البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة [: كتاب
الصدقات والهبات الثاني] [رجل صالح مالك
لأمره تصدق على آخر مثله بميراثه من أبيه إذا مات والأب باق]
من سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم من كتاب نقدها نقدها قال عيسى: وسئل
ابن القاسم: عن رجل صالح مالك لأمره، تصدق على آخر مثله بميراثه من أبيه
إذا مات، والأب باق، أيجوز له؟ فقال: لا أرى أن يجوز هذا، قال ابن القاسم:
ولا أقضي به عليه، وهو أعلم؛ لأنه أمر لا يدري قدره، ولا يعلمه، لا يدري كم
يكون ألف دينار؟ فلا أدري ما هو؟ وهو أعلم.
قال محمد بن رشد: قوله: لا أرى أن يجوز هذا، معناه: لا أرى أن يجوز هذا
عليه، أي: لا يلزمه، إذ ليس بأمر يجب رده وفسخه لفساده، يبين ذلك قوله بعد
ذلك: ولا أقضي به عليه، وهو أعلم؛ لأنه أمر لا يدري قدره، ولا كم يكون؟
فإنما قال: إن ذلك لا يلزمه، من أجل أنه لم يدر قدره ما وهب، إلا من أجل
أنه وهب مالك يملك، إذ لم يهبه اليوم، فيكون قد وهب ما لم يملكه بعد، وإنما
أوجب ذلك على نفسه يوم يموت أبوه، فيجب له ميراثه، كمن قال: إن ورثت فلانا
واشتريته فهو حر، يلزمه ذلك، بخلاف قوله: هو اليوم حر، وقوله في هذه
الرواية: إن ذلك لا يلزمه خلاف ما يأتي من قوله في رسم الأقضية والحبس من
سماع أصبغ: إن ذلك يلزمه، إلا أن يقول: كنت ظننت أنه يسير، ولو علمت أنه
بهذا القدر ما وهبته، ويشبه ذلك من قوله: فيحلف على ذلك، ولا يلزمه، فاتفقت
الروايتان جميعا على أن
(13/421)
الواهب لميراثه في مرض الميت، ليس بواهب
لما لم يملكه بعد، وإنه إنما هو واهب له إذا ملكه بقوله المتقدم قبل أن
يملكه، واختلفا في هل يلزمه إذا مات قوله بقوله المتقدم قبل أن يملكه،
واختلفا في هل يلزمه إذا مات قوله المتقدم قبل أن يموت؟ فقال في هذه
الرواية: إنه لا يلزمه إذا لم يدر يوم أوجبه على نفسه، كم يكون يوم الموت؟
وقال في رواية أصبغ: إن ذلك يلزمه، إلا أن يقول: لمن أظن أنه يكون هذا
المقدار؟ فيحلف على ذلك، ولا يلزمه ومن أهل النظر من ذهب إلى معنى رواية
أصبغ أن الصدقة كانت بعد موت الأب، ولذلك ألزمه الصدقة، إلا أن يقول: لم
أظن أن ميراثي منه مبلغ هذا المقدار، فيحلف على ذلك ولا يلزمه، خلاف
الرواية التي قال فيها: إنه يصدق والأب باق، وقال: إن الصدقة إذا كانت
والأب باق، فهي غير جائزة على ما قال في هذه الرواية.
قال: وهو الذي يأتي على مذهبه في آخر الوصايا الثاني من المدونة؛ لأن
الوارث لا يملك ميراثه في مرض الموت، فيجوز عليه فيه هبته، وإنما الذي له
في مرضه التحجير عليه في أن يوصي بأكثر من ثلثه، أو يوصي لبعض ورثته. فهذا
الذي إذا أذن له فيه لزمه على ما قاله في المدونة، وأما أن يهبه هو لأحد
فلا.
قال: وفي الموطأ ما يدل على أنه لا يجوز للوارث أن يهب ميراثه في مرض
مورثه، وليس ذلك عندي بصحيح، بل الذي في الموطأ أن هبة الوارث بميراثه في
مرض الموروث جائز لازم، وليس في المدونة عندي ما يخالف ذلك، ولا في هذه
الرواية؛ لأن حمل بعضها على التفسير أيضا نص على خلاف ذلك لاحتمال أن يريد
أن الصدقة وقعت في صحة الموروث قبل مرضه، وهذا أولى ما حملت عليه حتى تتفق
الروايات؛ لأن حمل بعضها أولى من حملها على الخلاف، فقوله على هذا: إنه إذا
وهب ميراثه في صحة الموروث، لم يجز عليه، وإن كان له أن يرجع عنه على معنى
هذه الرواية، ولا نص خلاف في ذلك، وإنما يدخل فيه الخلاف بالمعنى، إذ لا
فرق في حقيقة القياس في ذلك بين الصحة والمرض. وإذا وهب ميراثه في مرض
الموروث الذي مات منه لزمه، ولم
(13/422)
يكن له أن يرجع عنه، إلا أن يتصدق به، وهو
بظنه يسيرا فينكشف له أنه كثير، فيحلف على ذلك، ولا يلزمه على ما قاله في
رسم الأقضية والحبس من سماع أصبغ، ولا نص خلاف في ذلك، أن جوازه بين في
الموطأ ويدخل في ذلك الخلاف على ما حكيته عن بعض أهل النظر، فيتحصل في جملة
المسألة ثلاثة أقوال: الجواز في الصحة والمرض، وعدم الجواز فيهما، والفرق
بينهما. وقد مضى هذا في رسم العتق من سماع عيسى من كتاب الشهادات.
وأما إذا وهب ميراثه من أبيه بعد أن مات أبوه، فذلك جائز باتفاق، وإن كان
لا يعرف قدره؛ لأن هبة المجهول جائز، قال في المدونة: وإن لم يدرك كنه
مورثه إن كان سدسا أو ربعا أو خمسا. ومثله لأشهب في كتاب ابن المواز. وقال
محمد بن عبد الحكم: تجوز هبة المجهول، وإن ظهر له أنها كثيرة بعد ذلك. وقول
محمد بن عبد الحكم خلاف قول ابن القاسم في رسم الأقضية، والحبس من سماع
أصبغ، إذ لا فرق في الصحيح من التأويل بين أن يهبه في مرض أبيه أو بعد
موته، وقد قال بعض المتأخرين على معنى ما في المدونة: إنه إذا عرف قدر
الميراث فالهبة جائزة، عرف نصيبه من ذلك أو جهله، وإذا جهل قدر الميراث
فالهبة باطل، عرف نصيبه من ذلك أو جهله، وإذا جهل قدر الميراث، فالهبة
باطل، عرف نصيبه من ذلك أو جهله، وهذا غير صحيح، لا فرق في حقيقة القياس،
بين أن يجهل قدر المال أو قدر نصيبه منه، إذا جهله جملة ينبغي أن يجوز في
الوجهين جميعا، إلا أن يكون ظن أن ذلك أقل مما انكشف في الوجهين، فيحلف على
ذلك، ولا يلزمه على قول ابن القاسم، ويلزمه على قول محمد بن عبد الحكم.
وأما إن شك فيها بين الجزأين، مثل أن يكون الزوج لا يدري إن كان يرث النصف
أو الربع، فيكون للتفرقة بين ذلك وبين الذي يجعل قدر المال وجه، وهو أن
الذي يشك فيما بين الجزأين، قد رضي بهبة أكثرهما، فوجب أن يلزمه، وبالله
التوفيق.
(13/423)
[: تصدق على
ولده بناض دنانير أو دراهم]
ومن كتاب أوله أول عبد استأذن سيده في تدبير جاريته قال: وسئل مالك: عن
امرأة هلكت وتركت أباها وابنها وابنتها وزوجها وهو أبوهما، وتركت متاعا
وحليا وصداقا، فأراد أن يتصدق أبوها على الصبيين، فقال لأبيهما: إن تصدقت
بمصابك من امرأتك، فيما لها عليك من الصداق، وفي حليها وفي متاعها، وجميع
ما تركت على ولدك منه، فمصابي منها في جميع ما تركت صدقة عليهما، فقال
أبوهما: نعم، قد تصدقت بجميع مصابي منها عليهما وأشهد لهما بذلك، فمات الجد
والأب، والصبيان طفلان، والمتاع والحلي وجميع ما تركت في أيد أبيهما،
والصداق عليه كما هو.
قال ابن القاسم: أما المتاع والحلي وما تركت هو الصداق الذي عليه، فهو
لهما؛ لأن حوز أبيهما لهما حوز، وأما الصداق فليس لهما منه شيء، لا من
مصابة جدهما، ولا من مصابة أبيهما؛ لأن الجد إنما تصدق عليهما، على أن
يتصدق أبوهما عليهما، فإنه لم يتصدق أبوهما عليهما، فليس لهما من صدقة
جدهما شيء؛ لأن أباهما لم يفرز لهما من صدقة الصداق، إذ لم يفرز لهما ذلك،
ويجعله لهما على يد غيره؛ لأن الأب إذا تصدق على ولده بناض دنانير أو دراهم
لم تجز صدقته إلا أن يجعل ذلك على يدي غيره، فإذا لم يجعل ما عليه من
الصداق بيد غيره، فلم يتصدق عليهما منه بشيء، ولم يقدر لهما شيئا، فلا شيء
لهما من الصداق، لا من مصابة أبيهما، ولا من مصابة جدهما.
قال ابن القاسم: ولو كان الصداق الذي عليه عرض موصوف، لم يجز لهما منه أيضا
شيء لو تصدق عليهما بعبد موصوف أو سلعة موصوفة،
(13/424)
ليست بعينها ثم مات قبل أن يحوزها لهما لم
يجز لهما منه شيء، إذا كان الموصوف عليه نفسه، مثل أن يقول: قد تصدقت على
ابني بعبد من صفته كذا وكذا، فلا يجوز. ولو كان لأبيه على رجل أجنبي عبد
موصوف، فتصدق على ابنه، جازت صدقته، قبضها الأب أو لم يمض حتى مات.
قلت: أرأيت إذا تصدق عليه بدنانير له على رجل فقبضها الأب قبل أن يموت، ثم
مات وهي في يديه؟ فقال مالك: الصدقة له جائزة، وتؤخذ من ماله، إذ لأنها قد
خرجت مرة حين كانت على الغريم.
قلت: وكذلك لو تصدقت على ابن بمائة دينار، فوضعتها له على يدي رجل، ثم أراد
الرجل سفرا لو مات فأخذتها منه ثم مات. وهي في يده أكانت له؟ قال: نعم، هي
له تؤخذ له من مالها إذا حيزت له مرة واحدة، فقد حيزت، لا يبالي قبضها الأب
بعد ذلك أم لم يقبضها وهي بمنزلة الدار، يتصدق بها على ولده، فيحوزها عنه
السنتين أو الثلاثة، ثم يسكن بعد ذلك فيها بكراء أو غيره، ثم يموت، فالصدقة
جائزة للذكر، وكل صدقة حيزت مرة فهي جائزة.
قال محمد بن رشد: أما إذا تصدق على ولده بحظه الذي يجب له بالميراث من
الصداق الذي عليه لزوجه، عينا كان أو عرضا، فلا اختلاف في أنه يجوز للابن
إذا مات الأب وهو عليه كما هو، إذ لا يكون جائزا لابنه ما هو في ذمته، لو
قال: أشهدكم أني قد وهبت لابني كذا وكذا دينارا أوجبتها له في ذمتي لم يجز
ذلك، وكانت باطلا إذا مات وهي عليه قبل أن يحضرها. وأما قوله: إن ذلك لا
يجوز للابن حتى يحوز ذلك ويجعله لهما على يد غيره؛ لأن الأب إذا تصدق على
ولده بناض دنانير أو دراهم، لم تجز صدقته، إلا أن يجعل ذلك على
(13/425)
يدي غيره، فهو مثل ما تقدم من قوله في رسم
طلق من سماع ابن القاسم، ومثل أحد قولي مالك فيه، ومثل قوله في أول رسم من
السماع المذكور، خلاف قول مالك في الموطأ، وخلاف ما ذهب إليه أصحابنا
المدنيون، من أنها جائزة للابن إذا عزلها وطبع عليها، وإن لم يضعها له على
يدي غيره، وقد مضى بيان ذلك في الرسمين المذكورين من سماع ابن القاسم.
ولا اختلاف فيما ذكره من أنه إذا تصدق على ابنه الصغير بالدين يكون له على
رجل فقبضه، أو بالدنانير فوضعها على يد غيره، ثم قبضها منه عند سفره، أو من
ورثته بعد موته، إنها جائزة للابن تؤخذ له من ماله بعد وفاته، كالدار إذا
تصدق بها على من يحوز لنفسه، يحوزه إياها ثم رجع بعد مدة أقلها العام إلى
سكناها. كذا قال في رسم أوصى بعد هذا: إن حد ذلك السنة وما أشبهها، فوقع في
بعض الكتب أيضا في هذه الرواية: فيحوزها عنها السنتين أو السنة، وهو مثل ما
في رسم أوصى، ولا يشترط في الدين الذي يتصدق به على ابنه ثم يقبضه أن يبقى
على الذي هو عليه بعد الصدقة حولا كاملا؛ لأنه لم يزل محوزا عنه. وأما
الدنانير التي كانت بيده فتصدق بها على ابنه، ووضعها له على يدي غيره ثم
قبضها منه، فذلك عندي كالدار، إن قبضها منه باختياره لغير عذر من سفر أو
موت قبل الحول، بطلت الحيازة، وكذلك الدار، لو رجع الأب إلى سكناها قبل
الحول لعذر، مثل أن ينتقل الابن عن البلد قبل الحول، أو يكون غائبا حين
تصدق عليه، فيضعها له على يدي غيره، فيموت أو يسافر قبل الحول. وبالله
التوفيق.
[مسألة: الرجل يتصدق بعبد لابنه أو يهبه أو
يعتقه أو يتزوج به ولا مال له]
مسألة قال: وسألته عن الرجل يتصدق بعبد لابنه، أو يهبه أو يعتقه أو يتزوج
به ولا مال له. قال مالك: أما الهبة والصدقة فلا تجوز، إن كان له مال، وأما
العتق فإن كان له مال وكان في ولايته فالعتق جائز، وللولد قيمته في مال
أبيه، فإن كان ولد قد
(13/426)
حاز نفسه، وبان منه، فلا يجوز عتقه، وأما
التزويج فإنه جائز للمرأة، دخل بها أو لم يدخل، إن كان ولد يليه، وكذلك
سمعنا مالكا يقول: ذلك جائز، ولم يقل دخل بها أو لم يدخل، ووجدناه في مسائل
عبد الرحيم، فإن لم يكن الأب فقال حين أعتقه، لم يجز عتقه إلا أن يتطاول
ذلك.
قال محمد بن رشد: فرق ابن القاسم بين أن يعتق الرجل عبد ابنه الصغير، أو
يتزوج أو يتصدق به، فقال: إن العتق ينفذ إن كان موسرا ويغرم القيمة لابنه،
ويرد إن كان معدما إلا أن يطول الأمر فلا ترد القيمة، قال أصبغ: لاحتمال أن
يكون حدث له في خلال ذلك يسر لم يعلم به. وأما إن علم أنه لم يزل عديما في
ذلك الطول، فإنه يرد، وقال: إن الصدقة ترد، موسرا كان أو معدما، فإن تلفت
الصدقة بيده المتصدق عليه بأمر من السماء، لم يلزمه شيء، وغرم الأب القيمة
وإن فاتت بيده باستهلاك أو أكل، والأب عديم، لزمه غرم قيمتها، ولم يكن له
على الأب رجوع، فإن كان عبدا فأعتقه مضى عتقه، وغرم الأب قيمته، إن كان له
مال، فإن لم يكن له مال، رد عتقه، إلا أن يتطاول ذلك، بمنزلة إن أعتقه
الأب، وإن كانت جارية فاتخذها المتصدق عليه أم ولده، لزمته إن لم يكن للأب
مال، بمنزلة ما فوت باستهلاك أو أكل، هذا الذي يأتي في هذا على مذهب ابن
القاسم في القسمة من المدونة. ولا أحفظ له فيه نصا.
وقال مطرف وابن الماجشون: إن كان تصدق الأب بمال ولده، وهو موسر، أو معسر
ثم أيسر، غرم القيمة، ومضت الصدقة للمتصدق عليه، فإن أعسر بعد ذلك ولم يوجد
له مال، وكان المتصدق عليه نقد أفات الصدقة بعتق أو اتخاذ أو أكل أو
استهلاك، غرم القيمة واتبع بها الأب، وإن كانت قد فاتت عنده بأمر من
السماء، لم يكن عليه شيء، وإن كان الأب تصدق به وهو معسر فاتصل عدمه، وقد
أفات المتصدق عليه الصدقة غرم قيمتها، ولم يكن له على الأب رجوع؛ لأنه فعل
(13/427)
ما لا يجوز. وقال في التزويج: إن المرأة
أحق به، دخل بها أو لم يدخل، موسرا كان الأب أو معسرا، ويتبع الابن أباه
بقيمته. قال في رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب النكاح: يوم أخذه وأصدقه
وامرأته تريد يوم تزوج عليه، لا يوم دفعه؛ لأنه بيع من البيوع، كذا قال ابن
القاسم في غير هذا الكتاب. فظاهره: وإن لم تقبضه المرأة. وروى أصبغ عن مالك
وابن القاسم أن الابن أحق به من المرأة ما لم تقبضه المرأة، ما لم يطل في
يديها بعد القبض، وأما إن قام بعد القبض، باليوم واليومين، والأمر القريب،
فهو أحق به، ويكون كالاستحقاق، وتتبع المرأة الأب بقيمته، وسواء على ما ذهب
ابن القاسم الذي نص عليه في هذه الرواية، دخل الأب بالمرأة أو لم يدخل بها،
وفرق مطرف بين أن يدخل بها أو لا يدخل، ورواه عن مالك.
وقال ابن الماجشون: الابن أحق، دخل الأب أو لم يدخل، قبضت الزوجة أو لم
تقبض، طال الأمر أو لم يطل، وهذا الاختلاف إنما هو إذا كان الأب معسرا،
وأما إن كان موسرا، فالزوجة أحق قولا واحدا. وحكم ما باعه الأب من مال ولده
الصغير في مصلحة نفسه، أو حابى فيه - حكم ما وهبه أو تصدق، يفسخ في القيام،
ويكون الحكم فيه في الفوات على ما ذكرته في الهبة والصدقة، غير أنه إذا عدم
يرجع على الأب بالثمن، وأجاز أصبغ فعل الأب كله في مال ابنه من الهبة
والصدقة والعتق والإصداق في القيام والفوات، في العسر واليسر، لقول النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أنت ومالك لأبيك» فعلى ظاهر الحديث لا فرق بين
الصغير والكبير، وهو قول أشهب في رواية ابن أبي جعفر عنه، سئل: عن الرجل
يتزوج بمال ابنه أو يعتق أو يهب أو بيع؟ قال: إن كان موسرا يوم فَعَلَ فذلك
جائز، وإن كان معسرا لم يجز، ورد وأخذ الابن ماله، كان الابن صغيرا أو
كبيرا، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنت ومالك
لأبيك»
(13/428)
[: يتصدق بثلثي
غنمه على ابنه]
ومن كتاب العرية في الذي يتصدق بثلثي غنمه على ابنه. قال: ولا يسأل ابن
القاسم، وسئل: عن رجل قال: غنمي ثلثاها لابني صدقة عليه، وثلثها صدقة في
سبيل الله. فأقامت في يديه زمانا، ثم عدا عليها فباعها، ثم مات، وابنه صغير
في حجره. قال: صدقة الابن ثابتة، يأخذها من ماله، وأما الثلث الذي سمي في
سبيل له، فهو لا شيء، ولا شيء في ذلك من مال الميت؛ لأنه لم يخرجه حتى مات.
وأما صدقة الابن فهي جائزة له؛ لأنه هو الحائز له.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم إن خرجت من
سماع عيسى من كتاب الحبس، فاكتفيت بذلك عن إعادته هاهنا وستأتي المسألة
أيضا في أول رسم من سماع أصبغ بعد هذا من هذا الكتاب.
[مسألة: تصدق على رجل بثمن حائطه سنة]
المسألة وقال في رجل تصدق على رجل بثمن حائطه سنة، فيموت المتصدق عليه قبل
السنة، هل يكون لورثته؟ أو يكون تصدق على رجلين فيموت أحدهما قبل أن تؤبر
النخل، أو بعدما أبرت، هل ترى الموروثة شيئا؟
قال ابن القاسم: ذلك لورثتهما جائز للرجلين جميعا، الذي سألت عنه، وأما
الذي لا يكون لورثتهما شيء إنما ذلك فهي إذا مات أحدهما قبل أن تطيب، وكذلك
قال مالك.
قال محمد بن رشد: أما الثمرة المتصدق بها صدقة مبتولة، فلا اختلاف في أنها
ثورت عن المتصدق، وإن مات قبل أن تؤبر الثمرة، أو قبل أن
(13/429)
تطلع وأما الثمرة المحبسة على قوم
بأعيانهم، فقد اختلف في الحد الذي تجب الثمرة لهم، وتورث عنهم على ثلاثة
أقوال، قد ذكرناها وبينا ما يتعلق بمعناها بيانا شافيا في رسم اغتسل من
سماع ابن القاسم من كتاب الحبس فغنينا بذلك عن إعادته.
[مسألة: قال الغلام كله لفلان صدقة وليس له إلا
نصفه]
مسألة وسئل: عن الرجل تكون له الدار، وغلام بينه وبين رجل، فحضرته الوفاة،
فقال: الغلام كله لفلان صدقة، وليس له إلا نصفه. وقال: الدار التي بيني
وبين فلان على فلان صدقة كلها، ما ترى فيه؟ قال: أرى إن كان إنما تصدق
بالدار أو بالعبد على شريكه منهما، وقال هذه المقالة التي ذكرت، فليس
للشريك إلا حصة المتصدق، وإن كان تصدق بذلك على أجنبي، وقال هذه المقالة،
كانت الدار كلها أو العبد كله له، إن رضي شريكه أن يسلم ذلك بقيمته، رجع
ابن القاسم وقال: لا أرى للشريك ولا للأجنبي إلا نصيبه من ذلك، إلا أن
يقول: اشتروا له نصيب صاحبي، وَبَيَّنَ.
قال محمد بن رشد: وكذلك حكم الصدقة الباقية إذا لم يكن في وصيته، سواء تصدق
بالعبد كله، أو الدار كلها على شريكه في ذلك، لم يكن له إلا نصيبه المتصدق،
وإن تصدق بذلك على أجنبي فمرة رأى ابن القاسم أن للمتصدق عليه العبد كله،
أو الدار كلها، ويلزمه لشريكه قيمة حظه من ذلك، إن رضي شريكه أن يسلمه إليه
بقيمته، ومرة قال: إنه لا يلزمه الصدقة إلا بنصيبه من ذلك، إلا أن يقول: قد
تصدقت عليه بجميعه إن رضي شريكي أن يأخذ مني في نصيبه قيمة وجه القول الأول
أنه لما تصدق بجميعه لم يحمل على ظاهره من العداء بصدقة ما ليس دون عوض
يدفعه
(13/430)
فيه، وحمله على أنه إن أراد، إن رضي شريكه
بأخذ قيمة نصيبه منه. ووجه القول الثاني أنه حمل فعله على ظاهره من العداء
بصدقة ما ليس له، كما لو تصدق رجل على رجل بعبد لا حظ له فيه، لم يلزمه أن
يؤدي إلى صاحبه قيمته، وإن رضي بذلك، إلا أن يرضى هو بذلك.
والقول الأول أظهر؛ لأن البر وإرادة الخير والثواب قد ظهر منه في الصدقة
بنصيبه، فالأولى أن يحمل فعله كله على ذلك، ولا يحمل بعضه على التعدي، وأما
نصيبه فلا اختلاف في أن الصدقة تلزمه فيه، إلا يكون له مع شريكه فيه شركة
مع غيره مما يقسم معها قسما واحدا، ففي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها تقسم، فإن صار ذلك للمتصدق في سهمه، كان ذلك للمتصدق عليه، وإن
صار لشريكه له شيء، وهو قول ابن القاسم، على أن القسمة تمييز حق.
والثاني: أنه لا يكون للمتصدق عليه إلا حصة المتصدق من ذلك، فإن صارت
لشريكه، كان له من حق المتصدق من غيرها قدر ذلك، وهو قول ابن الماجشون، على
قياس القول بأن القسمة بيع من البيوع.
والثالث: أنه إن صار ذلك للمتصدق كان للمتصدق عليه، وإن صار لشريكه، كان له
من حظ المتصدق، من خيرها قدر ذلك، وهو قول مطرف.
واختلف إن كان العبد الذي تصدق بجميعه من مال قراض بيده فيه ربح، فقيل: إنه
تلزمه الصدقة بما يصيبه منه، وقيل: إنه لا يلزمه ذلك إذ لا يتقرر له فيه حق
إلا بعد نضوض رأس المال إلى صاحبه، لجواز أن يخسر فيما يستقبل، فيكون عليه
أن يجيز رأس المال ما يجب له من ربح هذه السلعة، والقولان قائمان من كتاب
القراض من المدونة. وبالله التوفيق.
[مسألة: تصدقت عليه بالمهر وهو عليه فقبل
الصدقة]
مسألة وسئل: عن رجل سأل امرأته أن تتصدق عليه بمهرها، فتصدقت عليه به، وكان
لها به كتاب، ثم إنه سخط فرد عليها الكتاب بعد ذلك بأيام، فقبلته بشهود، ثم
توفى الرجل، فهل ترى
(13/431)
لها شيئا؟ قال: لا شيء لها في ذلك الصداق،
وهو بمنزلة ما تصدق عليها به من ماله فلم يقبضه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لا إشكال فيه؛ لأنه لما تصدقت عليه
بالمهر وهو عليه، فقبل الصدقة منها بقبضه الكتاب، سقط عنه المهر، وصار رده
الكتاب إليها ابتداء صدقة على غير عوض، فوجب أن يبطل إذا مات وهو عليه قبل
أن يقبضه منه. وبالله التوفيق.
[: وكل آخر في التصدق بمائة دينار فمات المتصدق
قبل قبضها]
ومن كتاب يوصي لمكاتبه قال: وسئل ابن القاسم: عن رجل تصدق على رجل بمائة
دينار، وكتب إلى وكيل له ليدفعها إليه، فقدم على الوكيل بالكتاب، فدفع إليه
الوكيل خمسين، وقال له: اذهب، سأدفع إليك الخمسين الباقية، اليوم أو غدا،
فمات المتصدق قبل أن يقبض المتصدق عليه الخمسين الباقية من الوكيل، قال: لا
شيء له منها إذا لم يقبضها حتى مات المتصدق بها، وليس أكثر من الخمسين التي
قبض؛ لأن الوكيل بمنزلته.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن يد الوكيل كيد موكله، فلا فرق
بين أن يعده بدفع بقية ما تصدق عليه هو أو الوكيل إذا مات قبل أن يدفع ذلك
إليه. وبالله التوفيق.
[مسألة: يتصدق على الرجل بالأمة فلا يقبضها
المتصدق عليه حتى تلد أولادا]
مسألة قال: وسألته عن الرجل يتصدق على الرجل بالأمة فلا يقبضها المتصدق
عليه حتى تلد أولادا، هل يأخذها هي وولدها؟ قال: نعم، يأخذها وولدها؛ قلت:
فإن قتل بعض ولدها فأخذ السيد له
(13/432)
أرشا أو أصيبت هي بقطع يد أو رجل أو غير
ذلك، فأخذ السيد بذلك أرشا، هل يأخذها ويأخذ أرش ولدها وجسدها؟ قال: نعم،
يأخذها وأرش ولدها ويدها ورجلها وما أصيبت به.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو بين لا اختلاف فيه؛ لأن الأمة قد وجبت
له بالصدقة، وولدها الذي ولدته بعد الصدقة بمنزلتها، لقول النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -: «كل ذات رحم فولدها بمنزلتها» ، فلما يأخذها وولدها، فكذلك
يأخذ قيمة ولدها إذا قتل، وأرش ما أصيبت به في جسدها إذا جني عليها، وإنما
وقع السؤال على هذا القول، من يقول: إن الهبة والصدقة لا تلزم الواهب
والمتصدق، وله أن يرجع عنها ما لم يدفعها، ولا يحكم عليه بها إلا بعد
قبضها، وهو ما لا يقوله مالك ولا أحد من أصحابه عامة. وبالله التوفيق.
[مسألة: الحج والغزو أيهما أحب]
مسألة وسئل: عن الحج والغزو، أيهما أحب إليك؟ قال: الحج، إلا أن يكون خوف،
قيل له: فالحج والصدقة؟ قال: الحج، إلا أن تكون سنة مجاعة، قيل له: فالصدقة
والعتق؟ قال: الصدقة.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الحج أحب إليه من الغزو، إلا أن يكون خوفا -
معناه: في حج التطوع لمن قد حج الفريضة. وإنما قال ذلك؛ لقول النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور
ليس له جزاء إلا الجنة» ؛ لأن الجهاد وإن كان فيه أجر عظيم، إذا لم يكن
خوف، قد لا يفي أجره فيه بما عليه من السيئات عند الموازية فلا يستوجب به
(13/433)
الجنة كالحج، وأما الغزو مع الخوف، فلا شك
في أنه أفضل من الحج التطوع والله أعلم؛ لأن الغازي مع الخوف قد باع نفسه
من الله عز وجل، فاستوجب له الجنة والبشرى من الله عز وجل بالفوز العظيم.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ
وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة: 111] إلى قوله: {الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:
72] وإنما قال: إن الحج أحب إليه من الصدقة، إلا أن تكون سنة مجاعة؛ لأنه
إذا كانت سنة مجاعة، كانت عليه المواساة، فالصدقة واجبة، فإذا لم يواس
الرجل في سنة المجاعة من ماله بالقدر الذي يجب عليه المواساة في الجملة،
فقد أثم، وقدر ذلك لا يعلمه حقيقة بالتوفي من الإثم بالإكثار من الصدقة،
أولى من التطوع بالحج الذي لا يأتم بتركه، وإنما قال: إن الصدقة أفضل من
العتق، لما جاء في الحديث الصحيح من: «أن ميمونة بنت الحارث أعتقت وليدة
لها ولم تستأذن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فلما كان يومها الذي يدور
عليها فيه، قالت: أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي، قال:
"أَوَفَعَلْتِ؟ " قالت: نعم، قال: "أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم
لأجرك".» وهذا نص من النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في ذلك، قَوَّتْهُ
الاستدلالُ عليه بالظواهر، وبالله التوفيق.
[: تصدق على ولده وهم صغار]
ومن كتاب أوصى معه أن ينفق على أمهات أولاده قال: وسئل: عمن تصدق على ولده
وهم صغار يليهم بدار، وأشهد لهم، وكان يكريها لهم، فلما بلغوا الحوز قبضوها
وأكروها
(13/434)
منه، فمات فيها، فقال: لا أراها إلا جائزة،
إذا كانوا قد قبضوها وحازوها وانقطعوا بالحيازة، وانتقل منها، قيل له: وكم
حد ذلك؟ قال: السنة والسنتان.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما مضى في رسم استأذن من أن رجوع المتصدق إلى
سكنى الدار التي تصدق بها بعد أن حيزت عنه حيازة بينة، حدها العام، على ما
نص عليه في هذه الرواية، لا تبطل الصدقة ومثله في رسم الكراء والأقضية من
سماع أصبغ من كتاب الرهون، خلاف الرهن، لا اختلاف في أن الرهن يبطل برجوعه
إلى الرهن وإن طالت مدة حيازة المرتهن؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَرِهَانٌ
مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] وفي هذه المسألة بيان واضح، إن الأب لو رجع إلى
سكنى الدار وبنوه صغار، لبطلت الهبة، وإن كان قد أخلاها ورهنها وحازها لهم
بالكراء المدة الطويلة، فتفتقر في هذا حيازة الأب للصغار. وقد نص على ذلك
محمد بن المواز في كتابه. وبالله التوفيق.
[مسألة: تصدق على ابنه بدار وعمل له فيها ومات
وهي في يديه]
مسألة وقال فيمن تصدق على ابنه بدار، وعمل له فيها، ومات وهي في يديه: إن
الصدقة له باطل، قيل له: فإن أنفذها له الورثة، ثم أرادوا الرجوع فيها،
قال: الناس في هذا مختلفون. أما أنا فأرى أن يحلفوا إن كانوا ممن يعرفون
بالجهالة، إنهم إنما أنفذوها له وهم يرون أن ذلك عليهم قد لزمهم، ويرجون
فيها فيأخذونها.
قال محمد بن رشد: قوله: الناس في هذا مختلفون، في مثل
(13/435)
يريد: المخاصمين في مثل هذا وشبهه مختلفون،
منهم من يجهل فيصدق إذا ادعى الجهالة، ومنهم من لا يجهل فلا يصدق إذا ادعى
الجهالة. إذا كانوا ممن يعرف بالجهالة أن يحلفوا أنهم إنما أنفذوها، وهم
يرون أن ذلك عليهم قد لزمهم، وهي يمين تهمة، فيختلف فيها، إلا أن تحقق
عليهم الدعوى بأنهم إنما أنفذوها بعد أن علموا أن ذلك لا يلزمهم، فيجب
عليهم اليمين قولا واحدا.
ولسحنون في أول نوازله في نظير هذه المسألة أنهم لا يصدقون في دعوى الجهل،
وقال: أنت تدفع إليه ماله، وتبيحه له بعدما قد حزته وملكته، ثم قمت الآن
تدعي الجهالة، ما أرى لك فيما دفعت إليه حقا، فقال له السائل: أنا أقيم
البينة أنه قد قال: إن هذه الصدقة، لا يجوز لك منها إلا الثلث. وقد سألت عن
ذلك الفقهاء وأخبروني بذلك. فقال له: أما إن أقمت البينة على هذا، فأرى لك
أن ترجع عليه بما أخذ منك، فلم يصدقه سحنون في دعوى الجهالة، ما أرى لك
فيما دفعت، وهو إقامة البينة على ما زعم من أنهم غروه به، وقالوا له.
ويأتي على قول أشهب في رسم النكاح من سماع أصبغ من كتاب: في الذي يزوج
ابنته على أنها بكر، فزعم الزوج أنه وجدها ثيبا لا عذرة لها - أنها تلزمه،
ولا شيء له، إن الجاهل في مثل هذا لا يعذر بالجهل، حسبما بيناه هناك.
ومثله قول سحنون في نوازله من كتاب العيوب في الذي يشتري العبد، فيقول
للتاجر: هل فيه من عيب؟ فيقول: هو قائم العيبين، فيسأل عن القائم العيبين،
فيقال له: هو الذي لا يبصر - إن البيع له لازم، وليس له أن يرده، ففي
المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: إنه ليس له أن يرجع فيما أنفذ بحال، وإن علم أنه جهل، إذ لا عذر له
في الجهل، وهو ظاهر قول ابن القاسم في آخر كتاب الوصايا من المدونة، في
الابن الذي في عيال الرجل يأذن له في مرضه في الوصية بأكثر من ثلث ماله، ثم
ينفذ ذلك بعد موته، إنه ليس له أن يرجع في ذلك، ظاهره: وإن كان
(13/436)
جاهلا يظن أن إذنه له في ذلك في مرضه جائز
عليه.
والثاني: إن له أن يرجع في ذلك إن ادعى الجهل، وكان يشبه ما ادعاه مع يمينه
على ذلك وهو قوله في هذه الرواية، وقيل بغير يمين على ما ذكرناه، من أن
اليمين في ذلك تهمة.
والثالث: إنه ليس له أن يرجع في ذلك، إلا أن يعلم أنه جهل، بدليل يقيمه على
ذلك، وهو قول سحنون في نوازله من هذا الكتاب، وأخصر من هذا أن يقول: إن في
المسألة قولين: أحدهما: إنه يعذر بالجهل، والثاني: إنه لا يعذر، فإذا قلنا:
إنه يعذر به، ففي تصديقه فيه قولان، قيل: إنه يصدق، وقيل: إنه لا يصدق،
فقيل: يمين، وقيل: بغير يمين. وبالله التوفيق.
[مسألة: الصفائح والحلي المكسور والنقر أفيه
ثواب]
مسألة وسئل: عن الصفائح والحلي المكسور والنقر، أفيه ثواب؟ قال: ليس في ذلك
كله ثواب.
قال محمد بن رشد: أما الحلي والنقر فإنه بين أنه لا ثواب في ذلك، بمنزلة
الدنانير والدراهم، فلا يصدق من وهب شيئا من ذلك، فإن كان فقيرا والموهوب
له غنيا أراد بذلك الثواب له، إلا أن يشترطه. هذا قوله في المدونة؛ لأنه
إنما وهب للثواب، ما يتحقق به الموهوب له، مثل الفرس الرائع، والعبد النبيل
التاجر، والثوب الحسن، ويشبه ذلك مما يستحسن، فالحلي المصنوع على هذا فيه
الثواب، وهو نص قوله في المدونة، وأما قوله في الصفائح: إنه لا ثواب فيها،
فإن كان أراد به الصفائح المصنوعة من الحديد لتنعيل الدواب، فالمعنى في
ذلك: أنها كثيرة الحديد، لا يتحف بها من أهديت إليه، ولو أهداها إليه في
الغزو عند عدمها والحاجة إليها لوجب أن تكون فيها للثواب، فإن كان أراد بها
صفائح الذهب، أي: سبائكه، فإنه لا ثواب فيها؛ لأن سبائك الذهب بمنزلة نقر
الفضة، لا ثواب لمن زعم أنه أراد بذلك الثواب؛ لأنها بمنزلة الدنانير
والدراهم. وبالله التوفيق.
(13/437)
[: تصدقت على
زوجها بالصداق فمنت عليه فكتب لها صداقا إلى موته أو حالا]
ومن كتاب أوله بع ولا نقصان عليك وسئل: عن امرأة تصدقت على زوجها بصداقها،
فمنت عليه بعد ذلك، فقال: أنا أكتب لك صداقا فكتب لها صداقا إلى موته، أو
حالا، قال: إن لم تقبض الذي كتب لها فلا شيء لها؛ لأنها عطية لم تقبض.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله: إنه إذا لم تقبض ذلك في حياته، فلا
شيء لها؛ لأنه إن كتب لها ذلك إلى موته، فهي وصية لوارث، وإن كتبه لها حالا
فهو كما قال عطية تقبض وقد مضى ذلك في آخر رسم العرية، فلا معنى لإعادته.
[: الرجل يتصدق على امرأته بالمسكن وهو ساكن
فيه]
ومن كتاب أوله سلف دينارا في ثوب إلى أجل
قال ابن القاسم، في رجل تصدق على امرأته بالمسكن، والمرأة تتصدق على زوجها
بالمسكن، وهما ساكنان فيه. قال: أما ما تصدقت المرأة على زوجها مسكنا كانت
تسكنه، فيسكن بها فيه كما هو، فإن سكناه بما فيه حوز له؛ لأن السكنى عليه
أن يسكنها، وأما ما تصدق هو به عليها، من مسكن فسكن هو وهي، فلا أرى حوزها
حوزا حتى تخرج منه، وتحوزها بما تحاز به الصدقات؛ لأنه كانت السكنى عليه،
فلم يحزه بشيء يعرف، وأما الخادم يتصدق بها عليه، أو يتصدق هو بها عليها،
فإنه إن كان كل واحد منهما يستخدمها ويرسلها في حوائجه، فإن ذلك حوز لكل
واحد منهما، وإن انتفع به الذي تصدق به، وذلك أني سألت مالكا عن الرجل
(13/438)
يتصدق عن المرأة بالخادم فيخدمها وتخدمه،
هل تراه حِوَازًا؟ قال: نعم، والخدمة عند مالك إنما تكون على الزوج إذا لم
يكن للمرأة خادم دخلت بها من صداقها، وقاله أصبغ كله، وكذلك الأمتعة،
والوطء وفرش البيت وآنية المنزل، في ذلك كله، أي ذلك تصدق به عليها فهو
حوز، وإن أقروه في المنزل معها وكانا يتواطيانه جميعا وينتفعان، إذا أعلن
الصدقة بشهادة وبتل وأشهد لها وبالتخلي.
قال محمد بن رشد: أما المسكن الذي يسكنان فيه، فالفرق بين أن تكون هي
الواهبة له، أو هو لها - بَيِّنٌ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ أَحْفَظُهُ؛ لأن
السكنى عليه، فالأشياء سكن معها في ذلك المسكن، وإن شاء أخرجها منه إلى
غيره. وأما الخادم فقد اختلف في حيازة كل واحد منهما إياها إذا وهبها له
صاحبه، وبقيت على حالها يخدمهما جميعا؛ حسبما مضى تحصيله في رسم اغتسل من
سماع ابن القاسم، فلا وجه لإعادته، ومضت أيضا في رسم الوصايا الذي فيه الحج
والزكاة من سماع أشهب وحكم الوطء والثياب وحكم الخادم في مذهب ابن القاسم
على ما قاله أصبغ، لا يرهن حيازة المرأة له انتفاع زوجها الواهب له به إذ
لا يقدر على الانكفاف من ذلك.
وقوله: إنه يكتفي بالإشهاد على صفة من الإشهاد على عينة - صحيح؛ لأنه إذا
وجد بيدها على الصفة الموصوفة في كتاب الصدقة والهبة حمل على أنه هو، فإن
ادعى الورثة عليها أنه أَنَّ المتصدق به عليها غيره، وقد غيبته، كان القول
قولها مع يمينها، وبالله التوفيق.
(13/439)
[: تصدق الرجل
بصدقة على ألا يبيع ولا يهب]
ومن كتاب أوله إن خرجت من هذه الدار قال: وقال مالك: إذا تصدق الرجل بصدقة
أو وهب له الهبة، على ألا يبيع ولا يهب. قال: لا يجوز هذا، ويقال للمتصدق:
إما أن يغتلها وإلا فخذ صدقتك، قال مالك: إلا أن يكون صغيرا أو سفيها،
فيشترط عليه ذلك، إلا أن يحسن حال السفيه، ويكبر الصغير، فيكون لهما بتلا،
فذلك جائز.
قال عيسى: أكره أن تقع الصدقة على هذا، فإن وقع مضى، ولم يرد وكان على
شرطه.
قال سحنون: إذا تصدق عليه بصدقة أو وهب له هبة، على ألا يبيع ولا يهب، فهي
له حبس.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة يتحصل فيها خمسة أقوال:
أحدها: إن الهبة والصدقة لا تجوز، إلا أن يشاء الواهب أو المتصدق أن يبطل
الشرط ويمضي الصدقة أو الهبة، فإن مات الواهب أو الموهوب له أو المتصدق، أو
المتصدق عليه، بطلت الصدقة أو الهبة، وهو ظاهر قول مالك في هذه الرواية.
ومثله قول ابن القاسم في رواية سحنون هذا من هذا الكتاب في الذي يتصدق على
الرجل بالشيء، على أنه إن باعه فهو أحق به، يريد: بالثمن وبغير الثمن، قال:
ليست هذه بشيء، ومثله أيضا قول ابن القاسم في رسم الكراء والأقضية من سماع
أصبغ بعد هذا في الذي يتصدق على رجل بعبد له، ويشترط عليه أن له منه خدمة
يومين من كل جمعة، إنها ليست بصدقة إن مات المتصدق، خلاف قول أصبغ فيه من
رأيه، فالهبة على هذا القول على الرد، ما لم يجزها الواهب ويمضيه بترك
الشرط، فإن استرد هبته من يد الموهوب له، وكان قد سقى وعالج، رجع عليه بما
سمى وعالج، قياسا على ما قاله في المدونة في مسألة الفرس.
والقول الثاني: إن الواهب مخير بين أن يسترد
(13/440)
هبته، أو ترك شرطه وورثته بعده، ما لم ينقض
أمده بموت الموهوب له، فيكون ميراثا عنه، وهذا القول يأتي على ما في
المدونة من قوله في مسألة الفرس وإن فات الأجل، لم أر أن يرد، وكان للذي
بتل له بعد السنة بغير قيمة على تأويل من رأى أن الفرس ملكا لا حبسا عليه
فالهبة والصدقة على هذا القول على الإجازة ما لم يردها الواهب أو ورثته
بعده قبل فواتها كانقضاء أمد الشرط، وهو موت الموهوب له؛ لأنه حجر عليه
الهبة والبيع طول حياته، وهو قول أصبغ من روايته في رسم الكراء والأقضية من
سماعه بعد هذا.
والقول الثالث: إن الشرط باطل، والهبة جائزة، وهذا القول يأتي على ما في
المدونة من أن الرجل إذا حبس الدار على رجل وولده، وشرط أن ما احتاجت الدار
إليه من مرمة رمها المحبس عليهم أن الدار تكون حبسا على ما جعلها عليه، ولا
يلزمهم ما شرط عليهم من مرمتها وتكون رمتها من غلتها، وقد قال محمد بن
المواز: إنما ذلك إذا حيز المحبس، ومات بموت المحبس، وأما قبل ذلك فترد،
إلا أن يسقط الذي حبسها شرطه، وتأويله بعبد في اللفظ غير صحيح في المعنى؛
لأنه إذا جعل للمحبس حقا في شرطه، وجب أن ينزل ورثته منزلته فيه. وعلى قول
غير ابن القاسم في المدونة في مسألة الفرس: إن شرطه ليس مما يبطل عطية له،
وهو قول مالك في رواية ابن وهب عنه في سماع سحنون.
والقول الرابع: إن الشرط عامل، والهبة ماضية لازمة، فتكون الصدقة بيد
المتصدق عليه، بمنزلة الحبس، لا يبيع ولا يهب حتى يموت، وإذا مات ورث عنه
على سبيل الميراث، وهو قول عيسى بن دينار في هذه الرواية، وقول مطرف في
الواضحة. وهو أظهر الأقوال وأولاها بالصواب؛ لأن الرجل له أن يفعل في ماله
ما شاء، إن شاء بتله للموهوب له والمتصدق عليه من الآن، وإن شاء أعطاه
المنافع خاصة طول حياته، وجعل المرجع بعد موته ليقضي من دينه ويرثه عنه
ورثته بما له في ذلك من الغرض أن يستديم الانتفاع بما وهبه، وبدا إثر هبته
عليه.
والقول الخامس: قال سحنون: إن ذلك يكون حبسا على الموهوب له أو المتصدق
عليه بما شرط عليه من ألا
(13/441)
يبيع ولا يهب، فإذا مات المتصدق عليه على
هذا القول، رجع إلى المتصدق إلى ورثته إن كان قد مات، أو إلى أقرب الناس
بالمحبس، على اختلاف قول مالك في المدونة فيمن حبس على معين، وقول سحنون في
هذه المسألة معارض لقوله في نوازله في الذي يتصدق على رجل بعبد على ألا
يبيعه ولا يهبه سنة، وهذه الأقوال كلها تدخل في مسألة سماع سحنون، في الذي
يتصدق على الرجل بالشيء على أنه أحق به إن باعه بثمن أو بغير ثمن إلا قول
سحنون، وسيأتي في رسم الجواب بعد هذا من هذا المعنى مسألة الذي يهب الجارية
للرجل على أن يتخذها أم ولد، ونتكلم عليها إذا مررنا بها إن شاء الله.
[مسألة: تصدقت على زوجها بمهرها أو بشيء من
مالها ثم طلبت المثوبة]
مسألة قال ابن القاسم: إذا تصدقت المرأة على زوجها بمهرها أو بشيء من
مالها، ثم طلبت المثوبة، وقالت: إنما تصدقت عليك للثواب، وأنكر الزوج، قال:
يحلف الزوج بالله ما اشترطت عليه مثوبة ولا قبلت على الثواب، ويكون القول
قوله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة لا إشكال فيها؛ لأن الثواب إنما يكون في
الهبات، لا في الصدقات، إلا بشرط، فإذا ادعت عليه شرط المثوبة حلف على
تكذيب دعواها على ما قال في الرواية ولو وهبته مهرها أو شيئا من مالهما،
وقالت: أردت بذلك الثواب، لم يكن لها في الصداق ثواب باتفاق؛ لأن الثواب لا
يكون في الدنانير والدراهم وكذلك إن كان المهر عرضا أو أصلا لم يكن لها في
هبته ثواب، إن ادعت أنها أرادت بذلك الثواب؛ لأن أصله من نقله نحلة من الله
فرضها الله فإذا تركته لم يكن لها فيه مثوبة؛ لقول الله عز وجل: {فَإِنْ
طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا}
[النساء: 4] ،
(13/442)
وأما إن وهبته شيئا من مالها سوى المهر،
فادعت أنها أرادت بذلك للثواب، فاختلف في ذلك على ثلاثة أقوال:
أحدها: إنها لا تصدق، إلا أن يظهر من صورة الحال ما يدل على صدقها، وهذا نص
قوله في المدونة.
والثاني: إنها لا تصدق ولا يكون لها الثواب، إلا أن تشترطه، ووجه هذا أن
هبة كل واحد من الزوجين لصاحبه محمولة على أنه إنما وهبته ليتأكد ما بينهما
من المودة والمحبة.
والقول الثالث: إنها تصدق وإن لم يظهر ما يدل على صدقها كالأجنبيين. حكى
هذا القول عبد الوهاب في المقدمات. وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يتصدق على ابنه بأم ولده]
مسألة وسئل: عن الرجل يتصدق على ابنه بأم ولده، لا تكون تلك الصدقات شيئا
ولا تكون بذلك حرة؛ لأنها قد ثبت لها ولاء لا يزول، فلا يحرمها ذلك على
أبيها.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن أم الولد لا تباع ولا توهب، إذ
ليس لسيدها فيها سوى الاستمتاع بالوطء، طول حياته، ولو تزوج أمة فولدت منه
ثم اشتراها فوهبها لابنه بعد أن أعتق لعتقت عليه بالملك.
[مسألة: تضع عن زوجها مهرها على أن يحجها]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن رجل سأل امرأته أن تضع عنه مهرها، فقالت له: إن
حملتي إلى أهلي فهو عليك صدقة، فتصدقت به عليه على أن يحملها إلى أختها
وكانت مريضة، ثم بدا له أن يحملها بعدما وضعت عليه الصداق، فخرجت هي من غير
إذنه، فصارت إلى أختها، هل ترى الصداق له؟ قال: إن كانت خرجت مبادرة إليها
لتقطع بذلك ما جعلت لزوجها فلا شيء عليه، وإن كان بدا له في حملها وأبى أن
يسير بها وعلم ذلك، رجعت عليه بما وضعت عنه.
(13/443)
قال محمد بن رشد: وقعت في أول رسم من سماع
أصبغ من كتاب أسلم مسألة معارضة لهذه في الظاهر، كان الشيوخ يحملونها على
الخلاف لها، وهي قوله في المرأة تضع عن زوجها مهرها على أن يحجها: إن هذا
حرام لا يحل؛ لأنه الدين بالدين. وقاله أصبغ، والصواب: أنها ليست بخلاف
لها، إذ لا يصح أن يختلف في الذي وضعته عن زوجها صداقها على أن يحجها من
ماله، إذن ذلك لا يجوز؛ لأنه الدين بالدين، وكذلك هذه المسألة، إن كانت
تصدقت عليه بمهرها إلى أن يحملها إلى أختها من ماله اشتراء أو كراء، فيقول:
إن المعنى في هذه المسألة إنه إذا وضعت عنه الصداق، على أن يخرج معها، ولا
تمضي مفردة دونه، لا على أن يحملها من ماله وينفق عليها في شيء من سفرها
سوى النفقة التي تجب عليه لها في مقامها، فإذا حملت المسألة على هذا، صحت
وكانت موافقة للأصول، ولعلها لم يكن لها ذو محرم، يخرج معها، فكانت إنما
بدلت الصداق له، على رفع الخرج عنها لخروجه معها، لا على أن ينفق عليها في
ذلك.
وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل لامرأة
تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة بغير محرم إلا مع ذي محرم
منها» ، وقد مضى في سماع عيسى من كتاب الحج القول في وضعها الصداق عنه على
أن يأذن لها في الخروج إلى الحج. وبالله التوفيق.
[مسألة: أعمر رجلا دارا وجعلها لولده من بعده
هل يجوز له أن يشتريها]
مسألة وسئل: عمن أعمر رجلا دارا وجعلها لولده من بعده، هل يجوز له أن
يشتريها من المعمر، وهي لولده من بعده؟ وهل يجوز له أن يشتري العمرى من
ربها حتى يكون له أصلها كما يجوز للمعمر؟
(13/444)
قال ابن القاسم: أما إذا جعلت لولده من
بعده، فلا يجوز لصاحبها أن يشتريها؛ لأن الأب ليس يبيع لقوم بأعيانهم، ولا
يعرف عددهم، وأما المعمر فهو يجوز له أن يشتريها من صاحبها حتى يكون له
أصلها إذا لم يكن لولده من بعده.
قال محمد بن رشد: أما إذا جعلها لولده من بعده، فلا يجوز للمعمر شراء
الخدمة من المعمر؛ لأنه لا يملك بذلك الأصل، ولا للعمر شراء المرجع من
المعمر، إذ لا يرجع إليه، وأما إذا لم يكن لولده من بعده، فيجوز للمعمر
شراء الخدمة من المعمر باتفاق، ويجوز للمعمر شراء المرجع من المعمر على
اختلاف.
وقد مضى بيان ذلك مستوفى في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم، ومضى ذكر
الاختلاف في شراء المعمر المرجع في رسم البيوع الأول، من سماع أشهب منه،
وثاني المسألة مكررة في سماع أصبغ في هذا الكتاب. والله الموفق.
[: تصدقت بصدقة عبد أو وليدة في حياتها وصحتها
ثم ذهب عقلها]
ومن كتاب أسلم وله بنون صغار قال: وسئل: عبد الرحمن بن القاسم عن امرأة
تصدقت بصدقة عبد أو وليدة، أو دنانير في حياتها وصحتها، ثم ذهب عقلها من
قبل أن تقبض الصدقة منها، هل يكون ذهاب عقلها مثل الموت؟ أم يأخذ المتصدق
عليه صدقته؟ قال: لا أرى لأهل الصدقة فيها حقا، وذهاب العقل حتى يحاز عنها
مالها بمنزلة الموت، فلا حق لهم فيها.
قال محمد بن رشد: ذهاب العقل كالعرض، فإذا مرض المتصدق أو
(13/445)
ذهب عقله قبل أن تحاز الصدقة عنه بطلت،
يريد: إلا أن يرجع إليه عقله أو يصح من مرضه قبل أن يموت فتنفذ الصدقة.
وتؤخذ منه، فإن لم يرجع إليه عقله، ولا صح من مرضه حتى مات، بطلت الصدقة،
وإن حوزه إياها في مرضه، وهو قول ابن القاسم في رسم القضاء المحض، من سماع
أصبغ بعد هذا. قال: وكل من تصدق بصدقة على من بلغ الحوز، فلم يحز لنفسه،
حتى مرض المتصدق، فأجازه في مرضه، فلا صدقة له وهو بمنزلة من أوصى لوارث
حين منعه في صحته، وأسلمه في مرضه، فلا يجوز ذلك له، وقال: ذلك يمنع، إلا
أنه لا يحاص بها أهل الوصايا، كما يحاص بوصية الوارث، ولكنها تطرح من رأس
المال كشيء لم يكن، وتكون الوصايا في ثلث ما بعدها، وترجع ميراثا كالإقرار
بدين لوارث في المرض لما فيه من التوليج للتهمة.
وقوله: إلا أنه لا يحاص بها الورثة ... إلى آخر الكلام - هو من قول ابن
القاسم متصل به، فلا يجوز ذلك، وأدخل العتبي قول أصبغ في أثناء كلامه. وكان
حقه أن يكون بعد تمام كلام ابن القاسم في المسألة، وإنما قال: إن الصدقة
تبطل، وإن حوزه إياها في المرض، ولم يجعل تحويزه إياها كابتداع صدقة في
المرض، فتكون في الثلث؛ لأنه لم يتبدئها في مرضه، وإنما ذهب إلى إمضاء ما
فعله في الصحة، فوجب أن بطل.
وقوله: إنه لا يحاص بها أهل الوصايا كما يحاص بوصية الوارث - صحيح؛ لأنه
إذا أوصى لوارث، فقد أراد إدخاله على الموصى لهم، وهذا لم يرد إدخال صاحب
الصدقة عليهم، وإنما أراد إخراجها من رأس ماله بعد موته. وأما قوله: إنها
تطرح من رأس ماله كشيء لم يكن، وتكون الوصايا في ثلث ما بعدها، فهو خلاف
قوله في رسم أمهات الأولاد من سماع عيسى من كتاب الوصايا: إن الوصايات دخل
في ذلك، مثل ما في الموصلي لمالك رواية يحيى، ومثل ما روى ابن وهب عنه من
رواية الحارث: إن الوصايا لا تدخل في ذلك.
وجه رواية أصبغ وقول مالك في الموطأ وفي رواية ابن وهب عنه: أن الوصايا لا
تدخل فيه - هو أن الميت أراد إنفاذ الصدقة من رأس ماله، وإنما ردت بالحكم
لما
(13/446)
أغفل عن تحويزها حتى مات، فوجب ألا تدخل
فيه الوصايا. ووجه رواية عيسى في كتاب الوصايا: أن الوصايا لا تدخل في ذلك
- هو أن المتصدق في صحته، لما لم يجز الصدقة حتى مات، دل ذلك من فعله على
أنه ذهب إلى إبطالها، فوجب أن تدخل فيه الوصايا. وبالله التوفيق.
[: تصدق بذكر حق له على رجل ودفع إليه الذكر
الحق وأشهد له]
ومن كتاب العشور قال ابن القاسم، في رجل تصدق بذكر حق له على رجل ودفع إليه
الذكر الحق، وأشهد له، ثم خالفه إلى الغريم، فقبض منه ما عليه؟ قال ابن
القاسم: إن كان الذي عليه الحق قد علم أنه تصدق به على المتصدق عليه، ودفعه
إليه، فعليه غرمه للمتصدق عليه، ولا يرجع المتصدق عليه على المتصدق بأخذه
منه.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الذي عليه الحق إن كان قد علم أنه تصدق به على
المتصدق عليه، ودفع إليه، فعليه غرمه للمتصدق عليه - صحيح بَيِّنٌ، لا
إشكال فيه؛ لأن صاحب الحق لما تصدق به على المتصدق عليه، قد دفع كتاب الحق،
فقد وجب الحق له؛ لأن قبضه لذكر الحق الذي وهب إياه حيازة صحيحة، علم الذي
عليه الحق بذلك أو لم يعلم، فإذا دفعه إليه بعد علمه بأنه قد تصدق به ولم
يقبض كتاب ذكر الحق، فدفع الذي عليه الحق، الحق إلى المتصدق عليه بعد علمه
بالصدقة لوجب عليه غرمها للمتصدق عليه؛ لأنه يصير بقبول الصدقة عليه قابضا
له ما عليه، فوجب أن يغرم ذلك له، إن دفعه إلى المتصدق بعد علمه بالصدقة،
ولو لم يعلم منه قبول الصدقة، ولم يقبض، لما كان الذي عليه الحق قابضا له
إذا كان حاضرا، ولا وجب عليه أن يغرم له إن دفع ذلك إلى المتصدق، وإنما
يكون قابضا له، وإن لم يقبل، ويلزمه عشرته إن دفعه إلى المتصدق بعد علمه
بالصدقة إذا كان
(13/447)
المتصدق عليه غائبا والصدقة بالدين، بخلاف
الصدقة بالوديعة في الحيازة، إذ قد قيل: إن المودع يكون حائزا له على علم
أو لم يعلم، وهو مذهبه في المدونة، وقيل: لا يكون حائزا له إلا أن يعلم وهو
قول ابن القاسم في نوازل سحنون من هذا الكتاب وفي سماعه من كتاب الوديعة
عليه، وجب عليه أن ... ويرجع به على المتصدق الذي دفعه إليه، وكذلك لو كان
المتصدق عليه قد قبل الصدقة، وقيل: إنه لا يكون جائزا له، إلا أن يعلم
ويرضى بالحيازة له، حسبما مضى القول فيه في رسم الأقضية الثالث من سماع
أشهب، من كتاب الرهون، وفي سماع سحنون، من كتاب الوديعة، ولا خلاف في أن
الذي عليه الدين حائز لما تصدق به عليه، وإن لم يعلم، إن كان المتصدق عليه
غائبا أو حاضرا، فقبل. وبالله التوفيق.
[: الرجل يتصدق على الرجل ببيت في داره ولم يسم
له مخرجا ولا مدخلا]
ومن كتاب شهد على شهادة ميت قال: وسألت ابن القاسم، عن الرجل يتصدق على
الرجل ببيت في داره، ولم يسم له مخرجا ولا مدخلا ولا مرفقا، ثم أراد
المتصدق أن لا يمير في داره، وأن يفتح باب بيته الذي تصدق به عليه حيث شاء،
فقال: لا يمنع من الممر في بيته إلى دار المتصدق، ولا شيء من مرافقه، لا
شرب في بئر، ولا مخرج كنيف، سمى له عند الصدقة شيئا أو لم يسمه.
قال محمد بن رشد: اختلف إذا وقعت الصدقة ببيت من الدار، دون بيان في مرافق
الدار، من المدخل والمخرج والاستسقاء من البئر والاختلاف إلى الكنيف وما
أشبه ذلك، هل يكون للمتصدق عليه بالبيت من مرافق الدار
(13/448)
بقدر البيت منها، أم لا؟ فقيل: إنه يكون له
منها بقدر البيت من الدار، إلا أن يستثني ذلك المتصدق لنفسه في صدقته، وهو
قول ابن القاسم في هذا الرواية، على قياس قول مالك في أول رسم من سماع أشهب
من كتاب جامع البيوع، في البيع المبهم، وقيل: إنه ليس له من ذلك شيء، إلا
ببيان من المتصدق في صدقته، ويفتح المتصدق عليه لبيته بابا حيث شاء، ولا
يدخل عليه على دار المتصدق، ولا يكون له شيء من مرافقه، إلا أن لا يكون له
حيث يفتح بابا، فيكون له المدخل إليه على دار المتصدق، وسائر مرافقه، وهو
دليل قول أشهب في رسم باع شاة من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع.
واختلف إذا وقعت الصدقة مبهمة دون بيان، على القول بأنه يكون للمتصدق عليه
من المرافق بقدر صدقته، إلا أن يستثني من ذلك المتصدق لنفسه، وهو قوله في
هذه الرواية، إن ادعى أنه إنما أراد يتصدق عليه بالبيت دون المرافق، فقيل:
إنه لا يصدق في ذلك، وهو ظاهر قوله في هذه الرواية ومعنى ذلك، إذا لم يكن
له دليل من يشاهد الحال، مثل أن يتصدق عليه ببيت من داره، يلاصق داره،
فيعلم أنه إنما تصدق عليه بالبيت، على أن يصرفه إلى داره. وقيل: إنه يصدق
في ذلك مع يمينه، إلا أن يكون له انتفاع بالبيت إلا بالدخول إليه على دار
المتصدق.
وهذا يأتي على ما وقع في رسم الكراء والأقضية من سماع صبغ بعد هذا من هذا
الكتاب لمالك ولأصبغ من قوله، مبينا لروايته عن ابن القاسم في الذي يتصدق
على رجل بناحية من أرضه سماها في غير تلك الناحية الذي تصدق بها من أرضه.
وسيأتي القول على ذلك هناك إن شاء الله.
[مسألة: تصدق على ابن له صغير واشترط أقساطا
لمسجد كل عام]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عن رجل تصدق على ابن له صغير لم يبلغ الحوز،
برقيق ودور وقرى وما فيها من زيتون أو فاكهة أو نوع من أنواع الشجر، وهو
صحيح سَوِيٌّ وعمل في جميع الزيتون أن
(13/449)
يخرج منه أقساطا مسماة لمسجد له في كل عام،
وما بقي فهو صدقة على ابنه ذلك، وكان قد تصدق عليه بداره كلها، الداخلة
والخارجة وما فيها من المساكين، إلا أنه جعل لابنة له صغيرة السكنى مع ابنه
المتصدق عليه فيها ما لم تنكح، فإذا أنكحت فلا سكنى لها معه، وجعل لأمهات
ولده ومواليه من الرجال والنساء الساكنين فيها أن يسكنوا مع ابنه ذلك
حياته، فإن تزوج من العوليات أحد فلا سكنى لمن تزوج منهن فيها بعد تزويجها،
وتصدق عليه أيضا بقرية فيها أرحى وأرض وزيتون وغير ذلك من الشجر، وجعل
لمواليه الساكنين فيها ما كان تحت أيديهم من الأرض والشجر والمساكن،
يرتفقون فيها ما قاموا لابنه ذلك المتصدق عليه بمرمة أرحيته، وعلاج سدها
ومرمتها، وجلب ما يحتاج إليه من المطاحين، وغير ذلك من مرة الأرحى. فإن ترك
الموالي ذلك فلا سكنى لهم في القرية، ولا مرفق لهم فيها، وما كان تحت
أيديهم منها هو صدقة على ابنه ذلك، وكان تصدق عليه بهذه الصدقة صحيحا مسلما
صدقة بَتًّا لله وعلى أن على ابنه في الزيتون الذي تصدق بها عليه خمسة
أقساط من زيت، وهي عشرون ربعا في كل عام للمسجد الذي بنى لله عز وجل وجعل
الأقساط المسماة للمسجد حراما محرما عليه وعلى الوارث بعده، حبس ذلك حبسا
ذلك على مسجد في كل عام أو كان كل ما تصدق به على هذا الغلام في يدي أبيه
حتى توفي وكان الغلام يوم توفي أبوه صغيرا لم يبلغ الحلم.
قال ابن القاسم: من تصدق على ابن له صغير لم يبلغ الحلم، بما ذكرت من
العقار والأرضين والزيتون والفاكهة والرقيق والأرحى والدور، واشترط في جميع
(13/450)
الزيتون أقساطا معدودة لمسجد في كل عام، من
زيت، فإن ذلك كله جائز لابنه، ما دام صغيرا إذا هلك الأب على تلك الحال،
وإن كان أبوه يلي تلك الصدقات، وكانت في يديه إلى أن مات؛ لأن الأب يحوز
على ابنه الصغير حتى يبلغ الحلم.
قال: ولقد سألت مالكا عن الرجل يتصدق على ابنه الصغير في حجره بالعبد، وهو
مع ابنه في بيت واحد، فيكون العبد يخدم الأب، ويخدم الغلام، أتراها صدقة
جائزة؟ قال: نعم، أراها صدقة جائزة ثابتة للغلام، وإن استخدمه الأب حتى
مات. قال مالك: أراها صدقة ثابتة للابن، إذا كان في حجره يليه. قال ابن
القاسم: فالعقار والشجر أبين من العبد. قال ابن القاسم: وإن كان مما تصدق
به على الغلام حوانيت لها كراء، ومساكين أو حمام أو أشياء لها كذا وغلات
ولم يعلم كان يكريها للابن باسمه، أم لا وجهل ذلك من أمرها، ولم يكن أشهد
على ذلك أحدا، فإنها للابن جائزة، إذا كان الأب لا يسكنها كلها أو جلها،
فإن سكن الشيء اليسير منها التافه، فإن ذلك كله للابن، ما سكن منها وما لم
يسكن.
قال ابن القاسم: سألت مالكا عن الرجل يتصدق على ابنه بالعبد والجارية،
فيقيم العبد في يد الأب ما شاء الله، ثم يبيعه بذهب، ويشهد الأب عليه أنه
قبله لابنه، ويتسلفها، أتراها للابن؟ قال: نعم إذا صح ذلك، والذي يتصدق
بالقرى والأرضين والشجر، وأرحى والدور، أثبت عندي في الحوز مما وصفت لك في
الرقيق، والأب يحوز لابنه الصغير، إلا أنه يعلم أن صدقته لم تخرج من يديه،
مثل أن يتصدق عليه بالدار التي لا فضل في سكناها، فيسكنها كلها حتى يموت،
وهو فيها، فلا يجوز هذا وما أشبهه، ولو كانت الدارات منازل فسكن في بعضها
جازت كلها.
قال: سألت مالكا عن الرجل يتصدق على ابنه
(13/451)
وأخبرني أن عبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت،
صاحبي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حبسا دارا لهما، وكان يسكنان فيها حتى
ماتا وكان الذي سكنا منها، ليس جلها، فمحازاها سكنا من الدار، وما لم يسكنا
للابن منها، على ما قال ابن القاسم.
قال مالك: وذلك رأيي. قال ابن القاسم: قال مالك: ولو أن رجلا حبس أو تصدق
بدور لها عدد، وسكن دارا منها كلها، لم تكن تلك الدار التي سكن جل الدور،
وهي تبع لما تصدق به، جاز ما سكن من ذلك وما لم يسكن، إذا كان تصدق على ابن
له صغير يليه، أو كبير فحاز ما لم يسكن فيه، فهذا دليل على هذا أنها جائزة.
قال ابن القاسم: وأما ما استثنى من أقساط الزيت من الزيتون، فإن ذلك لا
يفسد صدقته، وهي شيء تافه في صدقته، والذي يسكن المنزل من داره أشد من هذه
الأقساط اليسيرة. قال: وقد قال مالك في غير مسألة، في الرجل يحبس نخله أو
دوره على قوم بأعيانهم، ويشترط من النخل كيلا مسمى لقوم يسميها بأعيانهم
غير الذين حبس عليهم، فإذا انقرضوا فترجعها إلى الذين حبس عليهم، أو من غلة
الدور، الدنانير فمسمى عددها في الشيء يجريه على مثل المسجد والفقراء، أو
الرجل بعينه: إن ذلك جائز، إذا حازه الذي حبس عليه، أو كان صغيرا يليه الذي
حبس عليه، وكان ينفذ ذلك في وجهه، جاز ذلك كله، وهذا مما لا اختلاف فيه.
قال ابن القاسم: وأما الدور والأرحى التي جعل لمواليه، واشترط عليهم القيام
بأمر الأرحى لولده، فذلك جائز، إنما أعطاهم شيئا من منزل قد عرفوه وعرف وجه
العمل فيه، فذلك جائز لا خطر فيه ولا غرر، وهو مما قَوَّى صدقة الابن،
وحيازة الموالي مع حيازة الأب له حيازة، فإن ذلك قد ثبت له في رأيي فيما
سمعت من مالك.
(13/452)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة أبي عثمان من
أهل قرطبة، كتب بها محمد بن بشير القاضي، إلى ابن القاسم يسأله عنها،
والسؤال عنها في ثلاثة مواضع:
أحدها: اشتراطه في صدقته على ابنه الصغير بداره أن يسكن معه ابنته الصغيرة
حتى تنكح، وأمهات أولاده، ومواليه من الرجال والنساء، الساكنين فيها أن
يسكنوا مع ابنه ذلك، فيها حياتهم، فإن تزوج من الموليات أحد، فلا سكنى لمن
تزوج منهن بعد تزويجها، فأجاز ذلك، ولم يره مما تضعف به الحيازة في الدار،
إذ لم يسكنها هو بنفسه، وإن سكنها أمهات أولاده؛ لأنه إنما أبقاهن في الدار
لمكان ابنه المتصدق عليه، ليقمن بأمره فيما يحتاج إليه، ولم يفردهن أيضا
بالسكنى معه فيها، إذا ترك معهن في ذلك مواليه من الرجال والنساء، الذين
كانوا سكانا فيها أيضا، وسكناتهم فيها مع ابنه المتصدق عليه أو دونه حيازة،
إذ ليس عليه إسكانهم؛ لأنهم أحرار، ومن أسكن رجلا مسكنا ثم تصدق به على
غيره، فيكون المسكن فيه حيازة للمتصدق عليه به، على مذهبه في المدونة في أن
قبض الخدم قبضا للموهوب له، ولو أفرد على أمهات أولاده بالسكنى في الدار مع
ابنه المتصدق عليه، لكان ذلك حيازة، على ما حكى ابن حبيب عن المدنيين
والمصريين، من غير أن يختلفوا عليه من أن سكنى أمهات المتصدق عليه معهم في
المسكن الذي تصدق به عليهم آباؤهم، حيازة لهم، وإن كان تحته بتزويج أو
شراء، ما لم يكن ذلك مسكنا له خاصا يستوطنه، فكيف إذا لم يفردهن بذلك، وشرك
معهن فيه مواليه من الرجال والنساء، فهذا وجه قول ابن القاسم في إجازة هذه
الحيازة، ويدخل فيها من الاختلاف ما في قبض المخدم للموهوب له على ما يأتي
في سماع سحنون، إذ لا فرق في هذا بين الإسكان والإخدام، ويبين ذلك ما يأتي
في رسم الكبش من سماع يحيى لابن القاسم، في أن من تصدق على والده الذي يحوز
له بدار قد أسكن فيها بعض ولده، إنه لم يخرج منها الولد، كان يسكنها حتى
مات الأب، لم يكن للمتصدق عليه شيء.
(13/453)
فقول ابن القاسم في رواية يحيى هذه، مخالفة
لقوله في هذه الرواية، على هذا كان الشيوخ يحملون ذلك، ويحتمل أن يفرق بين
المسألتين بسكنى الابن المتصدق عليه في هذه الرواية في الدار الذي تصدق بها
عليه أبوه مع أمهات أولاده ومواليه.
والموضع الثاني: اشتراطه في الزيتون الذي تصدق به على ابنه الأقساط من
الزيت في كل عام للمسجد الذي بناه، إذا لم يحزها وأبقاها بيده، فأجاز ذلك
قياسا على ما قاله مالك من أن الأب إذا تصدق، على ابنه الذي في حجره بالعبد
وهو معه في بيت واحد، فيخدمها جميعا: إنه لا يوهن ذلك حيازة له، وقياسا على
ما قاله أيضا في أنه إذا تصدق على ابنه الذي في حجره بالمسكن، فسكن اليسير
منه، إن حيازته له صحيحة تامة. وقياسه في ذلك كله صحيح بين؛ إذ لا فرق بين
أن يستثنى الأقساط لنفسه طول حياته، ثم يلحقها بالحبس بعد وفاته أو
يستثنيها ليجعلها هو في المسجد طول حياته، ثم يكون حبسا بعد وفاته.
والموضع الثالث: جعله لمواليه الساكنين في القرية التي تصدق بها على ابنه
الارتفاق بما كان تحت أيديهم من أرض القرية وشجرها ومساكنها ما داموا
يقومون لابنه المتصدق عليه بمرمة أو حيته، وما يحتاج إليه من المطاحين،
وغير ذلك، فإن تركوا القيام بذلك لم يكن لهم سكنى في القرية والارتفاق بشيء
منها، فأجاز ذلك ابن القاسم، ولم ير فيه غررا ولا مخاطرة؛ لأنه رأى قدر ذلك
معلوما بالعرف والعادة، لا توهينا للحيازة، بل رأى ذلك قوة فيها وتثبيتا
لها لأن حيازة الوالد لابنه معه تقوية لحيازته.
وحكى الفضل عن يحيى بن عمر أنه قال: في الأرحية نظر؛ لأنه إنما جعل لهم ما
جعل على أن يقوموا لابنه بمرمة الأرحية ومرمة سدها، وجلب ما يحتاج إليه من
المطاحن وغير ذلك من مرمة الأرحية، فإن ترك الموالي ذلك فلا حق لهم في
القرية، ولا مرفق فيها، فهذا عندي خطر وغرر، وربما كثر علاج الأرحية، وربما
قل، فأعطاهم الذي أعطاهم على شيء مجهول، لا يعلمون ما يلزمهم فيه، فلا يحقه
هذا، ولا يكون للموالي شيء مما أوصى
(13/454)
لهم به على هذا الشرط، وتكون الأرحية وجميع
ما جعل لمواليه لولده، وتكون مرمة الأرحية على الحبس. وقول يحيى بن عمر
ظاهر في أن ذلك غرر، إلا أن ذلك لا يؤثر في صحة الحيازة كما قال، فإن لم
يعثر على ذلك حتى فاته الأمر بسكناهم فيها، وقيامهم بما تحتاج إليه الأرحى
كان عليهم الكراء في السكنى، كراء المثل، وكانت لهم قيمة عليهم في قيامهم
بالأرحى ورجع من كان له الفضل منهم في ذلك على صاحبه بالفضل. وبالله
التوفيق.
[مسألة: يتصدق على ابن له صغير في حجره بالنخل
أيأكل منها]
مسألة قال ابن القاسم: وسألنا مالكا عن الرجل يتصدق على ابن له صغير في
حجره بالنخل، وبالضأن، وبالمزرعة، أيأكل منها؟ قال مالك: ما أرى بأسا أن
يأكل من ثمر النخل ويشرب من ألبان الضأن، ويكتسي من أصوافها إذا كان ذلك
على ابنه.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم،
ومضى الكلام عليها مستوفى في رسم حلف ألا يبيع سلعة سماها. وساقها ابن
القاسم هاهنا حجة لما أجاب به في مسألة أبي عثمان، وبالله التوفيق.
[مسألة: تصدق على ابنه بصدقة ثم احتاج]
مسألة قال ابن القاسم: قال مالك: لو أن رجلا تصدق على ابنه بصدقة من عرض أو
حيوان أو دينار، فحاز له ذلك، ثم احتاج، يريد: أن يكون يلي هو تلك العروض،
فيحوزها له، ويضع الدنانير على يدي غيره، فاحتاج الأب - رأيت أن ينفق عليه
ما يصلحه مما تصدق على ابنه، ورأى أن ذلك للأب جائز. قال: فقلت لمالك:
فالدنانير، كيف تحاز؟ قال: بعضها على يدي غيره، فقلنا: وإن وضعها على يديه
وطبعها، قال: في الدنانير والدراهم خاصة،
(13/455)
لا أراها جائزة، حتى يخرجها من يديه إلى
يدي غيره، ولم يرها مثل العروض والنخل والحيوان.
قال محمد بن رشد: لفظة "ثم احتاج" زيادة في المسألة وقعت على غير تحصيل،
فبإسقاطها يتبين معنى المسألة؛ لأن قوله "يريد" إنما فسر به الحيازة، لا
الحاجة، والاختلاف فيه في أن الأب إذا احتاج، جاز أن يستنفق مما يتصدق به
على ابنه، وإن تمنع من ذلك حكم له به عليه.
وقد مضى ذلك في رسم حلف ألا يبيع رجلا سلعة سماها، تحصيل القول فيما يجوز
للأب أو الأجنبي أن يأكله أو يشربه مما تصدق به من علته - مستوفى، فلا معنى
لإعادته. وقوله في الدنانير والدراهم خاصة: لا أراها جائزة حتى يخرجها من
يده إلى غيره، يريد: وكذلك ما كان في معنى الدنانير والدراهم من تبر الذهب
والفضة، وكل ما لا يعرف بعينه، إذا غيب عليه من المكيل كله والموزون. وقد
مضى ذكر ذلك واختلاف قول مالك في أول رسم من سماع ابن القاسم وفي رسم طلق
بن حبيب منه، وهذه المسألة أيضا ساقها ابن القاسم حجة؛ لما أجاب به في
مسألة أبي عثمان المذكور، وبالله التوفيق.
[مسألة: يحبس على الرجل الدار أو العبد حياته]
مسألة قال: وأما ما سكن من الموليات في داره ولابنته وأمانته، واشترط أن
مرجع ذلك إلى ابنه المتصدق عليه بعد فوتهن وخسر وجهن إلى أزواجهن، فذلك
أثبت لصدقة الابن، وهي جائزة له، لا في مسألة مالك عن الرجل يحبس على الرجل
الدار أو العبد حياته، ويقول فيها: إذا مات الذي حبست عليه حياته، فهي
لفلان صدقة بتلا، فيموت الذي حبسها، قبل أن يموت الذي حبسها عليه، وقبل أن
يقبض الذي بتلها له، ثم يموت الذي حبس عليه،
(13/456)
فقال: قال مالك: إذا حازها الذي حبست عليه
حياته، جازت الصدقة للذي تصدق بها عليه بتلا، وإن لم يقبضها حتى يموت
صاحبها الذي حبسها عليه، وحوز الذي أخدمها حياته، حوز للذي تصدق عليه بتلا،
فكذلك المواليات والابن إذا سكن في حياته، وخدمها، فهي جائزة، وكل ما
سألتني عنه من أمرها فأراها للابن جائزة. والله أعلم.
قال محمد بن رشد: هذا هو أحد المواضع الذي وقع السؤال من أجله، في مسألة
أبي عثمان. وقد مضى الكلام عليه، وكلام ابن القاسم هذا كله بين وتنظيره لما
نظر به سكنى المواليات والابنة في الدار المحبسة على ابنه بما نظر به من
قول مالك صحيح، إلا أن في مسألة أبي عثمان المسئول عنها، زيادة شرط سكنى
أمهات أولاده في الدار مع الموالي والموليات والابنة، وأنهم كانوا سكانا في
الدار قبل التحبيس، ففي ذلك تضعيف للحيازة. ووجه يوجب الاختلاف فيها.
وقد مضى الكلام على ذلك في أول مسألة، ولم يلتفت ابن القاسم إلى شيء من
ذلك، فأجاب بجواز الحيازة على القول بأن قبض الخدم والمسكن قبض للموهوب له،
وذلك بخلاف قوله في رسم الكبش من سماع يحيى على ما ذكرناه في أول المسألة.
وبالله التوفيق.
[مسألة: ما تصدق به عليه أبوه شيئا كان بكراء]
مسألة وإن كان ما تصدق به عليه أبوه شيئا كان بكراء، مثل الدور والحمامات
والحوانيت، فكراء أبيه له كراء، وإن لم يقل اكتريت لابني، وإن لم يخرج ذلك
إلى أحد يحوزه عن ابنه ذلك فحوز أبيه حوز، وكراؤه له كراء، إذا كان ما تصدق
به عليه في صحة منه ما لم يبلغ الغلام وترضى حاله.
(13/457)
قال محمد بن رشد: هذا الفصل من بقية جواب
ابن القاسم في مسألة أبي عثمان وهو بيّن صحيح لا اختلاف فيه، ومثله من قوله
في سماع أصبغ بعد هذا، وأنكر قول من خالف في ذلك، وقال: إنه قد أخطأ وصحف،
وخالف سنة المسلمين، فلا يقوله من هو من أهل العلم ونصه الملاك بعد هذا في
رسم يريد ماله. وبالله التوفيق.
[مسألة: تصدق على ابن له صغير بصدقة فكان يحوز
له حتى بلغ ورضي حاله]
مسألة قال ابن القاسم: قال مالك: ولو أن رجلا تصدق على ابن له صغير بصدقة،
فكان أبوه يحوز له حتى بلغ ورضي حاله، فإذا بلغ ورضيت حاله، فلم يدفع إليه
الصدقة، ولم يحزها، فلا صدقة له. وقد فهمت كل ما سألتني عنه، وفسرت لك كل
ما سمعت.
قال محمد بن رشد: هذا آخر جواب ابن القاسم في مسألة أبي عثمان، وهو فصل بين
لا اختلاف فيه ولا إشكال. وبالله التوفيق.
[: تصدق على ولد له بدنانير أو دراهم وقال
لشريك له حزها له]
ومن كتاب أوله جاع فباع امرأته وسئل: عمن تصدق على ولد له بدنانير أو
دراهم، وقال لشريك له: حزها له، فقال شريكه: اشهدوا أنها له عندي قد حزتها
ثم مات أبو الصبي، فطلب الصبي صدقته، فزعم الشريك أنه قد دفع ذلك إلى أبيه
وإنما كانت في شركته في يدي، قال: لا ينفعه ذلك، ويلزمه غرمها له.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه لما حاز لابن شريكه ما تصدق به من مال
الشركة، وجب ذلك للابن، وخرج من الشركة، ووجب أن يكون
(13/458)
ضامنا له إن دفعه إلى شريكه بعد أن حازه،
وأشهدوا على نفسه بذلك، وذلك بمنزلة الرجل تكون له الوديعة عند رجل، فيتصدق
بها على رجل ويأمره أن يحوزها له، فلا اختلاف في أنها حيازة تامة إذا رضي
المودع بحيازتها له، حسبما مضى القول فيه في رسم العشور، فكيف إذا أشهد على
نفسه بأنه قد حازها له. وبالله التوفيق.
[مسألة: تصدق على ابنه الصغير بدار ثم باعها]
مسألة ومن كتاب أوله يدير ماله قال: وقال مالك، في الذي يتصدق على ولده
الصغير، الذي يحوز له، بالغلة ويكريها لهم: إن ذلك جائز، إذا أشهد، وإن لم
يكتب الكراء بأسمائهم، ومن يكري للصغير، ومن يشتري له، ومن يبيع له، إلا
أبوه، وأنكر قول من يقول: لا يجوز إذا كتب الكراء باسم نفسه، وعليه، وكرهه
كراهية شديدة، وقال: قد صحف، وقال: هذا خلاف لسنة المسلمين، ولا أعلم أحدا
من الناس قال هذا.
قال محمد بن رشد: هذا من قول مالك، مثل ما تقدم من قول ابن القاسم في آخر
رسم شهد، ونص قوله في أول رسم سماع أصبغ بعد هذا، فكراؤه ما تصدق به على
ابنه محمول على أنه إنما يكريه له، حتى ينص أنه إنما باعه لنفسه، استرجاعا
بصدقته، وذلك منصوص عليه في الواضحة لأصبغ. قال فيمن تصدق على ابنه الصغير
بدار، ثم باعها: فإنه إن باعها باسم ولده، أو سكت، أو باع منها، فالبيع
جائز، والثمن للابن على الأب في حياته وبعد وفاته؛ لأنه محمول على أنه باع
له، إلا أن يشهد عليه أنه باع لنفسه نصا استرجاعا لصدقته وانحلالها فيرد
البيع ويصرف الدار إلى الولد،
(13/459)
حيا كان الولد أو ميتا، إن كان بيعه للدار
بعد أن حازها مما يحوز به الأب صدقته على ابنه، وأما إن كان باعها قبل أن
ينتقل عنها لنفسه، فيفسخ البيع إن عثر عليه في حياته، وترد الدار لولده
وتمضي الصدقة له بها، وإن لم يعثر على ذلك حتى مات الأب، فلا صدقة له ولا
حق في الدار، إلا في الثمن، والبيع ماض للمشتري، وسواء مات الأب فيها، أو
كان قد أبانها إلى المشتري؛ لأنه لم يزل ساكنا فيها حتى باعها لنفسه،
استرجاعا لها.
وذكر أصحاب الوثائق: أن الأب إذا تصدق على ابنه الصغير بما له غلة فاستغل
الغلة وأدخلها في مصالح نفسه، وقامت بذلك بينة، ولم تزل كذلك إلى أن مات
الأب، فالصدقة باطل، وهو عندهم بمنزلة السكنى إذا لم يخل الدار من نفسه
وماله حتى مات فيها، فهي باطل. وفي المدنية لابن كنانة مثل ذلك، ودليل قول
مالك في هذه الرواية، وقول ابن القاسم فيما تقدم في آخر رسم شهد في أول
سماع أصبغ فيما يأتي: إن الصدقة جائزة، وإن استنفق الأب الغلة؛ لأن الكراء
إذا كان محمولا على أنه لابنه فإنما استنفق من مال ابنه بعد أن وجب له،
يأخذه منه في حياته وبعد وفاته، وهو نص قول أصبغ، في ثمن الدار إذا باعها
بعد أن حازها لابنه باسم ولده، أو جهل فلم يعلم إن كان باعها بنفسه أو
لولده: إن الثمن يكون له في مال أبيه حيا أو ميتا. وبالله التوفيق.
[: يتصدق على ابن له كبير حائز لأمره]
ومن كتاب الجواب قال: سألت ابن القاسم: عن الرجل يتصدق على ابن له كبير
حائز لأمره، أو على أجنبي، بمدبر له يتصدق عليه برقبته، فيحوزه المتصدق
عليه، ثم يموت الذي دبره، ولا مال له غيره، قال ابن القاسم: يعتق ثلثه
ويكون ثلثاه رقيقا للمتصدق به عليه، وهو أولى به، وليس لورثته فيه قليل ولا
كثير، وإنما هو بمنزلة الخدمة أن لو أخذه أجنبيا أو ابنا له كبيرا مالك
أمره إلى أجل، فحازه وكان في
(13/460)
يديه، ثم مات السيد ولا مال له غيره، فإنه
يعتق ثلثه، ويكون المخدم أحق بثلثي الخدمة يختدم ثلثي المدبر، حتى ينقضي
أجل الخدمة، والصدقة والخدمة في ذلك سواء، وإن تصدق على ابن له صغير في
حجره، فمات ولا مال له غيره، أعتق ثلثه، وكان ثلثاه رقيقا للورثة، ولم يكن
ابنه الصغير أحق به، ولم يكن له منه بالصدقة قليل ولا كثير، وفرق ما بين
الصغير والكبير والأجنبي في ذلك؛ لأن أولئك قد حازوا وأخذوا من يد السيد
إليهم، وأنه في الولد الصغير، هو في يد الأب، ولم يخرج، وليس حوزه للصغير
في هذا يجوز؛ لأن المدبر من الأشياء التي لا يجوز له فعله هذا فيه، ولا
إخراجه من يديه، فكأنه في يديه لم يخرج منه يفعل، ولم يحز عنه كما حاز
الكبير والأجنبي.
ومما يدلك على ذلك أن لو تصدق رجل على ابن له كبير، مالك لأمره، أو على
أجنبي بصدقة، فحازاها وقبضاها ثم قام على المتصدق غرماؤه بدين، ولم يدر
الصدقة، كانت قبل الدين - كانت الصدقة أولى حتى يقيم أهل الدين البينة أنها
بعد الدين. ولو تصدق على ابن له صغير في حجره، يجوز لمثله صدقته، وقام عليه
غرماؤه، فلم يدر الدين قبل أم الصدقة، كان الدين أولى بها، حتى يعلم أنها
قبل الدين، وكذلك قال مالك، وإلا بطلت الصدقة، ولم تكن تلك حيازة.
قال ابن القاسم: وإن علم علي بمكروه الصدقة، فالمدبر في مسألتك في حيازة
المتصدق، ردت الصدقة، كانت على كبير أو على صغير، وكان على تدبيره وماله،
وإن قبضه الأجنبي والكبير وباعه، ثم مات السيد فعثر على ذلك بعد موت السيد
رد وعتق في ثلث السيد إن حمله الثلث، ورجع المشتري بالثمن على بائعه إن كان
له مال، ولا اتبعه به دينا، فإن لم يترك السيد مالا غيره عتق ثلثه، وكان
المتصدق عليه
(13/461)
أولى ببقيته عما فسرت لك. قال أصبغ بن
الفرج: وأنا أخالف ابن القاسم في صدقة الصغير بغير المدبر، وأرى حيازة الأب
حيازة وأراها أولى حتى يعرف أن الدين كان قبلها، وهي كحيازة الكبير في ذلك،
فلا يفترق حيازة الكبير لنفسه ولا حيازة الأب الصغير، إذا كان تخلى منها،
فأما في المدبر، فرأي على قوله، وليس من قبل الفرق في حيازة الكبير
والصغير، ولكن من قبل أنه لم تحل إن كانت مما لا تخرج من يديه بعطية جائزة.
وبالله التوفيق.
قال محمد بن رشد: وقوله في الذي يتصدق بالمدبر على من يجوز لنفسه، فيحوزه
المتصدق، ثم يموت الذي دبره، ولا مال له: إنه يعتق ثلثه، ويكون ثلثاه رقيقا
للمتصدق عليه، معناه: إذا لم يعثر على ذلك حتى مات المتصدق، وأما لو عثر
على ذلك في حياته، لفسخت الصدقة، ورد المدبر إلى الذي دبره؛ لأن المدبر لا
يجوز بيعه ولا هبته ولا صدقته، أو هبة ما رق منه إن لم يحمله الثلث، وخدمته
من الآن فقبضه وحازه من الآن، يحاز ذلك ولم يرد، وكان للمتصدق عليه بعد
موته ما رق منه؛ لأن هبة المجهول جائز، كما يجوز رهنه، لجواز رهن الغرر،
ويكون المرتهن إذا حازه أحق به من الغرماء بعد الموت، يباع له دونهم على ما
قال في المدبر من المدونة، ولما لم يجز هبة المدبر، ووجب أن يرد وتبطل
الحيازة فيه، إن عثر عليها قبل موت المتصدق، ويرد المدبر إليه، وجب إذا
كانت الصدقة به على صغير ولده، أن يحكم ببطلان حيازته إياه له، فلا تعتبر
بها. اتفق ابن القاسم وأصبغ على ذلك.
واختلفا إذا تصدق على صغير ولده، ثم قام عليه الغرماء، فلم يعلم، الصدقة
قبل أم الدين؟ فقال ابن القاسم: الدين أولى، حتى يعلم أن الصدقة كانت قبله.
وقال أصبغ، وهو قول مطرف وابن الماجشون: الصدقة أولى حتى يعلم أن الدين كان
قبلها. ووجه ذلك: أن الأب لما أشهد أنه قد تصدق على ابنه بهذه الصدقة،
وحازها له، وجب قبول قوله، وإعمال
(13/462)
حيازته، وإمضاء صدقته، ولا ترد إلا بيقين
أن الدين الذي ظهر، كان قبلها، وقول ابن القاسم أظهر؛ لأن حيازة الأب
للصغير لا تعلم إلا من قبله، فإذا قال: قد حزت لابني قبل قوله مع السلامة
من الدين، فإذا لم يتحقق أن كان يوم أشهد أنه قد حاز لابنه ما تصدق به
عليه، سالما من الدين الذي ظهر عليه بعد ذلك، أو غير سالم منه، وجب أن ألا
يقبل قوله، وأن يقضي للغرماء بهذا المال، الذي يعلم ماله له، حتى يعلم
خروجه عن ملكه قبل ديونهم، فلا تبطل ديونهم إلا بيقين، إلا أن استدلاله على
صحة قوله في إبطال حيازة الأب على ابنه الصغير، صدقة عليه بالدين، بطلان
حيازته لما تصدق به، إذا لم يعلم إن كان الدين الذي ظهر قبلها أو بعدها لا
يصح؛ لأنه من الاستدلال بالفرع على أصله، والحكم بثبوت الأصل قبل تسليمه.
فمسألة المدبر المتفق عليها هي الأصل، وهذه المسألة المختلف فيها هي الفرع،
وحق الفرع أن يرد إلى الأصل بالعلة الجامعة بينهما، ولا اختلاف بينهما في
أن الكبير إذا حاز ما تصدق به عليه لا يخرج صدقته من يديه، لا يتحقق أنه
قبلها، فإن تحقق أن الدين قبلها، ردت الصدقة باتفاق. واختلف في العتق،
فقيل: إنه يرد، وقيل: إنه لا يرد، وقيل: إنه يرد إلا أن يطول، وقد تأول أن
ذلك ليس باختلاف من القول، وأن ذلك يرجع إلى أنه يرد، إلا أن يطول.
وقد مضى ذكر هذا في رسم الأقضية الأول، من سماع أشهب من كتاب المديان
والتفليس. ولا يعبر عند ابن القاسم بتاريخ أحدهما، إذا جهل الأول منهما،
ويعتبر به على ما حكاه ابن حبيب في الواضحة عن مالك وأصحابه، حاشا المغيرة،
فتخرج على هذا في الصدقة على الصغار، أربعة أقوال: أحدها: إن الصدقة أولى
من الدين، وإن كان الدين مؤرخا. والثاني: إن الصدقة أولى من الدين، إلا أن
يكون الدين مؤرخا، فيكون أولى من الصدقة. والثالث: إن الدين أولى من
الصدقة، وإن كانت الصدقة مؤرخة. والرابع: إن الدين أولى من الصدقة، إلا أن
تكون الصدقة مؤرخة، فتكون
(13/463)
أولى من الدين. وتخرج في الصدقة على الكبار
قولان: أحدهما: إن الصدقة أولى من الدين وإن كان الدين مؤرخا. والثاني: إن
الصدقة أولى من الدين، إلا أن يكون الدين مؤرخا فيكون أولى من الصدقة. ومن
باع دارا ثم وهبها، أو تصدق بها، أو حبسها ولم يعلم، كان البيع أولى أو
الهبة أو الصدقة أو الحبس، فالبيع أولى. وقع ذلك في كتاب الهبات من الصدقة،
وتخرج في ذلك على القول باعتبار التاريخ قول آخر، وهو أن البيع أولى إلا أن
تكون الهبة أو الصدقة أو الحبس مؤرخا، فيكون أولى من البيع، وهذا إذا لم
يقبض. وبالله التوفيق.
[مسألة: يسأل امرأته في مرضه أن تضع عنه مهرها]
مسألة قال: وسألت: عن الرجل يسأل امرأته في مرضه أن تضع عنه مهرها، أو تصدق
عليه بشيء من مالها، فتفعل ذلك، ثم أرادت بعد موته، أو بعد أن صح من مرضه،
أن تصدق عليه بشيء من مالها، فتفعل، ثم أرادت بعد موته، أو بعد الرجوع فيه،
هل ترى ذلك لها بمنزلة الميراث؟ قال ابن القاسم: لا، ليس لها ولا يعجبني
ذلك لها، صح أو مات، قضي فيه بشيء أو لم يقض، صرفه إلى موضع أو لم يصرفه،
وليست الديون ولا الصدقات في هذا بمنزلة المواريث. وهذا وجه الشأن فيه وهو
قول مالك، ورواها أصبغ.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في أن ما وهبت المرأة لزوجها من مالها أو من
صداقها عليه في مرضه، أو في صحته، لازم لها، وجائز عليها، ليس لها أن ترجع
في شيء منه في حياته، ولا بعد وفاته، إلا أن يكون أكرهها على ذلك بالإحافة
والتهديد، أن يسألها ذلك، فتأبى، فيقول: والله لئن لم تفعلي ذلك لأضيقن
عليك، ولا أدعك تأتي أهلك، ولا أدع أهلك يأتونك،
(13/464)
على ما قاله في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع
ابن القاسم، من كتاب الدعوى والصلح، وما أشبه ذلك، فلا يلزمها؛ لأن إكراه
الرجل امرأته إكراه على ما قاله في المدونة.
وقوله: ولا يعجبني ذلك لها، لفظ تجوز، والحقيقة فيه، ولا يسوغ ذلك لها، وقد
يكنون بالمكروه عن الحرام، وأما إذا سألها في مرضه، أن تهب له ميراثها مما
تخلفه، من بعضه فلا يلزمها ذلك، ولا أن ترجع فيه إذا مات، قضي فيه بشيء أو
لم يقض، بخلاف الابن البائن عن أبيه، يسأله أبوه في مرضه أن يهب له ميراثه
مما يخلفه، أو من بعضه، فهذا إن قضي فيه بشيء لزمه، ولم يكن له أن يرجع عنه
على ما قاله في المدونة في الذي يستأذن ورثته أن يوصي بأكثر من ثلثه،
فيأذنون له في ذلك، فيفعل، ثم يريدون أن يرجعوا فيما أذنوا له فيه بعد
موته، أن ذلك لامرأته، وليس كان في عياله من ورثته، وإن كان مالكا أمر
نفسه، دون ما لم يكن في عياله، وكان بائنا عنه، ولا يلزم الوارث على حال ما
أذن لموروثه فيه، في صحته من الوصية لبعض ورثته أو بأكثر من ثلثه.
وقد مضى في رسم نقدها من سماع عيسى تحصيل القول في الوارث يهب في مرض
موروثه أو في صحته، أو بعد موته ميراثه منه لبعض الورثة والأجنبي، فلا معنى
لإعادته.
[مسألة: يتصدق على الرجل بالجارية على أن
يتخذها أم ولد]
مسألة قال: وسألته: عن الرجل يتصدق على الرجل بالجارية على أن يتخذها أم
ولد، هل يحل له وطؤها؟
قال ابن القاسم: لا يجوز له وطؤها على هذا الشرط، وإن وطئها فحملت أم ولد
له، ولا قيمة عليه؛ لأنه قد اتخذها كما اشترط عليه، وليس بمنزلة التحليل في
القيمة؛ لأن التحليل إنما حل له فرجها، ولم يعط رقبتها، وهذا قد أعطي
رقبتها كلها. وإن وطئها فلم تحمل، رأيتها له أيضا، ورأيتها مالا من ماله،
يلحقها
(13/465)
الديون إن لحقته، ويبيع ويصنع بها ... ولا
يفسخ عنه الصدقة ولا ترد؛ لأنه إنما أعطيها على الوطء، وعلى طلب الولد، فقد
وطئ، فإذا وطئ فقد طلب الولد، فأرى وطأه إياها فوتا، حملت أو لم تحمل، ولا
قيمة عليه، حملت أو لم تحمل.
قال محمد بن رشد: قوله: لا يجوز له وطؤها على هذا الشرط - معناه: إن ذلك لا
يجوزه حتى يوقف المتصدق، فإما أن يسقط الشرط، وإما أن يسترد الجارية، فإن
مات المتصدق قبل أن يوقف على ذلك يخرج الحكم في ذلك على قولين:
أحدهما: إن ورثته ينزلون منزلته في ذلك، فيخيرون بين إسقاط الشرط أو
استرجاع الجارية ما لم تفت بوطء على مذهب، أو يحمل على مذهب أصبغ.
والثاني: إن الصدقة تبطل إن مات قبل أن تفوت الجارية عند المتصدق عليه بوطء
أو بحمل، على اختلاف قول ابن القاسم وأصبغ، فالصدقة على القول الأول على
الإجازة حتى ترد، وفي القول الثاني على الرد حتى تجاز، فلا اختلاف في أنها
تفوت بالحمل إذا أحبلها قبل أن يوقف المتصدق على إسقاط الشرط، أو استرجاع
الجارية، فتجب له دون قيمته.
واختلف هل تفوت بالوطء؟ فأفاتها ابن القاسم في هذه الرواية، ولم يفتها له
أصبغ على ما حكى ابن حبيب في الواضحة وأراد عنه أنه أفاتها بالبيع وبالعتق
أو التدبير، أو ما أشبه ذلك، قبل أن يعلم بفساد الصدقة، لزمته القيمة؛
لأنها فاتت في غير ما أعطيت له، واستحسن ابن حبيب قول أصبغ، وأخذ به.
ويتخرج في المسألة قول ثالث: وهو أن تجوز الصدقة ويبطل الشرط، على ما قاله
في المدونة في الذي يحبس الدار على رجل وولده، ويشترط أن ما احتاجت إليه من
مرمة، رم المحبس عليهم، إن الدار تكون حبسا على ما جعلها عليه، ولا يلزمهم
ما شرط عليهم من مرمتها، وتكون مرمتها من غلتها.
(13/466)
وقد مضى في رسم إن خرجت الكلام مستوفى في
الذي يهب للرجل الهبة، على أن لا يبيع ولا يهب، وهو معنى هذه المسألة، فقف
على ما مضى من الكلام في ذلك، وتدبره، ومن تصدق على ولده الكبير بصدقة على
أن لا ميراث له منه، فالصدقة باطلة، إن كان الشرط في أصل الصدقة، وإن كان
أنشد إذ ذلك عليه بعد الصدقة وإن قرب، فالصدقة قول مطرف وابن الماجشون،
وأصبغ.
واختلفوا إن كانت الصدقة على صغير، فقال أصبغ: إن ذلك بمنزلة إذا كانت على
كبير، واختاره ابن حبيب، وقال ابن الماجشون: الصدقة ماضية، والشرط باطل،
كان الشرط مع الصدقة أو بعدها. وقال مطرف: إن كان الشرط مع الصدقة، أو في
قربها، باليوم واليومين، فالصدقة باطل، وإن تباعدت السواء بعد الصدقة
فالصدقة ماضية، والسواء باطل وهذا أضعف الأقوال. وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول لامرأته خمسون دينارا من مالي
صدقة عليك إلى عشر سنين]
مسألة قال: وسألت: عن الرجل يقول لامرأته خمسون دينارا من مالي صدقة عليك
إلى عشر سنين، إلا أن تموتي قبل ذلك، فلا شيء لك، وهي لولدي.
قال ابن القاسم: فهو على ما قال، إن بقيت المرأة إلى عشر سنين، أخذتها، إن
كان الزوج حيا صحيحا، وإن ماتت المرأة قبل ذلك، فلا شيء لورثتها، وهي للولد
كما جعل، إذا جاءت العشر سنين، وهو حي صحيح، وإن مات الرجل قبل العشر سنين،
فلا شيء لا للمرأة ولا لغيرها، وإن أوفت العشر سنين، والرجل مريض، والمرأة
باقية، ثم مات من مرضه، فلا شيء لها، في ثلث ولا رأس مال؛ لأنها بمنزلة من
تصدق عليها بصدقة
(13/467)
فلم تقبضها حتى مات المتصدق، فلا شيء
للمتصدق عليه حينئذ في ثلث ولا غيره.
فإن قلت: إن هذا أنني الأجل عليه وهو مريض، فساعتئذ وجبت، فكأنها صدقة في
العرض، فصدقت، ولكن الأصل كان في الصحة، وبه يتم، فمن هناك بطلت، وما يدل
على ذلك، الرجل يعتق عبده، بعد عشر سنين، وهو صحيح، فتأتي العشر سنين،
والسيد مريض، فلا يضر ذلك العبد، ويكون حرا من رأس المال؛ لأن الأصل كان في
الصحة يجوز له القضاء في ماله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة صحيحة لا إشكال فيها؛ لأنها صدقة تصدق
فيها في صحته، أوجبها على نفسه في ذمته كامرأته إن بقيت إلى عشر سنين، أو
لولده إن ماتت قبل العشر سنين، فإن أتت العشر سنين، وهو حي صحيح، وجب
الخمسون لها إن كانت حية، مريضة كانت أو صحيحة، وإن كانت قد ماتت قبل ذلك،
كانت الخمسون لولده إن كان حيا صحيحا كان أو مريضا ولورثته إن قد مات، وإن
أتت العشر سنين، وهو مريض أو مات قبل ذلك، لم يكن لواحد منها شيء ولا
لورثته؛ لأنها صدقة تحز على المتصدق حتى مرض أو مات. وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول وهو صحيح ثلاثون دينارا من مالي
صدقة على فلان عشت أو مت]
مسألة قال: وسألت: عن الرجل يقول وهو صحيح: ثلاثون دينارا من مالي صدقة على
فلان، عشت أو مت، أو يقول: ثلاثون دينارا من مالي صدقة على فلان، إلى عشر
سنين، أو عبدي على مثل ذلك؟
قال ابن القاسم: أما الذي قال ثلاثون دينارا من مالي صدقة عليه عشت أو مت،
فهو إن قام عليه في حياته، أخذها منه متى قام
(13/468)
عليه، وإن مات الواهب قبل أن تؤخذ منه،
كانت في الثلث، وأخذها من ثلثه، وإن مات المتصدق عليه قبل أخذها فورثته في
متابه لهم ما كان في حيازة المتصدق، وبعد مماته، وكذلك هو في العبد، لو قال
ذلك فيه، وجعل له فيه، مثل ما جعل في الدنانير، هما سواء؛ لأن هذا بتل قد
بتله له عاش أو مات، وأما الذي قال: بعد عشر سنين، فلا شيء له، إلا العشر
سنين، فإن أتت العشر السنون والمصدق حي أخذها، دنانير كانت أو عبدا، وإن
مات المتصدق عليه بها بعد العشر سنين، فورثته في مثابته بعد عشر سنين، وإن
مات المتصدق بها قبل العشر سنين، فلا شيء للمتصدق عليه ولا لورثته، عاجلا
ولا إلى عشر سنين، لا في ثلث ولا في رأس مال، ولا غير ذلك؛ لأنها بمنزلة
صدقة لم تقبض، حتى مات، فهي باطل، ليست بشيء في ثلث ولا غيره، وإن استحدث
المتصدق بها دينا قبل العشر سنين، بيعت هذه الصدقة في دينه، إن كان شيء
بعينه، وبطلت الصدقة، ولكن إن أراد المتصدق بها بيعها من غير دين يلحقه،
منع من ذلك، ولم يكن له ذلك، وإن كانت جارية لم يطأها، وروى أصبغ عن ابن
القاسم مثله.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في الذي قال في صحته: ثلاثون دينارا من
مالي صدقة على فلان، عشت أو مت، وقال ذلك في عبده، إنه إن قام عليه بصدقته
في حياته، أخذها منه متى ما قام عليه - بَيِّنٌ صحيح، لا اختلاف فيه بين
مالك وجميع أصحابه؛ لأنها صدقة بتلها في صحته وبعد موته، فيحكم عليه بها في
صحته من رأس ماله، وبعد موته من ثلثه كما قال، إلا أنه يختلف إن لم يقم
عليه بها في صحته حتى مات، فوجب أن يكون في ثلث ماله، هل يكون حكمها حكم
الوصية في جميع أحوالها؟
(13/469)
فيكون للمتصدق أن يرجع فيها، ويدخل إلا
فيما علم به من ماله، ويبطل بموت المتصدق عليه قبله، فلا يكون لورثته،
ويحاص بها المتصدق عليه أهل الوصايا، ولا يحكم بها للمتصدق عليه في مرض
المتصدق إن كان له أموال مأمونة، أو لا يكون حكمها حكم الوصية في شيء من
ذلك، فلا يكون للمتصدق أن يرجع فيها، ويدخل فيما علم به من ماله، وفيما لم
يعلم، ولا تبطل بموت المتصدق عليه قبله، فينزل ورثته فيها منزلته، وتبدأ
على الوصايا ويحكم للمتصدق عليه بها على المتصدق في مرضه إن كانت له أموال
مأمونة، فيأتي على قياس مقول ابن القاسم في هذه الرواية: إنه إن مات
المتصدق عليه بها قبل أخذها في مثابته، لهم ما كان له في حياة المتصدق،
وبعد مماته، وهو قوله في سماع سحنون بعد هذا: إنه لم يقم بصدقته حتى مات
المتصدق حكم له فيها بثلثه، ويدعي بها على الوصايا، وأما إن قام عليه بها
في مرضه؟ وله أموال مأمونة، حكم له بها، وأنه لا يكون للمتصدق الرجوع فيها
فيختلف من هذه المسألة في هذه الخمسة مواضع، إذا لم يقم بصدقته حتى مرض أو
مات، هل يحكم له بحكم الوصية فيها أم لا؟ وحكم لها محمد بن دينار في
المدنية بحكم الوصية، في أنها تبطل بموته قبل موت المتصدق دون سائر أحكامها
التي ذكرناها، فيقال: إنه إن قام في صحته، أخذ من رأس ماله، وإن مرض قبل أن
يأخذها، أو مات، كانت له من ثلثه، مبدأة على الوصايا؛ لأنه لم يقدر على
الرجوع فيها، ولو كانت له أموال مأمونة، حكمت بها للمتصدق عليه بها في مرضه
قبل موته من ثلثه، فأما إن مات المتصدق عليه بها في مرضه قبل موته من ثلثه،
فأما إن مات المتصدق عليه في حياة المتصدق في صحته، كانت لورثته، وإن لم
يقبضها ورثته حتى مات، لم يكن لهم شيء.
قلت: فإذا مات المتصدق عليه بها قبل المتصدق، فورثته في مثابته ما دام
المتصدق حيا، فإذا مات المتصدق بعد موت المتصدق عليه، لم يكن لورثة المتصدق
عليه فيها حق، قال: نعم؛ لأني لم أقدر أعطيهم بصدقة الصحة، إن صدقة الصحة
لا تثبت إلا بالحيازة،
(13/470)
فبطلت صدقة الصحة، حين لم تحز في الصحة بما
تحاز به الصدقات، فبطلت صدقة الصحة، وبقيت له الوصية، وإن كانت مؤكدة، فقد
مات الوصي له بها قبل أن تجب له الوصية، ولا شيء لمن مات من أهل الوصايا
قبل موت الموصي. هذا نص قول ابن دينار، وليس بقياس.
قال محمد: فاستحب للكاتب أن يكتب في الصدقة عاش أو مات، فإنه إن مات قبل أن
يحوز، كان في الثلث، وليس ذلك بصحيح، وإنما الذي يستحب له أن يعلمه بالحكم
في ذلك، فيكتب ما يختار أن يعلمه على نفسه.
وقد مضى الكلام في المسألة التي قبل هذه، في الذي قال: ثلاثون دينارا من
مالي صدقة، على فلان إلى عشر سنين. وبالله التوفيق.
[: الرجل ينحل ابنته نحلة فتتزوج ثم يموت زوجها
فيريد أبوها اعتصار تلك النحلة]
ومن كتاب أوله باع شاة واستثنى جلدها قال عيسى: وسألته عن الرجل ينحل ابنته
نحلة، فيتزوجها رجل على تلك النحلة، ثم يموت عنها أو يطلقها، فيريد أبوها
اعتصار تلك النحلة، هل يكون ذلك، وقد دخل زوجها بها فمات عنها، أو طلقها،
والصدقة في يدها، أو لم يدخل بها حتى مات عنها زوجها أو طلقها؟
قال ابن القاسم: ليس له أن يعتصرها، دخل بها أو لم يدخل؛ لأنها إنما أنكحت
عليها، فهو شيء بمنزلة ما قد فات وقد يمنع الأب ما دون هذا، أن يهب الجارية
لابنه، فيطؤها الابن، فلا يكون له أن يعتصرها، وكل من وهب لابنه هبة أو
نحله نحلا من ذكر أو أنثى حتى تنكح عليها، أو يداين بها، فيرهقه دين، ثم
يطلق الابن المرأة أو يطلق الزوج الجارية أو
(13/471)
يستحدث الابن ما لا يؤديه في دينه، فلا
اعتصار للأب في شيء من ذلك كله وهو وجه ما كنت أسمع. قال ابن القاسم:
والمرض مخالف لهذا؛ لأن المرض أمر لم يعامله الناس عليه، فلو مرض أحدهما،
لم يكن للأب أن يعتصر في مرض واحد منهما، ولو صحا بعد ذلك، كان الأب أن
يعتصر.
قال سحنون: إذا مرض هو نفسه، فأراد أن يعتصر، فليس ذلك له، قيل له: فإن
أفاق فأراد أن يعتصر، قال: ذلك له، وليس يشبه المعتصر المعتصر منه. قال
أصبغ: إذا صح المريض منهما أو طلق الابن، أو طلق الابنة زوجها أو ودى ذو
الدين منهما دينه، فليس للأب أن يعتصرها بعد ذلك؛ لأن الأب قد امتنعت عصرته
منه لما أحدث بها العصرة، فإذا انقطعت العصرة بشيء من هذه الأشياء التي
انقطع من هذه الأشياء يوما واحدا لم تعد أبدا ولم يكن له أن يعتصرها، وأما
من وهب لابنه وهو متزوج، أو لابنته وهي متزوجة، أو هو مريض، أو مريضة، أو
مديان، فإن له أن يعتصر منهما إذا وهب لهما في هذه الحالات، فله العصرة
فيها حتى يحول حاله إلى غير ذلك.
قال محمد بن رشد: الأصل في الاعتصار قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -:
«لا يحل لأحد أن يهب هبة ثم يعود فيها إلا الوالد» وقوله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ للبشير بن سعد، في الغلام الذي كان نحله ابنه النعمان: "ارتجعه"
إذا لم ينحل سائر ولده مثل الذي نحله، فالرجل يعتصر ما
(13/472)
وهب لولده، ما لم يداين، أو ينكح، أو يمرض،
أو يموت، أو يمرض الأب أيضا أو يداين، فليس له أن يعتصر لغرمائه ولا لهم
ذلك. قال ابن المواز: فإذا ابن الأب دينا لا يفي به ماله سوى الهبة، أو نكح
على الهبة، أو بسببها، ارتفعت العصرة، ولا حجة للغرماء، إذ استدان دينا يفي
ماله سوى الهبة، ألا ترى أنه لو وهبها لغير الأب، لم يكن للغرماء في ذلك
حجة، إذا اعتصرها الأب؟ واختلف إذا نكح وداين بغير سبب الهبة، مثل أن يكون
الابن موسرا فيهب له أبوه الشيء اليسير الذي يعلم أنه لم يزوج ولا دوين من
أجل الهبة.
فقال ابن القاسم: إن ذلك لا يقطع العصرة، وهو قول مطرف، وروايته عن مالك،
وقول أصبغ، وابن الماجشون: إن ذلك يقطع العصرة والذكر والأنثى في ذلك سواء.
وذهب ابن دينار إلى أن نكاح الابن الذكر على الهبة، لا يقطع الاعتصار فيها،
بخلاف الابنة، وهو دليل قول عمر بن الخطاب في المدونة من أنه قضى أن الولد
يعتصر، ما دام يرى ماله، ما لم يمت صاحبها فيقع فيها المواريث، أو تكون
امرأة تنكح، خلاف مذهب ابن القاسم في هذه الرواية، ومن سواه، وإذا مرض
المعتصر أو المعتصر منه، فالمشهور أن ذلك يقطع العصرة. وروى أشهب عن مالك
في كتاب ابن المواز: أن يعتصر.
وإن كان مريضا، قال: ولو كان الابن هو المريض، فلا أدري. وقال ابن نافع:
للسيد أن يعتصر مال مدبره وأم ولده في مرضه، وإن كان الانتزاع حينئذ لغيره،
فعلى هذا يكون الأب أن يعتصر في مرضه. واختلف على القول بأنه يقطعها، هل
يعود بزوال المرض؟ على ثلاثة أقوال:
أحدها: إن العصرة تزول بزوال المرض، كان المريض منهما هو المعتصر أو
المعتصر منه، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية، قال: لأن المرض أمر لم
يعامله الناس عليه، فهو بخلاف النكاح والمداينة، وهو قول مطرف والمغيرة
وابن دينار.
والثاني: إنها لا تعود بزوال المرض، وهو قول أصبغ في هذه الرواية وقول ابن
الماجشون، وروايته عن مالك، والقول الأول أظهر؛ لأن الاعتصار إنما امتنع في
المرض، مخافة الموت، فإذا زال المرض،
(13/473)
ارتفعت العلة بزواله، ولو اعتصر في المرض،
فلم يعثر على ذلك حتى صح، لوجب أن يمضي. ولو قيل: إن الاعتصار في المرض
يكون موقوفا حتى ينظر، هل يصح أو يموت؟ لكان هو وجه القياس والنظرة.
والثالث: قول سحنون في تفرقته بين مرض المعتصر والمعتصر منه، ولا يقطع
العصرة في الهبة فواتها، بحوالة الأسواق، ويختلف فواتها بتقريرها في
الزيادة والنقصان، فقال مطرف وابن الماجشون: إن ذلك لا يقطع العصرة. وذهب
أصبغ إلى أن ذلك يقطعها، وسيأتي في سماع سحنون بقية القول في هذا المعنى إن
شاء الله.
وكذلك اختلفوا في وطء الابن الجارية الموهوبة، هل يقطع العصرة فيها أم لا؟
فذهب أصبغ إلى أن ذلك يقطعها، ورواه عن ابن القاسم، وهو قوله في المدونة
وفي هذه الرواية، وذهب مطرف وابن الماجشون: إلى أنه لا يقطعها؛ لأن ذلك لا
يمنعه من بيعها، وما يريد من الانتفاع بثمنها، إلا أنها توقف بعد العصرة،
فإن صح رحمها، تمت العصرة، وإن ظهر الحمل امتنعت العصرة، فلا اختلاف في أن
بموت الموهوب له يقطع الاعتصار.
واختلف إذا وقعت الهبة في الحال الذي إذا حدث بعد الهبة، قطع الاعتصار، مثل
أن يهب له وهو مريض أو مديان، أو يتزوج، فقال ابن الماجشون: لا عصرة في
ذلك، وإياه اختار ابن حبيب. وقال أصبغ: له أن يعتصر، ما كانت الحال واحدة،
مثل يوم وهب، والأم فيها تهب لابنها الكبير المالك لأمر نفسه، في الاعتصار،
بمنزلة الأب، يعتصر ذلك منه، ما لم يداين أو ينكح أو يمرض أو يموت. وكذلك
تعتصر ما وهبت لابنها الصغير، إذا كان له أب، وإن حاز الهبة عنها، ولا
يعتصر ما وهب له إذا كان يتيما يوم الهبة، وأصابه اليتم بعد ذلك، هذا مذهب
ابن القاسم ومطرف وروايتهما عن مالك. وذهب ابن الماجشون: إلى أنها لا تتعصر
ما وهبت لابنها إذا حاز الهبة عنها أبوه، أو وصيه أو هو كان يلي نفسه،
وإنما تعتصر ما وهبت له إذا كانت هي التي تليه، فلم تخرج الهبة عن يدها.
واختلف في الجد والجدة، والمشهور أنه لا عصرة لهما وهو قول ابن القاسم
وروايته عن مالك، وروى
(13/474)
أشهب عنه في كتاب محمد أن للجد الاعتصار،
قال: لأنه يقع عليه اسم أب. ووجه القول الأول أن الهبة قد انتقلت إلى ملك
الموهوب له، فلا تخرج عن ملكه بيقين، وهو الأب الذي ورد فيه النص،
والاعتصار لا يكون في الصدقات إلا بشرط، وإنما يكون في العطايا، من النحل،
والهبات، وشبهها. واختلف إذا وهب، فقال في هبته: لله، أو لوجه الله، أو
لطلب الأجر والثواب من الله، فقيل: إنه ليس له أن يعتصر ذلك إلا بشرط، وهو
قول ابن الماجشون، وقيل: له أن يعتصر وإن لم يشترط العصرة ما لم يسمها
صدقة، وهو قول مطرف. وسيأتي ذلك في نوازل سحنون، وبالله التوفيق.
[مسألة: نحله أبوه نحلة فتزوج هل لأبيه أن
يعتصر تلك العطية]
مسألة وعن الرجل البائن من أبيه الذي له المال، الناقد التاجر، الذي ليس
بمولى عليه في شيء من أموره نحله أبوه نحلة، ثم تزوج بعد ذلك، وهو ممن لا
يزوج لتلك النحلة فيما يرى الناس، هل لأبيه أن يعتصر تلك العطية؟
قال ابن القاسم: نعم، له أن يعتصرها ما لم يأت من ذلك ما يكون عليه زيادة
كبيرة، ويعلم أنه إنما زوج بذلك، فأما الرجل صاحب ألف دينار، ينحله أبوه
العبد، أو يهبه له ثمن العشرين دينارا أو الثلاثين، وما أشبهه من الأشياء
ثم يتزوج، فيريد أن يعتصره أبوه، فهذا لأي منح منه؛ لأنه يعلم أنه لم يزوج
لمكان هذا العبد، وإنما لغناه.
قال محمد بن رشد: قد تقدم ذكر الاختلاف في أثناء هذه المسألة التي قبلها،
وهذا القول أظهر؛ لأن الأصل وجوب العصرة للأب إلا أن يمنع من ذلك مانع، من
حق زوج، أو غريم، أو وارث، وما أشبه ذلك من المعاني القاطعة للاعتصار.
وبالله التوفيق.
(13/475)
[: وهب لرجل
عبدين هبة ثواب أو وهب له ثوبين]
ومن كتاب العتق قال عيسى: قلت لابن القاسم: لو أن رجلا وهب لرجل عبدين هبة
ثواب، أو وهب له ثوبين، فأقاما في يديه أياما ثم ارتفعت لهما قيمة، وسوق،
فأعطاه الموهوب له أحد العبدين، أو أحد الثوبين مثوبة له، قال عيسى: ليس له
أن يعطيه أحد عبديه ثوابا أو أحد ثوبه ثوابا. قلت: وإن ارتفعت قيمة أحدهما
حتى يكون مثل قيمتهما يوم وهبهما، قال: نعم، إلا أن يرضى الواهب.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، لو أراد أن يرد أحدهما ويعوضه من الآخر، كان
الأدنى، أو الأرفع، لم يكن له ذلك على مذهبه في المدونة، وهو الصحيح في
القياس والنظر، خلاف قول أصبغ في نوازله بعد هذا من هذا الكتاب؛ لأنه قادر
على أن يأخذهما أو يردهما جميعا، فليس له أن يأخذ أحدهما ويرد الأخرى كما
لو بيعا على الخيار، أو كما لو استحق بين يدي المشتري فأراد المستحق أن
يأخذ بعضها ويجيز البيع في بعضها، بخلاف استحقاق أحد الثوبين أو العبدين،
أو الباقي لازم للمشتري، إذ لا قدرة للمستحق إلا ما استحق خاصة، فإذا لم
يكن له أن يشبه من أحدهما، ويرد إليه الآخر، فأحرى ألا يكون له أن يرد
أحدهما ولا يشبه من الآخر؛ لأنه إنما ملك في أن يردهما جميعا أو يعوضه
منهما جميعا، فليس له سوى ذلك. وبالله التوفيق.
[مسألة: الهبة ومكثها عند الذي وهبت له حتى يجب
عليه ثوابها]
مسألة قلت لابن القاسم: ما أمر الهبة ومكثها عند الذي وهبت له حتى يجب عليه
ثوابها؟ قال: قال مالك: إذا تغيرت بنماء أو نقصان، قلت لابن القاسم: وإن
طال مكثها، قال: نعم. قال
(13/476)
ابن القاسم: إلا أن يريد فيأبى أن يثيبه،
فلا يلزم الموهوب له ثواب، والواهب على هبته، يأخذها إن شاء ولا يلزم
الموهوب له ثواب، إذا كانت على حالها، وفضل حال، وكذلك بلغني عن مالك. قال
ابن القاسم: فإن كانت جارية فوطئها الموهوب له، لزمه قيمة الثواب، وتعجيله،
فإن فلس الموهوب له، كان للواهب ما وهب، إلا أن يشاء الغرماء أن يدفعوا
إليه قيمتها يوم وهبها ويأخذوها. قال ابن القاسم: النماء والنقصان فوت،
ويجبر الموهوب له على الثواب.
قال محمد بن رشد: مذهب ابن القاسم في الهبة للثواب، أن الواهب إذا دفعها
للموهوب له، فقد ملكه إياها بقيمتها، وانقطع خياره فيها، فكان الموهوب له
هو المخير، بين أن يردها أو يثيبه فيها بقيمتها، ما لم تفت عند الموهوب له.
قال مرة بالنماء والنقصان، وهو قوله في المدونة وأحد قوليه في هذه الرواية،
ويلزمه القيمة فيها وينقطع خياره.
وأما طول الزمان، وحوالة الأسواق، فليس يفوت ولم يختلف في ذلك قوله، ووقع
في كتاب الشفعة من المدونة ما يبدل أن الواهب أحق بهبته، وهو بالخيار فيها
ما لم يرض منها حتى تفوت عند الموهوب له بزيادة أو نقصان، وهو قوله فيه؛
لأن الناس إنما يهبون الهبات للثواب، رجاء أن يأخذوا أكثر من قيمة ما
أعطوا، وإنما رجعوا إلى القيمة حين تشاحوا بعد تغير السلعة، ومثله في
المدونة من رواية عيسى عن ابن القاسم، خلاف رواية محمد بن يحيى السيابي عن
مالك فيما قال.
وحدثني محمد بن يحيى السيابي أنه سمع مالكا يسأل عن الرجل يهب الهبة لرجل
رجاء ثوابها، فيثبته بقيمتها أو بأكثر من ذلك، فيقول الواهب: لا أرضى بهذا
ثوابا، ولم يبلغ فيه رضاي، كيف الأمر فيه؟ قال: لا ينظر في هذا إلى قول
الواهب، ويسأل عن تلك الهبة أهل البصر، فيعطي قيمتها، وليس له غير ذلك،
وليس له على الموهوب له في هبته قيمتهما خمسون
(13/477)
دينارا، إلا أن يشاء، وليس للواهب على
الموهوب له أكثر من قيمته. قال عيسى: قال ابن القاسم: إنما هذا إذا فاتت أو
نقصت، فأما إذا لم تفت، وكانت قائمة بعينها، وهي على حال ما وهبها أو أفضل،
فهو مخير بين أن يأخذ ما أشبه، وبين أن يأخذ هبته، وليس النمل في الهبة
فوتا، وإنما الفوت فيها النقصان.
وذهب مطرف إلى أن الواهب أحق بهبته، وهو بالخيار فيها ما لم يرض، وإن فاتت
حتى يفوت موضع الرد فيها بموت وما أشبه ذلك، فحينئذ تلزمه القيمة، ولا يكون
لواحد منهما في ذلك خيار، وروي ذلك عن مالك، وهو معنى حديث عمر. وروى ابن
الماجشون، عن مالك: أن الهبة للثواب إذا قبضت، لزم الموهوب له فيها القيمة
بالقبض، ولم يكن فيها رد ولا استرداد، إلا عن تراض من الواهب والموهوب له،
زادت أو نقصت، أو كانت على حالها، وهو قول رابع في المسألة.
وقوله: إن الهبة للثواب إذا كانت جارية فوطئها الموهوب له، إِنَّ وَطْأَهُ
إياها فَوْتٌ يُلْزِمُهُ قِيمَتَهَا -صحيح، لا اختلاف فيه؛ لأن وطأه إياها
على مذهب ابن القاسم رِضًا منه بالقيمة، فليس له أن يردها، ولا للواهب أن
يستردها، إذ قد كان يلزمه أخذ القيمة فيها قبل أن يطأها الموهوب له. وقال
مطرف وابن الماجشون وأصبغ: إن الغيبة عليها فوت فيها، وإن لم يطأ، تلزمه
بها القيمة فيها، ولا يصح الرد فيها وإن لم تحمل؛ لأن ذلك ذريعة إلى إحلال
الفرج بغير ثمن.
وأما قوله في التفليس: إن الواهب أحق بهبته، إلا أن يشاء الغرماء أن يدفعوا
إليه قيمتها يوم الهبة، فقد مضى الكلام على ذلك وتوجيه الاختلاف فيه في أول
سماع ابن القاسم من هذا الكتاب، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: وهب لرجل مريض هبة ولا مال له غيرها]
مسألة
قال: وسألته عن رجل مريض، وهب لرجل مريض هبة ولا مال له غيرها، فقبضها
الموهوب له وهو مريض، فوهبها للواهب،
(13/478)
ولا مال له أيضا، قال: يحوز للموهوب له
الأول، ثلثه من تسعة، من مال الواهب، ويحوز الواهب الأول من هذه الثلاثة
واحدا وهو ثلث مال الموهوب له الأول، فيصير في يد الأول سبعة، وفي يد
الواهب الآخر اثنان، وأصل الذي يستدل به أن ينظر إلى مال له ثلث، ولثلثه
ثلث، وذلك تسعة، فعلمت أنه يحوز للموهوب له ثلثه، وللواهب ستة، وأنه يرجع
إلى الواهب الأول سبعة، ولورثة الواهب الآخر اثنان.
قال محمد بن رشد: جوابه في هذه المسألة عن القول بأن هبة البتل في المرض
وإن كانت من الثلث، فهي بخلاف الوصية يدخل فيما علم في الواهب من ماله،
وفيما لم يعلم، ولا تبطل بموت الموهوب له قبل الواهب، على حكم الوصية في
بطلانها بموت الموصي لوجب إذا مات الأول قبل الثاني أن يبطل ما وهبه
الثاني، وإذا مات الثاني قبل الأول، أن يبطل ما وهبه الأول.
والمعنى فيه: أن كل واحد منهما مات من مرضه ذلك، إذ لو صحا جميعا، وكانت
التسعة التي هي جميع المال للواهب الأول لرجوعها إليه بالخمسة الثانية، ولو
صح الواهب الأول، ومات الواهب الثاني من مرضه، لنفذت للموهوب منهما من مرضه
ذلك، كان الحكم فيما ذكره على قياس القول الذي ذكرته، سواء مات الواهب
الأول قبل الثاني أو بعده، يصير لورثة الموهوب له الأول ثلث المال، وهو
ثلثه من تسعة، ويصير لورثة الواهب من هذه الثلاثة واحد فيبقى في الذي ورثه
الموهوب له الأول، اثنان، يحصل في الذي ورثه الواهب الأول سبعة، ثم يرجع
ورثة الموهوب له الأول على...... وهو الواهب الأول في هذا الواحد، فيأخذون
منه ثلثه، ثم يرجع لورثة الموهوب له الثاني، وهو الواجب عليه في ثلثه ثم
يرجع ورثة الموهوب له الأول، وهو الواجب الثاني عليهم في ثلث هذا الثلث،
فيأخذون
(13/479)
منه ثلثه هكذا أبدا يدور هذا السهم بينهم
حتى ينقطع، وسواء علم الهبة أو لم يعلم على ما يأتي عليه جوابه، من أن هبة
البتل في المرض لا تبطل بموت الموهوب له قبل الواهب، وتدخل فيما علم الواهب
وما لم يعلم، وكذلك قال ابن عبدوس في كتابه للرد، وأن التسعة الأسهم ثلثها
ثلاثة، لورثته الواهب الثاني، ثم يؤخذ منها سهم، وهو ثلث ماله، قال: فاعلم
أن هذا السهم دائر؛ لأنك إن أعطيه لورثة الأول، قام عليهم ورثة الثاني في
ثلثه، كما صار؛ لأن هبته البتل تدخل فيما علم به الميت وما لم يعلم، ثم
يقوم عليهم ورثة الأول في ثلث ثلثه فيدور هكذا بينهم حتى ينقطع، فلما كان
هذا هكذا، وجب أن يسقط السهم الدائر، ويقسم ذلك السهم بين الوارثين، على ما
استقر بأيديهم، فيصير المال بينهم على ثمانية أسهم، ستة لورثة الواهب
الأول، واثنان لورثة الواهب الثاني.
وقد قال أبو محمد: هذا الذي ذكر عيسى عن ابن القاسم - هي مسألة دور، ولم
يجعل فيها دورا، وهذا الذي قال أبو محمد عن ابن القاسم، لم يجعل فيها دورا
لا يصح، على ما جرى جوابه من أن هبة البتل تدخل فيما علم الواهب وفيما لم
يعلم، وإنما يصح إسقاط الدور فيها إن لم يعلم الواهب بالهبة على القول بأن
هبة البتل لا تدخل إلا فيما علم الواهب، وهو قول ابن القاسم في رواية عيسى
عنه في المدنية وقوله أيضا في رواية أصبغ عنه في بعض روايات العتبية في
سماعه من كتاب المدبر، فحكم في هذه الهبة في المرض بحكم الوصية، ولم يحكم
لها بحكم الوصية فيما تقدم له في رسم الجواب إذا قال فيه: إن هبة البتل يحل
ورثة الموهوب له فيها محل موروثهم إذا مات قبل الواهب، وهذا على قياس مطرد؛
لأنه إذا لم يحكم للهبة في المرض بحكم الوصية في سقوطها بموت الموهوب له
قبل الواهب، وجب ألا يحكم له بحكمها في أنها لا تدخل إلا فيما علم، فالذي
ينبغي أن يتأول عليه، أن ذلك إنما هو اختلاف من قوله، مرة حكم للهبة في
المرض بحكم الوصية في كل حال، ومرة رآها أقوى من الوصية، فلم يحكم لها
بحكمها في حال. وبالله التوفيق.
(13/480)
[: يتصدق في
مرضه على رجل بثلث دار له]
ومن كتاب الثمرة وسألت: عن الرجل يتصدق في مرضه على رجل بثلث دار له، وفي
الدار طوب وخشب، أراد أن يبني بها، فقال المتصدق عليه: لي ثلث الطوب
والخشب، وأبى الورثة أن يكون ذلك له، قال: ليس له في الطوب والخشب شيء.
قال محمد بن رشد: هذا بَيِّنٌ عَلَى ما قاله؛ لأنه يكون تبعا للدار في
الوصية بها أو الصدقة في الصحة أو المرض، إلا ما يكون تبعا لها في البيع،
وهو ما كان مبنيا فيها، لا ما كان موضوعا فيها من خشب أو حجر، أو ما أشبه
ذلك، وبالله التوفيق.
(13/481)
|