البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة [: كتاب
الصدقات والهبات الثالث] [أعطى أخاه
منزلا في صحته وكتب له بذلك كتابا]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد، وآله وصحبه وسلم. كتاب الصدقات والهبات
الثالث من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم من كتاب الكبش قال يحيى: وسألت
ابن القاسم عن رجل أعطى أخاه منزلا في صحته، وكتب له بذلك كتابا، وكتب في
كتاب العطية إن مات أخوه الذي أعطي تلك العطية في حياة المعطي فالمنزل
مردود على المعطي، ولا حق فيه لورثة المعطى ولا يورث؛ على هذا الشرط أعطاه،
فحاز المعطى عطيته في حياة المعطي أو لم يحز، ثم مات المعطَى قبل المعطي،
فقال: أرى هذا مثل الوصية تكون للمعطى من الثلث، ألا ترى أنه أنفذ له
العطية إن مات قبل المعطي، فكأنه إنما أوصى له بها، وعجل له قبضها، قلت:
وهي وصية على كل حال، حازها في صحة المعطي أو لم يحز، فقال: نعم، وقد قال
مالك ما يشبه هذا، قال أصبغ: ليس للمعطي فيها بيع، ولا تحويل عن حال؟ فإن
مات المعطى رجعت إلى المعطي بمنزلة العمرى، وإن مات المعطي كانت كالوصية في
ثلثه، ولا تكون كالوصية في
(14/5)
الرجوع فيها، فكذلك مسألتك.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن أول قوله مرتبط بآخره، فليست بعطية
مبتلة بما شرط عليه فيها من أنه إن مات قبله، فهي عليه رد؛ لأن ذلك يقتضي
ألا يكون له فيها تفويت ببيع ولا غيره، ما دام المتصدق حيا حتى يموت، فآل
أمرها إلى أنه أوصى له بها بعد موته، وعجل له الانتفاع بها طول حياته، فوجب
إن مات المتصدق عليه قبله أن ترجع إليه كما شرط، وإن مات المتصدق قبله بتلت
له من ثلثه على معنى الوصية، إن كان غير وارث، وقد مضى هذا في رسم الأقضية
الثاني، من سماع أشهب، وتأتي المسألة متكررة في سماع ابن الحسن بعد هذا،
وقول أصبغ في هذه الرواية: وإن مات المعطي كانت كالوصية في ثلثه، ولا تكون
كالوصية في الرجوع فيها؛ يريد أنه ليس للمعطي أن يرجع في عطيته هذه، وإن
كانت إنما تنفذ من ثلثه بما شرط فيها من رجوعها إليه إن مات المعطى قبله،
ووجه ذلك أن العطية، وإن لم تكن مبتولة بما شرط فيها، فليست كالوصية بها
التي له الرجوع فيها؛ لأنه قد بتلها في حياته على الشرط الذي اقتضى ألا
تنفذ بعد موته إلا من ثلثه، فأشبه المدبر الذي يخرج بعد الموت من الثلث،
ولا يجوز لسيده الذي دبره الرجوع في تدبيره، وقد اختلف قول مالك في الهبة
البتل في المرض: هل للواهب أن يرجع فيها في مرضه فلا تنفذ، إن مات منه أم
لا على قولين حسبما مضى القول فيه في رسم أخذ يشرب خمرا، من سماع ابن
القاسم، من كتاب الحبس، وهذا بيّن ألا يكون له فيها رجوع؛ وقد قال بعض أهل
النظر ليس بحسن قول أصبغ في معنى الرجوع، إلا في انتفاع المعطى
(14/6)
بالمنزل حياة المعطي، وأما بعد موت المعطى،
فمنذ يجب للمعطى بتلا، فله الرجوع فيه؛ لأنه من يومئذ يصير وصية، وكل ما
كان وصية، أو على معنى الوصية، فله الرجوع فيه، وليس قوله عندي بصحيح؛ لأن
الظاهر من قول أصبغ أنه إنما تكلم على الرجوع في عطية الرقبة بعد الموت؛
فهذا هو الذي قال: إنه لا يرجع فيه، وأما انتفاع المعطى بالمنزل حياة
المعطي، فبين أنه ليس للمعطي أن يرجع فيه؛ لأنه شيء بتله في صحته، فنفذ
عليه، وإن لم يكن له مال سوى المنزل، فلو قصد إلى بيان هذا، لكان عيا منه؛
وإذا لم يكن للمعطي أن يرجع في عطيته هذه بعد الموت، كما يرجع في وصيته،
فيبدأ على الوصايا، ويدخل فيما علم به المعطي، وفيما لم يعلم، وقد مضى هذا
المعنى في رسم الجواب، وفي آخر رسم العتق، من سماع عيسى، وبالله التوفيق.
[مسألة: أم الولد يتصدق عليها سيدها]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن أم الولد يتصدق عليها سيدها، أيلزمها
الحوز؟ فقال: حالها في ذلك كحال الزوجة فيما يتصدق به عليها؛ أما الخادم
تكون معها في البيت، أو الابنة، أو ما أشبه ذلك مما لا يزايلها حيث انتقل
بها سيدها، فالإشهاد وإعلان الصدقة حوز لها؛ وذلك أنه لا تقدر على حوزها
بأكثر من ذلك.
وأما العبد بخارج، أو الدار تسكن، أو المزرعة، أو ما أشبه هذا مما
(14/7)
هو بائن منها، وقبضه يمكن، فعليها أن تحوزه
بقبض الخراج من العبد، وإخراج السيد من الدار، وعمران المزرعة أو كرائها
لها، وجني الشجر، وما أشبه هذا مما يحاز به العبيد والعقار؛ قال: وأما
الحلي والثياب، فالقبض اللبس والعارية، وما أشبه ذلك مما تصنعه المرأة
بمتاعها، إذا عرفت تصنع بما تصدق عليها من الحلي والثياب، مثل هذا فهو لها
حوز، وإلا فلا شيء لها؛ قال أصبغ: وإشهاد لها حوز أيضا، وإن لم يُعرف لبس
ولا عارية إذا كان في يديها، وليس في يد سيدها قد خرج منه إليها.
قال محمد بن رشد: حكم لأم الولد بحكم الزوجة في حيازة ما يتصدق به عليها
سيدها، فقال في الخادم تكون معها في البيت أو الابنة وما أشبه ذلك؛ أن
الإشهاد وإعلان الصدقة حوز فيها؛ إذ لا يقدر في حوزها على أكثر من ذلك، وفي
ذلك اختلاف في الحرة الزوجة، وقد مضى تحصيله في رسم اغتسل، من سماع ابن
القاسم، وفي رسم سلف دينارا في ثوب إلى أجل، من سماع عيسى، فهو يدخل في أمر
الولد على هذه الرواية؛ وأما المنزل وما عدا ما هو من متاع البيت، فلا
اختلاف في أن الزوجة في حيازته عن زوجها كالأجنبي فيما يلزمه في ذلك، وكذلك
أم الولد على هذه الرواية.
وفي المدونة ما يدل ظاهره على أن السيد يحوز لأم ولده ولعبده الكبير ما
وهبه لهما، أو تصدق به عليهما، كما يحوز ذلك لابنه، إذا وهبه إياه، أو تصدق
به عليه، وهو قوله فيها؛ لأن من تصدق بصدقة على غيره، أو وهب هبة، لا يكون
هو الواهب وهو الحائز، إلا أن يكون والدا أو وصيا، أو من يجوز له أمره عليه
في قول مالك؛ إذ لا أحد أحوز أمرا على أحد من السيد
(14/8)
على عبده وأم ولده؛ إذ له أن يحجر عليهما،
وأن ينتزع أموالهما، فتحجيره عليهما أقوى من تحجير الأب على ابنه، والوصي
على يتيمه؟ فوجب أن تكون حيازة ما وهب لهما أحوز من حيازته، لما وهبه لابنه
أو يتيمه؛ فهذا وجه ما يدل عليه ظاهر ما في المدونة، ووجه هذه الرواية أن
جواز انتزاع المال تضعيف في الحيازة لا تقوية لها؛ لأنه إذا تصدق على أم
ولده أو على عبده، ثم أمسك ذلك عند نفسه، ولم يدفعه إليهما، أشبه الانتزاع
والارتجاع؛ إذ لم يسلم ذلك إليهما، وهما غير سفيهين؛ وأما الأب والوصي
فإنما منعهما أن يسلما ما وهباه لمن إلى نظرهما كونه سفيها، فرواية يحيى
أظهر، وكان أبو عمر الإشبيلي يستحب العمل بها، فإن عمل أحد بدليل المدونة،
مضى عنده ولم يرد، وبالله التوفيق.
[مسألة: يتصدق على امرأته بمزرعة في آخر أيام
المزارعة]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الرجل يتصدق على امرأته بمزرعة في آخر
أيام المزارعة، وهو صحيح، فأقام بعد ذلك نحوا من شهر ثم هلك، غير أنه قد
أشهد لها على الصدقة وعرف بحوزها الشهود، فلم تعمل المرأة فيها عملا بحرث
ولا غيره حتى مات زوجها، وزعمت أنه لم يمنعها من العمل إلا ما كان فات من
الزمن مع ضعف سكته عن القليب في أوانه، وقد كانت البقر ضعفت، فلم يقلب أهل
منزلها حتى مات زوجها؛ فقال: إن جاء من ذلك ما يبين عذرها، مثل أن يتصدق
بذلك ثم يعجله الموت قبل أوان عمل أمكنها، أو جني شجر، أو عذق، أو إصلاح
عمل حضر،
(14/9)
فالصدقة ماضية ولا شيء عليها إذا لم تحز؛
لأن الحوز لم يمكنها ولم يجئ أوانه؛ قال: وأما ما كانت لحوزه تاركة من ضعف
أو أشباه ذلك، فإنها لا تعذر به؛ لأن الضعيف يكري ويساقي ويرفق من ينتفع
به، فيكون هذا ونحوه حوزا، فمن كان تاركا لجميع هذا في أوانه الذي يمكنه
فيه، فلا صدقة له إلا أن يعرف ضعفه عن العمل، ويعمل ذلك على الكراء أو
المساقات أو العارية، فلا يجد من يقبل ذلك منه؛ فلا أرى عليه حوزا غير
الإشهاد والإعلان والاجتهاد في عرض ذلك على الكراء والمساقات والعارية، وما
أشبه ذلك؛ ثم يكون ذلك له حوزا؛ قال قلت: أرأيت إن مضت أعوام والمتصدق عليه
ضعيف عن العمل، وهو يعرض على الكراء أو المساقات أو العارية كل عام، ولا
يجد من يقبل ذلك منه؛ أيكون حائزا أم لا؛ قال: نعم، إذا علم حرصه على ذلك،
وأنه لم يزل يعرض ذلك، ويطلب لها من يعملها، والأرض ليست تحاز بأكثر من
هذا، قال أصبغ مثله ما لم ينتفع به المتصدق أو يقضي فيه.
قال محمد بن رشد: وقوله في هذه الرواية في الذي يتصدق على من يحوز لنفسه من
زوجة أو غيرها بمزرعة يعجل المتصدق الموت قبل أوان زراعتها وعملها، أن
الصدقة ماضية، مثله في المدنية، وهو معارض لقوله ولروايته عن مالك فيها،
وفي رسم تأخير صلاة العشاء، من سماع
(14/10)
ابن القاسم في الرجل يتصدق على الرجل
الحاضر بالدار الغائبة، فيعجل المتصدق الموت قبل أن يحوزها المتصدق عليه،
إن الصدقة باطلة، وإن كان لم يفرط في الخروج إليها لقبضها؛ لأن لها حيازة
تحاز به؛ إذ لا فرق في المعنى بين ألا يمكنه حيازة الدار لمغيبها عنه حتى
يموت المتصدق بها، وبين ألا يمكنه حيازة الأرض؛ لأن أوان حوزها لم يحن؛
وأبين من ذلك في المعارضة قوله: إنه إذا تصدق بها في أوان حوزها، فضعف
المتصدق عليه عن عملها، ولم يزل يعرضها على الكراء، والمساقات، والعارية،
عاما بعد عام، فلا يجد من يقبلها منه؛ أن الإشهاد والإعلان والاجتهاد في
عرض ذلك على الكراء والمساقات والعارية، يكفي من حيازتها؛ فقول ابن القاسم
في هذه الرواية، هو مثل ما روي عن مالك في أن الدار الغائبة إذا لم يكن
تفريط في قبض المتصدق عليه بها لها حتى مات المتصدق بها، أنها ماضية، وهو
قول أشهب، وقد مضى بيان هذا في رسم تأخير صلاة العشاء من سماع ابن القاسم،
ولو لم يعمر المتصدق عليه الأرض، ومنع المتصدق أن يعمرها فتركها بورا حتى
يقوى على عملها، لكان منعه من عمارتها حوزا لها، قال ذلك ابن القاسم وابن
كنانة في المدونة، وأصبغ في الواضحة، والله الموفق.
[مسألة: الرجل يتصدق على ابن له كبير بغلام]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الرجل يتصدق على ابن له كبير بغلام،
فلا يقبضه حتى يتصدق الأب به على ابن له صغير في حجره، فينكر ذلك الكبير،
ويقول: لا أجيز ما صنعت، فسخط عليه الأب، وكف عنه حتى مات الأب والغلام في
يديه يحوزه
(14/11)
للصغير، لأيهما ترى الغلام؟ فقال: أراه
للصغير إذا لم يحزه الكبير. قيل له: إنه تركه خوفا من سخط أبيه، وقد أشهد
أنه غير راض بما صنع، فقال: لا ينفعه الإشهاد؛ لأنه لو شاء أن يخاصمه فيه
قضى له به، فقد آثر بر أبيه والتماس رضاه على أخذ صدقته، فله أجر البر إن
شاء الله تعالى، ولا صدقة له إلا بالحيازة.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ أنه إذا لم يقبض الابن الكبير
الغلام حتى مات الأب المتصدق، فلا صدقة له؛ إذ لا تتم الصدقة إلا بالحيازة،
فله أجر البر كما قال في تركه القيام على أبيه في الغلام الذي تصدق به على
أخيه بعد أن كان تصدق به عليه، وكذلك يقول ابن القاسم: لو تصدق على آخر
كبير فقبضه؛ لكان الأول أحق به، وأشهب يرى أن الثاني إذا حازه فهو أحق به
من الأول، فيتخرج على قياس قوله إذا تصدق به على ولد له كبير، ثم تصدق به
على آخر صغير، وحازه قبل أن يقبضه الأول قولان؛ أحدهما: أن حيازة الأب
للصغير كحيازة الكبير لنفسه، فلا يكون للأول شيء، وإن قام عليه في حياته.
والثاني: أن حيازة الأب للصغير ليست كحيازة الأب للكبير، ويكون الابن
الكبير المتصدق عليه أولا بالعبد أحق به، إن قام على الأب في حياته،
والقولان في حيازة الأب للصغير، هل تكون في القوة كحيازته للكبير قائمان،
من مسألة رسم الجواب، فيما تقدم.
(14/12)
[مسألة: امرأة
أرفقت زوجها بمنزل لها ثم تصدقت به]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن امرأة أرفقت زوجها بمنزل لها، فكان في
يديه يحرث مزارعه، ويجني له شجره، ويصيب جميع مرافقه؛ ثم تصدقت به على بنت
لها متزوجة، أو ابن قد بلغ الحوز، وأشهدت على الصدقة، وأمرت الولد بالحوز؛
فسأل الأب ابنه أو ابنته أن يعيره ذلك المنزل يرتفق به ويقره في يده بحاله،
ففعل الابن وأشهد على أبيه بالعارية، ولم يقبض المنزل من يده للحيازة، ولم
يخرج منه أباه، أقره فيه بحاله، واكتفى من الحيازة بالإشهاد على أبيه
بالعارية؛ قال ابن القاسم: أي حوز أبين من هذا، أو أتم، من أعار ما تصدق به
عليه، فقد استكمل الحوز؛ قلت له: أما تراه قد أوهن حيازته؛ لأنه كان قبل
الصدقة في يد أبيه، لم يخرجه من يده حتى أحدث الإشهاد بالعارية؛ فقال: لا
وهن عليه، بل الذي فعل حوز بيّن، تتم له به صدقة أمه عليه، والعارية
كالقبض.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن المرأة كانت أرفقت زوجها
بالمنزل إلى غير أجل، فكان في يديه يرتفق بمنافعه، ويصيب جميع مرافقه، فلما
تصدقت به بعد ذلك على ابنها أو ابنتها، سقط حق
(14/13)
زوجها في الإرفاق، ووجب المنزل بجميع
مرافقه للمتصدق عليه، فإذا أرفق أباه إياه، كان ذلك حوزا بينا منه للمنزل
عن أمه، لا يدخل فيه الاختلاف الذي في قبض المخدم، والمسكن والممنوح، هل
يكون قبضا للمتصدق عليه، أو الموهوب له أم لا؟ حسبما يأتي في نوازل سحنون
بعد هذا؛ لأن الاختلاف لما وقع في هذا من أجل بقاء حق المخدم، والمسكن
والممنوح، فيما منح إياه أو أخدمه، أو أسكنه بعد هبة الأصل والصدقة به، فمن
حمل الأمر على أن المسكن والمخدم يختدم ما أخدم، أو أسكن على ملك الموهوب
له أو المتصدق عليه من يوم الهبة والصدقة؛ إذ قد سقط ملك الواهب له عن
الأصل، رأى ذلك حيازة؛ ومن حمله على أنه إنما يختدم ذلك، ويسكنه على ملك
الذي أخدمه إياه وأسكنه حتى تنقضي خدمته أو سكناه لم ير ذلك حيازة؛
فمسألتنا خارجة عن هذا المذهب؛ إذ لم يبق للزوج حق في المنزل بعد الصدقة،
ومن أكرى داره، أو آجر عبده، ثم وهب ذلك لرجل قبل انقضاء أمد الكراء
والإجارة، فلا يكون قبض المكتري والمستأجر قبضا للموهوب له؛ لأن المكتري
إنما يسكن على ملك الواهب الذي يأخذ الكراء، وكذلك المستأجر إنما يستخدم
على ملكه، وفي ذلك اختلاف لا يحمله القياس، وقع في سماع ابن القاسم من كتاب
الرواحل والدواب، ومن كتاب المديان والتفليس، في رسم مساجد القبائل، وقد
مضى هنالك
(14/14)
القول على ذلك، وكذلك المساقي في الحائط لا
يكون حائزا لمن وهب له أو رهن إياه، وقع ذلك في الرهن، في رسم القضاء
المحض، من سماع أصبغ، من كتاب الرهون، من أن كون الحائط في يدي مساقيه،
ككونه في يدي صاحبه.
[مسألة: تصدق على رجل بدار له فدفع إليه
مفتاحها]
مسألة قال: ولو أن رجلا تصدق على رجل بدار له، فدفع إليه مفتاحها، وبرأ
إليه من ذلك ليحوزها، كان ذلك حوزا، وإن لم يسكن المتصدق عليه الدار، ولم
يسكنها غيره.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأن قبضه لمفتاح غلق
الدار قبض للدار، وإن لم يسكنها، ولا أسكنها غيره، كما لو وهبه فقبضه ثوبا
وصار بيده؛ لكان ذلك قبضا وحيازة، وإن لم يلبسه ولا أعاره أحدا، وبالله
التوفيق.
[مسألة: يتصدق على امرأته بالصدقة فتثيبه بوضع
الصداق عنه]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الرجل يتصدق على امرأته بالصدقة
فتثيبه بوضع الصداق عنه، أو تضع عنه الصداق فيتصدق عليها بمنزل له، فيموت
المتصدق قبل أن تحوزه المرأة، أترى لها صدقة؛ فقال: إن الصدقات لا تكون
للثواب، هي ماضية لمن تصدق بها عليه، ولا ثواب عليه فيها، ولا شيء للمتصدق
عليه منها إن
(14/15)
لم يحزها، فالمرأة التي أثابت زوجها على ما
تصدق به عليها، بأن وضعت عنه صداقها، فالصداق عنه موضوع، ولا حق لها في
الصدقة إلا بالحيازة؛ قال: فإن ابتدأته هي بوضع الصداق، فتصدق عليها بمنزله
ثوابا لها، فالصداق موضوع عنه، وليس لها من المنزل شيء إلا بحيازة؛ قلت:
فإن وهب لها هبة، فأثابته بوضع الصداق، ولم يقبض الهبة حتى مات، قال: الهبة
لها، لا حوز عليها فيها، إذا كانت هبة ثواب، يعرف ذلك بوجه الأمر من
حالهما؛ قال أصبغ: وكذلك الهبة قبل الثواب، قال يحيى: قال ابن القاسم: وإذا
ابتدأته بوضع الصداق، فأثابها بأن أعطاها منزله، فإن كان وضع الصداق إنما
كان للثواب اشترطت ذلك، فالمنزل لها إذا أثابها، ولا حيازة عليها فيه، إن
مات قبل أن تحوزه، وما وضعت من صداقها، ولم تشترط له ثوابا فلا ثواب لها
فيه، وإن أثيبت فلم تحزه فلا شيء لها؛ قال أصبغ: الصداق عندنا مخالف لما
تهب من غير الصداق، إذا التمست عليه ثوابا، وادعت ذلك بعد موت الزوج.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الصداق لا ثواب فيه، يريد إلا أن تشترط فيه
الثواب، فسواء تصدق عليها بالمنزل فأثابته بوضع الصداق،
(14/16)
أو وضعت عنه الصداق فأثابها بالصدقة عليها
بالمنزل، لا شيء لها في المنزل إلا بالحيازة. والصداق عنه موضوع، إلا أن
يكون ذلك بشرط الثواب، فيكون لها المنزل دون حيازة؛ وأما إذا وهب لها
المنزل، فأثابته بوضع الصداق، فقوله: إن الهبة لها لا حوز عليها فيها إذا
كانت هبة ثواب يعرف ذلك بوجه الأمر من حالهما هو على مذهبه في المدونة في
أن الزوجين لا ثواب بينهما في الهبة، إلا أن يدعي الواهب منهما أنه أراد
بهبته الثواب، ويظهر من صورة الحال ما يدل على صدقه، وقد قيل: إنه يصدق وإن
لم يظهر ما يدل على صدقه؛ وهذا القول حكاه عبد الوهاب في المعونة، فجعل حكم
الزوجين في ذلك حكم الأجنبيين، وقيل: إنه لا ثواب له إلا أن يشترطه، وهو
ظاهر قول ربيعة في المدونة، وقول مالك الذي يتلوه، وأما إذا ابتدأته بوضع
الصداق فوهب لها هبة، فلا شيء لها فيها إلا بالحيازة؛ إذ لا اختلاف في أنه
لا ثواب لها في هبة الصداق إلا أن تشترطه حسبما مضى القول فيه في رسم إن
خرجت، من سماع عيسى، وذلك بين من قوله في هذه الرواية: والصداق عندنا مخالف
لما تهب من غير الصداق إذا التمست عليه ثوابا، أو ادعت ذلك بعد موت الزوج
يريد أنها لا تصدق إن ادعت أنها أرادت بهبته الثواب، وأنها تصدق فيما عدا
الصداق إن ظهر من صورة الحال ما يدل على صدقها، فهو قوله في هذه الرواية
إذا كانت هبة ثواب يعرف ذلك بوجه الأمر من حالهما، ومذهبه في المدونة،
وبالله التوفيق.
[مسألة: غلام قد بلغ الحلم وهو في حجر أبيه
تصدق عليه أبوه بصدقات]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن غلام قد بلغ الحلم، وهو في
(14/17)
حجر أبيه قد قرأ القرآن، إلا أنه لا يعرف
بصلاح يزكى به، ولا فساد، إلا أنه عمر في حجر أبيه، بحداثة احتلامه تصدق
عليه أبوه بصدقات، منها: مزرعة وخادم في تلك المزرعة بولدها وزوجها حر،
ودور في القرى لا تغتل، ودار في حاضرة البلد كان الأب أسكن فيها بعض ولده،
فتصدق عليه بهذه الصدقة، وهو في حجره، وحاله ما وصفت لك، ولم يغير الأب تلك
المزرعة ولا الخادم، ولا الدار التي في حاضرة البلد عن حالاتها التي كانت
عليها قبل الصدقة، ولم يكن بين إشهاده له بالصدقة، وبين موت الأب إلا نحو
من شهرين أو ثلاثة، أو أكثر قليلا؛ أترى الأب يحوز على مثل هذا؛ قال: نعم،
سمعت مالكا يقول: يحوز الأب على ابنه المحتلم إذا كان في حجره وولاية نظره
حتى يؤنس منه الرشد؛ قلت: فما يضر هذا الغلام ترك الأب تلك الأشياء بحالها
إذا لم يخرج من كان في الدار، أو ما أشبه هذا مما يرى أنه يحوز به عليه؛
فقال: أما الدار فلا حق له فيها، إذا لم يخرج منها من كان يسكنهما، وأما
المزرعة والغلام، فأرى صدقته عليه بذلك ثابتة؛ قلت: فما ترى الحوز يلزم
الابن المحتلم؟ قال: إذا كان في حسن نظره بمنزلة اليتيم الذي يلزم القاضي
أن يدفع إليه ماله إذا كان قبل ذلك مولى عليه، فإذا عرف من الغلام حسن نظره
في ماله
(14/18)
وإصلاحه على نفسه، وأمن عليه الفساد الذي
يعرف به من حسن رأيه، وجمعه على نفسه مع بلوغ الحلم، وجب عليه أن يحوز
لنفسه، ولا يكون الأب حائزا على مثل هذا، ولا يزال الأب حائزا على من لم
تكن هذه حاله من ولده، وإن احتلم المتصدق عليه، فليس الاحتلام بالذي يخرجه
من ولاية أبيه حتى ترضى حاله، ويشهد العدول على صلاح أمره.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه الرواية: أما الدار فلا حق له فيها إذا لم
يخرج منها من كان يسكنها، معارض لقوله في رسم شهد، من سماع عيسى في الذي
جعل لابنته الصغيرة، ولأمهات ولده ومواليه الساكنين في الدار التي تصدق بها
على ابنه الصغير، أن يسكنوا معه فيها، ما لم يتزوج واحدة منهن، إلا أن يفرق
بين المسألتين بسكنى الابن المتصدق عليه معهم فيها حسبما مضى القول فيه
هناك.
وقوله في آخر المسألة: فليس الاحتلام بالذي يخرجه من ولاية أبيه حتى ترضى
حاله، ويشهد العدول على صلاح أمره، نص على أنه لا يخرج من ولاية أبيه
بالاحتلام، وأنه محمول على السفه حتى يثبت رشده، ومثله في كتاب الحبس من
المدونة، وهو ظاهر سائر المدونة وغيرها، إلا ما وقع في أول كتاب النكاح من
المدونة في قوله فيه إذا احتلم الغلام، فله أن يذهب حيث شاء، فإن ظاهره أنه
بالاحتلام يكون محمولا على الرشد، وتجوز أفعاله حتى يعلم سفهه، وهي
(14/19)
رواية زياد عن مالك في البكر أنها تخرج من
ولاية أبيها بالحيض، فكيف بالغلام؛ وقد تأول ابن أبي زيد قوله في المدونة:
فله أن يذهب حيث شاء: أن معناه بنفسه لا بماله؛ فعلى هذا تتفق الروايات
كلها، ولا يخرج عنها إلا رواية زياد عن مالك، وقد تأول أن قول مالك إذا
احتلم الغلام فله أن يذهب حيث شاء، معناه إذا احتلم ورضيت حاله، بدليل قول
ابن القاسم إلا أن يخاف من ناحيته سفه، فله أن يمنعه؛ وإلى هذا ذهب ابن
لبابة إلا أنه أخطأ في تأويله على ابن القاسم فقال: هذا هو الحق لو مات
الأب وأوصى به لم يخرج من ولاية الوصية حتى يثبت رشده، فكيف بالأب؟ وهو نص
ما في كتاب الحبس من المدونة قوله فيه، ألا ترى أن الله تبارك وتعالى قال:
{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ
آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}
[النساء: 6] ، وبلوغ النكاح هو الاحتلام والحيض، فقد منعهم الله من أموالهم
مع الأوصياء بعد البلوغ إلا بالرشد، فكيف مع الآباء الذين هم أملك بهم من
الأوصياء، وإنما الأوصياء بسبب الآباء؛ فالابن بعد بلوغه مع الأب عند ابن
القاسم على السفه حتى يعلم رشده، بخلاف البكر؛ لأن البكر عنده لا تجوز
أفعالها وإن علم رشدها، خلاف تأويل ابن لبابة عليه من أن الابن بعد بلوغه
في ولاية أبيه، وإن علم رشده حتى يطلق من الولاية على ما وقع في المدونة من
اللفظ الذي احتج به، وبالله التوفيق.
[مسألة: المولى عليه إذا كان عند مبلغه الحلم
معروفا بإصلاح المال]
مسألة قلت: أرأيت المولى عليه لصغره، إذا كان عند مبلغه الحلم معروفا
بإصلاح المال وإدارة البيع، وحب الكسب، وهو ممن لا تجوز شهادته عند القضاة،
ولعله مشهور بشرب الخمر واتباع
(14/20)
الفسق، مما يظن به سوء ظاهر أمره؛ ولكنه في
إصلاح المال غير مخدوع، وهو له غير مضيع أترى أن يولى عليه لسوء حاله، أم
يستوجب أخذ ماله لإصلاحه المال، وإن كان في دينه غير صالح، فقال: يدفع إليه
ماله إذا عرف بحسنه وإصلاحه، ولا يحظر فيما يركب من الذنوب، ورب رجل صالح
في حاله، مفسد لماله لضعف عقله، وسوء رأيه، فأرى أن يولى على مثله، ولا
يستوجب أخذ ماله، لكفه عن الشرب، وما أشبه ذلك إذا كان غير مصلح لماله، ولا
حابس على نفسه؛ قلت: أرأيت الذي يعرف الاكتساب والطلب لتثمير ماله، وتفقد
عقاره، ويصلح جهده، غير أنه مسرف فيما يكتسي به، ذاهب السرف، يتكلف فوق
قدره، ويجود بأكثر من طاقته في حال السخاء والبذل؛ إما في الإكثار من جمع
الناس على طعامه، أو في أعطيته، لا يحمل مثلها ماله، وما أشبه هذا مما يعد
به مسرفا؛ أترى أن يولى على مثله؟ قال: نعم، يولى على مثل هذا.
قال محمد بن رشد: هذا مذهب ابن القاسم أن المولى عليه يستوجب أخذ ماله،
والانطلاق من الولاية بحسن النظر في المال، والإصلاح له بحسن القيام دون
صلاح الدين؛ وكان يقول: رب فاسق أطلب للدرهم، وأكسب للرزق منا؛ وأخذ بقوله
أصبغ ما لم يكن مارقا في الفساد.
وذهب مطرف، وابن الماجشون إلى أن المولى عليه لا يخرج من الولاية إذا شرب
النبيذ المسكر، وإن كان حسن النظر في ماله. قالا: والرشد الذي ذكره
(14/21)
الله في اليتيم مع بلوغ الحلم حتى يدفع
إليه ماله، ويجوز أمره وقضاؤه فيه هو الرشد في حاله وماله، لا يكون هذا دون
هذا؛ هذا هو قول مالك وجميع علمائنا بالمدينة؛ قالا: ولا يرد بشرب الخمر في
الولاية بعد خروجه منها، إذا أحدث ذلك، والفرق بيْن ذلك بيِّن، وهو قول ابن
كنانة وغيره من المدنيين، واختيار ابن حبيب، ومذهب ابن القاسم أظهر من جهة
القياس؛ لأنه كما يحجر على البالغ الذي لم تلزمه ولاية في ماله إذا كان
مفسدا له، سيئ النظر فيه، متلفا له؛ لقلة رأيه فيه، وإن كان حسن الدين في
قولهم كلهم؛ فكذلك يلزم على قياس ذلك، أن يدفع إليه ماله، ويرفع عنه
التحجير فيه إذا كان حسن النظر، وإن كان سيئ الدين، وقول ابن القاسم في هذه
الرواية: إن الذي يعرف بالاكتساب والطلب لتثمير ماله، وتفقد عقاره إذا كان
ذاهب السرف فيما يتلفه فيه من السخاء على إخوانه، وجمع الناس على طعامه
وعطياته، لا يحمل مثلها ماله؛ يريد في غير وجوه البر إرادة الثناء والحمد،
يجب أن يحجر عليه فيه نظرا له، صحيح؛ لقول الله عز وجل: {وَلا تُؤْتُوا
السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ} [النساء: 5] الآية.
[مسألة: المرأة تضار بزوجها فيقبح الذي بينهما
ويفسد]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن المرأة تضار بزوجها، فيقبح الذي
بينهما ويفسد، فتريد المرأة أن تضر بزوجها بإخراج مالها من
(14/22)
يديه، ويصير إلى بعض قرابتها؛ فلما علمت أن
للزوج أن يمنعها من مجاوزة ثلث مالها إن تصدقت أو أعتقت، أو أعطت قصدت إلى
قدر الثلث، فتصدقت به إلى بعض قرابتها؛ وقد تبين لفساد ما بينها وبين
زوجها؛ أنها إنما أرادت الضرر به، ولولا الذي وقع بينهما، لعلها لا تتصدق
على الذي تصدقت عليه بثلث مالها بقيمة دينار من مالها أو أدنى، فقال: أرى
ذلك جائزا، وإن كان أمرها على ما وصفت إذا لم تتجاوز بذلك الثلث.
قلت: أرأيت إن اتبعت بصدقة ثلث ما بقي بعد أشهر، فقال: إن تباعد ذلك جاز،
وإن تقارب رد؛ قلت: كأن حالها عندك وحال التي تتصدق لغير الضرر سواء؛ قال:
ما أراهما إلا سواء، قلت: فما تباعد ما بين الصدقتين عندك؛ أترى الشهر بعيد
أم لا يكون متباعد إلا بقدر سنة أو نحوها؟ قال: ليس في ذلك حد، قال أصبغ:
إلا ما طال حتى يرى أن ذلك تبرز مستقبل وتقرب؛ قال يحيى: وقد قال غيره ما
يبين أنها تفعله على وجه الضرر، لا لبر، ولا لطلب أجر، إن ذلك مردود كله:
قليله وكثيره؛ قال سحنون: وهو قول ابن القاسم في الثلث إذا كان على وجه
الضرر أنه لا يجوز، قال سحنون: وأنا أراه جائزا.
قال محمد بن رشد: لا يجوز للمرأة ذات الزوج قضاء في أكثر من ثلث مالها هبة
ولا صدقة، ولا بما أشبه ذلك من التفويت بغير عوض دون إذن زوجها في قول مالك
وجميع أصحابه؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يجوز لامرأة قضاء
في ذي بال من مالها بغير إذن زوجها؛» واختلف إن
(14/23)
قصدت بتفويت ثلث مالها فأقل إلى الإضرار
بزوجها فيما يتبين من حالها على ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن ذلك لا يجوز، وهو
قول غير ابن القاسم في رواية يحيى هذه عنه، وظاهر قول مالك في رواية أشهب
عنه، من كتاب الأقضية. والثاني: أن ذلك جائز، وهو قول ابن القاسم في رواية
يحيى هذه عنه، وقول سحنون. والثالث: أنه إن كان أقل من الثلث جاز، وإن كان
الثلث لم يجز، وهو قول ابن القاسم في رواية سحنون هذه عنه؛ وما في المدونة
في ذلك محتمل للتأويل، واختلف في فعلها: هل هو محمول على الرد حتى يجاز، أو
على الإجازة حتى يرد؛ فحكى ابن حبيب عن مطرف، وابن الماجشون، أنه محمول على
الرد حتى يجيزه الزوج؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يجوز
لامرأة قضاء في ذي بال من مالها، إلا بإذن زوجها» وهو ظاهر قول مالك في رسم
اغتسل، من سماع ابن القاسم، من كتاب العتق، فعلى قياس هذا إذا تصدقت أو
أعتقت أكثر من الثلث، فلم يعلم بذلك زوجها، أو علم، فلم يقض فيه برد، ولا
إجازة حتى مات عنها أو طلقها، لم يلزمها ذلك، وقد روي ذلك عن بعض أصحاب
مالك، وإن ادعت أنه الثلث، أو أقل من الثلث، كان عليها أن تبين ذلك؛ وحكي
عن ابن القاسم أنه محمول على الإجازة حتى يرد الزوج، وهو ظاهر قوله في رسم
الكراء والأقضية، وقول سحنون في سماع ابن القاسم، من كتاب العتق؛ فعلى قياس
هذا؛ إذا علم الزوج بذلك، أو لم يعلم، فلم يرد حتى مات عنها أو طلقها؛
لزمها
(14/24)
ذلك، وإن ادعى الزوج أنه أكثر من الثلث،
كان عليه إقامة البينة؛ فإن رد الزوج ذلك، وبقي بيدها حتى زالت العصمة بموت
أو فراق، لم يلزمها ذلك في الهبة والصدقة قولا واحدا؛ واختلف في العتق
فقيل: إنه يلزمها، وهو قول مطرف، وابن الماجشون؛ وقيل: إنه لا يلزمها، وهو
قول أشهب، وقيل: إنها تؤمر بذلك، ولا تجبر عليه، وهو قول ابن القاسم؛ ولا
خلاف في أنها تقضي في ذلك كله بما شاءت قبل أن تتأيم بعد الرد؛ وعلى هذا
المعنى يأتي اختلافهم أيضا إذا لم يعلم الزوج بذلك حتى ماتت، هل له أن يرده
بعد موتها أم لا؟ فقيل: إن له أن يرده، وهو قول سحنون في نوازله بعد هذا،
وقول مطرف، وابن الماجشون؛ وقيل: ليس له أن يرده بعد موتها، وهو قول ابن
القاسم في رواية أصبغ عنه؛ ومن أهل العلم من لا يجيز للمرأة قضاء في شيء من
مالها قل أو كثر بغير إذن زوجها؛ لما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يجوز للمرأة في مالها أمر إلا بإذن زوجها» .
ومنهم من يجيز لها القضاء في جميع مالها، بغير إذن زوجها استدلالا بظواهر
آثار مروية في هذا المعنى، فما ذهب إليه مالك في مراعاة الثلث عدل بين
القولين؛ وأما إذا فوتت مالها الشيء بعد الشيء، فإن قرب ما بين ذلك، نظر في
الأول، فإن كان أكثر من الثلث رد الجميع، وإن كان الثلث جاز ورد ما بعده،
وإن كان أقل من الثلث جاز ونظر فيما يليه؛ فإن كان مع الأول الثلث جاز ورد
ما بعده؛ وإن كان أكثر من الثلث رد وما بعده؛ هذا على قياس ما قاله ابن
القاسم في رسم حمل صبيا، من سماع عيسى، من كتاب العتق، والقرب في ذلك مثل
الشهر والشهرين، على ما قاله ابن حبيب، وحكاه عن أصبغ؛ قال:
(14/25)
ولو قرب الأمر جدا مثل أن تتصدق بثلث
مالها، ثم تتصدق بعد يوم أو يومين بثلث الباقي، أو أقل؛ أو أكثر رد الجميع
كما لو كان في عقد واحد، ولا فرق في القياس بين اليوم واليومين، والشهر
والشهرين في أنه يجب أن يمضي الأول ويرد الثاني، فقد قيل: إنه يمضي الثلث،
ويرد ما زاد عليه، وإن كان في صفقة واحدة، فكيف إذا كان في صفقتين؛ وأما إن
بعد ما بين ذلك، فينظر في الأول، فإن كان الثلث فأقل جاز، وينظر فيما بعده؛
فإن كان الثلث فأقل من الباقي بعد الأول جاز، وإن كان أكثر من الثلث لم
يجز، وإن كان الأول أكثر من الثلث رد، ونظر فيها بعده؛ فإن كان أكثر من ثلث
الجميع رد، وإن كان الثلث فأقل جاز، وهذا على قياس ما قاله ابن القاسم في
رسم المكاتب، من سماع يحيى، من كتاب العتق، وحد التباعد فيما بين الأمرين
الستة الأشهر فأكثر، على ما حكى ابن حبيب، وقيل العام؛ لأنه حد في غير ما
مسألة؛ وقد قيل: إنها إذا تصدقت بثلث مالها لا تنفذ لها عطية في باقيه
بحال، قرب ذلك أو بعد؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن تقضي في جميع مالها، قال ذلك
عبد الوهاب، إلا أن تفيد مالا آخر، فيكون لها أن تقضي في ثلثه، والقياس أن
لها أن تقضي في جميع ما أفادت بعد النكاح، إذ لم يتزوجها الزوج عليه، فلا
يحجر عليه فيه، واختلف إذا قضت في مالها بتفويت أكثر من ثلثه، فقال ابن
القاسم: يرد الزوج الجميع، وقال عبد العزيز بن أبي سلمة يرد ما زاد على
الثلث، وهو قول مالك في رواية ابن الماجشون عنه.
فحمل ابن القاسم فعلها فيما زاد على الثلث على الضرر، فأبطل جميعه، وحمله
عبد العزيز أبي سلمة على غير الضرر، فرد منه ما زاد على الثلث كالوصية، وهو
الأظهر؛ إذ قد تفعل ذلك رجاء أن يجيزها زوجها، وقد تجهل أن لزوجها أن يحجر
ذلك عليها، ولا اختلاف في أن فعلها في
(14/26)
الثلث فما دونه، محمول على غير الضرر حتى
يعلم أنها قصدت به الضرر، فيقع فيه من الاختلاف ما تقدم؛ وقد قيل في الوصية
بالثلث: إنها ترد إذا قصد بها الضر؛ لقول الله عز وجل: {غَيْرَ مُضَارٍّ}
[النساء: 12] ، وهو بين؛ وقال ابن الماجشون: يرد ما زاد على الثلث إلا في
العتق، فإنه يرد جميعه؛ إذ لا يتبعض، واختلف في حلفها بصدقة جميع مالها؛
فقيل: يلزمها؛ لأنه مصروف إلى الثلث، فليس للزوج أن يرده، وهو قول سحنون في
سماعه، من كتاب النذور، وقيل: لا يلزمها؛ لأن للزوج أن يرده، وهو قول أصبغ
في السماع المذكور من النذور؛ وهذا اختلاف راجع إلى الاختلاف في تصدقها
بالثلث قاصدة إلى الإضرار، والذي أقول به أنها إن كانت ممن تجهل أن صدقتها
مصروفة إلى الثلث، كان للزوج أن يرده، وإن كانت ممن يعلم ذلك، لم يكن للزوج
أن يرده، وبالله التوفيق.
[مسألة: يتصدق على ابن له بغلام فلم يحزه حتى
أوصى الأب للعبد بالعتاقة]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الرجل يتصدق على ابن له بغلام، فلم
يحزه الابن حتى أوصى الأب للعبد بالعتاقة، أيكون ذلك نقضا للصدقة؟ فقال: إن
كان الابن صغيرا في حجر، فالوصية ماضية، إن مات الأب عتق العبد بالوصية إن
حمله الثلث، وكان للابن قيمة العبد في رأس مال أبيه؛ لأنه كان حائزا عليه،
فليست الوصية التي أحدث بعد الصدقة تبطل الصدقة، ولكن يكون العبد الذي تصدق
به عليه أبوه كغيره من مال الولد، فالوالد إذا أوصى بعتاقة عبد ابنه الصغير
أو بتل عتقه، جاز ذلك على الابن إذا كان
(14/27)
للأب مال وأعطى الولد قيمة عبده، فسواء كان
له بالصدقة، أو من غيرها، قال: وإن مات الأب ولا مال له، لم تجز الوصية
للعبد، وكان الابن أولى به لقبضه بالصدقة؛ قال: وإن كان الابن المتصدق عليه
كبيرا يلزمه الحوز لنفسه، فإنه إن لم يقبض العبد حتى يموت الأب، فلا صدقة
له، والوصية للعبد جائزة، وإن قام فأخذ صدقته في حياة أبيه وصحته كان أحق
بحوزها، وبطلت الوصية؛ لأن الأب لا يحوز على ابنه الكبير، ولا يجوز له أن
يوصي بعتاقة عبيد ولده الأكابر، فالولد الكبير أحق بالعبد من الوصية إذا
قام بالحيازة في صحة أبيه.
قال محمد بن رشد: وصيته بعتق عبد ابنه الصغير، كعتقه سواء أن حمله الثلث
جاز، وكان له قيمته في مال أبيه، وكذلك ما حمل الثلث منه إن لم يحمل جميعه،
وقد مضى في رسم استأذن من سماع عيسى حكم صنيع الأب في مال ابنه الصغير من
عتق أو هبة أو صدقة أو تزويج مستوفى، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: يرث هو وأخوه أرضا فيتصدق منها على رجل
بناحية من الأرض بنصها]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الرجل يرث هو وأخوه أرضا، فيتصدق منها
على رجل بناحية من الأرض بنصها، وذلك قبل أن يقاسم أشراكه، ماذا ترى
للمتصدق عليه؟ قال ابن القاسم: أرى أن تقسم الأرض كلها بين الورثة، فإن
صارت الأرض التي
(14/28)
تصدق بها أحدهم للمتصدق بها في سهمه، أخذها
الذي تصدق بها عليه، وإن صارت لبعض أشراكه كانت للذي تصير له في سهمه،
وبطلت الصدقة، ولم يكن على المتصدق أن يعوض المتصدق عليه منها شيئا من
الأرض التي صارت له في سهمه؛ قال: وإن صار للمتصدق بها بعضها في سهمه، أعطى
المتصدق عليه منها الذي صار للمتصدق في سهمه من تلك الأرض بعينها؛ قلت له:
أرأيت تلك الأرض التي تصدق بها بعينها تحمل القسمة لسعتها دون أرض القرية؛
أيجوز للمتصدق عليه أن يقول: أنا أقاسمكم هذه الأرض دون أرض القرية، فآخذ
منها نصيب صاحبي المتصدق علي، وكره ذلك الورثة؛ قال: لا ينظر إلى قول واحد
منهم، ولكن ينظر إلى الأرض، فإن كانت في كرمها أو رداءتها لا تضاف إلى
غيرها، على ذلك كان القسام يقسمونها، لو لم يتصدق بها على وجه العدل بين
الورثة قسمت وحدها، فأعطى المتصدق عليه حصة المتصدق منها، ولا حق له فيما
سواها مما يقاسمه الوراث أشراكه من بقية أرض القرية، وإن كانت تلك الأرض
بعينها تشبه غيرها من جميع أرض القرية في القرب والكرم حتى يكون رأي القسام
إذا عدلوا بين الورثة في القسم أن يجمعوا مثلها إلى بقية أرض القرية، جمعت
في القسم، فإن صارت لغير المتصدق بها لم يكن للمتصدق بها عليه منها، ولا من
غيرها شيء وإن صارت أو بعضها للمتصدق في سهمه، أخذها المتصدق عليه، أو أخذ
ما صار منها للمتصدق بها.
قال محمد بن رشد: جواب ابن القاسم في هذه المسألة صحيح على القول بأن
القسمة تمييز حق؛ لأنها كأنها حققت أن الذي صار منها
(14/29)
للمتصدق من الأرض، هو الذي كان له يوم تصدق
منها، فلذلك قال: إن صارت الناحية المتصدق بها للمتصدق، أخذها المتصدق
عليه، وإن صارت لغيره لم يكن له شيء، وإن صار له بعضها، لم يكن له إلا ما
صار له منها، ويأتي فيها على قياس القول بأنها بيع من البيوع، أنه ليس
للمتصدق عليه من الناحية المتصدق بها إلا سهم المتصدق، بأن صارت القسمة
لغيره، كان له من حظ المتصدق قدر ذلك، وهو قول ابن الماجشون؛ وقال مطرف: إن
وقع في سهم المتصدق ما تصدق به فهو للمتصدق عليه، وإن وقع في سهم غيره كان
للمتصدق عليه قدر نصيب المتصدق، وهو استحسان على غير قياس.
[: يقول ثمر حائطي العام صدقة على فلان والنخل
يومئذ لا ثمر لها]
ومن كتاب الصلاة قال يحيى: وسألت عن رجل يقول: ثمر حائطي العام صدقة على
فلان، والنخل يومئذ لا ثمر لها، فيريد المتصدق أن يبيع الأصل، قال: ليس ذلك
له، إلا أن يبيع الأصل في دين رهنه إذا ألجئ إلى ذلك من فلس، قيل له: فإن
مات المتصدق ولم يثمر النخل؟ فقال: ليس للمتصدق عليه شيء. وسئل عنها سحنون
فقال: إن أراد بيعها قبل إبار النخل، فبيعه غير جائز، وإن كان بيعه بعد
إبار النخل، فالبيع جائز.
قال محمد بن رشد: ظاهر قوله في هذه المسألة أن المتصدق بالثمرة إن مات قبل
أن يثمر النخل، لم يكن للمتصدق عليه شيء، وإن كان قد قبض النخل، خلاف ظاهر
ما في كتاب الهبة والصدقة من المدونة من أن قبض النخل قبض لما يأتي من
الثمرة الموهوبة، وكان أبو عمر بن القطان يرد ما
(14/30)
في المدونة بالتأويل إلى هذه الرواية، وكان
غيره يخالفه في ذلك على ما قد ذكرناه في كتاب العرايا من المقدمات، وسائر
المسألة قد مضى الكلام عليه مستوفى في رسم أوله مسائل بيوع ثم كراء، من
سماع أشهب، فلا معنى لإعادته.
[: رجل تصدق على بنين له ثلاثة بأرض أو دار
وأحد الولد غائب]
ومن كتاب المكاتب وسألته عن رجل تصدق على بنين له ثلاثة بأرض أو دار وأحد
الولد غائب، فأراد الحاضران أن يحوزا حظيهما، فقاسمهما الأب فأخذا ثلثي
الأرض أو الدار؛ وحبس الوالد الثلث فمات قبل قدوم الابن الغائب، فلما قدم
أراد أن يدخل على أخويه فيما حازا مما كان أبوهم قد تصدق به عليهم؛ فقال:
لا حق له إذا لم يحز لنفسه، ولم يحز له حائز، ولأخويه ما حازا دونه؛ قلت:
فلو لم يقاسمهما الأب فحازا ثلثي ذلك أو أقل أو أكثر حيازة مبهمة، ليست
حيازة مقاسمة.
قال أصبغ: ما حازا بينهم؛ لأن الصدقة وقعت بينهم على الإشاعة، وقبضهما
حيازة للغائب لمغيبه، فقد حازا من الصدقة شيئا هو بينهما وبين الغائب، فذلك
جائز، وهو بينهم سواء، كما كانت الصدقة بينهم، ويشبه أن يقولوا مثل هذا
أيضا، وإن كانا حازاه على مقاسمة من الأب فيها؛ لأن القسمة التي قسمها الأب
لا تجوز عليه؛ إذ ليس ممن يجب أن ينظر له.
(14/31)
قال محمد بن رشد: قوله في هذه الرواية قلت:
فلو لم يقاسمهما الأب إلى آخر المسألة، ساقط من أكثر الكتب، وهي زيادة جيدة
تتم بها المسألة؛ ولا إشكال فيما حاز الحاضران على غير قسم أنه بينهما وبين
الغائب، وإنما الكلام فيما حازاه على مقاسمة من الأب لهما على الغائب؛
فالقياس أن يدخل الغائب عليهما فيما حازاه على الأب؛ لأن قسمته لا تجوز
عليه إذا كانت بعد الصدقة، ولم تكن في أصلها؛ ووجه إعمال القسمة عليه، وإن
لم تكن في أصل الصدقة، وكانت بعدها مراعاة قول من يقول: إن الصدقة والهبة
لا يجب الحكم بها على المتصدق والواهب ما لم تقبض منه، فكانت القسمة كأنها
في أصل الصدقة؛ ولو قدم الغائب والمتصدق حي، لما جازت عليه القسمة إذا لم
تكن في أصل الصدقة، وعلى قياس إجازة القسمة على الغائب استحسانا مراعاة
لهذا الخلاف، يأتي ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن المدنيين والمصريين،
وقال: إنه مما اجتمعوا عليه ورأوه واحدا في الهبة والصدقة من أن الرجل إذا
حبس حبسا على بنيه الصغار والكبار، أو تصدق عليهم بصدقة، فقاسمه في أصل
التحبيس أو بعده، فسمى للصغار من ذلك مساكن معروفة محدودة، وللكبار مثل
ذلك، فلم يحز الكبار ما سمى لهم من ذلك، وحاز هو للصغار ما سمى لهم؛ جاز
ذلك للصغار، وبطل على الكبار؛ لأنه إنما صار كأنه إنما حبس على كل فريق
منهم شيئا بعينه مفروزا محدودا، وقال فضل: رأيت ابن حبيب قد ذكر في سماعه
من أصبغ، عن ابن القاسم بخط يده: إذا قسم ذلك في أصل
(14/32)
الحبس، ولم يذكر فيه هذه كما حكى هاهنا.
قال محمد بن رشد: وهذا هو القياس، إلا أن يكون إذ قسم الحبس أو الصدقة بين
الصغار والكبار بعد أن حبس أو تصدق عليهم جميعا، قسمه مع الكبار برضاهم،
فيجوز ذلك ويكون للصغار حظهم بحيازة الأب إياه لهم، ويبطل حظ الكبار، إلا
أن يحوزه، ولا يكون في ذلك اختلاف ولا اعتراض؛ لأن قسمة الأب على الصغار
جائزة، وبالله التوفيق.
[مسألة: يكون بينه وبين الرجل عبد فيقول أحدهما
نصيبي من خدمتك عليك صدقة]
مسألة قال: وسألته عن الرجل يكون بينه وبين الرجل عبد، فيقول أحدهما نصيبي
من خدمتك عليك صدقة؛ فقال: يقول عليه نصيب صاحبه، ويكون ذلك بمنزلة من أعتق
شركا له في عبد. قلت: فإن قال الرجل لعبده خدمتك عليك صدقة ما عشت أنت، أو
ما عشت أنا؛ قال: أما حياة العبد فبين أنه حر ساعتئذ، وأما حياة السيد،
فليس له من خدمته إلا حياة السيد، ولا يكون حرا، وكذلك قوله بخراجك وبعملك.
قال محمد بن رشد: فرق مالك في سماع ابن القاسم من كتاب الخدمة في أول رسم
منه بين الخراج والعمل، فقال: إنه إن قال: تصدقت عليك بخراجك، كان له أن
يستخدمه ولا يضر به؛ يريد في مثل ما استخدم فيه أم الولد، وإن قال: قد
تصدقت عليك بعملك، كان حرا مكانه، وقال سحنون:
(14/33)
مفاد الخراج والعمل والخدمة عندي واحد، فإن
قال الرجل لعبده: قد تصدقت عليك بخدمتك، أو بخراجك، أو بعملك، فإن كان أراد
ما عاش العبد فهو حر ساعتئذ؛ وإن كان ما عاش السيد فليس له منه إلا حياة
السيد، فقول سحنون في مساواته بين الخراج والخدمة والعمل، مثل قول ابن
القاسم في هذه الرواية، خلاف قول مالك: ولا فرق عند جميعهم بين الخدمة
والعمل، ولم يتكلم ابن القاسم إذا قال: قد تصدقت عليك بخدمتك، أو بعملك،
ولم يقل: ما عشت أنت، أو ما عشت أنا، والذي يوجبه النظر أن يصدق في ذلك دون
يمين، وهو الذي يدل عليه قول سحنون؛ فإن قال: لم تكن لي نية، حمل على حياة
العبد، وكان حرا مكانه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يتصدق في صحته على الرجل بمن إذا ملكه
عتق عليه]
مسألة قال: وسألته عن الرجل يتصدق في صحته على الرجل بمن إذا ملكه عتق
عليه، فلا يقبل صدقته ما يكون حال العبد؟ فقال: يكون حرا على سيده الذي
تصدق به، ويكون ولاؤه له، ولا يجبر المتصدق عليه على أخذه.
قال محمد بن رشد: قوله: إذا لم يقبل أنه يكون حرا على سيده الذي تصدق به،
ويكون الولاء له، خلاف نص قوله في المدونة في الذي يوصى له بمن يعتق عليه
والثلث يحمله؛ أنه يعتق عليه قبل أو لم يقبل، ويكون الولاء له؛ قال أبو
إسحاق التونسي: وكان القياس إذا لم يقبل أن يرجع رقيقا لورثة الموصي في
الوصية، أو للمتصدق به في الصدقة، ووجه ما ذهب
(14/34)
إليه؛ أن الموصي والمتصدق إنما ملكه كل
واحد منهما إياه إن شاء، فكان كما لو قال لعبده: عتقك بيدك إن شئت، فقال:
لا أقبل؛ أنه رقيق، ووجه ما في المدونة أن المتصدق والموصي لما علم كل واحد
منهما أنه يعتق عليه إذا ملكه، ولم يكن على يقين من قبوله إياه، حمل عليه
أنه أراد عتقه عنه، فكان الولاء له قبل أو لم يقبل، ووجه هذه الرواية أنه
لما علم أنه يعتق عليه فأوصى له به، أو وهبه إياه، أو تصدق به عليه، فقد
قصد إلى عتقه، فكأنه قال: إن قبله، وإلا فهو حر؛ والقولان في الولاء إذا لم
يقبل في رسم القطعان، من سماع عيسى، من كتاب العتق، وأما إذا أوصى له بشقص
ممن يعتق عليه، أو وهبه إياه، أو أوصى له به كله، فلم يحمله الثلث، فمذهب
ابن القاسم أنه إن قبل عتق عليه ذلك الشقص، وقوم عليه الباقي إن كان له
مال، وإن لم يقبل عتق عليه ذلك الشقص، وكان ولاؤه له، وقال علي بن زياد، عن
مالك: إن لما يقبل سقطت الوصية، وكذلك على روايته يرجع الشقص الموهوب إذا
لم يقبله الموهوب له إلى الواهب ملكا، ووجه ما ذهب إليه مالك في رواية علي
بن زياد: أنه حمل عليه إذا كان ثم تقويم يضر به، أنه خيره بين أن يقبل،
فيعتق عليه ما قبل، وبقوم عليه باقيه؛ وبين ألا يقبل فيرجع إليه رقيقا.
وإذا لم يكن ثم تقويم يضر به، حمل عليه أنه أراد عتق عنه بكل حال؛ وعلى هذه
الرواية أنه أراد عتقه عن نفسه، إن لم يقبله، ورواية عدي بن زياد في الشقص
يوهب له ممن يعتق عليه، أو يوصى له به، أنه إن لم يقبله رجع رقيقا، أظهر من
مذهب ابن القاسم؛ لأنه إذا كان يعتق عليه الشقص على كل حال قبله أو لم
يقبله بعد أن يقوم عليه إذا قبله،
(14/35)
إذ لم يؤثر قبوله له شيئا، وبالله التوفيق.
[مسألة: تصدق رجل على رجل مفلس بدنانير ليؤديها
في دينه]
مسألة قلت: فإن تصدق رجل على رجل مفلس بدنانير ليؤديها في دينه، فلم يقبل،
وقال الغرماء: نحن نقبل ذلك عليه، ولا ينبغي له أن يضر بنا في رد ما تصدق
به عليه؛ فقال: لا يجبر على أخذ الصدقة؛ لأنه يقول: لا ألزم نفسي مذمة، ولا
أوجب لأحد علي منة، وسيرزقني الله، فأؤدي إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: تكررت هذه المسألة في هذا الرسم، من هذا السماع، من كتاب
المديان والتفليس، وهي مسألة صحيحة بينة، قد أغنى ابن القاسم عن القول فيها
بنصه على العلة فيها، فإن قال الغرماء: ليس من حق المتصدق عليك أن يؤدي
إلينا ديوننا عنك، فيكون عليه قد امتن بذلك عليك، ولا يكون لك في ذلك حجة،
فما الفرق بين ذلك وبين أن يعطيك ما تؤدي منه دينك؛ قيل لهم: الفرق بين ذلك
ظاهر بين؛ لأنه إذا أدى عنه دينه إلى الغرماء بغير اختياره، كان من حقه إذا
أيسر أن يؤدي ما عليه من الديون، ويجبر أربابها على قبضها، لتزول المنة عنه
في أدائها عنه، ولو قبض المفلس الصدقة التي تصدق بها عليه على أنه بالخيار
في قبولها وردها، فأراد ردها، وقال الغرماء: نحن نقبلها؛ لتخرج ذلك على
قولين حسبما ذكرناه في كتاب التفليس.
(14/36)
[: أخوين
تنازعا في رقيق ادعى أحدهما أن له فيها شركا]
ومن كتاب الأقضية قال يحيى: وسألت ابن وهب عن أخوين تنازعا في رقيق ادعى
أحدهما أن له فيها شركا، فقال المدعي لأخيه: أن منجاحا وابنتيه بيننا، وقال
له أخوه: ليس له إلا ابنة واحدة، فقال أخوه: بل له ابنتان صغيرة وأخرى
كبيرة، فقال له أخوه: إن كانت له ابنة سوى صغيرة، فهي عليك صدقة، فخاصمه
الأخ فيما تصدق به عليه من الابنة الأخرى، ثم أقر الأخ بعدما نظر في أمرهما
أن له ابنة أخرى، وقال: إنما وهبت، وليس لك صدقة، وظننت أنك تعني منجحا
غلاما سواه؛ فقال الأخ: والله لا أقيلك من صدقتي ولا أدعها أبدا، إلا أن
يقضى له بها، قال: فقال: سمعت مالكا يقول وهو الذي آخذ به: إن الصدقة إذا
كان أصلها على وجه الصلة وطلب البر والمكافأة، وما أشبه ذلك من الوجوه
المعروفة بين الناس في احتسابهم، أو حسن معاشرتهم، فإن صاحبها لا يرجع
فيها؛ وإن خاصمه المتصدق بها عليه، قضي له عليه بها، قال: وأما كل صدقة
تكون في يمين الحالف، أو لفظ منازع، أو جواب مكذب لصاحبه، مثل ما ذكرت لك
في مسألتك؛ فهي باطل لا يقضى بها لمن تصدق بها عليه في بعض هذه الوجوه، وما
أشبهها، إلا أن معطيها والمتصدق بها، يوعظ ويؤثم، فإن تطوع بإمضائها، كان
ذلك الذي يستحب له، وإن شح، لم يحكم عليه فيها بشيء.
(14/37)
قال محمد بن رشد: مثل هذا في كتاب الهبات
من المدونة، أن ما كان من الصدقة على وجه اليمين للمساكين، أو لرجل بعينه،
فلا يجبره السلطان على أن يخرجها، وهو المشهور في المذهب، والمعنى في أنه
لا يقضي بها بيّن، وذلك أن الحالف بالصدقة إنما يقصد إلى الامتناع مما حلف
بالصدقة ألا يفعله، لا إلى إخراج الصدقة، والأعمال بالنيات؛ لكنه إذا فعل
الذي حلف بالصدقة ألا يفعله، فقد اختار إخراج الصدقة على ترك الفعل، فلذلك
قال: إنه يوعظ ويؤثم، وإنما لا يقضى عليه بالصدقة، إن كان آثما في الامتناع
من إخراجها؛ لأنه لا أجر له في الحكم عليه بها وهو كاره، فيذهب ماله في غير
منفعة تصير إليه، ولهذا المعنى لا يحكم على من نذر نذرا بالوفاء به، وفي
المدنية لمحمد بن دينار فيمن شرط لامرأته أن تسري عليها، فالسرية صدقة
عليها؛ أن الصدقة بالشرط تلزمه، وأنه إن أعتقها بعد أن اتخذها لم ينفذ
عتقه، وكانت لها صدقة بالشرط، ولابن نافع في المدنية أيضا فيمن باع سلعة من
رجل، وقال: إن خاصمته فهي صدقة عليه، فخاصمه فيها، أن الصدقة تلزمه، فإن
كان يريد بقوله: إن الصدقة تلزمه، أنه يحكم بها عليه، فهو مثل قول ابن
دينار، خلاف المشهور في المذهب، وأما ما كان من الصدقات المبتلات لله على
غير يمين، فيحكم بها إن كانت لمعين باتفاق، وإن كانت للمساكين، أو في
السبيل على اختلاف الرواية في ذلك في المدونة، وبالله التوفيق.
[مسألة: أخوين أوصى أحدهما بوصية بحظه من مورثه]
مسألة قال: وسألته عن أخوين أوصى أحدهما بوصية فكتب فيها: وقد
(14/38)
تصدق فلان بن فلان الفلاني على أخيه فلان
بن فلان، بحظه من مورثه في دار أبيه وجنانها وبئرها، وكل ما صار له فيها،
تصدق به صدقة لله بتلا، أمضاها فلان الموصي لأخيه فلان حي أو ميت، وما كان
من غير ذلك من متاع، أو ناض، أو عقار، أو حيوان، أو دار، أو قرية، أو شجر،
أو رحى، أو حانوت، أو بيت في داخل المدينة، أو خارجا منها في أرباضها، أو
خارجا من أرباضها، أو قراها في جميع الأندلس، أو في المشرق، ودارهم التي
بأفريقية التي اشتروا من ورثة أبان بن راشد الحلي، أو رقيق في كل ما سمياه
في قراهم، أو غير ذلك من البلاد، من قليل أو كثير؛ فهو بين أخيه، وفلان
شرعا سواء بينهما، فادعى الموصي أنه كان أوصى بهذه الوصية مما ذكر من شرك
أخيه وصية منه، وأنه ينقضها إذا بدا له، كما ينقض الموصي وصيته، وادعى أخوه
أن ذلك إقرار منه له بشركه الذي كان يعرف له، وقد كانا فيما يعرف الناس من
ظاهر أمرهما شريكين حتى تجاحدا ذلك وتناكراه.
قلت: فهل ترى ما كتب صاحب الوصية في وصيته هذه إقرارا لأخيه، ومبتدؤها وصية
على ما ذكرت لك، وكان كتبه إياها عند غزوة غزاها، وهو صحيح سوي، قال:
(14/39)
أرى إن ثبتت هذه الوصية التي اقتصصت
بالبينة العادلة، أو بإقرار منه بها، أن يلزمه جميع ما فيها من الصدقة بحظه
من الدار التي ورث عن أبيه وجنانها وبئرها؛ لأنه بتلها لأخيه ويلزمه فيما
سوى ذلك من جميع ما كان في يديه يوم أقر لأخيه بها في هذه الوصية إقراره،
فيجعل ذلك بينهما نصفين، وأرى ما نص من ذلك إقرارا منه لأخيه، ولست أراها
وصية يجوز له نقضها كما ادعى، قال: وسألت عن ذلك ابن القاسم وأقرأته كتاب
الوصية على مثل ما أقرأته ابن وهب، فقال مثل قول ابن وهب، ولم يخالفه في
شيء منها.
قال محمد بن رشد: هذا كما قالا؛ لأن الإقرار فيها بيّن، وإن كان ابتداؤها
وصية؛ لأن الرجل يلزمه أن يذكر في وصيته ما عليه من الحقوق، فهو آكد عليه
مما يوصي به أنه ينفذ عنه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يتصدق على ابن أخيه أو على أخيه وهو
صغير في حجره]
مسألة قال: وسألت ابن وهب عن الرجل يتصدق على ابن أخيه، أو على أخيه وهو
صغير في حجره، وهو يليه بالنظر له، والقيام بأمره، وليس بوصي لأبيه، فيكون
في يدي المتصدق حتى يموت؛ أيحوز ذلك عليه كحوز الوالد؟ وهل تحوز الأم
لولدها الصغير ما تصدقت به عليه، أو الأجداد، أو الجدات، أو الأخوال، أو
الخالات، أو الأعمام، أو العمات؛ قلت فسر لي رحمك الله من يحوز من
(14/40)
هؤلاء على الصغير ما يتصدق به عليه إذا كان
في حجره؟ ومن لا يحوز عليه منهم؟ قال: لا يحوز من هؤلاء على الصغير ما
يتصدق به عليه إذا كان في حجره إلا الأب، والوصي، والأم إذا كان يتيما في
حجرها، وإن لم يكن موصى إليها؛ والأجداد بمنزلة الأب إذا لم يكن الأب، وكان
الجد هو الذي يليه، وهو في حجره، والجدات بمنزلة الأم، إذا لم تكن الأم
وكان في حجرها.
قال: وأما ما سوى هؤلاء، فلا يكون حوزهم حوزا للصغير إلا إن برئ منه إلى
رجل يليه للصغير. قلت له: أرأيت الأبوين، والأجداد، والجدات، والوصي، الذين
جعلتهم كالأب فيما يلي من الحوز للصغير، أيجزيهم الإشهاد وإعلان الصدقة،
ويثبت ذلك للصغير المتصدق عليه، وإن انتفعوا بكل الغلات إن كان عقارا، أو
لبس الثياب إن كانت الصدقة ثيابا، أو استخدام الرقيق إن كانت الصدقة رقيقا،
أم لا يكون الحوز على الصغير ممن يلي ذلك له من هؤلاء الذين نصصت لك حوزهم
عليه، إلا بحبس الغلة عليه، وأن تكرى تلك الصدقة باسمه، ويشهد على نفسه بما
يقبض من غلته، وبرئ من الانتفاع بقليل ذلك وكثيره، وكيف إن لبس الثوب لبسا
خفيفا، أو أتاه وأدرك بعينه، أو استخدم الرأس
(14/41)
استخداما يسيرا.
قال: وسألت ابن القاسم عن مثل الذي سألت عنه ابن وهب من الحيازة على
الصغير، فقال: لا يحوز على الصغير ما يتصدق به عليه إلا الأب أو الوصي؛ ولا
يحوز له إلا من كان يجوز له إنكاحه والمبارأة عنه والاشتراء له، والبيع
عليه. قال: قال ابن القاسم: وقد سألت مالكا عن الأم تتصدق على ابنها الصغير
في حجرها قد مات أبوه، فقال: إن كانت وصية عليه فهذا الذي لا يعرف غيره أنه
جائز، قال ابن القاسم: فأما ما سواها من أمر ليست بوصية، أو خال، أو عم، أو
قريب، أو بعيد، فلا يحوز على الصغير، وإن كان في حجره، وأما أن يحوز له
الأب أو الوصي، أو وصي الوصي ما تصدق به عليه أو تصدق به غيره عليه.
قال محمد بن رشد: في سماع عبد الملك من كتاب الوصايا، أن كل من ولي يتيما
من قريب أو بعيد، فإنه يحوز له ما وهب له، ومثله من بيده اللقيط، ورواه ابن
غانم، ونحوه في كتاب القسمة من المدونة أن الرجل يحوز مقاسمته على من
التقطه، فهو قول ثالث في المسألة حسبما مضى تحصيله في رسم إن خرجت، من سماع
عيسى، من كتاب الحبس، ولما سأل ابن وهب في هذه الرواية، إذ أجاز حيازة
الأجداد والأم والجدات لما وهبوا، إذا كانوا في حجورهم، وجعلهم في ذلك
كالأب، هل يكتفون من الحيازة بالإشهاد على الصدقة وإعلانها، وإن انتفعوا
بأكل الغلات، وإن كان
(14/42)
عقارا أو لبس الثياب، إن كانت الصدقة
ثيابا، أو استخدام الرقيق إن كانت الصدقة رقيقا، أم لا تصح حيازتهم لهم إلا
أن يكروا ما يكرى من ذلك بأسمائهم، ويشهدوا على أنفسهم بما يقبضون من غلات
ذلك، ويبرءوا من الانتفاع بذلك بقليل ذلك أو كثيره، فسكت عن الجواب في ذلك،
ولا أعرف له في ذلك مذهبا منصوصا عليه، وقد اختلف فيما عدا الملبوس
والمسكون من ذلك في الأب والوصي على ثلاثة أقوال؛ قد مضى تحصيله في رسم
الأقضية الثاني من سماع أشهب، فلا معنى لإعادته؛ وأما الملبوس والمسكون فلا
اختلاف في أن الأب أو الوصي إذا لبس أو سكن ما وهب أو تصدق به، أو حبسه،
بطلت حيازته، وكذلك من سوى الأب والوصي عند من يجيز حيازته ما وهب لمن في
حجره، وبالله التوفيق.
[مسألة: امرأة استخلفت رجلا يخاصم لها في منزل
غصبته]
مسألة قال: وسألت ابن وهب عن امرأة استخلفت رجلا يخاصم لها في منزل غصبته،
فخاصم حتى قضي لها به، وسكنت فيه سنة، والمستخلف المخاصم معها فيه، فسألها
المخاصم أن تتصدق عليه بثلث ذلك المنزل الذي قضي لها به ففعلت، ثم إن
المرأة قامت عليه بعد تدعي أنها كانت جاهلة بما تصدقت به عليه من ثلث
المنزل، فأتت بشهيدين، فشهدا أن فلانا المخاصم لها المتصدق
(14/43)
عليه، ادعى عند القاضي أنها جعلت له الذي
أعطته في القرية في شخوصه وقيامه، وأنكر القاضي أن يكون علم ذلك من دعواه
عنده، أو سمعه منه؛ غير أن الشهيدين قد ثبتا على شهادتهما بما كان يدعي عند
القاضي من ذلك، وشهد له أيضا شاهد جائز الشهادة آخر أن فلانا المتصدق عليه
كان يقلل عندها الذي سألها من الصدقة، ويزعم لها عند سؤاله إياها أنه يسير
حقير لو عرفته، ثم ادعى المتصدق عليه أنها كانت صدقة منها عليه في صحة من
بدنها، وجواز من أمرها بعدما عرفت الثلث الذي تصدقت به عليه، وموضع
الفدادين، وما في ذلك الثلث من شجر، أو حجر، أو منتفع، قليل أو كثيرة؛ وأنه
سكن معها في الصدقة عامين، وكانت الصدقة فيما زعم بعد أن قضي لها بالمنزل
بسنتين أو نحو ذلك؛ قلت: فهل ترى صدقته ثابتة له عليها، والمرأة قد بلغت
مبلغ من يجوز عليها أمرها من النساء؛ فقال لي ابن وهب: أرى الصدقة لها
لازمة، وعليها جائزة بالذي ثبت عليها أنها تصدقت بذلك بعد معرفتها بما
تصدقت به، قال: فأما إن كانت معروفة بالجهالة بذلك المنزل، فخدعت عما تصدقت
به، وثبت لها أنه قلل لها وحقره عندها، وهي بذلك غير عالمة بالذي
(14/44)
قضي لها به، ولا جائزة بالذي طلب إليها
فيه، فأرى الصدقة على مثل هذا غير جائزة. قال: وسألته عن الجعل في الخصومة
فلم يره جائزا.
قلت: فإن وقع، قال: يعطى أجر مثله في شخوصه، قضي له أو لم يقض بشيء؛ وقال:
وسألت ابن القاسم عن صدر هذه المسألة على مثل ما سألت عنه ابن وهب، فقال:
أرى أن الصدقة جائزة بعد أن يحلف المتصدق عليه بالله ما كان الذي تصدقت به
عليه أمرا قاطعته به قبل الخصومة، وما الذي أحدثته من الصدقة أمرا كان أصله
على المجاعلة في الخصومة التي قام بها، وما هو إلا شيء طاعت له به، لما قضي
لها به على يديه، فتصدقت بذلك عليه شكرا ومكافأة؛ فإن حلف على ذلك، جازت له
الصدقة للذي ثبت عليها من عمله، بما تصدقت به عليه، ومعرفتها به وبحدوده؛
وذلك أنا نرى أن رجلا لو سأل رجلا يقوم له في خصومة ويكافئه عليها؛ لكان
الذي فعله لا يصلح، ولو قام بالخصومة على تلك العدة؛ لكان وجه الصواب في
ذلك أن يعطي أجر مثله؛ قال: ولو أعطاه دارا، أو عبدا، أو أرضا
(14/45)
مكافأة له، ففات ذلك وقبضه؛ لجاز ذلك، ولم
يكن للمعطي أن يتعقبه فيه بأمر ينتزع به منه الذي تطوع له به وكافأه به من
غير سلطان ألزمه إياه؛ لأنه إنما أعطاه ذلك للذي كان يلزمه له من أجر مثله
فيما قام له به من الخصومة، وشخص له فيه، فأرى أنه إن كانت عطيتها إياه على
غير مقاطعة سميت له في أصل الجعل، أو صدقة منها، فهي حلال في الأمرين جميعا
العطية له جائزة، والصدقة كذلك، قال فإن كانت جاعلته على ثلث ذلك المنزل
عند ابتداء الخصومة، فذلك موضوع عنها، وله أجر مثله؛ وذلك أن مالكا قال: لا
يحل الجعل في الخصومة على إن فلج فله جعله، وإن لم يفلج فلا شيء له؛ ومن
عمل في هذا فله أجر مثله.
قلت: فما وجه ما تجوز به الإجارة في الخصومة؟ قال: لا أرى به بأسا مشاهرة،
إذا عرف وجه الشخوص فيها شهرا بشهر، فلا أرى أيضا بأسا أن يقاطع إذا كان
الذي يخاصم فيه شيئا معروف القدر، خفيف الخطر، ووجه الشخوص فيه لا يكاد
يختلف فيه.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة في سماع سحنون، من كتاب الجعل والإجارة
ملخصة محذوفة، وبعض ألفاظها مخالفة لما وقع فيها هاهنا، من ذلك أنه قال
فيها هناك أنه ادعى أنها صدقة، وأقام البينة على صدقته، وهم مقرون بها، غير
أنهم قالوا: إنما فعلنا؛ لأنا ظننا أن ذلك يلزمنا، وإنما قاموا عليه بعد
سنين والمعنى فيها، أن الرجل خاصم في القرية
(14/46)
لأربابها، فلما استحقها لهم تصدقوا عليه
بثلثها، لقبض الثلث وحازه؛ ثم إنهم قاموا عليه بعد سنين، فقالوا: إنا كنا
جاعلناك على الخصام في القرية بثلثها الذي دفعناه إليك، وذلك لا يجوز لك؛
لأنه جعل فاسد لا يجوز، وأقاموا البينة على إقراره بأنه أخذه على جعله بما
شهد به عليه الشاهدان بأنه كان يدعي ذلك عند القاضي؛ وقال: هو إنما أخذته
بالصدقة، وأقام البينة على الصدقة، فأقروا، وقالوا: إنما تصدقنا عليك به؛
لأنا ظننا أن ذلك يلزمنا بالجعل الذي شارطتنا عليه، فرأى ابن وهب الصدقة
لها لازمة وعليها جائزة.
قال: فالذي ثبت عليها أنها تصدقت بذلك بعد صرفتها بما تصدقت به، وليس في
السؤال ثبوت الصدقة عليها، وإنما وقع ذلك في سماع سحنون، من كتاب الجعل
والإجارة، غير أن فيه إقرارها بها ودعواها الجهل بمقدارها، وذلك كثبوت ذلك
عليما، ولا فيه أيضا ثبوت معرفتها بقدر الصدقة، غير أن فيه أنها سكنت في
المنزل مع المخاصم لها فيه سنة بعد أن قضى لها به قبل الصدقة، وذلك يقتضي
معرفتها بمقدار ذلك؛ قال: ولو كانت جاهلة بمقدار ما تصدقت، وثبت أنه قلل
لها ذلك وحقره عندها لما لزمتها الصدقة، ورأى ابن القاسم أيضا الصدقة لها
لازمة، ولم يعذرها بالجهالة، ولا رأى ما ثبت عليه هو من ادعائه أنه أخذه
على جعله ضائرا له؛ لأن بإزائه إقرارها له بالصدقة التي ادعى، واستظهر عليه
باليمين على أنه لم يقطعها بالثلث قبل الخصومة، وإنما طاعت له به بعدها
شكرا ومكافأة عليها من أجل ما تضمنه السؤال من أنه شهد عليه أنه ادعى عند
القاضي أنها جاعلته على ذلك، وفي قوله في آخر جوابه قال: فإن كانت جاعلته
على ثلث ذلك
(14/47)
المنزل عند ابتداء الخصومة، فذلك موضوع
عنها، وله أجر مثله؛ وذلك أن مالكا قال: لا يحل الجعل في الخصومة على، إن
فلج فله جعله، وإن لم يفلج فلا شيء له؛ ومن عمل في هذا فله أجر مثله دليل
على أن ذلك جائز عنده على القول بأن الجعل جائز في الخصومة، على أنه إن فلج
فله جعله، وإن لم يفلج، فلا شيء له؛ خلاف قوله في رسم أول عبد ابتاعه فهو
حر، من سماع يحيى من كتاب الجعل والإجارة في الذي يقول للرجل: قم لي بطلب
شفعتي، ولك إن استحققتها نصف سهمي، ونصف ما تأخذ لي بالشفعة؛ أن ذلك لا
يجوز، وإن كان الجعل حلالا؛ لأنه جعل فيه ما لم يملكه بعد، وبينا هناك أن
ذلك ينبغي أن يكون جائزا على القول، بأن الجعل في الخصومة جائز على أنه إن
فلج فله جعله، وإن لم يفلج فلا شيء له بيانا شافيا، فلا معنى لإعادته، وهو
ظاهر قوله هاهنا.
وقد اختلف قول مالك في الجعل في الخصومة على أنه إن فلج فله جعله، وإن لم
يفلج فلا شيء له، وقع اختلاف قوله في ذلك في آخر كتاب الجعل والإجارة من
المدونة، واختلف في ذلك قول أبي القاسم أيضا، روى عنه يحيى في أول رسم، من
سماع يحيى، من كتاب البضائع والوكالات، إجازة ذلك، خلاف قوله في هذه
الرواية، والأظهر إجازة ذلك؛ لأن الجعل على المجهول جائز، وإنما كرها ذلك
على أحد قوليهما إذا كثر الجهل فيه استحسانا، وأما إذا قل الجهل فيه، وكان
الذي يخاصم فيه شيئا معروف العدد، خفيف
(14/48)
الخطب، وجه الشخوص فيه لا يكاد يختلف؛ فذلك
جائز قولا واحدا كما قال في هذه الرواية؛ وقوله أن الوجه في الإجارة في
الخصومة إذا عرف وجه الشخوص فيها، أن تكون مشاهرة شهرا بشهر، معناه أن
يستأجره شهرا على الخصام بأجر معلوم، فإن فلج أو فلج عليه قبل تمام الشهر،
كان له من إجارته بحساب ما مضى من الشهر، وإن انقضى الشهر ولم يفلج
فاستأجره على التمادي على الخصام شهرا آخر أيضا، فإن فلج قبل تمام الشهر،
كان له من إجارته بحساب ما مضى من الشهر، كالذي يستأجر الرجل شهرا على أن
يبيع له ثوبا، فإن باع قبل تمام الشهر، كان له من إجارته بحساب ما مضى منه،
وإن انقضى ولم يبع شيئا استوجب جميع أجرته؛ وكذلك قال مالك في كتاب ابن
المواز إنما تجوز الإجارة في الخصومة بأجر معلوم، وأمد معلوم، يكون ذلك له
ظفر أو لم يظفر؛ قال ابن القاسم: ثم ليس له ترك ذلك حتى يستخرجه؛ قال أصبغ:
كالإجارة على بيع السلعة، وإن لم يتم وقتا إذا كان لذلك وقت قد عرفه الناس،
والأجل على كل حال أحسن، وقول أصبغ صحيح على ما قالوا في الشيء الذي يباع
من جاعل أن الإجارة على بيعه جائز دون ضرب الأجل؛ لأن العناء في بيعه
معروف، فهو أجل معلوم، وبالله التوفيق.
[مسألة: يتصدق على ابنه الصغير برقيق]
ومن كتاب أوله: أول عبد ابتاعه، فهو حر مسألة
قال: وسألته عن الرجل يتصدق على ابنه الصغير برقيق، ثم
(14/49)
يموت فيترك الورثة تلك الرقيق في يد
المتصدق عليه نحوا من ثماني عشرة سنة، ثم يريدون اقتسام تلك الرقيق،
ويقولون: إنما تركناها في يدك على حال إرفاقك بخدمتها، فإذا زعمت أنك
حبستها بأنها عليك صدقة، فهات على دعواك بالبينة؛ فيقول: قد طال ترككم
إياها عندي معرفة منكم بحقي، ولو سألتموني البينة على الصدقة بحداثة موت
أبي وجدتها، وقد ماتوا اليوم أو نسوا، وفي ترككم إياها في يدي إقرار منكم
بمعرفة صدقي، ولعله قد كان يعتق ويتصدق ويبيع.
قال ابن القاسم: إن جاء بالبينة على أهل الصدقة فالأب عليه حائز مع قبضه
للرقيق بعد أبيه، وترك الورثة ذلك في يدي لا يكلفونه حوزا، ولا يسألونه
إياه، وإن لم تكن له بينة على أصل الصدقة، وإنما أراد أن يوجب لنفسه دعواه
بترك الورثة اقتسام الرقيق، فلا حق له فيها إلا مورثه منها، إلا أن يكون إذ
حازها بالقبض لها، كأن يعتق ويبيع ويصنع ما يصنع المرء فيما خلص له من
الأموال، فإن كان كذلك مع حضور الورثة وعلمهم بفعله، فهو أحق بالرقيق من
جميع الورثة، قال: وإن كان إنما أعتق رأسا من عدة رقيق، أو تصدق بيسير من
كثير، فإن ذلك لا يوجب له الصدقة التي ادعى، لا فيما أحدث فيه، ولا فيما
بقي من الرقيق؛ غير أنه إن كان أعتق، قوم عليه؛ وإن كان باع، غرم أنصباء
أشراكه من الثمن لحضورهم وعلمهم بالبيع؛ قال: وإن كان الذي أحدث فيه من
العتاقة والبيع والصدقة، وما أشبه ذلك في جل الرقيق وأكثرها، فالذي
(14/50)
بقي من الرقيق تبع لما أحدث فيه يستحق ما
بقي بما ادعى من الصدقة لحوزه ذلك، وقبضه دون إخوته.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا يستحق الابن المتصدق عليه الرقيق بطول مكثها
في يديه، إذا لم تكن له بينة على أصل الصدقة، صحيح لا اختلاف في أنه لا
حيازة بين الأقارب الشركاء بالميراث وغير الشركاء بالسكنى والازدراع فيما
يسكن ويزدرع، أو بالاستخدام واللباس فيما يستخدم ويلبس، وإن طالت المدة،
إلا ما تناوله بعض الناس على ما في المدونة في قوله: وهذا من وجه الحيازة
التي أخبرتك من أنه لا يجوز على مذهبه في المدونة في الحيازة بين الأقارب
والأجنبيين وهو بعيد، وكذلك قوله: إلا أن يكون إذ حازها بالقبض لها، كأن
يعتق ويبيع ويصنع ما يصنع المرء فيما خلص له من الأموال، فإن كان كذلك مع
حضور الورثة وعلمهم بفعله، فهو أحق بالرقيق من جميع الورثة؛ صحيح أيضا لا
اختلاف في أن التفويت بهذه الأشياء من البيع والعتق والهبة والصدقة
والكتابة والتدبير والوطء، حيازة بين الأقارب الشركاء بالميراث وغيرهم إذا
كانوا حضورا، ويفترق الحكم بين أن يحضروا التفويت، أو يعلموا به، وهم في
البلد حضور، حسبما قد مضى بيانه في رسم يسلف، من سماع ابن القاسم، كتاب
الاستحقاق، ويختلف إذا فوت بذلك الوارث أو القريب اليسير من الجميع أو
الجل، وبقي اليسير: فقيل إن القليل تبع للكثير
(14/51)
في الوجهين، وهو قوله في هذه الرواية،
ومثله في رسم الكبش، من سماع يحيى، من كتاب الاستحقاق؛ وقيل: إنه لا يكون
تبعا له في الوجهين؛ فإن كان أعتق رأسا من عدة رقيق، أو باعه أو وهبه،
استحقه بذلك، ولم يكن لأشراكه في الميراث عليه في ذلك حق، لحضورهم وعلمهم،
وإن كان أعتق الجل أو فوت ذلك بالبيع، أو الهبة، أو الصدقة؛ كان لأشراكه في
الميراث حقهم فيما بقي، وإن كان يسيرا، وسقط حقهم في الكثير المتفوت، وهو
ظاهر قول ابن القاسم في سماع سحنون، من كتاب الاستحقاق، وقد قيل: إن معنى
ما في سماع سحنون إذا كان الذي حازه الوارث بهذه المعاني متناصفا، أو
متقاربا، فلذلك قال: إنه لا يكون القليل تبعا للكثير، لا فيما حيز ولا فيما
لم يحز، فلا يكون على هذا اختلاف في أن القليل تبع للكثير، وهو أولى من حمل
ذلك على الخلاف؛ إذ لا اختلاف في أنه إذا كان ما حازه الوارث على أشراكه
بهذه المعاني متقاربا، أو متناصفا، لا يكون بعض ذلك تبعا لبعض، وبالله
التوفيق.
[مسألة: ينحل ابنه الدنانير ويضعها على يدي رجل]
من سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم قال سحنون: وسألت ابن القاسم عن الرجل
ينحل ابنه الدنانير، ويضعها على يدي رجل، ثم يصوغها له حليا، أو كانت آنية،
ثم أراد اعتصارها؛ قال: ليس ذلك له؛ لأنه قد تغير عن حاله، وإنما ذلك
بمنزلة أن لو اشترى له جارية أو غير ذلك، ثم أراد اعتصارها، لم يمكن من
ذلك، قال سحنون: وقال ابن وهب عن مالك في الدنانير
(14/52)
والدراهم التي صيغت حليا، مثل قول ابن
القاسم.
قال محمد بن رشد: قوله: أو كانت آنية يريد آنية فصاغها، فقوله في الدنانير
والآنية إذا وهب ذلك لابنه ثم صاغه له حليا، أنه لا اعتصار له في ذلك؛ لأنه
قد تغير عن حاله؛ تعليل صحيح، وهي علة متفق عليها إن كان صاغها بمال الولد،
وأما إن كان صاغها له بماله، أو أخرج أجرة صياغتها منها، فيجرى ذلك على
الاختلاف في الهبة تتغير في بدنها بنقصان أو نماء، من غير أن تنمو بنفقة
الابن؛ لأنها إذا نمت بنفقة الابن، فلا اختلاف في أنه لا اعتصار للأب فيها،
مثل أن يكون صغيرا فينفق عليه حتى يكبر، أو هزيلا فينفق عليه حتى يسمن، أو
دارا فيصلحها ببنيان وما أشبه ذلك؛ فظاهر قوله في هذه الرواية أن تغير
الهبة في بدنها بأي وجه كان من زيادة أو نقصان، يفيت فيها الاعتصار، وهو
ظاهر قول مالك في المدونة ما لم يحدثوا دينا، أو ينكحوا، أو تتغير عن
حالها؛ وهو قول أصبغ في الواضحة، خلاف قول مطرف، وابن الماجشون: إن تغير
الهبة في بدنها بالزيادة والنقصان لا يفيت فيها الاعتصار، وأما تشبيهه
صياغة الدنانير له بابتياعه له بها الجارية، فليس ببين؛ لأن الدنانير التي
وهب له قد صارت لبائع الجارية، والجارية ليست عين ما وهب، وأما الحلي فهو
عين ما وهب من الدنانير أو الآنية، وفي المدنية قال: سمعت مالكا يقول: الأب
يعتصر من ابنه الجارية ينحله إياها، وإن ولدت عند الابن، وكذلك الحيوان،
ولم يبين إن كان ولد الجارية من زوج أو زنى، والظاهر أن ذلك عنده سواء؛ إذ
لو افترق الأمر عنده لبينه، ولا بين أيضا إن كان يعتصرها بولدها، أو دون
الولد؛ فإن اعتصرها
(14/53)
والولد من زوج، بقيت الزوجية بينهما؛ لأنها
عيب، والعيب لا يفيت الاعتصار في أحد الأقوال؛ وهذا الظاهر من مذهبه،
والأظهر أن يأخذها دون ولدها؛ لأن الولد نماء حدث بماله؛ لأنه هو المنفق
عليها وعليه، أو الزوج على الاختلاف في ذلك.
[مسألة: العبد يتصدق عليه فيأبى أن يقبل]
مسألة قال مالك في العبد يتصدق عليه فيأبى أن يقبل: إن لسيده أن يأخذ ذلك،
وإن أبى الذي تصدق به إذا قال: إنما أردت العبد، أما إذا لم يقبل فلا
أعطيك.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أحفظه؛ لأن العبد لو
قبل الصدقة، كان لسيده أن ينتزعها منه، فهو أحق بقبول ما تصدق به عليه،
وبالله التوفيق.
[مسألة: قال غلة حائطي لابني الصغير وله ولد
كبير]
مسألة قال ابن القاسم: إذا قال الرجل: غلة حائطي لابني الصغير وله ولد
كبير، وخمسة أوسق منه لفلان، وكان الحائط في يديه يقوم عليه ويليه، ويخرج
الخمسة الأوسق للأجنبي ثم يموت، قال: أراها صدقة جائزة لابنه وللأجنبي؛
وإذا قال: غلة الحائط لفلان وللمساكين، وكان في يديه يخرج الغلة للمساكين
ولفلان، ثم يموت وهي في يديه، لم يجز للمساكين ولا لفلان، وهو خلاف الأول.
(14/54)
قال الإمام القاضي: هذا بين على ما قاله من
أن المسألتين مفترقتان؛ لأن العطية لا تصح إلا بالحيازة في صحة المعطي، وهو
يحوز لابنه الصغير، فإذا قال غلة حائطي لابني الصغير، فله ثمرته ما عاش،
وهو حبس عليه يحوزه له؛ وما استثناه منه لولده الكبير وللأجنبي، فكأنه قد
استثناه لنفسه، فيجوز ذلك إن كانت الخمسة الأوسق ثلث غلة الحائط بعد نفقته
أو أقل؛ وأما أن كانت الخمسة الأوسق أكثر من ثلث غلة الحائط، فلا يجوز ذلك،
وبطل إن لم يخرج الحائط من يديه حتى توفي؛ لأن من حبس على صغير وكبير، فلم
يحز الكبير، بطل نصيب الصغير؛ ولا اختلاف في هذا، وإنما يختلف في الهبة
والصدقة حسبما مضى القول فيه، في رسم الحج والزكاة، من سماع أشهب من هذا
الكتاب، وفي رسم إن خرجت، من سماع عيسى، من كتاب الحبس، وقد بين في هذه
المسألة أنه جعل له غلة الحائط حياته بقوله فكان الحائط في يديه يقوم عليه
ويليه، ويخرج الخمسة الأوسق منه للأجنبي؛ وأما من قال: غلة حائطي لفلان،
ولم يقل حياته، فإن كان في وقت غلة الحائط، فليس له إلا غلة ذلك العام،
بمنزلة من قال: ثمر حائطي لفلان وفيه يومئذ ثمر، حسبما مضى في نوازل سحنون،
من كتاب الحبس.
[مسألة: يتصدق على الرجل بالشيء ويقول إن أردت
بيعه فأنا أحق به بالثمن]
مسألة وسألت ابن القاسم عن الرجل يتصدق على الرجل بالشيء،
(14/55)
ويقول: إن أردت بيعه، فأنا أحق به بالثمن؛
قال: ليس هذه الصدقة بشيء؛ قلت له: فإن طال مكثها في يدي صاحبها، ثم أراد
أن يقوم عليه، فيأخذ ذلك الشيء؛ قال سحنون، وذكر ابن وهب عن مالك أنه لا
بأس بها؛ لأنه ليس ببيع.
قال محمد بن رشد: قوله: ليست هذه الصدقة بشيء؛ يريد فيكون الحكم فيها أن
تبطل، إلا أن يرضى الواهب بإمضاء الهبة وإسقاط الشرط؛ وفي هذه المسألة
أربعة أقوال؛ قد مضى تحصيلها في رسم إن خرجت، من سماع عيسى، أحدها: قول ابن
القاسم هذا: أن الصدقة باطلة. والثاني: أن الصدقة جائزة، والشرط لازم له
ولورثته إن أرادوا البيع؛ وقع هذا القول في المختصر لابن عبد الحكم، وهو
قول مالك في رواية ابن وهب هذه: أنه لا بأس بها؛ لأنه ليس ببيع؛ وقد مضى
الكلام في البيع والإقالة على هذا الشرط في أول سماع أشهب، من كتاب جامع
البيوع، وفي سماع محمد بن خالد منه، ولم يقع لابن القاسم في هذه الرواية
جواب فيما سأله عنه من قوله، قلت له: فإن طال مكثها في يدي صاحبها، ثم أراد
أن يقوم عليه فيأخذ ذلك الشيء؛ لأنه أضرب عن ذلك وسكت عنه؛ فذكر سحنون
متصلا بذلك رواية ابن وهب عن مالك، والجواب في ذلك عند ابن القاسم على
مذهبه في أن الصدقة ليست بشيء، وأنها باطلة، أن له أن يأخذ صدقته، وإن طال
مكثها في يدي المتصدق عليه بعد قبضه لها، وبالله التوفيق.
(14/56)
[: تصدق على
أخيه بنصف ماله وهو مريض]
من مسائل نوازل سئل عنها سحنون وسئل سحنون عن رجل تصدق على أخيه بنصف ماله،
وهو مريض ليس مدنفا من مرضه طويلا، دام به سنين يخرج في حوائجه ويقضيها،
فقبض أخوه الصدقة وحازها سنين، ثم إن الأخ المريض مات، فقام عليه ورثة
المتصدق، فقالوا للمتصدق عليه: إن هذا لا يجوز لك؛ لأنه تصدق عليك في
المرض، فلا يجوز لك إلا الثلث، وقد سألنا عن ذلك الفقهاء فقالوا لنا: إنه
لا يجوز لك إلا الثلث، فدفع إليهم المتصدق عليه ما زاد على الثلث، ثم علم
أن الصدقة كلها جائزة؛ فقال سحنون له: ومن يعلم أنك كنت جاهلا لا تعلم أن
الصدقة لك كلها، أنت تدفع إليه مالك، وتبيعه له بعدما قد حزته وملكته؛ ثم
قمت الآن تدعي الجهالة، ما أرى لك فيما دفعت إليه حقا؛ فقال له السائل: أنا
أقيم البينة أنه قد قال: إن هذه الصدقة لا يجوز لك منها إلا الثلث، وقد
سألت عن ذلك الفقهاء وأخبروني بذلك، فقال له: إن أقمت البينة على هذا، فأرى
لك أن ترجع عليه بما أخذ منك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها ثلاثة أقوال؛ قد مضى تحصيلها في رسم أوصى،
من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته.
(14/57)
[مسألة: تصدق
على رجل بعبد على ألا يبيعه ولا يهبه سنة]
مسألة قيل لسحنون: أرأيت لو أن رجلا تصدق على رجل بعبد، على ألا يبيعه ولا
يهبه سنة، ثم هو له من بعد السنة بتل يصنع به ما شاء، فقال: أراه جائزا،
وله أن يبيعه ويصنع به ما شاء الساعة.
قال محمد بن رشد: قول سحنون في هذه المسألة: إن الصدقة جائزة، والشرط باطل،
خلاف قوله في رسم إن خرجت، من سماع عيسى، في الذي يتصدق على رجل بصدقة على
ألا يبيع ولا يهب، أنها حبس، والذي يأتي في هذه المسألة على قوله في تلك،
أن يكون حكمه حكم من أخدم رجلا عبده سنة، ثم هو له بعد السنة، فيخدمه في
هذه السنة على ملك المتصدق به، ثم يكون له بعد السنة بتلا، فتكون الجناية
إن جنى عليه في هذه السنة لصاحبها الذي تصدق به، ويتخرج في المسألة أيضا
ثلاثة أقوال سوى هذين القولين؛ أحدها: أن الصدقة جائزة، والشرط لازم،
فيخدمه في هذه السنة على ملك نفسه، فإن جنى عليه كانت له جنايته. والثاني:
أن الهبة باطلة، إلا أن يبطل سيده الشرط، ويمضي الصدقة؛ فإن مات السيد قبل
أن يمضي الصدقة بطلت، وكذلك إن انقضت السنة قبل أن يمضيها. والثالث: أن
المتصدق يخير بين أن يبطل الشرط ويمضي الصدقة أو يردها، فإن مات قبل السنة
نزل ورثته في التخيير في ذلك منزلته، وإن انقضت السنة مضت الصدقة، ولم يكن
له ولا لورثته في ردها خيار، وقد مضى ما يدل على ما ذكرناه في آخر سماع
سحنون قبل هذا، وفي رسم إن خرجت من سماع عيسى؛ لأن الوجه في ذلك متقارب في
المعنى، وبالله التوفيق.
(14/58)
[مسألة: وهب
الرجل لابنه هبة يريد بها الصلة]
مسألة قال سحنون إذا وهب الرجل لابنه هبة يريد بها الصلة، فإنه لا يجوز له
اعتصارها منه، كان الابن صغيرا في حجره أو كبيرا بائنا منه، والهبة للصلة
مثل الصدقة، ولا يجوز له اعتصارها، وذلك أن تكون ابنته الكبيرة أو ابنه
الكبير يكون ضعيفا يخاف عليهما الخصاصة، فيصلهما نظرا منه لهما، وكذلك إذا
وهب لصغير نظرا منه له، لما يخاف عليه من الخصاصة؛ وإنما يعتصر الأب هبته
وعطيته من الابن إذا كان الابن في حجره وله مال كثير، أو البائن منه وله
مال كثير، وليس يريد بذلك صلته، فذلك الذي يعتصره.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الصدقة لا تعتصر؛ لقول النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «العائد في صدقته، كالكلب يعود في قيئه» «وقوله
لعمر بن الخطاب في الفرس الذي كان حمل عليه في سبيل الله: لا تشتره، وإن
أعطاكه بدرهم؛ فإن العائد في صدقته، كالكلب يعود في قيئه» والهبة على سبيل
الصدقة لمن كان قليل ذات اليد، مخافة الخصاصة كالصدقة، فلها حكم الصدقة في
أنها لا تعتصر، وإن سماها هبة، وإنما أجيز للأب فيما تصدق به على ابنه أن
يكتسي من صوف الغنم، ويشرب من ألبانها، ويأكل من لحومها إذا تصدق بها عليه،
وأن يأكل من ثمر النخل إذا تصدق بها عليه، حسبما مضى في رسم نذر، من سماع
ابن القاسم، وأجاز في رسم سلعة سماها منه للأب أن يشتري ما تصدق به على
ابنه، وذلك كله بخلاف الأجنبي للشبهة التي له في مال ابنه؛ لقوله -
عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أنت ومالك لأبيك، وقد مضى هناك تحصيل القول فيما
يجوز للأب والأجنبي فيما تصدقا
(14/59)
به، من الرجوع في الأصل أو الغلة بشراء أو
عطية من المتصدق عليه، أو من غيره مستوفى، فلا معنى لإعادته، وبالله
التوفيق.
[مسألة: وهب لولده هبة لله أو لوجه الله]
مسألة قال ابن الماجشون: كل من وهب لولده هبة لله، أو لوجه الله، أو لطلب
الأجر والثواب من الله، أو لصلة قرابة أو رحم، لا يعتصرها أبدا، وإنما تجوز
العصرة إذا وهب أو نحل نحلة مرسلة، لم يقل لصلة رحم، ولا لوجه الله، ولا
على وجه طلب الأجر من الله، فإن هذا يعتصر، قال أصبغ مثله.
قال محمد بن رشد: قول ابن الماجشون هذا مثل ظاهر قول عمر بن الخطاب في
المدونة من وهب هبة لصلة رحم، أو على وجه الصدقة، فإنه لا يرجع فيها، ونحوه
في مختصر ابن عبد الحكم، وقال مطرف: إذا وهب لولده على وجه الصلة، أو لوجه
الله، كان له أن يعتصرها أبدا حتى يسميها صدقة، فإذا سماها صدقة لم يجز له
أن يعتصرها، والقول الأول أظهر؛ لأن الشيء الموهوب قد خرج عن ملك الواهب
بالهبة، فلا يكون له الاعتصار إلا بيقين، وهو أن لا يقول: لله، أو لوجه
الله، أو لطلب الأجر والثواب من الله؛ لأنه إذا قال ذلك، احتمل أن يريد به
الصدقة؛ لأن الأصل في الصدقات ما كان القصد به وجه الله عز وجل، وابتغاء
الثواب من عنده، لا عين المتصدق عليه؛ والهبة ما كان القصد به عين الموهوب
له مع إرادة الثواب على ذلك من الله عز وجل؛ فإذا قال في هبته لله، أو لوجه
الله، دل على أن ذلك هو قصده بهبته لا عين الموهوب
(14/60)
له، فكانت في معنى الصدقة؛ ووجه قول مطرف
أن الهبة، وإن كان يقصد بها عين الموهوب له، فالثواب مبتغى فيها أيضا، فلا
تخرج الهبة عن حكمها في الاعتصار إلى حكم الصدقة بقوله فيها لوجه الله حتى
يسميها صدقة، وبالله التوفيق.
[مسألة: تصدقت في صحتها بأكثر من ثلثها]
مسألة قال سحنون في امرأة تصدقت في صحتها بأكثر من ثلثها، فلم يعلم الزوج
بصدقتها حتى ماتت، ثم علم الزوج بعد الموت فقال: أنا أرد ذلك؛ لأني أرثه،
قال ذلك له أن يرده، فقال له: يرده كله؛ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في الواضحة لمطرف، وابن الماجشون، ولابن القاسم
من رواية أصبغ عنه أن ذلك نافذ، ولا رد للزوج فيه بعد موتها؛ وهذا الاختلاف
على القول بأن فعلها محمول على الإجازة، فمن راعى المعنى، وهو أنه إنما كان
للزوج أن يرد فعلها فيما زاد على الثلث، ما دامت العصمة بينهما، من أجل ما
له من الحق في مالها.
قال: إن له أن يرده بعد موتها؛ لأن حقه في مالها لا ينقطع بموتها، بل يجب
بوجوب الميراث له فيه؛ ومن لم يراع المعنى، قال: ليس له أن يرده بعد موتها؛
إذ ليست بزوجة له؛ لانقطاع العصمة بينهما بموتها، والقول الأول أظهر؛ لأن
الأحكام إنما هي للمعاني لا للأسماء، وأما على القول بأن فعلها فيما زاد
على الثلث على الرد حتى يجيزه، فلا يحتاج بعد موتها إلى رده، وقد مضى بقية
القول على هذه المسألة، وما يتعلق بها من معناها، في رسم الكبش، من سماع
يحيى، فلا معنى لإعادته.
(14/61)
[مسألة: يستودع
الرجل الوديعة ثم يتصدق بها على رجل]
مسألة قال سحنون: وسألت ابن القاسم عن الرجل يستودع الرجل الوديعة ثم يتصدق
بها على رجل يقول: اشهدوا أني قد تصدقت بالوديعة التي عند فلان على فلان،
ولا يكون منه أكثر من ذلك، ولم يأمره بأن يقبض له، ثم مات؛ قال: إن علم
المستودع أنه تصدق بذلك، فأراها للمتصدق عليه؛ وإن لم يعلم، فلا أرى
للمتصدق عليه شيئا؛ قلت: من أي وجه؟ قال: من قبل أنه إذا علم أنه تصدق بما
في يديه على رجل، فقد صار قابضا للمتصدق عليه حتى لو أراد صاحب الوديعة
أخذها؛ لكان ينبغي للمستودع أن يدفعها إليه، فإن دفعها ضمنها.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة متكررة في سماع سحنون من كتاب الوديعة، وقد
مضى الكلام عليها هناك مستوفى، ومضى أيضا طرف منه في رسم العشور، من سماع
عيسى، من هذا الكتاب، فلا معنى لإعادة ذلك.
[مسألة: مرض فتصدق على امرأته بمائة دينار في
مرضه]
مسألة وسئل سحنون عن رجل مرض فتصدق على امرأته بمائة دينار في مرضه،
فقبضتها وحازتها، ثم إن المرأة مرضت فتوفيت قبل زوجها؛ فهل ترى لها الصدقة
جائزة أو لا، والثلث واسع؟ قال: إن حملها الثلث فهي جائزة لورثة المرأة،
ويقضي منها دينها إن كان عليها دين.
(14/62)
قال محمد بن رشد مثل هذا من قول ابن القاسم
في آخر رسم الجواب، من سماع عيسى: إن ذلك يكون لورثتها من ثلثه بعد موته،
وإن لم تقبضها في حياته، فعلى هذا لم يحكم لها بحكم الوصية، وقد قيل: إنها
يحكم لها بحكم الوصية، فيختلف من هذه المسألة على هذين القولين في خمسة
مواضع قد ذكرناها في رسم الجواب المذكور، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: أعطى رجلا غلة كرمه يستغلها]
مسألة وسئل سحنون عن الرجل إذا أعطى رجلا غلة كرمه يستغلها، أو سكنى داره،
ثم تصدق به على ابن له صغير، فقلتم: إنه إذا كان ذلك الشيء في يد المسْكَن،
أو المعطَى يوم تصدق على ابنه بذلك الشيء؛ أن كون تلك الأشياء في يد
المُسكَن أو الممنوح قبض للمتصدق عليه، فكيف يكون قبضه قبضا للمتصدق عليه؛
أيقول للذي منح غلة الكرم وسكنى الدار: إني قد قبضت له، أو قد حزت له، أو
يشهد المتصدق به أن فلانا الذي في يديه ذلك الشيء قد استخلفته على القبض
لابني، وقد قبض ذلك.
فقال: إن ذلك لحسن، وقوة الصدقة أن يشهد بذلك عليه لابنه هو والذي في يديه؛
وإن لم يشهد بذلك واحد منهما، ولم يقل شيئا، فهي حيازة للمتصدق عليه، وإن
أحب أن يمنح الأرض وغلة الكرم وسكنى الدار، ثم الصداقة في فور واحد، أن
(14/63)
يقول: أشهدكم أن سكنى هذه الدار، وغلة هذا
الكرم والأرض لفلان عشر سنين، فإذا انقضت العشر سنين فهي لفلان صدقة؛ وذلك
أن أصحابنا اختلفوا فيها؛ وإن لم يكن الأمر في فور واحد، جازت الصدقة، إلا
أنه أقوى عندي أن يكون في فور واحد؛ لاختلاف أصحابنا فيه.
قال محمد بن رشد: أما إذا سكن الدار، أو أخدم العبد، أو منح الأرض، وتصدق
بالأصل في فور واحد، فلا اختلاف في أن قبض المسكن أو المخدم أو الممنوح قبض
للمتصدق عليه بالأصل؛ لأن المسكن والمخدم والممنوح إنما يرتفقون بما أرفقوا
من ذلك على ملك المتصدق عليه، لا على ملك المتصدق؛ إذ قد سقط حقه من جميع
ذلك؛ وأما إذا تقدم الإسكان في الدار والاختدام في العبد، والمنحة في
الأرض، وما أشبه ذلك للصدقة، فاختلف هل يكون قبض المسكن والمخدم والممنوح
قبضا للمتصدق عليه أم لا؟ على قولين؛ أحدهما: أنه يكون قبضا، وهو قوله في
المدونة. والثاني: أنه لا يكون قبضا له، فما في المدونة على قياس القول بأن
المخدم يختدم العبد من يوم الصدقة على ملك المتصدق عليه لا على ملك
المتصدق؛ وكذلك المسكن والممنوح.
والقول الثاني على أنه إنما يختدم ويسكن ويستغل على ملك المتصدق، فلو جنى
على العبد جناية؛ لكان الإرث على ما في المدونة للمتصدق عليه، وعلى القول
بأنه لا يكون حائزا له للمتصدق، وقد مضى هذا المعنى في رسم الكبش، من سماع
يحيى، وبالله التوفيق.
(14/64)
[مسألة: يجوز
للرجل أن يشتري كسر السؤال]
مسألة وسئل سحنون هل يجوز للرجل أن يشتري كسر السؤال، فقال: نعم، قيل له:
ولم، وقد جاء الحديث: «إنما هي أوساخ الناس؟» فقال: ألا ترى إلى حديث رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيث قال: «إنها صدقة على
بريرة، وهي لنا هدية» .
قال محمد بن رشد: لا إشكال في جواز شراء كسر السؤال؛ إذ اختلف بين أهل
العلم في أنه يجوز للمسكين بيع ما تصدق به عليه، من الزكاة وغيرها من غير
الذي تصدق بها عليه، وأن يهبه ويتصدق ويفعل به ما يفعل ذو الملك في ملكه،
والأصل في جواز ذلك قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تحل الصدقة
لغني، إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو العامل عليها، أو لغارم، أو لرجل
اشتراها بماله، أو رجل له جار مسكين فتصدق على المسكين، فأهدى المسكين
لغني» .
فقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في هذا الحديث، «أو رجل اشتراها بماله»
نص على جواز شراء كسر سؤال وغيرها من الصدقات من الذي تصدق بها عليه، إذا
لم يكن هو الذي تصدق بها؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لعمر بن
الخطاب في الفرس الذي حمل عليه في سبيل الله: «لا تشتره وإن أعطاكه بدرهم.
فإن العائد في صدقته، كالكلب يعود في قيئه» فالاستدلال بهذا الحديث على ما
سأل عنه السائل من شراء كسر السؤال، أولى من الاحتجاج بحديث بريرة الذي
احتج به سحنون، وإن كانت
(14/65)
الحجة به صحيحة، والاستدلال به ظاهر؛ لأنه
إذا كان لنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن يأكل الصدقة المحرمة عليه،
فانتقالها إليه من عند الذي تصدق بها عليه بالهدية، جاز للغني أن يأكل
الصدقة المحرمة عليه بانتقالها إليه أيضا من عند الذي تصدق به عليه
بالشراء، أو بسائر الأشياء التي تنتقل بها الأملاك عن ملاكها، ولما اعترض
عليه السائل فقال له: ولم أجزت للرجل شراء كسر السؤال، وقد جاء الحديث إنما
هي أوساخ الناس، لم يرد عليه اعتراضه، وعارضه بالحديث الذي نزع به، فصار في
ظاهر أمره مسلما لاعتراضه، وكان الوجه أن يرد عليه اعتراضه، ويبطله ولا
يعارضه، بأن يقول له: ليس هذا موضع الحديث الذي اعترضت به؛ لأنه إنما جاء
في تحريم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الصدقة على أنه أن يأخذوها ممن
وجبت عليهم تطهيرا لأموالهم، فقال: «لا تحل الصدقة لآل محمد، إنما هي أوساخ
الناس يغسلونها عنهم» وأما أخذها من غير الذي ظهر بها ماله بوجه، يجوز من
شراء أو عطية، فذلك جائز؛ لأنها ليست بأوساخ في هذا الموضع، وبالله
التوفيق.
(14/66)
[: يتصدق
بالعبد على الرجل فيعتقه المتصدق من قبل أن يقبضه المتصدق عليه]
من سماع محمد بن خالد
وسؤاله ابن القاسم. قال محمد بن خالد: قلت لابن القاسم، فالرجل يتصدق
بالعبد على الرجل فيعتقه المتصدق من قبل أن يقبضه المتصدق عليه، فقال ابن
القاسم: أرى عتقه ماضيا، ولا شيء للمتصدق عليه؛ قال: قلت لابن القاسم: فلو
كانت جارية فوطئها فحملت منه؟ فقال ابن القاسم: هي أم ولد له، قلت لابن
القاسم: ولا تؤخذ منه قيمتها للمتصدق عليه، فقال ابن القاسم: لعل ذلك أن
يكون.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي تصدق بالعبد، ثم أعتقه أن العتق أولى من
الصدقة، هو قوله وروايته عن مالك في العتق الثاني من المدونة، زاد فيها:
وسواء علم المتصدق عليه بالصدقة أو لم يعلم، وقال المخزومي: هذا إذا كان
إشهاده بالصدقة، وبين ما أحدث من العتق، ما لو علم المتصدق عليه بالصدقة
بطلب الحوز، أمكنه ذلك؛ وأما إن لم يكن بين إشهاده على الصدقة، وبين ما
أحدثه من العتق قدر ما يمكن فيه الحوز، لو علم، فالصدقة ماضية، ويبطل
العتق؛ وقول المخزومي عندي خلاف مذهب ابن القاسم؛ إذ لا فرق في القياس بين
أن لا يعلم وبين ألا يكون بين الصدقة والعتق ما يمكن فيه الحوز لو علم،
فقول ابن القاسم أظهر؛ لأنه إنما رأى العتق أولى من الصدقة بكل حال، مراعاة
لقول من يقول: إن
(14/67)
للمتصدق أن يرجع في صدقته، ما لم تحز عنه،
ويقبضها المتصدق عليه منه، فهو استحسان في العتق لحرمته؛ والذي يأتي على
مذهب مالك في أن الصدقة تجب على المتصدق، ويحكم عليه بها، وإن لم تقبض منه،
أن تصح الصدقة ويبطل العتق، وهو قول ابن القاسم، في سماع عبد الملك بن
الحسن؛ ويحتمل أن يكون قول ابن وهب؛ إذ لم ينص في الرواية على اسم واحد
منهما، وإنما قال فيها، وسئل بعد أن تقدم ذكرهما جميعا، ولا وجه لتفرقة
المخزومي بين ألا يكون بين الصدقة والعتق من المدة ما يمكن فيه الحوز، وبين
أن يكون بينهما ما يمكن فيه الحوز، فلا يعلم؛ لأنه إذا لم يعلم فلم يمكنه
الحوز؛ والصحيح في هذه المسألة على ترك مراعاة قول أهل العراق، أن تكون
الصدقة أولى من العتق، إلا أن يكون المتصدق عليه علم بصدقته، ففرط في
الحوز، حتى أحدث المتصدق العتق؛ فيتحصل على هذا في المسألة أربعة أقوال؛
أحدها: أن العتق أولى على كل حال، وهو مذهب ابن القاسم، وروايته عن مالك.
والثاني: أن الصدقة أولى على كل حال، وهو الذي يأتي في سماع عبد الملك.
والثالث: قول المخزومي: إن العتق أولى على كل حال، إلا أن يكون بين الصدقة
والعتق ما يمكن فيه الحوز من المدة. والرابع: ما أحدثه من أن تكون الصدقة
أولى من العتق إلا أن يكون المتصدق عليه علم بصدقته، ففرط في الحوز حتى
أحدث المتصدق العتق، وسيأتي في سماع عبد الملك، إذا قال الرجل في عبده نصفه
صدقة على فلان، ونصفه حر، ونتكلم على تحصيل القول في ذلك إن شاء الله.
ويأتي في أول سماع أصبغ الواقع في آخر الكتاب إذا تصدق به ثم باعه، فنتكلم
عليه إن شاء الله؛ وأما إذا تصدق بجاريته على رجل ثم أحبلها قبل أن
(14/68)
يقبضها المتصدق عليه، فيجري الأمر في ذلك
على قياس ما تقدم في العتق في الوجوه كلها، حيثما كانت الصدقة أولى من
العتق، كان للمتصدق عليه أن يأخذ الجارية وقيمة ولدها، أو قيمتها يوم
أحبلها دون قيمة ولدها على اختلاف قول مالك المعلوم في ذلك؛ وحيثما كان
العتق، أولى من الصدقة كانت أم ولد للمتصدق بها؛ واختلف هل تكون عليه
قيمتها للمتصدق عليه بها أم لا؟ فقال في هذه الرواية: لعل ذلك أن يكون؛
وقال في سماع أصبغ الواقع في آخر الكتاب ذلك بمنزلة العتق، وهو قول أصبغ؛
وقال ابن وهب في سماع عبد الملك بعد هذا، أن عليه القيمة للمتصدق عليه وهو
الصحيح؛ لأنه أفاتها عليه باستمتاعه بوطئها، وله الاستمتاع بها فيما
يستقبل، فلا يبطل حق المتصدق عليه بها، وهو يستمتع بها، ولو باعه المتصدق
عليه، فلم يقبض ذلك المشتري حتى مات المتصدق والصدقة بيده، فقال مطرف وابن
الماجشون وابن حبيب، وعيسى بن دينار البيع حوز، وهي جائزة للمبتاع؛ وقال
أصبغ: ليس البيع بحوز، وفي كتاب العيوب من المدونة دليل على القولين جميعا،
قال مطرف: وكذلك لو وهبه، وقال ابن الماجشون لا تكون الهبة حوزا؛ لأنها
تحتاج إلى حوز، ولا يحتاج العتق والبيع إلى حوز؛ وقال أصبغ: لا تكون حوزا،
إلا في العتق وحده.
[: أعطى رجلا قرية أو دورا أو غلاما عطايا
حازها المعطى وقبضها]
من سماع عبد الملك بن الحسن من ابن القاسم قال: وأخبرني عبد الملك بن
الحسن، عن عبد الرحمن بن القاسم أنه سئل عن رجل أعطى رجلا قرية أو دورا أو
غلاما عطايا، حازها المعطى وقبضها، غير أنه شرط عليه في عطيته شرطا، وكتب
عليه به كتابا إن مات المعطي قبل المعطى، فالعطية ماضية
(14/69)
للمعطى، وإن مات المعطى قبل المعطي رجع
المال إلى المعطي، وكان أولى بماله، ولم يكن فيها مورثا لورثة المعطى، فعلى
هذا أعطى، وبه كتب عليه وأشهد. فمات المعطي وبقي المعطى والمال بيده؛ فهل
تكون للمعطى؟ أو كيف يكون أمرها، وكان المعطى خصما؟ قال ابن القاسم: أراها
من الثلث بعد موت المعطي إذا هلك قبل المعطى، وهو قول مالك أو ما أشبهه.
قال محمد بن رشد: قد تكررت هذه المسألة، ومضى القول فيها مستوفى في أول
سماع يحيى، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: له ولدان فأعمر أحدهما داره جعلها له
سكنى حياته]
مسألة قال عبد الملك بن عبد العزيز بن أبي سلمة فيمن كان له ولدان، فأعمر
أحدهما داره جعلها له سكنى حياته، فمات الأب وقد قبضها الولد وحازها؛ قال:
يكون نصف الدار له بميراثه يصنع به ما شاء إن شاء باع، وإن شاء حبس، ويسكن
النصف الآخر على ما عاش؛ فإذا مات، صار إلى أخيه أو إلى ورثته إن مات أخوه،
وقال أصبغ بن الفرج مثله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة لا اختلاف فيها، ولا إشكال في شيء من
معانيها، على مذهب مالك في أن العمرى ترجع إلى المعمر إذا مات المعمر؛
والخلاف فيها خارج عن المذهب، قيل: إنه
(14/70)
تكون للمعمر ملكا، وإن لم تكن معقبة، وقيل:
إنه إنما تكون له ملكا إذا كانت معقبة، للآثار الواردة في ذلك عن النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ولم يأخذ بها مالك لمخالفة العمل بها على أصله في
أن العمل المتصل بالمدينة مقدم على أخبار الآحاد، لا سيما إذا خالفت الأصول
كهذه، وقيل: إنه لم يخالفها، وإنما تأولها على مذهبه، والأول أظهر، والله
أعلم.
[مسألة: يتصدق على ابن ابنه برأس]
مسألة قال: وسألت عبد الله بن وهب عن الرجل يتصدق على ابن ابنه برأس، وهو
صغير، وأبو ابن ابنه المتصدق عليه، فيوكل الجد وكيلا يحوز لابن ابنه ذلك
الرأس، فعمد ذلك الوكيل إلى ذلك الرأس فكاتبه إلى أعوام بكتابة منتقضة أو
غير منتقضة، ثم يقيم الرأس في خدمة المتصدق يختدمه بحال ما كان قبل الصدقة
إلا أن ابن ابنه الذي تصدق به عليه يكون معهم طعامهم واحد، ومنامهم واحد،
وذلك الرأس يخدمهما جميعا حتى مات الجد المتصدق، فقام ورثة الجد إلى الرأس،
فأخذوه وقالوا: للغلام الذي تصدق عليه به أنه لم يحزه حائز، وقال الغلام
وأبوه إن الذي كان وكل بالنظر له والحوز عليه، قد كاتب عليه ذلك الرأس،
(14/71)
وكان في الكتابة أن يخدم المتصدق عليه حتى
يؤدي كتابته؛ فهل يكون هذا حوزا للذي تصدق به عليه، ولم يؤد المكاتب من
كتابته شيئا حتى هلك المتصدق به؛ قال: سواء كانت الكتابة منتقضة أو غير
منتقضة إذا كان العبد إنما ترك ثبت في ناحية الجد المتصدق لمكان ابن الابن
المتصدق عليه وخدمته، فهو يقوم بخدمته والقيام عليه، فلا يضره إن خدم الجد
المتصدق أحيانا بعد أن يكون قد أخرجه من يده حين تصدق به إلى هذا الرجل
يحوزه مكاتبه على وجه النظر، وهو يرى أنه يحوز له، فهو إن كانت كتابته
جائزة، فإنما إقامته تطوع، وخدمته وإن كانت ليست بكتابة للشرط الذي اشترطه
عليه في الخدمة مع أنها ليست بكتابة أصلا، وإنما رده على الخدمة للصبي
لحاجته إليه؛ فأراها صدقة ماضية له، ليس لورثة الجد فيه قليل ولا كثير.
وقال أشهب: نعم، هو حوز له، ولم يكن يجوز للذي جعل العبد على يديه يحوزه
للغلام أن يكاتبه إلا بإذن أبيه، فأما إذا أقر بذلك
(14/72)
أبو الغلام ولم ينكره، فالكتابة جائزة
بإقراره بهما.
قال محمد بن رشد: قول ابن وهب هذا في الكتابة بشرط ألا يخرج المكاتب عن
خدمة سيده، أنها ليست بكتابة أصلا، خلاف قول ابن القاسم في سماع أصبغ عنه،
من كتاب المكاتب أنها كتابة جائزة والشرط لازم؛ وقال أصبغ: يسقط الشرط
وتنفذ الكتابة؛ وأما قوله: إن العبد إن كان ثبت في ناحية الجد المتصدق؛
لمكان ابن ابنِ المتصدق عليه وخدمته، فلا يضره أن خدم الجد المتصدق أحيانا،
هو نحو ما في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم من قول مالك، وقد مضى الكلام
على ذلك هنالك مستوفى، وفي رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب، فلا معنى
لإعادته.
[مسألة: يتصدق على ابن له في حجره صغير]
مسألة قال: وسألت عبد الله بن وهب عن الرجل يتصدق على ابن له في حجره صغير،
أو بنت بكر في حجره بكتابة مكاتب له، فيقتضي الأب الكتابة بعد ذلك، وهي
كتابة معروفة، ثم يهلك الأب بعد ذلك فيقوم ابنه أو ابنته المتصدق عليها
بالكتابة، تطلب تلك الكتابة في مال أبيها، فتقوم البينة على الصدقة، وعلى
قبض الأب الكتابة بعد ذلك، ولا يدري الشهود ما فعل الأب بها، فهل تؤخذ من
تركة الأب، وتكون بمنزلة دين ثبت عليه، أم لا تكون الصدقة ماضية
(14/73)
إذا لم يضع ذلك له على يدي غيره؛ قال: إن
لم يكن إلا ما وصفت، فالصدقة باطلة لا ينعقد منها شيء، وهي ميراث بين
الورثة؛ لأن الذي ذكرت ليست بحيازة بينة ولا تامة ولا قبض معروف، فلا أرى
ذلك شيئا، إن لم يكن إلا ما قصصت، وقال أشهب: أراها ميراثا، ولا شيء للابن
إذا لم يضع ذلك له على يدي غيره، مثل قول ابن وهب.
قال محمد بن رشد: اتفق ابن وهب وأشهب في هذه الرواية على أن الرجل إذا وهب
لابنه الصغير كتابة مكاتب له، لا يكون المكاتب حائزا له ما عليه من
الكتابة، وذلك على قياس ما في المدونة من قوله أن الكتابة ليست بدين ثابت،
وإنما هي جنس من الغلة، وقد قيل: إنها كالدين يكون المكاتب حائزا لها عن
سيده لابنه إذا وهبها له؛ وأما إذا كان للرجل دين على عبده من مبايعة أو
سلف، فوهبه لابنه الصغير، فإنه يكون حائزا له كما لو كان الدين له على
أجنبي، فوهبه لابنه حسبما مضى في رسم الرطب واليابس من سماع ابن القاسم؛
لأن دين الرجل على عبده دين من الديون يحاص به الغرماء، وهو معنى ما في
نوازل أصبغ على الصحيح من التأويل، وقد قال بعض المتأخرين: إن الدين الذي
للسيد على عبده كالكتابة، في أنه لا يكون حائزا لما عليه منه إذا وهبه
السيد لابنه وهو بعيد؛ وأما ما بيد العبد لسيده، فهو بمنزلة ما بيد سيده إن
وهبه السيد لابنه الصغير، وهو عرض مما يحوزه الأب لابنه إذا وهبه إياه، كان
العبد حائزا له؛ واختلف إذا تصدق الرجل على ابنه الصغير بما بيده من العروض
التي تجوز حيازته لها إذا وهبها لابنه، فجعلها بيد غيره؛ فقال ابن
(14/74)
الماجشون أن ذلك لا يجوز؛ لأنه بمنزلة من
قال: لا أحوز لابني، ثم أبقاه بيده، والصحيح أن ذلك جائز، إلا أن تكون
دنانير أو دراهم مما لا يحوزها الأب لابنه إذا وهبه إياها، إلا أن يخرجها
من يديه إلى غيره يحوزها له، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لابنه إن ضمنت عني الخمسين دينارا
التي علي فداري صدقة عليك]
مسألة وسئل عن رجل قال لابنه: إن ضمنت عني الخمسين الدينار التي لفلان علي،
فداري صدقة عليك، فضمن عنه، فقال: لا صدقة له ولابنه إن شاء أن يرجع عن
الضمان رجع.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن ذلك ليس بصدقة إنما هو بيع
بضمان، وهي غرر لا يحل ولا يجوز، فالدار راجعة إلى الأب، والضمان ساقط عن
الابن، إلا أن يشاء أن يلتزمه باختياره دون عوض، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال نصف غلامي صدقة على فلان ونصفه حر]
مسألة وسئل عمن قال: نصف غلامي صدقة على فلان ونصفه حر، قال: يقوم كله
ويعتق نصف قيمته يدفعها إلى المتصدق عليه.
قال القاضي: اختلف قول ابن القاسم في هذه المسألة على قولين؛ أحدهما: أنه
يقوم عليه نصيب المتصدق عليه لتقدم الصدقة قبل العتق؛ لأنه لما تصدق ببعضه
صار كالعبدين الشريكين يعتق أحدهما نصيبه، أنه يقوم
(14/75)
عليه نصيب شريكه، وهو قوله في هذه الرواية
وإحدى روايتي يحيى عنه في رسم الكبش، من سماع يحيى، من كتاب العتق، والقول
الثاني أنه يعتق العبد كله، ولا يكون للمتصدق عليه شيء، وهو القول الذي رجع
إليه في رواية يحيى المذكورة قياسا على قول مالك في الذي يتصدق بالعبد على
الرجل، ثم يعتقه قبل أن يحوزه المتصدق عليه، أن العتق أولى به، ووجه القول
الأول هو ما ذكرناه من أنه لما بدأ بالصدقة صار المتصدق عليه شريكا له فيه
قبل أن يعتق منه حصته، فوجب أن يقوم عليه كالعبدين الشريكين يعتق أحدهما
نصيبه أنه يقوم عليه إن كان موسرا؛ وأما القول الثاني فإنما يتخرج على
القول بأن الرجل إذا أعتق بعض عبده يكون حرا كله بالسراية دون أن يعتق
عليه، وهو خلاف المشهور في المذهب من أن الرجل إذا أعتق شقصا له في عبد،
فلم يعتق عليه حتى مات، كان باقيه رقيقا لورثته، وإن استدان دينا قبل أن
يعتق عليه، بيع باقيه في الدين، ووجهه أنه لما أعتق نصفه بعد أن تصدق
بالنصف الآخر قبل أن يقبض منه، راعى قول المخالف في أن الصدقة باقية على
ملك المتصدق ما لم تقبض منه، فجعل العتق يسري إليه، فبطلت بذلك الصدقة؛
والقول الأول أظهر؛ لأنه هو الذي يأتي على المذهب في أن الصدقة تجب بالعقد،
وعلى المشهور فيه من أن من أعتق شقصا من عبده، فالباقي منه على ملكه ما لم
يعتق عليه، ولا يكون
(14/76)
حرا بعتق ما أعتق منه؛ وأما إذا بدأ
بالعتاقة فقال: نصف عبدي حر، ونصفه صدقة على فلان، فالمنصوص عن ابن القاسم
في ذلك في رسم الكبش، من سماع يحيى، من كتاب العتق، ومن رواية عيسى عنه أنه
يكون حرا كله، وتبطل الصدقة؛ وهذا إنما يأتي على القول بالسراية، وأما على
مذهبه في المدونة في أن من أعتق بعض عبده، لا يكون باقيه حرا بالسراية حتى
يعتق عليه، فإن وهبه أو تصدق به قبل أن يعتق عليه، قوم عليه، ولم تبطل
الصدقة فيه ولا الهبة.
وقوله في هذه الرواية: إنه يقوم كله فيعتق، ويكون على المعتق نصف قيمته، هو
الذي يأتي على أصل مذهب مالك، وظاهر الحديث أن العبد يقوم كله، فيكون على
المعتق لشريكه نصف قيمته، وذلك خلاف قول ابن القاسم في سماع يحيى، من كتاب
العتق: أن النصف المتصدق به، هو الذي يقوم على المعتق، ومثله في كتاب
الجنايات من المدونة، وهو قول غير ابن القاسم في كتاب أمهات الأولاد من
المدونة، وليس المعتق كالواطئ؛ لأن الواطئ وطئ حق غيره، والمعتق لم يحدث
على شريكه شيئا؛ فتحصيل الاختلاف في هذه المسألة أن فيها ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الصدقة تبطل وينفذ العتق قدم الصدقة أو العتق. والثاني: أنها لا
تبطل ويقوم على المعتق قدم الصدقة أو العتق. والثالث: أن الصدقة تبطل إن
قدم العتق، ولا تبطل أن قدمها على العتق، وهذا كله على قياس القول بأن
العتق والصدقة يجبان بنفس انقضاء اللفظ على ما في كتاب الظهار من المدونة
من أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق ثلاثا، وأنت علي كظهر أمي؛ أن
الظهار لا يلزمه؛ وأما على قياس القول بأن العتق والصدقة لا يجبان بنفس
تمام اللفظ حتى يسكت بعده سكوتا يستقر به العتق أو الصدقة، وهو الصحيح من
الأقوال على ما في كتاب الأيمان بالطلاق من المدونة، في الذي يقول لامرأته
قبل أن يدخل بها: أنت طالق،
(14/77)
أنت طالق، أنت طالق؛ أنها ثلاث، إلا أن
يريد أن يسمعها، ولا يريد بذلك تكرار الطلاق، فسواء قدم العتق قبل الصدقة،
أو الصدقة قبل العتق؛ فيلزمه نصف قيمة العبد للمتصدق عليه؛ لأنه إن قدم
العتق قبل الصدقة، حصلت الصدقة قبله، فوجب عليه نصف قيمته، وإن بدأ بالصدقة
قبل العتق حصل العتق قبلها، فوجب عليه نصف قيمته، إلا على القول بالسراية،
وفي صفة التقويم قولان؛ أحدهما: أنه يقوم العبد كله، فيكون للمتصدق نصف
القيمة. والثاني: أنه يقوم نصفه المتصدق به، وبالله التوفيق.
[مسألة: تصدق على رجل بعبد له ثم أعتقه قبل أن
يقبضه]
مسألة وسألته عن رجل تصدق على رجل بعبد له، ثم أعتقه قبل أن يقبضه، قال: لا
عتق له.
قال الإمام القاضي: قوله: إنه لا عتق له، هو الذي يأتي على قياس قول مالك
في أن الصدقة يحكم بها على المتصدق، وإن لم تقبض منه، ويحتمل أن يكون من
قول ابن وهب، فإن كان من قول ابن القاسم، فهو خلاف قوله في سماع محمد بن
خالد، وقد مضى القول على ذلك هنالك، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: يتصدق على الرجل بالجارية فيحبلها
المتصدق]
مسألة وسألته عن الرجل يتصدق على الرجل بالجارية فيحبلها المتصدق قبل أن
يقبضها المتصدق عليه، قال ابن وهب: إذا تصدق بصدقة جد، كانت القيمة على
المتصدق عليه، ولو شهد له شاهد على الصدقة، وهي في يديه حلف مع شاهديه.
(14/78)
قال محمد بن رشد: قد مضى في سماع محمد بن
خالد الكلام على الذي يتصدق بالجارية ثم يحبلها قبل أن يقبضها المتصدق
عليه، فلا معنى لإعادة ذلك، وقوله: ولو شهد له شاهد على الصدقة، وهي في
يديه حلف مع شاهده، صحيح لا إشكال فيه، ولا دليل في قوله، وهي في يديه على
أن الحكم يكون بخلاف ذلك إذا لم تكن في يديه؛ لأن المدعي للصدقة يحلف مع
شاهده، ويستحق صدقته، كانت الصدقة في يد المتصدق أو في يد المتصدق عليه،
على مذهب مالك، والمخالف يقول: إن الصدقة إذا كانت في يد المتصدق فلا يحكم
عليه بها للمتصدق عليه، فلهذا قال في هذه الرواية: يحلف مع شاهده ويستحق
صدقته، وإن كانت في يد المتصدق، وأما إن كانت في يد المتصدق عليه، فلا كلام
في أنه يحلف مع شاهده، وإنما ساق ذلك على سبيل الحجة، فكان وجه الكلام، أن
يقول: لأنه لو شهد له شاهد، وبالله التوفيق.
[مسألة: تصدق على ولد له صغار وكبار بصدقة]
مسألة قال: وسألته عمن تصدق على ولد له صغار وكبار بصدقة، فلم يحزها
الأكابر حتى مات الأب، فهل للأصاغر شيء؟ قال: نعم، يكون لهم حظوظهم منها.
قال محمد بن رشد: المسئول عن هذه المسألة ابن وهب، والله أعلم، وقوله مثل
قول مالك في رواية علي بن زياد، عن مالك في
(14/79)
المدونة، ومثل قوله في رواية أشهب عنه في
هذا الكتاب، خلاف مذهب ابن القاسم في المدونة، وفي رسم إن خرجت من سماع
عيسى من الكتاب، وقد مضى الكلام على ذلك هنالك مستوفى، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: تصدق بصدقة على ولده بدار]
مسألة وسألته عمن تصدق بصدقة على ولده بدار، فلم يزل ساكنا في ناحية من
الدار حتى مات، ما حد الذي إذا سكنه الأب لم يكن للولد فيه صدقة، فقال: إذا
سكن الثلث فأدنى فالصدقة ماضية، وأما إن سكن أكثر من الثلث، فلا صدقة له.
قال محمد بن رشد: هذا مذهب مالك؛ لأن الثلث آخر حد اليسير، وأول حد الكثير،
وهو عند مالك في جميع المسائل يسير، إلا في ثلاثة مواضع، وهي: معاقلة
المرأة الرجل، وما تحمل العاقلة من الدية، والجوائح في الثمار، وبالله
التوفيق.
كمل الجزء الثالث من كتاب الصدقات والهبات بحمد الله وحسن عونه، والصلاة
الكاملة على سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
(14/80)
|