البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة

 [: كتاب الصدقات والهبات الأول] [وهب لرجل لثواب فأفلس]
من سماع ابن القاسم من كتاب الرطب باليابس قال سحنون: أخبرني ابن القاسم عن مالك أنه قال: من وهب لرجل لثواب، فأفلس فهو على هبته، بمنزلة من باع سلعته، إلا أنها تقوم يوم وهبها. قال سحنون: يريد بذلك: إذا أراد الغرماء حبسها ودفع القيمة إليه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه إذا أفلس الموهوب له الهبة للثواب قبل دفع الثواب، فرب الهبة أحق بها من الغرماء؛ لأن الهبة للثواب بيع من البيوع، إلا أن يشاء الغرماء أن يدفعوا إليه قيمتها. قال في هذه الرواية: يوم وهبها، ومثله في رسم العتق من سماع عيسى، وفي رسم البيوع من سماع أصبغ، وفي آثار المدونة وفي الموطأ يوم قبضها، ومثله في الشفعة من المدونة. وهذا الاختلاف مبني على الاختلاف في ضمان السلعة المحتسبة بالثمن. وقد اختلف في ذلك قول مالك فعلى القول بأن ضمانها من البائع تكون القيمة في السلعة الموهوبة يوم القبض، وعلى القول بأن ضمانها من المبتاع تكون القيمة فيها يوم الهبة، وهو اختيار ابن القاسم. واختار ابن المواز أن تكون القيمة فيها يوم القبض، إلا أنه اعتل في ذلك بعلة غير صحيحة، فقال: لأنه بالخيار في ردها قبل أن يقبضها وهو بالخيار أيضا في ردها بعد قبضها ما لم تفت، فيلزم على تعليله أن تكون القيمة فيها يوم

(13/355)


الفوت، وهذا ما لم يقولوه، ولا يوجد لهم. وهذا على القول بأن من حق الواهب للثواب أن يمسك هبته حتى يقبض عوضه كالبيع، وهو نص ما في كتاب الهبة من المدونة. وأما على القول بأنه ليس له أن يمسكها، ويلزمه دفعها بخلاف البيع؛ لأنها مكارمة فضمانها بعقد الهبة من الموهوب له على كل حال، ولا يدخل فيها من الاختلاف ما يدخل في المحبوسة بالثمن، وتلزمه القيمة إن فاتت يوم الهبة لا يوم القبض باتفاق.

[مسألة: أفلس رجل وقد رهن سلعة اشتراها بدين]
مسألة قال مالك: وإن أفلس رجل، وقد رهن سلعة اشتراها بدين، فإن صاحبها مخير بين أن يقرها في يد المرتهن، ويحاص بثمنها الغرماء فذلك له، وإن أحب أن يفتدي سلعته من يد المرتهن، ويحاص الغرماء بما فداها به فعل، والمرتهن أولى بما في يديه من الرهن حتى يستوفي حقه، وما فضل فهو للغرماء.
قال الإمام القاضي: زاد في رسم الأقضية الأول من سماع أشهب من كتاب المديان والتفليس في هذه المسألة إنه إن افتداها من المرتهن كان الغرماء بالخيار، إن شاءوا دفعوا إليه، وإن شاؤوا أعطوه ثمنها، فإن أعطوه ثمنها وتركها حاص في جميع ذلك بما افتداها به، ولا يحاص بثمنها إلا في إسلامها للمرتهن وتركها، وهي زيادة بينة؛ لأن بائع السلعة إذا أعطي ثمن سلعته فلا حجة له عليه، وكذلك لا حجة لهم عليه في محاصته إياهم بما أهابه؛ لأنه لو لم يفتدها لكان المرتهن أحق بها، ولزمهم معهم أن يفتدوها منه بما ارتهنها به من مال الغريم، فإذا افتداها هو منه على أن يحاصهم بما افتداها به فقد نفعهم. المسألة كلها بينة صحيحة. وقد قيل: إنه لا يضرب بما افتك به الرهن، كافتكاك رقبة العبد الجاني إذا كان قد باعه وجنى، وفلس المشتري قبل أن يفتكه، وهو بعيد. والفرق بينهما أن العبد الجاني لا

(13/356)


يلزم سيده أن يفتكه بجنايته، وله أن يسلمه بها، والرهن يلزم الراهن أن يفتديه بما رهنه، وليس له أن يسلمه بذلك وبالله التوفيق.

[مسألة: تصدق على ولده فاقتسمه الذكور دون الإناث ثم طالب النساء بحقهن]
مسألة وقال مالك في صدقة تصدق بها على رجل من نخل أو غلة على ولده فرأى أن النساء ليس لهن فيها حق، فاقتسموها بين الذكور زمانا، ثم بلغ النساء: أن لهن فيها حقا، فطلبن ذلك، قال: يأخذن فيما يستقبلن ولا يكون لهن فيما مضى من الغلة شيء، قال ابن القاسم: وذلك رأيي. ونزلت فرأيت ذلك، وإنما هو بمنزلة ما قال لي مالك في الدار يرثها الولد فيسكنون فيها الزمان، ثم يأتي أولاد له آخرون لم يكونوا علموا بهم أنهم لا شيء عليهم فيما سكنوا. قال سحنون: أخبرني علي بن زياد عن مالك أن الغيب يرجعون على الحضور بكراء حصتهم مما سكنوا، علموا أن ثم وارث غيرهم أو لم يعلموا. أو محمل الغلة عندي محمل السكنى.
قال محمد بن رشد: قول مالك في هذه المسألة: إن النساء يأخذن فيما يستقبلن، ولا يكون لهن فيما مضى من الغلة شيء، معناه: في الصدقة المحبسة، لا في الصدقة المبتولة على ولده بأعيانهم: ذكورهم وإناثهم، وتابع ابن القاسم مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ما قاله في غلة الحبس، قياسا على ما قاله في السكنى في غير الحبس. والغلة في غير الحبس مخالفة عنده وعند مالك للسكنى يجب لمن جهله حقه فيها مدة، فلم يأخذه أن يأخذه فيما مضى وفيما يستقبل، وذلك منصوص عليه لابن القاسم في المبسوطة وخالفت رواية علي بن زياد عن مالك لرواية ابن القاسم في السكنى في غير الحبس، فراءه في رواية علي بن زياد عن مالك كالغلة في غير الحبس ورأى في رواية ابن القاسم عنه بخلاف ذلك، كالغلة في الحبس فيتفق في الغلة في غير

(13/357)


الحبس، على أنه يأخذ حقه فيما مضى وفيما يستقبل، ويتفق أيضا في السكنى في الحبس، على أنه لا شيء له فيما مضى، بل لا يأخذ فيما يستقبل إلا ما فضل عن الساكن؛ لأن حكم السكنى في الحبس لا يخرج فيه أحد لأحد، ويختلف في الغلة في الحبس، وفي السكنى في غير الحبس على قولين: أحدهما لا شيء لهم في شيء من ذلك إلا فيما يستقبل، وهو قول ابن القاسم، وروايته عن مالك، والثاني إنهن يأخذن حقهن فيما مضى وفيما يستقبل، وهو الذي يأتي على رواية علي بن زياد، عن مالك في غلة الحبس، ونص قوله في السكنى في غير الحبس. والفرق على مذهب ابن القاسم، وروايته عن مالك، بين الحبس وغير الحبس في الغلة، هو أن الحبس إنما يقسم على الحبس عليهم بالاجتهاد ويفضل فيه فقيرهم على غنيهم، ومن مات منهم قبل طيب الثمرة، أو قبل القسم، وإن كان ذلك بعد طيب الثمرة على الاختلاف في ذلك سقط حقه، ورجع على بقيتهم، إذ ليس حقه فيه ثابتا، بخلاف الملك الذي يعرف حق كل واحد من الأشراك فيه، ويورث عنه طاب أو لم يطب، أبر أو لم يوبر. والفرق على مذهبه بين السكنى والغلة هو ما قاله في المدونة من أنه إنما سكن ولم يعلم بأخيه، ولو علم لكان في نصيبه ما يكفيه، فلم ينتفع بحظ أخيه بشيء أخذه، والغلة بخلاف ذلك. وبالله التوفيق.

[مسألة: الأب يجوز لابنه الصغير ما تصدق به عليه]
مسألة وقال مالك: ومن تصدق على ولده وهو صغير، بدين كان له على أحد، ثم اقتضاه الأب بعد ذلك، فهو بمنزلة العبد، يتصدق به عليه، ثم يبيعه فالثمن للابن، ولا يكون بمنزلة الذهب إذا تصدق بها وهي في يديه، فليست للابن إذا لم يجعلها على يدي غيره.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الأب يجوز لابنه الصغير

(13/358)


ما تصدق به عليه أو وهبه من الأصول والعروض التي تعرف بأعيانها باتفاق. والأصل في ذلك قول عثمان بن عفان من نحل ولدا له صغيرا لم يبلغ أن يجوز نحله، فأعلن ذلك وأشهد عليها فهي جائزة، وإن وليها أبوه. وأما الذهب والورق، وما لا يعرف بعينه إذا غيب عليه من المكيل كله والموزون كان مما يوكل أو مما لا يوكل، كالحديد والرصاص والكتان، فقيل: إنه لا يجوز الأب لابنه الصغير وإن عن له وطبع عليه بحضرة الشهود ولا تكون حيازته له، إلا أن يضعه له بيد غيره، وهو قوله في هذه الرواية وفي رسم طلق ورسم اغتسل بعد هذا من هذا السماع وروى مطرف عن مالك: أنه إذا صرها بحضرة الشهود، وختم عليها بخاتمه، ثم رفعها عن نفسه، فوجدت كذلك بعد موته، إنها جائزة ماضية لابنه، وإن لم يختم عليها الشهود، ولو ختموا عليها كان أحرى وأحسن. وهو قول ابن الماجشون، وابن نافع، والمدنيين، ومثله في الموطأ لمالك، وهو قوله فيه: إنه من نحل ابنا له صغيرا ذهبا أو ورقا ثم هلك وهو يليه إنه لا شيء للابن من ذلك، إلا أن يكون عزلها بعينها أو دفعها إلى رجل وضعها لابنه عنده، واللؤلؤ والزبرجد، بمنزلة الذهب والفضة في ذلك، إذ لا يعرف بعينه إذا غيب عليه، والدين حكمه حكم العرض، فإذا وهب لابنه الصغير دينا له على رجل، ثم اقتضاه منه بعد ذلك فهو كما قال بمنزلة العرض، يتصدق به عليه ثم يبيعه بعد ذلك، إن الثمن يكون للابن في ماله في حياته وبعد وفاته، وجده أو لم يجده؛ لأن تنصيص العرض المتصدق به بالبيع كقبض الدين، وسواء باع العرض لابنه باسمه، أو جهل ذلك فلم يعلم أن كان باع لنفسه أو لابنه. وأما إن باع ذلك لنفسه نصا على سبيل الرجوع فيها والبيع لها فالبيع مردود، والصدقة جائزة. ويتبع المشتري الأب بالثمن في حياته وبعد وفاته وجده أو لم يجده؛ لأن الصدقة قد كانت حيزت للابن، ولو كانت الصدقة دارا يسكنها الأب فباع قبل أن يرحل عنها بنفسه استرجاعا لصدقته، واستخلاصا لفسخ البيع إن عثر عليه في حياته، ومضت الصدقة للابن، وإن لم يعثر على ذلك

(13/359)


حتى مات الأب بطلت الصدقة، فلم يكن للابن فيها حق ولا في الثمن وصح البيع للمشتري. وبالله التوفيق.

[مسألة: أوصى لبني فلان مثل بني زهرة ومن يعرف ومن لا يعرف]
مسألة قال مالك: من قال: كذا وكذا من مالي صدقة على بني فلان مثل بني زهرة، ومنهم الغائب والحاضر، ومن يعرف ومن لا يعرف. قال: يقسم بين من كان منهم معروفا من حاضر أو غائب، فإن جاء أحد بعد ذك لم يكن عرف مكانه ردا عليه الآخرون قدر حصته.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن بني الرجل الذين أوصى بصدقة المال عليهم، يحاط بهم لغلتهم، فهم الذين يقسم عليهم المال بالسواء، حاضرهم وغائبهم، على هذه الرواية، وأحد قولي ابن القاسم في المدونة في الذي يوصي لإخوانه وأولادهم فإن جاء بعد ذلك أحد منهم لم يعرف رد عليه الآخرون قدر حصته كما قال، ومن مات منهم على هذه الرواية بعد موت الموصي، كان حقه لورثته، ومن ولد منهم بعد موته لم يكن فيها حق. وقد قيل: إن الوصية تقسم عليهم بالاجتهاد لا على السواء، فيكون لمن أدرك القسم منهم الأحق فيها لمن مات قبل ذلك أو جهل فلم يعرف، وهو أحد قولي ابن القاسم في المدونة ورواية ابن وهب فيها. وأما إذا كان بنو فلان الذين أوصى لها لا يحاط بهم لكثرتهم مثل بني زهرة، وبني تميم فلا اختلاف في أنهم كالمساكين، يقسم ذلك بالاجتهاد على من أدرك القسم منهم، ولا شيء لمن غاب منهم إن أتى بعد ذلك، ففي قوله في هذه الرواية: مثل بني زهرة نظر؛ لأن بني زهرة لا يحاط بهم لكثرة عددهم، فينبغي أن يتأول على ما يصح، فيقال: إنه لم يرد مثل بني زهرة بن كلاب بزمرة الذي ينتسب الزهريون إليه؛ لأن عددهم كثير لا يحاط بهم،

(13/360)


وإنما أراد مثل أن يقول بني فلانة لامرأة تسمى زهرة. وأما إذا أوصى لبني فلان، وسماهم بأسمائهم فلا اختلاف أنه يقسم عليهم بالسواء، حاضرهم وغائبهم. وإن غاب أحد منهم فينسى، ثم جاء رجع على كل واحد منهم حتى يستوفي حقه، فالوجهان متفق عليهما. والوجه الثالث مختلف فيه كما ذكرت لك. وبالله التوفيق.

[: وهب هبة للثواب فمات الموهوب له وبقي الواهب]
ومن كتاب أوله
حلف ألا يبع رجلا سلعة سماها قال مالك: ومن وهب هبة للثواب، فمات الموهوب له، وبقي الواهب يطلب حقه فذلك له ما لم يطل ذلك حتى يرى أنه قد تركه، وإن هلك الواهب فورثته على حقه، ما لم يطل ذلك حتى يرى أنه قد تركه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الهبة للثواب بيع من البيوع، فوجب أن يحل ورثة كل واحد من الواهب والموهوب له محله، ولا تبطل الهبة بموت الواهب، ولا حقه في الثواب؛ لأن ورثته يحلون محله في ذلك ما لم يطل، حتى يتبين أنهم قد تركوا الثواب، وكذلك أيضا إن مات الموهوب له وبقي الواهب، فهو على حقه في العوض قبل الورثة ما لم يطل ذلك أيضا حتى يرى أنه قد رضي بترك حقه في الثواب؛ لأنها هبة طريقها المكارمة لا المكايسة. وبالله التوفيق.

[مسألة: الأب يحوز لبنيه الصغار ما وهبه لهم]
مسألة وسئل عن رجل حلى صبيا له حليا فمات أبوه، فقال الورثة: نحن نأخذ هذا الحلي فنقتسمه ميراثا، قال مالك: لا أرى ذلك، وأراه للصبي دونهم ومثله الصبايا.

(13/361)


قال محمد بن رشد: وهذا كما قال لأن الأب يحوز لبنيه الصغار ما وهبه لهم، وما حلاهم إياه من الحلي فقد وهبه لهم؛ لأنه بمنزلة ما كساهم من الثياب؛ لأنه مما يلبس كما يلبس الثياب. قال تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 18] فهو محمول على الهبة، إلا أن يشهد الأب أنه لم يحلهم إياه إلا على سبيل الإمتاع. وبالله التوفيق.

[مسألة: يتصدق على ابنه الصغير بالعبد ويشهد له عليه]
مسألة وسئل عن الرجل يتصدق على ابنه الصغير بالعبد، ويكتب له بذلك كتابا، ويشهد له عليه، فيقيم العبد على ذلك ما شاء الله السنتين أو أكثر، ثم يتبع نفس السيد العبد فيشتريه من ابنه بثمن، ويشهد له على ذلك، ويقول: قد ابتعته بكذا وكذا فهي له عندي، ثم يموت الأب ويطلب ذلك الغلام الثمن، أتراه له على أبيه؟ فقال لي: ما أحرى مثل هذا إذا صح أن يجوز ذلك. وقال عيسى: قال لي ابن القاسم: وأنا أرى ذلك جائزا فقال سحنون مثله.
قال محمد بن رشد: أجاز في هذه الرواية إذا تبعت نفسه العبد الذي تصدق به على ابنه أن يشتريه منه كما قال في المدونة في الجارية، وهو في الجارية أعذر منه في العبد، إذ قد تعلق نفسه بها، فيتأذى بفراقها، فلو تصدق بالجارية على أجنبي ثم تبعتها نفسه، وتعلقت بها لما بعد أن يجوز شراؤه لها، والعبد بخلاف ذلك. فدلت هذه الرواية على أنه يجوز له أن يشتري ما تصدق به على ابنه، بخلاف الأجنبي، للشبهة التي له في مال ابنه. يقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أنت ومالك لأبيك» ألا ترى أنه قد جاز في

(13/362)


رسم نذر سنة بعد هذا إذا تصدق على ابنه بالغنم أن يكتسي من صوفها ويأكل من لحومها، ويشرب من ألبانها، ومثله لمالك أيضا في رسم شهد من سماع عيسى. قال في رسم نذر سنة: وإذا تصدق عليه في مال ابنه بالحائط فله أن يأكل من ثمره إذا أطعم. وقال في كتاب ابن المواز: إذا رضي ابنه بذلك، وكان كبيرا ممن يصح منه الرضا. قال ابن القاسم: ولم أره يراه مثل الأجنبي، يريد أنه لا يجوز في الأجنبي أن يشتري منه شيئا مما تصدق به عليه، ولا أن يأكل من غلته بغير شراء لنهي النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - المتصدق أن يعود في صدقته وأن يشتريها. وقال في الفرس: لا تشتره وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه. واختلف هل يجوز أن يشتري من المتصدق عليه غلة ما تصدق به عليه؟ فقيل: إن ذلك جائز، قياسا على العرايا التي أجيز المعرى أن يشتري ما أعرى بخرصه إلى الجداد. وكره أشهب ذلك، وهو الصواب؛ لأن العرايا هي نفس ما أعرى فإنما جاز شراؤها للمعري للسنة القائمة فيها، ولأنها هبة ليست بصدقة، فلا يصح قياس شراء غلة الصدقة، على شراء ثمر العرية، ويجوز شراء غلة الصدقة من غير الذي تصدق به عليه دون خلاف أذكره في ذلك. واختلف هل يجوز شراء أصل الصدقة من غير الذي تصدق عليه ففي المدونة إن ذلك لا يجوز، وروى ابن وهب عن مالك أنه لا بأس بذلك، وأما قوله في ثمن العبد الذي تصدق به على ابنه ثم اشتراه منه فمات ما

(13/363)


أحراه أن يجوز إذا صح، فصحة ذلك تبين بأن يتصدق بالعبد عليه، ثم يشتريه منه بعد مدة، فيعلم أنه شراء صحيح بعد صدقة متقدمة؛ لأنه إن تصدق عليه بالعبد ثم اشتراه منه في فوره ذلك اتهم على أنه لم يتصدق عليه بالعبد، وإنما أراد أن يكتب له على نفسه دينا يأخذه بعد موته، فتحيل لجواز ذلك بإظهار الصدقة، ويحتاج أيضا إلى معرفة السدس للابن، كي لا يشتريه منه بأقل من قيمته؛ لأن الأمر فيما بينه وبينه، فهو فيه محمول على غير السداد، بخلاف ما بيع له ويشترى من غيره، وذلك بين من قول ابن القاسم في كتاب الجعل والإجارة من المدونة وفي رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب النكاح؛ لأنه شرط في شراء الأب لنفسه الرأس يساق إلى ابنته البكر في صداقها أن يكون الشراء صحيحا بينة وأمر معروف. وبالله التوفيق.

[: الرجل يعطى الشيء يوصل به يستحب له أخذه أم تركه]
ومن كتاب أوله شك في طوافه وسئل مالك عن الرجل يعطى الشيء يوصل به، يستحب له أخذه أم تركه؟ قال: بل تركه أفضل له إن كان عنه غنيا إلا أن يخشى الهلاك، ويكون محتاجا، فلا أرى بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن الأفضل له الأولى به أن لا يأخذه وأن يتركه إذا لم يكن إليه محتاجا لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن خيرا لأحدكم أن لا يأخذ من أحد شيئا، قيل: ولا منك يا رسول الله. قال: ولا مني» .

(13/364)


[: جعلت خلخالين لها في سبيل الله إن شفاها الله من مرض مرضته]
ومن كتاب البز وسئل مالك عن امرأة جعلت خلخالين لها في سبيل الله إن شفاها الله من مرض مرضته، فبرأت فأرادت أن تحبسهما فتخرج قيمتهما فتجعلها في سبيل الله، فكره ذلك، وقال: لا أحبه. قال سحنون: إنما يكره هذا من أجل الرجوع في الصدقة.
قال محمد بن رشد: لمالك في رسم القبلة من سماع ابن القاسم من كتاب النذور، فيمن قال لشيء من ماله، دابة أو عبدا أهديك، إنه مخير في ثمنه أو قيمته، فذهب بعض أهل النظر، إلى أن ذلك مخالف لهذه الرواية، ولما في المدونة من أنه إن أهدى عبده يخرج بثمنه هدايا؛ لأن الظاهر منه أنه لا يجوز له أن يمسكه، ويخرج قيمته من أجل الرجوع في الصدقة كما قال في هذه الرواية.
والذي أقول به: إنه لا اختلاف في شيء من ذلك، وإنما اختلف الجواب في ذلك لافتراق المعاني. فإذا أودى ما أهدى بعينه، أو جعل في السبيل ما ينتفع به فيه بعينه لم يجز أن يمسكه ويخرج قيمته، وإذا أهدى ما لا يهدى بعينه، وإنما سبيله أن يباع ويشترى بثمنه هدي، جاز أن يمسكه ويخرج قيمته، وإذا جعل في السبيل ما لا ينتفع بعينه فيه، وهو يمكنه أن يدفعه كما هو لمن يبيعه وينفقه في السبيل كره له أن يمسكه ويخرج قيمته من ناحية الرجوع في الصدقة، ولم ير ذلك حراما إذ ينتفع به الذي أعطيه في السبيل بعينه ولا بد له من بيعه.

[مسألة: يحمل الرجل على الفرس في سبيل الله فيستعيره منه فيركبه في حاجته]
مسألة وسئل عن الرجل يحمل الرجل على الفرس في سبيل الله، فيستعيره منه فيركبه في حاجته والشيء القريب، قال: لا أحب

(13/365)


ذلك. وقال مالك: قد وهب ابن عمر ناقة له لابن ابنه: ابن وافد فأخذها وركبها فصرع عنها وقال: ما كنت لأصنع مثل هذا.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف فيمن تصدق في شيء أنه لا يجوز له أن يأكل شيئا من غلته، حسبما مضى القول فيه في رسم حلف. وأرى هذا أحق لأن ركوبه في الشيء الخفيف، لا ينقص منفعته شيئا في الجهاد، بل قد يكون ركوبه أنفع له من وقوفه، ولذلك قال: لا أحب ذلك، ولم يحرمه، بخلاف غلة ما تصدق به لأن الغرض في التصدق بما له غلة، الغلة لا ما سواها، وكراهية ابن عمر لركوبه الناقة التي وهبها لابن ابنه ابن وافد تورع منه؛ لأن النهي إنما جاء في الصدقة لا في الهبة، إلا أن تكون الهبة لفقير على وجه صلة الرحم، فيكون بمعنى الصدقة وبالله التوفيق.

[: ليس من شأن الذي يفرق الصدقة أن يجري الصدقة على أحد]
ومن كتاب أوله
الشجرة تطعم بطنين في السنة وسئل عن الرجل يلي صدقة يقسمها، فهو يعلم أهل بيت يتامى صغارا ولا يعلم غيرهم ما يعلم منهم من الحاجة أفترى أن يجري عليهم من ذلك ما يكفيهم؟ قال مالك: ليس من شأن الذي يفرق الصدقة أن يجري الصدقة على أحد، وليس هذا من أعمال الناس، فرددت عليه فكأنه لم يعجبه ذلك.
قال محمد بن رشد: كره ذلك لمخالفة ما جرى عليه عمل الناس. والمعنى في كراهة ذلك بين، وهو أنه إنما جعل إليه القسمة والتنفيذ، فلا ينبغي له أن يمسك عند نفسه من ذلك شيئا يجريه على أهل بيت يعرف حاجتهم، فيكون متعديا يلزمه ضمان ذلك إن تلف عنده، وبالله التوفيق.

(13/366)


[مسألة: ولى ابنه حائطا اشتراه بثمن يسير وثمنه اليوم كثير أترى ذلك جائزا]
مسألة وسئل عن رجل ولى ابنه حائطا اشتراه منذ زمان بثمن يسير، وثمنه اليوم كثير وله ولد غيره، أترى ذلك جائزا؟ فقال: إن أجازه له فهو جائز.
ومن كتاب داود قال عيسى بن دينار: سئل ابن القاسم عن الرجل يبيع من ولده الصغير الأرض بعشرة دنانير وهي ثمن مائة دينار ولا تزال في يدي الأب حتى يموت، هل يحمل محمل البيع أو محمل الصدقة فيما زاد على ثمن العشرة دنانير؟ فقال: إن كانت لم تزل في يدي أبيه حتى مات فأراها موروثة، ولا أرى للولد إلا العشرة.
قال محمد بن رشد: قوله: وثمنه اليوم كثير يريد يوم التولية، لا يوم قيم على الابن فيه بعد موت الأب، ولو ولاه إياه يوم اشتراه، ثم زادت قيمته بعد ذلك لكانت تولية صحيحة، لا تفتقر إلى حيازة. وقول ابن القاسم في رواية عيسى عنه من كتاب داود خلاف قول مالك، إذ لا فرق بين التولية والبيع في أن ذلك يجوز إن كان بالقيمة، ولا يفتقر إلى حيازة، وفي أن ذلك لا يجوز إن كان بأقل من القيمة بمائتين فيه المحاباة، إلا أنهما اختلفا هل يحمل محمل الهبة؟ فيجوز إن جازها له الأب أو لا يحمل محمل الهبة فتبطل، ولا يصح له بحيازة الأب إذا لم يسمها هبة، وإنما أراد بذلك التوليج؟ فقال مالك: إنما تصح بحيازة الأب، وهو قول مطرف وابن الماجشون وأصبغ في الواضحة، وقال ابن القاسم: إنها لا تصح له بحيازة الأب، وهو قول أصبغ في سماعه الواقع في آخر الكتاب بعد سماع أبي زيد، خلاف قوله وقول مطرف وابن الماجشون في الواضحة وقول مالك في هذه

(13/367)


الرواية، فإذا لم يجز ذلك للابن إن لم يجزها له الأب على قول مالك، أو لم يجز له على قول ابن القاسم، وإن جازها له، فاختلف ما يكون للابن بالعشرة، فقال ابن القاسم في هذه الرواية: إن الدار تكون موروثة، ولا تكون للولد إلا العشرة، ومعناه: إذا لم يجز الورثة ذلك. وقد قيل: إن الورثة إذا لم يجيزوا ذلك يكون الولد من الدار بقدر العشرة عشرها إن كانت قيمتها مائة، أو أقل من ذلك أو أكثر، على هذا المثال. وقد قيل: إذا لم يجز للورثة يخير المشتري إن كان مالكا الأمر نفسه، أو الناظر له إن كان صغيرا بين أن يزيد بقيمة الثمن ويأخذ جميع الدار، وبين أن يأخذ منها بما نقد. والثلاثة الأقوال تتخرج على الاختلاف في مسألة من باع في مرضه دارا لمحاباة لا يحملها ثلثه. وقد مضى بيان ذلك في سماع سحنون من كتاب الشفعة، وفي آخر سماع أبي زيد من كتاب المديان والتفليس. وعلى قياس ما في هذه الرواية لمالك وابن القاسم، قال ابن القاسم في سماع عيسى بن عاصم عنه، في الرجل يشهد في صحته أنه قد باع منزله هذا من امرأته أو ابنه أو وارثه بمال عظيم، ولم ير أحد من الشهود الثمن، ولم تزل الأرض بيد البائع إلى أن مات: إن البيع لا يجوز، إذ ليس ببيع، إنما هو توليج وخدعة، ووصية الوارث.

[مسألة: استوهب امرأتين له ميراثهما منه ففعلتا ووهبتا له ذلك]
مسألة وسئل عن رجل حضرته الوفاة، فاستوهب امرأتين له ميراثهما منه، ففعلتا ووهبتا له ذلك، فلم يقض فيه بشيء حتى مات، فلمن تراه أللورثة أم للمرأتين؟ قال: أراه للمرأتين مردود عليهما، وما يعجبني للرجل أن يفعل مثل هذا يسأل امرأته أن تهب له ميراثها.
قال محمد بن رشد: هذا من قول مالك مثل ماله في الموطأ

(13/368)


سواء، وهو بين في المعنى؛ لأنهما إذا وهبتاه ميراثهما منه الغرض فيه إنما هو أن يصرفه إلى من يحب من ورثتهم سواهما أو غيرهم إذ لا حاجة به إلى ميراثهما منه سوى ذلك، فإذا لم يقض فيه بشيء حتى مات كان مردودا عليهما كما قال، بمنزلة ما لو استأذن ورثته أن يوصي لبعض ورثته بأكثر من ثلثه، فأذنوا له بذلك، فلم يعمل حتى مات لم يلزمهم فيما أذنوا له فيه شيء.
وقد مضى في رسم العتق من سماع عيسى من كتاب الشهادات القول مستوفى في هبة الوارث ميراثه في مرض الموروث أو في صحته، وسيأتي ذلك أيضا في رسم نفذها من سماع عيسى من هذا الكتاب، وفي رسم الأقضية والحبس من سماع أصبغ منه إن شاء الله.

[مسألة: يتصدق بماله كله على بعض ولده دون بعض]
مسألة وسئل عن الرجل يتصدق بماله كله على بعض ولده دون بعض، قال مالك: لا أرى ذلك جائزا قيل له: فالرجل يتصدق بالدار على بعض ولده دون بعض، وهو جل ماله، ويخرج منها ويدفعها إليه. قال: لا بأس بذلك، وغيره أحسن منه. قال سحنون: إذا كان تصدق جل ماله، واستبقى اليسير، فلم يكن فيما يستبقي من ماله ما يكفيه ردت صدقته، وإن أبقى من ماله ما فيه قوت له رأيته صدقة ماضية. قال ابن القاسم: وأنا أكره أن يعمل به أحد، فإن تصدق به وحيز منه وقبض لم يرد بقضاء، يريد الذي تصدق بماله كله.
قال محمد بن رشد: قول مالك في الذي يتصدق بماله كله على بعض ولده دون بعض: لا أرى ذلك جائزا معناه: ويرد بالقضاء، فهو ظاهر قوله، ولم يحقق ذلك من مذهبه في رسم الأقضية الثانية من سماع أشهب.

(13/369)


فقال: إن ذلك: ليقال. ولقد قضى به في المدينة، وقول سحنون مفسر لقول مالك؛ لأنه إذا لم يستبق من ماله ما يكفيه فهو بمنزلة إذا تصدق بماله جميعه، ولم ير ابن القاسم إذا تصدق بجميع ماله على بعض ولده أن يرد ذلك بقضاء. والأصل في هذه المسألة حديث «النعمان بن بشير أن أباه بشيرا أتى به إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إنني نحلت ابني هذا غلاما كان لي، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سلم: أكل ولد نحلته مثل هذا؟ فقال: لا فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فارتجعه» . فحمل مالك الأمر بالارتجاع في الحديث على الوجوب، وتأوله على أنه لم يكن له مال غيره، وحمله ابن القاسم على العموم، فيمن خص بعض بنيه ببعض ماله أو جميعه، وتأوله على الندب وهو أظهر؛ لأنه لم يقل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ: إن ذلك لا يجوز لك، وإنما أمره بالارتجاع لما كره له من تفضيل بعض ولده على بعض، مخافة أن يكون ذلك سببا إلى أن يعقه من حرمه عطيته، وأما إذا أعطى بعض ولده دون بعض ماله، وإن كان جله، وأبقى لنفسه بعضه فلا اختلاف في المذهب، ولا بين فقهاء الأمصار: مالك، والشافعي، وأبي حنيفة في أن ذلك جائز، إلا أنه مكروه لما جاء من الأمر بين أن يعدل الرجل بين ولده في العطية، فقد ذكر بعض الرواة في الحديث «إن لهم عليك من الحق أن تعدل بينهم كما أن لك عليهم من الحق أن يبروك» وذكر بعضهم فيه أنه قال له: «أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟ قال: لا قال: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» . قال: فرجع فرد عطيته، فليس في هذا الحديث أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره برد عطيته، وإنما فيه أنه فعل ذلك لما أمره به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بالعدل بين أولاده، وقد يحتمل أن يكون رد عطيته إياه امتثالا لما أمر به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ من ردها على ما جاء في حديث مالك، وفي بعض الآثار، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له:

(13/370)


«أشهد على هذا غيري فإني لا أشهد على جور» . مكروه فترك الرجل العدل بين بنيه في عطيته إياهم جور مكروه غير حرام، ومن أهل العلم من ذهب إلى أنه لا يجوز لأحد أن يفضل بعض ولده على بعض في العطية، فإن فعل لم ينفذ وفسخ، وهو قول طاوس، وروي مثله عن أحمد بن حنبل، وبه قال أهل الظاهر وحجتهم قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ " ارتجعه ". وقوله فاردده وقد اختلف في صفة عدل الرجل بين بنيه في العطية إذا كان فيهم ذكر وأنثى فقيل: على السواء، وإلى هذا ذهب ابن القصار، وهو قول داود، وأهل الظاهر، وسفيان الثوري وابن المبارك. قال: ألا ترى أنه قد روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «سووا بين أولادكم فلو كنت مؤثرا أحدا أثرت النساء على الرجال» . وبدليل ما جاء في الحديث من قوله «أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: نعم. قال: فاعدل بينهم» . ولا يراد من الذكر من البر إلا ما يراد من الأنثى وقيل: العدل بينهم، أن يعطى للذكر مثل ما يعطى للأنثى قياسا على الميراث، وإلى هذا ذهب ابن شعبان، وهو مذهب جماعة من السلف، منهم عطاء وأحمد، وإسحاق، واختاره بعض المتأخرين، من أجل أن الثلث هو حظ الأنثى من ذلك المال لو بقي في يد الأب حتى يموت، فقد عجل قسمته بينهم. والله الموفق.

(13/371)


[: يهب الهبة فيثاب منها ثم يقوم بعد ذلك فيقول ليس هذا ثواب هبتي]
ومن كتاب أوله
حلف بطلاق امرأته قال: وسئل مالك عن الذي يهب الهبة فيثاب منها، ثم يقوم بعد ذلك فيقول: ليس هذا ثواب هبتي فقال: لهذا وجوه. أما الذي يقال له: هذا ثوابك فأخذه فلا أرى له شيئا، وأما الرجل يبعث إلى الرجل بالذهب أو غير ذلك، لا يكون فيها قدر مثوبته ثم يقوم يطلب ذلك ويقول: لم توفني واستأنيت بك في ذلك، وظننت أنك إنما أردت أن تبعث بالشيء بعد فإن ذلك له.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله من الفرق بين أن يقول له: هذا ثوبك، فيأخذه ويذهب، ثم يأتي بعد ذلك يطلب منه زيادة في الثواب على ما أعطاه، وبين أن يبعث إليه بالشيء فيأخذه ثم يأتي فيطلب إلى زيادة على ما بعث إليه به، وهذا إذا كان الذي بعث به إليه، أقل من قيمة الهبة، وأما إن كان أقل من قيمتها أو أكثر، فلا كلام له على مذهب ابن القاسم، وروايته عن مالك، قائمة كانت الهبة أو فائتة. وأما على قول مطرف وروايته عن مالك، وظاهر قول عمر بن الخطاب في أن من حق الواهب أن يأخذ هبته ما لم يرض منها، فسواء كان الذي بعث إليه أقل من قيمتهما أو أكثر من قيمتهما له أن يأخذ هبته إن كانت قائمة، إلا أن يزيد على ما بعث به إليه ما يرضى به. وبالله التوفيق.

[: تصدق على ابن له صغير بمائة من غنمه ومائة دينار من ماله]
ومن كتاب أوله
طلق بن حبيب وسئل مالك عن رجل تصدق على ابن له صغير، بمائة من

(13/372)


غنمه، ومائة دينار من ماله، فلم يفرز الغنم بأعيانها ولا الذهب، إلا أنه أشهد له بها وهو صغير في حجره يليه، قال: إن كان رسم الغنم أو عرفت بأعيانها، فأشهد له على غنم رأيتها جائزة، وإن لم يكن رسمها ولم يشهد على غنم بأعيانها لم أر له فيها صدقة وارثها كلها مال الوارث، والذهب كذلك لا أرى له فيها شيئا إلا أن يكون أفرزها له، وإلا فلا شيء له. وقال في معرفة الغنم بأعيانها: إن أهل البادية ليسمون الإبل والغنم، كما تسمى أهل مصر الخيل ينسبونها، فإن كان سماها وعرفت جازت وإلا لم أرها جائزة. قال ابن القاسم: فأما الدنانير فإنها لا تجوز وإن طبع عليها حتى يدفعها إلى غيره، ويخرجها عن ملكه وإلا لم تجز، وإن طبع عليها وهي في ملكه حتى يدفعها إلى غيره، ويخرجها عن ملكه، وكذلك قال لي مالك في الدنانير.
قال محمد بن رشد: قول مالك هذا في الذي تصدق على ابنه الصغير بعده من غنمه أو خيله، إن حيازتها له لا تجوز، إلا أن يعينها باسم أو اسمه، بخلاف الجزء المشاع، هو الذي رجع إليه. وقد كان أولا يرى حيازته إياها له جائزة، وإن لم يسمها ولا وسمها ولا قسمها كالجزء المشاع؛ لأن الحكم يوجب له الشركة فيها بما يقع العدد المتصدق به من جميعها. وقع اختلاف قول مالك في ذلك في رسم البيوع من سماع أصبغ، وأصبغ لا يجيز حيازته له في الجزء المشاع، إلا في العدد المسمى دون أن يعين في ثلاثة أقوال في المسألة.
وقد مضى بيان ذلك في رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب الحبس. وأما قوله في الذهب: إنه لا شيء لابن فيها إلا أن يكون أفرزها له، فهو خلاف قول ابن القاسم بعد ذلك، وروايته عنه أنها لا تجوز، وإن طبع عليها حتى يدفعها إلى غيره، ويخرجها من ملكه، مثل قوله في الموطأ ومثل

(13/373)


رواية مطرف عنه وقول ابن الماجشون، وابن نافع، والمدنيين، حسبما مضى بيناه في أول رسم من السماع وبالله التوفيق.

[مسألة: حضرتها الوفاة فتصدقت بمهر كان لها على زوجها]
مسألة وسئل مالك عن مالك امرأة حضرتها الوفاة فتصدقت بمهر كان لها على زوجها على ولد لزوجها من غيرها، هل ترى ذلك يجوز؟ قال: نعم، إنما هو كغيره من مالها، يجوز لها ذلك، فقيل له: إن قوما يقولون: إنما هو توليج، قال: لا ذلك جائز.
قال محمد بن رشد: تكررت هذه المسألة مع نظائر لها كثيرة، كالرجل يوصي لأم ولده، ولد منها وولد من غيرها، أو المرأة توصي لابن زوجها ولأبويه أو لإخوته أو لأخواته، أو لقرابته، أو لإخوانه المصافين له ممن يخشى أن يكون إنما أوصت إليه ليرد ذلك على زوجها، فقال في ذلك كله: إن الوصية جائزة، ولا ترد الوصايا بالظن. قال أصبغ: وإن طلب الورثة أن يحلفوا الموصى له إن الوصية إليه، لم يكن توليجا ليرد ذلك على زوجها لم يكن ذلك لهم، واليمين في هذا يمين تهمته، فقول أصبغ: إنه لا يمين عليه، هو على القول بأن يمين التهمة لا يلحق دون تحقيق الدعوى ولو حققوا الدعوى عليه للحقته اليمين، قولا واحدا.

[مسألة: وهبت لابن لها ولابنة لها صغيرين عشرة دنانير]
مسألة وسئل مالك عن امرأة وهبت لابن لها ولابنة لها صغيرين عشرة دنانير، فتاجر لهما فيها أبوهما وأراد سفرا، أفترى أن يكتب لهما بذلك كتابا ويكتبها لهما في وصية؟ قال: بل أرى أن يكتب لهما بذلك كتابا ويصفها من سبب ما كانت وكيف كانت قصتها. قيل له: إن قوما قالوا: لا يجوز ذلك قال: بل فليكتب لهما كتابا على ما قلت.

(13/374)


قال محمد بن رشد: قوله: فتاجر لهما فيها أبوهما، معناه: فصارت بربحها أكثر من عشر دنانير وقوله: أفترى أن يكتب لهما بذلك كتابا أو يكتبها لهما في وصية، معناه: أفترى أن يكتب لهما بذلك كتابا يدفعه إليهما تكون وثيقة بأيديهما أو يجتزئ في ذلك بأن يكتب ذلك لهما في وصية علي سبيل الإقرار لهما بالدين، لا على سبيل العطية والوصية؟ فرأى الأحسن الأمر أن يكتب لهما بذلك كتابا يكون بأيديهما وثيقة لهما، يقومان في حياته إذا بلغا إن شاء؛ لأنه إن كتب ذلك لهما في وصيته، وأشهد عليها وأبقاها عند نفسه، كان آمنا من أن يقوما عليه في ذلك في حياته، فيضعف إقراره لهما بذلك، إذ قد قيل: إن من أقر لوارثه بدين في صحته، فلم يقم به عليه حتى مات: إنه باطل؛ لأنه يتهم أن يكون أقر له بدين يأخذه بعد موته من رأس ماله، وحكم لإقراره لهما بالدين عند إرادته السفر، بحكم الصحة. وقد اختلف في ذلك. حكم له ابن القاسم في رسم نذر سنة من سماعه من كتاب الوصايا بحكم المرض، وروى ذلك عن مالك، وخالفه أصبغ فحكم به بحكم الصحة، ورواه عن ابن وهب: ولابن القاسم مثل ذلك في سماع عبد الملك من كتاب الوصايا فعلى القول بأنه يحكم للسفر بحكم المرض، إن كتب لها بذلك كتابا فمات في سفره ذلك لم يكن لهما شيء مما كتبه لهما. وبالله التوفيق.

[مسألة: إطعام الطعام أهو أفضل أم الصدقة]
مسألة وسئل مالك عن إطعام الطعام أهو أفضل، أم الصدقة بالدراهم؟ فقال: كل ذلك حسن، ولم أره يفضل أحدهما على صاحبه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال إنه لا يفضل أحدهما على صاحبه في الجملة، إذ قد يكون كل واحد منهما أفضل من صاحبه، باختلاف أحوال الأعيان والأزمان، فإذا علم أن الرجل غير محتاج إلى الطعام ومحتاج

(13/375)


إلى ما سوى ذلك، من كسوة وغيرها، فالصدقة عليه بالدراهم أفضل، وإذا علمت أنه محتاج إلى الطعام فستغنى في ذلك الوقت عما سواه، فإطعامه الطعام أفضل، وإذا لم يعلم إلى أيهما هو أحوج لم يفضل أحد الوجهين في حقه على الآخر كما قال مالك، فهذا هو الوجه الذي تكلم عليه والله أعلم. فإن وافق في غيب الأمر الوجه الذي هو إليه أحوج كان أجره فيه أعظم، وإن لم يعلم هو ذلك، وإن كان من الشدة والمسغبة فإطعام الطعام فيه أفضل، وإذا كان زمن الرخاء والسعة، فالتصدق فيه بالدرهم أفضل. وبالله التوفيق.

[مسألة: يمرض فيجعل لله عليه الشيء يتصدق به إن شفاه الله]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يمرض فيجعل لله عليه الشيء يتصدق به إن شفاه الله، فيعافى وله أقارب وموالي محتاجون، أفترى أن يعطيهم مثل ما يعطي غيرهم؟ قال: أرى أن يعطيهم ويقل لهم، ويعطي غيرهم أكثر، وإني إنما أخاف ذلك خوفا أن يجهر له، وليستتر بذلك، فإن السر ليس كغيره. وهذا إذا أعطاهم لا أحب ذلك بموضع الحب والثناء وغيره ممن لا يستتر به لا يعرفه، فالسر أعجب إلي، قيل له: أفلا ترى أن يعطيهم؟ قال: أرى ألا يكثر لهم، وليستتر بذلك ما استطاع. ولقد رأيت رجلا من أهل مصر، وهو يسأل ربيعة عن ذلك ويقول: إني لا أحب أن أرى رائحا إلى المسجد، فكأنه أنكر ذلك من قوله، ولم يعجبه أن يحب أحد أن يرى في شيء من أعمال الخير. وقلت له: وما ترى في التهجير إلى المسجد قبل الظهر؟ قال: ما زال الصالحون يهجرون، وإن صلاة الرجل في بيته من النافلة أفضل منها في جماعة الناس، وهو أعلم بنيته، حتى لا يبالي مما أحسنه إن أحب، والسر أفضل من ذلك قال الله تبارك وتعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271]

(13/376)


وفي الحديث: «أفضل الصلاة صلاتكم في بيوتكم إلا المكتوبة وأفضل الصدقة صدقة السر» .
محمد بن رشد: قوله في الذي نذر الصدقة؛ لأنه يؤثر قرابته ومواليه بها، وإن كانوا محتاجين على سواهم، بل يؤثر سواهم عليهم، ولا يكثر لهم في العطية، مخافة ما يدخله من الحمد والثناء، ويستمر بذلك ما استطاع هو نحو قوله في المدونة في الزكاة: إنه يكون له أن يعطيها لقرابته، وأن يلبي هو دفعها إليهم بوضع الحمد والثناء، فهو يكره ذلك لهذا الوجه، أو لئلا يقطع بذلك عنهم ما كانوا يرجون له من الصلة التي عودهم إياها. وقد روي عن مالك إجازة ذلك، وقال به جماعة من أهل العلم إذا لم يكونوا في نفقته، فإن كانوا في نفقته فلا يعطيهم، فإن فعل أجزأه، إذا لم يقطع بذلك نفقة عنهم عن نفسه فإن قطع بذلك نفقتهم عن نفسه، لم تجزه زكاته؛ لأنه قد انتفع بها فيما أسقط عن نفسه من نفقتهم بسببها، وإن لم تكن واجبة عليه وكراهية ربيعة للرجل أن يحب أن يرى في شيء من أعمال الناس البر، خلاف قول مالك في رسم العقول من سماع أشهب، من كتاب الصلاة: إنه لا بأس بذلك إذا كان أوله لله، وهو الصحيح إن شاء الله لأنه مما لا يستطاع التخلص منه. والدليل على إجازة ذلك إن شاء الله ما روي عن معاذ بن جبل أنه قال: «يا رسول الله، إنه ليس من بني سلمة إلا مقاتل، فمنهم من يقاتل طبيعته، ومنهم من يقاتل رياء ومنهم من يقاتل احتسابا فأي هؤلاء الشهيد من أهل الجنة؟ فقال: يا

(13/377)


معاذ، من قاتل على شيء من هذه الخصال أصل أمره أن تكون كلمة الله هي العليا فقتل فهو شهيد من أهل الجنة» وهذا نص في موضع الخلاف. وأما قوله في التهجير إلى المسجد قبل الظهر ما زال الصالحون يهجرون، وإن صلاة الرجل في بيته النافلة أفضل منها في جماعة الناس، وهو أعلم بنيته إن صحت في ذلك نيته حتى لا يبالي مما أحسنه إن أحب، فالمعنى في ذلك أنه في النهار قد يشتغل باله في صلاته في بيته بينه وبين أهله، فيكون باله في المسجد أفرغ فإذا هجر قبل الظهر إلى المسجد ليصلي فيه متفرغ البال، لا يرى مكانه فيه، يحمد بذلك، ويثنى عليه من أجله، فهو حسن كما قال، ولذلك كان الصالحون يفعلونه، وأما في الليل، ففي البيت أفضل؛ لأنه لفعله أستر، وباله فيه فارغ بهذا وأهله وبنوه في النوم.

[: ورثت من ابنة لها سدس دار لها وأنها تصدقت به على ابن ابنها]
ومن كتاب أوله
أخذ يشرب خمرا قال: وسئل مالك عن امرأة ورثت من ابنة لها سدس دار لها وأنها تصدقت به على ابن ابنها وهي مريضة، وأن ابنا لها أشهد أني لا أجيز ذلك، وإنما يمنعني أن أكلمها في ذلك، كراهية سخطها وأن ابنها قاسم عمه المنزل، وجاوره وأدركه قبله فضلا وأخذه منه، ولم تزل المرأة ساكنة في المسكن حتى ماتت، إلا أن ابن ابنها قد جاور عمه ورد إليه فضل ما أصاب، وكانت تلك الصدقة جل ما تركت، أو لم تترك شيئا غيرها، ولا مال لها فيخرج في ثلثها. قال مالك: أراها جائزة قد جاور عمه وقاسمه وأخذ منه

(13/378)


فضلا، فلا أرى هذا إلا إذنا منه، فقيل: إنه قد أشهد في ذلك، إنما يترك الكلام خوفا من سخط أمه، فقال: ما أرى في ذلك ينفعه، فقيل له: إنها لم تزل ساكنة فيه، قال: وإن أليس قد جاوز؟ قال: بلى. قال: فقد جاز ذلك، يقاسم ويأخذ الفضل ويمنعها الوصية، حتى إذا ماتت، قال: أريد أن أرده، قال: ما أرى ذلك له، ولو أنها علمت به أن يرده لأوصت في ثلث، ولكنه قد سلم حين جاوز وقاسم، وأخذ الفضل وإن لم يتكلم فأراها جائزة لابن ابنها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة، قد ذكر مالك وجه قوله فيها بما يزيد عليه. وبالله التوفيق.

[مسألة: جعل لرجل جعلا على أن يرقى الجبل]
مسألة وسئل عن رجل لقي رجلا فقال: إنه بلغني أنك شتمتني، فقال: ما فعلت، قال: فاحلف لي ولك كذا وكذا هبة وكرامة مني فحلف له، أترى أن الهبة تلزمه؟ قال: نعم أرى ذلك يلزمه.
قال محمد بن رشد: حكى ابن حبيب في الواضحة عن أصبغ، أنه ترك قول ابن القاسم في إجازة الجعل فيها، لا منفعة فيه للجاعل، وقال: يقول ابن الماجشون: إن ذلك لا يجوز، وقد أجازه ابن عمر. وروي له أنه يسأل عن رجل جعل لرجل جعلا على أن يرقى الجبل إلى موضع سما فيه فأجازه، قال أصبغ: ومن الدليل على جوازه أن مالكا قد أجاز الجعل في الرجل يقول للرجل: احلف لي أنك لم تشتمني ولك كذا وكذا فيحلف، فيلزمه مالك غرم ما جعل له على ذلك، وليس ذلك عندي بين؛ لأن له فيه منفعة، وهو تطيب نفسه من جهته من جنته وتحسين ظنه به، حتى

(13/379)


لا يعتقد له سوءا ولا مكروها، فيأثم في اعتقاده ذلك فيه، وكذلك قوله في رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع: ولني بيع دارك، ولك كذا وكذا له في ذلك منفعة، وهو غرضه في أن يشتري الدار إلى من يحب بما سمى له من الثمن، وأما قوله في رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب النكاح في الذي يقول للرجل: ولني نكاح وليتك، ولك كذا وكذا: إنه لا يجوز، فإنما لم يجز ذلك من أجل أن لصاحب المولية أن يعزله عما جعل إليه من ذلك، فدخله الغرز وقد بسطنا القول في ذلك هنالك، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: تصدق بمال وبدار له على بنات له ثلاثة]
مسألة وسئل عمن تصدق بمال له، وبدار له على بنات له ثلاثة، فإذا انقرضن فهي صدقة على بني ابن له، وعلى عقبهم، فانقرض بنو ابنه وعقبهم وهلك ابنتان ممن تصدق عليهن وبقيت واحدة، وكان في صدقته أن من تزوج من بناته فنصيبها رد على أختها، فإن روتها رادة فهي على نصيبها فانقرضوا كلهم بنو البنين وأعقابهم، والبنات إلا واحدة، وهي متزوجة، والمال ذو غلة، فكيف ترى أن يعمل فيه؟ أنفقة أم ماذا يصنع فيه؟ وللمتصدق ابنتان له، لم يكن أدخلهما في صدقته، قال: أرى أن تقسم الغلة على ذوي قرابته من ابنتيه وغيرهما وعلى المساكين، فقيل له: فإن انقرضت ابنته المتزوجة، فما إذًا ترى فيه؟ أترجع ميراثا ولم يجعل مرجعها إلى أحد، وإنما هي صدقة موقوفة؟ قال: لا أرى أن ترجع ميراثا، ولكن ترجع على من قلت لك، يتصدق بغلتها على ذوي قرابته وعلى المساكين ما بقيت.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه إذا لم يبق من المحبس

(13/380)


عليهم إلا امرأة واحدة متزوجة، وقد كان شرط المحبس أن من تزوج منهن فلا حق لها إلا أن تردها رادة، إن الغلة تكون ما دامت متزوجة للذي إليه مرجع الحبس، فقوله: إن الغلة تقسم على ذوي قرابته من ابنتيه وغيرهما وعلى المساكين، يريد: أن ما فضل من ابنتيه اللتين هما أقرب الناس إليه كان لذوي قرابته، وما فضل عن ذوي قرابته كان للمساكين؛ لأن هذا هو حكم المرجع أن يكون إلى الأقرب فالأقرب من المحبس بمعنى الصدقة، فما فضل عن الأقرباء كان للمساكين كما لو لم يكن له قريب أصلا لكان مرجعه إلى المساكين، وإنما بدئ أقرب المحبس على المساكين من غيرهم، «لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لأبي طلحة " بخ بخ ذلك مال رابح» وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن يجعله في الأقربين لأنه دل بهذا على أن الصدقة على الأقربين، أفضل من الصدقة على الأجنبين، فوجب أن يصرف صدقة الرجل المحبسة إذا لم يجعل لها مرجع، على الذي هو أفضل له.
وقد مضى بيان هذه المسألة بجميع وجوهها وما فيها من الاختلاف في رسم يوصي من سماع عيسى من كتاب الحبس.

[مسألة: يتصدق بداره على الرجل وولده ما عاشوا]
مسألة وسئل عن الرجل يتصدق بداره على الرجل وولده ما عاشوا، ولا يذكر لهم مرجوعا إلا صدقة هكذا، لا شرط فيها، يهلك الرجل وولده قال: أرى أن يرجع حبسا لا يباع على أقاربه، وفي المساكين ولا يورث، قال سحنون: إن كان ولد المحبس عليه ناسا بأعيانهم، فإنما يرجع إليه إن كان حيا أورث ورثته ميراثا إن كان ميتا، وإن كان ولده ليسوا بأعيانهم وإنما قال له: حبسا عليك وعلى ولدك ما عاشوا فيها هنا يرجع حبسا.

(13/381)


قال محمد بن رشد: قوله في الذي يتصدق بداره على الرجل وولده ما عاشوا، يريد: وهم غير معنيين، ولا يذكر لها مرجعا أنها ترجع بمرجع الأحباس على أقاربه، وفي المساكين يريد على الترتيب، حسبما ذكرناه في المسألة التي فوقها لا على التشريك، ولا اختلاف في هذه المسألة أنها ترجع بمرجع الأحباس، لقوله فيها ما عاشوا، ولو لم يقل فيها ما عاشوا، لكانت لآخر العقب ملكا على ما سيأتي في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب. وقد قيل: إنها ترجع بمرجع الأحباس وهو قول بعض رجال مالك في المدونة وقال ابن عبدوس: إنه قول أكثر أصحاب مالك ولو قال: حبس على ولدي ولم يقل ما عاشوا لرجعت بمرجع الأحباس قولا واحدا، وكذلك لو قال: ما عاشوا، إلا عند مطرف، فإنه قال: إذا قال: ما عاشوا رجعت إليه ملكا.
وقول سحنون: إن كان ولد المحبس عليه ناسا بأعيانهم، فإنها ترجع إليه إن كان حيا أو إلى ورثته ميراثا إن كان ميتا، يريد: على أحد قولي مالك في المدونة إلا أن يقول ما عاشوا، فقال محمد بن المواز: إنها تخرج من الاختلاف، وترجع إليه ملكا على قولي مالك جميعا.
وقد مضى القول على هذا محصلا في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الحبس. ولو قال صدقة عليهم وهم معينون لكانت لجميعهم ملكا مطلقا على الاشتراك والإشاعة، إلا أن يقول ما عاشوا فترجع إليه بعد انقراضهم ملكا وبالله التوفيق.

[: يقول هذه الدار صدقة عليك وعلى ولدك]
ومن كتاب أوله
يسلف في المتاع والحيوان وسئل عن الرجل يقول: هذه الدار صدقة عليك وعلى ولدك، قال: هي ميراث للذي تصدق بها، وعلى ولده. قال ابن

(13/382)


القاسم: هي بمنزلة لو اشتروها هي بينهم يرثها عنهم ورثتهم، وإذا قال: صدقة حبسا على فلان وولده رجعت حبسا إلى أقرب الناس بالذي حبس من ذوي قرابته وعصبته إذا قال: صدقة حبسا.
قال محمد بن رشد: الولد يقع على ولد الصلب وعلى كل من يرجع نسبته إليه من ولد الولد، وإن سلفوا، فإذا حبس الرجل حبسا على ولد رجل دخل فيه ولده وولد ولده ما سفلوا؛ لأنه قد علم أن التحبيس يراد به مجهول من يأتي، وكذلك إذا قال حبسا صدقة، فإذا انقرضوا رجعت حبسا إلى أقرب الناس بالحبس. قال في هذه الرواية من ذوي قرابته أو عصبته، يريد: قرابته الذين هم من حرم نسبه، وإن كن نساء لسن بعصبة يرثن كالبنات، وبنات البنين، والأخوات، أو لا يرثن، كالعمات وبنات الأخ، وبنات العم وما أشبههن، وقد قيل: إن الحبس لا يرجع إلى النساء بحال كن يرثن أو لا يرثن. وقيل: لا يرجع إلا لمن يرث منهن. واختلف أيضا في الأمهات والجدات حسبما مضى القول في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الحبس. وأما العصبة من الرجال فلا اختلاف في أن الحبس يرجع إليهم. وأما إذا تصدق الرجل بدار على ولد رجل، أو على رجل وولده فهي صدقة مبتولة، لكل من كان منهم حيا مولودا يوم تصدق على السواء بينهم، يرثها عنهم ورثتهم، بمنزلة ما لو اشتروها كما قال؛ لأن الصدقة لا يراد بها مجهول من يأتي فحمل من كان حيا مولودا يوم الصدقة، بمنزلة ما لو سماهم، فقال: داري صدقة على فلان، وولد فلان وفلان وفلان، ولا اختلاف في هذا، إذا كان ولد الرجل يعرف أعيانهم وعدتهم، وأما إن كانوا لا تعرف أعيانهم وأعدادهم إلا بعد الإحصاء والبحث. فقيل: إنهم كالمعينين، تكون الدار صدقة عليهم بالسواء، وقيل: إنهم بخلاف المعينين، إن كانت الصدقة مالا قسم عليهم بالاجتهاد، وإن كانت دارا سكنها الأحوج إليها منهم فالأحوج، أو بيعت فقسم ثمنها عليهم بالاجتهاد، ومن مات منهم قبل القسم لم يكن له

(13/383)


شيء، وينفرد الباقي منهم. والقولان في الوصايا الثاني من المدونة، في الذي يوصي لأخواله وأولادهم.
واختلف في الرجل إذا تصدق بداره على ولده وولد ولده، أو على رجل وولده وولد ولده، ولم يقل حبسا، فقيل: إنها تكون لآخر العقب ملكا، وهو قول مالك في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب بعد هذا، وفي المدونة لبعض رجال مالك، إنها صدقة موقوفة، ترجع إلى أقرب الناس بالحبس بعد انقراض العقب. ومثله حكى ابن عبدوس عن أكثر أصحاب مالك وبالله التوفيق.

[مسألة: يتصدق على ابن له صغير بصدقة فكبر الغلام ثم مات أبوه]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يتصدق على ابن له صغير بصدقة، ويكتب له بها كتابا وتكون الصدقة في يد أبيه حتى كبر الغلام واحتلم، وبلغ مبلغ الرجال، ثم مات أبوه قال مالك: أرى ذلك يختلف إن كان حين مات أبوه رجلا قد احتك ورضي له حاله، ومثله يجوز لنفسه، فأراها للورثة، وإن كان بحال السفه، وإن كان كبيرا، ليس مثله يلي نفسه في ماله وسفهه، رأيت ذلك جائزا ورأيت أن يدع ذلك إلى السلطان يطلبه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو بين لا اختلاف فيه إن الصدقة باطلة إذا كان معلوما بالرشد، وإنها جائزة له إن كان معلوما بالسفه، وإنما الاختلاف على ما يحمل عليه إذا جهلت حاله، فالمشهور أنه محمول على السفه حتى يعلم رشده. وقد قيل: إنه محمول على الرشد حتى يعلم سفهه.
وقد مضى هذا القول مستوفى في رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب الحبس فلا معنى لإعادته.

(13/384)


[مسألة: الدار يتصدق بها الرجل على الرجل]
مسألة وسئل مالك: عن الدار يتصدق بها الرجل على الرجل، أو يحبسها عليه، ويتكارها منه؟ قال: لا خير فيه، ولا أرى أن يجوز ذلك، فقلت له: يا أبا عبد الله، أرأيت لو تصدق بها عليه ثم تكاراها منه بعد ذلك، لم يكن ذلك جائزا له؟ قال: إن جاء من ذلك شيئا بينا رأيت ذلك جائزا إذا كان قد حازها الذي تصدق بها عليه، ثم تكاراها الآخر بعد ذلك، بعد أن ينقطع بها الذي تصدق بها عليه انقطاعا بينا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أحفظه في المذهب، إنه إذا تصدق على الرجل بالدار، أو حبسها عليه، وتمادى على سكناها أو عاد إليها عن قرب، باكتراء أو عارية أو إرفاق، حتى مات فيها، فالصدقة أو الحبس فيها باطل. وأما إذا رجع إليها بالسكنى بكراء أو إرفاق بعد أن انقطع لها بالحيازة دونه، انقطاعا بينا، السنة فيما زاد، فلا يبطل ذلك حيازته، وهذا في الأجنبي أو الولد الكبير الذي يحوز لنفسه، فأما الولد الصغير الذي يحوز له أبوه، فتبطل الصدقة برجوع الأب إلى سكنى الدار التي تصدق بها، وإن كان ذلك بعد المدة الطويلة. قال ذلك محمد بن المواز في كتابه، وهو بيّن من قول ابن القاسم، في رسم أوصى من سماع عيسى بعد هذا، فهو بين قوله حيثما وقع روايته عن مالك، وكذلك الرهن يبطل الحيازة فيه برجوعه إلى يد المرتهن، وإن كان ذلك بعد أن انقطع المرتهن بحيازته إياه انقطاعا بينا؛ لأن الحوز في الرهن آكد منه في الصدقة والحبس؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] ، وبالله التوفيق.

(13/385)


[: العطية من بيت المال]
ومن كتاب
تأخير صلاة العشاء قال ابن القاسم: وقال مالك: كان رجال ببلدنا هذا من أهل الفضل والعبادة، يردون العطية يعطونها، حتى إن كان بعضهم ليؤامر نفسه، يعني بذلك إن كان يرى أن له عنها غنى.
قال محمد بن رشد: يريد بالعطية التي كانوا يردونها ولا يقبلونها العطية من بيت المال. والله أعلم.
وفي قوله: حتى إن كان بعضهم ليؤامر نفسه - نظر؛ لأن الذي يرد العطية ولا يؤامر نفسه في ذلك، أزهد فيها من الذي يؤامر نفسه في أخذها أو ردها، و"حتى" غاية تدل على أنه أراد منهم من يرى في الزهادة والعبادة، على الذين يردونها ولا يقبلونها، فكان وجه الكلام أن يقول: حتى إن كان بعضهم لما يؤامر نفسه في قبولها فيردها، وإن كان يرى أنه لا غنى به عنها، وردهم إياها يحتمل أن يكون زهادة فيها مع جواز أخذها لهم، لا كراهية فيه، إذا كان المجبى حلالا وقسم بوجه الاجتهاد، دون أثرة ولا محاباة، وهذا نهاية في الزهد والفضل؛ لأنه يترك حقه الجائز به أخذه ويؤثر به غيره ممن يعطاه، وإن كانت به حاجة إليه. من الصنف الذين أثنى الله تعالى عليهم في قوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] .
وإن كان المجبى حلالا ولم يعدل في قسمته فمن أهل العلم من يكره الأخذ منه، وأكثرهم يجيزه، وأما إن كان المجبى يشوبه حلال وحرام، فمن أهل العلم من يجيز الأخذ منه، وأكثرهم يكرهه، وأما إن كان المجبى حراما فمن أهل العلم

(13/386)


من حرم الأخذ منه، وَرُوِيَ ذلك عن مالك، ومنهم من أجازه، ومنهم من كرهه وهم الأكثر.
وقد مضى في آخر سماع سحنون من كتاب الشهادات، القول في هذا المعنى مستوفى، ومضى في رسم شك في طوافه قبل هذا، استجاب ترك الرجل قبول ما وصل به. وبالله التوفيق.

[مسألة: السائل يقف بالباب فيأمر له بدرهم فيجده قد انصرف]
مسألة وسئل مالك: عن السائل يقف بالباب، فيأمر له بدرهم، فيجده قد انصرف، أترى أن يسترجعه؟ قال: لا، ولكن يتصدق به، قيل له: فالكسوة، قال: كذلك يتصدق بها.
قال محمد بن رشد: زاد في هذه المسألة في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم من كتاب العارية، وليس ذلك عليه بواجب، فهو يبين قوله في هذه الرواية، ومثله الرجل يلقاه الرجل من إخوانه أو أقاربه، فيسأله أن يصله، فيبعده بذلك، ثم لا يجده، أو الأجنبي يلقاه الرجل، فيسأله، فيبعده، ثم لا يجده، إلا أن أخفها الذي يعد الرجل من إخوانه أو أقاربه، ويليها الرجل الذي يعد الرجل الأجنبي، ويليها الذي يأمر للسائل بشيء دون عدة، فلا يوجد، وأشدها كلها ما قاله ابن أبي زيد أن يخرج بالصدقة إلى السائل، قال: يقبلها.
وقد مضى الكلام على ذلك في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم من كتاب العارية، وبالله التوفيق.

[مسألة: يتصدق على ابن له بدار غائبة فلا يقبضها حتى يموت أبوه]
مسألة وسئل مالك: عن الرجل يتصدق على ابن له حاضر معه بدار له

(13/387)


غائبة عنه ببلاد غير بلاده، فلا يقبضها ابنه حتى يموت أبوه، أتراها له؟ قال: إن كان صغيرا أيحوز له ويليه، فإني أرى له ذلك، وإن كان كبيرا فإني لا أرى له، فقلت له: فإنه لم يفرط في الخروج، لعله كان يريد الخروج حتى مات أبوه، وقال: وكذلك أيضا لو كان غيره ممن ليس هو مثله في القرابة. وقد قال عمر بن الخطاب: إن لم يحزها فهي على الوارث، فإني أرى إن لم يحزها فهي للورثة.
قال محمد بن رشد: الدار على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها في الحيازة بخلاف الأرض؛ لأن لها حيازة، تحاز بها، فإن كانت حاضرة، فحازها الموهوب له بالقبض لها والعقد عليها، وإن لم يسكنها فهي حيازة، وإن لم يفعل ذلك حتى مات الواهب بطلت الهبة، ولا خلاف في هذا.
وأما إن كانت غائبة، فاختلف فيها على ثلاثة أقوال:
أحدها: الحيازة لا تكون فيها عاملة، إلا أن يخرج إليها فيحوزها بالقبض لها والقفل عليها قبل أن يموت الواهب، فإن مات الواهب قبل ذلك، بطلت الهبة، وإن كان الموهوب له لم يفرط في الخروج أو التوكيل وهو قوله في المدونة، وفي هذه الرواية، ومثله في كتاب ابن المواز.
والثاني: قول أشهب: إنه لم يفرط في الخروج والقبض، ولعله قد تهيأ لذلك، أو وكل فلم يخرج حتى مات الأب، فهي جائزة وإن أمكنته الحيازة ففرط حتى مات، فهي باطل.
والثالث: إنه لم يفرط فخرج قبل أن يموت الواهب، فهي حيازة وإن لم يدرك قبضها في حياته، فقبضها بعد وفاته ولا اختلاف في أنه إذا فرط في الخروج، فمات الواهب قبل أن يخرج، أو خرج قبل أن يموت، فلم يدرك أن يقبض حتى مات، من أجل أنه فرط في الخروج، فهي باطل.
وأما الأرض، فإن تصدق بها في أوان يمكن حيازتها بحرث أو زراعة أو كراء، وما أشبه ذلك، كالدار سواء إن كانت حاضرة، فلم يحزها بشيء

(13/388)


من ذلك حتى مات المتصدق، فهي باطل، وإن كانت غائبة، فعلى الاختلاف الذي ذكرته في الدار الغائبة. وأما إن تصدق بها في أوان لا يمكنه حيازتها بحرث ولا عمل ولا كراء، فالإشهاد على الصدقة وقبول المتصدق عليه حيازة إن مات المتصدق بها قبل أوان حيازتها. وقال مطرف وأصبغ: وإن جددها الشهود وأوقفهم عليها فذلك أقوى للحيازة، وإن جددها في كتاب الصدقة، ولم يقف عليها الشهود، فذلك أيضا حوز، وهو دون الأول. وإن لم يمت المتصدق حوزها فلم يحزها بالحرث والعمل حتى يموت المتصدق فهي باطل. وفرق ابن القاسم في الحيازة بين الدار الغائبة والدار التي لا يمكن حيازتها، فقال في الدار: إن الصدقة باطل، إلا أن يخرج إليها فيحوزها بالقبض لها قبل موت المتصدق، ولم يغدره بمغيبها ... وعدم في الحال على حيازتها.
وقال في رسم الأرض: إنه إن مات المتصدق بها قبل إمكان حيازتها، اكتفى بالإشهاد فيها ولم تبطل الصدقة بها.... في الحال على حيازتها، ولا فرق بينهما في المعنى، فهو اختلاف من قوله، وقد رأيت ذلك لابن زرب، وأما إن تصدق بالأرض وهي غائبة قبل إبان حيازتها، فلا يضره التراخي في الخروج إلى حيازتها إذا خرج بعد ذلك في وقت يصل قرب إمكان حيازتها بالحرث؛ لأنه لو وصل قبل إمكان حيازتها لاكتفى في حيازتها بالقول، ما لم يأت إبان حيازتها على أصله المتهدم. وهذا كله فيمن يحوز لنفسه ولو كبيرا أو أجنبي، وأما الولد الصغير فحيازة أبيه له حيازة في كل حال، وبالله التوفيق.

(13/389)


[: اشترى لابنه غلاما وكتب له كتابا بذلك فمات الأب بعد ذلك بسنة]
ومن كتاب أوله كتب عليه ذكر حق قال: وسئل مالك: عمن اشترى لابن له صغير في حجره غلاما وكتب له كتابا وأشهد له أنه إنما اشتراه لابنه، فمات الأب بعد ذلك بسنة، فقال الورثة للصبي: نحن ندخل عليك في هذا الغلام. قال مالك: ليس ذلك لهم وأرى إذا أشهد الأب على شرائه أنه له.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة لا إشكال في أنه لا دخول للورثة على الابن في الغلام الذي اشتراه، وإن لم يجزه له، وإن أخذها الأب لنفسه؛ لأن أصل شراء العبد، إنما هو للابن، فلم يهبه الأب له، فيحتاج إلى أن يحوزه له بالثمن الذي اشتراه به له. فصح له ملكه بالشراء. وقد ذهب بعض الناس إلى أن قول مالك هذا في هذه المسألة، خلاف لقول أصبغ، من روايته في سماعه الثاني الواقع بعد سماع أبي زيد في آخر الكتاب، وليس ذلك بصحيح؛ لأنه لم يقل في هذه المسألة: إنه اشترى الغلام لابنه من مال ابنه؛ فإن عرف لابنه مال من وجه من الوجوه، جاز قول الأب، وكان الشيء الذي ذكر أنه اشتراه بماله وملكه بنفس الشراء، ولم يفتقر إلى حيازة الأب إياه له.
وأما إن لم يعرف لابنه مال بوجه من الوجوه، لا من إرث ولا من غيره، ثم مات الأب، فقال أصبغ: إن ذلك توليج من الأب له، يكون ميراثا بين جميع الورثة، ولا ينتفع الابن بحيازة أبيه ذلك، له، فقول أصبغ هذا ليس بخلاف لقول مالك في هذه المسألة، وإنما هو خلاف لقوله فيما مضى في رسم الشجرة، في أن الابن ينتفع بحيازة أبيه فيما ولاه أو باعه بالثمن اليسير، وإن كان لم يسم ذلك صدقة ولا هبة، وهو قول مطرف وابن الماجشون في الواضحة. حكى ابن حبيب عنهما أنهما قالا: وإذا أشهد

(13/390)


الأب أنه باع من ولده هذا الدار بكذا وكذا دينارا كانت في يديه من ميراث له، أو أعطيته أو مما يذكر، فذلك جائز، إذا ذكر لذلك سببا ووجها يعرف لحوز الصغير والكبير، دون حيازة، وإن لم يعرف ما قال، ولم يعرف للمال سبب، لم يجز ذلك على وجه البيع، ويصير بمعنى العطية فيما حيز وفيما لم يحز قالا: وكذلك إذا أشهد أن للابن عليه مائة دينار، من سبب كذا وكذا، وكذلك يعرف، فذلك جائز، وإن لم يعرف لذلك سبب فلا يجوز ذلك. قال ابن حبيب: وقال ذلك أصبغ، فقول أصبغ في الواضحة خلاف قوله هذا في سماعه من العتبية، مثل قول مطرف وابن الماجشون، ومثل قول مالك في رسم الشجرة، خلاف لقول ابن القاسم فيه من رواية عيسى في كتاب داود حسبما بيناه هناك من أن قول ابن القاسم مخالف لقول مالك، وبالله التوفيق.

[مسألة: الرجل ينحل ولدا له عند موته فيتزوج به ابنه امرأة ويصدقها]
مسألة قال مالك، في الرجل ينحل ولدا له عند موته في مرضه، فيتزوج به ابنه امرأة ويصدقها غلة ذلك ونصيبها، أو يكون أبوه زوجها إياه، وأصدق عنه عند موته في مرضه من ماله، قال: أرى الصداق مردودا على ورثة الهالك، ولا يجوز للميت أن يعطي بعض ولده دون بعض عند موته، إلا أن يأذنوا في ذلك، وأرى صداق المرأة دينا على زوجها متى وجدته عنده أخذته به. قال مالك: ومثل ذلك الرجل، يسرق السرقة ثم يتزوج بها المرأة، ويصيبها، ثم يأتي رب السرقة، فيكون أحق بماله، وترجع المرأة على زوجها بذلك، فيكون دينا لها عليه.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف ولا كلام فيما ذكر، من أن الصداق مردود على ورثة الهالك في المسألتين جميعا، تزوج هو مما نحله أبوه في مرضه، أو زوجه أبوه في مرضه، وأصدق عنه، كما يرد ما أصدقها إذا

(13/391)


كان مسروقا على رب السرقة، وإنما الكلام فيما ترجع به المرأة على زوجها إن كان بقيمة الصداق، الذي استحق من يدها أو بصداق مثلها، فقيل: ترجع عليه بصداق مثلها، وهو ظاهر قوله في هذه الرواية، وأرى صداق المرأة دينا على زوجها، وقيل: ترجع عليه بقيمة الصداق الذي استحق من يدها، وهو ظاهر قوله في آخر المسألة، وترجع المرأة على زوجها بذلك، فالقولان قائمان من هذه الرواية، والقول الأول هو القياس، على حكم الاستحقاق في البيوع؛ لأن ما استحق من يدها هو عوض بضعها فلما فات البضع بالعقد عليه لما يوجبه من الحرمة، وجب أن يرجع بقيمته، وهو صداق المثل. وقد قيل: إنه لا يفوت بالعقد إذا استحق الصداق، وهو عرض قبل الدخول المفسد النكاح، والقول الثاني هو المشهور في المذهب، ويختلف أيضا هل يحال بينه وبين وطئها حتى يعطيها حقها، أو يتمادى على وطئها؟ في ذلك اختلاف وتفصيل.
وقد مضى بيانه مستوفى في رسم الطلاق من سماع أشهب، من كتاب النكاح، فلا معنى لإعادته. وبالله التوفيق.

[: تصدق عن امرأته وابن لها ببعض حائط فأرادت المرأة أن تبيع حصتها]
ومن كتاب البر وسئل مالك: عن رجل تصدق عن امرأته وابن لها صغير، ببعض حائط، فأرادت المرأة أن تبيع حصتها، وأراد الأب أن يبيع لابنه، فقال له مالك: أحبس هو؟ قال: لا ولكنه صدقة بتلا، قال: يبيعون إن أحبوا أو يمسكون، فقيل له: إن الابن صغير في حجره، وقد أراد أن يبيع، نظرا له، أفترى على المشتري في ذلك شيئا؟ قال: لا، قيل: وهل ترى للأب أن يبيع؟ قال: نعم.

(13/392)


قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة صحيحة لا إشكال فيها، ولا تفتقر إلى بيان. وبالله التوفيق.

[مسألة: طلب لرجل منزلا يكريه إياه فقال ليس هو لي هو لابنتي]
مسألة وسئل: عن رجل طلب لرجل منزلا يكريه إياه، فقال: ليس هو لي، هو لابنتي، حتى أستشيرها في ذلك، فمات الأب، وطلبت الابنة المنزل، فأشهدوا لها من قول أبيها، قال: لا أرى ذلك ينفعها، إلا أن تكون حازت ذلك، ويكون لها على صدقتها أو هبتها شهود، وحيازة. قال أبو بكر لعائشة: لو كنت حزينة كان لك، وإنما هو اليوم مال وارث. فقيل له: فلو كانت الابنة صغيرة في حجره. قال: لا أرى هذا شيئا قد يعتذر الرجل بمثل هذا لمن يريد أن يمنعه، ولا أرى ذلك بشيء، ولا يكون لصغيرة كانت أو لكبيرة، إلا أن يكون شهود على الصدقة وحوز من الكبيرة.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في أول سماع أشهب من كتاب الدعوى والصلح، مثل ما في رسم العشور وسماع عيسى منه، إن ذلك لا يوجب الشيء المقر به للمقر له، إذا لم يقصد بذلك إلى الإقرار، وإنما قصد به إلى الاعتذار، ويلزمه اليمين إن لم يكن المقر له ابنة، وادعى ذلك الشيء ملكا لنفسه قديما، يقر بذلك الإقرار، فإن نكل عن اليمين حلف المقر له واستحقه، قال ذلك أصبغ في رسم العشور المذكور، وهو مفسر لقول مالك وابن القاسم، وهذا إذا عرف الأصل المقر، وأما إن لم يعرف الأصل له، وإقراره للمقر له، وإن كان على هذا الوجه من الاعتذار، عامل على ما في رسم الكبش من سماع يحيى من كتاب العتق. ودليل ما في رسم العشر المذكور، وسواء على مذهب مالك قال في اعتذاره هو لفلان، وقد تصدقت به عليه، أو وهبته له، أو بعته منه، يبين ذلك ما وقع له في أول سماع أشهب

(13/393)


بعد هذا من هذا الكتاب. وقال أصبغ: إذا قال وهبته أو تصدقت به أو بعته، فهي حقوق قد أقر بها على نفسه، يريد فيؤخذ بها إذا ادعى ذلك المقر له بغير هذا الإقرار. وقد اختلف إذا خطبت إلى رجل ابنته، فقال: قد زوجتها فلانا، فطلب ذلك المقر له، على ثلاثة أقوال: أحدها: أن النكاح يجب له طلبه بذلك القول أو بقول متقدم، وهو أحد قولي أصبغ، وإليه ذهب ابن حبيب. والثاني: الفرق بين أن يطلبه بذلك القول أو بقول متقدم، وهو قول ابن كنانة في كتاب الدعوى وقول أصبغ، وروايته عن ابن القاسم، في رسم النكاح من سماع أصبغ من كتاب النكاح. والثالث: أنه لا شيء له، طلبه بذلك القول، أو بقول متقدم، وهو قول ابن المواز، وبالله التوفيق.

[: يتصدق بماله كله لله ويتخلى منه]
ومن كتاب أوله باع غلاما وسئل: عن الرجل يتصدق بماله كله لله، ويتخلى منه. قال: إن كان صحيحا فلا بأس، واحتج في ذلك بقول أبي بكر حين ندب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صدقة أبي بكر حين أتى بماله كله، وليس لورثته إن كانوا له أن يمنعوه هذا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن ذلك جائز للرجل إذا كان صحيحا ليس لورثته أن يمنعوه من ذلك. والأحسن للرجل أن يبقي على نفسه بعض ماله، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] . وقوله: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29] .

(13/394)


وقوله: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] .. وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صدقة إلا عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول» ، «وقال كعب بن مالك: "إن من توبتي أن أنخلع من مالي. فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك» ، وروي «أن رجلا تصدق بكل شيء له في زمن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "قد قبلت صدقتك» فأجاز الثلث، وروي «أن رجلا أعطى ماله في زمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "أبقيت للوارث شيئا، فليس لك ذلك ولا يصح لك أن تستوعب مالك".» «وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي لبانة بن عبد المنذر حين تاب الله عليه قال: يا رسول الله، أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأجاورك وأنخلع من مالي صدقة لله ولرسوله، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يجزيك من ذلك الثلث".» ومما يدل على الأفضل للرجل أن يبقي على نفسه بعض ماله، وأنه يكره له أن يتصدق بجميعه، أن من نذر أن يتصدق بجميع ماله، لا يلزمه عند مالك وجميع أصحابه أن يتصدق منه إلا بثلثه، لقوله «- عَلَيْهِ السَّلَامُ - لأبي لبانة، وقد نذر أن يتصدق بجميع ماله: "يجزئك من ذلك الثلث» ، وأما صدقة أبي بكر بجميع ماله فقيل: إنها كانت لاستيلاف الناس واستنقاذهم من الكفر، وذلك حينئذ واجب. قاله اللخمي وفيه نظر. وبالله التوفيق.

(13/395)


[مسألة: يشتري المتاع في الحج لبعض أهله ثم يموت]
مسألة وسئل مالك: عما يشتريه الرجل في مثل الحج وغيره من الثياب وغير ذلك، ويقول: هذا لامرأتي، وهذا لابنتي، وهذا لابني، ثم يموت، قال: أراه بين الورثة، إلا أن يشهد عند قوله وهو في يديه، ويقول: اشهدوا أن هذا لامرأتي أو لابنتي فإن أشهد بذلك لهم. والذي يبعث بالشيء إلى الرجل على مثل هذه الحال إن مات الذي بعث.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة سواء، من أنه إذا أشهد في سفره فيما اشتراه أنه لأهله، جاز ذلك لهم، وإن مات وهو في يد قبل أن يصل. ونص في هذه الرواية على الزوجة، فدل ذلك من قوله على أن ذلك جائز لمن يجوز له من أهله كولده الصغار، ولمن لا يجوز لهم منهم، كولده الكبار، والزوجة، ومن أشبههم وذلك كالنص منه على ذلك لتنظيره ذلك، بالذي يبعث بالشيء إلى الرجل على مثل هذا الحال إن مات الباعث قبل أن يصل المبعوث معه إلى المبعوث إليه، فجعل ما اشتراه في سفره، وأشهد عليه أنه لأحد من أهله فمات قبل أن يصل وهو في هذه بمنزلة ما بعت به فمات وهو بيد الرسول قبل أن يصل، ولا إشكال في مسألة الرسول؛ لأن الرسول قابض للمبعوث إليه، وحائز له عند الواهب الباعث، خلاف ما تأوله ابن القاسم على مالك من أن معنى ذلك عندي فيمن يحوز له من صغار ولده. وقع في التفسير الثالث: سألت ابن القاسم عن قول مالك في الرجل يشتري المتاع في الحج لبعض أهله ثم يموت قبل أن يبلغهم ذلك المتاع، إنه لهم ولا حيازة عليه فيه.
قلت: لم رأى ذلك مالك لهم وهو لم يبين من يده مع رسول فيكون دفعه إلى الرسول كالحوز؟ فقال: إنما محمل هذا عندنا عن قول مالك: إنه

(13/396)


إنما أراد أن يكون اشتراه لأصاغر ولده، ولمن يلي من بناته ممن يكون جائزا عليهم، فيكون اشتراؤه إذا أشهد لهم عند الشراء، بمنزلة الهبة والعطية والصلة إذا أشهد عليها.
قال محمد بن رشد: وصار جائزا لهم، وخلاف ما رواه علي بن زياد عن مالك، من أن الإشهاد لا ينفع في ذلك إلا من تجوز عليه من ولده الصغار، وأما الولد الكبير والأجنبي، فلا يجوز إلا أن يجوزه غيره، فلم يقدره في رواية علي بن زياد عنه بكونه في السفر، وعدم من يسلمه فيه يحوز لهم، وكذلك ابن القاسم. وعذره بذلك مالك في هذه الرواية وفيما وقع له في المدونة، وذلك على ما ذكرناه من الاختلاف في رسم تأخير صلاة العشاء، وفي الرجل يتصدق على ابنه الكبير الحاضر معه بالدار الغائبة عنه فيموت قبل أن يصل الابن إليها ولم يفرط.

[: له ابنان فتصدق على أحدهما بعبد وهو صغير]
ومن كتاب أوله صلى ثلاث ركعات وسئل مالك: عن رجل كان له ابنان، فتصدق على أحدهما بعبد وهو صغير، ثم كبر الغلام وهو في ولاية أبيه، فأعتق أبوه العبد الذي تصدق به على ابنه، وأعاض ابنه عبدا هو أدنى من ذلك العبد أو مثله. قال مالك: إن كان ذلك وهو في ولاية أبيه، فإن ذلك جائز له، وإن كان قد وَلِيَ نَفْسَهُ لم أر ذلك؛ لأنه إن شاء قال لا أجيز ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا على أصله، وما يأتي له في رسم استأذن من سماع عيسى بعد هذا من أن عتق الرجل عند ابنه الصغير، يجوز إن كان له مال، وتكون قيمته له عليه، ولا يجوز له عتق عبد ابنه الكبير، فإذا أعتق عبد

(13/397)


ابنه الصغير، الذي وهبه إياه وأعاضه عبدا آخر مثله أو أرفع منه، مضى ذلك وجاز. وأما إن كان العبد الذي أعاضه أدنى منه، فظاهر الرواية أن ذلك جائز على ابنه، والقياس أن يكون له على أبيه تمام قيمته إن كان له مال، وإن لم يكن له على أبيه تمام قيمته إن كان له مال، وإن لم يكن له مال، ورق منه للابن ما راد على قيمة العبد الذي أعاضه به، إلا أن يطول ذلك على ما قال في الرجل يعتق عبد ابنه الصغير، ولا مال له؛ لأن العبد قد وجب له بصدقة أبيه عليه وحيازته له، إلا أن يفرق في هذا بين حيازة الأب لابنه الصغير، وحيازة الكبير لنفسه، فيقال: إن الرجل إذا وهب لابنه الصغير عبدا ثم أعتقه، فعتقه جائز، كان له مال أو لم يكن، بخلاف إذا أعتق عبده الذي صار له بميراث أو شراء أو هبة من غرة، فهو ظاهر قوله في هذه الرواية.
وقوله: وإن كان قد ولي نفسه لم أر ذلك؛ لأنه إن شاء قال: لا أجيز ذلك - معناه: إن كان قد قبضه وحازه على ابنه، وأما إن كان أعتقه قبل أن يقبضه، فعتقه جائز له، عوضه منه بغيره أو لم يعوضه، على ما قاله في المدونة وغيرها ولا خلاف فيه.

[مسألة: أخذا صدقة ليقسماها فوجدا مدبرة هل ترى أن يخرجا منها في مدبرة فيعتقاها]
مسألة وسئل: فقيل له: إن ابن أبي حازم وأبا صخرة وضع عندهما الوالي صدقة ليقسماها، فوجدا مدبرة، هل ترى أن يخرجا منها في مدبرة فيعتقاها؟
قال محمد بن رشد: خلاف مذهبه في المدونة من أنه لا يباع المدبر ممن يعتقه، وإنما الذي يجوز أن يأخذ سيده فيه مالا على أن يعتقه، فيكون ولاؤه له، فلا يجوز على مذهبه في المدونة للرجل أن يشتري مدبرا فيعتقه من زكاته، وقد اختلف إن فعل، هل يجزيه أم لا؟ فيجزيه على القول بأن من اشترى مدبرا فأعتقه لا يرد ولا يجزيه، على القول بأن من اشترى مدبرا فأعتقه يرد، والقولان في نوازل أصبغ من كتاب زكاة العين، فيلزم على قياس هذا

(13/398)


في اللذين جعل الوالي عندهما صدقة ليقسماها ألا يخرجا منها في مدبرة، فيعتقاها فإن فعلا ضمانها إن فات المدبر ولم يوجد على القول بأنه يرد ولم يلزمهما شيء على القول بأنه لا يرد، ويحتمل أن يكون معنى ما في هذه الرواية، أنهما وجدا مدبرة تباع في موضع يجوز بيعها فيه، فلا يكون على هذا التأويل قول مالك هذا، خلاف لما في المدونة وغيرها، بالله التوفيق.

[: رجل تصدق له على ابن له صغير بمائة شاة]
ومن كتاب أوله مرض وسئل مالك: عن رجل تصدق له على ابن له صغير بمائة شاة، وكتب ذلك في كتاب، قال: ثم لبث سنة، ثم كتب كتابا آخر تصدق فيه على ابنه ذلك برمك هي أفضل من الغنم، وتصدق بتلك الغنم على امرأته في ذلك الكتاب، ولم يكتب في ذلك الكتاب إلا الرمك عوضا من تلك الغنم، غير أن الذي تصدق به في هذا الكتاب الآخر، أفضل مما حق له إلى غيرها.
قال مالك: إن كان ابنه صغيرا في ولاية أبيه، جازت له الرمك الذي كتب له في الكتاب الآخر، وسقطت الغنم، وذلك أنه حين أعطى زوجته الغنم، قد انتزعها، وإنما ذلك كهيئة ما لو باع الغنم وخرجت من يده، فلا أرى له إلا الرمك إذا كان في ولاية أبيه أو كان كبيرا فحاز ذلك الابن وقبضه، كانت له، وإن كانت أفضل من الغنم.
قال محمد بن رشد: وجه ما ذهب إليه مالك في هذه الرواية، أنه رأى ذلك لما كان في كتاب واحد، معاوضة لابنه، وإن لم يذكر في الكتاب أن

(13/399)


الرمك، إنما أعطاها له عوضا من الغنم، فجاز ذلك على الابن إذا كان صغيرا في حجره، كما لو باع الغنم عليه بالرمك من غيره. فقوله: وإنما ذلك بمنزلة ما لو باع الغنم وخرجت من يده - يمضي على قوله: وذلك أنه حين أعطى زوجته الغنم قد انتزعها، إذ لا يصح انتزاعها منه؛ لأنها صدقة، والصدقة لا تعتصر، ويلزم على قياس هذا الذي وجهنا به قول مالك وحملناه عليه من أنه رأى ذلك بيعا للغنم على ابنه الصغير من نفسه بالرمك، لا يجوز ذلك، على أنه إن كان كبيرا إلا برضاه، حاز الغنم أو لم يحزها، فإن رضي بذلك جاز، وإن ليحز الرمك؛ لأنها ليست بموهوبة، وإنما هي ثمن للغنم الموهوبة، ففي قوله: وإن كان كبيرا فحاز ذلك الابن وقبضه كانت له، وإن كانت أفضل من الغنم نظر؛ لأن ذلك من قوله يدل على أنه لم ير ذلك معاوضة له عن الغنم بالرمك، وإنما رآه انتزاعا، الغنم وهبة للرمك، ولذلك شرط الحيازة فيها والانتزاع في الغنم لا يصح لأنها صدقة. وبالله التوفيق.

[: يعطى الرجل العطية لمن يبره منهم]
ومن كتاب أوله نذر سنة يصومها
وسئل مالك: عن الرجل يكون له ولد فيبره بعضهم، فيريد أن يعطيه من ماله دون بعض، أذلك له؟ قال: نعم، لا بأس به، ذلك له.
قال محمد بن رشد: إنما أجاز مالك أن يعطى الرجل العطية لمن يبره منهم؛ لأنه لم يقصد بذلك إلى تفضيل بعض ولده على بعض، وإنما أعطى البار جزاء على بره وحرم العاق أدبا لعقوقه، فلا مكروه في ذلك إن شاء الله. وإنما المكروه أن يفضل بعض ولده على بعض، فيخصه بعطية، مخافة أن يكون ذلك سببا إلى أن يعقه الذي أحرمه عطيته، أو يقصر فيما يلزمه من البر به، حسبما مضى القول فيه في رسم الشجرة.

(13/400)


[مسألة: يعطي بعض ولده جل ماله ويترك سائرهم]
مسألة وسئل: عن الرجل يعطي بعض ولده جل ماله، ويترك سائرهم، قال: إن ذلك ليكره، ولقد أعطى أبو بكر عائشة عشرين وسقا. وإن القضاة والأمراء ليمضون ذلك، فقيل له: أفترى أن يرد؟ فقال: إنه ليكره، وما قال في الرد شيئا.
قال محمد بن رشد: ظاهر قوله: إنه أجاز للرجل أن يعطي لبعض ولده العطية دون بعض، إذا لم يكن ذلك جل ماله. ومثل هذا في رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب، خلاف ما يدل عليه قوله في المسألة التي قبل هذا.
فتحصيل القول في ذلك أنه لا اختلاف أنه يكره للرجل أن يهب لبعض ولده دون بعض جل ماله، ويختلف في هبة الرجل الأقل من ماله لبعض ولده دون بعض، فقيل: إنه جائز لا بأس به، وهو قوله في هذه الرواية، وفي رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب. وقيل: إنه مكروه على ظاهر حديث النعمان بن بشير. وهو مذهب ابن القاسم، على ما ذكرنا في رسم الشجرة، ودليل قول مالك في المسألة التي قبل هذه. وأما هبة الرجل جميع ماله لبعض ولده دون بعض، فقيل: إن ذلك لا يجوز ويرد، وهو مذهب مالك على ما مضى في رسم الشجرة، ويأتي في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب، وقيل: إنه مكروه، وهو مذهب ابن القاسم حسبما ذكرناه في رسم الشرة، وبالله التوفيق.

[مسألة: يتصدق على ابنه بالغنم]
مسألة وسئل: عن الرجل يتصدق على ابنه بالغنم، أيكتسي من

(13/401)


صوفها؟ قال: نعم، لا أرى بذلك بأسا ويأكل من لحومها ويشرب من ألبانها إذا أعطاها ابنه، فقيل له: فالحائط يتصدق به على ولده، أيأكل من ثمرة إذا أطعمه؟ قال: نعم، لا بأس بذلك. قال ابن القاسم: ولم أره مثل الأجنبي.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم حلف ألا يبيع رجلا سلعة سماها، فلا معنى لإعادته.

[: قوم كان لهم في منزل صدقة من جدهم]
ومن كتاب أوله المحرم يتخذ الخرقة لفرجه قال: وسئل مالك: عن قوم كان لهم في منزل صدقة من جدهم، وإنما خربت وألقى الناس عليها نقلهم، وكانَ أَهْلُ الصَّدَقَةِ رَجُلًا وَأُخْتَيْنِ لَهُ، وأنهم أرادوا أن يصلحوا، فقالت لأخيها: لو ضربت هذا النقل لنا فَطَوَّبْتُهَا وبعتها وأصلحت هذا المنزل وبنيته؟ فإن كان فيه كفافا كذلك، وإن زدت من عندك، فاحتجت أن ندخل معك فيه، رددنا إليك ما أنفقت. قال: أرى ذلك جائزا له، ولكني أرى أن يأتي السلطان حتى يكون هذا الذي يأذن له، قال: إنه لا يخاصمه أحد، قال: قد أعرف، ولكن أحب إلي أن يأتي السلطان حتى يأذن له بذلك القاضي، فهو أحب إلي.
قال محمد بن رشد: إنما رأى أن لا يفعل ذلك إلا بإذن السلطان، من أجل أنه حبس له مرجع النظر فيه إلى السلطان، فرأى ألا يحدث فيه شيئا إلا بإذن السلطان الذي إليه النظر في المرجع لئلا يغير الحبس عما كان عليه.

(13/402)


[: تصدق على امرأته بخادم له]
ومن كتاب أوله اغتسل على غير نية وسئل مالك: عن رجل تصدق على امرأته بخادم له وهي معه في البيت، فكانت تخدمها على حالها ما كانت عليه، قال: إذا كانت تخدمها فلا أراها إلا لها.. قال سحنون: وكذلك لو كان رهنها خادما. فكانت عندها تخدمها على حال ما كانت، إن الرهن جائز، وإن حوزها لها حوز، وقال سحنون: من أحوز لها منها؟
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى تحصيل القول فيها في رسم الشريكين من سماع ابن القاسم من كتاب الرهون. وقلنا: إنه يتحصل فيها ثلاثة أقوال فيما بين الصدقة والرهن:
أحدها: إن ذلك جائز، وهي حيازة في الرهن والصدقة، وهو قول سحنون في هذه الرواية؛ لأنه إذا رأى الحيازة عاملة في الرهن، فأحرى أن يراها عاملة في الصدقة.
والثاني: إنها غير عاملة فيهما جميعا، وهو قول مالك في رسم الشريكين من سماع ابن القاسم من كتاب الرهون وقوله في رسم الوصايا بعد هذا من سماع أشهب؛ لأنه ضعيف الحيازة في الوضعين في الصدقة، فأحرى أن يضعفها في الرهن.
والثالث: الفرق بين الصدقة والرهن، وهو قول ابن القاسم في سماع أصبغ من كتاب الرهون، وكذلك لو تصدقت هي بالخادم التي تخدمها على زوجها، أو رهنته إياها بدليل ما وقع في رسم الوصايا من سماع أشهب بعد هذا من استدلاله بهبتها له على هبته لها؛ لأن أيديهما جميعا على الخادم، فمرة على يده، ومرة على يدها، والأظهر أن يغلب يده، فيفرق بين أن تكون هي التي وهبته أو رهنته، وبين أن يكون هو الذي وهبها أو رهنها؛ لأن يده أقوى من يدها، بدليل أنه لم يختلف قول مالك وابن القاسم في أن القول قول الزوج إذا اختلفا في متاع البيت، وهو مما يكون للرجال والنساء. وقد قيل: إنه لا يد لها معه. فالقول قوله إذا اختلفا في متاع البيت، وإن كان ذلك من متاع النساء. وبالله التوفيق.

(13/403)


[مسألة: تصدق على ابنه بمائة دينار وأفرزها ثم تسلفها]
مسألة وسئل: عن رجل تصدق على ابنه بمائة دينار، وأفرزها ثم تسلفها ومات الأب وهي عليه، قال: لا أرى لابن فيها حقا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضت والكلام عليها في أول رسم من السماع ومضى أيضا في رسم طلق فلا معنى لإعادة ذلك.

[: تصدقت على أبيها وأمها بصدقة ثم تتزوج فتطلب ذلك]
ومن كتاب الأقضية من سماع أشهب وابن نافع عن مالك رواية سحنون قال سحنون: قال لي أشهب وابن نافع: سئل مالك: عن امرأة تصدقت على أبيها وأمها بصدقة، ثم تتزوج، فتطلب ذلك، قال: ليس ذلك بشيء من المرأة المولاة، وذلك عليها رد. قال ابن نافع: ولو تزوجت ودخل بها زوجها، فأقامت سنتين أو أكثر من ذلك، ثم قامت بعد ذلك، وقالت: لم أكن أعلم أن ذلك لا يلزمني، رأيت ذلك لها وتحلف.
قال محمد بن رشد: قوله: إذا أقامت مع زوجها سنتين أو أكثر من ذلك تحلف، وكذلك يرد عليها ما تصدقت به على أبيها وأمها، يدل على أنه حكم لها بحكم الرشد والخروج من ولاية أبيها بمقامها عند الزوج سنتين أو أكثر. وهي رواية غراه أغفلها الشيوخ المتقدمون، وحكموا برواية شاذة منسوبة إلى ابن القاسم، لا يعلم لها موضع: أنها لا تخرج من ولاية أبيها، ويحكم لها بحكم الرشد إلا بمقامها عند زوجها سبعة أعوام، ورواية ابن القاسم عن مالك: أنها لا تخرج من ولاية أبيها حتى تدخل فيها ويعرف من حالها، أي: يشهد العدول على صلاح حالها، وفي ذلك اختلاف كثير، يتحصل فيها

(13/404)


ثمانية أقوال، وأما البكر التي لا أب لها فإذا دخلت بيتها وأقامت مع زوجها سنة واحدة، حكم لها بحكم الرشد، وملكت أمرها، ما لم يعرف سفهها. وبالله التوفيق.

[مسألة: اشترى مالا فسئل أن يقيل البائع منه فقال قد تصدقت به على النبي]
مسألة وسئل مالك: عمن اشترى مالا، فسئل: أن يقيل البائع منه، فقال: قد تصدقت به على النبي، ثم هلك الرجل، ولم يوجد إلا قوله ذلك. قال: ما أرى هذا يقطع.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم البز، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[: نحل ولده نحلا من غنمه ووسمها لهم بأسمائهم]
ومن كتاب الأقضية الثاني وسئل: عمن نحل ولده نحلا من غنمه، ووسمها لهم بأسمائهم، وليست لهم بينة إلا الرسم، وأنه ذكر ذلك عند موته، فقال: ليس ذلك بشيء إن لم يكن عليه البينة؛ أشهدهم في حياته وصحته، فأرى أن يجعل ميراثا. وقد قال في الكتاب الذي فيه الوصايا والحج، في رجل نحل ابنه خيلا ووسمها بوسمه، ثم تركها في خيل أبيه يركبها: إنه ليس له في ذلك شيء.
قال محمد بن رشد: قوله: نحلة الرجل ولده عددا من غنمه إذا وسمها ولم يشهد عليها في صحته حتى ذكر ذلك عند موته: إنها لا تصح له، وتكون ميراثا - بَيِّنٌ لا إشكال فيه؛ لأن الوسم يميزها من جملة غنمه، ولا يحقق النحل بها إلا إشهاده عليها. فإن وسمها وأشهد على نحلها في صحته جازت له باتفاق. واختلف إن أشهد على أنه نحله عددا منها دون أن

(13/405)


يعينها باسم أو سمة أو نحلة جزءا مشاعا منها، هل تصح حيازتها له؟ فقيل: إنها تصح في الوجهين، وقيل: إنها لا تصح في واحد منهما، وقيل: إنها لا تصح في الجزء المشاع، ولا تصح في العدد المسمى دون أن يعين باسم أو سمة، ولا اختلاف في ذلك من قول مالك. وقد مضى ذكر ذلك وتحصيله في رسم طلق من سماع ابن القاسم من هذا الكتاب. هو في رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب الحبس فلا معنى لإعادته.
وقوله: إن وسمها بوسمة، يريد: وشهد عليها ثم تركها في جملة خيله يركبها، إنه ليس له ذلك في شيء - يبين أن مذهبه فيما عدا الملبوس والمسكون كالملبوس والمسكون، إن انتفع الأب بشيء من ذلك كله بعد الصدقة أو الهبة، كما كان ينتفع به قبل أن يهب أو يتصدق، وبطلت الهبة والصدقة، خلاف ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ، أن مساعدا المسكون والملبوس من الأشياء كلها بحيازة الأب إياها للصغير بالإشهاد عليها والإعلان بها كما جاء عن عثمان بن عفان. قالوا: وسواء كانت أرضا فأحدثها أو أكراها أو منحها، أو كانت جنانا فأكل ثمرتها، أو أطعمها أو باعها باسمه، أو اسم ولده، أو كان غلاما فخارجه لولده ولنفسه، أو اختدمه، أو كانت دابة فركبها، أو حمل عليها، أو كانت ماشية فاحتلبها، أو أكل رأسها فاحترث بها أو درس عليها، أو مصحفا فقرأ فيه، أو قويا فرمى عنها. هذا كله جائز، والصدقة ماضية.
قال ابن الماجشون: وهذا الذي سمعناه من علمائنا وجميع أصحابنا، والذي مضت به أحكام حكامنا، وقول أصبغ في نوازله بعد هذا من هذا الكتاب. وأما ما أردت من اختلاف الغنم واحتراث البقر، وخدمة العبيد إذا كانت الصدقة فيهم بأعيانهم، فإذا كان من ذلك الأمر الخفيف والأمر المخرج مرة للابن، ومرة للأب، ومرة ينتفع هذا، ومرة ينتفع هذا، ومرة بعض لهذا، فهذا جائز، وتكون حيازة وصدقة تامة. قول ثالث في المسألة فتدبر ذلك. وقد تأول فضل عن ابن القاسم من رواية أصبغ عنه مثل قول مطرف وابن الماجشون، فقال: رأيت في كتاب ابن حبيب بخط يده في سماعه من رواية

(13/406)


أصبغ عن ابن القاسم في صدقة البتل والحبس على ولده الصغار، أن حيازته لهم حيازة، وإن كان هو القائم بأمرهم، والناظر لهم في الكراء، أو أجنبي، ثمرة أو اغتلال، غلة. أو ما تحتاج إليه الصدقة من مرض أو إصلاح حين يبلغوا الحور، قال فضل: فقوله: أو جني ثمرة أو اغتلال غلة، أو ما يحتاج إليه، قريب مما في داخل الكتاب، وتأويل فضل عن ابن القاسم هذا، تأويل بعيد، كأن الظاهر من قوله: إنه جنى الثمرة واغتل الغلة، لولده لا لنفسه، بدليل قوله: وإن كان القائم بأمرهم، والناظر لهم في كراء أو جني أو اغتلال. فقف على ذلك وتدبره، وإنما أجاز ابن القاسم للواهب والمتصدق الانتفاع بما وهب أو تصدق، ولم يزد لك قدحا في حيازة الموهوب له أو المتصدق عليه في مثل الزوجين يهب أحدهما صاحبه الخادم التي يكون معها في المنزل، إذ لا يعذر الواهب على الانفكاك من الانتفاع بما وهب أو تصدق، لكونه معه في منزل واحد بيد الموهوب له حسبما يأتي من قوله في رسم سلف في سماع عيسى. وقد مضى ذلك من قول مالك عليها مستوفى في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم، ومضت المسألة أيضا في سماع أشهب، وبالله التوفيق.

[مسألة: ينحل ولدا دون أولاد وله مال سوى ما نحل]
مسألة وسئل: عن حديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الذي نحل ابنا له عبدا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أكل ولدك نحلت؟ قال: لا، فقال: أرجعه» فقال مالك: وذلك رأيي؛ لأنه لم يكن له مال غيره، قلت له: فإن لم يكن له مال غيره رده، فقال: إن ذلك ليقال، ولقد قضى به في المدينة، فأما الذي ينحل ولدا دون أولاد وله مال سوى ما نحل، فذلك جائز فلا بأس به. قد

(13/407)


نحل أبو بكر الصديق عائشة، وقال فيه عمر وعثمان ما قالا، فلو كان هذا الحديث ما جهله أبو بكر ولا عمر ولا عثمان، ولكن في رأي - لم يكن له مال عنده.
محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذه المسألة على رسم الشجرة من سماع ابن القاسم قبل هذا، وفي رسم نذر سنة، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[: نحل ولدا له نخلا فلم يحزها أحد منهم حتى مات أبوهم]
ومن كتاب الوصية الذي فيه الزكاة والحج وسمعته: يسأل: عمن نحل ولدا له نخلا فلم يحزها أحد منهم حتى مات أبوهم، فقال: إن كان أشهد على ذلك وعرف النخل بعينه، فمن كان منهم صغيرا فذلك له، ومن كان منهم كبيرا قد بلغ الحيازة فلم يحز فلا شيء له، إلا أن يكون ضعيفا لا يلي نفسه فذلك له، وما كان من جارية قد بلغت في حجر أبيها لم تبين فذلك أيضا لها.
قال محمد بن رشد: قول مالك هذا: إن من كان منهم صغيرا فذلك له، ومن كان منهم كبيرا فلا شيء له، هو مثل قوله في رواية علي بن زياد وابن نافع عنه في المدونة ومثل قول ابن وهب في سماع عبد الملك بعد هذا خلاف قول ابن القاسم في المدونة وفي رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب الحبس.
قد مضى هناك ذكر هذا الاختلاف وتوجيهه مستوفى فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

(13/408)


[مسألة: تصدق على امرأته أو ابنه بالعبد وهو مسافر]
مسألة وسمعته: يسأل: عن رجل تصدق على امرأته أو ابنه بالعبد وهو مسافر، والعبد في يد الذي تصدق به عليه على وجه الاختدام، فتصدق به عليه، ويشهد على ذلك شهودا وهو مسافر، ثم يموت المعطي أو المعطى قبل أن يعلم المعطى الذي تصدق به عليه، فقال: إن كان أمره على وجه الإنفاذ، وأشهد من يرى أنهم يبلغونها ذلك، أو يبلغون ابنه، فإن ذلك جائز، فأما أن يشهد بكذا من لا يعرف المرأة ولا الولد، ولا يكتب إليهما فمتى شاء، قال هذا لي، قد رجعت فيه، لا هي تعلم أن ذلك لها، ولا الشهود يعلمونها، فلا أدري ما هذا.
قال محمد بن رشد: وأما إذا مات المعطى المتصدق عليه قبل المعطي المتصدق، فورثته يقومون مقامه، وينزلون منزلته في القول أو الرد إذا علموا قبل موت المعطي المتصدق، وأما إن مات المعطي المتصدق، قبل موت المعطى المتصدق عليه، وقد علم، فلم يقل: قد قبلت حتى مات المتصدق، فقول ابن القاسم في المدونة: إنه لا شيء له؛ لأنه لم يرى سكوته مع كون الهبة بيد رضا منه بها، وقبولا لها، وقول أشهب فيها: إنها له ندي أسكوته مع كون الهبة بيده رضا منه بها وقبولا لها؟ فقال: إن كونها في يديه أحوز، وأما إن مات المتصدق قبل أن يعلم المتصدق عليه، فقول مالك في هذه الرواية: إن ذلك جائز له إذا كان أمره على وجه الإنفاذ، وأشهد من يرى أنهم يبلغونه ذلك، فهو شذوذ؛ لأن ذلك يقتضي أن هبة الأموال لا تفتقر إلى القبول، وأنها تجب للموهوب له بنفس الهبة حتى لو مات الموهوب له قبل أن يعلم لورثت عنه، ولم يكن لورثته أن يردوها لا على وجه الهبة إن قبل ذلك الواهب، وهو بعيد، إنما يصح ذلك في الحرية إذا قال الرجل لعبده قد وهبتك

(13/409)


نفسك، أو قد وهبت لك عتقك، فهو حق قبل أو لم يقبل، قاله في العتق من المدونة لأن الواهب في مثل هذا لم يهب لأن ينظر قبول من وهب له، كالأموال التي توهب، فإن قبلها الموهوب له، وإلا رجعت إلى الواهب، ولا اختلاف أحفظه في هذا سواء قول مالك الشاذ في هذه الرواية، ولو علم بالهبة ولم يعلم منه قبول لها حتى مات الواهب لجرى ذلك على ما ذكراه من اختلاف قول ابن القاسم وأشهب ويقول أشهب أخذ سحنون فقال لو وهب رجل لغريمه الغائب ماله عليه، وأشهد له، ثم مات الواهب قبل أن يعلم قبول الغائب أن الهبة جائزة، يريد وقد علم أنه قد علم بالهبة قبل موت الواهب.
فتحصيل القول في هذه المسألة: أن الرجل إذا وهب شيئا هو في يده أو دينا هو عليه، فإن علم في حياة الواهب وقبل، جازت له الهبة باتفاق، وإن علم ولم يقبل حتى مات الواهب، جازت الهبة على قول أشهب، وبطلت على قول ابن القاسم. وإن لم يعلم بالهبة حتى مات الواهب، بطلت الهبة باتفاق، لافتقار الهبات إلى القبول، إلا على هذه الرواية الشاذة، ولو وهب رجل شيئا هو بيده لرجل غائب، فأخرجه من يده، وجعله على يدي من يجوز له الصلح له، وإن يعلم حتى مات الواهب، بخلاف إذا كان الشيء الموهوب بيد الموهوب له الغائب؛ لأنه إذا كان بيده بإذن الواهب، فكأنه في يد الواهب، حتى يعلم بالهبة، فيكون بعلمه بها جائزا لنفسه، وإنما اختلف على قولين في الوصية، فقيل: إنها تجب للموصى له بموت الموصي مع القبول بعد الموت، وهو المشهور المعلوم. وقيل: إنها تجب له بموت الموصي دون القبول، وهو أحد قولي الشافعي. فعلى قوله: إن مات الموصي له قبل أن يعلم وجبت الوصية لورثته، ولم يكن لهم أن يردوها إلا على وجه الهبة لورثة الموصي إن قبلوا. وبالله التوفيق.

[مسألة: نحلت ابنا لها صغيرا غلاما وابنها معها وللابن أب ومال]
مسألة وسمعته: يسأل عن امرأة نحلت ابنا لها صغيرا غلاما، وابنها

(13/410)


معها وللابن أب ومال، فلم يجزه الأب ولا الولي حتى ماتت الأم، أترى ذلك حوزا؟ فقال: ذلك يختلف، أما الغلام الذي هو للخراج، فإني لا أرى ذلك للصبي حوزا، وأما الغلام الذي إنما هو للخدمة يخدمه ويختلف معه، ويقوم في حوائجه، وهو في ذلك مع أمه، فإني أراه حوزا وأراه له جائزا، وإنما ذلك عندي بمنزلة الرجل نحل ولده الغلام، يكون معه يخدمه ويختلف معه إلى الكتاب، وهو في ذلك مع أبيه، فيكون له حوز وله حائزا، فهذا مثله.
قال محمد بن رشد: وللابن أب وله مال فلم يجزه الأب ولا أخ ولا الولي، كلام ناقص، وكماله: وللابن أب أو لا أب له، وله مال في يد وليه، أي: وصيه، فلم يجزه الأب إن كان له أب، ولا الولي إن لم يكن له أب. وفي كتاب ابن المواز بإثر هذه المسألة: قال ابن القاسم وأشهب: إن لم تكن الأم وصية فليست حيازتها حيازة على مال، ويحوز لهم السلطان، أو يولي عليهم أو بتخرجه الأم من يدها إلى غيرها، فتحوز لهم، فتكلم مالك في الرواية على الوجهين جميعا، على أن الصبي المنحول، له أب غير ساكن مع أم الصبي الناحلة، وعلى أنه لا أب له. وتكلم ابن القاسم وأشهب في كتاب ابن المواز على أن الصبي لا أب له. والمعنى في المسألتين سواء فلم يراع في الرواية كون العبد مع الأم الناحلة في منزل واحد، ورأى الصبي هو الحائز له باختدامه إياه وراعى ذلك ابن القاسم وأشهب، وغلباه على اختدام الصبي إياه فرأياها هي الحائزة له دونه، فلم يجيزا حيازتها له، إلا أن تكون وصية، وهو الأظهر؛ لأنه إنما يخدمه ويتصرف له بالأمر وتحت نظره لصغره، فهي الحائزة له، ولو كان كبيرا سفيها، لكان قول مالك في الرواية أظهر. والله أعلم؛ لأن كون يدها مع العبد ومع السفيه الكبير، أضعف منها مع الابن الصغير، ولو كان صغيرا لا يعقل ابن سنة ونحوها لما جازت حيازة الأم له باتفاق، والله أعلم. ولو كان الصبي منفردا بالسكنى وحده دون الأم، لكان

(13/411)


حائزا له باختدامه إياه، وكونه معه قولا واحدا. وكذلك لو كان كبيرا سفيها منفردا بالسكنى وحده دون أمه الناحلة، ولو كان الأب ساكنا مع الأم، لكان هو الحائز باتفاق. وأما العبد الذي هو للخراج، فلا إشكال في أنه لا يحوزه له عن أمه إلا الأب.

[: يهب هبته ثم يأتي يطلب ثوابها فيقول قد أثبتك]
ومن كتاب الأقضية الأول قيل لمالك: أرأيت الذي يهب هبته، ثم يأتي يطلب ثوابها، فيقول: قد أثبتك؟ قال: عليه البينة أنه قد أثابه وإلا حلف الواهب ما أثابه، قال: إنه لم يشهد على الهبة، فقال: هو مثل البيع، يقول: بعتك هذا الثوب، فيقول: نعم، ولكني وفيتك ثمنه، فعليه البينة أنه قد وفاه، وإن لم يكن لصاحب الحق على أصله بينة. قال: وقد سألت اليوم عمن وهب شاتين منذ أربعة أشهر، ثم جاء اليوم يطلب الثواب، فيقول: قد أثبتك، ولا بينة بينهما. فقلت: يحلف صاحب الشاتين على المنبر ما أثابه هو، مثل البيع.
قال محمد بن رشد: في بعض الكتب في هذه الرواية: عند المنبر، وفي بعضها: على المنبر. فأما ما في منبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يحلف عليه؛ لأن أحدا ... وقد قال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من حلف على منبري إثما تَبَوَّأَ مقعده من النار» فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه: على، ولم يقل: عندي. وأما سائر المنابر في جوامع الأمصار فإنما يحلف الحالف عندها، لا عليها؛ لأن

(13/412)


الحرمة إنما هي لموضعها لا لها، بدليل أنه لو دار المنبر عن موضعه لإصلاح شيء فيه، لما حلف الحالف إلا في موضعه، لا عنده، بخلاف منبر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في هذا، وسائر المسألة يبين، لا يفتقر إلى كلام؛ لأن الهبة للثواب بيع من البيوع، وقد أحكمت السنة في التداعي فيها أن البينة على من ادعاها، واليمين على من أنكر؛ لأن الهبة للثواب، إذا طالت مدتها حتى يرى أن الواهب قد ترك الثواب، لم يكن له ثواب، بخلاف البيع؛ لأن طريقها المكارمة لا المكايسة. وقد مضى ذلك في رسم حلف ألا يبيع سلعة سماها. وبالله التوفيق.

[: امرأة دعتنا فأشهدتنا على رقيق لها أنهم صدقة على ابنتها]
ومن كتاب الأقضية الرابع وسئل مالك: فقيل له: إن امرأة دعتنا فأشهدتنا على رقيق لها أنهم صدقة على ابنتها، وكتبنا شهادتنا على أنه أمانة عندنا بأمانة الله، لا نشهد بها أبدا ما دامت حية حتى تموت، فشهدنا على ذلك، وكتبناها، فاحتاجت إلى تلك الشهادة ابنتها التي كانت الصدقة عليها، أترى لنا أن نقوم بها؟ قال: أراها قد قالت لكم: لا تشهدوا بها حتى أموت، وهذه الشهادة لا تنفع ابنتها، فقيل له: لا تنفع ابنتها. قال: نعم، لا تنتفع ابنتها.
قال محمد بن رشد: تكررت هذه المسألة في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب من كتاب الشهادات، وبالله الموفق.

[مسألة: تصدق بدار له على مواليه وأولادهم]
مسألة وسئل: عمن تصدق بدار له على مواليه وأولادهم، وأولاد

(13/413)


أولادهم ما بقي منهم أحد، فإذا انقرضوا فمرجعها إلى ولده، فلم تزل كذلك حتى لم يبق منها إلا رجل واحد، فعمد إليه بعض الذين إذا مات الموالي رجعت إليهم من ورثة المتصدق، فتكاراها منه عشرين سنة، فقام ورثة المتصدق، فقالوا: لا نجيز هذا نخاف أن يموت هذا المولى في عشرين سنة، فتقوم علينا بحيازتك، فقال مالك: إن هذا المولى إذا مات في السنتين وانفسخ الكراء، ولقد أكثر هذا في السنين، فقيل: أجل، إنه إذا مات في السنين انفسخ الكراء، ولكنه شاب وهم يخافون طول حياته وطول حيازة هذه الدار، إذا تكاراها عشرين سنة، قال: فليكتبوا عليه بذلك كتابا ويتوثقوا عليه فيه.
قال محمد بن رشد: أجاز في هذه المسألة اكتراء الدار عشرين سنة، من الذين صارت إليه بالتحبيس من عقب الموالي، والكراء ينتقض بموته؛ لأنها حبس عليه لا حق له فيها إلا ما دام حيا.
ومعنى ذلك: ما لم ينفذ؛ لأنه إن نفذ فمات انتقض الكراء، فرجع إلى المكتري كراء ما بقي من المدة، فكان سلفا منه، وقيل: إن الكراء لا يجوز إلى مثل هذه المدة الطويلة، وإن لم ينفذ، وهو ظاهر ما في كتاب الوصايا الثاني من المدونة فيمن أوصى له خدمة عبد حياته، إنه لا يجوز له أن يكريه إلا الأمد القريب: السنة والسنتين والأمر المأمون الذي ليس ببعيد، ولم يفرق بين النقد وغيره، ففي القريب يجوز الكراء بالنقد وبغير النقد، على ظاهر ما في المدونة لابن المواز، ويحتمل أن يحمل ما في المدونة من إجازة الكراء على الأمد القريب على ألا ينفذ، فالكراء في القريب يجوز بغير نقد باتفاق، وفي البعيد لا يجوز بالنقد. ويختلف هل يجوز بغير النقد في البعيد، وبالنقد في القريب؟ على قولين.
وقد نص على ذلك في كتاب ابن المواز. وقع فيه بإثر هذه المسألة، قال مالك: لا يدفع في كرائها، ولكن يكريها قليلا قليلا، وكذلك قال عبد

(13/414)


الملك، إلا أنه قال: السنة والسنتين. ونحن لا نرى بأسا ما لم يقع النقد إلا في مثل السنة والسنتين. فإن وقع الكراء في السنين الكثيرة، على القول بأنه لا يجوز ذلك، فعثر على ذلك، وقد مضى بعضها، فإن كان الذي بقي يسيرا لم يفسخ، وإن كان كثيرا فسخ له. قاله في كتاب محمد، ولم ير في الرواية حجة للقائم من الورثة على المكتري فيما ذكره، من طول الحيازة؛ لأنها غلة ترتفع بالإشهاد كما ذكره. وذلك معارض لما في أول رسم من سماع أشهب، من كتاب الأقضية في الذي يكون له الممر في حائط الرجل، إنه ليس له أم يحظره، وإن لم يجعل عليه بابا فلا يطول الأمر فينسى حقه. وبالله التوفيق.

[: يهب الجارية لامرأته فيدفعها إليها]
ومن كتاب الوصايا الذي فيه الحج والزكاة وسئل: عمن يهب الجارية لامرأته فيدفعها إليها، ويشهد لها عليها، فتكون عندها على حالها تخدمها وتخدمه على نحو ما تخدم الخادم زوج سيدتها. أترى ذلك منها حوزا؟ فقال: إن هذا لإلى الضعف ما هو. قيل له: قد أشهد لها عليها ودفعها إليها وإنما تخدمها وتخدمه، على نحو ما تخدم الخادم زوج سيدتها. قال: أرأيت لو وهبت هي لزوجها خادما وأشهد له عليها، أو متاع بيتها ثم أقام على حاله بأيديهما تنتفع به على نحو مما تنتفع به بخادم زوجها وبمتاعه الذي هو في بيتها، أيكون له ذلك إذا ماتت؟ ما هذا بمستقيم، ولكن لو خير ذلك وأخرج من ماله التي هو عليها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم اغتسل من آخر سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته. وبالله التوفيق.

(13/415)


[: بيع الحائط مساقاة والعامل فيه]
ومن كتاب مسائل بيوع من كراء قال: وسئل: عن الذي يهب ثمن حائط هذه السنة ثم يريد أن يبيع أصل الحائط من رجل آخر، فقال: لا يصلح أن يبيعه ما لم تؤبر الثمرة، ولو باعه بعد أن توبر لم يكن له بأس.
قال محمد بن رشد: لابن القاسم في رسم الصلاة من سماع يحيى بعد هذا: إن ذلك لا يجوز، إلا أن يبيع الأصل في دين رهنه إذا ألجئ إلى ذلك من فلس، وهو مثل قوله في المدونة: إن الغرماء إذا أقاموا على صاحب الحائط البينة فلهم أن يبيعوا الحائط. والمساقاة كما هي، إذ لا فرق بين أن يكون ثمر الحائط أو بعضه قد وجب قبل بيع الحائط لغير رب الحائط بهبة أو بمساقاة.
وقد روى أشهب عن مالك إجازة بيع الحائط مساقاة والعامل فيه لم يذكر تفليسا ولا غيره، فهي مسألة فيها ثلاثة أحوال:
أحدها: إن ذلك لا يجوز في فلس ولا غيره؛ لأن ذلك بمنزلة ما لو باع حائطه واستثنى ثمره قبل الإبار أو قبل الطلوع وهو نص قول غير ابن القاسم في مسألة المساقاة في المدونة إن لم يجز ذلك في الفلس فأحرى لا يجيزه في غير الفلس.
والثاني: إن ذلك جائز في الفلس وغيره؛ لأن البائع لم يستثن الثمرة لنفسه، فيكون باستثنائها كأنه اشتراها، وإنما علم بوجوبها لغيره، فهو عيب تبرأ منه في بيعه.
والثالث: الفرق بين الفلس وغيره، وهو قول ابن القاسم في سماع يحيى في مسألة الهبة، وقوله في المدونة في مسألة المساقاة، وكان سحنون فيما حكى عنه ابن عبدوس يستحسن قول غير ابن القاسم، في أن ذلك لا يجوز، في فلس ولا غيره؛ لأنه من بيع الأصل، واستثناء ثمرته، ثم رجع إلى قول ابن القاسم ورآه من جنس الضرورة؛ لأن أصحابنا يجوزون عند الضرورة من البيع ما لا يجوزونه عند غير الضرورة، والذي أقول به: إن ذلك جائز في الفلس وغيره؛ لأن بيع

(13/416)


الحائط واستثناء ثمرته قبل أن تؤبر إنما لم يجز على قياس القول بأن المستثني بمنزلة المشتري؛ لأنه يصير كأن رب الحائط قد باع حائطه بما سمى من الثمن وبالثمرة التي استثناها، وهذا لا يتصور إذا كانت الثمرة قد وجبت قبل بيع الحائط لغير رب الحائط، وعدم علة المنع، توجب الجواز، وبالله التوفيق.

[: مولى عليه موسع عليه تصدق على أمه بإذن وليه]
ومن كتاب الأقضية الثاني قال أشهب: وسمعت مالكا، وسئل: عن مولى عليه موسع عليه تصدق على أمه بإذن وليه بدار له حياتها، ثم مرجعها إليه وإلى ولده، قال: ما أرى ذلك له، فقيل له: فكيف الأمر في ذلك؟ وقد شهدنا عليه بإذن وليه، هو أتانا بذلك، وسألنا، فقال: سلوهم أن يمحوا شهادتكم، فإن أبوا، فارفعوا ذلك إلى الناظر حتى يجيزه أو ينقضه، كيف تشهدون على مثل هذا وأنتم قوم تطلبون العلم وتنظرون فيه؟
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة؛ لأن الوصي لم يقدم على اليتيم إلا ليحوز عليه ماله، ويمنعه من إبذاره وإتلافه بالهبات والصدقات، وشبه ذلك.
وقوله: فإن أبوا فارفعوا ذلك إلى السلطان حتى يجيزه، معناه: حتى ينظر في أمره، فإن بان له رشده أمضاه، وكفى من الدليل على بيان المسألة توبيخ مالك لمن قصر فهمه عن إدراك معناها، وبالله التوفيق.

[مسألة: تصدق على أخ له بعبد صدقة]
مسألة وسئل: عمن تصدق على أخ له بعبد صدقة بتلا على أمه إن مات فالعبد إليه رد، وإن مات المتصدق قبل فالعبد لك بتلا.

(13/417)


قال مالك: فأيهما مات قبل؟ فقيل: المعطي. فقال: ما أراه إلا راجعا إلى المعطي؛ لأنه كأنه أعطاه ذلك حياته.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن أول قوله مرتبط بآخره، فليست بصدقة مبتلة، بما شرط عليه فيه، من أنه إن مات قبله فهي عليه رد؛ لأن ذلك يقتضي ألا يكون له فيها تفويت ببيع ولا بغيره، ما دام المتصدق حيا حتى يموت، فآل أمرها إلى أنه أوصى له بها بعد موته، وعجل له الانتفاع بها طول حياته، فوجب إن مات المتصدق عليه، فله أن يرجع إليه كما شرط، وإن مات المتصدق قبله بثلث له من ثلثه، على معنى الوصية إن كان غير وارث كذلك، قال ابن نافع فيها: إنه إن مات المعطى قبل نظر، فإن كان الأخ وارثا لم يجز له ما صنع، وكان مردودا، يريد: إلا أن يجيز ذلك الورثة، وإن كان الأخ غير وارث جاز ذلك في الثلث. وبالله التوفيق.

[: تصدق بدار له أو حائط على ولده وولد ولده صدقة]
ومن كتاب الأقضية الثالث وسئل: عن رجل تصدق بدار له أو حائط على ولده وولد ولده صدقة بتلا لا مثوبة فيها ولعقبهم فمات ولده كلهم، ولم يتركوا إلا بنتا لبعض ولده الذكور، فأرادت أن تبيع، فقال: ماذا لها؟ فقيل له: إنه لم يجعل حبسا، إنما قال: صدقة بتلا لا مثوبة فيها، فقال: هذه أراها لهم يبيعونها في دينهم، فقيل له: إنه جعلها لهم ولأعقابهم، قال: ليس لهم أن يبيعوها، فقيل له: فقد ماتوا كلهم، حتى لم يبق منهم إلا امرأة واحدة، فأرادت أن تبيع، ولم يجعل ذلك حبسا، أترى لها ذلك؟ قال: نعم، في رأيي أرى ذلك لها. هذا إنما جعلها لهم، ولم يحبسها فالبنت تبيع؛ لأن ولدها

(13/418)


ليس بعقب، وليس لها في هذا حق. والولد الذكر ليس له أن يبيع لأن ولده عقب.
قال محمد بن رشد: قد قيل: إنها ترجع بمرجع الأحباس، ولا يكون لآخر العقب ملكا. قال ابن عبدوس: وهو قول أكثر أصحابنا، ومثله في المدونة لبعض رجال مالك، إلا أن يقول: وهو لآخر العقب ملكا، فيكون ذلك كما قال. وتخرج المسألة من الاختلاف، وهي في كتاب ابن المواز، قال: إذا قال: داري محبسة على ولدي وعقبهم وهي الآخر منهم بتلا. قال: تكون كذلك للآخر منهم بتلا، وهي قبل ذلك محبسة، إلا أن يمضي للآخر، وسواء قال: هي للآخر، أو قال: هي الآخر، فإن كان أحدهم امرأة باعت إن شاءت، أو صنعت ما شاءت قد صارت مالها، وإن كان رجلا ممن يرجى له عقب حبست ولم تبع، فإن مات قبل أن يولد له ولد، كانت ميراثا للورثة؛ لأنه حين مات تبين أنها كانت له. وبالله التوفيق.

(13/419)