البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة

 [: كتاب الوصايا الثاني] [نعي له عبد أبق ثم مرض فأوصى بثلث ماله ثم مات وجاء العبد الآبق]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم كتاب الوصايا الثاني
من سماع أشهب وابن نافع من مالك
من كتاب البيوع الأول قال سحنون أخبرني أشهب وابن نافع قال: سئل مالك عمن نعي له عبد أبق أو ذكر له غرق سفينته، ثم مرض فأوصى بثلث ماله، ثم مات، وجاء العبد الآبق، وسلمت السفينة، أيدخل ذلك في ثلثه؟ فقال نعم، ليس يشبه هذا الذي يكون له مال لم يعلم به، قد ينعى للرجل العبد وهو يرجوه وهو يائس منه، فهذا يدخل في الثلث.
وفي كتاب الوصية للصغير، من سماع أشهب وابن نافع قال: فأما الذي له العبد الآبق، والجمل الشارد، والذي قد كان له أصله وعمله، فإنه إذا رجع، رجع في الثلث، فقيل له: أرأيت الذي يكون له المال الغائب مثل السفينة والعبد، فيقال: قد غرقت السفينة أو مات العبد حتى يتقين ذلك؟ فقال: إذا علم [أنه] لم يرده فلا يدخل في الثلث، فقيل له: مثل السفينة يقال له قد غرقت؟ فقال إذا كان هكذا فنعم، ولم ير أن ذلك يرجع في الثلث إذا جاءت سلامته، من أجل أنه كان منه يائسا. وفي رواية

(13/5)


عيسى من كتاب المكاتب من سماعه: قال ابن القاسم: إذا كانت قامت عنده البينة، وشهد عنده قوم قبل الوصية أو بعدها أن العبد مات، والسفينة غرقت، والفرس مات، أو بلغه ذلك فطال زمانه، ويئس هذه، ثم جاء خبر ذلك من بعد موته أنه لم يذهب منه شيء، فلا يدخل فيه شيء من الوصايا وهو كمال طارئ لم يعلم به، وإن كان ذلك شيئا بلغه فلم يلبث إلا يسيرا حتى مات، ولم يشهد عنده أحد بهلاكه، إلا خبر بلغه، فإن الوصايا تدخل فيه. ولم يذكر في أول المسألة إباق العبد، وإنما ذكر هلاكه. قلت: فالعبد يأبق؟ قال تدخل فيه الوصية متى ما رجع.
قال محمد بن رشد: في ظواهر ألفاظ هذه المسألة الروايات اضطراب، ولا ينبغي أن يحمل شيء منها على التعارض والاختلاف؛ لأنها ترجع كلها عند التحصيل إلى أن ما كان أصله قد علمه، فإن الوصايا تدخل فيه، وإن غاب عنه فطال زمانه وبلغه هلاكه حتى كان الغالب عليه اليأس منه، من أجل ما بقي له فيه من الرجاء، حتى إذا تحقق عنده هلاكه بالشهادة أو الاستفاضة، حتى تحقق ذلك وتيقنه، فلم يبق له فيه رجاء، فلا تدخل فيه الوصايا إن جاء بعد ذلك، وإن كانت المدة لم تطل. ولا فرق في شيء من هذا كله بين المال الغائب، والعبد الآبق، والسفينة الغائبة، وبالله التوفيق.

(13/6)


[مسألة: أوصى أن امرأته أولى بولدها ما لم تنكح فأرادت أن تخرج إلى العراق]
مسألة قال أشهب: وسئل عمن توفي بالمدينة وأوصى إلى رجل، وأوصى أن امرأته أولى بولدها ما لم تنكح، فأرادت امرأته أن تخرج إلى العراق بولدها منه، وهناك أصلها. قال: فليس لها ذلك. فقيل له: إن لولده ثم ديوان، قال ما أرى ذلك لها. قيل: إذا يهلك ديوانهم يغيبون وهم صغار، قال: هاه! إن كان هكذا فلينظر في ذلك لليتامى، فإن رأى والي اليتيم أن أرفق بهم المقام أقاموا، وإن رأى أن أرفق بهم السير ساروا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه ليس للأم أن تدخل بولدها الذي في حضانتها عن بلد الوصي عليهم وإن كان الأب قد أوصى أنها أولى بولدها ما لم تنكح؛ لأن ذلك من حقها وإن لم يوص لها به الأب مع ألا تغيب بهم إلى بلد آخر عن الوصي، إلا أن يرى ذلك الوصي أو السلطان نظرا للأيتام لئلا يزول بمغيبهم اسمهم عن الديوان الذي كان يرتزق عليه أبوهم فتدركهم الضيعة. [وبالله التوفيق] .

[مسألة: السيد يوصي لأم الولد بنفقتها ما لم تتزوج فيصالحها الورثة على شيء معلوم]
مسألة
وسئل مالك عن أم الولد يوصي لها سيدها بنفقتها ما لم تتزوج، فصالحها الورثة على شيء معلوم، فيدفعونه إليها نقدا ثم تتزوج، أيرجعون عليها بشيء؟ [قال: لا يرجعون عليها بشيء] . وقد صالحوها، إنما ذلك لو تركوها على ما أوصى به سيدها.

(13/7)


قال محمد بن رشد: هذا كما قال، إنه إذا لم يمض الورثة الوصية لها على حالها وصالحوها عنها على شيء دفعوه معجلا إليها، فلا رجوع لهم عليها إن تزوجت قبل أن تستنفد في الإنفاق على نفسها [ما دفعوا إليها، كما أنها إذا استنفدت ذلك في الإنفاق على نفسها] ، فلا شيء لها عليهم وإن لم تتزوج؛ لأن الصلح لما كان على إسقاط الشرط في النفقة، فلا رجوع لهم عليها إن تزوجت. قال عيسى بن دينار في رسم أوصى بعد هذا من سماعه: وكذلك إن ماتت بعد ذلك بيوم أو يومين، ولا لها عليهم إن لم تتزوج بعد فناء ما قبضت منهم. وكذلك لو أوصى لها بوصية على ألا تتزوج، فقالت: على الثلث فردت إلى الثلث، ثم تزوجت، فلا ينتزع منها شيء؛ لأن الوصية لم تنفذ لها على وجهها، حكاه ابن المواز فيما أظن عن ابن القاسم، وهو قول ابن القاسم في رسم العرية من سماع عيسى في الذي يوصي أن ينفق على رجل ما عاش، فلم يحمل الثلث نفقة تعميره أنه إن لم يجز الورثة كان ما صار له من الثلث بتلا يدفع إليه، وليس للورثة أن يرجعوا عليه بشيء، وإن مات بعد ذلك بيوم؛ لأنهم قد خيروا في أن ينفذوا وصية صاحبهم، وفي أن يقطعوا له بالثلث بتلا، فاختاروا القطع له بالثلث بتلا، ولا فرق بين المسألتين في المعنى، وبالله التوفيق.

[: أوصى لنفر خمسة بنفقتهم ما عاشوا]
ومن كتاب الأقضية الثاني قال: وسألته عمن أوصى بوصايا، فأوصى لنفر خمسة بنفقتهم ما عاشوا. ونزلت بالمدينة، فقال: أرى أن يعمر الخمسة النفر سبعين سبعين سنة كان له منهم عشرون سنة، حرص له بنفقة خمسين سنة تمام السبعين، ومن كان له منهم أقل من ذلك أو أكثر، فعلى

(13/8)


هذا؛ لأني أرى السبعين من أعمار الناس اليوم، وما هو بالأمر الثابت، ثم يجمع لهم ما صار لهم جميعا في المصلحة، فيوضع على يدي عدل، فينفق منه عليهم ما عاشوا، فكلما مات منهم إنسان، رد ذلك على أهل الوصايا حتى يموتوا من آخرهم، فإذا مات الخمسة من آخرهم ثم رجع ما فضل إلى أهل الميراث، لا يرجع إلى أحد من أهل الميراث شيء حتى لا يبقى أحد من الخمسة، حتى إذا ماتوا رجع ما فضل إلى أهل الميراث، إلا أن يكون كانت معهم وصايا قصر عنهما الثلث، فيحاصونه فأرى إذا مات الخمسة أن يتم لأهل الوصايا وصاياهم، فما فضل كان لأهل الميراث. قال: وإن استنفدوا ذلك قبل أن يموت، فلا شيء لهم، لا يرجعون بشيء مما أوصى لهم به على أهل الوصايا حتى لا يبقى من الخمسة أحد.
قال: والسبعون من أعمار الناس، وإنما جرأني على أني قررت لهم سبعين، أني قد علمت أن منهم من لا يستكمل السبعين، فصار في المال فضل يستنفقونه ما عاشوا، حتى يستوفوا وصاياهم قال: وأنا أرى أن يكون لهم فيما يعرض لهم من النفقة، الماء والحطب والدهن والثياب، لا أدري ما الصوف؟ وأرى ذلك للمرأة على زوجها وللموصى لهم بالنفقة مثله:
قال محمد بن رشد: قد قال بعض الناس في هذه المسألة: إن مذهب ابن القاسم في المفقود أن يعمر سبعين سنة؛ لأنهم جماعة، ولا يمكن في غالب الحال، أن يعيشوا كلهم أكثر من سبعين سنة، وأنه إن كان منهم من يعيش أكثر من سبعين سنة، فسيكون من يموت منهم قبل السبعين، فرأى السبعين عدلا في ذلك؛ لكونهم جماعة، وذلك نص قوله وإنما جرأني على أني قدرت لهم سبعين، أني قد علمت أن منهم من لا يستكمل سبعين، معناه: قد تيقنت ذلك بغلبة ظني؛ إذ لا يصح العلم في ذلك، فإن كان

(13/9)


واحدا لما عمره إلا أكثر من سبعين، على قوله في هذه الرواية، وكذلك يلزم على قوله في المفقود، وقد روي عن مالك أنه يعمر سبعين سنة، وإليه ذهب عبد الوهاب، واحتج بقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين» ؛ إذ لا معنى لقوله إلا الإخبار بما يتعلق به الحكم، والله أعلم.
وقد روي عن مالك ثمانون سنة، وروي عنه تسعون سنة. وقال أشهب: مائة سنة. وقال محمد بن عبد الحكم: مائة وعشرون. والذي جرى به العمل ثمانون سنة، وهو أعدل الأقوال إن شاء الله. وليس هذا موضع التكلم على المفقود وما يلزم في تأجيله. وقد قيل في هذه المسألة قياسا على المفقود: إنه يعمر كل واحد منهم ثمانون سنة، ثمانون سنة، روى ذلك ابن كنانة عن مالك. قال: ولو كانت واحدة لعمرها أكثر، قاله فيمن أوصى أن ينفق على أمهات أولاده. قال: والصواب في مثل هؤلاء أن يعمرن أكثر ما يظن أن يعشن؛ لأنهن إن متن قبل ذلك، رجع الباقي إلى الورثة، وإن تجاوزن التعمير، هل كن دون نفقة؟ وقيل: تسعون تسعون، وقول ابن القاسم أعدل؛ لكونهم جماعة على ما ذكره. وقوله: إنهم إذا عمروا سبعين سبعين فتحاصوا مع أهل الوصايا في الثلث إذا لم يحمل جميع ذلك الثلث: إنه يوقف ما صار لهم في المحاصة، فإن ماتوا قبل أن يستنفدوه، رجع الفضل إلى أهل الوصايا، فاستكملوا منه وصاياهم، وكان الفضل للورثة، وإذا استنفدوا ما وقف لهم قبل أن يموتوا، لم يرجعوا على أهل

(13/10)


الوصايا، هو قول ابن القاسم أيضا في آخر الرسم الأول من سماع أصبغ. قال: والقياس أن يرجعوا على أهل الوصايا إذا استنفدوا ما صار لهم في المحاصة قبل أن يموتوا فيعمروا ثانية، ويرجعوا على كل واحد منهم بقدر ما صار له في نصيبه، وهو اختيار أشهب، كما يرجع أهل الوصايا فيما فضل مما وقف لهم إن ماتوا قبل أن يستنفدوه. واختار أصبغ استحسانا أن يكون ما صار في المحاصة لكل واحد منهم بتلا، فلا يرجعون على أهل الوصايا إن استنفدوا ما صار لهم في المحاصة قبل أن يموتوا، ولا يكون لأهل الوصايا شيء مما صار لهم في المحاصة إن ماتوا قبل أن يستنفدوه. قال: ولا أعلم ابن القاسم إلا قد رجع إليه وقاله. وكذلك إن لم يكن معهم أهل وصايا، فلم يحمل الثلث نفقة تعميرهم فأبى الورثة أن يجيزوا لهم الوصية، وقطعوا لهم بالثلث إن ماتوا قبل أن يستنفدوا الثلث، رجع الفضل إلى الورثة على هذه الرواية، وعلى ما اختاره أصبغ، وحكى أنه لا يعلم ابن القاسم إلا وقد رجع إليه، وقاله ابن القاسم أيضا في رسم العرية من سماع عيسى لا يرجع الفضل إليهم وإن ماتوا بعد ذلك اليوم، ويكون الثلث الذي قطع لهم الورثة مبتولا لم يورث باقيه عنهم، ولا يرجع شيء منه إلى الورثة، وأما إن حمل الثلث نفقة تعميرهم والوصايا، أو نفقة تعميرهم إن لم يكن معهم أهل وصايا، فلا اختلاف في أنهم إن ماتوا قبل أن يستنفدوا نفقة تعميرهم، يرجع الفضل إلى الورثة، وإن عاشوا أكثر مما عمروا رجعوا على الورثة فيما كان بقي لهم من الثلث، وإن ناب الموصى نصف وصاياهم، لم يعطوا من ذلك في كل شهر إلا نفقتهم كاملة، لا نصف نفقة أي نفقة كل شهر، قاله المغيرة وابن كنانة. وفي قول ابن القاسم في هذه المسألة: إنه يكون لهم فيما يفرض لهم من النفقة الماء، والحطب والدهن والثياب، لا أدري ما الصوف؟ أي الثياب التي تصاف لمثل جمعة وغيرها، دليل على أن من التزم نفقة رجل يلزمه كسوته؛ لأنها من النفقة، وهذه مسألة كان الشيوخ يختلفون فيها. ويتخرج فيها ثلاثة أقوال: أحدها: أن الكسوة داخلة تحت لفظ النفقة بظاهر اللفظ،

(13/11)


وهو دليل قوله في هذه الرواية، والحجة لذلك قول الله عز وجل: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] لإجماع أهل العلم أن لهن النفقة والكسوة. فعلى هذا القول، إن قال ملتزم النفقة لم أرد بما التزمت إلا الطعام دون الكسوة، لم يصدق. والثاني: أن الكسوة غير داخلة تحت لفظ النفقة بدليل ما وقع في كتاب الرواحل والدواب من المدونة من إجازة استئجار الأجير بنفقته.
وقوله: إنه إن اشترط الكسوة، فلا بأس بذلك، إذ لو كانت الكسوة داخلة في النفقة عنده لما احتاج إلى اشتراطها، فعلى هذا لا يلزم من التزم النفقة الكسوة، إلا أن يتطوع بها أو يقر على نفسه أنه أرادها.
والثالث: أن دخول الكسوة تحت لفظ النفقة ليس بظاهر من اللفظ، وإنما هو محتمل له احتمالا ظاهرا، فإن قال الملتزم على هذا القول: لم أرد الكسوة صدق دون يمين، أو بيمين على الاختلاف في لحوق يمين التهمة، وإن قال: لم تكن لي نية، ألزم إياهما جميعا. وقال عبد الملك لا يفرض للموصى له بالنفقة الخدمة ولا يكون ذلك له إلا بوصية من النوادر، وهو ظاهر ما يأتي في رسم أوصى من سماع عيسى والذي أقول به: إذا كان الموصى له بالنفقة لا يستغني عن الخدمة فيدخلها من الخلاف ما دخل الكسوة، وبالله التوفيق.

[مسألة: لا يجوز للوصي أن يدفع إلى اليتيم من من ماله]
مسألة وسئل فقيل له: إن عندي يتيما قد أخذ بوجهه، والذي له عندي ستون دينارا، وقد سألني أن أعطيه خمسة عشر دينارا يتجه بها إلى خاله بمصر، يرجو صلته ونفعه، أفترى أن أعطيه؟ فقال: ما أرى ذلك يجوز، وما أرى أن تعطيه إلا بأمر السلطان، وما لك تدعه يخرج إلى مصر؟، فقال: إنه رجل قد أخذ بوجهه، وهو يغلبني ولو

(13/12)


أطاعني لم يخرج، فقال: إذا أعطيته قوي على الخروج، فقال: أرأيت أن يحمل لي رجل بها يضمنها إن طلبت مني؟، فقال: لا أرى أن تدفعها إلا بأمر السلطان.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال أنه لا يجوز للوصي أن يدفع إلى اليتيم من ماله إلا ما لا بد له منه في نفقته وكسوته، فلا ينبغي له أن يساعده فيما يذهب إليه من التجهز إلى خاله بخمسة عشر دينارا يدفعها إليه من ماله؛ إذ ليس ذلك بوجه نظر له؛ لأن ما يرجوه من خاله، ليس على يقين منه، ولعله يتلف ما يصله له إن وصله، فيذهب ما دفع إليه من ماله في غير وجه منفعة، فلذلك لم ير له أن يدفعها إليه إلا بأمر السلطان؛ لأنه إن دفعها إليه بغير أمره ضمن، وإذا أمره السلطان أن يدفعها إليه بأمره برئ هو من ضمانها، والسلطان لا يأمر بذلك، إلا أن يثبت عنده ما يوجبه وبالله التوفيق.

[مسألة: كاتبه سيده وأوصى إليه فسأله بعض مواليه عما ربح فيه]
مسألة وسئل فقيل له: إن سيدي كاتبني وأوصى إلي، فسألني بعض موالي، وهو ولد سيدي عما ربحت فيه، وأنا عند الناس كما أحب، أفذلك علي؟ قال له: لا أرى ذلك عليك. أليس ما في يديك مالا معروفا؟ قال: بلى، ولكنه يريد أن يعلمه ويعلم ما ربحت فيه، فقال: ما أرى ذلك عليك، فقال له: إنني غلام مولد ولدت باليمن، قد علم ذلك الذي اشتراني منها، فأنا إذا انتسبت في كتابي قلت: فلان بن فلان مكاتب فلان وذلك نسبتي قال: لا بأس بذلك.
قال الإمام القاضي: قوله: إن سيدي كاتبني وأوصى إلي، يريد أنه أوصى إليه بالنظر على بنيه، فلم ير عليه أن يخبر بما ربح في مال الميت الذي هو ناظر فيه لولده؛ لأن الوصي لا يلزم أن يكشف عما بيده، ولا يخبر به إلا أن

(13/13)


يخاف عليه أن يكون قد أتلفه، وهو محمول على الأمن في ذلك حتى يثبت خلاف ذلك من حاله، فإذا كان ما في يديه من المال معروفا، فلا يلزم له أن يكشف عنه ولا أن يخبر بما ربح فيه؛ لأن في ذلك غضاضة عليه؛ إذ لا يفعل ذلك إلا بمن لا يوثق به، وسيده ائتمنه ووثق به، فهو محمول على ذلك. وقد قال في رسم حلف في المرأة الموصى إليها بولدها إذا تزوجت: إنها لا يُكشف عما بيدها إلا إذا خيف على المال عندها. وقد مضى الكلام عليها فلا معنى لإعادته. وقوله: إنه يكتب إذا انتسب في كتابه أي في كتابة شهادته وفيما يشهد به على نفسه في إذكار الحقوق وشبه ذلك، فلان بن فلان يريد ما دام مكاتبا، فإذا أدى كتابته قال في انتسابه: فلان بن فلان مولى فلان. وبالله التوفيق.

[مسألة: أوصى في ثلاث أمهات أولاده أن ينفق عليهن ثلاث سنين]
مسألة وسئل عمن أوصى في ثلاث أمهات أولاده أن ينفق عليهن ثلاث سنين، وبخادم تخدمهن حياتهن، ثم هي حرة، على من نفقة الخادم؟ أعلى الموصي أم على أمهات الأولاد؟ فقال: أما الثلاث سنين، فأرى أن ينفق عليهن وعليها سوى نفقتهن من مال الميت، فإذا مضت الثلاث سنون فلينفقن عليها من عندهن، وليس على الميت نفقتهن، وإن كان سمى لهن في الثلاث سنين نفقة معلومة فليس لهن غير ذلك، ونفقة الخادم عليهن.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما يأتي في رسم أوصى من سماع عيسى سواء، وإنما قال في نفقة الخادم في الثلاث سنين التي أوصى فيها بالنفقة على أمهات أولاده: إنها من مال الميت؛ لأنها من جملة النفقة عليهن، فعلى هذا لو لم يوص لهن بخدمة الخادم لكانت الخدمة عليه لهن في الثلاث سنين من جملة النفقة، كالكسوة، قال فيها في أول مسألة من

(13/14)


الرسم: إنها تفرض للموصى لهم بالنفقة في جملة النفقة.
وقد مضى الكلام على ذلك في تكلمنا عليها. وأما قوله في النفقة عليها بعد الثلاث سنين: إنها عليهن، لا في مال الميت، فهو المشهور في المذهب، فإن نفقة المخدم على الذي أخدم إياه، لا على سيده الذي أخدمه، وقد قيل: إنها على السيد المخدم، وقيل: إنها إن كانت الخدمة يسيرة فالنفقة على السيد، وإن كانت كثيرة أو حياة المخدم، فالنفقة على المخدم، وقيل: إن الاختلاف إنما هو في الخدمة الكثيرة، ولا اختلاف في الخدمة اليسيرة أنها على رب العبد الذي أخدمه، ذهب إلى هذا سحنون. والأول أصح. إن في المسألة ثلاثة أقوال. وأما إذا سمى لهن في السنين الثلاثة نفقة معلومة فلا يزاد على ذلك وتكون نفقة الخادم عليهن في الثلاث سنين وغيرها وبالله التوفيق.

[مسألة: أوصى لرجل في وصيته بثلاثمائة دينار وبمسكن سرائه على أهل الوصايا]
مسألة وسئل عمن أوصى لرجل في وصيته بثلاثمائة دينار وبمسكن سرائه على أهل الوصايا، ثم أقام الموصي ثمان سنين، ثم أوصى بوصية أخرى، فأوصى فيها أن لفلان كذا، ولفلان كذا بوصايا غير واحدة ولفلان ألف دينار، وهو الذي كان أوصى له في الوصية الأولى بالثلاث مائة دينار وبالمسكن، ثم ذكر وصايا، فقال: لفلان كذا وكذا، ولفلان كذا لغيره، ثم قال: وقد زدت فلانا مع ألف مائة دينار، قال مالك أما المسكن الذي أوصى له به في الوصية الأولى فهو له مبدأ على الوصايا، وأرى أن ينظر في الألف والمائة التي أوصى له بها في الآخر، ولم يجعلها مبدأة

(13/15)


فيعاول بها أهل الوصايا فإن صار له أكثر من الثلاثمائة التي أوصى له بها في الأولى مبدأة كانت له، ولم يكن له الثلاثمائة؛ لأنها دنانير كلها، أيهما كان أكثر كان له، إن كان ما صار له في العول أكثر من الثلاثمائة التي أوصى له أن يبدأ بها، كان ذلك له، ولم تكن له الثلاثمائة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها، أن الموصى له بوصيتين من نوع واحد وصفة واحدة، دنانير أو دراهم أو طعام أو حيوان أو عروض، يكون له الأكثر من الوصيتين، كانتا الأولى أو الأخيرة. وإن كانت الوصيتان من نوعين أو على صفتين، كانت له جميعا. وقد روي عن ابن القاسم أن الدراهم والدنانير في هذا النوع واحد، يكون له الأكثر منهما خلاف ما ذهب إليه مطرف وابن الماجشون وروياه عن مالك، من أنه إن كانت الوصية الثانية أقل، أو كانتا سواء، كانتا له جميعا؛ لأن أمره يحمل على أنه إنما أراد بالثانية الزيادة على الأولى، وإن كانت الثانية أكثر، كانت له دون الأولى. قال ابن الماجشون: وذلك إذا كان ذلك في كتاب واحد بينهما وصايا لغيره، وأما إن كان بينهما كلام من غير الوصية، فإنه يكون له الوصيتان جميعا، وإن كانت الثانية أكثر من الأولى، بمنزلة إذا عطف الوصية الثانية على الأولى، فقال: لفلان عشرة، ولفلان ذلك بعينه، عشرون، قال: ولو قال: لفلان عشرة، لفلان عشرون بغير واو، لم يكن له إلا العشرون. وأما إن كان ذلك في كتابين، فإنما له الأكثر من الوصيتين. وقال مطرف: سمعت مالكا فرق بين أن تكون الوصيتان في كتاب واحد، أو في كتابين، وذلك عندي سواء والدينار والدرهم عند مطرف وابن الماجشون في الوصية نوع واحد، على التفصيل الذي ذكره من الفرق بين أن تكون الوصية الآخرة هي الأقل أو الأكثر وبالله التوفيق.

(13/16)


[مسألة: أوصى إلى رجل بوصية ليس فيها إلا شاهد واحد]
مسألة وسئل عمن أوصى إلى رجل بوصية ليس فيها إلا شاهد واحد، أيحلف الوصي مع الشاهد ويثبت ذلك له؟ فقال: لا يحلف، ولا يثبت ذلك له، إلا أن يرى ذلك السلطان في رضاه، أو من ينظر في ذلك فيوليه إياه، وليس يحلف الذي أوصي إليه مع الشاهد، وليس ذلك مثل الذي يوصي له بالشيء له عليه شاهد واحد؛ لأن هذا يحلف على شيء هو له.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أن من أوصى إلى رجل فلا يستحق الموصى إليه الإيصاء باليمين مع الشاهد، إذ ليس بمال يحلف عليه مع شاهده ويأخذه، كما أن الوكالة لا تثبت باليمين مع الشاهد، ولا شهادة الشاهد، لو شهد لرجل شاهد على شهادته شاهد، لم يصح للمشهود له أن يحلف مع الشاهد على شهادة الشاهد، فيستحق بذلك شهادته، ويثبت الإيصاء على تنفيذ الوصية بالمال بشاهد وامرأتين، كما تثبت بذلك الوكالة على المال، وكذلك إذ شهد شاهد وامرأتان على شهادة شاهد بمال، جاز ذلك على مذهب ابن القاسم، فهذه الثلاثة أشياء، تجوز فيها شهادة النساء، ولا يجوز فيها اليمين مع الشاهد، إذ ليس كل موضع تجور فيه شهادة النساء يجوز فيه اليمين مع الشاهد، وأما كل موضع يجوز فيه اليمين مع الشاهد، فإنه يجوز فيه شهادة النساء. وسحنون يقول. إن كل موضع يجوز فيه شهادة النساء، يجوز فيه شاهد ويمين؛ لأن من أصله، أن شهادة النساء لا تجوز إلا فيما يجوز فيه شاهد ويمين، خلاف مذهب ابن القاسم، ولو شهد الوصي الصغير أن الميت أوصى له بدنانير لم تقبل شهادته؛ لأنه يتهم على توقيعهما له بيده حتى يبلغ فيحلف، قاله محمد بن المواز. فإن خفي له الأمر، فليدفعها إليه. قاله أشهب. وهو صحيح وبالله التوفيق.

(13/17)


[مسألة: دخل عليه قوم فدعا بوصية قد كتبها فقال اشهدوا على ما فيها]
مسألة وسئل عمن دخل عليه قوم فدعا بوصية قد كتبها قبل ذلك بأيام من عند أهله، فقال: اشهدوا أن ما فيها حق وأنها وصيتي، أيقولون: اقرأها فإنها قد كانت بيد أهلك؟ فخاف أن يكونوا زادوا فيها. قال: ليس ذلك عليهم، وعليهم أن يشهدوا، من الناس من ليس له في البيت أحد، ومنهم من يكون له صندوق يحمل فيه كتبه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو بين، إذ هو أعرف بصحة ما يشهد به على نفسه، وبالله التوفيق.

[مسألة: أوصى لرجل بثلاثين دينارا ولرجل بثلث ثلثه وللآخر بما بقي من الثلث]
مسألة وسئل عمن أوصى لرجل بثلاثين دينارا ولرجل بثلث ثلثه، وللآخر بما بقي من الثلث، فكان مال المتوفى دينا على الناس، فاستأجر الموصى إليه على تقاضي ذلك الدين بعشرة دنانير فأراد أن يأخذ من وصايا أهل الوصايا بقدر الذي يصيب الذين أوصى لهم به من إجازة التقاضي. قال: إن كان في الثلث فضل، فإنما تلك الأجرة من ذلك الفضل، وليس على الموصى لهم شيء، قال سحنون قال ابن نافع: وإن لم يكن في ذلك فضل كان ذلك عليهم في حظوظهم.
وسئل عمن أوصى لرجل بثلاثين دينارا، ولرجل بثلث الثلث، ولرجل بما بقي من الثلث، وترك مالا يكون ثلثه تسعين دينارا، والمال دين على الناس، فاستؤجر على تقاضيه بعشرة دنانير،

(13/18)


أيدخل على أهل الوصايا من العشرة شيء أو لا شيء عليه؟ فقال يخرج العشرة التي استؤجر بها من رأس المال، ثم تكون وصية الميت فيما بقي من ماله بعد العشرة، يعطى الذي أوصى له الميت بالثلاثين الثلاثين، ويعطى الذي أوصى له بثلث ثلث، ثلث المال بعد إخراج العشرة التي استؤجر بها على تقاضيه، ويعطى الذي أوصى له بما بقي له من الثلث ما بقي من الثلث، إنما يدخل نقصان تلك العشرة على الذي أوصى له بثلث الثلث، وعلى الذي أوصى له بما بقي من الثلث: إن ارتفع المال كثر الثلث، وإن انخفض المال قل الثلث. قال سحنون: وقال ابن نافع: العشرة تدخل عليهم كلهم في حظوظهم، على صاحب الثلاثين "وعلى الموصى له بثلث الثلث، وهما سواء في ذلك بمنزلة واحدة، وإنما هذا الذي ذكر قول مالك قديم، حين كان يقول: أرى أن تبدأ التسمية على الأجزاء، وقول مالك إن كان من أوصى لرجل بثلث ولآخر بثلث الثلث، ولآخر بعشرة فإن هؤلاء كلهم يتعاولون.
قال محمد بن رشد: قوله في المسألة الأولى: إن كان فيه فضل فإنما تلك الأجرة من ذلك الفضل، وليس على الموصى لهم شيء، معناه عندي: إن كان لم يوص ببقية الثلث لأحد، وكان فيه فضل عن الوصايا، مثل أن يوصي الرجل بعشرة دنانير، ولآخر بثلث الثلث، ويترك المتوفى تسعين دينارا دينا فيستأجر على تقاضيها بتسعة دنانير بالثلث ثلاثون، يكون منه للموصى له ثلث الثلث، عشرة دنانير، وللموصى له بالعشرة دنانير، عشرة دنانير، وتكون الأجرة من العشرة الفاضلة من الثلث، ولا خلاف عندي في هذا الوجه بين مالك وابن نافع. وأما إن لم يكن في الثلث فضل، مثل أن يكون المال خمسة وأربعين؛ لأنه إذا أخذ الموصى له بالعشرة عشرة، والموصى له بثلث الثلث خمسة، نفذ جميع الثلث، فهنا يدخل الخلاف

(13/19)


الذي ذكره بين مالك وابن نافع، فذهب مالك إلى أنه يخرج الأجرة من رأس المال، فإن كانت في التمثيل خمسة عشر، يبقى منه ثلاثون، ثلثه عشرة يكون للموصى بالعشرة على القول بأنه تبدأ التسمية على الجزء، ويتحاصان فيها على القول بأنه لا تبدأ التسمية على الجزء، فتكون العشرة بينهما بنصفين؛ لأن ثلث الثلث عشرة أيضا. وذهب ابن نافع إلى أن تكون مفضوضة على المال كله، فيكون على كل واحد من الموصى لهم ما ينوبه منها، فيأخذ الموصى له بثلث الثلث، خمسة دنانير، والموصى له بالعشرة عشرة فإن كانت الأجرة في التمثيل تسعة دنانير، على الورثة ثلثها، ثلاثة دنانير، وعلى الموصى لهما على قدر وصاياهما فيكون منها على الموصى له بعشرة دنانير ديناران، وعلى الموصى له بثلث الثلث دينار، فيبقى للموصى له بثلث الثلث أربعة دنانير، وللموصى له بالعشرة دنانير، ثمانية دنانير، وللورثة أربعة وعشرون. وكذلك يختلف مالك وابن نافع أيضا إذا أوصى لرجل بعدد مسمى، ولآخر بجزء من الثلث، ولآخر بما بقي من الثلث، والمال دين، فاستأجر على تقاضيه، فذهب ابن نافع إلى أن الأجرة تكون مفضوضة على جميع المال، فيكون على كل واحد من الموصى لهم ما يجب عليه منها، وذهب مالك إلى أنها تسقط من رأس المال فتكون الوصايا على حالها في ثلث ما بقي منه. مثال ذلك، أن يكون الميت أوصى لرجل بعشرين دينارا ولرجل بثلث الثلث، ولآخر بما بقي من الثلث، والمال مائة وخمسون دينارا، فاستؤجر على تقاضيه بخمسة عشر دينارا فذهب مالك إلى أنه يخرج الأجرة من جميع المال، يبقى مائة وخمسة وثلاثون، الثلث من ذلك خمسة وأربعون، يكون للموصى له بعشرين عشرون، وللموصى له بثلث الثلث خمسة عشر، وللموصى له ببقية الثلث ما بقي، وذلك عشرة. وذهب ابن نافع، إلى أن الأجرة تكون مفضوضة على جميع المال، فيكون على الورثة ثلثاها عشرة، وعلى الموصى لهم ثلثها خمسة مفضوضة عليهم، على قدر وصاياهم وهي عشرون للموصى له بعشرين، سبعة عشر إلا ثلثا للموصى له

(13/20)


بثلث الثلث، وثلاثة عشر وثلث، للموصى له ببقية الثلث؛ لأن جميع المال على ما نزلناه مائة وخمسون، ثلثه خمسون، فلا يأتي قول مالك وابن نافع في هذه المسألة على اختلاف قول مالك في تبدئة التسمية على الجزء؛ لأنه خارج عن ذلك الأصل، وإنما يأتي قول كل واحد منهما على أصله الذي ذكرته عنه بقوله أراه سحنون، وإنما هذا الذي ذكر قول مالك قديم، حين كان يقول: أرى أن تبدأ التسمية على الأجزاء إلى آخر قوله لا يصح بوجه. ألا ترى أن الخلاف في المسألة بينهما على أصليهما ضاق الثلث عن التسمية والجزء، أو لم يضق عنهما، وهو إذا لا اختلاف في أن كل واحد منهما يأخذ وصيته كاملة، وإذا ضاق عنهما جميعا يدخل اختلاف قول مالك في تبدئة التسمية على الجزء في قول كل واحد منهما. وقد رأيت لابن دحون أنه قال: معنى قوله: إن كان في الثلث فضل، أي إن بقي للموصى له ببقية الثلث فضل، كان ذلك منه. قال: فالضرر يدخل عليه وحده في هذا القول، مثل آن يكون الثلث ستين، فيكون لصاحب ثلث الثلث عشرون ولصاحب الثلاثين ثلاثون وتذهب العشرة الباقية في أجرة من يقاضي إن كان لزم الثلث من الأجرة عشرة، وإن كان لزمه منها أقل من عشرة، كان الباقي للموصى له ببقية الثلث، وإن كان لزمه منها أكثر من عشرة، كان الزائد على العشرة على الموصى له بثلاثين وعلى الموصى له بثلث الثلث على قدر وصاياهم بالمحاصة، فينقض كل واحد منهما على قدر ما له. هذا معنى قوله باختصار كثير من لفظه، فيأتي في المسألة على ما حمل المسألة عليه إذا كان في الثلث فضل للموصى له ببقية الثلث ثلاثة أقوال: أحدها: أن الضرر يدخل عليه وحده. والثاني: أن الضرر يدخل عليه وعلى الموصى له بالجزء، دون الموصى له بالتسمية، وهو قول مالك. والثالث: أن الضرر يدخل على جميعهم، وهو قول ابن نافع، والصواب على ما تأولنا عليه المسألة، وهو تأويل ظاهر في المعنى، يدل عليه قوله: وليس على الموصى لهم شيء، إذ لم يقل: وليس على الموصى لهم سواه شيء؛ لأنه منهم، فلو أراد أن

(13/21)


ذلك يكون عليهم دونهم لاستثناه، أنه ليس في ذلك إلا قولان: أحدهما: أن الضرر على الموصى له بالجزء من الثلث، وعلى الموصى له بباقيه، وهو قول مالك، والثاني: أن الضرر يدخل على جميعهم، وهو قول ابن نافع، وبالله التوفيق.

[مسألة: أوصى فقال رقيقي وثيابي لفلان ثم مات وقد هلك بعض رقيقه]
مسألة وسئل عمن أوصى فقال رقيقي وثيابي لفلان، ثم مات وقد هلك بعض رقيقه، وخلق بعض ثيابه، واستفاد رقيقا غير رقيقه، وثيابا غير ثيابه، فقال: للموصى له رقيقه الذين استفادهم وثيابه وما يشبه أن يوصى بسدس ماله، فله سدس ماله يوم يموت.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في أول الرسم الذي بعده، وفي آخر رسم الوصايا الثاني، وفي رسم باع شاة من سماع يحيى في غيرما موضع، أنه إذا عم في وصيته، فقال ثيابي أو رقيقي أو غنمي أو دوابي وما أشبه ذلك لفلان، أو صدقة على المساكين، أو أحرار في الرقيق وما أشبه ذلك، فاستبدل بهم، أو استفاد غيرهم إليهم، أن وصيته تنفذ فيمن كان من ملكه يوم مات مما سمى، كانوا هم الذين كانوا في ملكه يوم أوصى أو غيرهم، أو هم وغيرهم؛ بخلاف إذا عينهم أو عين واحدا منهم، فإن وصيته لا تتعداهم إن عينهم أو عين واحدا منهم. والعبد وما أشبهه من العروض والحيوان تتعين بالإشارة إليه باتفاق، فإذا قال الرجل. إن مت فهذا العبد لفلان، أو هذا الدرع لفلان وما أشبهه، فهلك واستفاد غيره مكانه، أو استبدل به سواه، فلا تنتقل الوصية إليه باتفاق، فإن قال: عبدي لفلان، ولا عبد له سواه، أو درعي لفلان، ولا درع له سواه، أو سيفي لفلان، ولا سيف له سواه، يتخرج ذلك على قولين: أحدهما: أنه تعين بإضافته إليه، ولا تنتقل الوصية إلى غيره إن استبدل به سواه، والثاني: أنه لا يتعين بذلك، وتتنقل الوصية إلى غيره إن استبدل سواه، على اختلافهم فيمن حلف أن لا يستخدم عبد فلان،

(13/22)


فاستخدمه بعد أن أعتق، أو بعد أن خرج عن ملك فلان، وما أشبه ذلك. ومما يبين دخول الاختلاف في ذلك، أن ابن أبي زيد قد حكى في النوادر من رواية أشهب عن مالك فيمن أوصى لأخيه بسيفه، أو بدرعه، فيهلك ذلك ثم يخلفه، فهو للموصى له، كما لو أوصى له بحائط فتنكسر منه النخلات ويغرس فيه رديا أو نبت فيه رديئي أو يزرع فيه زرعا فذلك له. قال: وهذا الذي أراد الميت، فأما لو أوصى له بعبد فمات العبد، فأخلف غيره، فبخلاف ذلك، وظاهر هذه الرواية، أنه فرق في ذلك بين العبد وبين السيف والدرع، ولا فرق في القياس بين ذلك، فيتحصل في ذلك على هذا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يتعين بذلك العبد والدرع، والثاني: أنه لا يتعين بذلك واحد منهما. والثالث: أنه يتعين به العبد، ولا يتعين به الدرع والسيف، وما أشبهه، وكذلك اختلف أيضا هل يتعين العبد في هذا بالتسمية والصفة أم لا؟ فذهب ابن القاسم إلى أنه يتعين بذلك. قال في رسم باع شاة من سماع عيسى بعد هذا: أما من قال: رقيقي أحرار، فباعهم واشترى غيرهم، فإنهم يعتقون، ومن قال: عبدي النوبي حر أو الصقلبي فباع ذلك كله، واشترى عبدا نوبيا أو عبدا صقلبيا، لم يعتق واحد منهم. ومما بيّن ذلك لك في الذي قال: رقيقي أحرار أنهم يعتقون إذا باعهم واشترى غيرهم أنه لو لم يبعهم واشترى غيرهم معهم عتقوا كلهم، وإن الذي قال: عبدي النوبي أو عبدي الصقلبي أو عبدي ثم اشترى عبدا غير عبده، أو عبدا نوبيا أو صقلبيا لم يعتق أولئك الذين أراد، وكذلك إذا باعهم، فإنما العتق فيهم. وقال أشهب: يلزمه العتق في جميع هذا، وكذلك لو قال: عبدي ميمون حر، ثم باعه واشترى عبدا اسمه فرج لم يجب عليه عتقه، فإن سماه ميمونا كاسمه الأول، وجب عليه عتقه. ولو قال عبدي الأسود حر فباعه واشترى أبيض، لم يعتق عليه، فإن اشترى أسود مثل الأول، أعتق. هذا مذهب أشهب. ولو قال: أعبدي المسلمون أحرار بعد موتي، فأسلموا لم يعتقوا لأنه لم يردهم، ولو اشترى مسلمين، عتق من كان عنده. وبالله التوفيق.

(13/23)


[: امرأة أوصت بثيابها لإنسان فذهب بعض ثيابها]
وله من كتاب الوصايا قال أشهب: وسمعته يسأل عن امرأة أوصت بثيابها لإنسان، فذهب بعض ثيابها، واستخلفت ثيابا غيرها، ثم ماتت، فقال: أما ما استخلفت فهو للذي أوصت له، فثيابها كلها له، وكذلك لو قالت: متاع بيتي لفلان، فتنكسر الصحفة، ويذهب الشيء، ويخلف مكانه، فأرى ذلك كله له، أو تقول: ثيابي لفلان، فما أخلقت فهو له، وذلك الذي أرادت الميتة. وعسى أن يكون إنما كرهت أن تفتش ثيابها أو يتناولها عدوها. وكذلك الذي يقول: سلاحي لابني، فيذهب سيفه ودرعه، ويشتري بسيفه آخر، ودرعا آخر، فذلك له. ومثل ذلك الذي يقول: حائطي لفلان، فتكسر النخلات، وتموت، ويغرس فيه رديا وينبت فيه قصب، ويزرع فيه زرعا فذلك له. وهو الذي أراد الميت، فقيل له: أرأيت الذي يقول: غلامي لفلان، فيموت الغلام، ويستخلف غيره؟ فقال: العبيد ليسوا مثل هذا.
قال محمد بن رشد: قوله: وكذلك الذي يقول: سلاحي لابني فيذهب سيفه ودرعه، ويشتري سيفا آخر ودرعا آخر فذلك له، معناه: فذلك له بالوصية إن أجازه الورثة؛ لأن الوصية لوارث لا تجوز، إلا أن يجوزها الورثة.
وقد مضى الكلام على هذه المسألة فوق هذا في آخر الرسم الذي قبل هذا فلا معنى لإعادته. وبالله التوفيق.

(13/24)


[مسألة: امرأة كانت أوصت أن تباع وصيفة لها صبية ممن أحبت وللصبية أم]
مسألة وسئل عن امرأة كانت أوصت أن تباع وصيفة لها صبية ممن أحبت، وللصبية أم، فقال: لا يفرق بينها وبين أمها، فقيل له: إن أمها قد أحبت ذلك، قال: إن كانت أحبت ذلك أمها، فإن ذلك جائز إذا كان على وجه النظر للصبية، يضعها عند من وقعت رحمته عليها ومن نظر أنه يرفق بها ويرحمها، فهذا يجوز إذا كان على هداه.
قال محمد بن رشد: اختلف في المنع من التفرقة، هل هي من حق الأم أو من حق الولد؟ فذهب ابن القاسم إلى أن ذلك من حق الولد، فلا يفرق بينهما وإن رضيت الأم بالتفرقة، وهو معنى ما في المدونة وقول ابن نافع في المجموعة، قال: لا يفرق بينهما وإن رضيت الأم، ويباع معها، ولا يوضع من ثمنها، كما يوضع من ثمن الأمة على ظواهر الأثر في النهي عن التفرقة مجملا. وقال ابن عبد الحكم في كتابه: إن التفرقة بينهما جائزة إذا رضيت الأم، وهو قول مالك في هذه الرواية وقد قيل: إن ذلك دليل ما في كتاب التجارة إلى أرض الحرب من المدونة فانظر في ذلك، واختلف أيضا في حد التفرقة، فذهب ابن القاسم في روايته عن مالك، أن حدها الإثغار. روى ابن غانم عن مالك، أن حدها الاحتلام في الرجال، والمحيض في النساء. وقال ابن عبد الحكم وغيره: لا يفرق بينهما أبدا وإن ضرب على اللحية على ظاهر قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا توله والدة على ولدها، ولا يفرق بين الوالدة وولدها» . وبالله التوفيق.

(13/25)


[مسألة: أوصت فقالت ما في بيتي لمولاتي فلانة فقالت المولاة ثياب ظهرها لي]
مسألة قال وسمعته يسأل عن امرأة أوصت فقالت: ما في بيتي لمولاتي فلانة، فقالت المولاة ثياب ظهرها لي، فقال: إذا كانت المرأة لا ولد لها وكانت مولاتها نفيسة عندها، ولم تكن ثيابها الثياب الرائعة التي يظن بها أنها تصونها عن مثلها، ولم تقل: متاع بيتي، إنما قالت: ما في بيتي رأيت ذلك لها، وعسى أن تكون أرادت أن تكف ثيابها. فقيل له: أرأيت إن كان لها ثياب مرهونة؟ فقال: إنما قالت: ما في بيتي فأما أن يكون لها ثياب عند أخت لها أو مرهونة، فلا. فقيل له: أرأيت ما ماتت وهو عليها من ثيابها، وماتت في البيت، أتراها مع ثيابها التي في البيت؟ فقال: أرى لها، وإني لأحسب الثياب التي عنها ورثتها دنية، وأن الثياب التي في البيت أجود منها، وما أراها كانت تعطيها ثيابا وتمنعها هذه. وقد ذكر في غير هذه المسألة ما يشبه هذا القول، ولم تذكر نفيسة ولا غيرها، ولم تذكر دناءة الثياب ولا رفعتها، ولكن هذا مرسل إلا أنه سأل فقال: من ورثتها؟ فقيل: لم يرثها ولد.
قال محمد بن رشد: هذا كله بيِّن على ما قاله؛ لأن ما لم ينص الموصي عليه نصا جليا وإنما يرجع فيه إلى الظاهر، فيستدل فيه على إرادة الموصي بالأشياء التي سأل عنها وشبهها مما يغلب على الظن بها إرادة الموصي؛ لأن الأصل في الأحكام الظاهرة غلبة الظنون، إذ لا يقطع على مغيبها. ولذلك قال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار» . وبالله التوفيق.

(13/26)


[مسألة: أوصى لرجل بمائة درهم فقال أعطوه إياه وخذوا منه خمسة دنانير لي عليه]
مسألة قال وسمعته يسأل عمن أوصى لرجل بمائة درهم، فقال: أعطوه إياه وخذوا منه خمسة دنانير لي عليه، فقال الموصى له: ما له علي شيء، فأطرق فيها ثم قال: ما أراه إعطاه المائة الدرهم إلا على هذا، فلينظر، فإن كان في المائة الدرهم فضل عن الخمسة الدنانير أعطاها الموصى له في رأي، وإن كانت الخمسة أكثر من المائة الدرهم، أحلف فيما فضل في رأي، وإن لم يحلف غرمها، فقيل له: يحلف وإن لم تكن بينهما مخالطة، قال: وإن لم تكن بينهما مخالطة ليس المخالطة ها هنا شيئا.
قال محمد بن رشد: قوله: إن المدعى عليه يحلف من غير مخالطة، صحيح؛ لأن الورثة لا يعلمون من يشهد لهم بالخلطة، وهذه المسألة هي إحدى الخمسة المسائل التي يجب اليمين فيها دون خلطة.
وقد مضى القول فيها في سماع أصبغ من كتاب الأقضية، وسواء ادعى الورثة معرفة الدين قبله، أو قالوا لا ندري إلا ما ادعاه موروثنا. وأما قوله: فإن لم يحلف غرمها، فمعناه، بعد أيمان الورثة إن ادعوا معرفة الدين قبله باتفاق، وإن لم يدعوا معرفتهم إياه قبله، فعلى اختلاف، والمسألة متكررة في هذا السماع من كتاب المديان والتفليس. وبالله التوفيق.

(13/27)


[مسألة: أوصت في مرضها إن حدث به حدث قبل أن أغير وصيتي فلولد فلان عشرة دنانير]
مسألة قال وسمعته يسأل عن امرأة أوصت في مرض لها إن حدث به حدث قبل أن أغير وصيتي، فلولد فلان عشرة دنانير، لكل إنسان منهم، فولد لذلك الرجل قبل موتها ولد، ومات ابنان من الذين كانوا له يوم أوصت، فقال: أما اللذان ماتا فليس لهما شيء، وأما من ولد له قبل أن تموت فلهم عشره عشرة، ممن ولد قبل موتها ومن كان مولودا يوم أوصت لهم.
قال محمد بن رشد: حكم لولد فلان الموصى لهم في هذه المسألة بحكم معينين، فقال: إن الوصية تجب لكل من كان منهم حيا يوم ماتت الموصية، وإن كان ولد بعد الوصية إذا كان مولودا قبل موت "الموصية؛ لأن الوصية إنما تجب لهم بموتها، وذلك بين في هذه المسألة، لمساواتها بينهم فيما أوصت به لكل واحد منهم، فليست بمعارضة لمسألة رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم، ولا يدخل فيها الاختلاف منها، ولا من مسألة الوصايا من المدونة في الذي يوصي لأخواله وأولاده. قال أشهب في النوادر: وسواء عرفت عددهم أو لم تعرفهم قال: ولو سمتهم لم يكن لمن ولد قبل موتها شيء. وبالله التوفيق.

[مسألة: أوصى بجميع ماله]
مسألة وسمعته يقول لما توفي إسماعيل بن عبيد الله المقري تصدق بكل شيء هلك عنه، فرفع ذلك إلى هشام بن عبد الملك، فأجاز ثلثه ورد ثلثيه.
قال محمد بن رشد: إنه لم يكن له وارث، ولذلك أوصى بجميع ماله. ولقد أجاز ذلك له جماعة من العلماء إذا لم يكن له وارث، وهو مذهب أهل العراق، ولا يجوز ذلك على مذهب مالك وأصحابه. فما قضى به هشام

(13/28)


من إجازة الثلث ورد الثلثين صحيح على مذهب مالك. وقد راعى مالك هذا الاختلاف فيمن أقر بوارث، فقال: إنه بإقراره أنه وارثه، وإن لم يثبت له نسب بإقراره له. وسحنون يرى بيت المال كالسبب القائم، فلا يجوز له إقراره بوارث، وإن لم يكن له وارث معروف. وهو القياس على مذهب مالك في أن وصيته لا تجوز بأكثر من ثلث ماله. وبالله التوفيق.

[مسألة: أوصى إلى رجل بوصايا فأراد الورثة أن يكشفوه عنه]
مسألة وسمعته يسأل عمن أوصى إلى رجل بوصايا من عتق وصدقة وعين وغير ذلك، فأراد الورثة أن يكشفوه عنه، وأن يطلعهم عليه، فقال: أما الصدقة فليس لهم أن يكشفوه عنها إذا كان غير وارث، إلا أن يكون سفيها معلنا مارقا، فيكشف عن ذلك، ولهم أن يكشفوه، وإن كان غير وارث ولا سفيه كشف عن العتق؛ لأن ذلك يعقد لهم الولاء، فأما إذا كان الموصى إليه سفيها معلنا، فأرى أن يكشف عن ذلك كله، فإن من له الأوصياء من يتقبض على الوصية فلا ينفذ منها شيئا، قال: ولا أرى إن كان الموصى إليه محتاجا أن يأخذ من ذلك شيئا.
قال محمد بن رشد: هذا من بين قوله: إن الموصى يكشف عما جعل إليه من تنفيذ الوصية بالصدقة وغير ذلك مما لا يبقى فيه منفعة للورثة إذا كان سفيها معلنا مارقا يبين ما تقدم من قوله في أول سماع ابن القاسم في أنه ليس للوارث أن يقوم معه في تنفيذ الوصية، إلا أن يكون فيما بقي له منفعة كالعتق وشبهه. وقوله: إنه يكشف عن ذلك إذا كان سفيها معلنا مارقا، معناه: أنه يكلف إقامة البينة على تنفيذ الوصية، فإن لم يأت بينة على ذلك

(13/29)


وتبين تقبضه عليها واستهضامه لها، ضمن إياها، وإن لم يكن بهذه الصفة من الاشتهار بالسفه والمروق، واتهم، استحلف، فإن نكل عن اليمين ضمن، وإن كان من أهل العدل والثقة لم تلحقه يمين، وهو محمول على الثقة والعدالة حتى يعرف خلاف ذلك من حاله, وبالله التوفيق.

[مسألة: الرجل يوصي للرجل من ثمر أرض له بعينها]
مسألة وسألته عن الرجل يوصي للرجل من ثمر أرض له بعينها بثلاثة آصع له في كل سنة ثلاث سنين، فلم تخرج في سنة من ذلك شيئا، أو لم يخرج إلا أقل من ثلاثة آصع، أترى أن بعض ما خسر تلك السنة من غلة السنة الثانية؟ فقال لي: إن أوصى أن يعطي رجل من غلة أرض له بعينها ثلاثة آصع في كل سنة، فأعطي في سنة ثلاثة آصع، فلما كانت السنة الثانية لم تخرج الأرض إلا صاعين، أو لم تخرج شيئا فأرى في السنة التي تأتي بعد أن يقضي ما نقص من الثلاثة آصع في السنة الماضية، إن كان في ثمر السنة التي بعد أكثر من الثلاثة آصع التي أوصى له بها، يعطى الثلاثة آصع من تلك السنة، ويعطى مما فضل من ثمرها ما خسر عليه من الثلاثة آصع التي أوصى له بها في السنة التي قبل هذه، وكذلك إذا مضت سنة أو سنتان، لا تخرج الأرض شيئا فإنه يوفى من تلك السنة الثانية تسعة آصع، للستين اللتين لم يخرجا شيئا ستة آصع، ولتلك السنة ثلاثة آصع، إن كان في ثمر تلك السنة ما يوفيه، فإن مضت السنون كلها التي سمى له أنه يعطى من غلتها، ولم يأخذ شيئا ولم يخرج الثمر شيئا، أو أخذ وفضل لم أر له شيئا. قلت له: أرأيت إن أخرجت الأرض أكثر مما أوصى له به الميت في تلك السنة، فيقول الذي أوصي له، أوفوني ما أوصى لي به في هذا العام، واحبسوا

(13/30)


لي بقية ثمره هذا العام؛ لأني أخاف ألا تخرج الأرض فيما أستقبل شيئا. قال: أرى إذا أوصى في كل سنة بثلاثة آصع، أخرجت سنة واحدة عشرين صاعا أو مائة صاع، فقال: احبسوا لي المائة كلها حتى أستوفي وصيتي مخافة أن لا تثمر فيما بقي، فأرى ذلك يختلف في أن يكون أوصى له بثلاثة آصع، فأخرجت مائة، فيريد حبسها فتهلك، فلا أرى ذلك، ولكن يحبس له بقدر في قلة ما أوصى له به وكثرة ما أخرج الحائط، وفي كثرة ما أوصى له به وقلة ما أخرج الحائط، وذلك يختلف أيضا في الحوائط فيما يخاف منهما ولا يؤمن، وفيما لا يخاف منهما قد عرف وجه ثمرها، ولا ينقص ولا يخلف، فإن كان في الحائط المأمون الذي لا يكاد يخلف، فلا أرى أن يحبس له من ذلك شيء، وإنما ينظر في ذلك إلى قدر ما يوصى له به، وعلى قدر الخوف على الثمر والرجا له.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إنه إذا أوصى له بعدد مسمى من ثمر حائط في كل عام سنين مسماة أو حياته، إنه يجبر له ما نقص من عام من العام الذي يليه ما لم تنقص السنون التي سماها، بخلاف إذا أوصى له بالعدد المسمى من ثمرة كل سنة سنين مسماة أيضا أو حياته، فلا يجبر له مما نقص من العام الذي بعده. ومثله في المدونة وفيما يأتي في هذا الرسم، وفي رسم الوصايا الذي فيه الحج والزكاة. وقوله. إذا أخرجت الأرض في سنة أكثر مما أوصى له به فيها، فسأل أن توقف له البقية مخافة النقصان، إن ذلك على الاجتهاد في كثرة ما أخرج الحائط وقلة ما أوصى له به، وفي قلة ما أخرج الحائط وكثرة ما أوصى له به، وفي أمن الحائط والخوف عليه، صحيح بين، ولا إشكال فيه، واختلف إن أراد الورثة أن يأخذوا الفضل ولا يوقفوه، ويضمنوا له النقصان، فقيل: ذلك لهم، وهو الذي يأتي على ظاهر ما في سماع سحنون لابن القاسم، وقيل. ليس ذلك لهم إلا برضاه، وهو قول

(13/31)


مالك في رسم الوصية الذي فيه الحج والزكاة من سماع أشهب هذا. ويحتمل أن لا يحمل ذلك على أنه اختلاف من القول، فيكون معنى قول ابن القاسم في سماع سحنون: إذا كانوا أملياء يؤمن العدم عليهم في غالب الحال. ومعنى قول مالك في سماع أشهب: إذا لم يكونوا أملياء، أو كانوا أملياء يخاف عليهم العدم. والصواب أن يفسر ما في سماع سحنون لقول مالك في هذه الرواية التي ذكرناها لأنه قال فيها: لا تريد ضمانكم ولا اتباعكم، فيقال: معنى ما في سماع سحنون إذا رضي الموصى لهم بضمانهم، ولم يتكلم في هذه الرواية التي ذكرناها على توقيف الحائط مدة الثلاثة أعوام، التي أوصى في كل عام منها بالآصع من ثمرها، وذلك من حق الموصى له إذا حمل الحائط الثلث، أو أجاز ذلك الورثة. وهنا تكلم في سماع سحنون فقال: إن ضمن الورثة ذلك، وإلا أوفقوا العبد والحائط، ومعنى ذلك، إذا حمله الثلث، ورضي الموصى لهم بضمان الورثة. وقد وقع في سماع سحنون أنه يجبر ما نقص في العام من العام الذي بعده، إذا أوصى له بالعدد المسمى من غلة كل سنة، وهو لفظ وقع على غير تحصيل، فلا يقال فيه: إنه اختلاف، من القول: وبالله التوفيق.

[مسألة: يوصي بثلث ماله للفقراء والمساكين]
مسألة قال وسمعته يسأل ابن غانم عن الرجل يوصي بثلث ماله للفقراء والمساكين، وله مال ودار ومنزل، فيقول أهل الميراث: نريد أن نقوم ذلك قيمة، فنحسب عليها ثمن الدار والمنزل، فإن لنا أعداء، وقد علموا ألا نترك دارنا ومنزلنا، فهم سيزيدون عليها ضررا بنا، فقال: اكتب إليه إنما أوصى لهم بثلث ماله، فانقطع لهم بثلث ماله ذلك كله ثلث الدار، وثلث المكان، وثلث كل شيء، ولا يباع ذلك عليهم ولا يقام، وزاد في الكتاب الذي فيه الوصايا والحج والزكاة، قال مالك: لأنهم نزلوا بمنزلة الشركاء في تلك الدار

(13/32)


والمنزل، وليس يكون بين الشركاء في الدور والأرضين أمد يجبرون عليه للاقتسام.
قال محمد بن رشد: أنزل مالك في هذه الرواية الموصى لهم بثلث من الفقراء والمساكين بمنزلة الأشراك في جميع مال الميت، فرأى من حقهم أن يقسموا ما ينقسم فيبيعوا نصيبهم منه مقسوما إن دعوا إلى ذلك، وزعموا أن ذلك أوفر لحظهم، وأن يباع ما لا يقسم، ولا يقوم شيء من ذلك إلا برضاهم. قال ابن القاسم في رسم الجواب من سماع عيسى بعد هذا في الذي يوصي بعتق ووصايا وله مدبرون، فيدعون إلى البيع، ويريد الورثة التقويم، إن حق المدبرين وأهل الوصايا ما دعوا إليه من البيع، يريد: إلا أن يحب الورثة أخذه بما يعطى فيه من الثمن، فيكون ذلك لهم، أو لمن شاء منهم، ولا يكون بمنزلة الأشراك في قسمة ما لا ينقسم من ذلك إن دعوا إلى قسمه، فقالوا: إن بيع حظنا مقسوما أوفر لنا، وروى ذلك أيضا أصبغ عنه في الرسم بعينه وقال هو من رأيه: إن التقويم من حق الورثة إذا دعوا إليه وكرهوا البيع، كان ذلك مما ينقسم أو مما لا ينقسم، وهو قول ثالث في المسألة. وروى علي بن زناد عن مالك أنه ينظر إلى الأرفق بالمساكين، من المقاسمة أو البيع في المزايدة فيفعل ذلك، وهو قول رابع في المسألة. وقال محمد بن المواز: أما إن كانت وصيته فيما لا ينقسم مع غيره كالمدبر والوصية بالعتق أو بعبد أو بشيء بعينه، فالقيمة أعدل بينهم وبين الورثة، وإن كان ما قال ابن القاسم أقيس. قال: وأما إن أوصى بثلثه، فالقسم أولى من القيمة ومن البيع، ويقسم ما ينقسم، وأما لا ينقسم فالبيع أولى إلا أن يتراضوا على التقويم. وتفرقة ابن المواز هذه حسنة، وهو قول خامس في المسألة. والاختلاف في أنه إذا أوصى بثلثه لرجل بعينه، أنه بمنزلة وارث من

(13/33)


الورثة، شريك منهم بالثلث في جميع مال الميت، يكون من حقه أن يقسم ما ينقسم، وأما ما لا ينقسم فمن شاء منهم أن يأخذه بما يعطى فيه، فإن تشاحوا ذلك تقاوموه فيما بينهم. هذا تحصيل القول في هذه المسألة وبالله التوفيق.

[مسألة: أوصى بيتاماه إلى رجل وبأخواته إلى رجل]
مسألة قال وسمعت مالكا يسأل عن رجل توفى وترك يتامى كان يليهم وترك ولدا له وأخوات، فأوصى بيتاماه إلى رجل وبأخواته إلى رجل، وسمى للولد إنسانا، وله بنت كبيرة، بنت أربعين سنة أو خمسين سنة، لم يسمها باسمها مع ولده حين سماهم ولم يذكر أموال ولده حين سماهم، حتى إذا كان في آخر الوصية قال: وأموال ولدي كلهم إلى فلان، يعني الرجل الذي أوصى إليه بولده الذين سماهم، فقالت البنت: أنا الآن في ولايته أم لا؟ فقال: إن كانت أهلا لأن تلي نفسها فذلك إليها، تعطى مالها ويكون بيدها، وإن كانت على غير ذلك، كان مالها بيد الموصى إليه ... ورب بنت خمسين سنة، لا تلي نفسها. وأما وصيته بيتاماه إلى رجل، فذلك إذا أراد الخير.
قال محمد بن رشد: قوله: وترك يتامى كان يليهم، معناه: بإيصاء أبيهم بهم إليه، وكذلك قوله في أخواته، معناه: أنهن إلى نظره بإيصاء أبيهن بهن إليه، ولذلك أعمل إيصاؤه على يتاماه وأخواته؛ لأن للموصي أن يوصي بما أوصى به إليه في حياته وبعد وفاته، لا خلاف أحفظه في ذلك، ولم يبين في قوله: وله بنت كبيرة بنت أربعين سنة أو خمسين إن كانت بكرا معنسا لم تتزوج، أو قد تزوجت ودخل بها زوجها. وجوابه محتمل

(13/34)


للوجهين جميعا؛ لأنه أعمل قول الأب: وأموال ولدي كلهم إلى فلان، فرآها بذلك ممن قصد الأب إلى الإيصاء عليها مع سائر إخوتها فقال: إنها إن كانت أهلا أن تلي نفسها، فلا ينفذ عليها إيصاء الأب، وإن لم تكن إهلا أن تلي نفسها، نفذ عليها ذلك. هذا معنى قوله. ولم يتكلم على ما يحمل عليه إن جعل مما لها فإن كان تكلم على أنها بكر معنس، فإرادته أنه إن جهل حالها لم ينفذ عليها إيصاء الأب بالتعنيس؛ لأنها محمولة على الرشد، ما لم يعلم سفهها على مذهب من رأى أنها تخرج بالتعنيس من ولاية أبيها، ولا يصح أن يكون جوابه على القول بأنها لا تخرج بالتعنيس من ولاية أبيها؛ لأنها على هذا القول في ولاية أبيها وإن علم رشدها، فكيف يصح أن القول إن كانت أهلا أن تلي نفسها لم ينفذ عليها إيصاء أبيها، وإن كان تكلم على أنها قد تزوجت ومضى لها مع زوجها مدة يحكم لها فيها بالرشد، وتكون محمولة عليه ما لم يعلم سفهها على الاختلاف في حد ذلك، فإرادته إن جهل حالها لم ينفذ عليها إيصاء الأب، ولا يصلح أن يكون تكلم على أنه لم يمض لها مع زوجها مدة يحكم لها فيها بالرشد؛ لأنها في هذا الحد في ولاية أبيها وإن علم رشدها فكيف يصح أن يقول: إنها إن كانت أهلا أن تلي نفسها لم ينفذ عليها إيصاء أبيها؟.
هذا بيان هذه المسألة وهي من المسائل المشكلة وبالله التوفيق.

[مسألة: زوج ابنته ابن أخيه فولدت منه أولادا فلما حضرته الوفاة أوصى لولد بنته بوصية]
مسألة وسئل عمن زوج ابنته ابن أخيه، فولدت منه أولادا، فلما حضرته الوفاة أوصى لولد بنته بوصية، وأوصى لهم بما أوصى به إلى امرأته، فأراد أبوهم أن يأخذ ذلك لهم وهو عدل، فقال: لا أرى ذلك له وأرى ذلك إلى من أوصى إليه به الميت؛ لأنه لما أراد أن يكون ذلك على يدها لتجمع ذلك لهم، وتنظر فيه لهم، فأرى ذلك إلى من أوصى به إليهم.

(13/35)


قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه ليس للأب أن يأخذ ما أوصى لهم به جدهم للأم؛ لأنه إنما أوصى لهم به على أن يكون لهم بيد امرأته، وهي أحق بماله وبالشرط فيه. وأما إيصاؤه بهم إلى امرأة، فلا يجوز ذلك عليهم ولا على أبيهم؛ لأنهم في ولاية أبيهم، ولا حق للجد في الإيصاء بهم إلى غيره. والله الموفق.

[مسألة: أوصى بحوائط له على مواليه وأولادهم وأولاد أولادهم يأكلون ثمرتها]
مسألة وسئل عن رجل أوصى بحوائط له على مواليه وأولادهم وأولاد أولادهم يأكلون ثمرتها، لكل إنسان منهم أربعون صاعا، وأوصى بذلك إلى رجل، فأراد الوصي أن يبتاع لهم من ثمر الحائط رقيقا للحائط يعملون فيه ويقومون، ليكون ذلك أعدل فيما بينهم وبين الورثة، فأبى ذلك الموالي وكرهوه، قال: ليس ذلك لهم، لكن أرى أن لا يشتري ذلك لهم في عام واحد، فيقطع بهم، وأرى أن يبدأ بذلك، فيشتري بعضهم في ثمرة، وبعضهم في ثمرة أخرى ولا يشتري لهم ذلك كله من ثمرة واحدة، فهذا الذي أرى. محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قاله؛ لأن ذلك إذا كان من النظر لهم، فمن الرفق بهم ألا يشتري ذلك من فضلة عام واحد، فيضيق بذلك عليهم. وبالله التوفيق:

[مسألة: أوصى وهو بالمدينة بمال له في سبيل الله فهل يعطى منه الحجاج]
مسألة وسئل عن رجل أوصى وهو بالمدينة بمال له في سبيل الله فقدم قوم من أهل المصيصة المدينة حجاجا منصرفهم من حجهم منقطعا بهم لا يقدرون على شيء يتحملون به، أيعطون من ذلك شيئا في سبيل الله؟ فقال: لا أرى أن يعطوا منه شيئا هم اليوم أبناء

(13/36)


سبيل، ولم يوص الميت لابن السبيل بشيء، وإنما أوصى به في سبيل الله فليسوا اليوم من أهل سبيل الله، وإنما هم أبناء سبيل فلا أرى لهم فيه شيئا ولا أرى أن يعطوا منه شيئا، ولكن أرى أن يعطى من أهل المدينة من يخرج غازيا، أو يبعث به إليهم، فيعطوا في سبيل الله، فقيل له: إن منازل هؤلاء القوم هناك، وهم من أهل الغزو، إلا أنهم قد انقطع بهم ها هنا، فليس في أيديهم ما يتحملون به، فقال: لا أرى أن يعطوا منه شيئا؛ لأنهم أبناء سبيل، وليسوا بغزاة، وإنما يحتملون به إلى أهلهم، ثم إن بدا لهم غزوا، وإن شاءوا لم يغزوا فلا أرى أن يعطوا منه شيئا؛ لأنهم أبناء سبيل، وليس لابن سبيل فيه حق، وإنما أوصى به في سبيل الله، فهؤلاء أبناء سبيل، فلا أرى فيه شيئا.
محمد بن رشد: هذا كله كما قال: إن أهل المصيصة وإن كانوا من أهل الغزو، فليسوا بغزاة في رجوعهم من حجهم، فلا يصح أن يعطوا من المال الذي يوصى به في سبيل الله، وإن انقطع بهم في ذلك؛ لأنهم أبناء سبيل، ولو كان انقطع بهم في رجوعهم من غزوهم لا من حجهم، لجاز أن يعطوا منه على ما حكى ابن حبيب في الواضحة من أن من أعطي شيئا في سبيل الله، فله أن ينفق منه في غزوه في مسيره وقفله، خلاف ما في رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب من كتاب الجهاد، إنه لا يعطى من المال المسبل في سبيل الله لمن انقضى رباطه، وانقطع به في قفوله إلى أهله، وأجاز في هذه الرواية أن يعطى المال المجعول في سبيل الله لمن يخرج به غازيا أن يبعث به إلى من يقسمه في الثغور خير في ذلك بين الأمرين، واستحب في سماع ابن القاسم من كتاب الجهاد أن يعطى بالبلد إن وجد من يغزو منه، ولا يبعث به إلى الثغور مخافة أن يبعث به إلى هناك فيضيع، على ما قاله في رسم طلب منه. قال ابن المواز: إنما يعطيه لمن قد عزم، لا لمن

(13/37)


لا يخرج إلا بما يعطى. وقوله يحمل على التفسير لقول مالك؛ لأن من لم يعزم على الخروج إذا أعطي على أن يخرج، لعله يأخذ المال ولا يخرج. ومن معنى هذه المسألة ما في رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب البضائع والولاكات.
وقد مضى الكلام عليها وبالله التوفيق.

[مسألة: يوصي لابن السبيل فيجد اليهودي والنصراني منقطعا بهما]
مسألة وسئل عن الذي يوصي بالوصية لابن السبيل، فيجد اليهودي والنصراني منقطعا بهما، أيكون لهما في ذلك شيء؟ قال لا ليس لهما من ذلك شيء، إنما يراد بهذه الأشياء أهل الإسلام، وليس يراد بذلك النصارى ولا اليهود ولا عبدة الأوثان، ليس يراد بهذه الأمور إلا أهل الإسلام، أتراه أراد بهذا المجوس أو عبدة الأوثان؟ وإنما يكون مثل هذا للفقراء والمساكين وابن السبيل من أهل الإسلام، ليس من أهل الشرك والكفر.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن الوصية لأهل الكفر مكروهة، حسبما ما مضى بيانه مستوفى في رسم ندرسه من سماع ابن القاسم، فلا يصح أن تحمل وصيته إلا على ما يستحب لا على ما يكره. وبالله التوفيق.

[مسألة: أوصى إلى أخيه وإلى غلام له فأرادت امرأته بيع الغلام]
مسألة وسئل عن رجل أوصى إلى أخيه وإلى غلام له، فأرادت امرأته بيع الغلام، وقالت: ثمنه ثلاثة آلاف دينار، أفترى الوصية إليه جائزة؟ فقال: نعم، الوصية إليه جائزة، وذلك على ما قال الميت، وليس الأمر على ما قالت المرأة، وأرى أن تخرج به إلى

(13/38)


السوق، فيقام قيمته، ثم يستخلص لمن يلي حق الورثة من ميراثهم، فيعطوا المرأة ثمنها منه بمنزلة ما لو أوصى بعتقه، إنما هو كمن اشترى لهم، فأرى هذا أولى ولا ينظر إلى ما تقول المرأة، ويعطى من أموال الذين يليهم ما يقام عليهم في السوق قيمة عدل، وتمضي وصيته، ويجوز ما أوصى به سيده. قلت له: إنه قد وقعت فيه بعد ذلك مواريث غير واحدة، فقال: إن الوصية له ماضية على ما أوصى به الميت، وليس بأول عبد أوصى إليه سيده، فجاز ذلك، قد ارتضاه سيده وأوصى إليه، وقد أوصى غير واحد إلى عبده وغيره لم يجد في ذلك خيرا منهم، فأرى ذلك جائزا ويقام قيمته على من يلي، فتعطى المرأة من ذلك ثمنها، بمنزلة ما لو أعتقه، وكأنه اشتراه لهم. قال أشهب: وسألت الليث عن ذلك فقال لي: وصية جائزة، ويقام قيمته على من يلي من الورثة، فيستخلص لهم، وتعطى المرأة من قيمته ومن كان بمنزلتها ممن لا ولاية للعبد عليه ووصيته جائزة.
قال محمد بن رشد: قول الليث بن سعد مثل قول مالك، وما قالاه جميعا صحيح على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة، ومعنى ما فيها من إرادته أن وصية الرجل بولده إلى عبده جائزة، فإن كان فيهم أكابر، نظر للأصاغر في الأيام التي لهم، إلا أن يدعو الأكابر إلى البيع، فإن دعوا إليه قوم حظهم على الأصاغر، إلا أن يكون عليهم في ذلك ضرر ولا يكون لهم مال، فيبيع الكبار حظهم، ويبقى نصيب الصغار لهم، ينظر لهم في الأيام التي لهم، إلا أن يكون على الكبار في ذلك ضرر، فيلزم الأصاغر البيع مع إخوتهم الأكابر، وتنفسخ الوصية لأن الموصي إنما أراد أن يكون ناظرا لهم ما كان عندهم، واستحسن أصبغ إن كان المشتري في موضع اليتامى مقيما به أن يبقى على إبقائه، ومعنى ذلك عندي: إذا رضي بذلك

(13/39)


المشتري، وقال سحنون في المجموعة: إنما يكون العبد ناظرا للصغار، إذا كانوا كلهم سواء فيما يتكلف لهم العبد، فيكون على قدر مواريثهم منه، وقوله صحيح، إذ قد يكون لأحدهم دون إخوته المال الكثير، قد ورثه عن أمه، فيحتاج فيه إلى نظر زائد على إخوته. قال سحنون: وإن كان فيهم كبير فهي وصية لوارث، فإن أجازها الكبار وإلا بطلت. وقول عبد الملك أصح، إذا قلنا: إنه إنما ينظر للأصاغر في الأيام التي لهم. وقال ابن كنانة: إن أجاز الكبار أن يلي، ولا يشغله عنها جاز ذلك، وإلا اشتري للأصاغر حظ الأكابر. قال أشهب: وإذا استخلص الأصاغر لسعة مالهم، فكل من بلغ، يريد وملك أمره اشترى حظه لمن بقي، حتى يكون آخر ذلك لمن بقي مضرة بهم، لكثرة ثمنه، وقلة مالهم من منفعته، فلا يقوم عليهم، ويبقى بينهم. فإذا شاء الكبار البيع، بيع كله، وأقام لهم الإمام غيره. وقال أشهب: وإن أوصى إلى مكاتبه فذلك جائز، وليس فيه تقويم على من تولى إلا أن يعجز. قال في المجموعة: وإن أوصى إلى أم ولده، أو مدبرة أو عبد له، أو معتق بعضه، أو معتق إلى أجل، فذلك جائز. قال سحنون: أما المعتق إلى أجل، فلا يجوز، إلا أن يرضى الأكابر؛ لأنه يستقل عن خدمتهم. وقال أشهب في المجموعة: وإذا أوصى إلى عبد غيره فذلك جائز إن أجازه السيد، ثم ليس له بعد رجوع إلا لعذر من بيع أو سفر، أو لعلة منه أو من العبد. إلى غير الموضع الذي الورثة فيه، فيقيم لهم الإمام غيره. وبالله التوفيق.

[مسألة: أوصى لرجلين بعشرة دنانير]
مسألة قال وسمعت مالكا يسأل عن رجل أوصى لرجلين بعشرة دنانير، لكل واحد منهما في كل سنة حياتهما من ثمر ما له، فلما كان عام الأول، أصاب الثمار الذي أصابها، فلم تبلغ الثمرة ما أوصى لهما به، وقد كان في وصيته فإن نقصا تحاصا، فلما كان

(13/40)


العام جاء الثمر بفضل كثير، فأراد أن يأخذ من غلة العام ما نقص من وصيتهما في غلة عام أول، فذلك لهما؟ فقال: نعم ذلك لهما.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما مضى في صدر الرسم، وقد تقدم الكلام عليه فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: أوصى لرجل بعبد آبق فأتي به بجعل]
مسألة قال: وسمعته يسأل عمن توفي وأوصى لرجل بعبد آبق، أو جمل شارد، فأتي به بجعل، على من ترى ذلك الجعل؟ قال: على الذي أوصي له بالعبد، وليس ذلك على ورثة الميت في مال الميت؛ لأن هذا عليه ليس على الورثة أن يطلبوه، وإنما ذلك بمنزلة أن يوصي له بوسق من غلته بخيبر، فيقول: احملوه إلى المدينة، فلا يكون ذلك له، وعليه أن يأخذ ذلك بموضعه الذي هو به يوم أوصى له به، فعليه أن يأخذ ذلك ... وأن يطلب الجمل الشارد، أو العبد الآبق. وليس على الورثة أن يطلبوه، فقيل له: إن جاء به إلى المدينة وليس فيه جعل، أيكون ذلك على الورثة في مال الميت أم على الموصى له؟ فقال: بل على الموصي له. فقيل له: أرأيت إن أوصى الرجل للرجل بعبده، على من ترى أن يأتي به؟ فقال: ذلك على الموصى له، يذهب يأخذه حيث هو، قيل له: إن الورثة يقولون: لا بد لنا أن نقومه ها هنا حتى يقيمه، فقال: أما إذا كان ذلك بالموضع الذي هو له فيه قيمة، يرغب به مثل رقيق المال، فإن ذلك إنما يقام بموضعه الذي هو به، وعلى الموصى له أن يذهب حيث يأخذه، وأما ما كان من ذلك بموضع لا

(13/41)


قيمة فيه، ثم أراد الورثة إقدامه ليقيموه، فأرى ذلك عليهم حتى يقيموه ثم يقبضه الموصى له به، وليس كل الوصية تقام، إنما يقام منها ما يخاف أن يكون أكثر من الثلث.
محمد بن رشد: هذا كما قال إنه إذا أوصى لرجل بعبده الآبق، أو بجمله الشارد، فإن على الموصى له طلب العبد الآبق، والجمل الشارد، وأخذ العبد الغائب بموضعه الذي هو به، وليس على الورثة جلبه إلى الموصى له، إلا أن يحتاجوا إلى تقويمه ولا يكون له قيمة بموضعه الذي هو به، فعليهم أن يجلبوه ليقيموه، يريد: من بقية الثلث، فهو معنى قوله: فأرى ذلك عليهم حتى يقيموه، ثم يقبضه الموصى له، فإن لم يكن في الثلث فضل عن قيمة العبد، أخرج ما يلزم في ثلثه من رأس مال الميت، ثم يخير الورثة بين أن يجيزوا الوصية بالعبد للموصى له به، وبين أن يقطعوا له بثلث الميت في العبد أو شائعا في جميع مال الميت، على اختلاف قول مالك في هذا في كتاب الوصايا الثاني من المدونة. فهذا الذي يأتي في هذه المسألة على ما بيناه من قول مالك في آخر رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب في الذي يوصي لرجل بثلاثين دينارا، ولرجل بثلث الثلث، والمال دين على الناس، فاستأجر الموصى عليه على تقاضي ذلك الدين بعشرة دنانير، إنما يكون فيها فضل من الثلث إن كان فيه فضل حسبما بيناه هناك، وكذلك لو أوصى الميت بجلب العبد الغائب، فيعطاه الموصى له به من موضعه الذي هو به، إذ ليس أكثر من ثلث، بخلاف الذي يقول: ثلث ما لي هو لي إن فعلت كذا وكذا، فيفعله، إن عليه النفقة من غير الثلث حتى يبلغه، كالذي يجب عليه صدقة شيء من ماله بنذر أو حنث ببلد ليس فيه مساكين، إنه يلزمه أن يحمله من ماله إلى موضع فيه المساكين، ولو وجبت عليه الصدقة من الزكاة في موضع ليس فيه مساكين، لم يجب عليه أن يحملها من ماله إلى موضع يجد فيه مساكين.

(13/42)


وقد مضى بيان هذا كله، في رسم نقدها من سماع عيسى من كتاب النذور، وفي رسم العشر من سماع عيسى من كتاب زكاة الحبوب. وبالله التوفيق.

[مسألة: العبد يكون له أخ حر فيوصي له بدراهم فيطلبها من الوصي]
مسألة وسمعته يسأل، فقيل له: إنه كان لي أخ حر، وأنا مملوك فلما حضرته الوفاة، أوصى لي بدراهم، فطلبتها من الوصي، فأبى أن يعطينيها، وخاف أن أفسدها فدفعها إلى مولاي فكساني منها، ثم سألته أن يعطيني بقية الدراهم، فأبى، فذهبت إلى الذي دفعها إليه، فلقيه في ذلك، فقال: ما انتزعتها منه، ولا أدفعها إليه، فلم تزل في يديه حتى باعني ممن أعتقني، فصرت حرا، فطلبتها منه الآن فأبى إعطاءها إياي، فقال: إن كان نزعها منك وأنت مملوك فذلك له، وليس ذلك بحسن، وإن لم يكن نزعها منك فأراها لك:
قال محمد بن رشد: هذا بيِّن على ما قاله؛ لأن السيد ينتزع مال عبده، بدليل قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من باع عبدا وله مال فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع» . وقد بين في هذه المسألة أنه لم ينتزعها منه حتى أعتقه، بدليل قوله: ما نزعتها منه ولا أدفعها إليه، فيلزمه أن يدفعها إليه بعد عتقه، ولأن مال العبد في العتق تبع له، بخلاف البيع. وبالله التوفيق.

[مسألة: أوصى فقال لفلان من ثلثي عشرة دنانير ولفلان ثلثي]
مسألة قال أشهب: وكتبت إليه أسأله عمن أوصى فقال: لفلان من ثلثي عشرة دنانير، ولفلان ثلثي، أو قال: لفلان ثلثي، ولفلان منه

(13/43)


عشرة دنانير، أو قال لفلان ثلثي، ولفلان عشرة دنانير، لم يسمها من الثلث، فكتب إلي يقول: سواء قال لفلان عشرة دنانير من ثلثي، ولفلان ثلثي، أو قال: لفلان ثلثي، ولفلان منه عشرة دنانير، هو سواء، يبدأ صاحب العشرة، ثم يكون ما بقي من الثلث للذي أوصى له بالثلث؛ لأنه انتزع منه العشرة الدنانير التي سماها للرجل، ولكن إن قال: لفلان ثلثي، ولفلان عشرة دنانير، ولم يقل من الثلث، فإنهما يتحاصان، يحاص الذي أوصى له بالعشرة دنانير، ويحاص الذي أوصى له بالثلث، فما بلغ الثلث يتحاصان هكذا في ثلث مال الموصي.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف إذا قال: لفلان ثلثي ولفلان منه عشرة دنانير أن العشرة تبدأ على الثلث، وكذلك إذا قال: لفلان من ثلثي عشرة دنانير ولفلان ثلثي والأول أبين إذا أخر "من". وأما إذا لم يأت بـ "من" أولا ولا آخرا، فاختلف قول مالك في ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: قوله: هذا، ومثله في رسم الكبش من سماع يحيى، وهو المشهور أنهما يتحاصان. وقد روي عنه أن القسمة تبدأ على الجزء. وروي عنه أن الجزء يبدأ.
وقد مضى هذا كله في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته. وبالله التوفيق.

[مسألة: الذي يتصدق بعبد له على رجل أو يوصي له بوصية أيتبعه ماله]
مسألة قال وسمعته يسأل عن الذي يتصدق بعبد له على رجل أو يهبه له لثواب أو لغير ثواب، أو يوصي له بوصية أيتبعه ماله؟ قال: لا يتبعه ماله، وأرى ذلك كله بيعا؛ لقول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: "من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع". قال مالك: لا يتبع العبد ماله في ذلك كله، إلا أن يعتق

(13/44)


فيتبعه ماله. فأما إن كانت له الكسوة أو الشيء اليسير، مثل ذلك، فإني لا أرى له أخذ ذلك في الصدقة قال سحنون هي جيدة خير من رواية ابن القاسم.
قال محمد بن رشد: اختلف قول مالك في مال العبد الموصى به لرجل، فمرة قال: إنه للموصى به قياسا على العتق، بخلاف البيع، ومرة قال: إنه لورثة الموصي قياسا على البيع، بخلاف العتق.
وقد مضى القول على هذا في رسم البز من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته. وقوله في هذه الرواية: إن الكسوة والشيء اليسير ليس لسيد العبد أن يأخذه، يريد: لا في الوصية ولا في البيع، وبشبهه من الهبة والصدقة، هو مثل ما في رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب من كتاب الجهاد. وقد مضى القول على ذلك هنالك وقلنا فيه: إنه أصح مما في رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب التجارة إلى أرض الحرب؛ لأن ظاهر الرواية أن يكون للمبتاع ما كان من هيأتها ولباسها وإن كان كثيرا، وهو بعيد وبالله التوفيق.

[مسألة: المولى عليه يكسب مالا بيده أينتزع منه]
مسألة وسمعته يسأل عن المولى عليه يكسب مالا بيده، أينتزع منه؟ فقال: هو مثل ما ورث، فقيل له: هو اكتسبه وسعى فيه، فقال: رب رمية من غير رام.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه قد صار ماله، وإن كان من كسبه، فلا يترك له لئلا يتلفه، لقول الله عز وجل: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] الآية.

(13/45)


[مسألة: أوصى لها بولدها منه فأراد بعض ولدها القسمة]
مسألة وسئل فقيل: إن زوجي أوصى إلي بولدي منه، فأراد بعض ولدي القسمة، فقال لها: ما ترك زوجك من المال؟ فقالت: ثلاثة أرؤس ومكاتبا، فقال لها: أما المكاتب، فدعيه كما هو بينهم، وأما ما بقي فخذي منه ثمنك ثم اقسمي ما بقي بينهم، فقالت: أبأمر السلطان؟ فقال: لا، ولكن بأمر العدول.
قال محمد بن رشد: ظاهر قوله في هذه الرواية، إنه أجاز للأم الوصية أن تأخذ ثمنها مما يخلف زوجها، وأن تقسم الباقي بين بنيها بأمر العدول دون السلطان، والمسألتان مفترقتان، أما قسمتها على بنيها وأخذها ثمنها، فالمشهور المعلوم أن ذلك لا يجوز إلا بأمر السلطان، فإن قاسمت لنفسها عليهم، لم تجز القسمة، وكانت منتقضة، إلا أن يجيزها السلطان، وإن كان سدادا يوم القسمة إذا لم يكن اليوم سداد، وقد قيل: إنها تجوز إذا علم السداد والنظر فيها لهم، وهو قوله في هذه الرواية؛ لأنه أجاز أن تأخذ لنفسها ثمنها بأمر العدول؛ لأنه إنما اشترط العدول في ذلك، ليعرفوا السداد ويشهدوا به، وأما قسمتها مال بنيها فيما بينهم، فإنها جائزة، إذا عرف السداد فيها، وهو مذهبه في هذه الرواية ومعنى ما وقع في كتاب القسمة من المدونة من أن الوصي لا يقسم مال الأيتام فيما بينهم إلا بأمر السلطان. وقيل: إن فعله في ذلك محمول على السداد حتى يثبت خلافه، وهو الذي يأتي على ما في كتاب الرهون من المدونة لأنه أجاز فيه للوصي أن يشتري لبعض أيتامه من بعض، وإذا أجاز شراءه من بعضهم لبعض، فأحرى أن يجيز قسمته فيما بينهم؛ لأن القسمة بيع من البيوع، وقيل: إنها تمييز حق، وعلى ما في كتاب الرهون من المدونة يأتي ما لمالك في رسم الطلاق من هذا السماع بعد هذا خلاف قوله في هذه الرواية، فتدبر ذلك وبالله التوفيق.

(13/46)


[مسألة: لا يجوز للوصي أن يشتري بالدين على أيتامه]
مسألة قال: وسأله ابن كنانة فقال له: إن رجلا كان يلي يتامى في حجره، فاشترى حائطا، ذكر حين اشتراه أنه إنما اشتراه لأيتامه بثمن قمح إلى أجل معلومة، فأقام الحائط في يديه زمانا يستغله للأيتام كل سنة، معلوما ذلك عند الناس، حتى اجتمع لهم في يده من غلة ذلك الحائط مال كثير، ثم خيف على وليهم الإعدام، أفترى لبائع الحائط في مال الأيتام حقا؟ فقال له: هذا مثل الذي يشتري بالدين ويقول: إنما اشتريته لأيتامي هؤلاء. فلا يلزمهم ذلك، فقال له ابن كنانة: إن الحائط الذي اشترى من البائع قائم بعينه في أيدي الأيتام، وقد اجتمع لهم في يد وليهم من غلته مال كثير، فيرجع البائع على ماله حيث وجده، أم على المشتري لولي الأيتام؟ فقال له: أليس كتاب الدين على اسمه؟ فقال: بلى، فقال: ما أرى أن يتبعهم الآن ولكن يبدأ هو به فيتبعه بذلك، فإنه الذي لا شك فيه، ولا يتبعهم بذلك، فقيل له: إن ذلك أبغضها إلى البائع، فقال: ذلك الذي أرى إلا أن يرفعوا ذلك إلى القاضي، فيكشف عن ذلك، ويسأل عنه كله، وينظر فيه، فأما ولي الأيتام فليتبعه البائع.
محمد بن رشد: لا يجوز للوصي أن يشتري بالدين على أيتامه، لوجهين: أحدهما: أنه قد يهلك ما اشتراه لهم بالدين، فيطلبون بالثمن عند حلوله، وتباع عليهم فيها أموالهم إن كانت لهم أموال أو تتبع بها ذمتهم إن لم تكن لهم أموال. والوجه الثاني: أن ما يشترى بالدين يزاد فيه على القيمة، ولا يجوز أن يشترى لليتامى شيء بأكثر من قيمته، فإن فعل، نظر السلطان في ذلك، فإن رأى أن يمضيه على اليتيم أمضاه عليه، وإلا رده، على ما قال في

(13/47)


الرواية، فإن رده ولم يمضه على اليتيم لزم الوصي، ولم يكن له أن يرده، إلا أن يكون البائع. قد صدقه فيما زعم من أنه إنما اشتراه ليتيمه، وباعه على ذلك بتصريح وإقرار، فلا يلزم الوصي الشراء إذا رده الإمام على اليتيم على ما وقع لأصبغ في آخر سماعه من كتاب جامع البيوع.
وقد رأيت لابن دحون في هذه المسألة أنه قال فيها: معناه أنه اشتراها لنفسه، ثم أقر أنه اشتراها ليتاماه، فألزمه الثمن، لكنه كتبه على نفسه، ثم ينظر بعد ذلك فيه اليتيم، يريد ابن دحون أنه لو اشتراه من أول لأيتامه، فرد الإمام البيع عنهم، ولم يمضه عليهم، لن يلزم ذلك الوصي، وانتقض البيع فيما بينه وبين البائع، وليس ذلك بصحيح، بل يلزم الوصي الشراء في الوجهين جميعا لنفسه، إذا رد الإمام البيع عن أيتامه، إلا أن يكون البائع قد صدقه فيما زعم من أنه يشتريه لأيتامه وباعه على ذلك بتصريح وإقرار، على ما ذكرناه عن أصبغ. وبالله التوفيق.

[مسألة: يلي يتامى فكان لا يتحفظ في أموالهم]
مسألة وسمعته يسأل عمن كان يلي يتامى، فكان لا يتحفظ في أموالهم، ويتناول منها، فلما بلغوا سألهم أن يحللوه مما بين كذا إلى كذا، فحللوه على ما قال، ثم قالوا بعد زمان: لست في حل، فقال: أنا أرى في مثل هذا أن يجوز الذي يرى أنه أصاب من أموالهم، ويحتاط فيه، حتى لا يشك أو يأتي رجلا فيخبره بالمال وبأمره، وما كان منه فيه، وما تناول حتى يحرره له ويحتاط فيه، حتى لا يشك إن لم يحسن هو حرره، ثم يخبرهم بالذي عليه في ذلك من التباعة، فيحللونه، وهم يعلمون من أي شيء حللوه، فأما أن يجيء إليهم فيقول لهم حللوني مما بين كذا إلى كذا، فيحللونه، فإنهم يقولون بعد: ظننا أنه يسير، فأرى أن يحرز ذلك بإحباط ثم يحللهم.

(13/48)


قال محمد بن رشد: هذا كما قال، إن التحلل لا يلزمهم، إذا لم يعلمهم بمقدار ما لهم عليه من التباعة فيما تناوله من أموالهم، فيلزمه أن يعلمهم بمقدار ذلك حتى يحللوه منه بنفوس طيبة، وبالله التوفيق.

[مسألة: هل يقبل قول الموصي قد دفعت إلى يتاماي أموالهم أم لا]
مسألة وسمعته يسأل ابن غانم، هل يقبل قول الموصي قد دفعت إلى يتاماي أموالهم أم لا يقبل ذلك منه إلا ببينة؟ فقال: لا يجوز قول ذلك عليهم قد دفعت إليهم أموالهم إلا ببينة. قال الله تعالى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6] فلا يجوز قوله عليهم في ذلك إلا أن يكون رجلا ادعى على وليه أنه لم يدفع. إليه ماله بعد زمان طويل قد خرج فيه عن حال الولاية فيما يعرف من ماله وأمره، حتى إذا طال الزمان وهلك الشهود قال: فلان كان يليني ولم يدفع إلي مالي فليس هذا بالذي أريد.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، من أن والي اليتيم يصدق مع يمينه في دفع مال اليتيم إليه إذا أنكر القبض، وقد طالت المدة؛ لأن طول المدة دليل على صدق قوله؛ لأن العرف يشهد له، فيكون القول قوله، كما يكون قول المكتري في دفع الكراء إذا طال الأمد بعد انقضاء أمد الكراء، حتى يجاوز الحد الذي جرى العرف بتأخير الكراء إليه، وكما يصدق المشتري في دفع ثمن ما اشترى إذا طال الأمد، وإن كان قد اختلف في حد ذلك على ما قد مضى تحصيل القول فيه في رسم الأقضية من سماع أشهب من كتاب جامع البيوع. وكما يصدق البائع أيضا في دفع السلعة إلى المشتري إذا قام عليه بعد أن دفع إليه الثمن بمدة، يدعى أنه لم يقبضها منه حسب ما مضى

(13/49)


القول فيه في رسم الكراء والأقضية من سماع أصبغ، من كتاب جامع البيوع. فالأصل في هذا أن المدعي يُصدق في دعواه إذا كان معه دليل يدل على صدق قوله. ولم يبين في الرواية كم حد الطول الذي يصدق فيه والي اليتيم في دفع ماله إليه، وهو على مذهبه في الرواية ما يهلك فيه الشهود، لقوله فيها حتى إذا طال الزمان وهلك الشهود، وذلك عشرون سنة على ما روى عيسى عن ابن القاسم في رسم البراءة من سماع عيسى من كتاب القسمة. وهو نص قول أشهب في كتاب ابن المواز في هذه المسألة بعينها، إلا أن يكون قد طال زمان ذلك مثل الثلاثين سنة، أو عشرين سنة، مقيمين معه لا يدعون شيئا ثم يطلبون الآن، فليس عليه في هذا إلا اليمين لقد دفعها إليهم. وقال القاضي أبو بكر محمد بن زرب: إذا قام على وصيه بعد انطلاقه من الولاية بأعوام كثيرة، كالعشرة والثمان، ثم يدعي أنه لم يدفع إليه ماله، فلا شيء له قبله، يريد من المال، ويحلف لقد دفعه إليه، وإذا لم يكن في حد ذلك سنة يرجع إليها، والذي يوجبه النظر أن يكون القول قول اليتيم إنه ما قبض حتى مضى من المدة ما يغلب على الظن معها كذبه في أنه لم يقبض وصدق وليه في أنه قد دفع. وذلك يختلف باختلاف ما يعرف من أحوالهما، وبالله التوفيق.

[مسألة: توفي وأوصى إلى رجل وترك ابنا صغيرا ومصحفا]
مسألة وسئل عن رجل توفي وأوصى إلى رجل وترك من الورثة ابنا صغيرا وثلاث بنات، وأمه وزوجته، وترك مصحفا قيمته خمسة وعشرون دينارا أترى أن يستخلصه الوصي للغلام؟ فقال: إني لست أدري ما تركه الميت. فقيل له: أموال عظام من أصول وغيرها، فقال ما سن الغلام؟ فقيل ابن ست سنين. فقال ما أرى بذلك بأسا أن يستخلصه للغلام. وقد كان من أمر الناس أن يحبس لولد الميت هذا وما أشبهه: السيف والمصحف وما أشبههما، فلا أرى بأسا أن

(13/50)


يستخلصه له. فقيل له: أيستخلصه للغلام والجواري فإنهن ربما علمن القراءة في المصاحف؟ فقال: أحب إلي أن يستخلصه للغلام وحده وهذا من خير ما يشترى له، إن بلغ فاحتاج إلى ثمنه وجد به ثمنا فأرى له أن يستخلصه له ولا أرى بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأنه من النظر لليتيم الذي لا يخفى وجهه. وبالله التوفيق.

[مسألة: توفي وأوصى إلى امرأته بولدها وماله]
مسألة قال وسئل عمن توفي وأوصى إلى امرأته بولدها وماله، وولدها منه جارية بنت ثلاث سنين، وغلام ابن خمس سنين، فأرادت النكاح، أينزع منها ولدها إن نكحت؟ فقال ما آمن ذلك عليها أن ينزعا منها؛ لأن المرأة إذا تزوجت غلبت على جل أمرها حتى تعمل ما ليس بصواب، فما أخذ مني أن ينزعا منها. ولو صبرت على ولدها فلا أرى لها أن تدخل على ولدها رجلا. والولاة يقولون ذلك، ليس لك أن تدخلي عليهما رجلا فما أخذ مني إن تزوجت أن ينتزعا منها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم حلف من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته. وبالله التوفيق.

[مسألة: إقرار الرجل بما يعرف ملك له إنه لفلان وفلان وارث أو غير وارث]
مسألة قال: وسمعته يسأل عن رجل أوصى في مرضه فقال: إن أرضي التي بموضع كذا وكذا إنما هي لامرأتي، ليست لي وأشهد

(13/51)


على وصيته فقال: من ورثه معها؟ فقيل: ولده، فقال: أمنها أو من غيرها؟ فقيل: منها، فقال: ذلك أحرى أن لا يتم عليهم إذا كان ورثته ولده، وكانوا منها وأرى أنه إن لم يكن لها بينة إلا قوله ذلك في مرضه الذي مات منه، لا شيء لها، ولكن تطلب على ذلك ثبتا كان في صحته أو علما يعلم أن تلك الأرض كانت لها، فأما قوله، فلا أرى لها بذلك شيئا ولتطلب ثبتا على ما ذكر لها، وأرى أن ينظر إلى تلك الأرض ما ثمنها أقليل أم كثير؟ ثم تعلمني بذلك. قيل له: فإن هذا الرجل أوصى بشيء من ثلثه لأقارب له، ولم يشهد لهم على ذلك كأقاربهم، فقال: أرى هذا ضعيفا، لا يشهد لهم إلا أقاربهم، ما أرى هذا إلا ضعيفا. قيل له: فإنه أوصى بثلثه لقوم، وأوصى في طعام عنده ألا يباع، وأن يحبس لعياله كلهم يستنفقونه، فجاء أهل الثلث يطلبون ثلث ذلك الطعام، وقالوا: قد أوصى بثلث ماله، وهذا من ماله، فقال: لا شيء لهم فيه، ليس للموصى لهم في هذا الطعام كلام، ولا وصية لهم فيه، إنما وصيتهم في ثلث مال الميت، إلا هذا الطعام؛ لأن الميت قد نزعه منهم، وجعله لغيرهم، ولم يرد أن يكون لهم فيه وصية، ولا كلام للموصى لهم بالثلث فيه، وإنما الكلام في ذلك للورثة؛ لأن بعضهم يأكل ما لا يأكل بعض، وبعضهم أكثر ميراثا من بعض، فهم الذين لهم فيه الكلام، فأما الذي أوصى لهم الميت بثلثه فليس لهم في هذا الطعام شيء ولا كلام، وإنما لهم الثلث مما سواه؛ لأن الميت قد انتزعه منهم ولم يوص لهم فيه بشيء.
قال محمد بن رشد: إقرار الرجل في صحته أو في مرضه بما يعرف ملك له من شيء بعينه، إنه لفلان وفلان وارث أو غير وارث، يجري

(13/52)


مجرى الصدقة والهبة، ويحمل محملهما، ويحكم بحكهما إن أجاز ذلك المقر له به في صحة المقر جاز له، وإلا لم يجز، هذا ما لا اختلاف فيه أحفظه، إلا أن يكون إقراره بذلك على سبيل الاعتذار، فلا يلزمه حسبما ما مضى القول فيه في رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب الصدقات والهبات، وفي سماع أشهب ورسم العشور من سماع عيسى من كتاب الدعوى والصلح، فلا إشكال فيه، في أن الذي أوصى في مرضه بأن الأرض الذي له بموضع كذا وكذا، إنما هي لامرأته، لا يجوز ذلك من إقراره؛ لأنها وصية لوارث، فلا تأثير لجواز ذلك فيما سأل عنه من كونه موروثا بولد منها أو من غيرها، وإنما أراد أن يبين أن إقراره لها في مرضه بأرضه المعروفة لا يجوز لها بحال، وإن كان موروثا، إذ يرفع التهمة عنه فيما يقر لها به في مرضه من أن لها عليه دينا فقال: وأرى إن لم تكن لها بينة إلا قوله ذلك في مرضه الذي مات منه، لا شيء لها، وقوله: ولكن يطلب على ذلك ثبتا كان في صحته، أي إقرار منه لها بذلك في صحته، يريد فيجوز ذلك لها وينفذ إن كانت قد حازته عنه مع ذلك في صحته. وقوله: أو علما يعلم أن تلك الأرض لها، يريد: بينة تشهد على ذلك فيحكم لها بالبينة، لا بالإقرار، وكذلك لا تأثير لجواز إقراره لها في مرضه بأرضه المعروفة له فيما سأل عنه أيضا من قلة ثمن وكثرته على ما بيناه من أنها وصية لوارث، فلا تجوز في القليل ولا في الكثير، ولو كانت الأرض التي أقر لها بها في مرضه، لا يعرف ملكه لها، لكان حكم ذلك حكم إقراره لها بدين يجوز لها، إن لم يكن متهما فيها بصبابة أو ميل، وكان موروثا بولد. وفي رسم العتق من سماع عيسى بعد هذا من هذا الكتاب بيان هذا.
وقد مضى تحصيل القول فيه بإقرار المريض بدين لوارث أو غير وارث في رسم حلف ليرفعن أمرا إلى السلطان من سماع ابن القاسم من كتاب المديان والتفليس، فلا معنى لإعادته. وتضعيفه لشهادة أقاربه فيما أوصي به لأقاربه من ثلثه صحيح، وذلك بين على القول بأن الوصية تكون لجميعهم،

(13/53)


وتقسم بينهم على السواء؛ لأنهم شهدوا لأنفسهم، فوجب ألا تجوز شهادتهم على ذلك، إلا أن يكون الذي ينوبهم من ذلك شيء يسير، فيجوز على اختلاف في ذلك، قد ذكرناه في مسألة أفردنا القول فيها على هذا المعنى. وأما القول بأن الوصية تقسم بينهم على الاجتهاد ويبدأ الفقير منهم على الغني في ذلك، فإن كان الذين شهدوا على الوصية أغنياء لا ينالهم من الوصية شيء، وجب أن تجوز شهادتهم، إلا أن تكون الوصية بحبس تقسم غلته في كل عام، فلا تجوز شهادتهم وإن كانوا أغنياء، إذ قد يفتقرون فيكونون إنما شهدوا ليجيزوا الوصية إليهم إن افتقروا. وأما قوله: إن الوصية بثلثه لا تدخل في الطعام الذي أوصى أن يحبس لنفقة عياله، فهو بين ظاهر المعنى، وبالله التوفيق.

[: أوصى لعبده بعتقه أيعتق حين يموت الموصي]
ومن كتاب العتق وسمعته يسأل عمن أوصى لعبده بعتقه، أيعتق حين يموت الموصي؟ أم حتى يقام المعتق؟ فقال: أما العبد الذي لا يشك فيه أنه يخرج من الثلث، لكثرة ما ترك الموصي من المال، وإذا كان ذلك مأمونا، فأرى أنه حين مات الموصي وإن مات قبل أن يقام ورثته من الأحياء.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأنه إنما يقام ما يخشى ألا يحمله الثلث، وأما ما لا يشك أنه أقل من الثلث فهو حر يوم يموت الموصي. ولا يدخل هذه المسألة الاختلاف في الذي يعتق عبده في مرضه، وله مال مأمون، هل يسأل عتقه الآن في مرضه؟ أو حتى يموت؟ لاحتمال أن يطول مرضه حتى يتلف ذلك المال المأمون، وإن كان ذلك نادرا. وأما هذا العبد الذي مات سيده الذي أوصى بعتقه وله مال مأمون لا يشك أن العبد يخرج من ثلثه، ليس فيه أمر يتوقع، وبالله التوفيق.

(13/54)


[: الرجل يوصي بطعام فيمكث فترة ثم يوصي بدراهم]
ومن كتاب الأقضية الثالث وسئل عن رجل بعث إلى رجل بطعام يقسمه، فقسمه، ثم أقام بعد ذلك سنين، ثم مات وأوصى بدراهم وغير ذلك، ولم يذكر الطعام، ثم قدم الباعث وكان غائبا، فأراد من ورثته تفسير ذلك القمح وقسمته، وهل قسمه أم لا؟ هل ترى ذلك يلزم الورثة؟ فقال: لا يلزمهم شيء، قيل له: أترى أن يستحلفوا؟ فقال: ما أرى ذلك عليهم. سمعت السائل يقرأ عليه المسألة، وسمعت من مالك الجواب، ولم أفهم كل ما قرأ عليه في المسألة، فأخبرني أصحابنا بما قرئ هذا عليه، وأما الجواب فقد سمعته من مالك، ورأيت السائل يقرأ عليه الكتاب.
محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه لا يلزم الورثة إقامة البينة على أنه قد قسم الطعام الذي بعث إليه ليقسمه، كأنه إنما كانت تجب عليه اليمين لقد قسمه، فقد سقطت لموته. وأما الورثة فاستحلافهم بالتهمة أمر مختلف فيه، فجوابه على القول بأن اليمين لا تحلف بالتهمة. ولو حقق الباعث للطعام الدعوى على الورثة بأنهم يعلمون أنه لم يقسم الطعام، للحقت اليمين من كان منهم مالكا لأمر نفسه قولا واحدا. وبالله التوفيق.

[مسألة: أوصى لعبده بوصية فيشهد عليه ابناه وله ورثة سواهما]
مسألة وسئل عن رجل أوصى لعبده بوصية فيشهد عليه ابناه وله ورثة سواهما، فقال: شهادتهما له جائزة.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، إذ لا تهمة عليهما في شهادتهما للعبد بالمال؛ لأنه عبد لجميعهم، ولا تعلق في المال الذي أوصى له به، فيتهم الشاهدان على إنفرادهما بولاية دون من سواهما ممن لا يرث

(13/55)


الولاء بحال، أو دون من سواهما ممن هو أحق منهما بالولاء ما كانا حيين. وإنما يعتق العبد في وصية سيده له إذا أوصى له بثلث ماله؛ لأنه يكون موصى له حينئذ بثلث نفسه، ولا يصح للعبد ملك نفسه.
وقد مضى الكلام على هذا في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم. وتأتي المسألة أيضا في رسم أسلم ورسم الرهون من سماع عيسى، وفي رسم الصبرة من سماع يحيى وبالله التوفيق.

[: الرجل يوصي لأمهات أولاده بأغدق من حائط]
ومن كتاب الوصية الذي فيه الحج والزكاة قال وسمعته يسأل عمن أوصى لخمس مواليات له، أمهات أولاده، عزلهن وسماهن بأغدق من حائط قال: تعطى مولاتي فلانة من ثمر هذه الأغدق في كل سنة ما عاشت خمسة آصع، وتعطى فلانة منها في كل سنة ما عاشت عشرة آصع، وتعطى فلانة منها في كل سنة ما عاشت ثمانية آصع، حتى يسمى لكل واحدة منهن آصعا مسماة تعطاها في كل سنة ما عاشت، فكن يعطين كذلك، فماتت منهن أربع نسوة، وبقيت منهن واحدة، فقال الورثة: قد رجع إلينا ما كان يكون لهن، وقالت المولاة: لا بل ذلك لي. قال: بل يرجع إلى الورثة، ولا يكون لها منه شيء، ولا يكون لها إلا ما سمي لها، ويحاصها الورثة في ثمر تلك النخلات بالأربع نسوة، اللاتي متن، فما صار لهن من شيء من المحاصة كان للورثة، فقلت له: إنما هو رجل عزل خمس نخلات له فأوصى فيهن بخمس مولايات له ما عشن، لكل واحدة منهن خمسة آصع ما عشن في كل سنة، فمات الأربع نسوة منهن، وبقيت واحدة، ولم تخرج الخمس نخلات كلها إلا خمسة أصع في سنة منها، أيتم لها

(13/56)


الخمسة الآصع التي أوصى لها بها؟ أم تحاص بوصية صواحبها في ثمرة تلك النخل، فلا يصير لها من الخمسة الآصع إلا خمسها، وهو صاع. فقال لي: لا يتم لها ذلك، ولكن يحاصها الورثة بوصية صواحبها فينقص بذلك، ويكون ذلك للورثة، فقيل له: فإن النخل أخرجت سنة ستين صاعا، فقالت الباقية: أعطوني ما أوصى لي به، واحسبوا لي ما بقي من الثمن، فإني أخاف أن لا يخرج النخل ثمرا فيما أستقبل، فقال: وربما قصرت النخل، قيل له: ربما كان الجراد فقصرت، فقال: أما لو كن كلهن، رأيت ذلك أن يحبس لهن، وأرى إذا قصرت النخل عاما أن يتم ذلك لهن من العام المقبل، فأما هذه الواحدة فلا أرى أن يوقف ذلك بها، ولكن يوقف لها منه ما يرى، فقيل له: أرأيت إن ضمنا لها مكيلة ما لها؟ فقال: ليس ذلك لكم، هي لا تريد ضمانكم ولا اتباعكم.
قال محمد بن رشد: في هذه المسألة أن حظ من مات من الخمس موليات من الثمرة في المحاصة يرجع إلى الورثة، ولا يكون للباقية منه شيء، هو على اختلاف قول مالك في المدونة في الذي يوصي لقوم بأكثر من ثلث ماله، فيموت بعضهم قبل موت الموصي، هل يرجع حظه إلى الورثة فيحاصون به من بقي منهم؟ أو لا يرجع إليهم ويكون لمن بقي من الموصى لهم حتى يستكملوا وصاياهم؟ إذ لا فرق بين المسألتين في المعنى والقياس؛ لأن حظ من مات من الموليات من الثمرة يبطل بموتها قبل وجوب الثمرة لهن، كما يبطل حظ من مات من الموصى لهن بالثلث بموته قبل موت الموصي، فيلزم في هذه المسألة على قياس القول بأن من مات من الموصى لهم قبل موت الموصي تبطل وصيته، ولا يحاص بها الورثة أهل الوصايا، لا يرجع حظ من مات من الموليات من الثمرة إلى الورثة، وتكون لمن بقي منهن حتى يستكملن وصاياهن، ولا اختلاف في أن ما نقص من حظهن في هذا العام

(13/57)


يوفونه من ثمرة العام الذي بعده. إن كان فيه فضل عن حقوقهن. وقد مضى في رسم الوصايا القول في توقيف ما فضل من الثمرة عن حقوقهن، لما يخاف من تقصيرها فيما يأتي عن حقوقهن، وإن ذلك إنما يكون على الاجتهاد في كثرة ما أخرج الحائط وقلة ما أوصى به، وقلة ما أخرج الحائط وكثرة ما أوصى به، وفي أمن الحائط والخوف عليه، وهو معنى قوله في هذه الرواية. وقوله في الضمان: ليس ذلك لكم، هي لا تريد ضمانكم ولا اتباعكم، ظاهره خلاف ما في سماع سحنون بعد هذا. وقد يحتمل أن يتأول على ما يجمع به بين الروايتين، حسبما ذكرناه في رسم الوصايا المذكور، ولم يتكلم في هذه الرواية على توقيف الحائط، وذلك من حق الموصى لهم إذا حمله الثلث وأجاز الورثة الوصية، وهنا قال فيما يأتي في سماع سحنون: إن ضمنوا ذلك له، وإلا وقف العبد والحائط. ومعنى ذلك: إذا رضوا بضمانهم. وبالله التوفيق.

[: أوصى فقال في وصيته ثلثي لفلان ولفلان دينار ولفلان ثلاثة]
ومن كتاب الوصايا وسمعته يسأل عمن أوصى، فقال في وصيته: ثلثي لفلان، ولفلان دينار، ولفلان ثلاثة، قال: يخرج من الثلث الديناران والثلاثة، ثم يقسم ما بقي من الثلث. قيل له: أرأيت إن أراد أن يأخذه لنفسه؟ فقال: ليس ذلك له.
محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة: ثلثي لفلان، معناه: إلى فلان يلي قسمته فيما يراه من وجوه البر، فلذلك قال: إنه يخرج من الثلث الديناران والثلاثة، ثم يقسم ما بقي منهم، وذلك بين مما وقع في كتاب ابن عبدوس لأنه ذكر الرواية فيه عن مالك، فقال: إلى فلان ثلثي، ولفلان ديناران ولفلان ثلاثة، فليبدأ بالتسمية، ثم يأخذ فلان باقي الثلث يلي قسمته

(13/58)


في سبيل الخير. قال أشهب: وذلك أنه قال: إلى فلان ثلثي فيخرج ذلك أن يلي إنفاذه. وأما. إن قال: ثلثي لفلان، ولفلان ديناران، ولفلان ثلاثة، فيتحاصوا إذا لم يقل في التسمية من ثلثي. وهذا أحب إلي. وقد تقدم مثله في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم. وفي رسم الوصايا الذي قبل هذا من هذا السماع. ويأتي مثله لابن القاسم في رسم الكبش من سماع يحيى. ولمالك قول آخر أنه بيد أهل التسمية. وقد روي عن مالك أنه بيد أهل الجزء. وقوله: إنه ليس له أن يأخذه لنفسه صحيح، إذ لا إشكال في أنه ليس أن يستأثر بجميعه على حال، وإنما الكلام هل له أن يأخذ منه مثل ما يعطي غيره.
وقد مضى الكلام على هذا في رسم سن من سماع ابن القاسم فلا وجه لإعادته. وبالله التوفيق.

[مسألة: له وصيان فسأل أحدهما ثلاثين دينارا من غلة دار له قد تفالس بها]
مسألة وسمعته يسأل عمن له وصيان فسأل أحدهما ثلاثين دينارا من غلة دار له قد تفالس بها وأمكن من نفسه وقال: اسجنوني، ولليتيم اثنان وعشرون دينارا عينا، ودار غلتها خمسة دنانير، فأراد اليتيم أن يسكن منزلا منها كراؤه دينار، فقال الوصي الذي ليس له قبله شيء: أنا أتكارى لك منزلا بخمسة دراهم، وأكري هذا البيت بدينار، فقال له: ثلاثون دينار عند مفلس، وله اثنان وعشرون دينارا، أرى إن كان يتكارى له نحوا من منزله قريبا منه من مسجده في عمران فذلك له، وإن كان إنما تكارى له قاصيا من منزله ومسجده، أو في خراب، فليس ذلك له، فقيل له: أرأيت هذا الوصي المنقطع بهذه الثلاثين دينارا يخرج من الوصية؟ فقال: نعم أرى أن يخرج منها إذا وجد من يدخل مكانه من أهل الثقة مع الوصي

(13/59)


الباقي، فقيل له: أرأيت إن كان الوصي الباقي ثقة؟ أيدخلون معه؟ فقال: نعم، إذا كان أمرا يخاف ألا يقوى عليه وحده، فإن كان أمرا يقوى عليه لم يدخل عليه آخر.
محمد بن رشد: رأى مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما ذهب إليه الوصي، من أن يكري لليتيم المسكن الذي أحب اليتيم سكناه بدينار، ويكري له منزلا سواه في موضع آخر بخمسة دراهم، نظرا لليتيم لغلة ماله، إذ قد ذهب منه عند الوصي ثلاثون دينارا فلم يبق منه إلا اثنان وعشرون دينارا، إذا كان الموضع الذي يتكاراه له قريبا من منزله ومسجده، وفي عمران، وذلك نظر صحيح لليتيم، لما عليه من الضرر في البعد عن مسجده ومنزله. وفي السكنى في خراب. والوصي الذي أكل من مال يتيمه ثلاثين دينارا، ثم تفالس بها، وقال: اسجنوني، واجب أن يعزل عن النظر له إن كان وحده، إذ لا يؤتمن مثله على مال اليتيم، وأما إن كان معه غيره، فلم يقم وحده بالنظر له، ولا وجد من يدخل معه سوى الأول، فمن النظر لليتيم أن يقر عن النظر له مع الوصي الآخر لأنه شاركه في النظر الذي لا يقوى عليه وحده، ولا يمكنه من أن يغيب على شيء من مال اليتيم، فهو معنى قول مالك: إنه يخرج عن الوصية إذا وجد ثقة يدخل مع الوصي الآخر مكانه، وأما إن قام الوصي الآخر بالنظر لليتيم وحده، أو وجد من أهل الثقة من يدخل معه مكانه فلا نبغي أن يقر على الإيصاء بحال، إن كان الوصي الآخر يقوم بالنظر وحده، فلا يدخل معه غيره كما قال مالك إذ يكره أن ينظر له مع غيره، إلا أن يرى ذلك الإمام. فقد تبين له أن الموصي لم يرد أن ينفرد بالنظر لولده وحده. وبالله التوفيق.

[مسألة: أوصى فقال بيعوا غلامي ممن أحب فقال أحب أن تبيعوني من فلان]
مسألة وسمعته يسأل عمن أوصى فقال: بيعوا غلامي ممن أحب، فقال: أحب أن تبيعوني من فلان، فباعوه منه بستين دينارا وهي قيمة

(13/60)


العبد، ولم يعلموه ما أوصى به الميت، ثم علم، فقال: لم تعلموني بما أوصى به الميت، ولو أعلمتموني ما اشتريته بهذا الثمن، أترى له أن يرده؟ فأطرق فيها طويلا، ثم قال: ما أرى له شيئا، إنما قيل للعبد: ممن تحب أن نبيعك؟ فقال بيعوني من فلان، ولا أحب فلانا ولا فلانا، فلا أرى له شيئا.
قال محمد بن رشد: لأصبغ في الواضحة مثل قول مالك، وقال: إنما هذا وصية للعبد، وأما لو قال بيعوه من فلان، فباعوه منه ولم يخبروه وكتموا ذلك، فله الرجوع بثلث ثمنه؛ لأنها ها هنا وصية للذي اشتراه، بخلاف قوله ممن أحب. قال ابن نافع في المجموعة. ولو أوصى ببيع عبده ممن أحب، فأحب العبد من وارث الميت، فليوضع عنه ثلث الثمن. وبالله التوفيق.

[مسألة: حضرته الوفاة ولا وارث له وله ابن مملوك]
مسألة قال: وسمعته يسأل عمن حضرته الوفاة ولا وارث له، أو له ورثة مواليه، وله ابن مملوك، فلما خشي الموت، ابتاع ابنه ثم مات، فقال: إن استيقن أن ما اشترى به ابنه يخرج من الثلث، عتق وورث أباه، إن استوقن أن ما اشتراه به يخرج من ثلثه، فإنه ربما كان الشيء الذي يشك فيه، فلا يدري أيخرج ذلك من الثلث أم لا يكون له الدين والأموال الغائبة؟ قال: وليس له أن يشتريه بأكثر من ثلثه.
قال محمد بن رشد: هذا مذهب ابن القاسم، أن للمريض أن يشري في مرضه من يعتق عليه بثلث ماله، كان ابنا أو أبا أو أخا فيعتق بشرائه إياه حين اشتراه، كان وارثا يرث جميع المال إذا انفرد به، أو بعضه إن لم ينفرد به، أو لم يكن وارثا لكون غيره أحق منه بجميع المال. ووجه قوله أن

(13/61)


المريض لما كان له التصرف في ثلث ماله من غير تحجير عليه فيه، كان له أن يشتري به من يعتق عليه، فإذا صح له العتق قبل موت المريض، وجب له الميراث، ولم يصح أن يحال بينه وبينه. هذا مذهب ابن القاسم، أن العتق يصح له عنده بنفس شرائه إياه بثلث ماله دون ترقب، وإن تلف باقي ماله قبل موته، لم ينتقض بذلك عتقه، كالرجل المريض يبتّل عتق عبده في مرضه، وله مال مأمون، فيعجل عتقه، ثم يتلف المال المأمون، إن العتق لا يرد، وكذلك في كتاب ابن المواز من اشترى ابنه في مرضه فهو حر مكانه، ويرثه إن اشتراه بثلث ماله، ويبدأ على ما سواه من عتق وغيره، وهو دليل هذه الرواية ومما في المدونة. وقال ابن القاسم في المدونة واحتج فقال: ولم ينظر فيه إلا بعد الموت ما ورث، وكذلك إن لم يحمله الثلث، فإنه يعجل منه عتق ما حمله الثلث. وأصبغ يرى أنه لا يرث بحال؛ لأنه لا يعتق إلا بعد الموت، قال ابو إسحاق التونسي: وهو القياس، غير أنه يستحسن أنه إذا خرج من الثلث، فكأنه لم يزل حرا من يوم اشتراه، ألا ترى أن المبتل في أحد القولين، إذا اغتل غلة بعد التبتيل أو النخل إذا أثمرت بعد موت الموصي إن الأصول وحدها هي التي تقوم، فإذا خرجت من الثلث اتبعتها الغلات، كأنها لم تزل من يوم بتلت ملكا لمن بتلت له، ولَلذي حملنا عليه قول ابن القاسم، من أن الذي ذهب إليه أن العتق يعجل عليه بنفس الشراء دون توقف هو الذي ينبغي أن يحمل عليه قوله، فبذلك يسلم من الاعتراض، وإن لم ينظر فيه إلا بعد الموت، على ما قاله ابن القاسم في أول رسم من سماع عيسى، فحمله الثلث ورث، كأن الغيب كشف أن العتق قد كان وجب له قبل موته، لحمل الثلث له. ولأشهب في أول رسم من سماع عيسى بعد هذا مثل قول أصبغ: إنه لا يجوز له أن يشتريه إلا بالثلث، كان ممن يحجب أو ممن لا يحجب، فإذا اشتراه بالثلث لم يصر له من الميراث قليل ولا كثير. وقد اختلف قول أشهب في ذلك، حكى عنه ابن المواز في كتابه: أن له شراءه بماله كله، إن لم يكن معه وارث يشاركه في الميراث وإن كان معه

(13/62)


وارث يشاركه فيه فليس له اشتراؤه إلا بالثلث فأقل، يريد والله أعلم: فيرث بقية المال مع الوارث الذي يشاركه في الميراث. ووجه قول أشهب في تفرقته هذه بين أن يكون له وارث يشاركه في الميراث، وبين أن لا يكون له وارث يشاركه فيه، هو أنه إذا لم يكن له وارث يشاركه فيه، مثل أن يكون وارثه ابن عمه، فيشتري في مرضه أخاه، أو يكون وارثه أخاه، فيشتري ابنه هو من حجة المريض أن يقول لابن عمه إذا اشترى أخاه أو لأخيه إذا اشترى ابنه: لا منفعة لك في أن تمنعني من شرائه بجميع مالي؛ لأني إن اشتريته بالثلث أو بأقل من الثلث، كان أحق منك بجميع المال؛ لأنه يحجبك عن الميراث، إذ هو أقرب إلي منك. فإذا كان له وارث يشاركه في الميراث، مثل أن يكون له أخ، فيشتري في مرضه أخا له آخر، أو يكون له ابن، فيشتري في مرضه ابنا آخر، كان له أن يمنعه من أن يشتريه بجمع المال؛ لأنه إذا اشتراه بالثلث ورث معه بقية المال، وإذا اشتراه بجميع المال لم يبق له ما يرث. وقد وقع في أول سماع عيسى لابن وهب، أنه إن كان المشترى يحجب من يرث المشتري حين يصير جميع الميراث له، كان له أن يشتريه بجميع ماله أو بما بلغ، فيرث بقية المال، وإن كان ثم من شاركه في ميراثه ولا يحجبه، فلا يجوز له أن يشتريه إلا بالثلث، فإن اشتراه بالثلث لم يصر له من الميراث قليل ولا كثير؛ لأنه إنما يعتق بعد موت المشتري، وقد صار المال لغيره. والتفرقة على هذا الوجه لا وجه لها؛ لأنه إذا لم يكن له ميراث إذا اشتراه بالثلث فأقل، وليس له من يشاركه في الميراث وكذلك لا يكون له ميراث إذا اشتراه بالثلث فأقل، وليس له من يشاركه في الميراث وإذا لم يكن معه ميراث إذا اشتراه بالثلث فأقل، فمن حقه أن يقول: ليس لك أن تشتريه بجميع المال فتبطل ميراثي ولا بأكثر من الثلث فتبطل من حقي ما زدت على الثلث.
وحكى ابن حبيب في الواضحة عن ابن الماجشون، أنه يجوز للرجل أن يشتري ابنه بجميع ماله في مرضه إن شاء، ويرثه إن فعل، ولا يجوز له أن

(13/63)


يشتري غيره، لا أبا ولا أما ولا جدا ولا أخا، يريد إلا بثلث ماله، ولا يرثه إن فعل ذلك. قال: وذلك لأن الرجل يستلحق الولد في صحته، فيلحق به، ولا يستلحق غيره ولا يلحق به إن فعل. وقول ابن الماجشون هذا، هو القول الذي وقع في أول رسم من سماع عيسى لغير ابن وهب وأشهب من الرواة. وهو أظهر الأقوال في هذه المسألة وأولاها بالصواب. وبالله التوفيق.

[مسألة: أعطته ذكر حق لها على زوجها ثم ماتت فطلب الزوج ذكر الحق]
مسألة وسمعته يسأل، فقيل له: إن امرأة أعطتني ذكر حق لها على زوجها ثم ماتت، فسألني زوجها أن أعطيه ذكر الحق، وهو زوجها ومولاها، ولا وارث لها غيره، فقال له يسأل: فإن كان على المرأة دين فلا تعطه إياه، وإن كانت لا دين عليها، فأشهد عليه وأعطه إياه. فقيل له: إن المرأة قد أوصت بوصايا، فقال له: إن كان لا دين عليها فأشهد عليه وأعطه إياه.
قال محمد بن رشد: قوله: فإن كان على المرأة دين، فلا يعطه إياه، معناه دين لا يفي به ما خلفت من المال سوى ما لها على زوجها في ذكر الحق، ومثل ذلك يلزم في الوصايا أيضا، لا يدفع إليه ذكر الحق إن كان لا يفي بها ثلث ما خلفت من المال سوى ما لها على زوجها في ذكر الحق وظاهر الرواية أنه فرق فيها بين الدين والوصايا، ولا فرق بينهما. وقد مضت هذه المسألة متكررة في رسم الأقضية من سماع أشهب من كتاب الوديعة والكلام عليها. وبالله التوفيق.

[مسألة: يتيم لرجل أمر نسيبا له بغلام له أن يضربه فقتله]
مسألة قال وسمعته يسأل عن يتيم لرجل أمر نسيبا له بغلام له أن يضربه، فجعل نسيبه يضرب الغلام، وهو يقول: اقتل

(13/64)


اضرب فلم يزل يضربه حتى قتله، فقال: على نسيبه الذي ضربه له غرمه، فقال له وصي اليتيم: فإني استعديت عليه، فاغرم لي، ثم إن يتيمي حضرته الوفاة، فخاف مما كان يرى من ذلك فأوصى بوصايا وقال: قد كنت وقعت في أمر ذلك الغلام فيما تعلم فاشتر رقبة فأعتقها عني، فزاد ما أوصى به على الثلث فأردت أن أشتري الرقبة فأعتقها فأبى أهل الوصايا، فقال: إن لم يكن سمى ذلك العتق، فكان لما وقع فيه من أمر الغلام، فذلك بالحصص فإن كان سمى ذلك فهو مبدأ.
قال محمد بن رشد: كفارة قتل العبد ليست بواجبة، فإذا أوصى بها فلا تجب تبدئتها على الوصايا؛ لأنها تطوع، إذ ليست بواجبة، والعتق التطوع إذ لم يكن بعينه لا يبدأ على الوصايا عند مالك، وإن كان عنده آكد منه لقرب ما بينهما، وإنما أمر بتبدئة هذه الرقبة على الوصايا إذ قال: إنه إنما أوصى بها لما وقع فيه من أمر الغلام، إذ لم يقصد إلى قتله وإنما أراد ضربه، فجاء من موته من الضرب ما لم يرده، فأشبه الخطأ، إذ ليس بعمد على الحقيقة، وإنما هو شبه العمد، ومن أهل العلم من لا يرى فيه القصاص، فهو وجه ما أمر به مالك من تبدئة هذه الرقبة على الوصايا. والله أعلم.

[مسألة: أوصى أن تباع جارية له ممن أحبت وأوصى مع ذلك بوصايا]
مسألة قال وسمعته يسأل عمن أوصى أن تباع جارية له ممن أحبت، وأوصى مع ذلك بوصايا، وله حائط لا يدري ما تبلغ غلته ولا يدري ما يدخل عليها من القول فيما أوصى لها به؟ فقالت: بيعوني من فلان فقومت بمائتي دينار، فقال الذي هويت أن يشتريها أنا أشتريها بمائتي دينار، ولي ثلث ثمنها؛ لأن الميت أوصى أن تباع ممن

(13/65)


أحبت. قيل له: إنا نخاف أن يدخل عليها عول في ثلث ثمنها، فقال: يصير لها من ذلك ما صار، فهو لي، فبعناه إياها بمائتي دينار، وعلى هذا من الشرط، فقال: هو الآن لا يدري بكم اشتراها؟ ففيه شيء، ولكن الصواب عندي أن لو بعتموها إياه بمائتي دينار، على أن لها وصية فما صار لها منها دفعناه إليها، وهي جاريتك، فإن شئت أن تأخذه بعد أخذته، وإن شئت أن تتركه تركته فقيل له: إنه لم يوص لها بشيء، إنما أوصى أن تباع ممن أحبت، فقال: هذا الصواب عندي، فروجع في ذلك مرارا، فقال: كنت أرى هذا الصواب أن يقول: ولها وصية، فما صار لها هناك دفعناه إليها، ولا يقولون: فما صار لها دفعناه إليك، هذا الوجه والذي هو أحسن.
قال محمد بن رشد: بيع الجارية من الرجل الذي أحبت أن تباع منه على هذا الوجه الذي قاله مالك حسن. كما استحسنه، يصل المشتري به إلى ما أراده على وجه جائز، كأن حقيقة الوصية إنما هي لها، إذا القصد بها أن يصل بذلك أن يبتاعها من تحب أن تباع منه. ألا ترى أنه لو اشتراها بقيمتها ولم يعلم بالوصية لما كان له أن يرجع على الورثة، على ما قاله فوق هذا. وقد يفترق الحلال من الحرام، وإن كان المعنى المقصود إليه فيها سواء بافتراق اللفظ، إذا افترق بذلك الحكم. ألا ترى أنه لو قال الرجل للرجل الغائص في البحر: استأجرك بدينار على أن تغوص لي في هذا الموضع فتخرج هذه النحلات مملوءة مما أصبت في قعره لجاز؟ ولو قال له: غص في هذا الموضع وأخرج هذه النحلات مملوءة مما أصبت في قعره وهي لي بدينار لم يجز؛ لأن هذا بيع غرر، والأول إجارة صحيحة. والغرض فيها سواء إلا أن الأحكام في ذلك مفترقة، لمخالفة حكم البيع لحكم الإجارة. وسيأتي في رسم استأذن من سماع عيسى أنها تبدأ بثلث ثمنها على أهل الوصايا، حسبما يأتي القول عليه فيه إن شاء الله. وبه التوفيق.

(13/66)


[مسألة: كم يوضع من ثمن الذي أوصى فيه أن يباع للعتق]
مسألة قال: سمعته يسأل كم يوضع من ثمن الذي أوصى فيه أن يباع للعتق، فقال: الثلث، مثل الذي يوصي فيقول: بيعوا عبدي ممن أحب، فقيل له: أرأيت إن لم يوجد من يشتريه إلا بوضيعة الثلثين؟ فقال: لا يباع ولا تنفذ له الوصية.
قال محمد بن رشد: في كتاب الوصايا الأول من المدونة لمالك من رواية ابن القاسم عنه: إنه يقال للورثة: إما أن تبيعوا بما وجدتم وإما أعتقتم من العبد ثلثه. وقال ابن القاسم: هذا مما لم يختلف فيه قول مالك. وقد اختلف قوله على ما في هذه الرواية عنه. فقول سحنون في المدونة: وقد بينا هذا الأصل باختلاف الرواية قبل هذا، أصح من قول ابن القاسم فيها: إن هذا مما لم يختلف فيه قول مالك؛ لأنه أصل قد اختلف فيه قوله. فمرة رد قوله: بيعوا عبدي ممن يعتقه أو ممن أحب، وصية للعبد، فقال: إن لم يرد الذي أحب العبد أن يباع منه أن يشتريه إلا بأكثر من وضيعة ثلث ثمنه، قيل للورثة: إما بعتموه منه بما أراد وإلا أعتقتم ثلثه، وإن لم يجد الورثة من يشتريه للعتق إلا بوضيعة أكثر من ثلث ثمنه، قيل لهم: إما بعتموه للعتق بما وجدتم، وإلا أعتقتم ثلثه، ومرة ردها وصية للمشتري في المسألتين، فقال: ليس على الورثة أكثر من أن يبذلوه للعتق، وللذي أحب العبد أن يباع منه بوضيعة الثلث، ومرة فرق بين المسألتين، فرأى قوله: يبيعوا عبدي ممن يعتقه وصية للعبد إن لم يجد الورثة من يشتريه للعتق بوضيعة الثلث، قيل لهم: إما بعتموه بما وجدتم، وإما أعتقتم ثلثه، ورأى قوله: بيعوا عبدي ممن أحب وصية للمشتري إن لم يرد من أحب العبد أن يباع منه أن يشتريه بوضيعة الثلث، وعلى هذا الاختلاف، يختلف إذا دخل العبد عول بعد بيعه ونفوذ العتق له هل يرجع بالعول على المشتري وينفذ العتق، أو على العبد، فيباع منه بما دخله من العول، ولا يكون على المشتري شيء؟ وسيأتي في

(13/67)


سماع موسى بن معاوية، إذا بيع للعتق بوضيعة الثلث، ثم جاء درك على المالك من دين ثبت عليه، فالاختلاف في ذلك، هل يرجع على العبد أو على المشتري جار على هذا الاختلاف. وبالله التوفيق.

[مسألة: أوصى فقال رقيقي وثيابي لفلان مات وقد هلك بعض رقيقه]
مسألة قال: وسمعته يسأل عمن، ثم أوصى فقال: رقيقي وثيابي لفلان مات وقد هلك بعض رقيقه، وخلق بعض ثيابه، واستفاد رقيقا وثيابا غير ثيابه ورقيقه، فقال: للموصى له رقيقه الذين استفاد، وثيابه، ومما يبينه أن يوصي بسدس ماله فله سدس ماله يوم مات.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في آخر رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب، وفي أول رسم الوصايا الذي يتلوه، والله الموفق.

[: توفي وأوصى إلى أخ له وترك ابنا فزوج العم ابن أخيه ابنته]
ومن كتاب الطلاق وسئل عمن توفي وأوصى إلى أخ له، وترك ابنا، فزوج العم ابن أخيه ابنته، فأمهرها من مال اليتيم مالا كثيرا، نحوا من نصف مال اليتيم، فكان الذي أصدقها خمسين دينارا، ثم مات العم الذي أوصي إليه باليتيم فأوصى بهما جميعا إلى رجل، فقال: ما كنت أرى أن يجوز ذلك، ولو فعل ذلك لغير ابنته لجاز ذلك، فأما ابنته يزوجها بيتيمه ويستكثر لها من الصداق، فلا أرى ذلك له، فقيل له: فإن الجارية قد فني مالها أفترى للذي أوصي إليه بها أن ينقص من ذلك المهر؟ فقال: أرى أن ينقص الذي أوصي بها إليه عشرين

(13/68)


دينارا من الخمسين، ويكتب بذلك كتابا ويشهد عليه يقول: ذهب مالها، ورأيت ذلك خيرا له، فأرجو أن يكون من ذلك في سعة، فقيل له: أفترى أن ينفق عليها من مال زوجها فإنه قد ذهب مالها؟ فقال: أبلغ؟. فقيل قد راهق، فقال: لا أرى أن ينفق عليها من مال زوجها حتى يبلغ زوجها.
قال محمد بن رشد: إجازته في هذه الرواية للموصى لهما أن يرد الصداق إلى ما يرى نظرا لهما بما أشار به عليه، ويشهد على ذلك من فعله ونظره واجتهاده، دون أن يرفع ذلك إلى السلطان أو يحضر لفعله ذلك عدولا يشهدون له بالسداد بينهما فيما فعله، دليل بين أنه حمل فعله على السداد، خلاف قوله قرب آخر رسم الوصايا قبل هذا، وخلاف ما في القسمة من المدونة، مثل ما في كتاب الرهون منها، حسبما مضى هناك بيانه. وأما قوله: إنه لا ينفق عليها من مال زوجها حتى يبلغ، فهو مثل ما في المدونة، خلاف ما في مختصر محمد بن شعبان عن مالك، من أنه إذا بلغ الصبي الوطء وإن لم يحتلم، وجب عليه الدخول على زوجه، وبالله التوفيق.

[: أوصى بوصايا من دينارين وثلاثة فدخل المال العول]
ومن كتاب العتق قال وسمعته يسأل عمن أوصى بوصايا من دينارين وثلاثة، وأشياء غير ذلك، وأن يشتري رقبة مكفولة أو معينة بعينها بعين مكتوب هذا في وصيته، فدخل المال العول، فقال: أرى كل ما أوصى يدخله العول، إلا الرقبة لأنه قال فيها: مكفولة أو معينة بعينها فإذا دخلها العول، لم تكن مكفولة ولا معينة بعينها.
قال محمد بن رشد: لمالك في كتاب ابن المواز من رواية أشهب

(13/69)


أيضا وكذلك لو قال مستعينه أو محوزه، قيل لأشهب: فإن قال: مستعينه ابتديها. فقال: نعم، وهذا بين لا إشكال فيه؛ لأن الواجب في الوصايا أن يتبع فيها قول الموصي، فلا يخرج عما يظهر من إرادته، وعلى قياس هذا لو أوصى بوصايا أن تعتق عنه رقبة بغير عينها، وتعطى بعد العتق دنانير مسماة، لوجب أن تبدأ الرقبة على الوصايا دون الدنانير التي أوصى لها بها، فيحاص بها أهل الوصايا ولا يبدأ بها، وبالله التوفيق.

[مسألة: أوصى أن يشترى عبد لبعض ورثته فيعتق عنه]
مسألة قال: وسألته عمن أوصى أن يشترى عبد لبعض ورثته فيعتق عنه، أيزاد الوارث مثل ثلث ثمنه؟ فقال لي: نعم، فقيل له: أرأيت إن كان العبد ذا ثمن يكون ثمنه مائتي دينار ألا يتهم على التوليج لوارثه؟ فقال: وهل يعلم هو أن وارثه يزاد في ثمن العبد مثل ثلث ثمنه؟ فقيل: نعم، هو يعلم ذلك، فقال: إنما هذا قضاء مضى به، ولم أسمع أن أحدا اتهم في مثل هذا. قال أشهب: لا أرى ما قال مالك في هذا صوابا، وأرى إن كان العبد الذي أوصى أن يعتق عنه خسيسا لا ثمن له حتى لا يتهم الميت أن يكون أراد بذلك وارثه، فأراد أن يزاد في العبد ثلث ثمنه، وإن كان ذا ثمن فإنه يتهم أن يكون أراد بذلك وارثه، فلا أراه يجوز له أن يزاد ثلث ثمنه على قيمته، إن شاء أن يبيعه بقيمته باعه وعتق، وإن أبى إلا أن يزاد لم يزد وبطل عتقه.
قال محمد بن رشد: قول مالك هذا خلاف ما في المدونة في البيوع الفاسدة والوصايا. وقال أشهب: يأتي على مذهبه فيها، ولو فرق في هذا بين الغلام الذي يعلم وجه الحكم فيه من الجاهل به لكان قولا. وبالله التوفيق.

(13/70)


[مسألة: أوصى لرجل بما يصيب رجلا من ولده فهلك بعضهم قبل أن يهلك الرجل]
مسألة وقال في رجل أوصى لرجل بما يصيب رجلا من ولده وهم يومئذ خمسة، فهلك بعضهم قبل أن يهلك الرجل، والوصية على حالها: إن للرجل الذي أوصى له ما يصيب رجلا منهم يوم يموت الهالك فإن ولد له قبل أن يموت الهالك حتى يكونوا أكثر من عددهم يوم أوصى فله أيضا ما يصيب رجلا، وإن هلكوا إلا رجلا واحدا، فهو حينئذ إن أخذ مثل ما يأخذ هذا الرجل الباقي من ولده أخذ أكثر من الثلث. قال مالك: ليس له ذلك، ولكن له الثلث حينئذ، وإنما ينظر في ذلك يوم يموت الموصي، فيكون له مصابة رجل يوم مات.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: إنه إذا وصى له بمثل حظ أحد أولاده، فإنما له مثل حظ أحدهم يوم وجوب الوصية له قل عددهم أو كثر، لا يوم أوصى، إذ لم يوص له بجزء معلوم، ولو أوصى له بجزء معلوم لكان له ذلك الجزء من ماله يوم وجوب الوصية له بموته، لا تنقص منه ولا تزاد عليه. هذا ما لا اختلاف فيه لوجهين: أحدهما: أن القصد من الموصي في ذلك كله مفهوم معلوم، والثاني: أن الموصي محمول على أنه علم بزيادة ماله ونقصانه، وبنقصان عدد ولده وزيادتهم، فأقر وصيته في ذلك كله على حالها، ولم يغيرها، فوجب أن يعتبر في ذلك كله قل الأمر عليه يوم الموت، لا ما كان عليه يوم الوصية، ومن هذا المعنى إذا أوصى له بدنانير غير موصوفة، فحالت السكة بزيادة أو نقصان أو إلى خلافها في الصفة، أو أوصى له بكيل فزيد فيه أو نقص منه قبل موته، فروي عن ابن نافع فيمن أوصى بدنانير غير موصوفة، أنه يخرج عنه من السكة الجارية يوم موته، لا يوم وصيته، وذلك عندي إذا علم بما حالت إليه السكة قبل موته، فأقر وصيته ولم يغيرها على ما قال ابن كنانة في من أوصى لرجل بدنانير، فحال وزن الناس

(13/71)


فصار يجوز بينهم أنقص من ذلك، أو أوزن، إنه إنما يعطى ما كان يجوز بين الناس بين موت الموصي إن كان يعلم جواز الناس يومئذ، وإن لم يكن يعلم فإنما للموصى له الوزن الذي كان يعلم به الموصي. قال: وكذلك في المكائل تتغير. وقد نزلت بطليطلة مسألة من أوصى لرجل بدنانير، فحالت السكة إلى سكة أخرى فشاور فيها فقهاء قرطبة، فأفتوا بوجوب الوصية من السكة الجارية يوم مات الموصي لا يوم أوصى وأقاموها من مسألة الخيش والمسح والخريطة الواقعة في آخر رسم أوصى من سماع عيسى، وليست تشبهها؛ لأن الوصية بذلك إنما كانت بحضرة وفاته، والخيش والمسح مملؤان طعاما والخريطة مملؤة دراهم، وإنما كانت تشبهها لو أوصى بهما والخيش والمسح مملؤان قمحا والخريطة مملؤة دنانير، فتوفى والخيش والمسح مملؤان شعيرا والخريطة مملؤة دراهم، وما أشبه ذلك. فمسألة الذي أوصى بجزء من ماله، أو بمثل نصيب أحد ولده، أشبه بها، وقد بينا وجه الحكم فيها، وبالله التوفيق.

[مسألة: يوصي بثلثه إلى رجل ليس بوارث له]
مسألة قال مالك في رجل يوصي بثلثه إلى رجل ليس بوارث له، لينفذه حيث سمي الهالك، فيريد الورثة أن يقوموا منه، ويقولون: نحن نتهمه، إن ذلك ليس لهم، إلا أن يكون فيما أوصى به عتاقة، أو شيء تبقى منفعته للوارث، فيكون لهم أن يقوموا معه؛ لأن الولاء يصير إليهم، ويتهمونه أن يقول: قد أعتقت، ولم يعتق عنه أحدا، فلهم القيام معه في العتاقة، فإن كان الوصي وارثا فلهم القيام معه في العتاقة وفي غيرها حتى ينفذ كل ما جعل إليه الهالك من العتق وغيره.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في أول سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته. وبالله التوفيق.

(13/72)


[مسألة: يهلك ويوصي للرجل بخمسين دينارا يتجر فيها سنة له ربحها]
مسألة قال مالك في الرجل يهلك ويوصي للرجل بخمسين دينارا يتجر فيها سنة له ربحها، وللهالك عليه خمسون دينارا حالة هو بها معسر، فيقول الورثة عليك خمسون دينارا حالة فإن أحببت أن تنقدناها ونعطيك الخمسين التي أوصى لك بها، وإن أحببت فهي نظرة لك سنة، إنه إن لم يكن بيده شيء يقبضونه منه، دفعت إليه الخمسون التي أوصى له بها، وابتغوا منه بعد ذلك الذي عليه إن وجدوا عنده شيئا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأنه إذا كان معسرا بالخمسين التي عليه كان من حقه أن يؤخر بها حتى يوسر لقول الله عز وجل: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] . فإن لزم الورثة أن يؤخروه بها، لزمهم أن يدفعوا إليه وصيته، ولو كان ميسرا بها لكان من حقهم أن يؤخروه بها في الوصية التي أوصى له بها، ولو كان ميسرا ببعضها، لكان من حقهم أن يؤخروه بما أيسر به منها، ويدفعوا إليه بقية الخمسين يتجر بها سنة، وكذلك لو كان عليه دين لغيرهم لكان من حقهم أن يحاصوا أهل الديون بجميع الخمسين، فما نابهم في المحاصة من ماله أخذوه ودفعوا إليه الخمسين يتجر بها سنة كما أوصى. وإن شاءوا نزعوا بيده ما صار لهم في المحاصة ووفوه بقية الخمسين يتجر بها سنة، كما أوصى له به موروثهم. وفي آخر رسم التسمية من سماع عيسى مسألة من هذا المعنى سنتكلم عنها إذا مررنا بها إن شاء الله عز وجل وبه التوفيق.

(13/73)


[مسألة: توفي وترك مالا وورثة وأوصى إلى رجل]
ومن كتاب الأقضية وسئل عمن توفي وترك مالا وورثة وأوصى إلى رجل، كيف ترى أن ينفق عليهم؟ قال: ينفق على كل إنسان من مصابته بقدره، ليس الصغير كالكبير، فقيل له: من قدر حصته؟ فقال: ينفق عليه من حصته، وليس الصغير في ذلك كالكبير.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا إشكال فيه؛ لأن نفقة كل واحد منهم على نفسه، بقدر ما يحتاج إليه من ماله، قل أو كثر، فلا يصح أن تكون النفقة عليهم من جملة المال ملغاة، إذ لا يلزم أن يحمل بعضهم شيئا من ذلك عن بعض، وبالله التوفيق.
مسألة وسألته عمن أتاه أخ له من إخوته بكتاب وصيته، قد طبع عليها، فيقول له: اكتب شهادتك في أسفله على إقراري أنه كتابي، ولا يعلم الشاهد ما فيها، فيكتب شهادته في أسفلها على إقراره أنها شهادة وصيته. أترى أن يشهد بها؟ فقال: إن لم يشك في خاتمه، فليشهد، وإن شك فلا يشهد إذا كانت الوصية ليست عنده. قلت له: كيف لا يشك في الخاتم إذا غاب عنه؟ فقال: لا أدري إن شك فلا يشهد. وإن تيقن أنه خاتمه بعينه لم يفض فليشهد. قال: وكان من أمر الناس القديم إجازة الخواتم، حتى إن كان القاضي لم يكتب للرجل بالكتاب إلى القاضي، فما يزيد على خاتمه، فيجاز له، حتى أحدث عند اتهام الناس الشهادة على خاتم القاضي أنه خاتمه، وأن أول من أحدثه أمير المؤمنين وأهل بيته.

(13/74)


قال محمد بن رشد: قوله: إن لم يشك في خاتمه أنه خاتمه، فليشهد، معناه: إن لم يشك في الطبع الذي أشهد هم عليه أنه هو بعينه لم يفض فليشهد، يبين ذلك قوله: وإن تيقن أنه خاتمه بعينه لم يفض فليشهد، وهذا ما لا سبيل للشاهد إلى تيقنه إذا لم تكن الوصية عنده، وقد بين ذلك بقوله: قلت له: وكيف لا يشك في الخاتم إذا غاب عنه؟ فقال: لا أدري، إن شك فلا يشهد، فذلك يرجع من قوله: إنه لا يجوز للشهود إذا أشهدوا على وصية مطبوع عليها أن يشهدوا فيها، إلا أن تكون الوصية عندهم قد دفعها الموصي إليهم على ما وقع في المدونة من قول مالك في رواية ابن وهب عنه: وإذا دفعها إليهم فدفعوها إلى أحدهم أو إلى من وثقوا به من غيرهم فكانت عنده، جاز لهم أن يشهدوا عليها. روى ذلك عبد الرحمن بن دينار عن ابن الماجشون. والذي يتوقع من هذا إذا شهد الشهود. على الوصية، وهي مطبوع عليها، ولم يدفعوها إليهم، وأمسكها عند نفسه أن يكون طبع عليها وهي بيضاء، فيكتب فيها بعدما شاء، ولعل غيره أيضا من أهله قد قبض خاتمه وكتب فيها ما شاء، وطبع عليها بذلك الخاتم، فلو طبع الشهود عليها مع طابعه لجاز لهم أن يشهدوا عليها إذا عرفوا خواتمهم. قال ذلك ابن الماجشون. والذي استحسنه الشيوخ ومضى عليه عمل الناس أنه إذا طوى الكتاب من أوله إلى موضع الإشهاد على نفسه، فطبعه، وقد أبقى الأشهاد على نفسه خارج الطبع، وكتب الشهود شهاداتهم على ذلك، فأمسك الموصي الوصية عند نفسه، فوجدت بعد موته خطا واحدا وعملا واحدا على صفة التقييد الذي كان خارج الطبع، ولم يظهر في الكتاب ريبة، جاز للشهود أن يشهدوا عليه، بخلاف إذا لم يبق من الكتاب خارج الطبع ما يستدل به على أن الوصية كانت مكتوبة، ولم تكن مطبوعة على بياض، ولو أراهم الوصية مكتوبة، وكتبها بحضرتهم فطبع عليها، وأشهدهم على نفسه بما فيها دون أن يقرأها عليهم أو يعلمهم بشيء مما فيها، فكتبوا شهادتهم فيها، لجاز لهم أن يشهدوا عليها بعد موته، وإن لم يدفعها إليهم وكانت عنده إلى أن توفي باتفاق

(13/75)


إذا ذكروا الشهادة وعرفوا الكتاب على ما رواه ابن القاسم عن مالك في الوصايا الأول من المدونة، وأما إذا لم يذكر الشهادة ولا عرف الكتاب، إلا أنه عرف خطه في شهادته، فيجري ذلك على الاختلاف في شهادة الشاهد على خطه إذا لم يذكر الشهادة.
وقد مضى تحصيل ذلك في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة ضمن سماع ابن القاسم من كتاب الشهادات. وقد ذكر البخاري عن الحسن وأبي قلابة أنهما كرها أن يشهد على وصية حتى يعلم ما فيها؛ لأنه لا يدري لعل فيها جورا، وكذلك استحب للعالم أيضا إذا أشهده المتعاملان على أنفسها في كتاب ذكر الحق مما تعاملا فيه، لا يكتب شهادته، إذ الشهادة على أنفسهما بما تضمنه وأقرا عنده بمعرفة ما فيه، حتى يقراه، لئلا تكون المعاملة في ذلك بينهما فاسدة. وقوله في الشهادة على كتاب القاضي: إن أول من أحدثه أمير المؤمنين وأهل بيته، يريد بني العباس وفى البخاري: إن أول من سأل البينة على كتاب القاضي ابن أبي ليلى وسوار بن عبد الله العنبري. وأجاب ابن حبيب: الكتاب يأتي إلى القاضي من أعراض المدينة بمعرفة الخط ومعرفة الختم، وبالشاهد الواحد إذا لم يكن صاحب القضية لقرب المسافة، واستدراك ما يخشى من التعدي وقال بذلك ابن نافع وابن كنانة في الحقوق اليسيرة، وبالله التوفيق.

[مسألة: ابتاع رقبة للعتق فأعتقها عمن أوصى إليه]
مسألة قال: وسئل عمن ابتاع رقبة للعتق، فأعتقها عمن أوصى إليه أن يعتق عنه رقبة، ثم لحق تلك الرقبة عول سبعة عشر دينارا بعد ما عتقت، فقال: يمضي العتق، فيكون على الذي اشتراه فأعتقه سبعة عشر دينارا غرما عليه، فقال الرجل: أترى الغرم علي يا أبا عبد الله؟ فقال: نعم، إن الغرم عليك، فقال وكيف يكون الغرم

(13/76)


علي وأنا إنما اشتريته لغيري في سوق المسلمين ببيع السلطان؟ فقال: أنت جعلت نفسك بهذه المنزلة، وأرى ذلك عليك، ولو شئت لم تشتره. فقال: وجدت أن يكون بيع السلطان أسلم لي، فقال له: قد أخطاك ذلك، فقال أفترى الغرم علي؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الغرم في ذلك على الوصي، خلاف مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة لأنه قال في الذي يوصي أن يحج عنه، فينفذ الوصي ذلك، ثم يستحق رجل رقبة الميت، إنه إن كان الميت حرا عند الناس يوم التنفيذ، فلا يضمن له الوصي شيئا، ولا الذي حج عن الميت، وكذلك قال أيضا فيها في الذي يوصي أن يحج عنه فيدفع الوصي المال إلى عبد ليحج به عن الميت، وهو يظنه حرا، إنه لا ضمان عليه، والذي يأتي في هذه المسألة على ما في المدونة من أن الوصي لا ضمان عليه، إلا أن يفرط أو يتعدى أن يباع من الرقبة بالسبعة عشر دينارا التي لحقها من العول، وينفذ حرية باقيها، على قياس ما قاله في سماع موسى بن معاوية من هذا الكتاب، في الذي يوصي أن يباع غلامه رقبة، فبيع رقبة، ووضع المشتري ثلث الثمن، فأعتقه، ثم جاء درك على الهلاك من دين ثبت عليه، أنه يباع من العبد قدر ثلث الدين إن كان العبد ثلث المال، ويؤخذ من الورثة ثلثا الدين، وإن كان العبد أقل من ثلث المال، فعلى حساب ذلك؛ لأنه بنى جوابه في ذلك على أن الموصي لا ضمان عليه، على أن الوصية إنما هي للعبد، لا للمشتري، خلاف ما ذهب إليه ابن كنانة أن الوصية إنما هي على المشتري، الذي حط عند ثلث ثمنه، فيرجع بذلك عليه ويمضي عتق العبد، ولا يباع منه شيء، وقول ابن كنانة هذا يأتي على مما أوصى في رسم الوصايا من هذا السماع، إنه إن لم يوجد من يشتريه، إلا بوضيعة الثلثين، لا يباع ولا ينفذ له الوصية. وقد مضى الكلام على هذا هنالك. وظاهر ما في رسم الأقضية من سماع يحيى أنه لا ضمان على الوصي،

(13/77)


مثل ما في المدونة وقول غير ابن القاسم في المدونة، وهو أشهب ليبين جهلهم، يريد: إلا وصاياه الذي يزيد عنهم الضمان، مثل روايته هذه عن مالك في أن السبعة عشر دينارا لعول يكون على الوصي، ورأيت لابن دحون أنه قال: إنما لزمه السبعة عشر دينارا لأنه فرط، إن لم يكشف الأمر قبل العتق، ولو علم أنه لم يفرط وأنه اجتهد في فعله لم يلزمه شيء، ورد من رقبته المعتقة بقدر الدين، ولا اختلاف عندي في أنه ضامن إذا تبين تفريطه، وإنما الاختلاف إذا لم يتبين ذلك، فحمله على التفريط في هذه الرواية وضمنه وهو قول أشهب في المدونة على ما ذكرناه، وحمله في المدونة على غير التفريط فلم يوجب عليه ضمانا، ولا اختلاف في ذلك من قول ابن القاسم منصوص عليه قرب آخر الرسم الأولى من سماع أصبغ في الوصي يشتري الرقبة فيعتقها عن الميت، فيستحق رجل نصفها ويأخذه؛ لأنه قال فيما حكى عنه أصبغ مرة: إنه يقوم على الوصي، وقال مرة: إنه يقوم على الورثة لا على الوصي، وإياه اختار أصبغ، وفي سماع أبي زيد: إن الوصي ضامن إذا اشترى نصرانية فأعتقها عن رقبة واجبة عن الميت، قال: لأنه فرط حين لم يسأل ويستحضر، وهو مثل أحد القولين. وفي قوله في الرواية: وكيف يكون الغرم علي وإنما اشتريته في سوق المسلمين ببيع السلطان إلى آخر قوله نظر إذ لا فرق فيما يوجبه الحكم فيما يلحق الرقبة من العول بين أن يشتريها فيما يبيع السلطان، أو ممن يبيع ماله. وكان مالك في ظاهر قوله قد سلم له اعتراضه، إذ لم يرده عليه بأن يقول له: وأي فرق بين أن يشتريها بما يبيع السلطان أم لا إذا لحقها العول؟ ولم يذهب مالك إلى تسليم اعتراضه، إذ لا يصح أن يسلم، وإنما ضرب على ذلك إذ رأى فساد اعتراضه فقال له: أرى ذلك عليك لو شئت لم تشتره أي لو شئت لم تشتره حتى يثبت فيعلم السلامة من أن يلحقها عول، وبالله التوفيق.

(13/78)


[: وصية عمر بن الخطاب إلى حفصة زوج النبي]
ومن كتاب الطلاق قال مالك: أوصى عمر بن الخطاب إلى حفصة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال مالك: وأرى فعل ذلك لمكانها من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
محمد بن رشد: تأويل مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - بين، إذ لا شك في أن لها بكونها زوجة لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مزية على سائر أولاده. وبالله التوفيق.

[مسألة: أخوين مرض أحدهما وأوصى لآخر صحيح فزوج المريض ابنه بنت أخيه]
مسألة وسئل عن أخوين مرض أحدهما وأوصى لآخر صحيح، فزوج المريض ابنه بنت أخيه، وضمن الصداق عن ابنه وزوج الصحيح ابنه بنت أخيه وضمن الصداق على ابنه، وأعتق المريض أم ولده، وأصدقها ألفي درهم، ثم مات، فقال مالك: أما المريض الذي ضمن الصداق عن ابنه، فليس بجائز، والنكاح الذي أنكح ابنه جائز لازم، والمال الذي ضمن وسمى ليس بجائز في ماله، إن أحب الابن أن يعطي ذلك الصداق من مال نفسه جاز ذلك، وإن كره فارق ولا شيء عليه، وأما الذي أعطاه الأخ الآخر من مال نفسه وضمن وهو صحيح، فذلك جائز ثابت؛ لأنه يقضي في ماله ما بدا له، وأما ما ذكرت من عتق المريض أم ولده في مرضه، ونكاحه إياه في مرضه، فإن عتقه جائز؛ لأنها تعتق من بعد موته، لما مضى في ذلك من السنة، ولا يحسب في ثلثه ولا في غيره من رأى ماله، فأما نكاحه إياها فليس بجائز، ولا صداق لها ولا ميراث في ثلث ولا غيره من رأس ماله، إلا أن يكون دخل بها، فإن كان دخل

(13/79)


بها، رأيت صداقها من الثلث مبدأ على أهل الوصايا. قلت له: أرأيت لو كان ذلك الصداق أكثر من صداق مثلها؟ قال: أرى ذلك كله لها، قلت له، وراجعته: فقال: ما شأنه أعطاها ذلك. فقلت: أرى أن يوجد لها ما أعطاها، وهو أضعاف صداقها بالدخول، فقال: إنما يكون ذلك كله لها وإن كان ذلك أكثر من صداق مثلها.
قال محمد بن رشد: قوله في المريض الذي زوج ابنه بنت أخيه، وضمن الصداق عنه: إن ذلك ليس بجائز، معناه: إن ذلك لا يلزم ورثته إن مات من مرضه ذلك، ولهم أن يردوه؛ لأنه وصية لوارث، وقوله: والنكاح الذي أنكح ابنه جائز لازم للزوجة، إن رضي الابن أن يعطي الصداق من ماله إن كان كبيرا أو رأى ذلك الوصي إن كان صغيرا، ولا اختلاف في أن الصداق لا يجب للابن في مال الأب إن مات من مرضه، وحمل عنه الصداق، فقيل؟ إنها وصية للبنت لا تجوز، إلا أن يجيزها الورثة. وقيل: إنها وصية للزوج تجوز له من ثلثه، إلا أن يكون الصداق الذي سمى لها، وحمله عن الزوج أكثر من صداق مثلها، فيكون الزائد على صداق مثلها وصية لها باتفاق، لا تجوز إلا أن يجيزها الورثة.
وقد مضى هذا كله والقول عليه مستوفى في رسم العرية من سماع عيسى من كتاب النكاح. وقد قال مالك في المدونة فيما يضمن الأب عن ابنه في مرضه: لا يعجبني هذا النكاح. ووجه كراهيته له ما دخله من الخيار. ووجه القول الآخر أنه خيار لم ينعقد عليه النكاح، وإنما وجب الحكم، فلم يكن فيه تأثير كالسفيه، يتزوج بغير إذن وليه، والعبد بغير إذن سيده. وأما الصحيح إذا زوج ابنه ابنة أخيه، فضمن عنه الصداق، أو زوج ابنته ابن أخيه، فضمن عنه الصداق، فلا اختلاف في لزوم الصداق، وجواز النكاح، وكذلك إذا فعل ذلك في مرضه فصح ولم يمت من ذلك المرض. وقوله في

(13/80)


الذي أعتق أم ولده في مرضه وتزوجها فيه: إن العتق جائز، فلا صداق لها ولا ميراث في رأس مال ولا ثلث، صحيح لا اختلاف فيه. وأما قوله: إلا أن يدخل بها فيكون لها الصداق من الثلث مبدأ على أهل الوصايا وإن كان ذلك أكثر من صداق مثلها، فهذا يختلف عنه في موضعين: أحدهما: في الزائد على صداق المثل، قيل: إنه يبطل، وهو ظاهر ما في كتاب الأيمان بالطلاق من المدونة. وقيل: إنه يكون لها غير مبدأ، وهو قول أصبغ. وروي ذلك عن ابن القاسم، وقيل: إنه يبدأ جميع ما سمى لها وإن كان أكثر من صداق مثلها، وهو قوله في هذه الرواية وقول ابن الماجشون،. ورواية ابن نافع، وعلي بن زياد، وابن عبد الحكم، عن مالك، واختيار سحنون. والموضع الثاني قوله: إنه يبدأ على جميع الوصايا، فقيل: إنه يبدأ على جميعها المدبر في الصحة وغير ذلك، وقيل: إنه يبدأ على جميع الوصايا، حاشا المدبر في الصحة، فإنه يبدأ عليه، وقيل: إنه لا يبدأ أحدهما على صاحبه، والثلاثة الأقوال لابن القاسم، وبالله التوفيق.

[مسألة: أوصى بثلث ماله لرجال من ربع الثلث وجزء من الثلث]
مسألة وسئل عمن أوصى بثلث ماله لرجال من ربع الثلث، وجزء من الثلث، حتى استوعبه وأوصى لجارية له وغلام، أن يباعا ممن أحبا، وترك مدبرة، فوجد جميع الثلث مائتا دينار، فقال: يبدأ بالمدبرة، فتخرج حرة بقيمتها خمسين دينارا وبقيت خمسون ومائة دينار من الثلث فيتحاص فيها أهل الوصايا، فالذين أوصى لهم بالثلث بمائتي دينار، وهو ثلث المال، والجارية والغلام اللذان أوصى لهما أن يباعا ممن أحبا يحاصان الذين أوصى لهم بثلث أثمانهما بالغ مبلغ، يتحاصون في ذلك أهل الوصايا بالمائتي دينار، والجارية والغلام بثلث أثمانهما. قيل له: إنه قد كان قضى في

(13/81)


العبد أن يبتاع بثلثي ثمنه ممن أحب، وأعتقه المشتري الذي اشتراه، فقال: أرأيت إن قضى القاضي بالخطأ لا يرد؟، فقيل: فكيف ترى؟ قال: أرى أن يأخذ ذلك العول الذي يصيب العبد ممن اشتراه فأعتقه، ولا يكون على العبد شيء، يؤخذ ذلك ممن اشتراه فأعتقه، يقال له: أنت أعتقته، ولو شئت لم تعتقه، قيل له: مما وضع عن المشتري في مثل هذا فهو له، ليس للعبد منه شيء، فقال: نعم، يوضع عن المشتري ثلث ثمن العبد، وذلك الذي أوصى به الميت للمملوك.
قال محمد بن رشد: ما قاله من أن المدبرة تبدأ في الثلث، ثم يتحاص أهل الوصايا في الباقي، فيضرب فيه الموصى لهم بالثلث، والجارية والغلام اللذان أوصى لهما أن يباعا ممن أحبا بثلث أثمانهما صحيح، لا إشكال فيه؛ لأنه هو الذي يكون من حقهما أن يوضع عمن أحبا أن يباعا منه، إذا لم يرد أن يشتريهما إلا بوضيعة من أثمانهما، وقد قيل: إن الجارية والغلام يبديان على أهل الوصايا بثلث أثمانهما. قاله ابن القاسم بعد هذا في رسم استأذن، وهو الذي يأتي على القول بأنها وصية لهما إن لم يرد الذي أحبا أن يباعا منه أن يشتريهما بوضعية الثلث، قيل للورثة: إما بعتموهما بما أراد، وإما أعتقتم منها أثلاثهما. وأما قوله: إنه إن بيع العبد بثلث ثمنه فأعتقه المشتري قبل المحاصة، إن ما دخله من العول في المحاصة يؤخذ ممن اشتراه فأعتقه، فالوجه في ذلك أنه رآها وصية للمشتري لا للعبد، ولو رآها وصية للعبد لقال: إنه يباع بما أصابه من العول في المحاصة، ولا يكون على المشتري شيء كما قال في سماع موسى بن معاوية في الذي أوصى أن يباع عبده رقبة، فبيع ووضع عن المشتري ثلث الثمن، ثم جاء درك على الهالك من دين ثبت عليه، إنه يباع من العبد ما نابه من الدين، ولا يرجع على المشتري بشيء.

(13/82)


ويتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها وصية للمشتري في المسألتين جميعا لا للعبد، فيرجع بالعول عليه، لا على العبد. والثاني: أنها وصية للعبد في المسألتين جميعا، فيرجع عليه بالعول لا على المشتري، ويباع منه بما نابه من العول. والقول الثالث: أنها وصية للعبد إذا أوصى أن يباع ممن أعتقه، فيكون الرجوع بالعول عليه، ووصية للمشتري، إذا أوصى أن يباع ممن أحب، فيكون الرجوع على المشتري لا على العبد.
وقد مضى بيان هذا في رسم الوصايا من هذا السماع، فقف عليه وبالله التوفيق.
ثم الثاني من الوصايا والحمد لله والصلاة الكاملة على سيدنا ومولانا النبي الكريم والحمد لله رب العالمين.

(13/83)