البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة

 [: كتاب الصدقات والهبات الرابع] [يتصدق على ولده الصغار بالصدقة التي لها الكراء أو الغلة]
من سماع أصبغ بن الفرج من ابن القاسم من كتاب البيوع قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في الذي يتصدق على ولده الصغار الذين يحوز لمثلهم بالصدقة التي لها الكراء، أو الغلة، ويكري هو لهم: إن ذلك جائز إذا أشهد على أصل الصدقة، وإن لم يكتب الكراء بأسمائهم؛ قال: ومن يكري للصغير، ويشتري له، ويبيع له، إلا أبوه، وأنكر قول من يقول: لا يجوز إذا كتب الأب الكراء باسم نفسه، وعابه وكرهه كراهية شديدة ورآه خطأ، وقال: قد صحف في ذلك، ولا أعلمه إلا قال: وهذا خلاف لسنة المسلمين، ولا أعلم أحدا من الناس قال هذا، يريد من أهل العلم.
قال محمد بن رشد: هذا من قول ابن القاسم مثل ما تقدم من قوله في آخر رسم شهد، من سماع عيسى، ومن قول مالك في رسم يدير منه،

(14/81)


وهو أمر لا أعلم فيه اختلافا في المذهب، وقد مضى من القول على ذلك في رسم يدير المذكور ما فيه كفاية، وبالله التوفيق.

[مسألة: تصدق على ابن له صغير يحوز لمثله بنصف غنمه]
مسألة قال أصبغ: وسمعت ابن القاسم يقول فيمن تصدق على ابن له صغير، يحوز لمثله بنصف غنمه، أو ثلثها، أو بنصف عبده، أو داره، وترك بقية ذلك مالا لنفسه شريكا له به: إن ذلك جائز، وإن ذلك حوز له؛ وإن تصدق على ابن له صغير بنصف غنمه، ونصفها في سبيل الله، فكان الأب يحوز ذلك كله حتى مات الأب، وذلك على حاله، أن صدقة الابن جائزة، وأن ما كان في سبيل الله من ذلك، فليس بشيء؛ ونصيب الابن جائز، وليس ذلك بمنزلة ما لو تصدق عليه وعلى كبير؛ لأن ما كان في سبيل الله في ذلك لا يحوزه أحد، والأجنبي والكبير إذا كان بعينه يحوزه ويقوم به؛ وسبيل الله هو كلا شيء، وهو كما لو حبسه مالا لنفسه، وكان به شريكا.
قال أصبغ: لا يعجبني ما قال، وأرى أن يبطل كله، ولا يجوز منه شيء للابن في المسألتين جميعا، لا في الذي جعل للابن نصفه، وأمسك نصفا، ولا في الذي جعل للابن نصفه، وللسبيل نصفه، ولا للسبيل جميعا؛ لأن الذي للابن ليس بشيء بعينه، وهو مشاع فيه كله، فهو كحاله قبل الصدقة، وهو كما لو تصدق عليه بمائة من غنمه ولم يفرزها بعينها، ولم يسمها أو بعدة من خيله، ولم يسمها

(14/82)


ولم ينسبها حتى تقع الصدقة فيها بعينها، أنه يبطل؛ وهو قول مالك في الغنم والخيل والجزء، وهو واحد كله، وهذا آخر قول مالك، والذي رجع إليه فيها؛ وقد كان يقول قبل ذلك في الغنم إذا تصدق عليه بعدة منها، وهي في غنمه كما هي؛ أنه جائز، وليس ذلك بشيء، قد رجع عنه هو وأصحابه، وهو قولنا جميعا لا يجوز حتى يسميها بأعيانها، أو ينسبها بأسمائها أو يفرزها، أو يسميها، فكذلك مسألة الجزء سواء.
قال محمد بن رشد: اختلف فيمن تصدق بجزء من ماله على الإشاعة على ولده الصغير، هل تصح حيازته إياه له أم لا، على ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن حيازته إياه له جائزة سواء أبقى الباقي لنفسه، أو تصدق به على كبير، أو في السبيل، وهو قول مالك. والثاني: أن حيازته له غير جائزة، فسواء أيضا أبقى الباقي لنفسه، أو تصدق به على كبير، أو في السبيل، وهو قول أصبغ في هذه الرواية. والثالث: أن حيازته له جائزة إن أبقى لنفسه أو تصدق به في السبيل، ولا يجوز إن تصدق به على كبير إلا أن يحوز الكبير لنفسه والصغير، فإن لم يحز الكبير شيئا، أو لم يحز إلا حصته، بطل نصيب الصغير، وهو مذهب ابن القاسم، وإرادته في هذه الرواية تبين ذلك من مذهبه، قاله في كتاب ابن المواز من أن نصيب الصغير يبطل، وإن حاز

(14/83)


الكبير نصيبه، وقد مضى بيان هذا كله وتوجيه الخلاف فيه في رسم إن خرجت، من سماع عيسى، من كتاب الحبس، ومضت المسألة أيضا في رسم طلق بن حبيب، من سماع ابن القاسم، من هذا الكتاب، وفي رسم العرية، من سماع عيسى منه؛ فإذا وهب الرجل جزءا من جميع ماله على الإشاعة لولده الصغير، وله أصول ورباع وعروض ورقيق وماشية وناض وطعام، جاز له على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك ذلك الجزء من جميع ما كان يملك يوم الهبة من الأصول والرباع والعروض والرقيق والماشية، حاشا ما سكن من الدور، ولبس من الثياب.
وأما الطعام والناض فلا يجوز ويبطل؛ إذ لا يعرف ذلك بعينه، إلا أن يضعه له على يد غيره؛ وقد قال: إن ذلك يجوز له إذا أفرزه له، وإن لم يخرجه من يده، وهو قول مالك في الموطأ حسبما مضى بيانه في أول رسم، من سماع ابن القاسم، وفي رسم طلق بن حبيب منه، ومثل هذا في الثمانية لابن الماجشون؛ قال فيمن قال نصف ماله صدقة على ابنتي البكر، وهي في حجره، أن لها نصف ما كان يملك يوم تصدق من عقار أو ثياب أو دواب أو ماشية، إلا العين، فإنه باطل، إلا أن يكون حازه لها على يدي غيره، وكذلك تبطل الثياب التي تلبس والسلاح، وما كان يبتذله، وما سكن من الدور حتى مات.
قال القاضي ابن زرب: أنه إن كانت الدنانير، أو ما سكن من دار تبعا لما حاز بالصدقة، فالجميع نافذة، وهو الذي قاله ابن زرب من أنه إن كانت الدنانير أو ما سكن من دار تبعا لما حاز، فالصدقة بالجميع نافذة، لا تصح عندي على مذهب مالك؛ لأنها أنواع من الأموال، فلا يجعل الأقل منها تبعا للأكثر، وإنما ذلك في النوع الواحد، فإن كانت الدار التي سكن هي تبع لما لم يسكن من الدور أو الثياب التي لبس تبعا لما لم يلبس منها، أو الناض

(14/84)


الذي لم يخرجه عن يده تبعا لما أخرجه عن يده منه، أو وضعه على يدي غيره، جاز ذلك؛ وإلا لم يجز هذا على مذهب مالك في أن الدور الكثيرة إن سكن دارا منها كلها أو جلها، وهي تبع لما لم يسكن منها، جاز له ما سكن، وما لم يسكن، كالدار الواحدة إن سكن منها اليسير جازت للابن كلها، وأما على مذهب أصبغ الذي يقول في الدور الكثيرة: إنه إن سكن واحدة منها أو جلها، وإن كانت تبعا لسائرها؛ أن الهبة فيها تبطل؛ لأن كل دار منها، فكأنها موهوبة على حدة، فبطل ما لبس من الثياب، وما سكن من الدور، وما أبقى عند نفسه من الناض بكل حال، وبالله التوفيق.
ومن كتاب الأقضية والحبس

[مسألة: تصدق على رجل بميراثه من أبيه بعد أن يموت أبوه]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في رجل تصدق على رجل بميراثه من أبيه بعد أن يموت أبوه، وأشهد له، وقبل ذلك منه، ثم بدا للمتصدق وقال: إني كنت حين فعلت ذلك لا أدري ما أرث نصفا أو ربعا؟ ولا أدري ما عدد ذلك من الدنانير، ولا من الرقيق؟ ولا ما سعة ذلك من الأرضين وعدد الأشجار؟ فلما تبين لي مورثي من أبي، وما أرث مما ترك، رأيت ذلك كثيرا، وكنت ظننت أنه دون هذا، وأنا لا أجيز الآن.
فقال ابن القاسم: إن تبين مما قال: إنه لم يكن

(14/85)


يعرف يسر أبيه، ولا وفره لغيبة كانت عنه، رأيت أن يحلف ما ظن ذلك، ويكون القول قوله، وإن كان عارفا بأبيه وشره، وإن لم يعرف قدر ذلك، جاز عليه على ما أحب أو كره؛ وقال أصبغ مثله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في أول سماع عيسى، فلا معنى لإعادته.

[: اشترى بغلين أحدهما فاره والآخر رديء فأشهد أن أحدهما صدقة على ابنه]
ومن كتاب الوصايا والأقضية قال أصبغ: سمعت ابن وهب، وسئل عن رجل اشترى بغلين؛ أحدهما فاره، والآخر رديء، فأشهد أن أحدهما صدقة على فلان ابنه، ثم مات فادعى الابن الفاره، وجاء بشهود يشهدون أن أباه تصدق عليه بأحد البغلين، ولا يدرون أيهما هو، وقال سائر الورثة: هو الرديء، قال: لا يقبل قوله، ولا قول الورثة، ويجعل له نصف الفاره ونصف الرديء، قال أصبغ: تبطل الصدقة، ولا تكون شهادة في الحكم إلا أن يأخذ ما أقرت به الورثة بإقرارهم.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه الشهادة أن الشهود شهدوا أن الميت أشهدهم على أنه تصدق على ابنه بأحد هذين البغلين، وعينه لهم، إلا أنهم لا يدرون أيهما هو منهما، ولذلك وقع الاختلاف في جواز الشهادة، فأجازها ابن وهب، ولم يجزها أصبغ، وقول أصبغ هو المشهور في المذهب؛ أن شهادتهم تبطل إذا شكوا فيه، فلم يدروا أيهما هو

(14/86)


الذي عين لهم أنه تصدق به منهما، ويأتي قول ابن وهب على ما وقع في أصل الأسدية، من كتاب الأيمان بالطلاق، من أن الشهود شكوا، فلم يدروا أيهما؟ أهي المطلقة التي قد دخل بها، أو التي لم يدخل بها؟ ويختلف على القول بإجازة الشهادة في إجازة الصدقة؛ لأنها إذا جازت صارت بمنزلة من قال: قد تصدقت على ابني بأحد هذين البغلين، أو ببغل من هذين البغلين، أو بعدة من بغاله، أو بعدة من خيله، أو من غنمه دون أن يسميها أو يعينها، وقد اختلف قول مالك في ذلك: كان يقول أولا: إن الصدقة جائزة، ثم رجع إلى أنها لا تجوز حسبما وقع من اختلاف قوله في آخر أول رسم من هذا السماع، فقول ابن وهب في إجازة الصدقة بعد أن أجاز الشهادة على قياس قول مالك الأول، في أن الرجل إذا تصدق على ابنه الصغير بعدة من غنمه، أو من خيله دون تعيين أن الحيازة جائزة، والصدقة ماضية، وقد مضى ذكر الاختلاف في هذه الشهادة وتحصيله في رسم يدير ماله، من سماع عيسى، من كتاب المديان والتفليس، وأما لو كان الميت إنما قال للشهود: أشهدكم أني قد تصدقت على ابني بأحد هذين البغلين دون تعيين منه لأحدهما؛ لكانت الشهادة جائزة باتفاق، والصدقة جائزة على اختلاف.

[: الصفائح والنقر والحلي المكسور إذا وهب للثواب]
ومن كتاب البيع والصرف قال أصبغ: وسمعت ابن القاسم، وسئل عن الصفائح والنقر والحلي المكسور، أفيه ثواب؟ قال: لا، ليس في ذلك ثواب؛ يعني إذا وهب للثواب، وقاله أصبغ.

(14/87)


قال محمد بن رشد: وقع هذا الرسم هاهنا في بعض الروايات، وقد مضت المسألة مكررة في رسم أوصى، من سماع عيسى، والتكلم عليها هناك، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[: يتصدق على الرجل بنصف أرضه وفي الأرض بئر أو عين]
ومن كتاب الكراء والأقضية قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن الرجل يتصدق على الرجل بنصف أرضه، وفي الأرض بئر، أو عين، إنما حياة تلك الأرض بها، يقول المتصدق: لم أتصدق عليك إلا بالأرض، وأما الماء؛ فليس لك منه شيء، وإنما كانت الصدقة مبهمة من غير استثناء ولا محدودة، وكيف إن تصدق عليه بقطعه من الأرض والماء فيها، أو في غيرها، هل هو سواء؟ وكيف إن كان تصدق عليه بجميع الأرض والماء فيها، فادعى أنه لم يتصدق عليه بالماء؟ وكيف إن كان الماء يأتيها من أرض له غيرها؟
قال ابن القاسم: إذا كان الماء فيها، وخرجت الصدقة مبهمة إلى جزء منها مشاع، فالماء بينهما على قدر ما لهما من الأرض، إذا كان الماء في الأرض، وإن تصدق عليه بناحية من الأرض والماء في غير ناحية التي قطع له، حلف المتصدق بالله ما تصدق عليه بالماء، وكان ذلك له، وإن تصدق على رجل بأرضه كلها، وفيها ماء، وزعم أنه لم يتصدق عليه بالماء، فالماء للمتصدق عليه،

(14/88)


ولا شيء للمتصدق، فإن كان الماء في غيرها، حلف بالله ما تصدق عليه بالماء، وكان ذلك له وإن كان الماء يأتيها فهو كذلك، وقاله أصبغ.
كل هذا في الذي تصدق بناحية، والماء في غيره، إذا كان يكون للأرض شرب من غيرها بوجه من الوجوه، مثل أن يكون للمتصدق عليه إلى جنبها ماء يسوقه إليها، أو يعتمله بسقيها؛ فإن لم يكن كذلك على شيء من المصارف، ولا المعتمل ولا السبيل إلا ماءها، إن لم تسق به بقيت أبدا لا حياة لها وبطلت؛ رأيت الشرب لها في الماء أيضا حتى يستثني في الصدقة أنه لا ماء لك.
وقال مالك في الذي يتصدق بالأرض فيقول: إني نويت أن أتصدق بها بلا ماء، فالقول في ذلك قوله إذا كان المتصدق عليه يقدر على سقيها من غير ساقية المتصدق، فأما إن كان لا يقدر على ذلك بوجه من الوجوه، ولا ينالها الماء إلا من طريق المتصدق؛ فإني أرى في هذا الموضع أن يقبل قوله، وأن يكون له من الماء ما يكفيها؛ وإن تصدق بها مبهمة، كان له من الماء ما يصلحها على ما أحب المتصدق أو كره.
قال أصبغ: قيل لابن القاسم: الرجل يشتري من الرجل الأرض على هذا الوجه، أو نصف الأرض مبهمة، وهو جار له، ولها في أرضه ما يسقي به، فزعم البائع أنه لم يبعه على الماء، وإنما باع الأرض على أن يضمها إلى أرضه ويسقيها بمائه، إلا أنه باع منها؛ هل يختلف ذلك إذا كان جاره أو أجنبيا؟ أو هل يختلف في هذا الوجه إذا

(14/89)


باع قطعة من الأرض والماء في غيرها، وإنما عيش الأرض بالماء؛ أو هل يستوي ذلك كله؟ أو هل هو في جاره والأجنبي سواء؟ أو هل يختلف إن كان مبهما أو غير مبهم؟
قال ابن القاسم: أما إذا كان الماء فيها، وباع مبهما، فالماء للمشتري، وليس للبائع عليه مقال، كان الذي باع كلها أو نصفها، أو جزءا منها، كان جارا أو أجنبيا، أو كان للمشتري أرض إلى قربها أو ماء، أو لم يكن؛ فذلك كله سواء إذا باع مبهما، وكان الماء فيها فهو للمشتري، قال أصبغ: فإن تداعيا البيان والمواطأة على الأرض دون الماء، تحالفا وتفاسخا، قال أصبغ: قال ابن القاسم: وأما إذا كان الماء ليس فيها، وإنما شربها يأتيها من غيرها، وما باع مبهم، فإنه ينظر، فإن كان لما قال البائع وجه مثل أن يكون للمشتري أرض إلى جنبها يضمها إليها، ويكون شربها منها، فأرى القول قوله ويحلف، ثم يحلف المشتري أنه لم يشتر إلا على الماء، فإذا تحالفا تفاسخا، ومن نكل منهما فالقول قول الآخر مع يمينه؛ فإن كان على غير ذلك فالماء للمشتري، ولا حجة للبائع، وسواء في هذا أيضا اشترى الأرض كلها أو بعضها، إلا أن يدعي البائع الشرط، يزعم أنه استثنى الماء، وهو في الأرض، وأنكر الآخر أو زعم المشتري أنه اشترط الماء، وهو في غيرها، وأنكر الآخر؛ فإن كان الماء فيها فهو للمشتري، وإن كان في غيرها، وكانت تسقى به

(14/90)


كلها تحالفا وتفاسخا.
وقال أصبغ: ذلك كله رأيي، وهو قولي، وهو جيد كله، وبعضه قوة لبعض، وبيان لما قلت لك في الصدقة، إذا لم يكن لها سقي وغيرها من التحالف، إلا قوله في هذا الحرف الآخر، إذا ادعى البائع الشرط، وزعم أنه استثنى الماء، وهو في الأرض، وأنكر المشتري، فإن القول فيه أيضا أن يتحالفا عليه، ولا يكون الماء للمشتري بقوله زعما كما قال، ولكن يتحالفان ويتفاسخان على محمل الحديث إذا اختلف البائع والمبتاع، فالقول ما قال البائع ويتفاسخان، وذلك ما لم يقبض المشتري، ويدخل الغير في الأرض بما يكون فوتا، فإن أدخل ذلك، كان القول قول المشتري، وكان البائع هاهنا مدعيا، والمشتري مدعى عليه، ولم يجتمع التداعي جميعا؛ والأول إذا لم يقبض أو يفوت بغيرهما مدعيان، فهو على الحديث بعينه أيضا، وسواء كان الماء في الأرض، أو لم يكن إذا كان شربها.
قال محمد بن رشد: تحصيل القول في المسألة: الرجل يتصدق بالأرض أو بجزء منها على الإشاعة والماء في غيرها، أو فيها، أنه إن كان الماء فيها، فلا اختلاف في أنه تبع لها في الصدقة، واختلف إن قال المتصدق: إنما تصدقت بها وحدها دون الماء، فقيل: إنه لا يتصدق في ذلك بحال، وهو مذهب ابن القاسم ومطرف، وابن الماجشون، وقيل: إنه يصدق في ذلك مع

(14/91)


يمينه إذا كان المتصدق عليه يقدر على سقي الأرض من غير ذلك الماء بوجه من الوجوه؛ وأما إن كان الماء في غير الأرض المتصدق بها، أو بجزء منها على الإشاعة، فاختلف في ذلك: قيل: إن الماء يبقى للمتصدق؛ إذ ليس في الأرض التي تصدق بها، وهو الذي يأتي على من يدل عليه قول أشهب، في رسم باع شاة، من سماع عيسى، من كتاب جامع البيوع، ومعنى ذلك: إذا كانت الأرض تستغني عن الماء، وكان يقدر على سقيها من غير ذلك الماء؛ وقيل: إن الماء للمتصدق عليه، واختلف على هذا القول إن قال المتصدق: إني إنما تصدقت بها دون الماء؛ هل يصدق في ذلك أم لا؟ فقيل: إنه يصدق في ذلك مع يمينه، إلا أن تكون الأرض لا تستغني عن ذلك الماء بوجه من الوجوه، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية على ما زاده أصبغ فيها.
وقيل: إنه لا يصدق في ذلك، معناه إلا أن يكون له دليل من شاهد الحال، مثل أن يتصدق عليه بقطعة من أرضه ليضيفها إلى أرضه، وله ما يسقيها به، فيعلم أنه إنما تصدق عليه بالأرض ليسقيها من مائيه، وهو ظاهر قول ابن القاسم الذي مضى في رسم شهد، من سماع عيسى، في الذي يتصدق ببيت من داره؛ إذ لا فرق بين المسألتين في المعنى، والحكم في الماء في البيع إذا وقع مبهما في الأرض، أو في جزء منها، والماء فيها أو في غيرها، ولم يدع أحد المتبايعين في ذلك شرطا ولا نية، كالحكم فيه في الصدقة سواء، إن كان الماء في الأرض فهو للمشتري، وإن كان في غيرها، ويمكن أن يسقي من غير ذلك الماء؟ فقيل: إنه يكون للبائع، وقيل: إنه يكون للمشتري على الاختلاف الذي مضى في الصدقة في ذلك.
وأما إذا تداعيا البيان في ذلك والنص عليه، فقال البائع: بعتك الأرض دون الماء، وقال المبتاع: بل اشتريتها منك بمائها، أو قال كل واحد منهما: كانت هذه نيتي، فقول أصبغ على ما يدل عليه قوله في هذه الرواية أنهما يتحالفان ويتفاسخان على ما

(14/92)


ادعياه من الإفصاح والبيان على نياتهما، كان الماء في الأرض أو خارجا عنها على مذهب الحديث، إلا أن يكون المشتري قد قبض الأرض، وفوتها بإدخال العين فيها، أو بما سوى ذلك مما يفوتها، فيكون القول قوله؛ ومذهب ابن القاسم على ما قاله في هذه الرواية من رواية أصبغ عنه: أنهما يتحالفان ويتفاسخان، إلا أن يكون الماء في الأرض، أو يكون في غيرها، ولا يشبه ما قال البائع، ويشبه ما قال المشتري بأن لا يكون للأرض سقي من غير ذلك الماء، فيكون ذلك القول قول المشتري، فراعى ابن القاسم في هذه الرواية دعوى الأشباه مع القيام، وهو خلاف المشهور في المذهب، ولم يراعه أصبغ على المشهور فيه، وبالله التوفيق.

[مسألة: ضمن عن ابنه نفقة سنين سماها بدنانير في كل سنة]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول فيمن ضمن عن ابنه نفقة سنين سماها، بدنانير سماها في كل سنة، أو لم يسم دنانير، إلا أنه قد عرف وجه النفقة، فضمن نفقة سنين، وذلك كله بعد عقد النكاح، مثل أن يراد أن يقام بابنه ليفرق بينهما، فضمن لك عنه أبوه، أرى أن ذلك يلزمه ما كان حيا، فإذا مات سقط ذلك عنه؛ وقاله أصبغ، وهو الحق، وكذلك نفقة المطلقة إذا ضمن الابن، هذه حقوق يقضى بها قد افترضت، وليس هذا كالذي يضمن في النكاح النفقة، ذلك شيء لم يأت، ولم يفرض، ولم يجب ولا أمر له، ومجهول كله يكون أو لا يكون، ومتى يفترقان أو يموتان.
قال محمد بن رشد: جعل الضمان بالنفقة لا يجب إلا بالحياة، من أجل أنها لم تجب بعد، فما وجب منها في حياته لزمه، وما وجب منها بعد وفاته لم

(14/93)


يلزمه، بخلاف الحمالة بما قد وجب من الحقوق، ذلك يجب في حياته وبعد وفاته؛ لأنها خرجت على عوض، وهو ما رضي المحمول له به من ترك ذمة غريمه، وكان القياس أن يجب عليه ضمان نفقة السنين التي سمى، وإن مات قبل تمامها إذا عاش ابنه حتى انقضت، أما إن مات ابنه قبل انقضائها، فلا يلزمه ضمان ما بقي منها وإن كان حيا؛ لأنها تسقط عنه بسقوطها عن ابنه الذي تحمل عنه.
وقوله: وكذلك نفقة المطلقة إذا ضمن الابن، معناه: وكذلك إذا ضمن عن ابنه لزوجته المطلقة نفقة ولدها منه سنين، فمات قبل انقضاء السنين، لا يلزمه ضمان ما بقي منها، فكان القياس أن يلزمه ضمان ذلك في ماله إن مات إذا عاش الابن، وأما إن مات الابن قبل انقضاء السنين، فيسقط عن الأب الضامن ضمان ما بقي منها، وإن كان حيا بسقوطها عن ابنه الذي تحمل عنه، وأما إذا تحمل بالنفقة في أصل عقد النكاح، فهي حمالة لا تلزم على ما دل عليه قوله في الرواية؛ لأن النكاح يفسد بذلك، فيفسخ قبل الدخول، ويثبت بعده، ويسقط الشرط، ويكون للزوجة صداق المثل، وقد مضى بيان هذا، في رسم حلف ألا يبيع سلعة سماها، من سماع ابن القاسم، من كتاب النكاح، وبالله التوفيق.

[مسألة: أعمر رجلا دارا وجعلها لولده من بعده]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم، وسئل عن رجل أعمر رجلا دارا، وجعلها لولده من بعده، هل يجوز له أن يشتريها من المعمر،

(14/94)


وهي لولده من بعده؟ وهل يجوز للمعمر أن يشتري العمرى من ربها حتى يكون له أصلها، كما يجوز للمعمر؟
قال ابن القاسم: أما إذا جعلت لولده من بعده، فلا يجوز لصاحبها أن يشتريها؛ لأن الأب ليس يبيع لقوم بأعيانهم، ولا يعرف عددهم؛ وأما المعمر فيجوز له أن يشتريها من صاحبها حتى يكون له أصلها، إذا لم يكن لولده من بعده، وإن كانت لولده من بعده، فلا يحل له اشتراؤها؛ لأنه يشتري حق قوم آخرين، ولا يحل للمعمر أن يشتري حق المعمر وحده أيضا إذا كانت لولده من بعده، وإنما يشتري ما يملك به الدار ملكا تاما حتى يبيع ويهب، ويتصدق إن شاء؛ وأما أن يشتري شيئا، فإذا مضى خرجت من يده أيضا إلى قوم آخرين، ولا يستطيع فيه بيعا ولا غير ذلك، فلا يحل، وقاله أصبغ، قال أصبغ: وإنما مكروه ذلك، أنها إجارة مجهولة، وكراء مجهول، وغرر ومخاطرة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضت متكررة في آخر رسم إن خرجت من سماع عيسى، ومضى الكلام عليها هناك، وفي المواضع المذكورة فيه، فلا معنى لإعادة ما مضى الكلام فيه، فإن مات المعمر نزل ورثته منزلته، فكان لكل واحد منهم أن يشتري من الخدمة قدر حظه من المرجع عند ابن القاسم.
وقال ابن كنانة: لا يجوز إلا أن يجتمعوا كلهم

(14/95)


فيشتروا جميع الخدمة، وقال المغيرة: للواحد منهم أن يشتري جميعها، وبالله التوفيق.

[مسألة: يقول لابنه أصلح نفسك وتعلم القرآن ولك قريتي فلانة]
مسألة قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن الرجل يقول لابنه: أصلح نفسك، وتعلم القرآن، ولك قريتي فلانة، فيصلح نفسه بإذن الله، ويتعلم القرآن، ثم يموت أبوه، وهو لم يبلغ الحوز، والمنزل في يدي أبيه، هل تدري الصدقة له جائزة؟ قال: لا، إذا كان إنما هو قول هكذا، إلا أن يعرف تحقيق ذلك بإشهاد يشهد له على ذلك، أو يقول لقوم: اشهدوا أنه إن قرأ القرآن فقد وهبت له، أو تصدقت عليه بعبدي، أو بقريتي، فيكون ذلك جائزا له إذا كان صغيرا في ولاية أبيه، ويكون ذلك حوزا له؛ فأما إذا لم يكن الأمر على هذا، فإني أخاف أن يكون ذلك منه على وجه التحريض، فلا أرى ذلك للابن إلا على وجه قوي، مثل ما وصفت لك من الإشهاد، إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: الظاهر من قوله: ولك قريتي فلانة، تمليكه إياها بإصلاحه لنفسه، وتعلمه القرآن، وليس بنص على ذلك؛ ألا ترى أن أهل العلم قد اختلفوا في العبد هل يملك أو لا يملك، مع إضافة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المال لابنه بهذه اللام التي يسمونها لام الملك، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من باع عبدا وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع؛» فقال: «أنت ومالك لأبيك» فلم يكن هو وماله ملكا لأبيه، فلما احتمل

(14/96)


أن يريد بقوله: ولك قريتي فلانة تسكنها، أو ترتفق بمرافقها، أو ينفذ أمرك فيهما، وما أشبه ذلك؛ لم ير ابن القاسم أن ينتقل ملكه عنها إلا بيقين، وهو أن يقول: أشهدكم أنه إذا فعل ذلك، فقد تصدقت عليه بها، أو وهبتها له، وما أشبه ذلك؛ فتجوز الهبة له، وتصح له بحيازته إياها إذا كان صغيرا في ولايته، ولم يجعل ما أوجب له القرية به من إصلاحه نفسه، وتعلمه القرآن عوضا لها، فتمضي له دون حيازة، وفي ذلك اختلاف.
حكى ابن حبيب، عن مطرف أنه قال: له ومن أعطى امرأته النصرانية داره التي هو فيها ساكن على أن تسلم فأسلمت، فلا أراها بمنزلة العطية؛ لأنها ثمن لإسلامها، والإشهاد يجزيها عن الحيازة؛ وإن مات الزوج فيها، وبه أقول.
وقال أصبغ: لا أراها إلا كالعطية، ولا بد فيها من الحيازة، وإلا فلا صدقة لها، وفي المدنية لابن أبي حازم، ولابن القاسم من رواية عيسى عنه، مثل قول مطرف، وما اختاره ابن حبيب؛ قال: وسألت عبد العزيز بن أبي حازم، عن رجل قال لابنه: إن تزوجت فلك جاريتي فلانة، هل يلزمه ذلك؟ قال: نعم، إذا تزوج فهي له، وإن مات الأب أخذها من رأس المال؛ قال ابن أبي حازم: وإن كان على الأب دين، حاص الغرماء بذلك؛ قال عيسى: قال ابن القاسم: هي له دون الغرماء إن فلس، وإن مات أخذها من رأس المال، ولم يكن لأهل الدين فيه شيء؛ قال ابن القاسم: ولو قال: لك مائة دينار إن تزوجت، كان هو والغرماء سواء في ماله في الفلس والموت جميعا؛ لأنه ليس بشيء بعينه،

(14/97)


وقول ابن القاسم أنه يكون أحق بالجارية من الغرماء، وأنه يحاصهم بالدنانير، هو الصحيح، لا ما قاله ابن أبي حازم؛ ومعناه إذا وجبت له الهبة بالتزويج، قبل أن يتداين الأب، وبالله التوفيق.

[مسألة: تصدقت بمورثها من دار أبيها على رجل وتلك الدار لم تقسم]
مسألة قال أصبغ: وسئل ابن القاسم عن امرأة تصدقت بمورثها من دار أبيها على رجل، وتلك الدار لم تقسم، فعمد المتصدق عليه، إلى ناحية منها، فبنى فيها، وسكن من غير قسم، ثم توفيت المرأة، هل له صدقة؟ قال: لا حق للمتصدق عليه فيها، إلا أن يكون شركاؤه هم الذين صالحوه على ناحية، يرتفق بناحية، ويرتفقون بناحية، فيكون ذلك حيازة؛ وأما أن يأتي رجل قد تصدق عليه بمورث من أرض، فعمد إلى قطعة، فبنى فيها وشركاؤه غيب، ثم يموت المتصدق بها قبل أن يحوز هذا، فلا أرى له في ذلك شيئا، ولعل ذلك لو قسم صار لغيره، وقاله أصبغ؛ إلا الموضع الذي ابتنى وحازه بالبنيان، فإني أرى حصة المتصدق منه خاصة من عرصته للمتصدق عليه الباني، وأرى ذلك فيه حيازة للمتصدق عليه، وعن المتصدق وقبضا، فيجوز فيكون قبضا ويكون شريكا لشركائه فيه خاصة، ويبطل ما سوى ذلك من الصدقة بموت المتصدق، ويرجع إلى ورثة شركائه وللشركاء أيضا.
قال محمد بن رشد: اختلف فيمن تصدق عليه رجل بحظه من دار

(14/98)


أو أرض على الإشاعة، وحاز بيتا من الدار، أو قطعة من الأرض، قدر حق المتصدق من ذلك أو أقل أو أكثر، والأشراك غيب أو حضور دون علمهم ولا إذنهم على ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن ذلك ليس بحيازة يستحق بها شيئا من الصدقة، لا فيما حاز، ولا فيما لم يحز، وهو مذهب ابن القاسم، في سماع أبي زيد بعد هذا؛ وفي هذه الرواية؛ بدليل قوله فيها، ولعل ذلك الذي حازه بعينه لو قسم صار لغيره. والثاني: أن ذلك حيازة صحيحة يصح له بها جميع صدقته إذا ارتفعت يد المتصدق، ونزل هو مع أشراكه أو وحده، فعمر شيئا من الأرض، أو سكن بيتا من الدار؛ وهو قول مطرف، وابن الماجشون قالا: ولو لم يعمل المتصدق عليه شيئا؛ إلا أنه منع المتصدق من العمارة؛ لكان ذلك حيازة تامة، تصح له بها الصدقة مع الإشهاد، ونحوه في المدنية لابن كنانة، ولابن القاسم: أن المنع حيازة، وقد ذكرنا ذلك في رسم الكبش، من سماع يحيى بعد هذا، فيما تقدم.
والثالث: أنه يصح له بهذه الحيازة قدر حظ المتصدق مما حاز لا أكثر، ويبطل ما سوى ذلك، وهو قول أصبغ هاهنا، وفي نوازله بعد هذا، وقول ابن القاسم، على قياس القول في القسمة أنها تمييز حق، بدليل قوله، ولعل ذلك لو قسم صار لغيره، وقول أصبغ على قياس القول بأنها بيع من البيوع، ولا اختلاف في أنه إذا نزل مع الأشراك منزلة المتصدق، فعمر معهم على الإشاعة، أو على غير الإشاعة أقل من حق المتصدق، أو أكثر برضاهم، أن ذلك حيازة صحيحة تامة؛ واختلف إذا تصدق الرجل على الرجل بجزء من أرضه على الإشاعة معه، فنزل المتصدق عليه مع المتصدق في الأرض، وعمرهما معه كما يعمر الشريك مع شريكه على سبيل الاستقصاء

(14/99)


لحقه والمشاحة، فقيل: إن ذلك حيازة، وهو قول ابن القاسم في رواية عيسى عنه، حكى ذلك ابن مزين وقال به، وقيل: إن ذلك ليس بحيازة، إلا أن يحوز الأرض كلها، أو يقاسما فيها، فيحوز ما صار له بالقسمة في الحظ المتصدق به، وقد مضى في أول السماع إذا تصدق على من يحوز له بجزء من داره، أو أرضه، أو عبده على الإشاعة مع نفسه، والكلام على ذلك مستوفى، فلا معنى لإعادته.

[مسألة: تتصدق بمالها كله في سبيل الله أو تجعله صدقة]
مسألة قال أصبغ: وسمعت ابن القاسم يقول: قال لي مالك في المرأة تتصدق بمالها كله في سبيل الله، أو تجعله صدقة، أو تعتقه وهو مالها كله: إن ذلك كله سواء إذا رده الزوج لم يجز منه قليل ولا كثير؛ قال أصبغ: وهو قولهم جميعا.
قال محمد بن رشد: في قول ابن القاسم في هذه الرواية إذا رده الزوج لم يجز منه قليل ولا كثير، دليل على أن فعلها على الإجازة حتى يرده الزوج، وقد مضى ذكر الاختلاف في ذلك، وفي هل يرد الجميع، أو ما زاد على الثلث مستوفى في رسم الكبش، من سماع يحيى، فلا معنى لإعادته، فليس قول أصبغ وهو قولهم جميعا بصحيح، وبالله التوفيق.

[مسألة: تصدق على رجل بعبد له واشترط عليه أن له منه خدمة يومين]
مسألة وسئل عمن تصدق على رجل بعبد له، واشترط عليه أن له منه خدمة يومين في كل جمعة، فمات المتصدق فقال: ليست أيضا بصدقة. قال أصبغ: أرى الورثة على رأس أمرهم يمضون، أو يردون

(14/100)


كما كان للمتصدق في حياته.
قال القاضي: إنما رأى الشرط يفسد الصدقة؛ لأنه لما شرط من خدمته يومين من كل جمعة، فقد حجر عليه التصرف في صدقته بالسفر بها والوطء لها، إن كانت أمة والتفويت، فصار كمن تصدق بصدقة وشرط المتصدق عليه ألا يبيع ولا يهب؛ ألا ترى أنه لما كان الحبس لا يباع، ولا يوهب، جاز فيه هذا الشرط على ما قاله في سماع ابن زيد بعد هذا، وأجاز ابن كنانة هذا الشرط في الصدقة والحبس، وقال: إن الشرط لا يفسد الصدقة بل يشدها، والمعنى فيما ذهب إليه عندي أنه رآه شريكا معه في رقبة العبد بما استثنى لنفسه من خدمته، ولذلك أجازه في الصدقة والحبس، وقال: إن الشرط لا يفسد الصدقة، وقول أصبغ في هذه الرواية أرى الورثة على رأس أمرهم يمضون أو يردون كما كان للمتصدق في حياته خلاف ابن القاسم، فالصدقة بالعبد على هذا الشرط على مذهب ابن القاسم على الرد حتى يحاز، وعلى قول أصبغ على الإجازة حتى يرد؛ لأنه أنزل الورثة منزلته في الإجازة أو الرد، وقد مضى بيان هذا كله مستوفى في رسم إن خرجت، من سماع عيسى، في أول مسألة منه، فلا معنى لإعادته.

[مسألة: ورثة قام رجل منهم فادعى صدقة عليه من أبيه]
ومن كتاب القضاء المحض مسألة
قال أصبغ: وسئل ابن القاسم عن ورثة؛ قام رجل منهم فادعى صدقة عليه من أبيه، فسئل البينة على الحوز، فأتى بشاهد واحد، وأن

(14/101)


القاضي وقف له صدقته زمانا حتى يأتي بشاهد آخر، فلم يأت به، ثم إن القاضي أمر بقسمته على الورثة، وكانت رقيقا ومنازل وأرضا، فقسمت واتخذت أمهات أولاد، وعتق ما عتق، وغرس في الأرض شجر؛ ثم إن الذي كان ادعى بالصدقة ظفر بشاهد آخر كان صبيا فبلغ، أو غائبا فقدم؛ قال ابن القاسم: أما ما اتخذ منها أمهات أولاد، وما عتق منهم، فلا سبيل له إليهم، ويتبع بالثمن الورثة؛ وأما ما لم يحبل ولم يعتق، فله أن يأخذه بعد أن يدفع الثمن الذي هو في يديه ممن اشترى، ويتبع بالثمن الورثة، فيأخذ ذلك منهم؛ وأما الأرض فلا يأخذها حتى يدفع لمن هي في يديه ثمنها، وما أنفق فيها جميعا، ثم يرجع هو على الورثة بالثمن، فيأخذ ذلك منهم، بمنزلة الرجل يشهد عليه الرجلان أنه مات وهما عدلان، ثم يأتي الرجل بعد ذلك، وقد كان اشتبه عليهما؛ فإن مالكا قال في مثل هذا؛ هذا القول فيما فات.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه الرواية أنه يقضى له بالشاهد الذي أتى به مع الشاهد الأول بعد أن كان قد عجزة، وقضى بقسمة الميراث فاقتسم وفوت، خلاف ما في سماع أصبغ من كتاب النكاح، في رسم النكاح، من قوله فيه: قلت: فإن عجزه، ثم جاء ببينة بعد ذلك، وقد نكحت المرأة أو لم تنكح، قال: قد مضى الحكم، ومثل ما في المدونة؛ إذ لم يفرق فيما بين تعجيز الطالب والمطلوب، وقال: إنه يقبل منه القاضي ما أتى به بعد التعجيز

(14/102)


إذا كان لذلك وجه، وقد قيل: إنه لا يقبل منه ما أتى به بعد التعجيز كان طالبا أو مطلوبا؛ وفرق ابن الماجشون في الطالب بين أن يعجز في أول قيامه قبل أن يجب على المطلوب عمل، وبين أن يعجزه بعد أن وجب على المطلوب عمل، ثم رجع عليه، ففي تعجيز المطلوب قولان، وفي تعجيز الطالب ثلاثة أقوال؛ قيل: هذا في القاضي الحاكم دون من بعده من الحكام، وقيل: بل ذلك فيه وفيمن بعده من الحكام، وهذا الاختلاف، إنما هو إذا عجزه القاضي بإقراره على نفسه بالعجز، وأما إذا عجزه بعد التلوم والإعذار، وهو يدعي أن له حجة، فلا يقبل منه ما أتى به بعد ذلك من حجة؛ لأن ذلك قد رد من قوله قبل نفوذ الحكم عليه، فلا يسمع منه بعد نفوذه عليه، وقد مضى هذا في رسم النكاح، من سماع أصبغ، من كتاب النكاح، وفي رسم نذر سنة، من سماع ابن القاسم، من كتاب الأقضية، وبالله التوفيق.

[مسألة: تصدق على من بلغ الحوز فلم يحز لنفسه حتى مرض المتصدق]
مسألة قال: وكل من تصدق على من بلغ الحوز، فلم يحز لنفسه حتى مرض المتصدق، فأجازه في مرضه فلا صدقة له؛ وهو بمنزلة من أوصى لوارث حين منعه في صحته، وأسلمه في مرضه، فلا يجوز ذلك له، وقال ذلك أصبغ؛ إلا أنه لا يحاص بها أهل الوصايا، كما يحاص بوصية الوارث، ولكنها تطرح من رأس المال كشيء لم يكن، وتكون الوصايا في ثلث ما بعدها، وترجع ميراثا كالإقرار بدين لوارث في المرض، مما كان فيه من التوليج والتهمة سواء.

(14/103)


قال محمد بن رشد: قوله: وكل من تصدق على من يبلغ الحوز يريد من الورثة؛ لأن من تصدق على أجنبي في صحته بصدقة، فأجازه إياها في مرضه، يصح له إن مات منه في ثلثه؛ وقوله: إلا أنه لا يحاص بها أهل الوصايا كما يحاص بوصية الوارث، ولكنها تطرح من رأس المال كشيء لم يكن، وتكون الوصايا في ثلث ما بعدها إلى آخر قوله، هو من قول ابن القاسم متعلق بقوله، وهو بمنزلة من أوصى لوارث، لا من قول أصبغ؛ والفرق بين هذا وبين الذي يوصي لوارث بين، وذلك أن الذي أوصى لوارث، قد أراد إدخاله على الموصى لهم، فكان من حق، الورثة أن ينزلوا منزلته في محاصة أهل الوصايا، إذا لم يجيزوا له الوصية؛ والذي تصدق على وارث في صحته، وأجازه في مرضه، لم يرد إدخاله على الموصى لهم، وإنما أراد أن يأخذ صدقته من رأس ماله.
وأما قوله: ولكنها تطرح من رأس المال كشيء لم يكن، وتكون الوصايا في ثلث ما بعدها، فكان من أدركنا من الشيوخ يحملون ذلك على أنه خلاف لقوله في رسم أمهات الأولاد، من سماع عيسى، من كتاب الوصايا، في الذي يتصدق في صحته، ولا يخرج ذلك في يديه حتى يقول: إن الوصايا تدخل فيه، بخلاف إذا قال في مرضه: قد كنت تصدقت على فلان بكذا، أو قد كنت أعتقت عبدي فلانا في صحتي، فإن الوصايا لا تدخل فيه، والذي أقول به أن هذه المسألة ليست بخلاف لما وقع في رسم أمهات الأولاد، وكتاب الوصايا؛ لأن هذه المسألة لما أجاز فيها الوارث في مرضه ما كان تصدق عليه به في صحته، تبين أنه أراد أن يخرج ذلك لوارثه من رأس ماله؛ فوجب ألا تدخل فيه الوصايا، وأن يكون للورثة إذا لم يجيزوه.
وأما مسألة

(14/104)


أمهات الأولاد، فالوجه فيها أنه لما لم يحز ما تصدق به حتى مات، حمل عليه أنه أراد أن يبطل صدقته، فوجب أن تدخل فيها الوصايا، وقد روى ابن وهب عن مالك أن الوصايا لا تدخل فيه؛ والوجه في ذلك أن الصدقة إنما ردت بعد الموت بالحكم للتهمة التي لحقت المتصدق في صدقته؛ إذ لم يحزها حتى مات؛ فإنه أراد أن يخرجها من رأس ماله بعد موته؛ فوجب ألا تدخل فيها الوصايا، ولا يدخل هذا الاختلاف في هذه المسألة، ولا في مسألة الذي يقول في مرضه: قد كنت تصدقت في صحتي على فلان بكذا وكذا، أو قد كنت أعتقت في صحتي عبدي فلانا، وبالله التوفيق.

[مسألة: يقول في صدقته أشهد لك أني قد تصدقت على فلان بجميع ميراثي]
مسألة وسئل عن الرجل يتصدق بميراثه على رجل، فيقول في صدقته: أشهد لك أني قد تصدقت على فلان بجميع ميراثي، وهو كذا وكذا في الغنم والبقر والرمك، والرقيق والثياب والدور، والبور، والأرض البيضاء، فإنها لي، وفي تركة الميت جنان لم ينصها أو غير ذلك؛ هل يكون جميع ما نص، وما لم ينص للمتصدق عليه إلا ما استثنى، أم لا يكون له إلا ما نص، وقد قال في أول صدقته: أشهدكم أني قد تصدقت على فلان بجميع ميراثي، أو قال: بميراثي في كذا وكذا، إلا كذا وكذا.
قال أصبغ: أرى له كل شيء إلا ما استثنى إذا كان يعرفه، وأرى الجنان إذا كان يعرفه داخلا في الصدقة؛ لأنه إنما استثنى

(14/105)


الأرض البيضاء، ولم يستثن الجنان، إلا أن تكون الأرض هي الجنان عند الناس، وكذلك تسمى وتنسب وتعرف، فتكون له باستثنائه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه قد تصدق عليه بجميع ميراثه إلا الأرض البيضاء، فوجب أن يكون الجنان داخلا في الصدقة، إلا أن يكون عند الناس من الأرض البيضاء كما قال، وإن كان لم يسم الجنان فيما سمى؛ لأنه لما تصدق بجميع ميراثه، واستثنى منه الأرض البيضاء تبين أنه لم يرد بما سمى استيعاب جميع المورث؛ وقوله فيه أنه داخل في الصدقة إن كان يعرفه، صحيح على ما مضى من مذهب ابن القاسم في رسم الأقضية والحبس، من هذا السماع أن هبة الميراث جائزة إن لم يعلم قدره، إلا أن ينكشف أنه أكثر مما ظن به على زعمه، فيحلف على ذلك ولا يلزمه، ويأتي على ما ذكرناه هناك من قول ابن عبد الحكم في أن هبة المجهول جائزة، وإن ظهر له أنها كانت كثيرة بعد ذلك أن يكون الجنان للمتصدق عليه إذا تصدق عليه بجميع مورثه: إلا ما استثناه منه، وإن لم يعلم بالجنان، وبالله التوفيق.

[: الجارية توهب للثواب الوطء فيها فوت تجب به القيمة عليه]
ومن كتاب البيوع قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في الجارية توهب للثواب: إن الوطء فيها إذا وطئها فوت تجب به القيمة عليه، وكذلك الاعتصار إذا وطئها الابن لم يكن للأب أن يعتصر، قال أصبغ: حبلن

(14/106)


أو لم يحبلن سواء، قال ابن القاسم: ولكن التفليس إذا فلس المشتري بعدما وطئها أخذها صاحبها، وهي سلعته بعينها، وهو أولى بها، إلا أن يشاء الغرماء أن يدفعوا إليه قيمتها يوم وهبها ويأخذوها.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في الجارية توهب للثواب؛ إن الوطء فيها إذا وطئها فوت، تجب به القيمة عليه، وهو مثل ما تقدم من قوله في رسم العتق، من سماع عيسى، والاختلاف في ذلك، بل قد قيل: إن الغيبة عليها فوت تجب بها القيمة عليه، وهو قول مطرف وابن الماجشون، وأصبغ.
وقوله أيضا أنه إذا وطئها الابن لم يكن للأب أن يعتصرها، هو مثل ما مضى من قوله، في رسم باع شاة، من سماع عيسى، وذهب مطرف وابن الماجشون إلى أن الوطء لا يقطع الاعتصار؛ لأن ذلك لا يمنعه من بيعها، وما يريد من الانتفاع بثمنها، إلا أنها توقف بعد العصرة، فإن صح رحمها تمت العصرة، وإن ظهر الحمل امتنعت العصرة؛ وأما وطء الذي وهبت له هبة ثواب، فلا اختلاف في أنه ليس بفوت يحول بينه وبين أخذها في التفليس، إلا أن يشاء الغرماء أن يدفعوا إليه قيمتها، أو يأخذوها، قال في هذه الرواية يوم وهبها، ومثله في أول رسم من سماع ابن القاسم، وقد مضى هناك ذكر الاختلاف في ذلك وتوجيهه، فلا معنى لإعادته، وسمى الموهوب له مشتريا في قوله: لو فلس المشتري؛ لأن الهبة للثواب بيع من البيوع.

(14/107)


[مسألة: وهب نصف كتابة مكاتبه لرجل]
ومن كتاب المدبر والعتق مسألة
قال أصبغ: قال لي ابن القاسم فيمن وهب نصف كتابة مكاتبه لرجل، أنه إن عجز، فهو شريك له فيه بذلك؛ لأن مالكا قال: إذا وهب له الكتابة فعجز، فهو عبد للموهوب له، وقاله أصبغ كله؛ وكذلك الأجزاء كلها، قلت لابن القاسم: فوهب نجما، ولم يسمه، كيف يستأديان نجومه، قال: يكون شريكا في النجوم كلها بقدر ذلك.
قال أصبغ: يريد بقوله نجم من عدد النجوم، إن كانوا خمسة فخمس كل نجم على هذا الوجه. قال أصبغ: قال ابن القاسم: فإن عجز كان شريكا في الرقية أيضا بقدر ذلك، قال أصبغ: يريد بقوله نجم من عدد النجوم، إن كانوا خمسة فخمس كل نجم على هذا الوجه. قال أصبغ: قال ابن القاسم: فإن عجز كان شريكا في الرقية أيضا بقدر ذلك بمجرى النجوم؛ قال أصبغ: وإن سمى نجما بعينه وهبه، فعجز العبد، فلا أرى له فيه شركا؛ لأنه كأنه إنما وهب مال ذلك النجم إن تم، فإنما وهب له مالا إلا أن يزعم الواهب غير ذلك، والقول في ذلك قوله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة، لا وجه للقول فيها على المشهور في أن بيع جزء من أجزاء الكتابة جائز، كما يجوز بيع

(14/108)


جميعها، وهو قول مالك في موطئه، ويأتي على القول بأنه لا يجوز بيع جزء من أجزاء الكتابة؛ لأن الهبة في ذلك لا تحوز على الثواب، وسيأتي الكلام على هذا إن شاء الله، في رسم نذر، من سماع أبي القاسم، من كتاب المكاتب، وفي رسم الكبش، من سماع يحيى منه، وبالله التوفيق.

[مسألة: تصدقت على زوجها بجارية لها]
من مسائل سئل عنها أصبغ بن الفرج مسألة وقال أصبغ في امرأة تصدقت على زوجها بجارية لها، وكتبت له كتابا فيه تصدقت عليه بجاريتها فلانة التي اشترتها من فلان وولدها، فقال الزوج: تصدقت علي بالجارية وولدها، فقالت: إنما نسبت الجارية إلى ولدها، ولم أتصدق عليك بولدها، والجارية وولدها في بيت الرجل الذي فيه امرأته؛ فقال: إن كانت اشترتها هي وولدها، فالقول ما قالت، ولا يأخذ الزوج الولد، وله الأم وحدها، ولا يفرق بينهما.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنها إن كانت اشترتها هي وولدها، فالقول قولها: إنها لم تتصدق عليه بالولد يريد مع يمينها؛ وإن كانت لم تشترها مع ولدها، فلا تصدق فيما ادعت؛ لأنها قد تبين كذبها، ويأخذ

(14/109)


الزوج الولد مع الجارية على ما في الكتاب الذي كتبت له بالصدقة دون يمين دون، وإن لم يعرف إن كانت اشترتها مع ولدها أو دون الولد، فالقول قولها مع يمينها أنها لم تتصدق عليه بالولد؛ لأن الزوج مدع عليها بصدقة الولد، وبالله التوفيق.

[مسألة: تصدق على ابن له صغير بدنانير له عند عبده]
مسألة قال أصبغ في رجل تصدق على ابن له صغير بدنانير له عند عبده، قال: إن كان العبد حاضرا فقال السيد للعبد: خذ مالي عندك لابني فلان، ويشهد له، فتلك حيازة، وهي جائزة، وإن كان العبد غائبا، وأشهد له على الصدقة ودفع كتاب الدين إن كان له كتاب إليه، أو إلى من يحوز له، فهي جائزة.
قال القاضي: معنى هذه المسألة أن الدنانير له قبل العبد دينا ثابتا في ذمته، وذلك بين في آخر المسألة. قوله: ودفع كتاب الدين إن كان له كتاب إليه، ولو كانت الدنانير له بيد العبد وديعة وما أشبه ذلك، لم يجز؛ لأن العبد لا يجوز للأب حيازته، ويد العبد كيد سيده، وينبغي في الدين أن يحوز، ويكتفي بالإشهاد في الغائب والحاضر، وإن لم يقل له في الحاضر: اقبض ما لي عندك لابني، ولا ادفع كتاب ذكر الحق في الغائب إليه، أو إلى من يحوز له على ما قال، كمن وهب لابنه الصغير دينا له على رجل أجنبي، فحيازته الإشهاد، وإن لم يقل له: اقبض ما لي عندك لابني، ولا ادفع ذكر

(14/110)


الحق إليه، ولا إلى من يحوزه له، بيد أنه إن قال لعبده: اقبض ما لي عندك لابني، فأحضر العبد الدنانير، وأشهد أنها بيده لابن سيده على سبيل الحيازة، جاز ذلك، وبرئت ذمته منها، وإن ادعى ذلك دون الإشهاد، جرى ذلك على اختلاف قول ابن القاسم في هذا الأصل في المدونة، في مسألة الغرائر من كتاب السلم وشبهها، وقد حمل ابن المواز هذه المسألة على أن الدنانير التي لرجل على عبده أمانة عنده بيده لابن سيده، واعترض ذلك فقال: ليس يعجبنا هذا؛ أن العبد مال للأب وبيده، فكأنه لم يخرج الدنانير من يده، وحمل ذلك على أن الدنانير دين للسيد على عبده أظهر لها نص عليه في آخر المسألة، ولا تخلو مع ذلك من الاعتراض لما اشترط في صحته الحيازة من أن يقول السيد لعبده: خذ ما لي عندكم لابني، ولا يحتاج في هبة الدين إلى ذلك، حسبما تقدم في أول رسم من سماع ابن القاسم، ووجه ما ذهب إليه، والله أعلم؛ أنه حكم للدين لما كان على عبده، والعبد ملك له حكم المال الناض بيده، فأجاز الهبة فيه، وإن لم يخرجه عن يده، بأن يقول للعبد الذي هو عليه: اقبضه لابني، فيكون ذلك بمنزلة التعيين للدنانير إذا وهبها لابنه، فالإفراز لها، والطبع عليها، وإن لم يخرجها عن يده على رواية مطرف عن مالك، وظاهر ما في الموطأ، وقد مضى في سماع عبد الملك بن الحسن، في معنى هذه المسألة ما فيه بيان لها، وبالله التوفيق.

[مسألة: يتصدق على ولده الصغار بالدار والأرض ثم يموت بعد ذلك]
مسألة وسألته عن الأب يتصدق على ولده الصغار بالدار

(14/111)


والأرض، ثم يموت بعد ذلك، والولد صغار، ثم يقوم الورثة، فيريدون قسمتها ويقولون: إن أبانا لم يزل يسكن هذه الدار، ويحرث هذه الأرض حتى مات، ويقول الصغار: لا علم لنا بما يقولون، ويقولون: إن أبانا لم يسكن، ولم يحرث حتى مات، وأبونا الحائز علينا، ليس علينا أن نسأل عن شيء نحن في صدقة أبينا على حيازة أبينا لنا، إلا أن تأتوا أنتم بالبينة على دعواكم، فإنه قد اختلف في ذلك.
قال أصبغ: أما الأرض فيمكن ما يقولون فيها، وهي على كل حال صدقة، وحيازته للصغير حيازة، وإظهار الصدقة حيازة، وكالحيازة حتى يعرف خلاف ذلك؛ على أنه إنما كان يعتملها لنفسه اعتمالا دونهم بحالها الجاري فيها قبل الصدقة بها لنفسه وشائه تقوم بذكر بينة تقطعه وتعرفه، فإن كان كذلك فعسى أن تبطل، وإلا فهي صدقة ماضية للصغار، والبينة على الآخرين وهم المدعون؛ وليس على الصغار تثبيت للحيازة، وهي حيازة على ما فسرت لك، وليس عندنا في هذا كلام، وهو أصوب والحق في العلم ممن قال غيره؛ ألا ترى أنه لو تصدق على ولده الصغار بصدقة مثل هذه، ثم طرأ عليه دين قبل الصدقة، وقد كان له وفاء به يوم تصدق، ولم يرد الدين قبل الصدقة

(14/112)


أو بعدها، كانت الصدقة صدقة، وكانت الحيازة حيازة لمثلهم من مثله، وكانت أولى حتى يعرف خلاف ذلك، فبهذا يستدل على مسألتك، وعلى خطأ من قال خلافه، وعلى قوله والدار في مسألتك كذلك سواء بعد أن يكون قد تخلى من الدار فلا يسكنها، أو يكون مما لم يسكنها وهي خارجة من سكناه، وإشغاله إياها بنفسه وحشمه وماله وعياله، كحالها قبل الصدقة، فهذا الذي يبطل، وليس تفترق الدار والأرض إلا في التخلي من الدار، فإن هذا يمكن معرفته وعلمه كان يسكن أو لم يسكن، فإذا عرف أنها مما لم يكن يسكنها، أو عرف أنه قد تخلى منها، فهي بمنزلة الأرض، وهي حيازة، وإن أشكل فلم يدر أكان يسكن أم لا؟ فإن لم يكن يعرف بسكناها قط ولا نسب، فهي صدقة أيضا كالتخلي، وإن عرف أو نسب إلى سكناها قبل صدقتها، فأرى التثبت هاهنا على أهل الصدقة بالتخلي منها، وذلك إذا عرف بسكناها كلها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة صحيحة المعنى، أطال الكلام فيها إرادة البيان لها، وذلك يرجع إلى أنه في الأرض محمول على أنه إنما كان يعمره لبنيه المتصدق عليهم حتى يثبت أنه إنما كان يعمره لنفسه على حال ما كان يفعله قبل الصدقة، وفي الدار محمول على أنه كان يسكنها، أو

(14/113)


يشغلها بمتاعه وحشمه حتى يثبت انتقاله عنها، وإخلاؤه لها، وأنه لم يكن قبل يسكنها ولا يشغلها، وبالله التوفيق.

[مسألة: يتصدق بمبذر أمدا أو بحرث زوج من أرضه على ابن له]
مسألة وسألته عن الرجل يتصدق بمبذر أمدا، أو بحرث زوج من أرضه على ابن له لم يسم له موضعا من أرضه، أو بحرث زوج من أرضه، فلا يعتمل الأرض حتى يموت، أو يعتمل بعضها، ويبقى منها شيء لم يعتمله قدر الصدقة أو أكثر، أو قل، هل الصدقة جائزة؛ أو تراها مثل مسألة مالك في الغنم الذي يتصدق بعدد من غنمه، قال: إن كان وسمها، وأشهد عليها، وكيفت باختلاف الغنم الذي تصدق بها على ابنه وحرثه بالبقر وركوب الدواب، قال أصبغ: لا أراها صدقة حتى تسمى ناحيتها بحدها وعينها، وإلا كان مثل الذي ذكرت وأشد؛ لأن الغنم والخيل تتبعض، وقد أبطله مالك، وهو آخر قوله، والذي أخذنا به، وقد كان يقول بغيره ممن عمل بقوله الأول أجاز الأولى من مسألتك ولا يعجبني، ولا أراه؛ وسواء في هذا اعتمله أو لم يعتمل أو بعضها، فإما ما أردت من اختلاف الغنم، واعتمال البقر وخدمة العبيد، إذا كانت الصدقة فيهم بأعيانهم، فإذا كان من ذلك الأمر الخفيف والأمر الممزوج مرة للابن، ومرة للأب، ومرة ينتفع هذا، ومرة ينتفع هذا، ومرة بعض لهذا وبعض لهذا؛ فهذا جائز، وتكون حيازة وصدقة تامة.
قال محمد بن رشد: لا فرق بين أن يتصدق بمبذر إردب من أرضه،

(14/114)


أو بعدة من خيله في صحة حيازة الأب لذلك إذا تصدق به على ابنه الصغير، فباختلاف قول مالك من الصدقة بعدة من خيله، يدخل في ذلك، وقد مضى الاختلاف في ذلك في أول رسم، من سماع أصبغ، ومضى الكلام عليه هناك، وفي رسم طلق بن حبيب، من سماع ابن القاسم، ورسم الأقضية الثاني، من سماع أشهب، ومضى الكلام أيضا على ذلك، مستوفى في رسم إن خرجت، من سماع عيسى، من كتاب الحبس، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك؛ وأما ما ذكره في هذه الرواية من اختلاف الغنم واعتمال البقر، وخدمة العبيد، وما أشبه ذلك؛ أن الأمر الممزوج من ذلك جائز، فقد مضى تحصيل الاختلاف فيه في رسم الأقضية الثاني، من سماع أشهب، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: الأرض تكون بين النفر فيتصدق أحدهم بسهمه على رجل]
مسألة وعن الأرض تكون بين النفر، فيتصدق أحدهم بسهمه على رجل، فيعمد المتصدق عليه إلى قدر حقه من الأرض، فيعمله وحده، وأشراكه غيب أو حضور مستغنين عن عمل حظوظهم، أو ضعفوا عن عملها؛ هل ترى ذلك حيازة؟ وكيف إن عمر أقل من سهمه، هل يستوجب سهمه كله؟ قال أصبغ: أرى ألا يكون له إلا مقدار ما كان يصيبه في الجماعة مما حاز خاصة، وعمر واعتمل وخلي بينه وبينه حتى كان ذلك بعينه هو الصدقة، فحاز

(14/115)


حصته فيها، وترك ما بقي وسلم له الذي كان نصيبه منها، أو حازوه جميعا معه كما حاز، ويبطل سائره وسائر الأرض؛ قلت: أرأيت إن كانت عمارته في عام أقل من حقه، وفي عام أكثر من حقه، أو مثل اختلفت العمارة في سنين بالأقل والأكثر.
قال محمد بن رشد: قوله: إن المتصدق عليه بجزء من الأرض على الإشاعة إذا حاز مكانا معينا منها وأشراكه غيب، أو مستغنون عن الحيازة، أنه يكون له قدر حق المتصدق من الموضع الذي حازه لا أكثر؛ هو قوله في رسم الكراء والأقضية من سماعه، خلاف مذهب ابن القاسم فيه؛ وقد مضى هنالك تحصيل الخلاف في ذلك، فلا معنى لإعادته، ولم يجبه إذا اختلفت عمارته في السنين بالأقل والأكثر، والذي يأتي على مذهبه في ذلك، أن له قدر حق المتصدق من كل موضع عمره، إذا لم يعمر الأشراك شيئا مما عمر بعد عمارته إياه، مثال ذلك أن يكون عمر في عام واحد فدانا معلوما من الأرض، ثم عمر في العام الثاني فدانين معلومين منها، ثم عمر في العام الثالث ثلاثة فدادين معلومة أيضا من جملة الأرض المتصدق بها، فيكون للمتصدق عليه إن كان تصدق عليه بثلث الأرض ثلث جميع الستة فدادين، أو ربعها إن كان تصدق عليه بربع الأرض، أو أقل من ذلك أو أكثر؛ وهذا إذا لم يعمر الأشراك بعد عمارته إياه شيئا منها، فإن عمر وأشياء منها بعد عمارته إياه، بطلت عمارته فيه، ولم يكن له بها فيه حق؛ وأما إن عمر هو بعض الأرض، وعمر أشراكه سائرها على علم منهم بما عمر، فإنه يستوجب بما عمر جميع حقه، وإن كان أقل من حقه دون اختلاف في

(14/116)


ذلك، وبالله التوفيق.

[مسألة: المرأة ذات الزوج تتصدق بالدار على ولدها منه]
مسألة وسألته عن المرأة ذات الزوج تتصدق بالدار على ولدها منه، وهم صغار في حجره، والزوج ساكن بها في الدار حتى تموت المرأة، وهي في الدار مع زوجها وولدها المتصدق عليهم، أو تتصدق بذلك على كبير بائن عن أبيه، فيكريها من أبيه قبل أن يحوزها، أو يشهد له بسكنى إلى وقت، أو إلى غير وقت، ثم تموت المرأة؛ هل الصدقة جائزة في الوجهين جميعا؟ قال أصبغ: نعم، أرى ذلك جائزا إذا كان في مسألتك في الصغار قد أمكنت الأب من الدار بعد الصدقة عند الصدقة بأمر معروف، حتى لو شاء أن يخرجها أخرجها، فكان هو الذي بعد ذلك أقرها سكنى منه ومعه؛ فأما أن يكون إنما كانت الصدقة اسما، ثم استمروا على ما كانوا عليه من غير قبض معروف، ولا إمكان، ولا تخل منها إليه، ولا قبض من الكبير الذي ذكرت ولا إمكان، ثم يكون هو الذي يكري أباه بعد، ويستقبل العمل على ما شاءوا من كراء أو غيره؛ فهذا الذي يبطل ولا يكون حوزا ولا قبضا، فإذا صح كان حوزا وقبضا، ولم يكن بأدنى حال من أن لو تصدقت بها على الزوج نفسه وأمكنته، فسكن بها كما هي، فإن ابن القاسم يقول في هذا: إنه جائز له، وإنه حيازة

(14/117)


وإن أقرها؛ لأن الرجل يسكن امرأته حيث شاء، فقد صارت له وأسكنها كرها منه، لها لو أبت ألا تسكنه لم يكن ذلك لها؛ ويفرق في هذا بين صدقتها عليه، وصدقته عليها بالمنزل الذي هما فيه، ويقول: إن كان هو المتصدق ولم يخرجه، وينقلها إلى غيره يسكن بها فيه، ويتخلى منه، لم يكن لها حيازة فاستبدل.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة؛ إذ لا فرق بين أن تتصدق المرأة على زوجها بالمسكن الذي تسكن فيه معه، فيسكن المسكن معهما بعد الصدقة؛ أن ذلك حيازة؛ لأن سكناه المسكن بعد الصدقة حيازة له، وإن سكنت فيه معه؛ لأن ذلك من حقه أن يسكنها فيه شاءت أو أبت، ولا بين أن تتصدق المرأة على بنيها الصغار بالمسكن الذي تسكن فيه مع زوجها فيسكنه الأب معها بعد الصدقة؛ أن ذلك حيازة لبنيه المتصدق عليهم؛ لأن سكناه فيها تصدقت به الأم عليهم، أو غير الأم حيازة له، ومن حقه أن يسكنها فيه شاءت أو أبت؛ وقال: إن ذلك جائز إذا كانت قد أمكنت الأب من الدار حتى لو شاء أن يخرجها منها أخرجها، ولا يجوز إذا كانت الصدقة اسما، ثم استمروا على ما كانوا عليه من غير قبض معروف، ولا إمكان، ولا تخل منها إليه ولا قبض من الكبير، ولم يبين هل يكون الأمر محمولا على الإمكان، فيجوز حتى يعلم أنه كان على غير الإمكان، أو هل يكون محمولا على غير الإمكان، فلا يجوز حتى يعلم أنه كان على

(14/118)


الإمكان، والصواب في هذا أنه محمول على الإمكان، وجواز الحيازة حتى يعلم أن الأمر وقع على غير الإمكان، مثل أن تقول له: أتصدق عليك بهذه الدار التي في سكنانا على ألا تخرجني منها، وتسكن فيها معي، أو تقول له: أتصدق على بنيك بهذه الدار على أن تسكن فيها، فتلتزم الكراء لهم، ولا تخرجني منها، فلا يجوز ذلك ولا يكون سكناه معها فيها حيازة له، ولا لهم، وإنما قلنا: إن الأمر محمول على الإمكان حتى يعلم سواه؛ لأن نفس الصدقة وانتقال الملك بها إليه، أو إلى بنيه يقتضي الإمكان، فوجب أن يحمل الأمر على ذلك حتى يعلم سواه، وبالله التوفيق.

[مسألة: وهب لرجل عبدين للثواب]
مسألة قال: وسئل عن رجل وهب لرجل عبدين للثواب، فأراد الموهوب له أن يأخذ أحدهما بقيمته ويرد الآخر، وأبى ذلك الواهب، قال ذلك للموهوب له يأخذ أيهما شاء، ويرد أيهما شاء إذا أخذ بالقيمة.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ هذا أن للموهوب له أن يأخذ أحد العبدين بقيمته ويرد الآخر، خلاف نص ما له في المدونة، وخلاف ما يوجبه القياس والنظر؛ لأنه قادر على أن يأخذهما جميعا أو يردهما جميعا، فليس له أن يرد أحدهما، ويأخذ الآخر كما بيع على الخيار، أو كسلع استحقت من يد مشتر، فأراد المستحق أن يأخذ بعضها، ويجيز البيع في بعضها؛ بخلاف استحقاق أحد الثوبين، أو العبدين، أن الباقي لازم للمشتري؛ إذ لا قدرة للمستحق إلا على ما استحق خاصة، وقد مضى هذا المعنى، في رسم العتق، من سماع عيسى، ويتخرج في المسألة قول ثالث، وهو الفرق بين أن يكون

(14/119)


الذي يريد أن يرد هو الأدنى أو الأرفع، فإن كان الأدنى، لم يكن ذلك له، وأن الأرفع كان ذلك له؛ وهذا القول يأتي على قياس ما قاله ابن القاسم في المدونة في الموهوب له العبدين على الثواب، يبيع أحدهما؛ أن له أن يرد الآخر إذا لم يكن الذي باع هو وجههما؛ لأن ذلك من قوله في المدونة معارض لقوله فيها، أنه ليس للموهوب له العبدين للثواب، أن يثيبه على أحد هما، ويرد الآخر إذا لم يكن الذي باع هو وجههما، كان الأرفع أو الأدنى؛ وكذلك قال سحنون: إذا باع أحدهما لزمه الثواب فيهما جميعا، كان الذي باعه هو الأرفع أو الأدنى، وبالله التوفيق.

[مسألة: رجل وهبت له جارية للثواب فوطئها]
مسألة قيل لأصبغ: رجل وهبت له جارية للثواب فوطئها، ثم أصاب بها عيبا بعد الوطء، أله أن يردها؟ قال: نعم، إن شاء ردها بالعيب مثل البيع؛ لأن الهبة بيع من البيوع، قلت: فإن أراد أن يتمسك بها معيبة ويغرم إليه قيمتها، أي شيء يكون عليه؛ أقيمتها معيبة، أو قيمتها سليمة؟ فقال: ليس له أن يمسكها إلا بقيمتها سليمة ليس بها عيب، بمنزلة من ابتاع أمة، فظهر منها على عيب، وهي قائمة عنده لم تفت، فإن شاء ردها بعيبها، وإن شاء أمسكها بجميع الثمن، فالهبة كذلك إن شاء ردها، وإن شاء أمسكها بالقيمة كاملة؛ قلت: فإن فاتت عنده؟ قال: هذا خلاف الأول، فإن كان قد أخرج القيمة، رجع بالعيب فيها على نحو البيع سواء، وإن كان لم يخرجها، فعليه

(14/120)


قيمتها معيبة؛ لأنها هاهنا قد لزمته، وانقطع خياره في ردها بفوتها.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال أصبغ؛ لأن الوطء للجارية الموهوبة للثواب فوت تجب به القيمة على الواطئ، ويقطع خياره في ردها، فصارت القيمة في الموهوبة بالوطء كالثمن في البيع البتل، فوجب من أجل ذلك إذا وجد عيبا أن يكون مخيرا بين أن يرد أو يمسك بقيمتها التي لزمته بالوطء، وهي قيمتها سليمة من العيب الذي وجده بها، كما يكون مخيرا في البيع بين أن يردها أو يمسكها بجميع الثمن، وهذا إذا كان الواهب لم يعلم بالعيب، وأما إذا علم به، فيكون من حق الواطئ الذي علم بالعيب أن يمسكها إن شاء بقيمتها معيبة؛ لأن الواهب لما وهبها وهو عالم بالعيب، فقد رضي بقيمتها معيبة، وكذلك في كتاب ابن المواز أنه إذا وهبها وهو يعلم بالعيب، فليس له إلا قيمتها معيبة، وإن كانت قائمة؛ وقال غيره: ليس له إلا قيمتها معيبة علم بالعيب أو جهله، وأما إذا فاتت عند الموهوب له فوتا يمنعه من ردها جملة، أو من ردها دون أن يرد معها ما نقصها، فليس عليه أن يمسكها إلا بقيمتها معيبة، ولا اختلاف في هذا، وبالله التوفيق.

[: قال إن تصدقت على ابنك بعشرة دنانير فعشرتي التي لي عليك صدقة على ابنك]
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر من ابن القاسم
قال أبو زيد: سئل ابن القاسم عن رجل كان له على رجل عشرة دنانير، فقال له: إن تصدقت على ابنك بعشرة دنانير، فعشرتي التي لي عليك صدقة على ابنك، فقال الأب: اشهدوا أني قد تصدقت على ابني بعشرة دنانير وولده صغير، فلم يخرجها حتى

(14/121)


مات، قال: يرجع الذي كانت له على الأب العشرة الدنانير ويأخذها منه؛ لأن الأب لم يفرز العشرة، ولم يخرجها من يديه حتى مات؛ قال: ولو كان وضعها على يدي رجل لم يكن له أن يرجع بشيء، ولكانت للابن.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه لم يتصدق عليه بالعشرة التي له على ابنه إلا بشرط، أن يتصدق عليه أبوه بعشرة دنانير، وصدقة الأب على ابنه بالعشرة دنانير لا تصح له إلا أن يخرجها من يده، ويضعها له على يدي غيره، أو يفرزها ويحضرها ويختم عليها بحضرة الشهود على اختلاف في ذلك، قد مضى ذكره في أول رسم من سماع ابن القاسم، وفي رسم طلق ابن حبيب منه، وفي غير ما موضع؛ فإذا لم تصح صدقته على ابنه بالعشرة دنانير لم تلزمه هو صدقته عليه بالعشرة التي له على ابنه، وبالله التوفيق.

[مسألة: تصدق على رجل بفدان من أرضه يختاره حيث أحب]
مسألة وسئل عن رجل تصدق على رجل بفدان من أرضه يختاره حيث أحب، فلم يحز المتصدق عليه ذلك حتى استحقت تلك الأرض من صاحبها بقضاء من القاضي، ثم إن صاحب الأرض الذي

(14/122)


استحقت من يديه، قام يخاصم فيها يأتي بالشاهد وبالأمر بعد الأمر، وبالشيء بعد الشيء، "يخاصم فيها رجاء أن ترد، فلما كثر الشغب والخصومة أراد الذي استحق الأرض أن يقطع الشغب بينه وبين صاحب الأرض الذي استحق الأرض، فصالحه ببعضها، فجاء الذي تصدق عليه بالفدان بعد يطلبه ممن تصدق به عليه، قال: لو كان يعلم أنه لو ثبت يخاصم يريد الذي استحقت من يديه، لم يكن يدرك منها شيئا لضعف ما يطلب، لم يكن للذي تصدق عليه بالفدان شيء مما صالح عليه، وإن كان يظن أن لو ثبت على الخصومة، لرجا أن ترجع إليه الأرض على قدر ما يرى أو يرجى من غير أمر قوي، ولا بين، إلا بالرجا بينة يدعيها، أو لأمر يرجى، أو لا يرجى فصولح ببعضها؛ رأيت للذي تصدق عليه بالفدان أن يصير له نصف فدان مما صار للذي تصدق عليه، يأخذ ذلك حيث أحب من أرضه؛ وإن كان الذي استحقت من يديه لا يشك أن لو خاصم رجعت إليه، لما قد تبين عند الناس من البينة العادلة، فصالح منها ببعضها، رجع الذي تصدق عليه على صاحب الأرض الذي استحقت من يديه، فأخذ فدانا من حيث أحب يختار لا يقبض منه شيئا؛ لأنه لو خاصم استرد أرضه كلها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة صحيحة لا إشكال فيها، ولا

(14/123)


لبس في شيء من معانيها؛ إذ قد قسمها على ثلاثة أوجه لا رابع لها، وذكر الحكم في كل واحد منها، وبالله التوفيق.

[مسألة: تصدق عليه وارث بحظه في قرية مبهمة]
مسألة وسألت ابن القاسم عن رجل تصدق عليه وارث بحظه في قرية مبهمة، فعمر فيها مع الورثة قدر حظ المتصدق، ثم هلك المتصدق فاقتسم الورثة القرية، فصار للذي كان عمر منها المتصدق عليه مثل ما لغيره من الورثة، فقال: ورثة المتصدق إنما لم يحز ما تصدق به عليه صاحبنا في حياته، فقال المتصدق عليه: قد حزت منها بقدر حظه منها، وقال الورثة: الذي صار لصاحبنا لم يحز ما تصدق به عليه صاحبنا في حياته، فقال المتصدق عليه: قد حزت منها بقدر حظه منها، وقال الورثة: الذي صار لصاحبنا لم يحزه؛ فقال ابن القاسم وابن وهب: ذلك لمن تصدق به عليه إذا كان قد عمر وحاز؛ لأنه حين وقع مع الورثة فعمر معهم، وحاوزهم فيها فهي حيازة؛ لأنه إنما أسلم إليهم حقه بما أسلموا إليه من حقوقهم، فهي حيازة.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أنه يستحق جميع ما وهبه إياه الوارث بنزوله منزلته مع سائر الورثة في العمارة، وإنما وقع الاختلاف إذا عمر وحده دون سائر الورثة فدانا من الأرض بعينه، حسبما مضى بيانه في سماع أصبغ قبل هذا، وفي نوازله، وبالله التوفيق.

[مسألة: رجلين تصدق عليهما رجل بعبده وقال إن قبلتما]
مسألة وعن رجلين تصدق عليهما رجل بعبده، وقال: إن قبلتما، فقبل أحدهما، وقال الآخر: لا أقبل؛ فقال: من قبله منهما كان له ما قبل.

(14/124)


قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في رسم الثمرة، من سماع عيسى، من كتاب العتق، في الذي يقول لعبديه: إن شئتما الحرية فأنتما حران، فشاء أحدهما، ولم يشأ الآخر؛ أن الحرية تحصل لمن شاء منهما؛ ومثل قول أشهب في العتق الأول من المدونة في الذي يقول لامرأتيه: إن دخلتما الدار فأنتما طالقتان؛ أن الطلاق يلزمه فيمن دخل الدار منهما، خلاف قول ابن القاسم فيه؛ أنه لا شيء عليه حتى يدخلا جميعا، فيأتي على قوله في هذه المسألة، أنه لا شيء لمن قبل حتى يقبلا جميعا، وفي مسألة الطلاق قول ثالث: إنهما يطلقان جميعا بدخول الواحدة منهما، لا يدخل في هذه المسألة؛ إذ لا يلزم أحدهما قبول الآخر، وقد مضى الكلام مستوفى على مسألة الطلاق، في رسم إن أمكنتني من سماع عيسى، من كتاب الأيمان بالطلاق، وبالله التوفيق.

[مسألة: تصدق على رجل بخادم فاشترط عليه لنفسه خمسة أيام]
مسألة وعن رجل تصدق على رجل بخادم، فاشترط عليه لنفسه خمسة أيام في الشهر، قال ابن كنانة: ذلك جائز له، قلت له: هل يفسد هذا الشرط الصدقة؟ قال: لا، ولكنه يشدها، وما حبس لنفسه فهو له؛ قال ابن القاسم: إذا كان حبسا، فلا بأس بما اشترط، وإن كانت الرقبة بتلا، فلا خير في أن يستثني منها خدمة أيام.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذه المسألة في رسم الكراء والأقضية، من سماع أصبغ لتكررها هناك، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

(14/125)


[مسألة: خرج إلى الأندلس فقال له رجل إن لي على فلان دينارا]
مسألة وسئل عن رجل خرج إلى الأندلس فقال له رجل: إن لي على فلان دينارا وخمسة دراهم، فأنت وكيلي فاستأجر في تقاضيه بتلك الخمسة دراهم، ثم خرج فكلم الذي عليه الدينار والدراهم، فأعطاه ولم يوله أن يستأجر في الدنانير والدراهم، وقد كان أمره إذا أنت قبضت الدينار، فتصدق به عني، وكيف ترى في الدراهم؟ قال: يرسلها إليه ويتصدق بالدينار، كما أمره.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة صحيحة، وإنما قال في الدراهم: إنه يرسلها إليه، وهو لم يأمر بإرسالها؛ لأنه لم يأمره أيضا بإمساكها عند نفسه، فوسعه الاجتهاد في ذلك بحسن النظر فيها لصاحبها، فإن أرسلها مع ثقة فتلفت، لم يكن عليه ضمانها؛ وإن أمسكها مع نفسه إلى أن يسوقها هو فتلفت، لم يكن عليه ضمانها أيضا، إلا أن تطول إقامته بالأندلس، وهو يجد ثقة يوجه بها معه، فلم يفعل حتى تلفت، ولو استودعها هناك عند ثقة حتى يعلم رأي صاحبها فيها فتلفت، لم يكن عليه فيها ضمان أيضا، وقد مضى في رسم شك، من سماع ابن القاسم، من كتاب البضائع والوكالات، في نحو هذه المسألة ما يبين معناها، وبالله التوفيق.

[مسألة: تصدق على أجنبي بدينار لله]
مسألة قال ابن القاسم في رجل تصدق على أجنبي بدينار لله، ثم أدان، وحاز الذي تصدق عليه صدقته، فلم يرد الدين قبل الصدقة، أو الصدقة قبل الدين؛ قال: الصدقة أولى حتى يعلم أن الدين كان قبل الصدقة؛ قال: ولو أن رجلا تصدق على ولد له صغير فحاز له، ثم أدان بدين، ولا يدري أيهما قبل: الصدقة أو الدين؟ قال: فالدين أولى إلا أن يعلم أن الصدقة كانت قبل الدين.

(14/126)


قال محمد بن رشد: هذا من قول ابن القاسم مثل ما تقدم له في رسم الجواب، من سماع عيسى، وساوى أصبغ هناك بين حيازة الكبير لنفسه، وحيازة الأب للصغير؛ فجعل الصدقة في الوجهين جميعا أولى من الدين حتى يعلم أن الدين قبل، وقد مضى الكلام على ذلك هناك مستوفى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: العبد إذا كانت له امرأة حرة أنه يمنعها من صدقة مالها]
مسألة قال ابن القاسم في العبد إذا كانت له امرأة حرة أنه يمنعها من صدقة مالها، إذا كان أكثر من الثلث مثل الجزء.
قال محمد بن رشد: هذا من قول ابن القاسم مثل قول مالك في أول سماع أشهب، من كتاب النكاح؛ أن العبد في ذلك بمنزلة الحر؛ لأن له حقا؛ ولعله قد زادها في مهرها لما لها رجاء أن تتجمل به، ولعله سيعتق يوما من الدهر، خلاف قول ابن وهب في رسم الوصايا والأقضية من سماع أصبغ، وكتاب المديان والتفليس، وقول ابن القاسم هذا، ورواية أشهب عن مالك، أظهر من قول ابن وهب، للمعاني التي ذكرها مالك، مع عموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا يجوز للمرأة قضاء في ذي بال من مالها، إلا بأمر زوجها، إذا لم يخص في ذلك حرا من عبد، وبالله التوفيق.

[مسألة: قال لرجل خذ هذه النفقة فاجعلها في سبيل الله]
مسألة وقال ابن القاسم في رجل قال لرجل: خذ هذه النفقة فاجعلها في سبيل الله، فقال له رجل: إن هاهنا امرأة محتاجة، فقال له: ادفعها إليها، فقال: إن كان أوجبها في سبيل الله، فلا يعجبني.

(14/127)


قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه إن كان أوجبها في سبيل الله، وأراد بذلك الغزو، فلا ينبغي له أن يصرفها عما أوجبها فيه إلى غير ذلك من وجوه البر، فإن فعل لم يكن عليه ضمانها، مراعاة لقول من يقول من أهل العلم: إن للرجل الرجوع في صدقته ما لم يدفعها وكانت بيده، ولذلك قال ابن القاسم: لا يعجبني، ولم يقل: لا يجوز، وكان القياس على مذهب مالك ألا يجوز له أن يصرفها عما أوجبها فيه من السبيل، إلى غير ذلك، ولم يأثم إذا فعل ذلك، إلا أن يضمنها في ماله فيجعلها في السبيل، ولا يحكم عليه بذلك؛ إذ ليست لمعين؛ وأما إن لم تكن له نية في الغزو، فقد قال أشهب: القياس في أي سبيل الخير وضع جاز، والاستحسان أن يجعل في الغزو؛ لأنه جل ما يعنون به من قال ذلك، وأحب إلي أن يكون في سواحل المسلمين المخوفة من العدو، ولا أحب أن يجعل شيئا منها في موضع قلة الخوف، وبالله التوفيق.

[مسألة: يقول إن فعلت كذا وكذا فكل شيء لي لوجه الله فحنث]
مسألة وسئل عن الرجل يقول: إن فعلت كذا وكذا، فكل شيء لي لوجه الله فحنث، هل يدخل عليه في رقيقه عتق أم لا؟ أم هل يقومهم فيخرج ثلث قيمتهم، فيتصدق بها من ثلث ماله، أم كيف الأمر في ذلك، ولم يقل صدقة لوجه الله، قال: لا أرى فيهم عتقا، إلا أن يكون أراد العتق.
قال محمد بن رشد: إنما لم ير عليه في رقيقه عتقا؛ لأنه لم يحلف بعتق رقيقه، وإنما خلف بأن يخرج كل شيء من ماله لوجه الله، فكان مخرج ذلك الصدقة بجميع ماله إذا لم يخص شيئا من ذلك دون شيء بالتسمية،

(14/128)


فأجزأه من ذلك الثلث، ولو خص عبيده بأنهم لله، أو لوجه الله في غير يمين؛ أو في يمين، فحنث فيها؛ لكان مخرجهم العتق على ما قاله في رسم أوصى من سماع عيسى، من كتب النذور، وقد مضى هناك في هذا المعنى ما فيه بيان، وبالله التوفيق.

[: رجل تصدق على رجل بعبد أو دابة فلم يقبضها المتصدق عليه]
ومن كتاب الوصايا والحج
من سماع أصبغ بن الفرج من عبد الرحمن
بن القاسم. قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن رجل تصدق على رجل بعبد أو دابة، فلم يقبضها المتصدق عليه بها حتى باعها المتصدق أو تصدق بها، وقد علم بالصدقة أو لم يعلم؛ فقال ابن القاسم: إن كان قد علم بالصدقة، فلا أرى له شيئا، وإن كان لم يعلم بها، فهو يأخذها إن أدركها إن شاء، وإن لم يدركها فهو بالخيار: إن شاء الثمن الذي باعها به، وإن شاء القيمة؛ قال أصبغ: وهذا في البيع، وكذلك الصدقة بها بعد صدقته إن كان المتصدق عليه قد علم بصدقته، فلم يقم، ولم يقبض حتى تصدق بها على غيره، فلا شيء له؛ وإن لم يعلم أو علم ولم يفرط، فقافصه المتصدق بالندم فيها والصدقة على غيره؛ فهو أحق بها، إن أدركها قائمة، وإن فاتت كان له قيمتها على المتصدق بها؛ قال ابن القاسم: ولو كان عبدا أو جارية، فلم يقبضها حتى أعتقها المتصدق، فالعتق جائز ماض لا يرد بصدقته، ولم يعلم، وليس العتق كغيره، وقد نزلت لمالك فأمضاه ولم يرده، قال محمد بن خالد: قال لي ابن القاسم: فلو كانت جارية فأحبلها المتصدق، كانت أم ولد له، قلت لابن القاسم: فهل يكون

(14/129)


عليه قيمتها للمتصدق عليه؟ فقال: لعل ذلك أن يكون. وفي رواية أصبغ ذلك بمنزلة العتق؛ قال أصبغ: قال لي ابن القاسم: وإن كان عبدا أو جارية فقتلهما رجل، كانت القيمة للموهوب له، قيل لأصبغ: فلو دبره أو كاتبه أو أعتقه إلى أجل؟ قال: يمضي ما فعل من ذلك، ويثبت عقد العتق فيه، ولا يرجع إلى المتصدق عليه من خدمة المدبر، ولا من كتابة المكاتب شيء، ولا من رقبته إن رجع رقيقا؛ قلت لأصبغ: فإن كانت قيمة العبد ألف دينار، وعليه دين ثمانمائة دينار، وكان أن بيع أربعة أخماس العبد كله، لم يكن فيهم وفاء لدينهم؛ لأنه إذا بعض ولم يبع كله بخمس ثمنه، ولم يعط فيه إلا الأقل من دينهم، وإن بيع العبد كله، كان فيه وفاء لدينهم، وفضل مائتا دينار، قال: يباع كله، ويعطى أهل الدين دينهم، ويكون ما بقي للمتصدق به، ولا يكون للمتصدق عليه منه شيء؛ لأنه إنما كان تصدق عليه بعبد، فلما استحقه الغرماء من يديه، فبيع لهما في دينهم، سقطت صدقة المتصدق عليه، فكان بمنزلة الذي استحقه مستحق.

[: يتصدق بالعبد والدابة على رجل فلا يقبض ذلك المتصدق عليه]
قال محمد بن رشد: سألته عن الذي يتصدق بالعبد والدابة على رجل، فلا يقبض ذلك المتصدق عليه حتى يبيعه المتصدق ويتصدق به على غيره، فأجاب ابن القاسم على البيع بأنه إن كان قد علم بالصدقة، ففرط في القبض حتى باعها المتصدق، فلا أرى له شيئا يريد لا من صدقة ولا من الثمن، خلاف قوله في المدونة: إنه يكون له الثمن، وإن كان لم يعلم يريد، أو علم ولم يفرط، أخذ صدقته إن أدركها، يريد إلا أن يشاء أن يجيز البيع، ويأخذ الثمن، فيكون ذلك له، وإن لم يدركها كان بالخيار، إن شاء أجاز

(14/130)


البيع وأخذ الثمن، وإن شاء أخذ القيمة من المتصدق؛ ولم يجب ابن القاسم على الصدقة، ومذهبه في المدونة أن الصدقة بخلاف البيع، وأنه في الصدقة أحق بها- وإن قبضها الثاني، علم أو لم يعلم - فرط أو لم يفرط، وساوى أصبغ في هذه الرواية بين البيع والصدقة- فقال: وكذلك الصدقة بها بعد صدقته إن كان المتصدق عليه قد علم بصدقته فلم يقم ولا قبض حتى تصدق بها على غيره- يريد وقبض، فلا شيء له؛ وإن لم يعلم أو علم- ولم يفرط، فهو أحق بها- إن أدركها قائمة، وإن فاتت كانت له قيمتها على المتصدق، قال ابن القاسم: لو كان عبدا أو جارية فلم يقبضها حتى أعتقها المتصدق، فالعتق ماضٍ لا يرد، علم بصدقته أو لم يعلم، فالعتق عند ابن القاسم يُبطل الصدقة- علم المتصدق عليه أو لم يعلم، والصدقة لا تبطل عنده الصدقة وهو أحق بها - علم بها أو لم يعلم، قبض الثاني أو لم يقبض؛ والبيع يفترق فيه العلم مع التراخي في القبض من غير العلم، فإن علم وتراخى حتى باعه المتصدق بعد البيع، واختلف قوله في الثمن لمن يكون؛ فعلى ما في هذه الرواية يكون للبائع، وعلى ما في المدونة يكون للمتصدق عليه؛ وإن لم يعلم كان له رد البيع، وإن شاء أجازه وأخذ الثمن، وإن تلف عند المبتاع كان له على البائع الأكثر من القيمة أو الثمن، وأشهب يساوي بين البيع والصدقة، فيقول: إنه إذا لم يقبض المتصدق عليه ما تصدق به عليه حتى باعه المتصدق، أو حتى تصدق به على غيره، فقبضه المتصدق عليه الآخر، فلا شيء للأول مراعاة لقول من يرى أن للمتصدق أن يرجع في صدقته ما لم تحز عنه، وقد مضى في سماع محمد بن خالد تحصيل الاختلاف فيمن تصدق بعبد ثم أعتقه قبل أن يقبضه المتصدق عليه، وإنه يتحصل في ذلك أربعة أقوال، ويدخل الاختلاف بالمعنى من مسألة العتق في الصدقة والبيع، فيتحصل في الصدقة أيضا أربعة أقوال، أحدها ظاهر قول ابن القاسم في

(14/131)


المدونة أن الأول أخف من الثاني- وإن قبض، فرط أو لم يفرط والثاني ظاهر قول أشهب فيها أن الثاني أحق من الأول، إذا قبض - فرط أو لم يفرط. والثالث: الفرق بين أن يعلم فيفرط أو لا يعلم. والرابع: الفرق بين أن يمضي من المدة ما كان يمكنه فيه القبض- لو علم، أو لا يمضي منها ما كان يمكنه فيه (القبض) ويتحصل في البيع خمسة أقوال، أحدها: أن المبتاع أحق من المتصدق عليه- فرط أو لم يفرط، وهو قول أشهب في المدونة.
والثاني: أن المتصدق عليه أحق بما تصدق به عليه وإن مضى منها ما يمكنه فيه الحوز، لم يكن له إلا الثمن إن كان لم يفرط في الحيازة وإن كان فرط كان له الثمن وهو مذهبه في المدونة، والثالث: أن المتصدق عليه أحق بما تصدق عليه إن كان لم يفرط في الحيازة، وإن كان فرط فيها لم يكن له شيء، وهو قوله في هذه الرواية. والرابع: الفرق بين أن يمضي من المدة ما يمكنه فيه الحوز لو علم، أو لا يمضي منها ما كان يمكنه فيه الحوز فإن لم يمض والمدة ما يمكنه فيه الحوز كان أحق بما تصدق به عليه، وإن مضى منها ما يمكنه فيه الحوز لم يكن له إلا الثمن. الخامس: أنه إن مضى منها ما يمكنه فيه الحوز، لم يكن له شيء، وهذان القولان مخرجان على قول المخزومي في العتق، وقد مضى في سماع محمد بن خالد تحصيل القول في الذي يتصدق على رجل بجارية فيولدها فلا معنى لإعادته، والتدبير والكتابة والعتق إلى أجل كالإيلاء، سواء فيما يجب للمتصدق عليه قبل، يبطل ذلك كله وتجوز الصدقة؛ وقيل: يجوز ذلك كله وتبطل الصدقة ولا يكون للمتصدق عليه شيء. وقيل تكون له القسمة إذا بطلت الصدقة، ويدخل في ذلك الاختلاف الذي ذكرته في العتق بين أن يعلم المتصدق عليه بالصدقة فيفرط في الحيازة أو لا يفرط، وبين أن يمضي من المدة ما يمكن فيه الحوز، أو لا يمضي منها ما

(14/132)


يمكن فيه الحوز؛ وأما إذا تصدق بالعبد ثم قتله، فلا اختلاف أحفظه في أن القيمة عليه واجبة للمتصدق عليه. وقوله في الذي تصدق على رجل بعبد قيمته ألف دينار وعليه دين ثمانمائة دينار، ولا يفضل منه عن الدين شيء- إن بيع بعضه لضرر الشركة، فيبيع كله، أن الفضل عن الدين يكون للمتصدق لا للمتصدق عليه- صحيح لا اختلاف فيه أحفظه، والصواب في هذا أن يباع على التبعض، يقال: من يشتري من هذا العبد بعضه بثمانمائة دينار، فيقول الرجل أنا آخذ ثلاثة أرباعه بثمانمائة دينار، ويقول الآخر أنا آخذ أربعة أخماسه بثمانمائة دينار، ويقول الآخر أنا آخذ تسعة أعشاره بثمانمائة دينار؛ فإن لم يوجد من يعطي فيه ثمانمائة دينار- على أن يبقى للمتصدق عليه فيه شيء- وإن قل، ووجد من يعطي فيه كله أكثر من ثمانمائة دينار، لم يكن للمتصدق عليه في الفاضل عن الدين من ثمنه شيء، وبالله التوفيق.

[مسألة: يشهد أنه اشترى لابنه هذه الدار بألف دينار من مال ابنه]
مسألة وسئل أصبغ عن الرجل يقول وهو صحيح- ويشهد: أنه اشترى لابنه هذه الدار بألف دينار من مال ابنه فيما زعم، ويشهد أنه إنما كان يكريها ويغتلها له، وباسمه ثم يموت على ذلك وهو صغير في حجره، ولا يعلم لابنه مال من وجه من الوجوه لا من مورث ولا من غيره من هبة ولا صدقة، ثم مات الأب؛ قال أرى هذا تولجا منه إليه، وأراها ميراثا بين الورثة؛ لأنه لم يتصدق بها عليه على وجه الصدقة، فيحوز له في حياته، وتكون على وجه صدقة الرجل على ولده الصغير وهو في حجره يتصدق عليه، ويحوز له، وهذا لم يسمها صدقة، إنما ولج إليه ماله وزعم أنه مال للولد، ولم يعرف له مال بوجه من الوجوه، فهو يولج إليه ماله، وهو غير صدقة على وجه الصدقات؛ وإنما ذلك بمنزلة الذي يقول في مرضه: قد كنت أعتقت عبدي فلانا، وأنا صحيح، ولا يقول أنفذوه؛ فهذا باطل ولا يخرج

(14/133)


من الثلث؛ لأنه إنما أراد به رأس المال، ولم يرد به الثلث، فليس له أن يعتق في مرضه من رأس ماله، وهو أيضا لا يعتق في الثلث؛ لأن الميت إنما أراد أن يخرجه من رأس المال فلا عتق له إلا أن يقول أنفذوه، فينفذ في الثلث.
قال محمد بن رشد: حمل بعض الناس قول أصبغ هذا على خلاف لما وقع في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم في الذي يشتري لابنه الصغير في حجره غلاما، ويشهد أنه إنما اشتراه لابنه، ثم يموت الأب؛ أنه يكون للابن ولا يكون للورثة الدخول عليه فيه، وليس ذلك بصحيح؛ لأنهما مسألتان مفترقتان، هذه قال فيها إنه اشترى لابنه من مال الابن، فإذا لم يعلم للابن مال من وجه من الوجوه، تبين أن ذلك توليج من الأب لابنه، ولج إليه ماله وزعم أنه مال الابن؛ وتلك لم يقل فيها أنه اشترى من مال الولد، فوجب أن يكون العبد للابن مالا وملكا بنفس الشراء؛ لأنه إنما اشتراه بمال وهبه إياه فلا يحتاج إلى أن يحوز الأب له عن نفسه إذا لم يتقرر له عليه ملك، وإنما قول أصبغ خلاف لما في رسم الشجرة من قول مالك في أن الابن ينتفع بحيازة أبيه فيما ولج إليه من ماله على غير سبيل العطية، مثل قول ابن القاسم فيه من رواية عيسى في كتاب داود، وقد مضى بيان هذا كله مستوفى في رسم كتب عليه ذكر حق، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
تم الجزء الرابع من الصدقات والهبات، وبتمامه تم كتاب الصدقات والهبات، والحمد لله رب العالمين، والصلاة الكاملة على سيدنا ومولانا محمد سيد الأولين والآخرين، وسلم كثيرا.

(14/134)