البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة

 [: كتاب الوصايا الرابع] [قالت في مرضها وهي توصي ثلث مالي حر فلان غلامي حر]
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم
من كتاب الكبش قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن امرأة قالت في مرضها وهي توصي: ثلث مالي حر، فلان غلامي حر، قال: أرى أن يعتق الغلام، ويبدأ في ثلث المال، فإن فضل منه شيء، اشتريت منه رقاب، فأعتقت، قلت: فإن كان لها رقيق، أترى قولها ثلث مالي حر يوجب لهم وصية بعتاقة؟ قال: نعم، ويقرع بينهم بعد عتق الذي نصت، إن لم يحمل الثلث عتقهم.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن العتق المعين يبدأ على ما سواه مما ليس بمعين، ولا اختلاف في هذا أحفظه، وبالله التوفيق.

[مسألة: يوصي بثلث ماله لأم أولاده]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الرجل يوصي بثلث ماله لأم أولاده، وله منها أولاد، أو ولد له منها. قال: ذلك جائز لها. قلت: أما ترى أنه أراد بذلك غنى ولدها منه إن كان منها ولد؟ فكأنه أوصى لولده، قال: لا ولكن يحمل من ذلك ما تحمل؛ لأنها تعتق بعده، وتكون أحق بما أوصى لها به، ولعلها أن ترث جميع ولدها، والأمر الذي خيف عليه في الوصية لها غيب محجوب، ولا

(13/193)


ترد الوصايا بالظن، قال: ومثل ذلك المرأة توصي لابن زوجها من غيرها، وقد سمعت مالكا يجيزه، ولا يرى رده. قلت: والمرأة توصي لأم ولد زوجها أتجوز الوصية لها؟ قال: أما الشيء التافه اليسير الذي يرى أنها لم ترد به إلا الأم ولو لقلته، ومثل ذلك يوصي به لمثلها، فهو جائز وإن كان كثيرا يرى أنها إنما أرادت به المحاباة لزوجها، فهو مردود على الورثة؛ لأن مال أم الولد هو للسيد إن أحب نزعه منها نزعه.
وأما ما أوصت به المرأة لأبوي زوجها أو لإخوته، أو لأخواته، أو بعض قرابته، أو بعض أخواته المصافين له، أو كل ما يخشى أن يكون إنما أرادت رد ذلك على زوجها حين أوصت به لبعض هؤلاء، غير أن الذي يتهم به لا يعرف، ولم يظهر شيء من سبب يدل عليه إلا ظنا؛ فإنه ماض لمن أوصى له به، ولا ترد وصيتها لسوء الظن بها، ولعل الذي أوصت له لا يريد أن يعطى الزوج من ذلك قليلا ولا كثيرا.
قال: وسواء أوصت للذي توصي له بالمهر الذي على زوجها أو غيره. قال أصبغ مثله، وكذلك وصية الرجل لولد ولده، وأبوهم وارث حي، فهي جائزة، ولا ترد بالظنة؛ قيل لأصبغ: فهل على الموصى له يمين في هذه المسائل كلها، أن ذلك لم يكن توليجا من الميت إليه ليرده على وارثه؟ قال: لا يمين عليه، وهو مدين، وسواء كانت وصيته على أجنبيين أو ذوي قرابة، لا يمين عليهم، ولا يرد ما كان من فعل الميت في ذلك بالظنة والتهمة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة كلها صحيحة لا اختلاف فيها، حاشا قول أصبغ: إنه لا يمين على الموصى له؛ أن الوصية إليه لم

(13/194)


يكن يرد ذلك على الوارث؛ لأنها يمين تهمة يدخل فيها الاختلاف المعلوم في لحوق يمين التهمة، ولو حقق أحد الورثة عليه الدعوى بذلك لحقته اليمين باتفاق، وكان له ردها، وبالله التوفيق.

[مسألة: أوصى فقال لفلان كذا وكذا ولفلان كذا من مالي في ثلثي]
مسألة قال يحيى، وسألت ابن القاسم عمن أوصى فقال: لفلان كذا وكذا، ولفلان كذا من مالي في ثلثي، ثم فلان غلامي حر. قال: يبدأ الأول، ثم الثاني بوصيتهما في الثلث، ثم يعتق العبد في فضله إن بقي بعد وصيتهما شيء، قال: وإن ضاق الثلث عن وصيتهما تحاصا.
ولم يبدأ الذي قال له كذا وكذا في ثلثي على الآخر، الذي قال له كذا وكذا، ولم يقل في ثلثي. قال: ولو قال أيضا لفلان كذا في ثلثي، ولفلان كذا وكذا، ولم يقل في ثلثي، ولفلان ثلث مالي أو سدسه، أو جزء من أجزائه، تحاصوا أجمعون في الثلث، إلا أن يكون الموصي أمر بتبدئة أحد منهم، فيبدأ بالذي نص له في الوصية جزءا من ماله، أو عدة من الدنانير والدراهم، أو أوصى له بشيء بعينه، ذلك كله عندنا سواء، يتحاصون جميعا بحساب ما أوصى لهم إلا أن يبدئ أحدا منهم فيبدأ اتباعا لأمره، وإنفاذا لوصيته، والعتاقة مبدأة أبدا، إلا أن يؤخرها الموصي فتوضع حيث رضي، وتؤخر حيث جعلها، ولا يخالف فيها ما أوصى به؛ لأنه أحق بثلثه، يضعه حيث أحب.
قال محمد بن رشد: هذا كله بين على ما قاله، صحيح على معنى ما في المدونة وغيرها، لا اختلاف في شيء منه إلا فيما قاله من أن الوصية بالجزء وبالعدد أو بالشيء بعينه سواء، يتحاصون في ذلك كله، فإن فيه اختلافا قيل: إنه يبدأ العدد على الجزء، وقيل: إنه يبدأ الجزء على

(13/195)


العدد، وقيل: إنهما يتحاصان وهو المشهور في المذهب، والثلاثة الأقوال لمالك، إلا أن يقول لفلان ثلثي، ولفلان منه كذا وكذا، فيبدأ العدد على الجزء، وقد مضى الكلام على هذا مستوفى في رسم اغتسل، من سماع ابن القاسم، وفي رسم الوصايا من سماع أشهب، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[: يقول في وصيته ثلث عبدي فلان حر وأعطوه ثلث بقية مالي]
ومن كتاب الصبرة
وقال في رجل يقول في وصيته: ثلث عبدي فلان حر، وأعطوه ثلث بقية مالي؛ أنه لا يعتق منه إلا الثلث الذي جعله عتيقا من رقبته، ولا يعتق ما بقي منه في بقية الثلث، ولا يعطاه إلا ما لا يجعل في رقبته منه شيء، وليس هو مثل العبد الذي يوصي له سيده بثلث جميع ماله، فيجعل ذلك الثلث في عتق رقبته.
قال محمد بن رشد: في قوله: إنه لا يعتق من العبد إلا ثلثه الذي أوصى السيد بعتقه، وهو قد أوصى له بثلث بقية ماله نظر؛ لأن ثلثي رقبته الباقيين منه من ماله، وهو قد أوصى له بثلث بقية ماله، فوجب على قياس قوله أن يعتق على نفسه ثلث الثلثين الباقيين من رقبته؛ لأنه قد ملكه ذلك؛ إذ أوصى له بثلث ما بقي من ماله، وإذا أعتق على نفسه شيء منه وجب أن يقوم عليه بقيته في ماله، على قياس قوله، فلم يعرف في هذه الرواية بين أن يوصي له بعتق ثلثه، وبثلث ما بقي من ماله، وبين أن يوصي له بعتق ثلثه وبقية ثلث ماله، وهما مفترقان في وجه القياس.
وقد مضى هذا في رسم أسلم من سماع عيسى، وبالله التوفيق.

[: يوصي فيقول أعطوا فلانا مائة ولا يذكر دراهم ولا دنانير]
ومن كتاب الصلاة وسئل عن الرجل يوصي فيقول: أعطوا فلانا مائة، ولا ينص

(13/196)


دنانير ولا دراهم، قال: سمعت مالكا يقول: يعطى مائة درهم، فإن أوصى في وصيتين، فقال في إحداهما: أعطوه عشرين دينارا، وقال في الأخرى: أعطوه ثلاثين دينارا، لم يعط ما في الوصيتين، ولكن يعطى الأكثر مما في الوصيتين، وذلك ثلاثون دينارا، قال: وإن قال في إحدى الوصيتين: أعطوه مائة درهم، وقال في الأخرى: أعطوه مائة دينار، أعطي ما فيهما جميعا؛ المائة درهم والمائة دينار. قال: وكذلك لو أوصى له في إحداهما بفرسين، وفي الأخرى بثلاثة، أعطي ثلاثة، ولم يعط ما في الوصيتين، ولو أنه أوصى له في إحداهما بفرسين، وفي الأخرى بجملين، أعطى ما في الوصيتين جميعا قال: وعلى هذا النحو الذي بينت لك، يحمل كل ما أوصى به المرء في وصيتين، يختلف ما فيهما من الثياب والحيوان والدنانير والدراهم، وجميع العروض، إذا كان ما في الوصيتين من صنف واحد مختلف العدد، أعطي الأكثر ولم تجمع له الوصيتان، وإذا كان ما فيهما من صنفين مختلفين، اتفق العدد أو اختلف، فله ما فيهما جميعا.
قال محمد بن رشد: أما إذا أوصى له بمائة، ولم يقل دنانير ولا دراهم، فقوله: إنه يعطى الدراهم، معناه إذا كان البلد إنما يجري فيه الدراهم، أو كان تجري فيه الدراهم والدنانير، ولم يكن في وصية الميت ما يدل على أنه أراد الدنانير، مثل أن يقول: لفلان عشرون دينارا، ولفلان مائة، ولا يسمي دنانير ولا دراهم، فله الدنانير: هذا كله قاله في سماع أصبغ في أول رسم منه، وهو مفسر لهذه الرواية، وكذلك إذا أوصى له بعدد محدود من الطعام، ولم يقل قمحا ولا شعيرا يجري على هذا القياس، إن كان غالب ما يتقوت به الناس في البلد القمح، أو كان في وصيته ما يدل على أنه أراد القمح، فله القمح، وإلا فله الشعير، وأما إذا أوصى له بوصيتين، في

(13/197)


الأولى بعشرين دينارا، وفي الثانية بثلاثين دينارا، فقوله في هذه الرواية: إنه يعطى الأكثر منهما ولا يعطهما جميعا، هو نص قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها، وسواء على مذهبه كانت الأولى هي الأقل أو الأكثر، وسواء أيضا كانتا في كتاب واحد، أو في كتابين، وقال مطرف: إن كانت الأولى هي الأكثر، أو كانتا متساويين، فله الوصيتان جميعا؛ لأن أمره يحمل على أنه استقل ما أوصى له به أولا، فزاده عليه ما أوصى له به في الثانية، وإن كانت الأولى هي الأقل، فله الثانية وحدها؛ لأن أمره يحمل على أنه استقل ما أوصى له به أولا، فرجع إلى ما أوصى له به آخرا؛ إذ لا يزاد الكثير على القليل، وسواء كان ذلك في كتاب واحد أو في كتابين، وقال ابن الماجشون كما قال ابن القاسم: إن كانت الوصيتان في كتابين، وكما قال مطرف: إن كانت في كتاب واحد، قال: وذلك إذا كان بين الوصيتين وصايا لغيره، وأما إن لم يكن بينهما إلا كلام من غير الوصية، فذلك بمنزلة إذا نسق الوصيتين، أحدهما بعد الأخرى، فقال لزيد عشرة، ولزيد عشرون، فإنه يكون له العشرة والعشرون، قال: ولو قال لزيد عشرة لزيد عشرون بغير ولو لم يكن له إلا العشرون، وكذلك على مذهبه لو قال: لزيد عشرون لزيد عشرة، بغير واو، لم يكن له إلا العشرة، قال ذلك تأويلا على ما رويناه عن مالك، من أن له الوصيتين إن كانت الأولى أكثر.
والثانية وحدها إن كانت الأولى أقل؛ إذ لم يسهما منه تفرقة بين أن تكون الوصيتان في كتابين، أو في كتاب واحد، ولا مساواة بين ذلك، ووجه قول ابن القاسم: إن له الأكثر من الوصيتين كانت الأولى أو الآخرة، هو أنه إن كانت الأولى أكثر، فقد تحققت الوصية بها، وشككنا في الثانية إن كانت ناسخة لها، أو زيادة عليها، فلم تنسخ الأولى بالشك، ولا حكمنا للثانية بأنها زيادة على الأولى بالشك أيضا فبطلت، وأما إن كانت الثانية أكثر، فالوجه ما قاله مطرف، وأما إذا أوصى له بوصيتين، إحداهما دنانير، والأخرى دراهم، فاختلف قول ابن القاسم في ذلك، قال في هذه الرواية، وهو قوله في رواية سحنون عنه: إنهما له

(13/198)


جميعا كالصنفين، وروى عيسى عنه في المدونة: أن له الأكثر منهما، كالصف الواحد، وهو قول مطرف وابن الماجشون في الواضحة: إنهما كالصنف الواحد، فإن كانت الثانية الأقل، كانتا له جميعا، وإن كانت الأكثر، لم يكن له سواها على أصلها في الوصيتين من الدنانير والدراهم، إحداهما أكثر من الأخرى، ويعتبر ذلك بمعرفة الصرف والقولان قائمان من المدونة والحيوان والعروض والدور والمكيل والموزون من الطعام وغيره عند ابن القاسم، سواء إن أوصى له بوصيتين من صنف واحد من ذلك كله، كان له الأكثر من الوصيتين، كانت الأولى أو الآخرة، وإن أوصى له بوصيتين من صنفين من ذلك كله، كانت الوصيتان جميعا، كان ذلك في كتاب واحد أو في كتابين، أو في لفظ بغير كتاب.
وذهب مطرف وابن الماجشون، إلى أنه إن كانت الوصيتان من العروض، فله الوصيتان جميعا، كانتا من صنفين أو من صنف واحد، اتفق عددهما أو اختلف، بمنزلة إذا أوصى له بعين وعرض، سواء كانت الوصيتان في كتابين، أو في كتاب واحد، ولابن الماجشون في ديوانه، أنه إذا أوصى له بعرضين مختلفين، فإن كان ذلك في وصية واحدة، كانتا له جميعا، وإن كان ذلك في وصيتين كان له الأكثر من قيمتهما، وبالله التوفيق.

[مسألة: يوصي للرجل بعشرة دنانير ولآخر بعشرين]
مسألة وقال في الرجل يوصي للرجل بعشرة دنانير، ولآخر بعشرين، ثم يقول: وبقية ثلث مالي لفلان، ثم يوصي بعد يوم أو أيام بوصايا ينصها من تسمية مال أو شيء بعينه، مثل العبد أو الدار أو الثوب أو الدابة، إن الذي أوصى ببقية الثلث، لا يعطي شيئا حتى يكون في الثلث فضل عن الوصايا المسماة للذين أوصى لهم حين جعل لهذا ببقية الثلث، والوصايا والآخرة التي أوصى بها بعدما جعل لهذا بقية الثلث، تنفذ للأولين وللآخرين وصاياهم، فإن فضل من الثلث

(13/199)


بعد، فهو للموصى له ببقية الثلث.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما تقدم في رسم أسلم، من سماع عيسى، ويفسره ما ذكره محمد بن المواز، وقد مضى الكلام عليه هناك، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: قال في وصيته ثلث مالي في سبيل الله ثم قال يقسم ثلثي أثلاثا]
مسألة قال: وإن قال رجل في وصيته: ثلث مالي في سبيل الله، ثم قال بعد ذلك بيوم أو بيومين: يقسم ثلثي أثلاثا فثلثه للمساكين، وثلثه في الرقاب، وثلثه يحج به عني، قال: الثلث يقسم نصفين، فنصف في سبيل الله، ويقسم النصف الثاني أثلاثا على ما نص في وصيته، وذلك لأنه يحاص بين الوجه الذي أوصى فيه بالثلث كاملا، وبين الوجوه التي أوصى فيها بالثلث، فيصير لأهل كل ثلث نصفه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة على معنى ما في المدونة وغيرها، من أن الرجل إذا أوصى بشيء بعينه لرجل، ثم أوصى به بعد ذلك لرجل آخر؛ أنه يكون بينهما، إلا أن يكون في الوصية الثانية ما يدل أنه قد رجع عن الأولى، ومثل أن يقول: الشيء الكذا الذي أوصيت به لفلان، فهو لفلان رجل آخر بخلاف الحرية؛ إذ لا يشترك فيها، وبالله التوفيق.

[مسألة: يقول في وصيته وفروا لأمي لضعفها سهما في كتاب الله]
مسألة وقال في الرجل يقول في وصيته: وفروا لأمي لضعفها سهما في كتاب الله، وثلثي ما عدا ما ينقص الثلث بتوفير سهم أمي صدقة على فلان، يريد: أن يخرج الثلث من جميع ما له، إلا سهم أمه،

(13/200)


لا يخرج منه ما يقع عليه من قسمة الثلث. قال: ويخرج الثلث للموصى له على حال ما أوصى به، ثم ترد الأم سهما، فيضاف إلى بقية المال، فيقسم على الورثة على كتاب الله، وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا وصية لوارث» ، فهو يريد أن يفضل أمه لتوفير سهمها، فلا يدخل عليها أهل الوصايا، ويدخلون على سواها فينقصون كلهم سواها، فهذا لا يجوز، قيل له: فلو قال: أعطوا أمي سهمها، ثم قال: لفلان سدس مالي. قال: تنفذ الوصية على حال ما قال، ثم يجمع سهم الأم إلى بقية المال، فتعاد فيه القسمة على كتاب الله.
قال محمد بن رشد: هاتان المسألتان بيِّنتان لا اختلاف فيهما، ولا إشكال في شيء من معانيهما، وما قاله من وجه العمل فيهما صحيح، إذا لم يجز الورثة للأم الوصية بتوفير سهمها، وبالله التوفيق.

[مسألة: كاتب جميع رقيقه في مرضه فلم يجز ذلك الورثة]
مسألة قلت لابن القاسم: أرأيت إن كاتب جميع رقيقه في مرضه، فلم يجز ذلك الورثة، والثلث بهم ضيق، أليس يعتق من كل واحد منهم ثلثه؟ قال: بلى، قلت: ولم لا يقرع بينهم في الثلث؟ قال: أرى إذا قطع الورثة الثلث أن يسهم بينهم فيه كالموصى لهم بالعتق.

(13/201)


قال محمد بن رشد: قوله: والثلث بهم ضيق، يدل على أن له مالا سواهم، وإذا كان له مال سواهم، فلم يحملهم الثلث، ولا أجاز الورثة الوصية بكتابتهم، فالواجب إذا قطع الورثة لهم بالثلث أن يعتقوا فيه بالحصص، مثال ذلك: أن يترك ثلاثة أعبد، قيمة كل واحد منهم ثلاثون دينارا، وله سواهم ثلاثون دينارا، فجميع المال مائة وعشرون الثلث من ذلك أربعون، يكون بين العبيد بالحصص، فيعتق من كل واحد منهم أربعة أتساعه؛ لأن الأربعين من قيمة العبيد، وهي تسعون، أربعة أتساعها، وإنما يعتق من كل واحد منهم ثلثه على ما قال، إذا لم يكن له مال سواهم، وهذا على قوله أولا.
وقوله آخرا: إنه يسهم بينهم في الثلث إذا قطع لهم به الورثة، خلاف قوله أولا، فوجه قوله أولا: إنه لا يقرع بينهم، ويعتقون بالحصص في الثلث، هو أن السنة في القرعة إنما جاءت في الوصية بالعتق، وقيس المبتلون في المرض عليهم، والوصية بالكتابة بخلاف ذلك، ووجه قوله آخرا: إنه يقرع بينهم، هو أن الوصية بالكتابة لما لم تنفذ إذ لم يحملها الثلث، ورجعت إلى العتق في الثلث، كانت كالوصية بالعتق، وأيضا فإنها أعدل؛ لأنه إذا أعتق من كل واحد ثلثه، إذا لم يكن له مال غيرهم، أو أعتق منهم بالحصص مبلغ الثلث إن كان له مال غيرهم، فقد أخذ الميت أكثر من ثلث ماله؛ لأن العبد إذا أعتق بعضه نقصت قيمته، وبالله التوفيق.

[: يقول في وصيته ساجي الطرازي لفلان]
ومن كتاب أوله يشتري الدار والمزارع وسألته عن الرجل الذي يقول في وصيته: ساجي الطرازي لفلان، أو عبدي فيوجد له عبيد بذلك الاسم، أو سيجان طرازية. قال: ينظر إلى عدة السيجان أو العبيد، فإن كانوا خمسة، فله

(13/202)


خمس قيمة كل واحد منهم، وإن كانوا ثلاثة، فله ثلث قيمتهم، ويعطى ثلث القيمة في العبيد أو السيجان بالسهم بالغا ما بلغت، صار له فيها ساج أو ساجان، أو عبد أو عبدان.
قلت: ولم أمضيت له الوصية، والشهود لم يثبتوا العبد بعينه، والساج بعينه؟ قال: إنما ترد هذه الشهادة التي ذكرت، إذا شهدوا عليه في صحته أنه أعتق عبده فلانا، أو تصدق به على رجل، وله عبيد بذلك الاسم، وهو منكر لما شهدوا به عليه، فيقال لهم: أي عبد تشهدون أنه أعتقه أو تصدق به على فلان؟ فيقولون: لا نعرفه بعينه، إلا أنه قال: عبدي فلان، وله عبيد بذلك الاسم، فتسقط شهادتهم، فلا يثبت العتق، ولا تجوز الصدقة لإنكاره إذا لم يقطعوا الشهادة عليه، فأما في الوصية، فإنه إذا قال: ساجي الطرازي، أو عبدي فلان، فلا يعرف بعينه، فهو كمن قال: ساج من سيجاني، أو عبد من عبيدي صدقة على فلان، فيكون شريكا فيهم أجمعين، فإن كانوا عشرة فبعشرهم، وإن كانوا عشرين فبنصف عشرهم.
قال: وإنما هذا عندنا من نحو الرجل يوصي بعتق عبد من عبيده ولا ينصه، فإن كانوا عشرة عتق عشرهم بالسهم، وإن كانوا خمسة عتق خمسهم بالسهم، بالغا ما بلغ من عددهم، قلت: أتجريه في الصدقة مجرى العتاقة إذا هلك بعض السيجان أو بعض العبيد، فيكونون شركاء فيما بقي منهم بقدر السهم الذي كان وجب لهم؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: إذا سمى الشهود العبد أو الثوب، ولم يعينوه من جملة الثياب والعبيد، ولا عينه الميت لهم، واتفقت أسماء العبيد أو

(13/203)


صفات الثياب، فقال في هذه الرواية: إن ذلك بمنزلة أن يقول: عبد من عبيدي حر، أو ثوب من ثيابي لفلان، ولا أعرف في هذا نص خلاف، إلا أن يدخل فيه الخلاف بالمعنى، فإن أدخلنا فيه الاختلاف بالمعنى، تحصل في المسألة ثلاثة أقوال في الصحة، وثلاثة أقوال في المرض أيضا، أحدها: أن الشهادة لا تجوز. والثاني: أنها جائزة. والثالث: الفرق بين أن يعينه المشهود عليه للشهود فينسوه، أو لا يعينه لهم ويسميه باسمه، فيوجد له عبيد بذلك الاسم سواه.
وأما إن عينه الموصي للشهود في صحته، أو في مرضه، فنسيه الشهود، أو عينه المشهود عليه للشهود في غير الوصية، فنسوه أو شكوا فيه، ففي ذلك ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن الشهادة باطلة في الوصية بعد الموت، وفي الشهادة في الصحة في غير الوصية. روى ذلك أصبغ عن ابن القاسم، وهو قول أشهب في أول سماع سحنون، وقول ابن كنانة في المجموعة. والثاني: أن الشهادة عاملة في الوجهين جميعا، وهو قول ابن القاسم في أصل الأسدية من كتاب الأيمان بالطلاق، وقول ابن وهب في رسم الوصايا والأقضية من سماع أصبغ من كتاب الصدقات والهبات؛ لأنه إذا جازت الشهادة في الصحة، فأحرى أن تجوز في الوصية بعد الموت. والثالث: الفرق بين الشهادة في الصحة وبين الشهادة في الوصية بعد الموت.
وقد مضى هذا في رسم سلف، من سماع عيسى، من هذا الكتاب، وفي رسم يدير من سماع عيسى أيضا، من كتاب المديان والتفليس، فعلى القول يجوز الشهادة، وهو قوله في هذه الرواية، يكون الحكم في ذلك حكم من قال في مرضه: عبد من عبيدي حر، أو ساج من سيجاني لفلان، وفي ذلك ثلاثة أقوال؛ أحدها: قوله في هذه الرواية: أنهم إن كانوا ثلاثة، عتق ثلثهم بالسهم، خرج فيه واحد أو أقل أو أكثر، أو ربعهم إن كانوا أربعة أو خمسهم، إن كانوا خمسة، أو نصفهم إن كانوا اثنين، إلا أن يحمل نصفهما الثلث، فيعتق منهما بالسهم ما حمله الثلث، وكذلك في الثياب عن هذا القياس،

(13/204)


ومثله في العتق الأول من المدونة في باب السهم. والقول الثاني: أنه يعتق منهم واحد بالسهم، قلت قيمته أو كثرت، إلا أن يكون أكثر من الثلث، فيعتق منه قدر الثلث، وكذلك إن أوصى بعتق عدد سماه من عبيده، يعتق عددهم بالسهم، ولا ينظر في ذلك إلى الجزء، وهذا القول بين في كتاب الوصايا الأول من المدونة.
وقد قيل: إنه يقوم أيضا بدليل من كتاب العتق الأول منها ذهب إلى ذلك ابن لبابة، وليس ذلك عندي بصحيح. والقول الثالث: أنه إن أوصى بعتق عبد من عبيده، عتق من كل واحد منهم ثلثه إن كانوا ثلاثة، أو ربعه إن كانوا أربعة، على الحصص دون سهم، لا على الأجزاء، ولا على العدد، وهو الذي يأتي على ما مضى في رسم سلف، من سماع عيسى، ويختلف متى ينظر إلى عددهم؟ فقيل يوم التقويم، ومن مات منهم قبل ذلك، فكأن لم يكن، وهو مذهب ابن القاسم، وروايته عن مالك في المدونة وغيرها، وقيل يوم أوصى، ولا يلتفت إلى من مات بعد ذلك وقبل التقويم، وهو قول ابن الماجشون، وابن كنانة، فهذا تحصيل القول في هذه المسألة، وبالله التوفيق.

[مسألة: يوصي لرجل بثلث ماله ولرجل بعبد له فأجاز الورثة الوصية كلها]
مسألة وقال في الرجل يوصي لرجل بثلث ماله، ولرجل بعبد له، فأجاز الورثة الوصية كلها؛ أنه ليس عليهم أن يخرجوا لصاحب الثلث إلا ثلث جميع المال، يحسب على الموصى له بالثلث في وصيته ثلث العبد الموصي به للرجل الآخر، وليس عليهم أن يوفروا له قدر ثلث الميت، ويخلص للموصى له بالعبد ذلك العبد، ولكن إذا بروا من ثلث جميع المال سوى العبد الموصى له بالثلث، وبروا من العبد إلى الموصى له به، فقد أجازوا الوصية، ثم تصير الدعوى في ثلث العبد بين الموصى له بالعبد، والموصى له بالثلث، فكلاهما قد أوصى له بثلث العبد؛ لأن الثلث يجري في جميع مال

(13/205)


الميت، فيكون للموصى له ثلثا، ويقسم ثلثه بينه وبين الموصى له بثلث مال الميت؛ لأن ذلك الثلث قد أوصى به لهما جميعا من العبد، فلذلك قسم بينهما.
قال محمد بن رشد: سحنون يقول: إنه إذا أجاز الورثة كان العبد للموصى له به، والثلث كامل للموصى له به، ولا يحمل على أنه أدخل للموصى له بالثلث على صاحب العبد، ولا يكون رجوعا عن العبد، وبذلك قال أشهب، وهو الذي يأتي على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة، ورواية علي بن زياد عنه فيها أيضا في الذي يوصي بسدس ماله لرجل، وبعبده لرجل وقيمته نصف الثلث؛ أن العبد يكون كاملا للموصى له به، ويكون الموصى له بالسدس شريكا للورثة بالخمس؛ لأن الواجب في ذلك على قياس رواية يحيى هذه، أن يكون للموصى له بالعبد خمسة أسداسه، وللموصى له بسدس المال، سدس ما سوى العبد من المال، ويكون سدس العبد بينهما، وقد روى ذلك أصبغ عن ابن القاسم، وأنكر ذلك محمد بن المواز، ولم يعجبه. فقال: إنه يأخذ الموصى له بالعبد جميع العبد، وللآخر خمس العين، وذلك مائة دينار، قاله إذا كانت قيمة العبد مائة دينار، وباقي مال الميت خمسمائة دينار، ولم يختلف إذا أوصى لرجل بثلث ماله، ولآخر بمائة دينار، فأجاز الورثة ذلك، كأن عليهم أن يدفعوا الثلث كاملا للموصى له بالثلث، والمائة كاملة، للموصى له بها، لا يدخل عليه الموصى له بالثلث في شيء منها، وإجماعهم على الوصية بالعين مع الثلث إذا أجاز ذلك الورثة، يقضي على اختلافهم في الوصية بالعرض المعين مع الثلث، إذا أجاز ذلك الورثة، وبالله التوفيق.

[مسألة: يوصي لقوم بوصايا لرجل بدار ولرجل بعبد]
مسألة وقال في الرجل يوصي لقوم بوصايا لرجل بدار، ولرجل بعبد، ولرجل بحائط، وما أشبه هذا من العروض، ولم يوص لأحد

(13/206)


منهم بدنانير، ولا بدراهم، فضاق الثلث عن الوصايا، فلا يجيزها الورثة، فيردون إلى المحاصة في الثلث؛ أن وصاياهم تجعل لكل واحد منهم في الذي أوصى به لهم، يتحاصون في ثلث مال الميت، فيضرب كل واحد منهم بقيمة ما أوصى به، فإذا عرف ما ينوبه في المحاصة من قيمة وصيته، جعل ذلك له في الذي أوصى له به خاصة، لا ينقل منه إلى غيره.
قال: وإن كان أوصى لهم بمثل هذه الوصايا، وأوصى لرجل معهم بمائة دينار، فقطع الورثة لهم بالثلث، تحاصوا فيه، وقطع لهم الثلث من جميع مال الميت، ولم توضع وصاياهم فيما سمى لهم خاصة؛ لأن الثلث لا بد من أن يباع أو بعضه من الذي أوصى له بالمائة الدينار، فلذلك حالت وصاياهم، فصارت في الذي أوصى لهم به وفي غيره من جميع مال الميت.
قال محمد بن رشد: لم يفرق في المدونة هذه التفرقة، وذكر أن قول مالك اختلف في ذلك، فتفرقته في هذه الرواية قول ثالث في المسألة، ولو ترك الميت من الناض ما يخرج منه المائة الدينار التي أوصى بها للرجل؛ لكان ذلك بمنزلة إذا لم يوص بعين؛ لأنه علل ما ذهب إليه من التفرقة بين أن يكون أوصى بعين، أو لم يوص به، فإن الثلث لا بد أن يباع أو بعضه فيما أوصى به من العين، وسيأتي في الرسم الذي بعد هذا، وفي أول رسم من سماع أصبغ، إذا أوصى من العين بأكثر من ثلث ما ترك منه، والكلام عليه، وبالله التوفيق.

[: الرجل يعتق عبدا له إلى أجل ثم يوصي في مرضه بوضع الخدمة عنه]
ومن كتاب المكاتب قال: وسألته عن الرجل يعتق عبدا له إلى أجل، ثم يوصي

(13/207)


في مرضه بوضع الخدمة عنه، وبعتاقة عبيد سواه يحاصهم أيهم يبدأ؟ قال: أرى له المحاصة مع الموصى لهم بالعتاقة، وأما إن كان معه مبتول العتاقة، أو مدبر مهم يبدءون عليه. قلت: فما يحسب في ثلث سيده مما يحاص به، أقيمته أم قيمة الخدمة مما بقي من أجلها؟ قال: بل، قيمة الخدمة.
قال محمد بن رشد: إنما قال: إن المعتق إلى أجل، إذا أوصى له بوضع الخدمة عنه يتحاص مع الموصى بعتقهم؛ لأن المعتق إلى أجل أحكامه أحكام العبد في جميع الأشياء، فلا فرق في التأكيد بين أن يوصي بتعجيل عتقه، وبين أن يوصي بعتق عبد آخر، فوجب أن يتحاصا إن ضاق الثلث عنهما، والقياس على هذا أن يحاص بقيمة رقبته، لا بقيمة خدمته، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك في رسم إن أمكنتني، من سماع عيسى، من كتاب العتق.
وقال أشهب فيه: لا يقوم في الثلث إلا قيمة خدمته، مثل قول ابن القاسم في هذه الرواية، وهو أظهر؛ لأن العتق في الرقبة قد ثبت، وإنما بقي لسيده فيه الخدمة، ووجه القول الآخر ما ذكرناه من أن الحرية تبع للرق، وأما قوله: إنه إن كان معه مبتول العتاقة، يريد: في المرض، أو مدبر، فهم يبدءون عليه، يريد وعلى الموصى بعتقه، فالوجه فيه، إن له أن يرجع على الموصى بعتقه، وعن الموصي بوضع الخدمة عنه، وليس له أن يرجح عن المدبر، ولا عن المبتل في المرض، وقد قيل: إن له أن يرجع عنه، فعلى هذا القول، يتحاص الموصي بوضع الخدمة عنه، والموصى بعتقه، والمبتل في المرض.
وقد مضى هذا في رسم العتق من سماع عيسى، وفي رسم طلق ابن حبيب، من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.

(13/208)


[مسألة: يوصي لرجل بعشرة دنانير فيموت ولا يترك إلا مالا غائبا]
مسألة قال يحيى: وسألته عن الرجل يوصي لرجل بعشرة دنانير، فيموت ولا يترك إلا مالا غائبا أو ديونا على الناس، فيريد الموصى له بالعشرة أن يتعجلها، ويقول الورثة: إذا تقاضينا أعطينا لها، قال: يخير الورثة بين أن يعجلوها وبين أن يقطعوا له بالثلث، فينظر قدوم الغائب، أو يتقاصاها لنفسه، بمنزلة الإخوة للأم في فريضة ثلثهم.
قال محمد بن رشد: قوله: ولا يترك إلا مالا غائبا أو ديونا على الناس، معناه لا يترك مالا تخرج العشرة من ثلثه، إلا بماله من المال الغائب أو الديون؛ فقوله: يخير الورثة بين أن يعجلوها وبين أن يقطعوا له بالثلث، معناه أنهم يخيرون بين أن يعجلوها من الناض الذي ترك، وإن أحاطت به، وبين أن يقطعوا له بالثلث، ولو لم يكن له ناض أصلا لما لزمهم أن يعجلوا له العشرة من أموالهم، وإنما عليهم أن يعجلوها له من أول ما يقبض من الديون، وأن يبيعوا فيها أعجل ما يمكن بيعه من العروض، وكذلك يبيعون فيها من الديون إن كانت مؤجلة.
هذا معنى قول ابن القاسم في هذه الرواية، وهو مذهبه في المدونة؛ لأنه قال فيها: إن الرجل إذا أوصى للرجل من النقد بما لا يحمله ثلث ما ترك من العين، خير الورثة بين أن يعجلوا له ذلك، أو يقطعوا له بالثلث من جميع مال الميت، ومثله حكى أصبغ عنه وعن مالك وأصحابه كلهم في صدر سماعه بعد هذا من هذا الكتاب، وهو قول سحنون، قال: إذا أوصى الرجل بوصية، وماله ناض وغرض، فأراد الموصى له أخذ الناض، وقالت الورثة: لا نرضى في العروض، ونأخذ العين، فإنه يقال لهم: إن شئتم أن تسلموا العين، وإلا فأخرجوا الثلث كله، وزعم أنه أصل من العلم جسيم قال: وهو بمنزلة العبد يجني جناية

(13/209)


تسوى درهمين، فيقال للسيد: افتكه، وإلا فأسلم العبد بالجناية. وذهب أصبغ إلى أنه لا يلزم الورثة أن يدفعوا إلى الموصى له بالعين إلا ثلث الناض، وثلث كل ما ينض، إلى أن يستوفي وصيته، ولا يقال للورثة: إما أن تعجلوا للموصى له وصيته من العين، وإما أن تقطعوا بجميع الثلث، إلا أن يكون الذي أوصى له به من العين معينا، مثل أن يقول: ادفعوا إليه المائة التي تركت ناضة، أو التي لي عند فلان، وما أشبه ذلك، ولا اختلاف في الدنانير المعينة أنه يلزم الورثة أن يدفعوها إليه، أو يقطعوا له بجميع الثلث، وإنما الاختلاف في غير المعينة على ما ذكرناه، فذهب أصبغ إلى أنه لا يلزم أن يعجلوها له، وهو قول ابن القاسم في رواية ابن أبي جعفر عنه، فإنه قال: سألت ابن القاسم عن رجل أوصى لرجل عشرين دينارا، فلم يكن له من الناض إلا ثلث دينار، أو له دين على الناس، فطلب الموصى له أن يعطى ما أوصى له به، قال: ينتظر حتى يبيعوا ويقتضوا، وليس له أن يراكضهم، وإنما ذلك في الديون الغائبة التي يعطى ما سمى له أو يقطع له بالثلث، وبالله التوفيق.

[: كتبت عند خروجها كتابا لبني زوجها وليس لها ولد]
ومن كتاب الأقضية قال يحيى، وسألت عبد الله بن وهب عن امرأة خرجت من الأندلس تريد الحج، ثم تسكن الشام، فكتبت عند خروجها كتابا لبني زوجها، وليس لها ولد، إن أصابها قدرها في وجهتها، فلهم من رقيقها كذا وكذا رأسا سمتهم لهم، وجعلتهم في أيديهم وحازتهم لهم؛ ليكون لهم منفعتهم، وتركت رقيقا سواهم، وأنصبا في قرى، فلما بلغت مصر كتبت إلى رجل من الأندلس، تأمره في كتابها ببيع ما كان لها بالأندلس من رأس أو غيره، ولم تذكر في كتابها الذي أوصت به لبني زوجها أن يباع أو يترك، فأراد وكيلها بيع ما في

(13/210)


أيدي بني زوجها من الرقيق التي أوصت بها لهم. وقال: إنها قد فسخت عليكم الوصية؛ إذ أمرت ببيع ما خلفت بالأندلس، وقال بنو زوجها: إنها قد تركت بالأندلس غير الذي أوصت به لنا، فذلك الذي أمرت ببيعه، ولم يذكر بيع ما أوصت به لنا، ولو أرادت أن يباع ذلك لذكرته، في كتابها باسمه، ولها بالأندلس رقيق وعقار، فذلك الذي أمرت ببيعه وسكتت عما في أيدينا، قال ابن وهب: أرى أن يوقف الرقيق التي أوصت بها لبني زوجها في أيديهم بحالها، ويكتب إليها لتبين أمرها، ويمنع الوكيل من بيعها، فإن رجعت عن وصيتها كان ذلك بيدها، وإن أمضت فالأمر إليها.
قلت: أرأيت إن ماتت قبل أن يعرف رأيها؟ قال: الوصية ماضية في ثلثها إذا لم يثبت رجوعها عن الوصية بالأمر البين حتى ماتت، وسألت عن ذلك ابن القاسم فقال: أرى الذي كتبت به من بيع كل ما كان لها بالأندلس نقضا لوصيتها؛ لأن تلك الرقيق من مالها حتى تموت، فتثبت الوصية لأهلها، ومما يبين ذلك أنها لو أشهدت في موضعها الذي سكنت، أو في سفرها بعد تلك الوصية أني قد تصدقت على فلان بكل مالي بالأندلس، إن ذلك يؤخذ منهم، وتكون الصدقة أثبت من الوصية، ولو أعتقت كل ما كان لها بالأندلس من رأس، لوجب العتق بجميع الرقيق، وكان ذلك نقضا للوصية.
قال محمد بن رشد: قد استدل ابن القاسم لقوله بما ذكره من التعلق بظاهر ما كتبت له، إذا أمرت ببيع كل ما كان لها بالأندلس من رأس، فرأى ذلك نقضا لوصيتها؛ لأن تلك الرقيق من مالها. وقول ابن وهب عندي أظهر؛ لأنها لما أوصت لبني زوجها بما أوصت به لهم من رقيقها وحوزتهم

(13/211)


إياهم لتكون لهم منفعتهم طول حياتها، وجب لهم الانتفاع بها حياتها، ولم يكن لها أن ترجع عنه بأن تأمر وكيلها ببيع الرقيق بعد موتها؛ إذ قد وهبت منفعتهم حياتها هبة صحيحة مقبوضة، وإن كان لها أن ترجع عن الوصية بالرقيق لهم بعد موتها؛ لأن من أخدم رجلا عبدا حياته وحوزه إياه، فليس له أن يرجع فيه، فلما لم يصح لها ما كتبت به من بيعهم وإخراجهم عن أيديهم طول حياتها، وبطل توكيلها على ذلك بقيت الوصية على حالها، وبالله التوفيق.

[مسألة: كان وصيا لأبيه فزعم أنه باع وصيفة لأخت له كانت في حجره]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن وهب عن رجل كان وصيا لأبيه، فزعم أنه باع وصيفة لأخت له كانت في حجره، كان يليها يوم باع، فزعم أنه باعها بمائتي دينار، وأنه اشترى لها بثمن الوصيفة رأسين بمائتي دينار، وزاد من عنده سبعين دينارا، فسئل البينة على ما ذكر من ذلك، فأتى بشهود، فشهدوا أنه أدخلهم على أخته تلك، فأشهدهم عليها أنه قد اشترى لها رأسين بمائتي وسبعين دينارا، فسئل الشهود عن تفسير ما أشهدهم عليه، أذلك من ثمن الوصيفة أم لا؟ فقالوا: لا علم لنا، إنما أشهدنا عليها بأنه اشترى لها رأسين بمائتين وسبعين دينارا، فقبلت ورضيت، وقبضت الرأسين، ثم ادعت الأخت بعدما خرجت إلى زوجها، أن ثمن الوصيفة قبله، وأن الذي اشترى لها به الرأسين من غير ذلك من مورثها أو غيره، فجاء الوصي بالبراءة من جميع مورثها، وزعم أن ابتياعه الرأسين لها بعد قبضها مورثها من أبيها، ولم يكن لها عنده إلا مورثها، وثمن الوصيفة التي باع لها، فهل ترى أن يبريه ما شهد به الشهود من ثمن الوصيفة أم لا يكون له براءة حتى يشهد الشهود أن

(13/212)


الرأسين من ثمن الوصيفة بعينها؟ قال: أما إذ هو وصي ناظر. فأرى أن يحلف بالله ما اشترى الرأسين لها، إلا من ثمن الوصيفة، ويبرأ من ثمنها إلا أن تأتي أخته بالبينة أن لها قبله شيئا سوى ثمن الوصيفة، فينظر لها. قلت: فالسبعون دينارا التي زعم أنه زادها من عنده، أيتبعها بها؟ قال: إن مات الرأسان اللذان اشترى لها بالمائتين والسبعين، فلا تباعة له قبلها في السبعين، من أجل أنه أرادها من له بغير أمرها، وفي حين ولايته، ولم يكن ينبغي له أن يشتري عليها بأكثر مما لها قبله، فيجعلها غارمة مطلوبة بدين: قال: وإن كان الرأسان بحالهما لم يتغيرا خيرت، فإن شاءت غرمت السبعين، وحبست ما اشترى لها، وإن كرهت ردتهما وأغرمته المائتي دينار ثمن وصيفتها.
قلت: أرأيت إن رضي أن يمضيها لها بالمائتي دينار، وتسقط عنها تباعته في السبعين التي زاد من ماله، أيلزمها حبسها أم ترد عليه الذي كان من زيادته في الثمن بغير أمرها؟ فقال: يلزمها حبسها؛ لأنه لا عدد لها في ردها إذا أوضع عنها تباعته فيما زاد بغير أمرها. قال: وسألت عن ذلك ابن القاسم فقال: أرى يحلف بالله لقد أدخل المائتي دينار ثمن الوصيفة في الرأسين، ثم يبرأ، فقلت: لابن القاسم: فالسبعون الدينار، أيتبعها بها؟ قال: لا أرى ذلك عليها، وذلك أنه إن كانت البراءة قبل بيع الوصيفة، فهو أمر طاع به لها، أو شيء تورع عنه كان عنده من مالها، وإن كانت البراءة بعدما اشترى الرأسين ودفعهما إليها، فالبراءة حسم لما كان لها قبله من مورثها ومن ثمن وصيفتها، ونرى السبعين حينئذ قد دخلت في البراءة، فلا تباعة لواحد منهما قبل صاحبه بعد أن يحلفا.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن الرجل كان وصيا

(13/213)


لأبيه على أخته، وكانت في حجره، فلما خرجت إلى زوجها، وملكت أمر نفسها، ادعت عليه أنه كان باع لها وصيفة إذا كان ناظرا لها بمائتي دينار، ولم يدفع إليها ثمنها، فزعم أنه باعها بمائتي دينار، كما ذكرت، وأنه اشترى لها بثمن الوصيفة رأسين بمائتي دينار، وزاد من عنده سبعين دينارا، وأتى على ما ذكر من ذلك بشهود، فشهدوا أنه أدخلهم على أخته، فأشهدهم عليها بما ذكر من أنه اشترى لها رأسين بمائتين دينار، وسبعين دينارا، فقبلت وقبضت الرأسين، ولم يعلم الشهود إن كان ذلك من ثمن الوصيفة أم لا، فلما شهد له عليها بهذا، ادعت أنه إنما اشترى لها الرأسين مما كان لها بيده من مورثها، وغير ذلك من غير ثمن الوصيفة، فأتى هو بالبراءة من جميع مورثهما، وزعم أن ابتياعه الرأسين لها كان بعد أن ملكت أمر نفسها، وبعد أن قبضت مورثها، فهي تقول: المائتان والسبعون التي اشترى بها الرأسين، وأشهد علي بقبضها، إنما هي من غير ثمن الوصيفة، وثمن الوصيفة باق عنده، وهو يقول: لم يكن لها عندي غير ثمن الوصيفة، فقد ابتعت لها بذلك الرأسين بسبعين دينارا، زدتها من مالي سلف لها، فهي تطالبه بثمن الوصيفة، وهو يطالبها بالسبعين، فرأى ابن القاسم أن يحلفا جميعا، ولا يكون لواحد منهما على صاحب تباعة، يحلف هو لقد دخلت المائتان ثمن الوصيفة في ثمن الرأسين؛ إذ لم يكن بقي عنده لها من تركة أبيها سوى ما دفعه إليها، وأتى بالبراءة منه، وتحلف هي على ما ادعت من أنه إنما اشترى لها الرأسين بالمائتين وسبعين مما كان لها عنده سوى ثمن الوصيفة.
وقد بين ابن القاسم وجه قوله في أن السبعين تسقط عنها بيمينها بتوجيه ظاهر، وذلك أنه لما ابتاع لها الرأسين بأكثر من ثمن الوصيفة، ودفعها إليها، ولم يذكر لها الزيادة حتى قامت تطلبه بالأصل، كان ذلك شبهة لها، توجب أن تسقط عنها بها الزيادة مع يمينها، ولم ير ابن وهب هذه شبهة توجب أن تسقط عنها بها الزيادة مع يمينها.
فقال: إن القول قوله مع يمينه في أن الرأسين من ثمن الوصيفة؛ إذ لم يكن لها عنده مال سواه من مورث ولا غيره كما ادعت، فإذا حلف برئ من ثمن الوصيفة، وكان له معها في

(13/214)


الزيادة التي زاد في ثمن الرأسين، حكم من أمر رجلا أن يبتاع له عبدا، فابتاع أكثر مما أمره، بزيادة لا تزاد على مثل الثمن، ودفعه إليه، ولم يعلمه بالزيادة، حتى فات بموت أو عتق؛ أنه لا شيء له منها عليه. وقوله: إن كان الرأسان بحالهما لم يتغيرا خبرت إلى آخر قوله، يحتمل أن يكون معناه إذا قام عليها بالزيادة، وطلبها منها بقرب ما دفع إليها الرأسين، على ما مضى القول فيه في رسم العرية، من سماع عيسى، من كتاب البضائع والوكالات، وقول ابن القاسم أظهر أن الزيادة تبطل؛ إذ لم يذكر ذلك لها حتى قامت تطلبه، وفي المبسوطة ليحيى بن يحيى أن قول ابن القاسم أحب إليه من قول ابن وهب، وبه يقول: وإنما اختاره عليه للمعنى الذي ذكرناه، والله أعلم.

[مسألة: يوصي بوصايا وعتاقة]
مسألة وسألته عن الذي يوصي بوصايا وعتاقة، فتنفذ الوصايا والعتاقة، ثم يطلع على الموصي دين يحيط بماله، وقد شهد العبيد المعتقون على حقوق، فطال زمان ذلك، فاقتسم الورثة، ونما ذلك في أيديهم أو نقص أو استهلك، فقال: ترد الوصايا التي أخذ أهلها منها بحال ما توجد في أيديهم، نامية أو ناقصة، وما هلك منها، فلا ضمان عليهم فيها إلا أن يستهلكوا شيئا، فيغرموه أو يكونوا اشتروا شيئا فحوسبوا به في وصاياهم، فيكون لهم نماؤه، وعليهم ضمانه، ويردون الثمن الذي حوسبوا به، قال: والورثة بهذه المنزلة فيها اقتسموا ما أخذوا على حال الاقتسام، فنماؤه للغرماء، ولا ضمان على الورثة فيه، إلا أن يستهلكوا شيئا، فيكون عليهم غرمه، وما اشتروا على حال البيع، وليس على وجه الاقتسام، فنماؤه لهم وضمانه عليهم، يغرمون الثمن الذي كان وجب لهم. قال: وما اقسموا من ناض ذهب، أو ورق، أو طعام، أو إدام، فإنهم يغرمون ذلك

(13/215)


كله، وإنما يوضع عنهم ضمان ما هلك من العروض والحيوان والعقار الذي يقسم بالقيمة، قلت: أرأيت ما اقتسموا من العروض بالقيمة، فغابوا عليه، ولم يعرف هلاكه إلا بقولهم، أيبرءون من ضمانه؟ أو الطعام أو الإدام الذي يوجب عليهم ضمانه، وتراه كالذهب والورق إذا عرف هلاكه بعينه، أيبرءون من ضمانه؟ فقال: ضمانهم في كل ما غابوا عليه كضمان المرتهن والمستعير، وبراءتهم مما عرف هلاكه بالبينة، كبراءة المرتهن والمستعير، وحالهم فيما لم يغب عليه كحالهما.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة متكررة على نصها في رسم الكبش، من سماع يحيى، من كتاب القسمة، ومضى الكلام عليها هناك مستوفى، فلا معنى لإعادته، وظاهر هذه الرواية أن العتق يرد وإن طال زمانه.
وقد روى أشهب عن مالك في رسم الأقضية الأول، من كتاب المديان والتفليس في الذي يعتق وعليه دين يغترق ماله، وتطول المدة؛ أن العتق لا يرد، والذي يعرف من قول ابن القاسم، وروايته عن مالك، أن العتق يرد دون تفرقة بين قرب ولا بعد، وقد قيل: إن قول ابن القاسم ليس بخلاف لرواية أشهب، وإن معنى قوله: إذا لم يطل الأمر، وقد مضى الكلام على ذلك هذا لك، وظاهر هذه الرواية أنه لا ضمان على الموصي فيما نفذ من الوصايا إذا طرأ دين يردها خلاف ما مضى في رسم الأقضية، من سماع أشهب قبل هذا من هذا الكتاب، وسيأتي من هذا المعنى في سماع موسى، وفي سماع أبي زيد الاختلاف من قول ابن القاسم فيه، قرب آخر الرسم الأول من سماع أصبغ، وبالله التوفيق.

[: يوصي بأكثر من ثلثه بإذن ورثته في مرضه ثم يصح فيقر بذلك]
ومن كتاب أوله أول عبد ابتاعه فهو حر قال: وسألته عن الرجل يوصي بأكثر من ثلثه بإذن ورثته، ثم

(13/216)


صح صحة بينة معروفة، وقد كتب بالذي أوصى به كتابا فأقره حين صح، ثم مرض بعد ذلك، فمات من مرضه الآخر؛ أيلزم الورثة ما أحازوا له في وصيته التي صح بعدها أم لا؟ فقال: لا يلزمهم إنفاذه؛ لأنه قد صح صحة بينة، وملك القضاء في جميع ماله، واستغنى عن استيذانهم، فإذا حدث به مرض بعد صحة قد ملك فيها القضاء في جميع ماله، فعليه استيذانهم أيضا، وإلا فقد سقط عنهم ما كانوا أذنوا فيه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأنه إذا صح بعد أن استأذنهم فهو بمنزلة إذا أذنوا له، وهو صحيح كمن أقر في مرضه لمن لا يجوز له إقراره في المرض، ثم صح بعد ذلك؛ أن إقراره يلزمه. وقال ابن كنانة بعد أن يحلفوا ما سكتوا إلا عن غير رضا ولا يلزمهم ذلك، وهو بعيد، وبالله التوفيق.

[مسألة: يوصي فيقول اشتروا أخي بكذا وكذا ولا يقول أعتقوه]
مسألة قال: وسألته عن الرجل يوصي فيقول: اشتروا أخي بكذا وكذا، ولا يقول: أعتقوه عني، غير أنه أمر بشرائه أو بشراء بعض من إذا ملكه في حياته عتق عليه، أترى ما أمر به من اشترائه يوجب له العتاقة؟ قال: نعم، يشترى ويعتق عليه، وذلك إن وجه ما يريد الموصي بمثل هذا، عتاقة الذي يوصي باشترائه. قلت: أرأيت إن لم يبعه سيده بالذي نص الموصي أن يشترى به؟ فقال: يتربص به وينتظر، لعله أن يبدوا له فيه. قلت: وترى انتظاره السنة تجزي؟ قال: ذلك ونحوه وأكثر أحب إلي. قلت: فإن أيسر منه أيستحب أن يوضع ذلك الثمن في عتاقة؟ قال: لا أرى ذلك على الورثة، إن شاءوا فعلوا، وإن كرهوا فهم أحق بذلك الثمن ميراثا لهم.

(13/217)


قلت: أرأيت لو كان قال: اشتروه، ولم ينص ثمنا، فامتنع السيد من بيعة بقيمته؟ قال: يلزمه أن يزاد في ثمنه ما بينه وبين ثلث قيمته، فإن امتنع فلا شيء عليهم أكثر من ذلك، إلا الاستيناء في أمره، والانتظار لرجوعه.
قلت: فإن نص شيئا يشترى به، فلم يكن في ذلك مبلغ ثمنه، فأجاب سيده إلى بيعه منهم بالمبلغ الذي نص أولا يحمل الثلث ما نص، فإذا رد ذلك إلى ثلث ماله، كان الثلث لا يبلغ ثمن العبد، فيجيب السيد إلى أن يبيعهم من العبد بقدر الثلث، أيلزمهم أن يشتروا قدر ذلك ويعتقوه؟ قال: أرى ذلك لازما لهم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة على معنى ما في المدونة وغيرها، لا اختلاف فيها إلا في وجه واحد منها، وهو إذا أبى سيده أن يبيعه بما سمى الموصي من الثمن، أو بزيادة مثل ثلث ثمنه على قيمته، فقال في هذه الرواية: إنه يستأنى به سنة ونحو ذلك، فإن أيس منه رجع الثمن ميراثا، ولم يلزم الورثة أن يجعلوه في عتاقة، إلا أن يشاءوا، وهو ظاهر ما في كتاب الوصايا الأول من المدونة؛ أن الثمن يرجع ميراثا بعد الاستيناء لذلك، وروى ابن وهب وغيره عن مالك فيه أن المال يوقف ما كان يرجى أن يشترى العبد إلا أن يفوت بموت أو عتاق. قال سحنون: وعليه أكثر الرواة. ومثله في الثاني من الوصايا لابن القاسم؛ لأنه قال فيه: بعد الاستيناء والإياس من العبد، ولابن كنانة في المدنية في الذي أوصى أن يشترى عبد بعينه فيعتق؛ أنه إن أيس منه بعتق أو موت اشترى به رقبة أو رقاب، فيعتقون عنه؛ لأنه إنما أراد أن يعتق عنه، وجعل ذلك في عبد صالح توسمه، فإن لم يجد سبيلا إلى اشترائه ففي غيره، وقال: إنما أمرنا بإيقاف الثمن انتظارا بالغلام، لعله أن يحتاج سيده أو يموت فيبيعه الورثة.
قال: فمن أجل ذلك أوقفناه، ولا يدخل قول ابن كنانة في الذي يوصي أن يشتري

(13/218)


من يعتق عليه؛ لأنه إنما أراد به عتقه بعينه لقرابته منه، فإذا أيس منه رجع ثمنه ميراثا قولا واحدا، والله أعلم.

[: يقول أعتقوا عبدي الذي حج معي في وصيتي]
من سماع سحنون وسؤاله أشهب وابن القاسم قال سحنون: وسألت أشهب عن الذي يقول: أعتقوا عبدي الذي حج معي في وصيتي، وقد علم أنه حج معه عبد إلا أنه لا يعرف، وادعى ذلك عبيده؛ قال: الوصية باطل، وهو رقيق.
قال محمد بن رشد: قول أشهب هذا في أن الشهادة لا تجوز، والوصية باطل، معارض لقول ابن القاسم في رسم سلف، من سماع عيسى، وليس بمعارض لقوله في رسم يشتري الدور والمزارع من سماع يحيى، ولو كان العبيد كلهم حجوا معه، وكان قد قال في وصيته: أعتقوا عبدي الذي حج معي؛ لكان بمنزلة إذا قال: أعتقوا عني عبدي فلانا، وله عبيد بذلك الاسم، وبمنزلة إذا قال: أعتقوا عني عبدا من عبيدي على ما قاله ابن القاسم في رسم يشتري الدور من سماع يحيى، وقد مضى هناك بيان هذه المسألة، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: قال الرجل في وصيته خيروا جاريتي بين العتق والبيع]
مسألة قال ابن القاسم: إذا قال الرجل في وصيته خيروا جاريتي بين العتق والبيع، فاختارت البيع، ثم بدا لها في العتق قبل أن تباع، قال: ذلك لها.
قلت: فإن اختارت العتق، فلم تقوم، ثم بدا لها البيع.

(13/219)


قال: لم أسمعه. وذلك لها عندي.
قلت: فإن اختارت البيع، وقالت: بيعوني من فلان، وقالوا: نبيعك في السوق. قال: ذلك لهم؟ وليس لها ذلك، ولا يوضع من ثمنها شيء.
قلت: فإن اختارت البيع، فقالوا لها: إذا رضيت بالملك فنحن نحبسك ولا نبيعك، قال: ليس ذلك لهم إلا برضاها، فإن رضيت بترك البيع، وأن تكون ملكا لهم، ثم أحبوا بيعها فذلك لهم.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي أوصى أن تخير جاريته بين العتق والبيع: إنه لا يلزمها ما اختارت من ذلك، ولها أن ترجع عنه ما لم ينفذ فيها باختيارها بيع أو عتق، هو مثل ما تقدم في رسم القطعان من سماع عيسى، ومثل ما يأتي في أول سماع أصبغ، ولا خلاف في هذا أحفظه؛ لأن معنى قوله: خيروا جاريتي بين العتق والبيع، معناه: أعلموها أني قد جعلت لها الخيار في ذلك، فإذا أعلموها بذلك، كان لها أن ترجع من كل واحد منهما إلى الآخر ما لم ينفذ لها ما اختارته أولا، وذلك بخلاف تخيير الرجل أمته بين العتق والبيع؛ لأن تخيير الرجل أمته بين العتق والبيع، فإن اختارت العتق لزمه، وإن اختارت البيع لزمها، ولم يكن لها أن ترجع إلى العتق، وإن لم تختر شيئا حتى انقضى المجلس، جرى ذلك على اختلاف قول مالك في التمليك، ولا إشكال في أنها إذا اختارت البيع فلهم أن يبيعوها ممن شاءوا؛ أنه لا حق لها في أن تباع ممن أحبت، إذ لم يوص لها بذلك، ولا يوضع من ثمنها شيء كما قال.
وأما إذا اختارت البيع، فأرادوا حبسها فقوله: إن ذلك ليس لهم إلا برضاها صحيح؛ لأن لها حقا فيما أوصى لها به من بيعها، ولعله أراد أن يخرجها عن ملكهم لسوء ملكتهم، أو لما علم من أنها تكره البقاء عندهم، فيكون قد أراد القربة بما أوصى به من ذلك، وإنما الاختلاف إذا أرادت هي ألا تباع، هل يلزمهم بيعها، تنفيذا لما أوصى به الموصي أم لا؟ إذ لا قرابة

(13/220)


في الوصية ببيعها، إذا لم ترد هي ذلك؛ إذ قد اختلف في وجوب تنفيذ الوصية بما لا قربة فيه من الأمور الجائزات، وفيما يختلف هل فيه قربة أم لا على مذهب من لا يرى فيه قربة؟ وبالله التوفيق.

[مسألة: يوصي للرجل ببعض من يعتق عليه فلا يقبل]
مسألة قال ابن القاسم في الرجل يوصي للرجل ببعض من يعتق عليه، فلا يقبل. قال: إن كان يحمله الثلث عتق.
قلت: فلمن ولاؤه؟ قال: للذي أعتقه، وكذلك قال لي: ولا أطيق خلافه، وهو أعلم مني.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف نص قوله في كتاب الولاء والموارث من المدونة: إنه إن حمله الثلث يعتق عليه، ويكون الولاء له قبله أو لم يقبله، والقولان في الولاء إذا حمله الثلث، ولم يقبله في رسم القطعان، من سماع عيسى، من كتاب العتق؛ ولكلا القولين وجه، فوجه هذه الرواية أنه لما علم أنه يعتق عليه، فأوصى له به، فقد قصد إلى عتقه، فكان كأنه قد قال: إن قبله، وإلا فهو حر.
ووجه ما في المدونة أن الموصي لما علم أنه يعتق عليه إذا ملكه، ولم يكن على يقين من قبوله إياه، حمل عليه أنه أراد عتقه عنه، فكان الولاء له، وكذلك إذا تصدق به عليه أو وهبه إياه ولم يقبل، يختلف في الولاء لمن يكون، والقياس في هذا كله إذا لم يقبل أن يرجع في الوصية إلى ورثة الموصي، وفي الهبة والصدقة إلى الواهب، والمتصدق كما قال مالك في رواية علي بن زياد عنه إذا أوصى له بشقص فلم يقبل، ففي المسألة ثلاثة أقوال إذا لم يقبل.
قيل: يرجع إلى الموصي أو الواهب أو المتصدق، وقيل: يعتق على الذي أوصى له به أو وهبه إياه، أو تصدق به عليه، ويكون الولاء له، وقيل: يعتق على الموصي وعلى الواهب والمتصدق، ويكون الولاء له.

(13/221)


وقد مضى القول على هذه المسألة في رسم المكاتب، من سماع يحيى، من كتاب الصدقات والهبات، وبالله التوفيق.

[مسألة: يوصي لرجل بدينار من غلة حائطه]
مسألة وسألت ابن القاسم عن الذي يوصي لرجل بدينار من غلة حائطه، وغلته عشرة دنانير، أو بدينار من غلة كل شهر من خراج غلامه، قال: إن ضمنوا له ذلك، وإلا أوقفوا العبد والحائط، وكانت الوصية في ثمرة غلة الحائط.
قلت لابن القاسم: فإن عالت وصاياه ووقعت المحاصة، ثم يضرب هؤلاء، قال: يعمرون وينظر إلى ما أوصى لهم به من الغلة، فيتحاصون به، ويضربون بذلك في ثلث المال، إلا أنه في وصيته في غلة العبد إنما التعمير في أقصرهم حياة من العبيد إن كانوا أقصر حياة، أو الموصى له بالغلة إن كان أقصر حياة.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي يوصي لرجل بدينار من غلة حائط معناه حياته، فعلى ذلك يأتي جوابه. وأما قوله: أو بدينار من غلة كل شهر من خراج غلامه، فإنه لفظ وقع على غير تحصيل؛ لأنه إذا أوصى له بدنانير من غلة كل شهر، فلا اختلاف في أنه لا يجبر ما نقص في العام من العام الذي بعده. وقوله: إن ضمنوا ذلك له، وإلا أوقفوا الحائط، يدل على أن من حقهم أن يأخذوا العبد والحائط فيفوتهما إن شاءوا بضمانهم، خلاف ما في رسم الوصية الذي فيه الحج والزكاة من سماع أشهب.
ويحتمل أن لا يحمل ذلك على أنه اختلاف من القول، فيكون معنى قول ابن القاسم في هذه الرواية إذا كانوا أملياء، يؤمن العدم عليهم في غالب الحال، ومعنى قول مالك في سماع أشهب إذا لم يكونوا أملياء، وخيف عليهم العدم، والصواب أن يفسر قول ابن القاسم في هذه الرواية بما في سماع أشهب، فيقال: معناه إذا

(13/222)


رضي الموصى لهم بضمانهم، وإنما يوقف العبد والحائط إذا حملها الثلث أو أجاز الورثة الوصية، وقوله: إن الوصايا إذا عالت فلم يجزها الورثة، ورجع في ذلك إلى التحاص في الثلث، فما قاله من التعمير في ذلك بين، وبالله التوفيق.

[مسألة: المرأة توصي لزوجها بالوصية ثم تموت وقد كان طلقها]
مسألة وسألت عبد الرحمن بن القاسم عن المرأة توصي لزوجها بالوصية ثم تموت، وقد كان طلقها، فقال ابن القاسم: إن كانت علمت بطلاقه فوصيتها جائزة له، وإن كانت لم تعلم بالطلاق لم تجز الوصية؛ لأنها أوصت يوم أوصت، وهي تظن أنه لها وارث، والوصية للوارث لا تجوز، قال سحنون: وقال لي أشهب: هي جائزة علمت أو لم تعلم. قال سحنون: وأخبرني القرشي عن المخزومي، وابن أبي حازم، وابن كنانة، وابن نافع أنهم قالوا: تجوز وصيتها له، وهي جائزة.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه المسألة صحيح، واعتلاله ضعيف، فلو قال: إن وصيتها له لا تجوز، إلا أن تعلم بطلاقها إياها؛ لأنها إنما أوصت له لما بينهما من حرمة الزوجية، ولما بين الزوجين من المودة، فأرادت أن تزيده بالوصية على ما فرضه الله له بالميراث، ورجت أن يجيز ذلك له الورثة، ولعلها لو علمت أنه يطلقها لما أوصت له بشيء، أو قد طرد ابن القاسم اعتلاله في هذا على ضعفه، فقال في المدونة: إنه إذا أوصى لأخيه بوصية وهو وارثه، ثم ولد له ولد يحجبه عن الميراث، فالوصية له جائزة؛ لأنه قد تركها بعد الولادة، فصار مجيرا لها بعد الولادة، فالأظهر في هذه المسألة قول أشهب، والمخزومي، وابن أبي حازم، وابن كنانة: إن الوصية له جائزة، وإن لم يعلم بالولادة، والأظهر في أوصت لزوجها ثم طلقها.

(13/223)


قول ابن القاسم: إن الوصية له لا تجوز، إلا أن تكون علمت بطلاقه من أجل ما ذكرناه، لا من أجل أن الوصية للوارث لا تجوز؛ لأن ذلك إنما هو من حق الورثة، إن أجازوها جازت، ليست بحق الله فتفتسخ على كل حال، إلا أن يجيزها بعد أن علم أنه غير وارث، فكما تبطل وصيته إذا أوصى له وهو غير وارث، ثم صار وارثا، فكذلك ينبغي أن تجوز إذا أوصى له وهو وارث، ثم صار غير وارث، إلا أن يدخل ذلك ما دخل الزوجة توصي لزوجها ثم يطلقها، وقد روى عن ابن القاسم مثل قول أشهب وابن كنانة، وابن أبي حازم، وذلك عندي في غير الزوجة، وبالله التوفيق.

[مسألة: وصية الرجل للرجل بدنانير ودراهم]
مسألة وقد قال ابن القاسم في وصية الرجل للرجل بدنانير ودراهم، أو بثمر صيحاني وبرني وصية أو وصيتين، أرى الصنفين جائزين له، وأرى الدنانير والدراهم جائزة له.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة والقول عليها في رسم الصلاة، من سماع يحيى، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.

[: يوصي بثلث ماله للمساكين ويترك دورا وقرى]
من نوازل سحنون بن سعيد وسئل عن الرجل يوصي بثلث ماله للمساكين، ويترك دورا وقرى، هل يباع ثلث دوره وقراه فيمن يزيد، ثم يعطى ثمنها للمساكين؟ أو تعرض على الورثة؟ فإن أحبوا اشتروا، وإن لم يريدوا الشراء قسم الثلث، وبيع فيمن يزيد. قال: بل يقسم ثلث مال الميت، ثم يباع فيمن يزيد، ثم يجتهد في ذلك السلطان للمساكين، ولا يكون الورثة أولى به، وإنما يكون أولى به من زاد

(13/224)


في ثمنه، وإنما المساكين هاهنا بمنزلة أحد الورثة، ألا ترى أنه لو أوصى لرجل بعينه بثلث ماله؛ لكان الموصى له أولى به من الوارث؟ فكذلك وصيته للمساكين. قال: وسألت أصبغ عن رجل أوصى بثلث جميع ماله في المساكين صدقة، فوقعت الوصية في داره وأرضه، وجميع ماله، فقال ورثته: نحن نأخذ هذا الثلث في الأرضين والدار؛ لأننا لا نريد الخروج من الدار، ولا من الأرضين، أترى أن يعطوا ذلك بقيمة أم يصاح عليه فيمن يزيد، فيزيدون ويأخذونه؟ قال أصبغ: لا أرى أن ينادى عليه؛ لأنه يدخل في ذلك الضرر وعلى الورثة إذا علم الناس رغبتهم فيه، زادوا إضرارا بهم، ولا حاجة بهم إلى الشراء، لما يعلمون من رغبتهم فيه.
قال: وأرى إن كان الميت وكل بذلك الثلث من يقوم به، وبإخراجه وتفريقه أن يعامل الورثة في ذلك يأتي بصراء فيقومون ذلك، ثم يعطيهم إياه بقيمته، وإن لم يكن الميت جعل ذلك إلى أحد، كان أمره إلى السلطان، ووكل السلطان به رجلا ينظر فيه على نحو ما قلت لك، فإن قال الناظر في ذلك: فإني أرى اقتسامهم، فأفرز ثلث الدار والأرضين ثم أبيعه مفروزا؛ لأنه إنما ... بثمنه، فقال لي: ليس ذلك له، وهذا ضرر بهم، ولكن يأخذونه بالقيمة؛ لأن أصل الوصية لم يكن بالرقبة، إنما كانت بمال يخرج، ألا ترى أنه قال: ثلث مالي في المساكين صدقة، فقد علم أن ثلث داره لا يقسم في المساكين، وإنما وصيته على المال، فلا أرى أن يقسم، ولا ينادى عليه، ولكن يعطوه بقيمته على العدل؟ قلت: فإن قال: الورثة لا نريده، وتبرءوا منه، فإن أبى الناظر في ذلك أن يقسمه ثم يبيعه

(13/225)


مفروزا، وقال الورثة: لا، بل بعه مشاعا فتأخذ، إن شئنا شفعتنا. فقال لي: أرى أن يبيعه مشاعا ولا يقسمه؛ لأن وصيته معناها وقعت على مال، ولم تقع على شرك ولا على ربع، وليس المساكين فيه كرجل أو كرجال بأعيانهم لو كان أوصى بذلك لمن هو بعينه، كان شريكا لهم إن شاء فأسهم، وإن شاء أقره مشاعا، وإن شاء باع، وإن شاء أمسك، وإن وصيته للمساكين، إنما وقعت على مال وعلى التفرقة، قال: وأرى إن كان للميت مال سوى الربع من عين أو ثمن سقط، أو حرثي أو حيوان مما يباع في الفصول؛ لأن للوصي أن يستوفي من ذلك على ما أحبوا أو كرهوا، ولا يحبس ذلك لدعواهم للبيع وللمقاسمة بعد أن يعدل ذلك، فإن لم يكن ثم مال، فهذا الذي يكون للوصي بيع الربع شريكه كوارثه.
قال محمد بن رشد: قول سحنون هذا، مثل قول مالك في رسم الوصايا من سماع أشهب، خلاف قول ابن القاسم وأصبغ.
وقد مضى هناك تحصيل القول في هذه المسألة، وأنه يتحصل فيها خمسة أقوال؛ فلا معنى لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.

[مسألة: يوصي بوصايا وبعبد أبق]
مسألة وسألته عن الرجل يوصي بوصايا وبعبد أبق. قال: إن كان إباقه قريبا يرجى ضرب به على الرجاء والخوف.
قال محمد بن رشد: هذا إذا لم يحمل الثلث الوصايا ولا أجازها الورثة، فقطعوا لهم بالثلث، فتحاصوا فيه بقدر وصاياهم، يقوم العبد

(13/226)


الموصى به، وهو أبق على الرجا والخوف، أن لو كان يحل بيعه على ما هو عليه من إباقه، فيحاص أهل الوصايا في الثلث بتلك القيمة، وأما إن حمل الثلث الوصايا، أو لم يحملها، فأجازها الورثة، فإن العبد الآبق يكون للموصى له به يتبعه، وجده أو لم يجده، وبالله التوفيق.

[مسألة: يوصي بالثوب فيصبغه]
مسألة قال سحنون في الرجل يوصي بالثوب فيصبغه، أو يكون مصبوغا فيغسله: إن ذلك لا يحيل الوصية، وأرى الورثة شركاء في الثوب بقيمة الصبغ. وقال غير سحنون: يكون له مصبوغا. وقال سحنون: إذا قطع الثوب خرجت منه الوصية بالاسم الذي دخله، يكون ملحفة فيصير قميصا، أو يكون دارا مبنية فيهدمها، أو تكون عرصة فيبنيها، فإن الوصية فيه ثابتة، ويكون الورثة فيه شركاء مع الموصى له بالبنيان، وقال غير سحنون: إذا خرجت العرصة من اسمها حتى تصير دارا، فقد خرجت من الوصية، وإذا خرجت الدار من أن تكون دارا، وصارت عرصة، فقد خرجت من البنيان، وكذلك الثوب إذا كان ملحفة فقطعه قميصا، فقد تغير اسمه، وخرجت عنه الوصية، وقول سحنون خير من هذا إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: قول سحنون في هذه الرواية، في الذي يوصي بالعرصة ثم يبنيها: إن الوصية فيها ثابتة، ويكون الورثة شركاء مع الموصى له بالبنيان، خلاف قوله في سماع أبي زيد بعد هذا، والذي يتحصل في الذي يوصي بالبقعة ثم يبنيها، أو بالدار ثم يهدمها، ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن الوصية تبطل في الوجهين جميعا. والثاني: لا تبطل في الوجهين جميعا. والثالث: الفرق بين المسألتين، فتبطل إذا أوصى بالبقعة ثم بناها، ولا تبطل إذا أوصى بالدار، ثم هدمها، ويختلف على القول في أن الوصية

(13/227)


بالعرصة لا تبطل ببنيانها، هل تكون لا موصى له ببنيانها، أو يكون شريكا مع الورثة بالعرصة؟ ويختلف أيضا على القول بأن الوصية بالدار لا تبطل بهدمها، هل يكون له النقض مع البقعة أم لا؟ فقيل: إنه لا يكون له النقض، وقيل: إنه يكون له، وهو قول ابن القاسم في المجموعة، وكذلك يختلف في الثوب يوصي به، ثم يصبغه أو يغسله على هذا الاختلاف سواء قيل: إنه يكون فيه شريكا مع الورثة، بقيمة الصبغ من قيمة الثوب، وقيل يكون له الثوب مصبوغا، وهو قول ابن القاسم وأشهب في كتاب ابن المواز، وقال أشهب: وكذلك لو غسله أو كانت دارا فجصصها، أو زاد فيها بناء؛ لأنه لم يتغير الاسم عن حاله، وأما الثوب يوصي به، ثم يقطعه ويخيطه، فيتحصل فيه ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن الوصية تبطل. والثاني: أنها لا تبطل. والثالث: الفرق بين أن يقول: شقتي أو ملحفتي لفلان، فيقطع ذلك قميصا أو سراويل، وبين أن يقول: ثوبي لفلان، فيقطعه قميصا أو سراويل، فتبطل الوصية إذا قال: شقتي أو ملحفتي، ولا تبطل إذا قال: ثوبي؛ لأنه إذا قال: شقتي أو ملحفتي، فقد انتقل اسمها بما أحدث فيها؛ إذ لا يسمى القميص ولا السراويلات شقة ولا ملحفة، وإذا قال: ثوبي، فلم ينتقل اسمه بما أحدث فيه؛ لأن القميص والسراويلات يسمى كل واحد منهما ثوبا، وإذا لم تبطل الوصية على القول بأنها لا تبطل، فيختلف هل يكون له الثوب مخيطا؟ أو هل يكون مع الورثة شريكا؟ وليس في هذا شيء يرجع إليه، وينبني فيه الخلاف عليه سوى ما يغلب على الظن، من أن الموصي أراده بما فعل، وبالله التوفيق.

[مسألة: أوصى بعتق أحد عبيده دون تعيين]
مسألة وسئل عن رجل حضرته الوفاة، وله ثلاثة أعبد، فدخل عليه أحد ولده في مرضه، فقال له: أوص، فقال: ميمون حر، ثم دخل عليه آخر من ولده، فقال: أوص، فقال: أحد هؤلاء الثلاثة حر، ثم مات، قال: قد قيل: إن الشهادة باطلة، وقد قيل يقرع

(13/228)


بين الثلاثة، فإن وقع السهم على الذي شهد له أحد الورثة بالعتق فيما اجتمع على عتقه، أقسم فيعتق إن كان الورثة رجالا كلهم، وإن وقع السهم على غيره، فالشهادة باطل، إلا أن يصير العبد الذي شهد بعتقه لمن شهد له.
قال محمد بن رشد: الاختلاف الذي ذكره سحنون في جواز هذه الشهادة، يتخرج على الاختلاف في جواز تلفيق الشهادة إذا اختلف فيها اللفظ والمعنى، واتفق ما يوجبه الحكم، مثل أن يشهد أحد الشاهدين أن له عليه مائة دينار من سلف، ويشهد آخر أن له عليه مائة دينار من مبايعة، ومثل أن يشهد أحدهما أنه قال: امرأتي طالق إن فعلت كذا وكذا، ويشهد الآخر أنه قال: إحدى امرأتي طالق إن فعلت كذا وكذا لذلك الشيء بعينه، وله امرأتان، وما أشبه ذلك؛ لأن القرعة إذا وقعت على ميمون، فقد وجب له العتق بشهادة كل واحد منهما، وقد مضى بيان هذا المعنى، في رسم العرية، من سماع عيسى، من كتاب الشهادات، وقوله: إن كان الورثة رجالا كلهم صحيح؛ لأنه إن كان في الورثة نساء لم تجز الشهادة باتفاق؛ لأنهما يتهمان جميعا في جر الولاء لأنفسهما دون من يرث الميت من النساء، إلا أن يكون العبدان ممن لا يرغب في ولائهما، وبالله التوفيق.

[مسألة: قال عشرة من رقيقي أحرار وله خمسون رأسا]
مسألة قلت لسحنون: كيف تكون القرعة إذا قال: عشرة من رقيقي أحرار، وله خمسون رأسا. قال: إن كانوا ينقسمون، قسموا أخماسا بالقيمة، ثم يكتب جزء العبد، فيكتب فيه العتق ويكتب في الآخر رق، ثم يعطى لرجل لا يقرأ، فيلقي تلك البطائق عليهم، فعلى أي جزء وقع سهم العتق عتق ذلك القسم، وإن كانوا لا ينقسمون قوموا كلهم، ثم ينظر إلى الثلث كم هو؟ فإن كان مائة

(13/229)


دينار، كتبت أسماؤهم اسم كل واحد عنهم على حدة، ثم جمعها في كمه، ثم ضرب بيده، فيخرج واحدة، فينظر من خرج سهمه، فإن كان كفاف الثلث عتق، وإن كان أقل ضرب بيده، ثم أخرج أخرى.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما في المدونة وغيرها، ولا اختلاف فيه، فقد يخرج في الثلث على هذا بعض عبد إن كان الذي خرج سهمه قيمته أكثر من الثلث، وقد يخرج فيه عبد كامل لا أكثر ولا أقل، إن كانت قيمة الذي خرج سهمه من الثلث سواء، وقد يخرج فيه أكثر من عبد إن كان الذي خرج سهمه قيمته أقل من الثلث؛ لأنه يعتق الذي خرج سهمه، ثم يضرب مرة ثانية، فإن كان الذي خرج سهمه أقل مما بقي من الثلث أعتق أيضا ثم يضرب مرة ثالثة، وهكذا أبدا حتى يعتق من العبيد مبلغ الثلث، وبالله التوفيق.

[مسألة: وصى لرجل بداره في مرضه ثم هدمها ثم بناها]
مسألة وسئل سحنون فقيل له: لو أن رجلا أوصى لرجل بداره في مرضه، ثم هدمها، ثم بناها كما كانت أول مرة، ثم مات من مرضه ذلك، هل ترى ذلك نقضا لوصيه؟ فقال: أما الذي أقول أنا إذا بناها إن الموصى له بالدار له قاعة الدار، ولا يكون له البنيان؛ لأن القاعة لم يزلها عن حالها، وإنما غير البنيان وأزاله عن حاله، فقد نقض وصيته في البنيان، قيل له: أرأيت لو أوصى له في مرضه بعرصة لا بناء فيها، ثم بناها دارا في مرضه، هل يكون هذا نقضا؟ قال: نعم، يكون هذا نقضا؛ لأنه قد أحال العرصة من حالها، فقد نقض وصيته.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه إذا أوصى له بعرصة ثم بناها؛ أن

(13/230)


ذلك يكون نقضا لوصيته، هو خلاف قوله قبل هذا، ومثل ماله في سماع أبي زيد، ولا يدخل هذا الاختلاف من قوله في هذه المسألة في المسألة الأولى التي أوصى بداره لرجل، ثم هدمها، ثم بناها؛ لأنه إنما لم ينقض وصيته في العرصة ببنيانه إياها على قوله فيمن أوصى لرجل بعرصة ثم بناها؛ لأنه لم يوص له بعرصة، وإنما أوصى له بدار، ثم هدمها، فصارت عرصة، فلم ير أن تنتقض وصيته ببنيانه لها.
وقد مضى قبل هذا تحصيل القول فيمن أوصى لرجل بعرصة ثم بناها، أو بدار ثم هدمها، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: أوصى لعبده بثلث ماله وللعبد ولد]
مسألة وسئل سحنون عن رجل أوصى لعبده بثلث ماله، وللعبد ولد، هل يقدم عتق العبد في الثلث قبل الابن، أو يدخلان فيه جميعا؟ قال: بل يكون الأب أولى بالعتق في الثلث، فإن بقي من الثلث شيء دخل فيه الابن في العتق بالغا ما بلغ.
قال محمد بن رشد: قد تقدم قول سحنون هذا في رسم الرهون الأول، من سماع عيسى، ومضى الكلام عليه هنا، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: أوصى لرجل بمتاعه وأمره أن يوجه متاعه إلى ورثته]
مسألة وسألته عن رجل من أهل الأندلس هلك بمصر، وأوصى لرجل بمتاعه وأمره أن يوجه متاعه إلى ورثته، ولا يحدث فيه بيعا، فقام الوصي فباع ذلك المتاع، واشترى لنفسه أكثر ذلك المتاع، وضمنه نفسه على حال ما أعطى به، فوجه الوصي ذلك المتاع بعينه إلى أهل نفسه، وأمرهم أن يبيعوا ذلك المتاع، ويقضوا

(13/231)


ورثة الميت بمصر، فعثر ورثة الميت على ذلك المتاع بعينه، فقاموا يريدون أخذه، أذلك لهم أم لا؟ وقال أهل الوصي: قد ضمن صاحبنا وتعدى فيه، وأكرى عليه من أرض نائية، فليس لكم علينا إلا الثمن الذي وقع به هذا المتاع على صاحبنا، فهل ترى لورثة الميت أخذ المتاع منهم أم لا؟ قال سحنون: الورثة يخير بين إن أحبوا أن يأخذوا المتاع بعينه، فذلك لهم، ولا شيء عليهم من كراء ذلك المتاع، وإن أحبوا كان لهم على الوصي الثمن الذي اشترى به المتاع والقيمة، إن كانت أكثر. قال: وسألت أبا زيد بن أبي العمر عن ذلك، فقال لي مثله.
قال محمد بن رشد: قوله ويقضوا ورثة ذلك الميت بمصر غلط، والله أعلم، وإنما صوابه بالأندلس على ما ساق عليه المسألة؛ أن الرجل كان من أهل الأندلس، ومات بمصر. وقوله: إن الورثة بالخيار، بين أن يأخذوا متاعهم دون كراء يكون عليهم، وبين أن يكون لهم الثمن الذي اشترى به المتاع، فذلك بين لا اختلاف فيه؛ لأنه متاعهم بعينه، فلهم أن يأخذوه إن شاءوا، وإن شاءوا أن يأخذوا الثمن، كان ذلك لهم، من أجل أنه قد ألزمه نفسه ورضي به، وأما قوله: إن لهم أن يأخذوا القيمة إن كانت أكثر من الثمن، فهو خلاف المعلوم من مذهبه في أن من تعدى على متاع رجل، فحمله من بلد إلى بلد، فليس له إلا أخذ متاعه، إذا لم يفت بذلك عنده؛ لأنه رأى نقله من بلد إلى بلد مثل حوالة الأسواق، مثل قول ابن القاسم وأشهب وغيرهما من أصحاب مالك.
وقد مضى تحصيل القول في هذا المعنى، في رسم أسلم، من سماع عيسى، من كتاب الوديعة في العروض والحيوان والرقيق والطعام، فقف على ذلك هنالك، وبالله التوفيق.

(13/232)


[مسألة: يوصي إليه الرجل بماله وولده]
مسألة وسئل سحنون عن الرجل يوصي إليه الرجل بماله وولده، فتحضر الوصي الوفاة، فيوصي إلى رجل بماله وولده، أو يقول: فلان وصي مجملا، ولم يذكر مال الميت ولا ولده الذين كان أوصى بهم إليه، هل يكون الموصى له وصيا فيما كان هذا فيه وصيا للذي أوصى إليه فيه؟ فقال: لا يكون وصيا إلا في مال هذا الميت إذا لم يذكر في وصيته، وأنه وصي على ما أوصى به إلى فلان.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه لا يكون وصيا على ما كان أوصى إليه به من مال الرجل وولده، وإن اتهم الإيصاء فقال فيه فلان وصي، فلم يفسر شيئا؛ لأنه إنما يحمل على العموم في ماله وولده خاصة، لا في مال غيره، وبالله التوفيق.

[مسألة: يقول إن أصابني قدري في سفري هذا ففلان وكيلي]
مسألة وسئل عن رجل يقول: إن أصابني قدري في سفري هذا، ففلان وكيلي، هل يكون وصيا إن أصابه قدره؟ قال: نعم، يكون وصيا وإن لم يقل وصي، وهو عندنا واحد.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الوصي وكيل الميت، فسواء قال في وصيته: إن مت ففلان وصيي، أو إن مت ففلان وكيلي، فكل وصي وكيل، وليس الوكيل بوصي، وبالله التوفيق.

[مسألة: قال إن أدركني موت في سفري هذا ففلان وصيي]
مسألة وعن رجل أوصى إلى رجل بالأندلس، فقال: إن أدركني موت في سفري هذا، ففلان وصيي وخرج في سفره، فلما انتهى

(13/233)


إلى القيروان مات الموصي، ولم يبلغ الموصى إليه خبر موته حتى أدركه أجله بالأندلس، فأوصى بأهله وماله إلى فلان، ولم يسم الهالك بالقيروان؛ لأنه لم يبلغه خبر موته، ولم يعلم به هل يكون هذا الموصى إليه وصيا للميتين جميعا؟ فقال: لا يكون إلا للذي أوصى إليه.
قال محمد بن رشد: ولو علم بموته، لم يكن الموصى إليه وصيا على ما أوصى به إليه، إلا ببيان على ما تقدم قبل هذا، وبالله التوفيق.

[مسألة: النصراني أله أن يوصي بجميع ماله]
مسألة وسئل سحنون عن النصراني أله أن يوصي بجميع ماله؟ فقال: ذلك يختلف، أما إذا كان من أهل العنوة فليس ذلك له؛ لأنه ورثته المسلمون إذا مات، فليس له أن يغر بميراثه واله؛ لأنه من أهل العنوة، ومن كان أيضا من أهل الصلح ممن عليه الجزية على جمجمته، وكل واحد منهم إنما عليه شيء يؤديه عن نفسه، ليس يؤخذ غنيهم بمعدمهم، فإن ذلك أيضا ليس له أن يوصي بجميع ماله، وليس له أن يوصي إلا بثلثه إذا كان لا وارث له من أهل دينه؛ لأن ورثته المسلمون، فأما إذا كان من أهل الصلح، فصالحوا على أن عليهم وظيفة معلومة من الخراج، ليس ينقصون منها أبدا لموت من مات، ولا لعدم من أعدم منهم، وهم بعضهم مأخذون ببعض، فليس يعرض لهم في وصاياهم، وليس لنا أموالهم إن مات منهم أحد ولا وارث له، كان لأهل خراجه، ليقووا في خراجهم؛ لأنهم هم المأخذون بخراجهم، وهم بعضهم قوة لبعض.

(13/234)


قال محمد بن رشد: وقع قول سحنون هذا على نصه في رسم العرية، من سماع عيسى، من كتاب السلطان، ومضى القول عليه هناك، فلا معنى لإعادته هنا، وبالله التوفيق.

[مسألة: إذا أسلم أهل العنوة فهل يجوز بيع رقيقهم]
مسألة قال سحنون: أخبرني ابن القاسم عن مالك: إذا أسلم أهل العنوة أخذ منهم دنانيرهم ودراهمهم وعبيدهم، وكل مال لهم.
قلت لابن القاسم: أفيجوز بيع رقيقهم؟ قال: أراه جائزا من قبل أن أمرهم، كأنهم تركوا على ذلك، وكأنهم أذن لهم في التجارة، وإنما منعوا أن يهبوا أو يتصدقوا أو يفسدوا أموالهم.
قلت: فتزويدهم بناتهم، فقال: إني لا أحبه، وما أراه حراما.
قال محمد بن رشد: هذه الرواية على نصها قد مضت متكررة في سماع سحنون، من كتاب التجارة إلى أرض الحرب، ومضى الكلام عليها هناك، فأغنى عن إعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: أوصى عند موته لرجل بألف درهم]
مسألة وعن رجل أوصى عند موته لرجل بألف درهم، وقال: لي عنده عشرون دينارا، فاقبضوها منه، فأخبر الموصى له بالوصية، وسئل عن العشرين، فأنكر أن يكون له عليه شيء قال: يحاسب في الألف الدرهم بالعشرين دينارا، ثم يكون له ما بقي.

(13/235)


قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لا إشكال فيه، ولا وجه للقول؛ لأنه لم يوص له بالألف درهم، إلا على أن تؤخذ منه العشرون دينارا، فإذا أنكر العشرين، لم يكن له من الألف درهم إلا ما زاد عليها، وقد مضت المسألة في رسم الوصايا من سماع أشهب من هذا الكتاب، وفي رسم البيوع الأول من سماع أشهب أيضا من كتاب الميدان والتفليس، وبالله التوفيق.

[مسألة: له عبدان ميمون وقيمون فقال عند موته ميمون حر وميمون لميمون]
مسألة وسئل سحنون عن رجل له عبدان: ميمون وقيمون، فقال عند موته: ميمون حر، وميمون لميمون، ثم مات والثلث يحملها أو لا يحمل إلا واحدا، قال: إن حمل الثلث العبدين أسهم بينهما، فأيهما خرج سهمه بالعتق كان له الباقي، وقد قيل: إنما للحر نصف الباقي، وإن ضاق الثلث عن العبدين، فلم يحمل إلا واحدا خرج حرا.
قال محمد بن رشد: إنما وقع هذا الاختلاف إذا حملهما الثلث، هل يكون للذي خرج السهم جميع العبد الآخر أو نصفه؛ لاحتمال أن يريد الموصي بقوله: وميمون لميمون، أي رقبة ميمون لميمون نفسه، فيكون على هذا الاحتمال إنما أوصى لأحدهما بوصيتين: إحداهما برقبته؛ والثانية بحريته، فتجب هاتان الوصيتان لمن خرج سهمه في القرعة منهما، فالورثة يقولون للذي خرج سهمه منهما، لا شيء لك إلا حريتك؛ لأن الوصيتين جميعا لك إنما هي بحريتك وبرقبتك، وهو يقول: بل، لي العبد الآخر كله؛ لأنه أوصى لي بحريتي وبالعبد الآخر، فيقسم بينهما بنصفين، وكذلك على هذا القول إن حمل الثلث العبد الذي خرج سهمه، ونصف الآخر يكون النصف بين العبد الذي خرج سهمه، وبين الورثة.
والذي أقول به في هذه المسألة أن

(13/236)


لا يكون للذي خرجت له القرعة من العبد الآخر شيء؛ لاحتمال أن يكون الموصي أراده بالحرية، فلم يصح أن يعطى للذي خرجت له القرعة بالشك دون اليقين، وأبقيناه للورثة بالشك؛ لاحتمال أن يكون هو المراد بالعتق؛ لأن العتق قد دار بالقرعة إلى الذي خرج سهمه بالسنة، وبالله التوفيق.

[مسألة: أقر في مرضه بدين لأجنبي لم يكن له عليه بينة وأقر لابنه بدين]
مسألة وقال سحنون في رجل أقر في مرضه بدين لأجنبي لم يكن له عليه بينة، وأقر لابنه بدين، قال: إن كان مالهما واحدا فاقتسماه، رجع الورثة على الابن، فأخذوا منه، ويرجع الابن على صاحب الدين، فيقول: قد استحق مني حقي، فيرجع عليه كذلك حتى ينقلب بغير شيء، وإن كان المال مفترقا أخذ كل واحد منهما ماله.
قال محمد بن رشد: قوله: إن كان مالهما واحدا فاقتسماه، معناه: إن لم يف ما ترك الميت من المال بما أقر به لكل واحد منهما، فاقتسماه على حساب ما أقر به لكل واحد منهما، فحينئذ يكون ما ذكره من رجوع الورثة على الابن بما أخذه، ورجوعه هو على الأجنبي بما يجب له مما أخذه؛ إذ قد أخذ الورثة منه ما أخذ، ثم رجع الورثة عليه بما رجع به على الأجنبي، ثم رجوعه هو ثانية على الأجنبي بما يجب له مما بقي بيده؛ إذ قد أخذ الورثة منه أيضا ما أخذ أبدا يرجع الورثة عليه بما أخذه من الأجنبي، ويرجع هو على الأجنبي بما يجب له مما بقي بيده حتى ينقلب بغير شيء كما ذكر.
مثال ذلك: أن يترك الميت مائة دينار، فيقر في مرضه لابنه بمائة دينار، فيأخذ الأجنبي خمسين، والابن خمسين، فيأخذ الورثة من الابن الخمسين التي أخذ؛ إذ لا يجوز الإقرار له، فإذا أخذوها منه، رجع هو على الأجنبي، فأخذ من نصف الخمسين التي أخذ، فإذا أخذها منه أخذها منه الورثة، فإذا أخذوها منه رجع على الأجنبي، فأخذ منه نصف الخمسة وعشرين التي بقيت

(13/237)


بيده، فإذا أخذ ذلك منه أخذها منه الورثة، فإذا أخذوها منه رجع على الأجنبي، فأخذ منه نصف الاثني عشر ونصف التي بقيت بيده، فإذا أخذ ذلك منه أخذها منه الورثة، فإذا أخذوها منه رجع هو على الأجنبي، فأخذ منه نصف الستة، وربع التي بقيت بيده، وهكذا حتى ينقلب الأجنبي بغير شيء؛ فيئول الأمر إذا أقر الميت في مرضه لابنه، والأجنبي بما لا يحمله ثلث ماله، أن يبطل إقراره للأجنبي. هذا مذهب أشهب.
وقد قال أبو إسحاق التونسي: مذهب أشهب إنما هو أن يرجع الابن المقر له على الأجنبي بنصف ما أخذ منه يده الورثة مما صار له في المحاصة، لا بنصف ما صار له في المحاصة. قال: فقوله: ثم يتراجعون حتى لا يبقى بيد الأجنبي شيء لا يصح؛ إذ لا بد أن يبقى بيد الأجنبي كثير. بيان ذلك: أن يكونا أخوين، ويترك الميت مائة دينار، ويقر في مرضه لأحدهما بمائة دينار، ولأجنبي بمائة، فليأخذ الأجنبي خمسين، والابن المقر له خمسين، فيرجع الابن الذي لم يقر له على الذي أقر له بخمسة وعشرين من الخمسين، فيرجع المقر له على الأجنبي بنصف الخمسة وعشرين التي أخذها منه أخوه، فيرجع عليه أخوه، فيأخذ منه نصفها اثني عشر ونصف، فيرجع هو على الأجنبي بستة وربع، فيرجع عليه أخوه بثلاثة وثمن، فيرجع هو على الأجنبي بنصف الثلاثة والثمن، ثم يرجع عليه أخوه بنصف الثلاثة، ويرجع هو على الأجنبي بنصف ذلك، فيبقى بيده كسر على ما قاله.
وأما ابن القاسم فقوله في المدونة: إن الابن يحاص الأجنبي فيما ترك الميت بما أقر به لكل واحد منهما، ولا يكون للأجنبي في ذلك حجة، إذا لم يكن دينه ثابتا فيتهم الأب عليه في إقراره للابن، ويرجع الورثة على الابن بما صار له، فيكون ميراثا بين جميعهم؛ إذ لا يجوز الإقرار له، ولا يرى الرجوع له على الأجنبي بما رجع به الورثة عليه، وهو أظهر من قول أشهب وسحنون هذا في هذه النوازل، وبالله التوفيق.
وأما إن كان يفي ما ترك الميت من المال بما أقر به لهما جميعا، فيأخذ كل واحد منهما ما أقر له به، فإن شاء الورثة أقر ذلك للابن وأجازوه له، وإن

(13/238)


شاءوا أخذوه منه، فكان ميراثا لجميعهم، وهذا هو معنى قوله: فإن كان المال مفترقا أخذ كل واحد منهما ماله، ولا اختلاف في هذا الوجه، وبالله التوفيق.

[مسألة: أقر في مرضه أنه قد كان أوصى بعتق عبده]
مسألة قلت لسحنون: أرأيت إن أقر في مرضه أنه قد كان أوصى بعتق عبده أو تدبيره، أو بمال لرجل؟ فقال: كل ما كان في الثلث فهو جائز.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، كأنما أقر أنه قد أوصى به، فلا اختلاف في ذلك ولا إشكال، وبالله التوفيق.

[مسألة: أوصى لرجل بثلث ماله وقال على ألا ينقص ابني فلان من نصف مالي]
مسألة وسئل عن رجل هلك وترك ابنين، وأوصى لرجل بثلث ماله، وقال: على ألا ينقص ابني فلان من نصف مالي، فأبى الورثة أن يجيزوا ذلك، قال سحنون: إن أبوا الإجازة فللموصى له بالثلث ثلثا الثلث، ويبقى المال بين الأخوين. وقد قيل أيضا غير هذا، وهذا أحسن وأشبه إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: وجه هذا القول أن الثلث الموصى به حقه أن يؤخذ من حظ الابنين نصفه من حظ كل واحد منهما، فلما أوصى ألا ينقص أحد ابنيه من حظه شيئا، كان الموصى له بنصف الثلث، فوجب أن يتحاص هو والموصى له بالثلث بجميع الثلث، والابن الذي أوصى ألا ينقص من حظه شيء بنصف الثلث، فيصير للموصى له بجميع الثلث ثلثا الثلث، ويقسم الابنان بقية المال بينهما بنصفين؛ إذ لا تجوز وصية لوارث، إلا أن يجيزها الورثة.
وأما القول الثاني الذي ذكر أنه قيل في المسألة، فلا أعرفه نصا لأحد

(13/239)


من أصحابنا، والذي يشبه أن يقال أن يكون للموصى له بالثلث نصف الثلث، وهو سدس جميع المال، ويكون خمسة أسداسه بين الابنين بنصفين؛ لأن الموصي لما أوصى بثلثه، وألا ينقص أحد ابنيه من نصف المال شيئا، فقد أوصى أن يؤخذ جميع الثلث من حظ الابن الآخر، ذلك ما لا يجوز له؛ إذ لا يجب أن يؤخذ من حظه منه إلا نصفه، فتبطل الوصية بنصف الثلث؛ إذ أوصى أن يؤخذ من حظ أحد ابنيه زائد على ما يجب أن يؤخذ من حظه منه، وينفذ بالنصف الثاني ويكون خمسة أسداس المال بين الابنين. وهذا أظهر من القول الذي ذكره، وقال فيه: إنه أحسن، والله أعلم.

[مسألة: هلك وترك ولدين فأوصى لأحد ولديه ولرجل أجنبي بجميع ماله]
مسألة وقال في رجل هلك وترك ولدين، فأوصى لأحد ولديه، ولرجل أجنبي بجميع ماله، فأجاز الوصية للأجنبي، وأجاز الذي لم يوص له بشيء للذي أوصى له بالنصف، فإن مقامها من اثني عشر، فيعطى الأجنبي قبل كل شيء الثلث من اثني عشر، وذلك أربعة، ويصير للأخوين أربعة فيعطيان الأجنبي سهمين، يعطيه كل واحد منهما من حظه سهم، حتى يكمل له النصف، كما أجازا له النصف، ثم يرجع الذي أوصى له بالنصف إلى أخيه بتمام النصف، فيعطيه من سهمه سهمين، ويبقى له سهم، فيصير للأجنبي ستة أسهم، وللذي أوصى له بالنصف خمسة، ويخير سهم واحد، فيعطاه الأجنبي فيه، فيصير له ستة، ويبقى للآخر سهم فافهم، فإنها جيدة وقس عليها ما يناظرها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها نظر، وللصحيح فيها في وجه النظر أن يعطى الأخ الذي أجاز لأخيه الوصية، جميع الثلاثة الأسهم الذي بيده، فيصير المال جميعه للموصى لهما به، وهو الأجنبي وأحد الابنين؛ لأن

(13/240)


الوصية بجميع المال قد أجازها الابنان جميعا حين أجازا للأجنبي جميعا، وأجاز الذي لم يوص له للذي أوصى له؛ لأن الذي أوصى له لا شك في إجازته لنفسه، فقد اجتمع الابنان جميعا على إجازة الوصية، وهما إذا أجازاها وجب أن يكون جميع المال بين الموصى لهما بنصفين، وهذا بين والله أعلم.

[مسألة: مرض فباع في مرضه دارا ثمنها ثلاثمائة دينار بمائتي دينار]
مسألة قال سحنون. لو أن رجلا مرض فباع في مرضه دارا ثمنها ثلاثمائة دينار بمائتي دينار، وحابى بالمائة، ولا مال له غيرها، ثم أخذ المائتين، فاستنفقها، ثم مات، فإنه يقال للورثة: إن صاحبكم قد حابى بالمائة، ولا يحمل ذلك ثلثه، من أجل أنه استنفق المائتين، فإما أن يمضوا بيعه، وإما أن يتخلعوا من ثلثه للمشتري، فإذا أجازوا مضى البيع، وإن أبوا أن يجيزوا، بيع من الدار بقدر المائتين التي استنفقها، ثم يكون للمشتري ثلث ما بقي من الدار بعد الذي بيع منها.
قال محمد بن رشد: قد مضى قول سحنون هذا متكررا في سماع أبي زيد من كتاب المديان والتفليس، ومضى القول عليه هناك مستوفى، فأغنى ذلك عن إعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: أوصى لرجل بعبد بعينه فلم يحمله الثلث]
مسألة وسئل عن رجل أوصى لرجل بعبد بعينه، فلم يحمله الثلث، فقيل للورثة بعد موت الموصي: يجيزون فأبوا. فقيل لهم: اخلعوا. فقالوا: نعم، فمات العبد. قال: أما ابن القاسم فيقول: المصيبة من الموصى له يقول: إذا خلعوا الثلث، فإنما يخلعونه في

(13/241)


العبد، وأما أنا ومن رأى أن يخلعوا له الثلث في جميع مال الميت فيقول: للموصى له ثلث ما بقي.
قال محمد بن رشد: هذا يجري على اختلاف قول مالك في الذي يوصي له بشيء لا يحمله الثلث، فيقطع له الورثة بالثلث، هل يجعل له الثلث في الشيء الذي أوصى له به، أو يكون شائعا في جميع مال الميت؟ فعلى القول بأنه يجعل له الثلث في الشيء الذي أوصى له به، لا يكون للموصى له بالعبد شيء إذا مات، كان موته قبل أن يقطعوا له بالثلث أو بعد أن قطعوا له بالثلث، وعلى القول بأنه يكون له الثلث شائعا في جميع مال الميت، يكون له ثلث ما بقي بعد العبد إن مات بعد أن قطعوا له بالثلث، وأما إن مات بعد أن قال الورثة: لا نجيز، ونحن نقطع له بالثلث، ولم ينفذوا له ذلك بحكم، أو بقول بات مثل أن يقولوا: لا نجيز، وقد قطعنا له بالثلث، فالمصيبة منه على ما في سماع أبي زيد، وجعل في هذه الرواية قولهم: نعم، جوابا لقوله: اخلعوا قطعا بالثلث خلاف ظاهر ما في سماع أبي زيد، وبالله التوفيق.

[مسألة: يوصي بالجارية لرجل ثم يثب عليها فيطؤها]
مسألة وقال في الرجل، يوصي بالجارية لرجل ثم يثب عليها فيطؤها، ولا يغير وصيته: إن ذلك ليس مما ينقض وصيته به، ولا يمنع الموصى له من قبضها حتى يغيرها، وينقضها بغير الوطء.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في سماع أبي زيد، وهو مما لا اختلاف فيه أعرفه، وإنما يكون الرجوع بالتفويت، وأما بالوطء والاستخدام فلا، وبالله التوفيق.

[مسألة: حضرته الوفاة فقال ثلث مالي لفلان وفلان وفلان إن قبل فلم يقبل]
مسألة وسئل سحنون عن رجل حضرته الوفاة فقال: ثلث مالي لفلان

(13/242)


وفلان وفلان، إن قبل ذلك، فلم يقبل هذا الذي قيل فيه إن قبل، هل ترى الثلث لهذين إذ لم يقبل الثالث؟ أم ترى ثلث الثلث يرجع إلى ورثة الميت؟ وكيف إن كان الذي قال فيه: إن قبل غائبا ما يصنع بمصابة الغائب؟ هل يوقف حتى يستنجز ذلك منه أم لا؟ وكيف إن قال: لفلان عشرة، ولفلان عشرة إن قبل فلان، والثلث عشرون؟ فسئل الذي قيل فيه: إن قبل فأبى أن يقبل هل ترى العشرين كلها لهذين؟ أم يرجع مصابة هذا الذي أبى إلى الورثة؟ وهل بين المسألتين اختلاف؟ قال سحنون: ليس بينهما فرق، كل من أوصى بوصايا استوعب فيها ثلثه وزاد، وكان من بعض وصاياه في شك أن تقبل أو لا يقبل، فإن قبلت كانت حيث جعلها، وإن لم يقبل ورجعت كانت لمن بقي من أهل الوصايا، ولم ترجع إلى الورثة، وإنما ترجع إلى الورثة، فيحاصون به أهل الوصايا لو أوصى، وزاد في وصاياه على ثلثه، وكان عنده نافخا، ومات على أن عنده جائز، فتلك التي إن رجعت ولم تنفذ، كانت لورثته، يحاصون به أهل الوصايا، ومسألتك إن قبل وصيته جازت، وإن لم يقبل رجعت وصيته إلى أهل الوصايا، ولم يدخل عليهم الورثة في شيء.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة على ما في المدونة وغيرها إن شاء الله.

[مسألة: أوصى أن تباع جاريته ممن يتخذها أم ولد]
مسألة وسئل سحنون عن رجل أوصى أن تباع جاريته ممن يتخذها أم ولد، قال: أرى هذا بيعا لا يجوز، وهي وصية مردودة.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن البيع على هذا لا يجوز، ولا

(13/243)


تجوز الوصية لما لا يجوز، فإن وقع ذلك فسخ البيع إن عثر عليه قبل أن يفوت. وقد قيل: إن البيع على هذا مكروه، لا يفسخ إذا وقع ورضي البائع بترك الشرط، فعلى هذا القول يكره تنفيذ الوصية، ويؤمر الوصي أن لا ينفذها، فإن نفذها لم يرد البيع إذا رضي البائع بترك الشرط، وبالله التوفيق.

[: أوصى لفقراء بني عمه وفقراء أقاربه وأشهد على ذلك أغنياء بني عمه]
من سماع موسى بن معاوية من ابن القاسم
قال موسى بن معاوية: قال ابن القاسم في رجل أوصى لفقراء بني عمه، وفقراء أقاربه بحائط يغتلونه، ولم يشهد على تلك الوصية إلا أغنياء بني عمه، قال: لا تجوز شهادتهم، خوفا من أن يحتاجوا إلى ذلك يوما ما، إلا أن يكون شيء تافه لا خطب له، ولا يتهمون في مثله لغناهم، ولعلهم لا يدركون ذلك، فإذا كان الأمر خفيفا لا يتهمون فيه بجر إلى أنفسهم، رأيت الأمر جائزا لهم، وذلك أني سمعت مالكا، وسئل عن ابني عم شهدا لابن عم لهما على أموالي فقال مالك: إن كانا قريبي القرابة يتهمان في جر الولاء لهما، فلا يجوز وإن كانا من الفخذين الأباعد، ولا يتهمان على جر ذلك، رأيت شهادتهم جائزة، فكذلك مسألتك.
قيل لابن القاسم: فإن استغنى بعض فقراء بني عمه، وافتقر بعض أغنيائهم، هل يخرج الغني، ويدخل الفقير؟ قال: نعم، وإنما يقسم على كل من كان فقيرا يوم يكون القسم، ولو قسم على قوم عاما، وبعض بني عمه أغنياء، ثم جاء القسم من قابل، وقد افتقرا الأغنياء، واستغنى الفقراء الذين قسم عليهم تحول القسم إلى

(13/244)


الأغنياء الذين لم يكن عليهم قسم، وأخرج منه الفقراء الذين قسم عليهم، فهذا قول مالك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة، لا إشكال فيها، يفتقر إلى بيان وشرح، والله الموفق.

[مسألة: يوصي أن يباع غلامه رقبة]
مسألة قال ابن القاسم في الذي يوصي أن يباع غلامه رقبة، فبيع رقبة، ووضع عن المشتري ثلث الثمن فأعتقه، ثم جاء درك على الهالك من دين ثبت عليه. قال: أرى أن يباع من العبد قدر ثلث الدين إن كان العبد ثلث المال، ويؤخذ من الورثة ثلثا الدين، وإن كان العبد ربع الدين، أخذ من الورثة ثلاثة أرباع الدين، وإن كان العبد خمس المال، بيع من العبد خمس الدين، وأخذ من الورثة أربعة أخماس الدين، فعلى هذا يحسب؛ قال أصبغ بن الفرج: لأنها إنما هي وصية للعبد بتلك الوضيعة التي كانت وضعت من ثمنه؛ لأن مشتريه لو لم يأخذه بوضيعة الثلث، ولم يوجد أحد يأخذه إلا بأقل من ذلك، كان الورثة مخيرين إما أجازوا وإما أعتقوا من العبد ما حمل الثلث بتلا. فالوضيعة هاهنا إنما هي للعبد، فلذلك لم يكن على مشتريه غرم شيء من الثلث الذي وضع له من ثمنه، كأنه إنما باع ثلثي العبد قبل موته، وأخذ ثمنه، فكان مالا من ماله ورثه فيما ورث، وأوصى بعتق الثلث الذي بقي له فيه، فذلك الثلث، إنما يقول في ثلثه، ويعرف ما هو من جميع ماله، فإن كان خمسا أو سدسا أو ربعا أو ثلثا عتق، فإنما يقع عليه من الدين بقدر ما كانت

(13/245)


وصيته من مال الميت، كانت سدسا أو ربعا أو خمسا، وإن كان سدس ذلك الدين أو ربعه أو خمسه، يكون أكثر من سدس رقبته، أو ربعها، أو خمسها، بيع منه ما بينه وبين ثلث رقبته؛ لأنها وصيته التي أوصى له بها، والذي يملك؛ لأنه قد أخذ للثلثين الباقيين ثمنا صارما لا مع ميراثه للورثة، فالثلثان غير الميت أعتقهما، ومن غير ماله عتقا، ويكون ما عجز عن ثلث رقبته من ذلك الجزء الذي وقع عليه من الدين في مال الميت، يرجع به على الورثة أيضا في مال الميت، حتى يحيط ذلك بجميع ما أخذوا فيما أخذوا؛ لأن ما وقع على العبد من الدين قد أحاط بجميع ما أوصى له به وزاد، فالزيادة ليست عليه، وأما العبد فإنما عليه أن يؤخذ منه وصيته التي أوصى له بها فقط؛ لأنه لا وصية إلا بعد الدين، وقاله أصبغ كله حسن، وهو بمنزلة ما لو أعتق العبد كله، وهو يخرج وصيته من ثلثه، ثم طرأ دين وقع عليه الدين بالحصص، فيرد عليه منه بقدر ما أصابه حتى يحيط بذلك كله أو لا يحيط، ولم يكن على الورثة غرم ذلك فيما أخذوا من مال عنه، فالمشتري بمنزلة الورثة، غير أن الوصية للعبد في ذاته ونفسه فهو المأخوذ والمردود حتى تفضل فضلة، فيكون كأنه لم يترك غيرها، ولا دين عليه، أو كأنه ترك دينا ومالا فوفى الدين وفضلت تلك الفضلة، فأنفذ للعبد في ثلثها ما حمله، فعلى هذا يعمل ويحمل في فض الدين عليه، وعلى ما ترك الميت وأخذ الورثة، يقع على ذلك بقدر ما وقع قال أصبغ: قال ابن القاسم: وقد ذكر عن مالك في هذه المسألة أنه يغرم المشتري ثلث ثمن العبد، وهو يضعف ذلك، ويراه وَهْمًا وخطأ، ولا يراه شيئا فيما رأيته وهو كذلك، والقول فيها القول الأول. يقول ذلك أصبغ.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه الرواية: إنه يباع

(13/246)


من العبد الذي بيع على العتق في الوصية، فأعتقه المشتري بقدر ما يقع عليه من الدين الطارئ على تركة الموصي، ولا يرجع بشيء من ذلك على المشتري فيما وضع عنه من ثمنه، هو على قياس القول بأنها وصية للعبد، فإن لم يوجد من يشتريه للعتق إلا بوضيعة أكثر من الثلث قيل للورثة: إما بعتموه بما وجدتم، وإما أعتقتم ثلثه.
وأما على قياس القول بأنها إنما هي وصية للمشتري، فإن لم يجد الورثة من يشتريه للعتق إلا بوضيعة أكثر من ثلث ثمنه، لم يلزمهم بيعه، ولا تنفذ الوصية له، وهو قول مالك في رسم الوصايا من سماع أشهب، فلا يباع من العبد شيء في الدين الطارئ، وإنما يكون الدرك في ذلك على المشتري، فيرجع عليه بثلث ثمن العبد الذي وضع له، ويمضي عتق العبد. وهو قول مالك في رواية ابن كنانة عنه على قياس رواية أشهب المذكورة، وقول مالك الذي ذكره عنه ابن القاسم في آخر المسألة أيضا، وقد مضى الكلام عليها في موضعها، إلا أن قول ابن القاسم في هذه الرواية على قياس القول بأنها وصية للعبد؛ أنه يباع من العبد قدر ثلث الدين إن كان العبد ثلث المال، وقدر ربع الدين إن كان العبد ربع المال، يريد ما لم يتجاوز ذلك ثلث رقبة للعبد على ما فسره أصبغ نظرا، والقياس ألا يباع منه في الدين الطارئ إلا قدر ما يقع من الدين على ثلث العبد؛ لأنه هو الذي أعتق من مال الميت، وأما الثلثان منه فإنما أعتقهما المشتري، وقد قال ذلك أصبغ فيما اعتمده من تفسير قول ابن القاسم، وهو قوله: والثلثان غير الميت أعتقهما، ومن غير ماله عتقا، ووجه العمل في ذلك أن ينظر ما يقع ثلث العبد من جميع مال الميت لا جميع العبد كما قاله ابن القاسم وأصبغ، فإن كان ثلث العبد من جميع مال الميت العشر أو التسع أو الثمن بيعت رقبة العبد بعشر الدين أو بتسعه أو بثمنه، وإن أتى البيع على جميعه.
وأما قول أصبغ في تفسير قول ابن القاسم: إنه إن كان العبد ربع جميع مال الميت أو خمسه؛ بيع

(13/247)


من رقبة العبد بربع الدين أو بخمسه ما بينه وبين ثلث رقبة العبد، فلا يستقيم، فانظر ذلك نظرا صحيحا، وتدبره بين ذلك صحة قولي في اعتراضي لقول ابن القاسم، وأصبغ لم يوجب على الوصي في ظاهر هذه الرواية ضمانا، وهو ظاهر ما في رسم الأقضية، من سماع يحيى، خلاف ما مضى في رسم الأقضية، من سماع أشهب، وقد مضى القول على ذلك هنالك مستوفى، وبالله التوفيق.

[مسألة: أوصى لرجل بعبد أو دابة غائبة عن الموضع]
مسألة وقال موسى بن معاوية: قال ابن القاسم: كل من أوصى لرجل بعبد أو دابة غائبة عن الموضع، فعلى الذي أوصى له أن يأتي به يكون الجعل عليه، وليس على الورثة من ذلك شيء، وإن كان عبد بموضع له بذلك الموضع رفعة في عمله، مثل العبد الزارع الحارث العامل في النخل، الذي إنما رفعته في عمله بموضعه، وإن جلب إلى الفسطاط وما أشبهها من المدائن، لم يكن له ارتفاع في القيمة لدناءة منظره، فإنه يقوم بذلك الموضع ولا يجلب، وكذلك العبد التاجر الأمين الذي قد عرف ببصر التجارة والأمانة، ولعله لا يكون له كبير منظر، فإنه يقوم على خبره وبصره وأمانته، ولا يحل لأهله كتمان ذلك منه، وفي سماع أشهب من كتاب الوصايا، عن ابن القاسم مثله.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذه المسألة في رسم الأقضية الثاني، ورسم الوصايا من سماع أشهب مستوفى، فاكتفينا بذلك عن إعادته هنا، وبالله التوفيق.

[مسألة: أوصى أن يشترى عبد من ثلثه فيعتق]
مسألة قال موسى: قال ابن القاسم في رجل أوصى أن يشترى عبد

(13/248)


من ثلثه فيعتق، وما بقي من ثلثه، فاشتروا به رقابا فأعتقوها، وأوصى بوصايا. قال: ينظر إلى الوصايا، وإلى الرقبة الأولى، فإن قصر الثلث عنهم تحاصوا في الثلث، فإن كان في الثلث فضل جعل في الرقاب التي أوصى بها، وذلك أن كل من أوصى بشيء بعينه لأحد، أو أمر به فسماه، وقال: ما بقي من ثلثي فاجعلوه في كذا وكذا، أو أوصى بوصايا سماها قبل ما أوصى به أو بعده، إلا أنه قال: ما بقي من ثلثي ففي كذا وكذا بعد التسمية، فإن التسمية والوصايا تبدأ قبل الذي جعل فيه ما بقي من ثلثه، وإن كانت الوصايا بعدما أوصى أو قبله، فهو سواء، وهذا قول مالك، فمسألتك الأولى على هذا.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه ينظر إلى الوصايا وإلى الرقبة الأولى، فإن قصر الثلث عنهم، تحاصوا فيه، هو مثل ما في المدونة من أن الرقبة بغير عينها لا تبدأ على الوصايا، وقد اختلف في ذلك وفي الوصية بالحج، فقيل: إنها كلها سواء في التحاص، وقيل: تبدأ الرقبة على الحج، ويتحاص المال مع الحج ومع الرقبة، والوجه في ذلك أن الرقبة آكد، ثم المال، ثم الحج، فتتحاص الرقبة مع المال، لقرب ما بينهما، والمال مع الحج أيضا لقرب ما بينهما، وتبدأ الرقبة على الحج، لبعد ما بينهما.
وقيل: تبدأ الرقبة على المال والحج، وقيل: يبدأ الحج، على الرقبة والمال. وأما قوله: إذا أوصى بوصايا، وقال ما بقي من ثلثي، فاجعلوه في كذا وكذا، ثم أوصى بعد ذلك بوصايا، فإن الوصايا تبدأ قبل الذي جعل فيه ما بقي من ثلثه، وإن كانت الوصايا بعدما أوصى أو قبله، فهو سواء، فهو مثل ما تقدم في رسم الصلاة، من سماع يحيى، وفي رسم أسلم، من سماع عيسى، وذلك على ما بينه محمد بن المواز، حسبما بيناه واستوفينا القول فيه في رسم أسلم، من سماع عيسى المذكور، وبالله التوفيق.

(13/249)


[مسألة: أوصى فقال بيعوا عبدي بعشرين]
من سماع محمد بن خالد من ابن القاسم قال محمد بن خالد: سئل ابن القاسم عن رجل أوصى فقال: بيعوا عبدي بعشرين، وأعطوا فلانا منها خمسة عشر دينارا، فلم يبع العبد إلا بأقل من عشرين دينارا، قال ابن القاسم: يعطى الموصى له بالخمسة عشر ثلاثة أرباع ما بيع به العبد، إذا كان قد نقص ثمنه من عشرين دينارا. وقد قال في غير هذا الكتاب من سماع عيسى: إنما له ما زاد على خمسة دنانير، وإن نقص من خمسة فلا شيء له، وأشهب يقول: له مما بيع بخمسة عشر على كل حال، وإن بيع بأقل من خمسة عشر دينارا، فجميع ذلك له.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذه المسألة مستوفى، في رسم جاع، فباع امرأته، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته، والله أعلم.

[مسألة: توصي لزوجها فلما علم الزوج أن الوصية لا تثبت له طلقها البتة]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عن امرأة توصي لزوجها بوصية، فلما علم الزوج أن الوصية لا تثبت له، طلقها البتة، فقال ابن القاسم: إن كانت علمت بطلاقه، فلم تغير وصيتها، فهي له ثابتة، وإن كانت لم تعلم، فلا وصية له.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذه المسألة مستوفى في سماع سحنون، فلا معنى لإعادته.

[مسألة: ما يضمن فيه الوصي]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عن رجل كتب وصيته، ثم خرج

(13/250)


مسافرا، فحضرته الوفاة في سفره، فكتب وصية أخرى، وكنى عن التي ترك لم يذكرها بشيء، وأوصى في سفره إلى رجل، فذهب الوصي فنفذ وصيته في سفره ذلك من ماله الذي ترك، فقال ابن القاسم: أراه متعديا، وأرى ضامنا لما أعطاه.
قال محمد بن خالد: وقال ابن نافع مثله.
قال محمد بن رشد: إيجاب الضمان على الوصي في هذه المسألة بين؛ إذ قد تبين عداؤه بتعجيل تنفيذ وصيته في سفره من المال الذي تركه فيه، دون أن يتثبت ويتربص حتى يرجع إلى بلده، فينظر هل له وصية أخرى؟ وإنما يضمن إن كانت الوصية التي كتبها في بلده عند سفره أولى من هذه وأحق بالتبدئة، ولا يحملها ثلثه جميعا.
وقد مضى في رسم الأقضية، من سماع أشهب تحصيل القول فيما يضمن فيه الوصي مما لا يضمن، فأغنى ذلك عن إعادته هنا، وبالله التوفيق.

[مسألة: أوصى فقال ما بقي من ثلثي فهو لفلان]
مسألة قلت لأشهب: فرجل أوصى فقال: ما بقي من ثلثي فهو لفلان، ولم يوص بأكثر من ذلك حتى مات، فقال: يعطى الذي أوصى له ببقية الثلث ثلث الميت.
قال محمد بن رشد: وقع في بعض الروايات: يعطى الذي أوصى له بقية الثلث ثلث الثلث، وهو غلط وتصحيف، والله أعلم. وقد حمل ذلك ابن حارث على أنه اختلاف من قول أشهب، مرة قال: له جميع الثلث، ومرة قال: له ثلث الثلث. والمسألة متكررة من قول مالك في مواضع من سماع عيسى، وقد مضى الكلام عليها في رسم أوصى منه، وبالله التوفيق.

(13/251)


[: إقرار المريض في مرضه بدين لوارث]
من سماع عبد الملك بن الحسن من ابن القاسم وابن وهب وأشهب
قال عبد الملك بن الحسن، سئل ابن القاسم عن رجل حضر خروجه إلى حج أو غزو أو سفر من الأسفار، فيكتب وصيته، ويشهد عليها، ويشهد لامرأته، أو لبعض ولده أن لهم عليه من الدين كذا وكذا. ويضع ذلك في وصيته، أو لا يضع ذلك في الوصية، غير أنه يشهد أن عليه من الدين لورثته كذا وكذا، ويتصدق حينئذ بصدقة بَاتَّةٍ على ابن له صغير لم يبلغ الحوز، فيموت في سفره ذلك، هل يجوز للوارث ما أقر له به، وما تصدق على الصغير؟ قال ابن القاسم: ما صنع من ذلك فهو جائز، إذا أشهد عليه، وهو صحيح، ولا يشبه هذا المرض؛ لأنه صحيح، وهو أحق بماله من ورثته، ولا يتهم على شيء من ماله إذا أشهد عليه، وليس في السفر تهمة.
قال محمد بن رشد: هذا من قول ابن القاسم، خلاف قوله وروايته عن مالك في رسم نذر سنة، من سماع ابن القاسم؛ لأنهما حكما فيه للخارج إلى سفر بحكم المريض، لا يجوز له أن يفعل ما يفعل الصحيح، فعلى قولهما لا يجوز إقراره بالدين لبعض ورثته عند الخروج إلى غزو أو سفر إن مات في غزوه أو في سفره، كما لا يجوز إقرار المريض في مرضه بدين لوارث إن مات من مرضه ذلك، وقد مضى هناك من القول على ذلك ما فيه زيادة بيان، وبالله التوفيق.

[مسألة: يكون عنده اللقيط فيتصدق هو نفسه عليه بصدقة]
مسألة وسألت ابن وهب عن الرجل يكون عنده اللقيط، فيتصدق هو

(13/252)


نفسه عليه بصدقة، أيحوز له كما يحوز لابنه الصغير؟ فقال لي: نعم يحوز له كما يحوز لابنه الصغير، وكذلك كل من ولي يتيما، أجنبيا كان أو قريبا، وهو قول المدنيين كلهم إلا ابن القاسم، فإنه لم يكن يرى ذلك إلا للوصي، قال سحنون مثل قول ابن وهب، قال سحنون: وروى ابن غانم عن مالك أن كل من ولي يتيما أجنبيا كان أو قريبا من غير خلافة ولا وصية إلا لقرابة أو لحسنة، فهو تجوز مقاسمته وحيازته صدقته التي تصدق بها عليه هذا وغيره. قال سحنون: وهي عندي رواية ضعيفة. قال سحنون: وفي رواية ابن القاسم عن مالك، وكذلك كل من ولي يتيما أجنبيا كان أو قريبا.
قال محمد بن رشد: رواية ابن القاسم هذه التي حكاها سحنون، ليست في كل الروايات، ويمكن أن تتأول على المعلوم من مذهبه، بأن يقال: معنى ذلك، بخلافة من أب أو سلطان. وقول ابن وهب في هذه الرواية: إن الرجل يحوز للقيط يكون في حجره ما يتصدق به عليه، هو مثل رواية ابن غانم عن مالك، ونحو ما في المدونة من الرجل تجوز مقاسمته على من التقطه، خلاف قوله في رسم الأقضية، من سماع يحيى، من كتاب الصدقات والهبات؛ لأنه لا تجوز الحيازة في ذلك إلا للأب والأم، والأجداد والجدات، ولا يجوز ذلك لسائر القرابات. فقول ابن القاسم: إن الحيازة في ذلك لا تجوز إلا للأب والوصي، قول ثالث في المسألة.
وقد مضى الكلام على هذا في رسم إن خرجت، من سماع عيسى، من كتاب الحبس، وفي رسم الأقضية، من سماع يحيى، من كتاب الصدقات والهبات، وبالله التوفيق.

[مسألة: أوصى لرجل بشيء بعينه ثم أوصى بذلك الشيء لغيره]
مسألة وسألت أشهب عمن عوتب في القرابة فقيل له: ألا تصلهم؟

(13/253)


ألا ترفق بهم؟ قال: فأشهدكم أني إذا مت فثلثي لها، ثم إنه مرض، فأوصى بثلثه، فقال: لا أرى لأقاربه شيئا.
قال محمد بن رشد: قول أشهب هذا خلاف مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها، فيمن أوصى لرجل بشيء بعينه، ثم أوصى بذلك الشيء لغيره، وروايته عن مالك في المدونة وغيرها، فيمن أوصى لرجل بشيء بعينه، ثم أوصى بذلك الشيء لغيره؛ أنهما يشتركان فيه، ولا تكون وصيته الثانية نقضا لوصيته الأولى، وكذلك على مذهبه إذا أوصى لرجل بثلثه، ثم أوصى به لغيره، يشتركان فيه، ولا تكون وصيته الآخرة نقضا لوصيته الأولى، وذلك على ما قال مالك: إذا أوصى لرجل بثلث ماله، ثم أوصى الآخر بجميع ماله؛ أنهما يشتركان في الثلث على أربعة أجزاء، ولا تكون وصيته للآخر بجميع ماله نقضا لوصيته الأولى بثلث ماله.
وقد روى علي بن زياد عن مالك في الرجل يوصي بعبده لرجل، ثم يوصي به لآخر؛ أنه يكون للآخر، فعلى هذه الرواية يأتي قول أشهب، ولا فرق على مذهب ابن القاسم بين أن يوصي بثلثه لرجل، ثم يوصي به لآخر، وبين أن يوصي بعبده لرجل، ثم يوصي به لآخر، إلا في التحاص إذا كان ثم وصايا سوى ذلك، فإن الذي أوصى لهما بالعبد يضربان جميعا به، واللذين أوصى لكل واحد منهما بالثلث يضرب كل واحد منهما بما أوصى له به من الثلث كاملا، وبالله التوفيق.

[مسألة: الموصى يجد في تركة الميت شطرنجا]
مسألة وسألت ابن وهب عن الموصى يجد في تركة الميت شطرنجا، هل ترى له أن يبيعها؟ قال: لا يبيعها. قلت: فما يصنع بها؟ قال: ينحت وجوهها، ويبيعها حطبا، قلت: بأمر السلطان أم ترى أن لا يفعل بغير أمر السلطان؟ قال: إن كان السلطان ممن قد سمع العلم

(13/254)


والأحاديث، فأرى أن يفعل ذلك بغير أمره، وإن كان ممن لم يسمع العلم والأحاديث، ولا يعرفه، وكان خائفا من ناحيته بجهالته بما جاء فيها، فلا أرى له أن يفعل ذلك بأمره.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه ينبغي للموصى أن يكسر الشطرنج إذا وجده في تركة الميت، ويبيعه حطبا، ولا يبيعه كما هو، بمنزلة النرد، وهو يشبه في صفته على ما روى أنه قطع معاونة يصنع من العاج والبقس، ويسمى بالطبل وبالكعاب وبالنردشير. ذكر مالك في موطئه عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «من لعب بالنرد، فقد عصى الله ورسوله.» وعن عائشة أنه بلغها أن أهل بيت في دارها كانوا سكانا فيها، عندهم نرد، فأرسلت إليهم لئن لم تخرجوها لأخرجنكم من داري، وأنكرت ذلك عليهم، وعن عبد الله بن عمر أنه كان إذا وجد أحدا من أهله يلعب بالنرد ضربه وكسرها، وروي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «من لعب بالنردشير، فكأنما غمس يده في لحم خنزير.» والشطرنج بمنزلته، قال مالك: لا خير فيه، وكره اللعب بها وبغيرها من الباطل، وتلا قول الله عز وجل: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ} [يونس: 32] ، وقال الليث بن سعد فيه: إنه شر من النرد، ولا اختلاف بين مالك وجميع أصحابه، في أن من أدمن اللعب بها، كان ذلك جرحة فيه، تسقط أمانته وشهادته. وقد قيل: إن الإدمان أن يلعب بها في العام أكثر من مرة، وهذا إذا لعب بها على غير وجه القمار، وأما اللعب بها على القمار

(13/255)


والخطر، فلا اختلاف بين أحد من أهل العلم في تحريم ذلك؛ لأنه من الميسر المحرم بنص القرآن، ولعيسى بن دينار في كتاب الجرار أنه سئل عن الرجل يهلك، فيوجد في تركته شطرنج ونرد وعظام يلعب بها؛ هل ترى الإمام أن يأمر بكسرها؟ قال: لا أرى ذلك عليه، وأرى له أن يدعها، قيل: فإن كان عليه دين هل يبيعها في دينه؟ قال: لا، ولم ير ذلك في العود والمزمار، ورأى أن يكسر على كل حال، وإنما قال ذلك عيسى بن دينار لما روى من ترخيص من رخص في اللعب بالشطرنج على غير قمار من العلماء، والصواب كراهة اللعب بها وكسرها، والأدب على اللعب بها قياسا على ما فعله عبد الله بن عمر في النرد.
وقد مضى في رسم صلى نهارا ثلاث ركعات القول في الخمر يجدها الوصي في تركة الميت، وبالله التوفيق.

[: يشتد عليه العاصف في البحر فيريد أن يتصدق بماله]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الرجل يشتد عليه العاصف في البحر، فيريد أن يتصدق بماله، قال: إذا اشتد عليه العاصف، وخاف الغرق، لم يجز له القضاء في ماله، إلا في الثلث.
وسئل عن الذي تجمح دابته، أيجوز له القضاء في ماله؟ قال: لا يجوز له القضاء في ماله إلا في الثلث، والذي يقدم للقتل صبرا مثله.
قال محمد بن رشد: في الذي يشتد عليه العاصف في البحر: إنه لا يجوز له القضاء في ماله، إلا في الثلث خلاف قول مالك في المدونة مثل ما حكى سحنون عنه من أنه أمر راكب البحر في الثلث، وقد قيل على ظاهر هذه الرواية التي حكى سحنون: إن أمر راكب البحر في الثلث على كل حال، وإن لم يكن فيه هول؛ إذ لا يؤمن تقلبه.

(13/256)


فيتحصل على هذا في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها إجازة فعل راكب البحر على كل حال، وهو قول مالك في رواية ابن القاسم عنه في المدونة، والثاني إن فعله لا يجوز على كل حال، وهو ظاهر ما حكى سحنون عن مالك في المدونة والثالث الفرق بين حال الهول فيه وحال غير الهول، وهو دليل قول ابن القاسم في هذه الرواية، وهو أظهر الأقوال وأولاها بالصواب؛ لأن راكب البحر في حال الهول أخوف على نفسه من المريض، والذي تجمح به دابته بمنزلته سواء يدخله ما يدخل راكب البحر في حال الهول من الاختلاف ولا اختلاف في الذي يحبس للقتل صبرا إن فعله لا يجوز إلا في الثلث، وكذلك الأسير في أول أمره، قبل أن يستحكم أسره على ما حكاه ابن حبيب في الواضحة لأن قوله يحمل على التفسير لما في سماع أبي زيد من كتاب الجهاد. وبالله التوفيق.

[مسألة: يقول في مرضه اجعلوا غلامي فلانا بيني وبين النارفيمسك لسانه]
مسألة وسئل عن الذي يقول في مرضه لورثته: اجعلوا غلامي فلانا بيني وبين النار، فيمسك لسانه. قال: أراه عتيقا.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قاله؛ لأنه إنما أراد أن يعتقه الله من النار بعتقه إياه، على ما جاء من أنه من أعتق عبده أعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار. وبالله التوفيق. لا شريك له وهو حسبي ونعم الوكيل.
تم الرابع من الوصايا والحمد لله.

(13/257)