أنه لا يعتق منها شيء؛ لأنه إنما أوصى لها بعشرة دنانير، فسواء كانت من ثمنها أو من غير ثمنها، بل إذا كانت من ثمنها فهو أحرى ألّا يعتق شيء منها فيها؛ لأنه إنما أوصى لها بالعشرة بعد أن تباع، وأما إذا أوصى له ببعضها، فلا اختلاف في أنه يعتق منها ما أوصى لها به من نفسها إذ قد علم أنه لا يصح لها ملكُ نفسها، أَلا ترى أنه من قال لعبده: قد وهبت لك نفسك أنه بذلك حر، وإنما اختلف إذا أوصى لها ببعضها ولها مَال هل يعتق بقيتها على نفسها في مالها أم لا؟ فقال في هذه الرواية: إنه يقوم بقيتُها على نفسها في مالها، وهو قول ابن القاسم في المدونة وروايته عن مالك، ومثله في سماع عيسى ويحيى، وقيل: إنه لا يقوّم عليها بقيتُها في مالها، وهو قول ابن وهب وروايته عن مالك في المدونة.
وأما إذا أوصى لها بثلثه فقيل: إنها لا يعتق منها إلّا الثلث وهو قول ابن وهب من رأيه، وقيل: إنه يعتق منها الثلث ويقوم بقيتُها على نفسها فيما بقي من الثلث، فإن لم يحملها الثلثُ رَقّ ما بقي منها ولم يقوم عليها في مالها إن كان لها مال من غير الثلث، وهو قول مالك في رواية ابن وهب في المدونة.
ووجه هذا القول أنه إذا أوصى لها بثلث ماله فقد قصد إلى حريتها فيه، وكأنه أوصى أن تعتق فيه وأن تعطى بقيته إن كان فيه فضل عن رقبتها وهذا القول اختيار سحنون فقال فيه: إنه أعدلُ الأقوال.
ووجه قول ابن وهب أنه إذا أوصى لها بثلث ماله فقد قصد إلَى حرية ثلثها وأن تعطي بقية ثلث ماله، فوجب أن يعتق ثلثها وأن تعطي بقية ماله ولا تعتق فيه ولا في مال إن كان لها سِوَاهُ؛ لأنه هو المعتق لثلثها إذا أوصى لها به وهو

(12/452)


يعلم أنه لا يصح لها ملكَه، فكان بمنزلة إذا أوصى أن يعتق ثلثها وتعطي بقية ثلث ماله.
ووجه قول ابن القاسم وروايته عن مالك ما ذكره في الرواية من أنه إذا أعتق عليه بعضها وجب أن يقوم عليها بقيتها فيما بقي من الثلث وفي سائر مالها إن كان لها مال بمنزلة من أعتق شركا له في عبد أنه يقوم عليه بقيتُهُ في ماله، وعلى هذا الاختلاف يأتي الاختلاف في تبدية الوصية للعبد في ثلثه على الوصايا حسبما يأتي القول فيه في رسم أسلم من سماع عيسى إن شاء الله.
وأما إذا أوصى له بدنانير أو بعرض من العروض فلا يعتق شيء منه في ذلك باتفاق إلّا أن يكون ذلك أكثرَ من الثلث فلا يجيز ذلك الورثة حسبما يأتي القول فيه في رسم الرهون من السماع المذكور إن شاء الله وبه التوفيق.

[مسألة: توصية الميت بإسقاط اليمين عنه لا يلزم الورثة]
مسألة قال: وسئل عن رجل كان شريكا لرجل فمرض أحدهما فأوصى إن فلانا عَالِمٌ بماليِ فما دفع إليكم من شيء فهو فيه مصدق ولا يمين عليه في ذلك، فرُفع أمرُه إلى السلطان وأتى بما قِبَلَه من الناض فقسمه بينه وبين ورثة شريكه، ثم أقام يقتضي ويقسم أقام بذلك عشر سنين وكتب له السلطان براءة من ذلك، وبقي بينهما دين وبلغ الورثةَ فقالوا: نُرِيدُ أن نستحلفك فيما اقتضيت أترى ذلك لهم وهذا الأمر منذ عشر سنين وقد كتب له السلطان منه البراءة؟ قال مالك: أرى أن ينظر السلطان في ذلك ويكشف أمره، فإن رأى أمرا صحيحا لم أرَ أن يستحلفه وإن استنكر شيئا رأيت أن يحلف، فقال له الرجل: يا أبا عبد الله بعد عشر سنين؟ قال: نعم إن رأى ذلك أمرا يُسْتَنْكَرُ.
قال محمد بن رشد: هذه اليمين في أصلها يمين تهمة وقد اختلف

(12/453)


في لحوقها، وتوصية الميت بإسقاط اليمين عنه لا يَلْزَم الورثةَ؛ لأن الحق قد صار إليهم في المال بموته، فإن اتهموه استحلفوه على القول بلحوق يمين التهمة، فلذلك قال: إن السلطان ينظر في ذلك فإن رأى أمرا صحيحا لم تجب لهم عليه يمين، وإن رأى أمرا يستنكر أوجب لهم عليه اليمين وبالله التوفيق.

[: أوصى بابنه إلى أمه وأوصى أن ينفق عليها حيث كانت]
ومن كتاب أوله يسلف في المتاع وسئل: عن رجل أوصى بابنه إلى أمه وأوصى أن ينفق عليها حيث كانت، قال مالك: إن كان صغيرا وكانت محتاجة وكانت تلي مؤنته وحضانته فأرى أن ينفق عليها، فقيل له: أرأيت إن كانت غنية؟ قال مالك: ينظر في ذلك فإن كان ذلك أرفق به في حضانته والقيام به (وأنه لو انتزع منها تكلف به من يقوم له عليه ويحضنه) رأيت أن ينفق عليها من مال الغلام، وكأني رأيته لا يَرَى لَها النفقة إلّا في صغر الصبي.
قال ابن القاسم: رجع عنه وقال: إن كانت محتاجة انفق عليها، وإن كانت مُوسرة لم ينفق عليها فإن شاءت أقامت على ولدها وإن شاءت ذهبت حيث شاءت وعلى هذا نَبّه غير مرة وهو رأيي.
قال محمد بن رشد: اختلف قولُ مالك في إيجاب النفقة لِلْحَاضِنِ بحق الحضانة فأوجب ذلك لها في رسم شك في طوافه في سماع ابن القاسم من كتاب النكاح، ولم يوجب ذلك لها في رسم شك المذكور من سماع ابن القاسم من كتاب طلاق السنة، ولا في رسم الطلاق الثاني من سماع أشهب منه، والاختلاف في ذلك جار على اختلافهم في الحضانة هل هي من حق

(12/454)


المحضون أم من حق الحاضن فمن رآها من حق المحضون أوجب للحاضن أجرته في حضانته وكراء سكناه معه، ومن رآها من حق الحاضن لم يوجب له ذلك؛ لأنه لا يستقيم أن يكون من حقه أن يكفله ويَأوِيهِ إلى نفسه ويجب له بذلك عليه حق، وتفرقةُ مالك في هذه الرواية بين أن يوجد من يحضن الصبيِ دون نفقة أو لا يوجد إن نُزِعَ من أمه قول ثالث في المسألة وبالله التوفيق.

[: أوصى إلى امرأته بولده منها ولم يقل إن تزوجت فانزعوهم منها فأرادت التزويج]
ومن كتاب أوله كتب عليه ذكر حق وسئل مالك: عن رجل أوصى إلى امرأته بولده منها ولم يقل: إن تزوجت فانزعوهم منها، فأرادت التزويج، قال: أرى إن عزلتهم في بيت على حدة وأقامت لهم ما يصلحهم من خادمهم ونفقتهم فأراها أولى بهم، وإن لم تفعل انتزعوها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القولُ عليها في رسم حلف قبل هذا فلا وجه لِإعادته وبالله التوفيق.

[: أوصى بوصية إلى وارث أو غير وارث قال ثلثي يجعل حيث أراد الله]
ومن كتاب أوله الشريكين يكون لهما مال وسئل مالك: عن رجل أوصى بوصية إلى وارث أو غير وارث، قال: ثلثي يجعل حيث أرَادَ الله.
قال مالك: إن كان جعل ذلك إلى وارث هو له فليس له أن ينفذ شيئا من ذلك إلّا أن يعلم الورثة ويخصوهم، وإن كان جعل ذلك إلى غير وارث فإنه ليس له أن يأخذه لنفسه ولا لولده ولا لحاضنةٍ من الناس إلّا أن يكون لذلك وجه يسميه ويذكره وُيعرف أن الذي أعطى أَهْلا لذلك وليس لغير الوارث أن يكتم ما صنع ولا أن يعيبه ولا أرى عليه يمينا في ذلك، وليس

(12/455)


الحديثُ في ذلك مثلَ القديم، فأما الأمر القريب العادة من ذلك، فإنه يعلمه، وأما ما قدم من ذلك وطال فليس عليه تجديد ذلك وذكره، والورثة هم أهملوا ذلك بحضرة ذلك وحدثانه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه إذا فوض تنفيذ الوصية إلى غير وارث فليس له أن يأخذها لولده ولا لحاضنةٍ من الناس إلّا أن يكون لذلك وجه يعرف فيه صواب فعله؛ لأنه يتهم في ولده وَخَاصَّتِهِ من الناس فعليه إذا فعل ذلك أن يُعْلِمَ الورثةَ به.
قال أصبغ: إلّا أن يكون الورثةُ صغارا فعليه أن يعلمهم إذا كبروا؛ لأن ذلك من القضاء لنفسه، فعلى ما ذكرته في رسم سَنّ قبل هذا في الذي يوصي إلَى المرأة أن تجعل ثلثه حيث أراها الله، وقوله: ليس له أن يكتم ما صنع ولا يعيبه، معناه أن ذلك ليس من الحظ له أن يفعله فيعرض نفسه للتهمة فإن فعل ذلك وعيبه وادعى أنه قد نقده فلا غرم عليه فيه إلّا أن يتبين كذبه، وهو مصدق في ذلك مع يمينه ما لم يتبين كذبه إلّا أن يطول الأمرُ فلا يكون عليه يمين، هذا معنى قوله في الرواية: ولا أرى عليه يمينا في ذلك، وليس الحادث في ذلك مثلَ القديم، يريد أنّ القديم يصدّق فيه بلا يمين، والحادث يصدق فيه مع يمينه، وقد وقع في بعض النسخ فإنه ليس له أن يأخذه لنفسه ولا لولده ولا أن يحابي منه أحدا من الناس، وذلك بين في المعنى، وقد مضى في أول مسألة من السماع القولُ على بقية المسألة فلا معنى لإِعادة ذلك وبالله التوفيق.

[: ولي اليتم إن كان في حجره وكان لليتيم غنم ودابة أيشرب من لبنها ويركب دابته]
ومن كتاب اغتسل على غير نية وقال في ولي اليتم: إنْ كان في حجره وكان لليتيم غنم ودابة أيشرب من لبنها ويركب دابته؟ قال: إن كان للبن ثمن وهو في موضعِ له ثمن، فلا أحبه وإن كان في موضع ليس له ثمن فلا أرى به بأساَ

(12/456)


وأما دابته فلا أحب له أن يركبها ولا أحب له إن كان له مال عنده أن يستسلفه.
قال محمد بن رشد: اتفق أهلُ العلم جميعا على تحريم أكل مال اليتيم ظلما وإسرافا وعلى أن ذلك من الكبائر لقول الله عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] . وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6] ، واختلفوا في القدر الذي يجوز للأوصياء من ذلك ويسوغ لهم لقول الله عز وجل: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] ، فذهب مالك وأصحابه إلى أنه لا يجوز للوصي أن يأكل من مال يتيمه إلاّ بقدر استغاله به وخدمته فيه وقيامه عليه إن كان محتاجا إلى ذلك، قاله محمد بن المواز في كتابه عمن حكاه عنه من أهل العلم، وذلك على ما جاء عن عبد الله بن عباس، أنه قال للذي جاءه فقال له: إن لي يتيما أفأشْرَبُ من لبن إبله؟ قال ابن عباس: إن كنتَ تبغي ضالة أبله وتلي حرصها وتسقيها يوم وُرُودِها فاشرب غيرَ مُضِر بنسل ولا ناهِكٍ في الحلب، وأما إن كان غنيا عن ذلك فلا يفعل؛ لقول الله عز وجل: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء: 6] ، وقد قيل: أن للغني أن يأكل منه بقدر قيامه عليه وخدمته فيه وانتفاع اليتيم به في حسن نظره له، فإن لم يكن له في ماله خدْمة ولا عمل سوى أنه يتفقدُه ويشرف عليه لم يكن له أن يأكل منه إلّا ما لا ثمن له ولا قدر لقيمته مثل اللبن في الموضع الذي لا ثمن له فيه على ما قاله في هذه الرواية ومثلُ الفاكهة من ثمر حائطه على ما قاله في أول سماع أشهب من كتاب الجامع، ولا يركب دوابه ولا ينتفع بظهر إبِلِه ولا يستسلف من ماله ومن أهل العلم من ذهب إلى

(12/457)


أن لولي اليتيم إذا كان فقيرا أو احتاج أن يأكل من مال يتيمه بغير إسراف ولا قضاء عليه فيما أكل منه، لقول الله عز وجل: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] . واختلف في معنى ذلك، فقيل: هو أن يأكل من ماله بأطراف أصابعه ولا يكتسي منه، وقيل: هو مَا سَدّ الجوع وَوَارَى العَوْرَةَ ليس لبس الكتانِ ولا الحُلَلَ، وقيل: هو أن يأكل من ثمره ويشرب من رسل ماشِيته بقيامه على ذلك.
وأما الذهب والفضة فليس له أخذ شيء منها إلّا على وجه القرض، وقيل: له أن يأكل من جميع المال وإن أتى على المال وليس عليه قضاء، وقيل: معنى قوله عز وجل: {فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] هو أن يأخذ من ماله قدر قوته قرضا فإن أيسر بعد ذلك قَضَاهُ، روي هذا القول عن سعيد بن المسيب، وروي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: إني أنزلت مال الله مني بمَنْزِلَةِ مال اليتيم إن استغنيت استعففتُ وإن افتقرت أكلتُ بالمعروف فإذا أيسرتُ قضيته وبالله التوفيق.

[مسألة: قال ثلثي في سبيل الله وفي المساكين وفي الرقاب]
مسألة وقال: من قال: ثلثي في سبيل الله وفي المساكين وفي الرقاب، أو في سبيل الله وحدهُ أو لفلان ثلثي وحدهُ ولفلان مائة دينار، أو قال: في سبيل الله أو في المساكين أو في الرقاب أو في سبيل الله ولفلان ثلث مالي، قال: يعارلون الذي سمى له المائة.
قال محمد بن رشد: قال في هذه الرواية: إن الوصية بالجزء والتسمية يحاص بينهما ولا يبدأ أحدهما على الآخر سواء كانت التسمية لمعين والجزء لغير معين في وجه واحد أو في وجوه شتى أو كان الجزء لمعين

(12/458)


والتسمية لغير معين في وجه واحد أو في وجوه شتى.
ومثله في رسم الوصايا الأول من سماع أشهب، وفي رسم الكبش من سماع يحيى، وروى ذلك أيضَاَ علي بن زياد عن مالك، وذلك إذا أبهم التسمية ولم يقل فيها إنها من الثلث مثل أن يقول عشرة دنانير من ثلثي لفلان أو في وجه كذا منه ولفلان أو في وجه كذا ثلثي أو قال لفلان أو في وجه كذا ثلثي ولفلان أو في وجه كذا منه عشرة دنانير فإن التسمية تبدأ قاله في رسم الوصايا المذكور، ولا خلاف في ذلك إذا أتى بمن قدمها أو أخرها إلّا أنه إذا أخرها كان الأمر في التبدية آكد.
وقد روي عن مالك: أن التسمية تقدم على الجزء، وروي عنه أن الجزء يقدم عليها، فهي ثلاثة أقوال لمالك إذا لم يأت في ذلك بمن وبالله التوفيق.

[مسألة: وجد فيما أوصى به على رجل منهم حق هو أكثر مما أوصى به]
مسألة وسئل: عن رجل أوصى عند موته بما كان له وعليه، فوُجدَ فيما أوصى به على رجل منهم حق هو أكثر مما أوصى به، أترَى أن يشتري ما قبله؟ قال: نعم ولعله أن يكون قد وَهِمَ فأرى أن يستبرئ ما قبله.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال وهو مما لا إشكال فيه والحمد لله.

[مسألة: ما تركه الميت من المال لا يفي بما أوصى به لجميعهم]
مسألة وسئل: عن رجل أوصى لعمةٍ له بدين لها عليه ولقوم آخرين بديون والذين أوصى لهم من الأباعد لهم بها شهود وليس للعمة شهود، قال: لا يجوز في مثل هذا لِذَوِي الأرحام إلّا أن يكون لهم

(12/459)


ثبت، فإن لم يكن لهم ثبت فإني أرى الأباعدَ ممن لهم ثبت أحَقّ بماله وإن كان ممن لا يتهم عليه من ذوي رحمه، وإن لم يكن لهم بينة فإني أرى ذلك لهم ثابتا.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن ما تركه الميت من المال لا يَفِي بما أوصى به لجميعهم مثل أن يكون ترك مائتي دينار فأقر لرجلين أجنبيين بمائة ومائة ولعمته بمائة فإن كان للأجنبيين بينة على مالهما كانا أحق بالمائتين؛ لأن من عليه دين يغترف مَالَه، فلا يجوز إقراره لصديق ملاطف ولا من يتهم عليه من ذوي رحمه، وإن لم يكن لهما بينة على مالهما بما أقر لهما به خَاصَّتْهُمَا العمةُ في المائتين بما أقر لها به أيضا بمنزلة إذا كانت لكل واحد منهم بينة على ما أقر لهم به، إذْ لَا حجة للأجنبيين على الميت فيما أقر به للعمة إذا لم يكن لهما بينة، إذ لو شاء لم يقر لهما بشيء، وهذا بين إذا أقر لَهُمْ معا أو أقر للعمة قبلُ، وأما إذا أقر للأجنبيين قبلُ فيتهم أن يكون أراد أن تدخل العمة عليهما فيما قد تقرر لهما ووجب بإقراره لهما أولا.

[مسألة: قول الموصي وإذا مات فمرجوعه إلى ورثته]
مسألة وقال مالك في رجل أوصى بوصية وأوصى فيها بأن غلاما له يخدم فلانا ما عاش، فإذا مات فَمَرْجُوعُهُ إلى ورثته، وأوصى أن فضلةَ ثلثه لفلان، فمكث الرجل الذي أخدم الغلام يسيرا، ثم مات، هل للرجل الذي أوصى له ببقية الثلث في العبد حق أم لا؟ قال مالك: إذا رجع العبد إلى ورثة الموصي كان للذي أوصى له لبقية الثلث.
قال محمد بن رشد: مثلُ هذا في رسم أسلم من سماع عيسى لمالك أيضا من رواية ابن القاسم.
وقال عيسى بن دينار من رأيه: لا شيء للموصى له ببقية الثلث في مرجع الغلام إذا قال الموصي فإذا مات فمرجوعه

(12/460)


إلى ورثته، وجه قول مالك أن قول الموصي وإذا مات فمرجوعه إلى ورثته لا تأثير له فيما يوجبه الحكمُ؛ لأنه لو سكت عنه لكان مرجوعا إلى ورثته أي إلى حكم ماله المورث عنه بعد الوصايا بقوله: يخدمه ما عاش، فإذا رجع إلى ورثته على هذا الوجه وجب أن يدخل فيه الوصايا، فيكون للموصى له بقيةُ الثلث؛ لأنه بقيةُ الثلث، ووجه قول عيسى إتبَاع ظاهر لفظ المُوصي في قوله: إنه يرجع إلى ورثته؛ لأن الظاهر منه أن يرجع إليهم ملكا، ولما كان لو سكت عن هذا اللفظ كان للموصى له ببقية الثلث، أعتبر اللفظُ فلم يجعله ملغا لا حكم له، فقول مالك أصح من جهة المعنى، وقول عيسى أظهر من جهة اللفظ وبالله التوفيق.

[مسألة: يوصي لرجل بدين فيطلب فلا يوجد]
مسألة وسئل: عن رجل يُوصِي لرجل بدين فيُطْلَبُ فلا يُوجد، قال مالك: فيتصدق به عنه، ويقال: اللهم هذا عن فلان.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة في هذا الرسم بعينه من هذا السماع من كتاب المديان والتفليس، فقال فيها: فلا يوجد ولا يعرف معناه أنه لا يعرف موضعه؛ لأنه إذا لم يعرف فلا يصح أن يؤخذ ذلك، يفترق بين أن يكون الموصى له لا يُعْرَف أو يعرف فلا يُوجَدُ؛ فأما إذا كان لا يعرف فيفترق الأمر فيه بين أن يكون الموصي يورث بِوَلَد أوْ كَلاَلَةٍ، فإن كان يورث بولد جاز إقرارُهُ من رأس المال إن أوصى أن يتصدق به عنه أو يوقف له، فإن وقف فلم يأت له طالب تصدق به على ما قاله في سماع أبي زيد، واختلف إن كان يورث بكلالة، فقيل: إن أوصى أن يحبس ويوقف حتى يأتي له طالبٌ فذلك من رأس المال، وإن أوصى أن يُتَصَدَّق به عنه لم يقبل قوله، ولم يخرج من رأس المال ولا من الثلث، قال هذا في رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب المديان والتفليس، وقيل: إنه يكون من الثلث، وهذا القول

(12/461)


قلم من كتاب المكاتب من المدونة، وقيل: إنه إن كان يسيرا جاز من رأس المال ووقف، فإن لم يأت له طالب، تصدق به، وإن كان كثيرا لم يكن في رأس المال ولا في الثلث.
قاله في سماع أبي زيد، ونحوه في أول رسم من سماع عيسى بعد هذا من هذا الكتاب.
وأما إن كان يعرف فطلب ولم يوجد فسواء كان الموصي يورث بكلالة أو ولد الوصيةُ جائزةٌ من رأس المال، ويوقف ما دام يُرْجَى وجوده فإن أيس منه تصدق به كما يُفعل باللُّقَطَةِ بعد التعريف فإن وجد صاحب الدين بعد التصدق غرمه له الذي تصدق به إلّا أن يشاءَ أن يُجِيزَ الصدقة وينزل على أجرها وبالله التوفيق.

[: يوصي للرجل بالعبد في وصيته وللعبد مال]
ومن كتاب البز قال: وسئل عن الرجل يوصي للرجل بالعبد في وصيته وللْعَبْدِ مال لمن ترى ماله؟ قال: إني لَا أرَى أن يكون شبيها بالعتق، وأن يكون مالُهُ لمن أوصى له به، قال: فقلتُ له: أفَتَرَاه مخالفا الصدقة والهبة إذا تصدق به أو وهبه؟ قال: نعم، إني لا أرى ذَلِكَ مخالِفا لهما.
قال ابن القاسم: وقد كان قال مالك قبل ذلك: هو مثلُ الهبة والبيع، ثم رجع فقال: أراه شبيها بالعتق وأن يسلم ماله للذي أوصى له به مع رقبته وثبت عليه، ورأيت مالكا مستحسنا له ومستبصرا فيه وهو أحب قوله إلي.
قال محمد بن رشد: اختلف قولُ مالك في العبد الموصى به فمرة رآهُ لِوَرَثة الموصي قياسا على البيع؛ لأن العبد الموصى به يخرج بالوصية من

(12/462)


مِلْكٍ إلى ملك، فأشبه البيعَ، وهو أحد قوليه هنا، وقولُهُ في رسم الوصايا الأول من سماع أشهب بعد هذا، ومرة رآه للمُوصى له به قياسا على العتق، بخلاف البيع، لَمّا كَانت الوصيةُ على سبيل المعروف كالعتق، ولم يكن على سبيل المُكَايسَةِ كالبيع، وهو أحدُ قوليه ها هنا وقولُهُ في رسم العرية من سماع عيسى بعد هذا وَلَم يختلف قولهُ في الصدقة والهبة: أن المال فيهما يبقى للواهب والمتصدق كالبيع، فلا يكون تبعا للعبد كما هو في العتق إلّا أنّ الخلاف يدخل فيهما بالمعنى قياسا على الوصية؛ لأنهما أيضا من ناحية المعروف كالوصية وبالله التوفيق.

[مسألة: يوصي بثلثه ويوصي فيه بوصايا فتدعي امرأته حملا]
مسألة وسئلِ مالك: عن الرجل يوصي بثلثه ويوصي فيه بوصايا فتدعي امرأتُه حَمْلا أترى أن تُؤَخر الوصايا حتى تضع ويستبرأ ذلك منها؟ قال: نعم، إني لأرَى أن يؤخر ذلك.
قال أشهب: تنفذ الوصايا من ثلثه قبل وضع الحمل، وخالفه أصبغ، وقال بقول مالك في سماع أصبغ من كتاب الكراء والأقضية.
قال محمد بن رشد: قولُ أشهب وأصبغ ليس في جميع الروايات، وفي المبسوط لابن نافع عن مالك مثلُ قول أشهب، قال: يعطي صاحب الثلث الثلث، وتؤخر قسمة الورثة حتى تضع المرأة، وقال ابن أبي أويس عن مالك: أرى أن تؤخر الوصايا حتى تضع المرأة ويستبرئ ذلك.
وقال محمد بن مسلمة مثل ذلك، وقال: لأنَما يهلك من يهلك من رأس المال وما زاد في رأس المال، فيكون ما أخذ الموصى له قد استوفى على غير ما أخذوا، وهو تعليل صحيح بين؛ لأن المال إن تلف في التوقيف بعْدَ تنفيذ الوصايا وجب

(12/463)


للورثة الرجوعُ على الموصى لهم بثلثي ما قبضوا، ولعل ذلك قد فات بأيديهم وهم غرماء فيخسروا.
والاختلافُ في هذه المسألة جارٍ على الاختلاف في الموصى له بالثلث يَطْرَأ على الورثة بعد اقتسامهم التركة هل يكون حكمُهُ حكمَ الغريم يطرأ على الورثة وحكم الوارث يطرأ عليهم، فعلى القول بأن حكمه حكم الغريم يطرأ على الورثة يعطي صاحبُ الثلث الثلثَ، ويوقف سائرُ المال للورثة حتى يوضع الحمل، فيكون النِّماَءُ لهم والضمانُ عليهم لا يرجعون على صاحب الثلث بشيء إن تلف المال، ولا يرجع صاحبُ الثلث عليهم بشيء إِنْ نَمَا المالُ وعلى القول بأن حُكْمَهُ حكمُ الوارث يطرأ على الورثة يوقف جميعُ المال حتى تضع الحمل، ولا يُعَجل للموصى له بالثلث كما لا يعجل للأب السدس إذا مات ابنه وله ولد وامرأته حامل، ولا لامرأته الثمنُ حتى يوضع الحمل وان كان للأب السدس وللزوجة الثمن على كل حال وضع الحمل ذكرا أو أنثى وإن فشا فإن عجل الورثة للموصى له بالثلث الثلثَ ووقفوا بقية المال فتلف قبل أن يوضع الحملُ- وجب على قياس هذا القول أن يرجع الوارث على الموصى له بثلثي الثلث الذي قبض وإن نما المال رجع الموصى له عليهم بثلث النماء ولم يكن بينهم تراجع على قياس القول القول الثاني ولو كانت الوصية إنما هي بِعَدَدٍ من دنانير أو دراهم لوجب أن يعجل بتنفيذ الوصية وتُؤخر قسمة بقية المال حتى يوضع الحمل قولا واحدا إذْ لا اختلاف في أن الوصية بالعدد كالدين في وجوب إخْرَاجِهَا من التركة قبل القسمة لقول الله عز وجل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] ولا في استواء الحكم فيهما إذا طرأ بعد القسمة.
وقال ابن دحون: إنما وجب تأخير إنفاذ الوصايا حتى توضع الحمل؛ لأن القسمة لا تكون إلّا مع موجود، فإذا احتيج إلى القسمة لتنفيذ الوصايا وجب أن تقسم التركة، ولا يقسم نصيب غير موجود، فلا بد من التأخير حتى يوضع الحمل، وهذا التعليل على قياس

(12/464)


التعليل الأول؛ لأن القسمة لما كانت غيرَ صحيحة وجب أن يكون ما تلف أو نَمَا من الجميع، وفيه دليل على وجوبا أداء الدين قبل وضع الحمل؛ لأنه يخرج من رأس المال قبل القسمة، ورأيت في حواشي بعض الكتب، قال الباجي: شهدت ابن أيمن حَكَمَ في ميت مات وترك امرأة حاملا أنه لا يقسم ميراثه ولا يُؤَدَّى دينُهُ حتى توضع الحمل فأنكرت ذلك عليه، فقال: هذا مذهبنا ولم يأت ابنُ أيمن بحجة، والصحيح أن يُؤَدَى دينه ولا ينتظر وضع الحمل، ولا يدخل في هذا اختلاف قول مالك في تنفيذ الوصية قبل وضع الحمل؛ لأن العلة في تأخير تنفيذ الوصية إلى أن يوضع الحمل على قول من رأى ذلك هي أنّ بقية التركة قد تتلف في حال التوقيف قبل وضع الحمل فيجب للورثة الرجوع على الموصى لهم بثلثي ما قبضوا ولعلهم معدمين أو غير معدمين فلا يجدون على من يرجعون.
وأما تأخير أداء الدين حتى يوضع الحمل فلا علة توجبه، بل توجب ترك التوقيف وتعجيل أداء الدين مخافة أن يهلك المال فيبطل حق صاحب الدين من غير وجه منفعة كان في ذلك للورثة وإذا وجب أن يقضي دينُ الغائب مما يوجد له من المال مع بقاء ذمته إن تلف المال الموجود له كان أحرى أن يؤدى الدين عن الميت من تركته لوجهين؛ أحدهما: أن الميت قد انقطعت ذمته.
والثاني: أنّ الحمل لا يجب له في التركة حق حتى يولد ويستهل صارخا، ولو مات قبل ذلك لم يورث عنه نصيبُهُ، والغائب حقه واجب في المال الموجود له لو مات ورِثه عنه ورثتهُ، فإذا لم ينتظر الغائب مع وجوب المال الذي يؤدى منه الدين الآن له، كان أحرى ألّا ينتظر الحمل إذ لم يجب له بعد في التركة حق، ومن قول ابن القاسم في المدونة وغيرها أنّ من أثبت حقا على صغير قُضِيَ له به عليه ولم يجعل للصغير وكيل يخاصم عنه في ذلك، فإذا قضي على الصغير بعد وضعه من غير أن يقدم له وكيل فلا معنى لانتظار وضع الحمل لِتَأدِيَةِ دين الميت، وهذا كله بين لا ارتياب فيه ولا إشكال والحمد لله.

(12/465)


[مسألة: حضرته الوفاة فقال قد أوصيت ووضعت وصيتي على يدي فلان]
مسألة وسئل مالك: عن رجل حضرته الوفاة فقيل له: أَوْص، فقال: قد أوصيت وكتبت وصيتي ووضعتها على يدي فلان فأنفِذواُ ما فيها فتوفي الرجل وأخرج الذي قال المتوفى قد وضعتها على يديه الوصيةَ وليس فيها شهود إلّا ما شهد على قوله من ذلك: أنه قال: قد وضعتها على يدي فلان فأنفذوا ما فيها.
قال مالك: أرى إن كان الرجلُ الذي ذكر أنها عنده عدلا أن ينفذ ما فيها.
قال ابن القاسم: وذلك رأي، قال العتيبي عن سحنون: الوصيةُ جائزةٌ عدلا كان أو غير عدل، قال يحيى: قلتُ لابن القاسم: لِمَ جوزها مالك ولم يُشْهَدْ عليها بعينها ولم يَشهد عليها إلّا الذي كانت عنده؟ قال: أراه بمنزلة الذي يوصي فيقول: قد أوصيت بوصايا أعملت بها فلتنفذ فما أخبركم أني أوصيت به فهي وصيتي فلينفذ ما فيها، فيكون ذلك ماضيا، وبمنزلة الرجل يوصي بديون لهم عليه، فيقول: قد كنت أدَايِنُ فلانا وفلانا فما أدعوه قِبَلِي فهم فيه مصدِّقون، فيكون ذلك لهم بلا يمين يستحلفون بها على ما ادعوا.
قال محمد بن رشد: اشتراطُ مالك العدالةَ في الذي قال الميت: إنه وضع وصيتَه عنده إذا أخرجها فقال هذه هي، وليس عليها شهود خلافُ ظاهر ما في المدونة والموازية في الذي قال: قد كتبت وصيتي وجعلت عند فلان فصدقوه وأنفذوا ما فيها أنه يصدق وينفذ ما فيها إن لم يشترط في ذلك عدالة مثلُ قول سحنون، وقولُه هو القياس إذ لا حجة للورثة عليه في الثلث، فله أن يجعل التصديق فيه إلى عدل وغير عدل، وقول مالك ها هنا في اشتراط العدالة استحسانٌ، وقد مضى في رسم العتق من سماع عيسى من كتاب الشهادات ما فيه بيان هذا فقف عليه.

(12/466)


وقولُهُ في الذي قال: كنت أدَايِنُ فلانا وفلانا فما ادعوه قِبَلِي فهم فيه مصدقون إنّ ذلك يكون لهم دون يمين يستحلفون بها خلافُ قوله في رسم تأخير صلاة العشاء من سماع ابن القاسم من كتاب المديان والتفليس في إيجابه اليمين في ذلك، واختلافُ قوله في هذا على الاختلاف في لحوق يمين التهمة إذ لم يسقط الميت عنهم اليمينَ وإنما قال: إنّهم يصدقون ولم يقل بيمين ولا بغير يمين، ولو قال: إنهم يصدقون بغير يمين لَمَا سَقَطَ عنهم بإسقاطه إياها عنهم على ما مضى في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم حسبما بيناه وبالله التوفيق.

[مسألة: أوصى أن يشترى له رقبة بثلاثين دينارا فتعتق عنه]
مسألة وسئل مالك: عن رجل أوصى أن يشترى له رقبة بثلاثين دينارا فتعتق عنه فسام الوصيُ بغلام فأبى سيدُه أن يبيعه إلّا بأربعين دينارا، فقال له أخ للغلام حر: بعه وأنا أعطيك عشرة دنانير، ولم يعلم بذلك الوصي فباعه وأعتقه، ثم علم الوصي بعد ذلك، فقال: إني لأرَى له في ذلك متكلما، فقيل له: فما تقول فيه؟ ما يتبين لي فيه شَيْءٌ قال ابن القاسم: أخبرني من أثق به عن ابن هرمز ومالك أنهما رأيا جميعا أنه عيب من العيوب يرجع به المشتري على البائع فيأخذه من الثمن.
قال ابن القاسم: وتفسيرُ ذلك أن ينظر كم ثمنُه بغير شرط العتق وكم ثمنه لو شرط فيه العتق؟ فينظركم بين القيمتين، فإن كان ذلك ربعا أو خمسا أو سدسا رجع إلى الثمن فأخذ بقدر ذلك من البائع، بمنزلة ما لو باعه وعليه دين وله امرأة أو ولد أو به عيب.
قال محمد بن رشد: قولُ مالك وابن هرمز من أن ذلك عيب يجب الرجوع للمشتري على البائع صحيحٌ؛ لأن الذي زاد العشرة دنانير قد شاركه

(12/467)


في العبد الذي أعتق بربعه إذْ ودى رُبع الثمن إلى البائع، فصار الوصي إنما أعتق عن الذي أوصى إليه ثلاثة أرباع العبد، وتفسيرُ ابن القاسم لصفة الرجوع بقيمة العيب لا وجه له، وإنما الذي يصح في ذلك ولا يجوز غيره أن يرجع المبتاعُ على البائع بِرُبع الثلاثين التي دفع إليه؛ لأن الذي زاد العشرة قد شاركه في العبد بربعه فصار بمنزلة من اشترى عبدا فاعتقه ثم استحق منه ربعه فإنه يرجع على البائُع الثمن ويجعل ذلك في عتقٍ، وإن كانت الرقبة التي أوصى بها رقبة واجبة لم تجزه وضمن الوصي على مذهب أشهب، يغرم العشرين من ماله، واشترى رقبة أخرى فأعتقها عن الموصي، وَلَا شيء عليه على مذهب ابن القاسم في المدونة إذا لم يعلم، ويرجع بالعشرين على الورثة فيما بقي عندهم من ثلث مال الميت إن كانتَ بقيت عندهم منه بقية وبالله التوفيق.

[مسألة: الموصى أيقارض بمال يتيمه الذي أوصى إليه به]
مسألة وسئل مالك على الموصَى أيقارض بمال يتيمه الذي أوصى إليه به؟ قال: نعم لا بأس به ولا ضمان عليه فيه إن هلك إذا كان قد دفعه إلى أمين والوصي ينظر لمن يليه ومن اليَتَامَى مَنْ أموالُهم الغنم من أهل البادية فيمسكها لهم، ولو باعها أكلوا ثمنها، فيقول الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220] يخلط طعامه بطعامه وزرعه بزرعه وماشيته بماشيته.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن للوصي أن يدفع مال يتيمه مضاربة؛ لأنه ينظر له بما ينظر لنفسه، وقد قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (اتجروا بأموال اليتامى لا تأكلها الزكاة) ومثل هذا في الرهون من المدونة أن الوصي يتجر لليتيم بماله أو يقارض له به، ويكره له أن يعمل هو

(12/468)


به مضاربة قال في الزكاة من تفسير ابن مزين: فإن عمل به بقراض مثله جاز ولم يكن عليه فِيه ضمان إذا تلف، وإن عمل به بأكثر من قراض مثله فغبن اليتيم في ذلك رد إلى قراض مثله وضمن المالَ إن تلف، قال يحيى بن إبراهيم: قولُه في الضمان ضعيف.

[: يوصي بالوصية في مرضه ثم يصح من ذلك المرض ثم يمرض فيموت]
ومن كتاب باع غلاما بعشرين دينارا وسمعتُ مالكا يقول في الرجل يوصي بالوصية في مرضه أو عند سفره فيقول: إن أصابني في سفري هذا أو مرضي هذا موتٌ فجاريتي حرة، ويوصي بوصايا ثم يصح من ذلك المرض أو يقدم من ذلك السفر ثم يمكث حينا ثم يمرض فيموت وتوجد تلك الوصية بعينها ولم يذكر لها ذكرا عند موته ولا تغييرا ولا إجَازَة، قال مالك: أرَاها جائزة، قلت لَهُ: فإن أوصى بوصية أخرى ولم يذكر نقضا لتلك؟ قال مالك: يجوزَانِ جميعا إلّا أن يكون في الأخرى مَا يَنقض الأولى فيؤخذ بالآخرة.
قال مالك: وإن كان في الأولى وصيةٌ لرجل وله في الأخرى مثلُ ما سمى له في الأولى فليس له إلّا في موضع واحد، وإن اختلفَ العَدَدَانِ أخذ له بالأكثر قال مالك: وإنما أكثر ما يوصي به الرجل عند سفر أو مرض ثم يصح من مرضه أو يقدم من سفره فيقرها كما هي ويرى أن له وصية أخرى موضوعة قد فرغ منها ووثق بذلك فلا أراها إلّا جائزة، وقد قال مالك في كتاب باع سلعة سماها: إنها لا تجوز إلّا أن يكون أخرجها من يده وجعلها على يدي غيره ولم يأخذها من يده حتى مات، قال سحنون: وهذا القول من قوله أحسن.

(12/469)


قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في أول رسم من السماع فلا معنى لِإعادته حيث ما تكررت وبالله التوفيق.

[: شهادة الشاهدين في الوصية]
ومن كتاب أوله صلى نهارا ثلاث ركعات وسئل مالك: عن رجل أوصى في مرضه وأوصى إلى ثلاثة نفر مع امرأته وأحدهم غائب فشهد الوصيان أن هذه الوصيةَ وصيتُه ولم يشهد عليها غيرُهما وقد كان أوصى لهما في الوصية بشيء، قال مالك: ينظر إلى حالهما وإلى ما أوصى لهما به فإن كان الذي أوصى لهما به يسيرا لا يتهمان على مثله لم أرَ أن ترد بذلك شَهَادَتُهما ورأيتها جائزة.
قال محمد بن رشد: أجاز في هذه الرواية شهادةَ الشاهدين في الوصية إن كان الذي أوصى لهما به يسيرا مع أنه أوصى إليهما، فالظاهر من قوله أنه لم يَرَ ذلك تهمة في شهادتهما ومثلُه في المدونة سواء، والمنصوص له فيها أنه لا تجوز شهادةُ الموصى إليه وإن كان طالب الحق غيرَه، وعلى هذا يأتي قولُ سحنون في آخر كتاب الأقضية، وفي سماع أبي زيد من هذا الكتاب إجازةُ الشهادة مثلُ ما يَقُومُ من هذه الرواية، وقولُه: إن كان الذي أوصى لهما به يسيرا لا يتهمان عليه لم أرَ أن تُرَدّ شهادتُهما هو المشهور في المذهب أن شهادة الموصى له بشيء يسير في الوصية جائزة، وقد قيل: إنها لا تجوز، وهو قول مالك في رواية ابن وهب عنه، واختلف على القول بإجارتها، فقيل: إنها تجوز له ولغيره، وقيل: إنها تجوز لغيره ولا تجوز له، وقيل: إن كان معه شاهدٌ غيرُه جازت له ولغيره وإن لم يكن معه شاهد غيره جازت لغيره ولم تجز له، وهو قول يحيى بن سعيد في المدونة، وقد مضى شرح هذا كله وبيانُه في رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب من كتاب الشهادات وفي مسألة أفردناها في

(12/470)


التكلم على هذا المعنى وما يتعلق به فلا معنى لِإعادة القول في ذلك وبالله التوفيق.

[مسألة: المسلم يهلك ويترك خمرا في تركته ويوصي لرجل كيف يصنع بها]
مسألة وسئل مالك: عن المسلم يهلك ويترك خمرا في تركته ويوصي لرجل كيف يُصْنَعُ بها؟ قال: لا أرى أن يَكْسِرَهَاّ حتى يأتي بها السلطان فيعمله بذلك خوفا ممن يأتي بعده أن يُضمنه، وقد قال مالك في الخنزير يقتل.
قال محمد بن رشد: إنما قال في الخنزير: إنه يقتل دون أن يرفع الأمر في ذلك إلى السلطان، وإن الخمر لا يكسرها حتى يرفع الأمر في ذلك إلى السلطان؛ لأنّ الخنزير لا اختلاف في وجوب قتله، والخمر قد اختلف في جواز تخليلها وترك كسرها إذ قد قيل: إن المنع من تخليلها عِبَادَةٌ لا لِعِلة، وقيل: إنما منع من ذلك لَعَلّه ممن قال: إن المنع من ذلك إنما هو لعلة إجازته في الموضع الذي ترتفع فيه العلة، وقد اختلف في العلة ما هي؟ فقيل التعدي والعصيان في اقتِنَائِهَا، فعلى هذا القول يجوز لمن تخمر له عصير لم يرد به الخمر أن يُخلله، وقيل: بل العلة في ذلك التهمةُ لمُقتنيها ألّا يخللها إذا غاب عليها فعلى هذا القول يجوز لمن اقتنى خمرا ثم تاب أن يخللها، فعلى هذين القولين لا يجوز للوصي أن يهريق الخمر إذا وَجَدها في تركة الميت ويجب عليه أن يخللها، فلهذا رأى مالك للوصي ألّا يكسرها إلّا بِأمْرِ السلطان لئلا يُضَفَنَ إياها على هذين القولين إن كان مَذهب الحاكم الذي يرتفع إليه الأمر أحدهما، وسيأتي في سماع عبد الملك القولُ في الشطرنج يجده الوصي في تركة الميت وبالله التوفيق.

[مسألة: قال عند موته وصيتي عند فلان فلما مات أخرج الوصية فإذا هي عتق وغيره]
مسألة وسئل مالك: عن رجل قال عند موته: وصيتي عند فلان رجل

(12/471)


سماه وأشهد على ذلك، فلما مات أخرج الوصية فإذا هي عتق وغيره.
قال مالك: لا أرى مثل هذا إلّا جائزا وأبينُ ذلك لو كتب وصيتين ووضع عند كل رجل وصية، فإذا مات جازتا إذا اتفقتا.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما مضى في رسم البز، وقد مضى الكلام عليها وبالله التوفيق.

[مسألة: أوصى بعتق رقيقه ولرقيقه رقيق]
مسألة وسئل مالك: عن رجل أوصى بعتق رقيقه ولرقيقه رقيق، قال مالك: يعتق رقيقه ويقر رقيق رقيقه مماليك بأيديهم.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه على مذهبه في العبد يملك، بدليل قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «من باع عبدا وله مالُ فماله للبائع إلّا أن يشترطه المبتاع» فأضاف المال إليه إضافة الملك، وَلِذَلك يَطَأُ بملك يمينه، إذ لو لم يكن مالكاَ ليمينه لَمَا جاز له الوطء بملك يمينه؛ لِأن الله تعالى لم يبح الفرج بما عدا النكاح وملك اليمين، ومال العبد تبع له في العتق، بخلاف البيع، فوجب إذا أعتق عبدَه وله عبدٌ أنّ عبده يبقى بيده رقيقا له، وكذلك إذا أوصى بعتقه، وكذلك قال في المدونة: إن الرجل إذا حلف بعتق عبيده لا يعتق عليه عبيد عبيده، ولا يدخل الاختلافُ في هذه المسألة من قوله إن العبد إذا مَلَك من يُعتق على سيده يعتق عليه، وإن الرجل إذا حلف لّا يركب دابة فركب دابة عبده أنه حانث، ومن حمل ذلك على أنه اضطراب من قول مالك في أن العبد يملك فقد أخطأ، وليس هذا موضع التكلم على الفرق بين الموضعين وإنما يعتق رقيقُ الرقيق إذا أوصى بعتق الرقيق على مذهب الشافعي وأبي حنيفة في أن العبد لا يملك، وأن جميع ما بيده ملك لسيده فلا يجوز له على مذهبهما الوطء بملك يمينه، ويزكي السيدُ مالَه مع مالِه وبالله التوفيق.

(12/472)


[: هلك ولابنه إبل فكانت إبله عند رجل فجاء أولياء الصبي فقالوا نبيع حيوانه فإنه صغير]
ومن كتاب أوله مرض وله أم ولد فحاضت قال: وسئل عن رجل هلك ولابنه إبل فكانت إبلُهُ عند رجل فجاء أولياءُ الصبي فقالوا: نبيع حيوانه فإنه صغير والحيوانُ تتلف والدنانير خير له، فقالت أمه ومن هو منه بسبيل: تُقَرُّ إبله ولا تباع، ويباع من رقابها ما يكون فيه نفقته.
قال مالك: من الناس من أصل ماله وعُهْدَتُهُ ومن يرى الناس له فيه الخير والنماء الماشيةُ، أولئك أهل العمود من أهل البادية، وليس يؤمر أولئك وهم صغار كلما هَلَكَ منهم هالك وترك ولدا صغيرا أن يبيعوا ماشيتهم، وينظر في ذلك فإن كانت الِإبل أمثلَ للغلام فيما يرى أهلُ العلم والمعرفة بذلك، وكان هو من أهل المواشي الذين يتخذونها أُمْسِكَتْ له وإن أراد غير ذلك، فليتبع الذي هو خير للغلام.
قال محمد بن رشد: هذا من وجه النظر لليتيم بين على قاله مالك فلا وجه للقول فيهِ بالله التوفيق.

[مسألة: يهلك فيوجد في بيته وصية ورجلان يشهدان أنه كتابه بيده]
مسألة وسئل: عن الرجل يهلك فيوجد في بيته وصية ورجلان يَشْهَدان أنه كتابه بيده.
قال مالك: لا تجوز وصيتُه وعسى أن يكون لهم يعزم على ذلك وإنما كتبها ووضعها.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن الرجل قد يكتب

(12/473)


وصيته وهو متوان فيها غيرَ عازم على إنفاذها ولا يتبين عزمه على إنفاذها إلاّ بالإشهاد على ذلك أو على وضعها على يدي أحد، وكذلك الطلاق والصدقة إذا كتب الرجل طلاق امرأته بيده وأمسكه عند نفسه ولم يشهد عليه لا يؤخذ منه ويصدق في أنه لم يكتب مجمعا على الطلاق وإنما كتبه ليستشير وينظر، فإن رأى أن ينفذه أنفذه، وإن رأى ألّا ينفذه تركه، وإذا كتب بالصدقة كتابا بيده وأمسكه عند نفسه ولم يشهد عليه لا يؤخذ به، ويصدق في أنه إنما كتب ليستشِير في ذلك وينظر على ما قاله في أول رسم من سماع أشهب من كتاب طلاق السنة، فإن أرسل الكتاب بالطلاق أو الصدقة لزمه ذلك، وكان بمنزلة الِإشهاد ولم يصدق إن أرَاد أن يرده قبل أن يصل وزعم أنه إنما أرسله على أن يرده إن شاء على ما في سماع أشهب خلافُ مذهبه في المدونة وبالله التوفيق.

[مسألة: أوصى لوارث بما مرجعه إلى غير وارث]
مسألة وسئل مالك: عن امرأة أوصت بأن جاريتي تخدم ابني حتى يبلغ ثم هي حرة فقيل لها: إن هذا لا يجوز، فقالت: إن كان لا يجوز فثلثي يحج به عني.
قال مالك: يجوز أمرُ الجارية وتكون الخدمة بين الورثة حتى يبلغ الولد وتعتقه، قال أصبغ: فإن مات الغلام قبل بلوغه نظر فإن كانت من رقيق الحضانة عتقت وإن كانت من وغد الخدم خدمت الورثة إلى مبلغ الغلام ثم عتقت، وإن ماتت الخادم قبل بلوغ الغلام وتركت مالا فهو بين الورثة على كتاب الله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة على معنى ما في المدونة وغيرها من أن من أوصى لوارث بما مرجعه إلى غير وارث يدخل معه الورثة فيما أوصى به للوارث إلى أن يرجع إلى غير الوارث، وأن من أوصى لابنه أو لغيره بخدمة عبد حياته أو سنين معلومة أو حتى يبلغ ثم هو حر فمات

(12/474)


قبل أن يبلغ أو قبل انقضاء السنين أنه يعجل له العتق وإن كان من عبيد الحضانة وإن كان من عبيد الخدّمة لم يعتق حتى ينقضي أمَد الخدمة بحد بلوغه أو انقضاء السنين وتكون الخدمة لورثته وبالله التوفيق.

[: يوصي بثلثه لمواليه أو لبني عمه فيهلك أحد منهم ويولد آخر قبل أن يجمع المال]
ومن كتاب نذر سنة يصومها وسئل مالك: عن رجل يوصي بثلثه لِمَوَاليه أو لِبَني عمه فيهلك أحد منهم ويولد آخر قبل أن يجمع المال على من ترى أن يقسم المال؟ على الذين كانوا أحياء يوم مات الموصى أو على الذين يدركهم القسم؟. قال: بلى، على الذين يدركهم.
قال محمد بن رشد: هذا على أحد قولي ابن القاسم في المدونة يوصي لأخواله وأولادهم مرة حَكَمَ لهم بحكم المُعَيّنِين، فقال: إن المال يقسم بينهم بالسواء. فعلى هذا يكونُ القسمُ على من كان منهم حيا يوم مات الموصى ويكون حظ من مات منهم لورثته، ومرة حكم لهم بحكم المساكين فقال: يقسم بينهم بالاجتهاد على من كان حيا منهم حين القسمة، ومن مَات قبل القسمة لم يكن له شيء، وقد مضى هذا في الذي يوصي لقرابته في أول رسم، وسيأتي هذا المعنى أيضا في رسم الوصايا والأقضية من سماع أصبغ، وانظر مسألة رسم الوصايا المتقدمة في سماع أصبغ وما ذكرنا من المعنى فيها وتدبر ذلك كله وبالله التوفيق.

[مسألة: يوصي وهو يريد الغزو فيستأذن ورثته في أكثر من ثلثه فيأذنون له]
مسألة وسئل مالك: عن الرجل يوصي وهو يريد الغزو فيسِتأذن ورثَتَه في أكثر من ثلثه فيأذنون له أترى ذلك جائزا له عليهم إن مات؟

(12/475)


قال: نعم، فقيل له: والذي يريد سفرا فيستأذن ورثته فيوصي في أكثر من ثلثه فيموت أترى أن يجوز ذلك؟ قال: نعم، وأراه مثل المريض.
قال ابن القاسم: وذلك رأيي.
قال أصْبغ: وسمعت ابن وهب يقول في رجل أراد سفرا فاستأذن بعض ورثته في أن يهب له ميراثه منه ففعل ثم مات في سفره: إنّ لهم أن يرجعوا ولم يره مثلَ المريض، وقال لي: قد كنت قلتُ غيرَ هذا ثم رجعت إلى هذا.
قال أصبغ: وذلك الصواب وهو مثل الصحيح يستأذن في العول، وهذا أصح، قال أصبغ: المسافرُ يصنع في سفره ما شاء ولم يره مثل المريض، يريد في حجب ماله عنه إن أراد أن يبتل وينفذ.
قال محمد بن رشد: حَكَمَ مالك وابن القاسم في هذه الرواية لما فعله المسافر عند إرَادة الغزو أو السفر بحكم المريض فأمضيا عليهم ما أذنوا له به من الوصية بأكثر من ثلث ماله إن مات في سفره ذلك، وذلك من قول ابن القاسم خلافُ قوله في سماع عبد الملك بن الحسن من أن من حَضَرَ خروجه إلى حج أو غزو أو سفر من الأسفار فأقر بدين لزوجته أو لبعض ولده أو تصدق على ابنه الصغير بصدقة أن ذلك كلّه جائز وإن مات في سفره ذلك؛ لأنه حكمَ له فيما فعله من ذلك كله بحكم الصحة، فلم يتهمه في إقراره للوارث ولا في صدقته على ابنه مثل قول ابن وهب الذي رجع إليه في الذي أراد سفرا فاستأذن بعض ورثته في أن يهب له ميراثه ففعل يريد فقضى فيه بأن صرفه إلى بعض الورثة أو غيرهم أنّ لهم أن يرجعوا ولم يره مثل المريض، وأما لو لم يقض فيه المَوْرُوثُ بشيء لَمَا اختلف فيه حكم الصحة والمرض، ولَكان لهم أن يرجعوا في ذلك، وإن كان في المرض على ما قاله في الموطأ، وقولُ أصبغ مثل قول ابن وهب الذي رجع إليه ومثلُ قول ابن القاسم في سماع عبد الملك؛ لأنه لم يتهمه بالسفر وحكم له فيما فعله عند إرادته إياه بحكم الصحة في جميع الأشياء وبالله التوفيق.

(12/476)


[مسألة: الوصية لليهود والنصارى]
مسألة قال ابن القاسم: وكره مالك الوصية لليهود والنصارى، قال سحنون: قال ابن القاسم: وكان قبل ذلك يجيزه ولست أرى به بأسا إذا كان ذلك على وجه الصلة مثلَ أن يكون أبوه نصرانيا أو يهوديا أو أخوه أو أخته فيصلهم على وجه صلة الرحم فلا أرى به بأسا وأراه حسنا، وأما بغير هذا فلا، وفي رواية عيسى بن دينار وسئل ابن القاسم عن هذا، فقال: لا أرى به بأسا لمثل أمه وأبيه وإخوته وما أشبه ذلك القرابة، وأما الأباعد فلا يعجبني ذلك وَلْيَعْطِفْ به على أهل الإِسلام. قال محمد بن رشد: حَدُّ الكراهة ما في تركه ثواب وليس في فعله عقاب، فمعنى كراهية مالك الوصية لليهود والنصارى هو أن يؤثرهم بالوصية لقرابته منهم على المسلمين الأجنبيين، فرأى الوصية للمسلمين الأجنبيين أفضل من الوصية لقرابته الذميين.
وقولُه: وكان قبلَ ذلك يجيزه معناه من غير كراهة لما جاء في صلة الرحم من الأجر، والوجهُ في ذلك أنه لم يترجح عنده على هذا القول الأفضل من الوجهين، فأجازه من غير كراهة وهي رواية ابن وهب عنه أن الوصية للكافر جائزة، واحتج بالحُلّةِ التي كساها عمَرُ أخا له مشركا بمكة، وهو الذي ذهب إليه ابن القاسم في رواية عيسى عنه، وقوله قبل ذلك وأراه حسنا قولٌ ثالث في المسألة، وأنه رأى الأجر في الوصية لصلة رحمه وإن كانوا ذميين أكثر من الأجر في المسلمين الأجنبيين.

(12/477)


وأما الوصية للأباعد من الذميين فلا اختلاف في كراهة ذلك، لأن الوصية للمسلمين أفضل فالكراهة إنما تتعلق بإيثار الذميين على المسلمين لا بنفس الوصية للذميين؛ لأن في ذلك أجرا على كل حال، ففي موطأ ابن وهب عن مالك فيمن نذر صدقة على كافر أن ذلك يلزمه، وقال في موضع آخر: إن قال مالي صدقة على فقراء اليهود أن ذلك يلزمه يتصدق عليهم بثلث ماله، وقد قال الله عز وجل: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] . والأسير الكافر، فإذا أوصى إليهم شفقة عليهم لفقرهم جاز ذلك على كراهة؛ لأن الأجْر في الصدقة على فقراء المسلمين أحرى، والإشفاق عليهم ينبغي أن يكون أكثر، وقد أجاز أشهبُ الوصيةَ للذميين كانوا ذوي قرابة أو أجنبيين إجازة مطلقة دون كراهة، ومعنى ذلك في الأجنبيين والله أعلم إذا كان لهم حق من جوار أو يد سلف لهم إليه أو ما أشبه ذلك، وأما إن لم يكن لذلك سبب فالوصية لهم محضورة إذ لا يوصِى للكافر من غير سبب ويترك المسلمَ إلّا مُسلم سُوء مريض الإِيمان، قال الله عز وجل: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [المجادلة: 22] إلى قوله: {أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22] وأما الوصية للحربي فإنها لا تجوز؛ لأن ذلك قوة لهم، ويرجع ذلك ميراثا ولا يجعل في صدقة ولا غيرها، وكذلك من أوصى بما لا يحل قال ذلك أصبغ في الوصية والله الموفق.

[: يقول عند الموت سلاحي في سبيل الله]
ومن كتاب أوله المحرم يتخذ الخرقة لفرجه وسئل: عن الرجل يقول عند الموت: سلاحي في سبيل الله أترى لِمَنْ أوصي إليه أن يجعله حبسا؟ قال: لا أرى ذلك له، ولكن يجتهد فيه.

(12/478)


قال محمد بن رشد: قولُهُ: لا أرى ذلك له يحتمل أن يكون معناه لا أرى ذلك عليه، أي لا يجب عليه أن يحبسه في السبيل؛ لأن الموصي لم ينص على أن تحبس في السبيل ولا على أن تبتل فيه، وإنما أوصى تجعل فيه فرأى له أن يجتهد في وجه جعلها فيه بما يراه إن رأى أن يحبسها فيه حبسها، وإن رأى أن يبتلها فيه بتلها؛ لأن له قد يكون بمعنى عليه في اللسان، قال الله عز وجل: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] أي عليها، ويحتمل أن يكون له على بابها ويكون المعنى في ذلك أنه رأى أن يبتلها في السبيل ولا يحبسها فيه، إذ لم ينص الموصي على تحبيسها على القول بأن من أعطى فرسا أو سلاحا في السبيل، فهو محمول على التبتيل حتى ينص عَلَى التحبيس، وهو ظاهر ما في رسم طلق بن حبيب ورسم باع غلاما ورسم صلى نهارا ثلاث ركعات من سماع ابن القاسم من كتاب الجهاد، ويكون الاجتهاد الذي جعله إليه بقوله ولكن ليجتهد فيه ألّا يبتلها إلّا لمن فيه خير وله دين، وهو من أهل النجدة والنكاية في العدو والعمل في الجهاد، فإذا بتل السلاح الموصي بها في السبيل لمن هذه صفته كان له أن يقاتل بها وأن يبيعها على نفسه فيما يحتاج إليه في غزوه وبالله التوفيق.

[مسألة: أوصى بصدقة دينار من غلة له كل سنة أن يشتري بها قمح ويطعم المساكين]
مسألة وسئل مالك: عن رجل أوصى بصدقة دينار من غلة له كلّ سنة أن يَشتري بها قمحٌ ويطعم المساكين، أترى أن يعطي بمد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أو بمد هشام؟ قال: إن كان الطعام كثيرا فإنني أرى أن يعطي بمد هشام، وإن كان قليلا فبالمد الأصغر، فقيل له: فإنه أوصى مع ذلك أن يعطي المساكين درهما درهما لكل مسكين فَكَثُرَ

(12/479)


المساكين على الرجل فأعطاهم درهما بين رجلين؟ فقال: ما أرى عليه شيئا.
قال محمد بن رشد: المعنى فيما قاله في الطعام بين في الاستحسان وذلك أنه لما أوصى بالطعام الذي يشترى بالدينار كان سبيلُ ذلك في قدر ما يعطي منه لكل مسكين سبيلَ الكفارات التي ذكر الله فيها الإطعام الكثير أن يعطي بمد هشام ككفارة الظهار، وفي الطعام اليسير بمد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ككفارة اليمين، ولو أوصى أن يشتري به قمحا فيتصدق به على المساكين ولم يكن الطعام لما حد فيه أن يعطي بمد هشام ولا بمد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ولكان له أن يتصدق بجميعه على المسكين والمسكينين وأقل وأكثر على ما يراه بوجه اجتهاده.
وأما الذي أعطى درهما بين مسكينين وقد كان أوصى الميتُ أن يعطي درهم درهم لكل مسكين فقد أخطأ في مخالفته حَدّ المُوصِي في ذلك، إلا أنه لم يره خطأ يلزمه به الضمان فقال: ما أرى عليه شيئا أي لا أرى عليه غرما؛ لأن الذي فعل كان سائغا له أن يفعله والله أعلم.

[مسألة: يأكل الرجل من مال ابنه الصغير]
مسألة وسئل مالك: عن الرجل يكون لابنه المالُ قد ورثه من أمه الضيعة يكون له، فيأتيها أبوه يأكل منها، قال: لا بأس بذلك أن يأكل الرجل من مال ابنه الصغير من الضيعة يكون له يأتيها فينزل بها ويأكل منها، وإنما كان ورثها من أمه فلا بأس أن يأكل منها.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، والأصل في ذلك قول الله عز وجل: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النور: 61] إلى قوله: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور: 61] فإذا جاز للرجل أن يأكل من مال أبيه وأمه وأخيه وعمه وخاله

(12/480)


وصديقه بغير إذنهم الشيء اليسير الذي لا يقع التشاح في مثله ويعْلَمُ بمستقر العادة أنهم لا يكرهون ذلك فأحرى أن يجوز ذلك للوالد في مال ولده الذي ورثه عن أمه؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأبِيكَ» ألا ترى أنه قد جاز له فيما تصدق به على ابنه لهذا الحديث ما لا يجوز له فيما تصدق به على غيره، وقد مضى القولُ على ذلك مستوفى في رسم حلف ألّا يبيع رجلا سلعة سماها من سماع ابن القاسم من كتاب الصدقات والهبات وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
والحمد لله رب العالمين وهو حسبي ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما، والحمد لله رب العالمين.

(12/481)