البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة

 ( كتاب الدعوى والصلح )
من سماع ابن القاسم من مالك - من كتاب الرطب باليابس
قال سحنون أخبرني ابن القاسم عن مالك فيمن اشترى سلعة أو تكارى دابة ، فقال اشتريتها لامرأتي نقد الثمن أو الكراء أو لم ينقد ، وقد حازت المرأة الدابة أو سكنت المنزل ، ثم طلب منها الثمن ؛ فقالت قد دفعته إليك ولا بينة لها ؛ قال إن كان نقد الثمن ، فيمين المرأة بالله لقد دفعت إليه ثمنها - وما عندي منه قليل ولا كثير ؛ وإن كان لم ينقد حلف الزوج بالله ما اقتضيت من ثمنها شيئاً ، ثم يأخذه منها ؛ قال سحنون وعيسى : وإن اشهد الزوج عند دفعه الثمن إلى البائع أنه إنما نقد من ماله ، ثم قالت المرأة أنا دفعت إليه الثمن ؛ الم أجعل القول قول الزوج مع يمينه .

(14/135)


قال محمد بن رشد : قول سحنون وعيسى بن دينار بعيد في النظر ، لأنه يتهم على أن يتقدم بالاشهاد على ذلك ليكون القول قوله ، فلا ينبغي أن يحمل على التفسير لقول مالك ، ووقع في رسم استأذن من سماع عيسى من كتاب البضائع والوكالات في الرجل يوكل الرجل على شراء السلعة فيشتريها وينقد الثمن ، ثم يطلبه من الأمر ، فيقول قد اعطيته لك وإنما اشتريتها من دراهمي ، أن أقول قول الوكيل المشتري من يمينه ، يحلف ما أخذ منه ثمنها ثم يأخذه منه ، فقال بعض أهل النظر : المعنى فيها أن الأمر لم يقبض السلعة ، ولذلك كان القول قول المأمور ، فليست بخلاف لما في سماع ابن القاسم في هذه الرواية ، لأن الرجل سفير امرأته على ما قال في رسم حلف من سماع ابن القاسم من الكتاب المذكور ، والصواب إنها خلاف لها ؛ لأنه لم يعلل فيها بقبض السلعة ، ولا يصح أن يعلل بذلك على مذهب ابن القاسم ، لأنها ليست برهاناً له على مذهبه يجب هل امساكها حتى يقبض الثمن ، بل يلزمه دفعها إليه واتباعه بالثمن ؛ وإنما يصح أن يعلل بقبض السلعة على مذهب أشهب الذي يراها رهناً بيده ، من حقه أن يمسكها حتى يقبض الثمن ، وإنما وجه ما في سماع عيسى المذكور ، أنه احل المأمور محل البائع في أن القول قوله أنه لم يقبض الثمن - وإن كان قد دفع السلعة ، فالفرق بين أن أن يقبض الأمر السلعة أو لا يقبضها ، قول ثالث في المسألة يخرج على مذهب أشهب ، وفي كتاب ابن المواز قول رابع أن القول قول الأمر نقد المأمور الثمن أو لم ينقده ؛ وتفرقة عيسى وسحنون بين أن يشهد الزوج أو لا يشهد ، قول خامس في المسألة ؛ فهذا تحصيل القول فيها ورواية ابن القاسم عن مالك ، الفرق بين أن ينقد أو لا ينقد ؛ وقول أشهب الفرق بين أن

(14/136)


يقبض الأمر السلعة أولاً يقبض ؛ وقول سحنون ، وعيسى الفرق بين أن يشهد المأمور أو لا يشهد ورواية عيسى القول قول المأمور نقد أو لم ينقد ، وما في كتاب ابن المواز ، القول قول الأمر نقد
المأمور أو لم ينقد ؛ وقد مضى هذا كله في الرسم بعينه من هذا السماع من كتاب البضائع والوكالات ، لتكرر المسألة هناك . وقد اجمعوا على أن الرجل إذا بنى في الأرض امرأته أو في دارها ثم طالبها بالنفقة ، وادعت إنها دفعت ذلك إليه ، أن القول قوله على كل حال ، والفرق بين ذلك وما ذكر هنا ، أنه في هذه المسألة اقر إنما اشترى لامرأته ، ولم يقل في البناء . وإنما بنيت لامرأتي ، ولو قال ذلك لكان فيه كالحكم في هذه ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب قطع الشجر
وقال مالك في أمة كانت بين رجلين فجحد أحدهما نصيب صاحبه منها ولم يجد صاحبه بينة حتى ولدت أولاداً كثيراً ، فأعتق منهم ووهب ، ومات بعضهم عنده وباع منهم ، فود شريكه البينة وثبت حقه ؛ قال أما ما باع فله نصف الثمن أو نصف الرأس حيث وجده . وأما ما اعتق فله نصف القيمة عليه ، إلا أن يكون لا مال له فيكون له نصف المعتق ونصفه ذو القيمة يوم وقع ذلك ، ومما يبين ذلك ، أن لو مات أحد ممن اعتق ، لم يكن للطالب على المعتق شيء ؛ فلذلك تكون القيمة يوم وقع ذلك ، وأما ما

(14/137)


وهب ، فإن له نصيبه من كل رأس أدركه إن وجده بعينه ، وما مات ممنم وهب ، لم يكن للطالب فيهم شيء .
قال محمد بن رشد : قوله فوجد شريكه البينة وثبت حقه ، محتمل أن يون وجد البينة على ما أدعاه عليه من أنه جحده نصيبه ( فيكون بما ثبت عليه من أنه جحده نصيبه ) كالغاصب له فيه يلزمه قيمته إن ماتت الأمة ؛ ويحتمل أن تكون البينة إنما شهدت بأن الجارية بينهما ، ولم تشهد بما ادعاه عليه من الجحود ، فلا يلزمه ضمان نصيبه من الجارية إن مات - على مذهب ابن القاسم في رواية اصبغ عنه ، خلاف ظاهر ما في آخر كتاب الشركة من المدونة ، إذ لم يفرق في ذلك بين الحيوان وغيره مما لا يغاب عليه ، ولو ادعى أن الجارية بينهما وأثبت ذلك - وقد ماتت بعد أن أنكره ولم يدع عليه أن جحده ، لم يكن له عليه ضمان في نصيبه باتفاق ، فوجه يضمن له فيه نصيبه من الجارية باتفاق ، ووجه لا يضمن له باتفاق ، ووجه يختلف في وجوب الضمان عليه فيه ؛ وقد مضى هذا لمعنى موجوداً في رسم حمل صبيا من سماع عيسى من كتاب الاستحقاق ، وفي نوازل سحنون من كتاب الرهون ؛ ولو كان مع الأمة ولد يوم التداعي أنه جحده إياهم مع الأم ، كان حكم نصيبه منهم حكم نصيبه من الأم في ضمانهم بالموت ، ولم يتكلم في هذه الرواية على ذلك ، ولا على موت الأمة ؛ وإنما تكلم على موت ما حدث لها من ولد بعد الجحود ، فقال إنه لا شيء له عليه فيمن مات منهم ، إلا أن يكون قد باع

(14/138)


منهم ، فيكون له نصف ثمن ما باع ؛ ولو أدركهم عند المبتاع قبل أن يموتوا ، لكان مخيراً بين أن يأخذ حظه منهم ، أو يجيز البيع ويأخذ الثمن ؛ وأما ما وهب منهم ، فله حظه فيهم إن أدركهم ؛ وإن ماتوا ، لم يكن له شيء ؛ وأما ما إلى'تق فله قيمة حظه منهم ، إن كان ملياً ؛ وإن كان معدماً ، أخذ حظه منهم إن أدركهم وكان حظ المعتق منهم أحراراً ؛ وإن لم يدركهم حتى ماتوا لم يكن له على شريكه فيهم شيء ، لأن القيمة إنما تلزمه فيهم يوم الحكم ، فلا شيء عليه فيمن مات منهم قبل ذلك ؛ هذا مذهب ابن القاسم فيما حدث من ولد الأمة بعد الجحود - وإن
أقام البينة على ذلك ، لأن الغاصب للأمة لا يضمن عنده ما مات من ولدها الذين حدثوا لها بعد الغصب ؛ وأشهب يرى الغاصب ضامناً لما مات من الأولاد ، بمنزلة ما لو غصبهم مع الأمهات ، فعلى مذهبه يفترق الأمر في الأولاد بين ألا يدعي الجحود ، أو يدعيه فيقيم البينة عليه ، أو لا يقيمها إلا على الملك حسبما حكيناه على مذهب ابن القاسم في الأمهات ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب أخذ يشرب خمراً
قال وسئل عن المرأة يسألها زوجها ، وهو مريض ، أن تهب له حظها في داره من ميراثها ، فأبت وقالت إني أحوج إليه منك ، فقال لها : والله لئن لم تفعلي لأضيقن عليك ولا أدعك تأتي أهلك ، ولا أدعهم يأتونك ما دمت زوجتي ؛ فلما رأت ذلك أشهدت له بأنها قد وهبت له ميراثها ، فأوصى فيه ألها أن ترجع ؛ فقال نعم ، فقال له السائل إن الذي تدعي المرأة من أنه قال لها ذلك ، لا بينة لها عليه ، إنما هو شيء تدعيه ؛ افترى ذلك ينفعها ؟ قال نعم ، إني لا

(14/139)


أرى ذلك ينفعها ، والمرأة في ذلك ليست كغيرها من الورثة مثل الابن البائن المنقطع عن أبيه فذلك الذي يجوز عليه ما صنع من ذلك .
قال محمد بن رشد : رأى للمرأة أن ترجع فيما وهبت لزوجها من ميراثها منه - وإن لم تكن لها بينة على ما ادعت من أنه قاله لها ، بل لها أن ترجع وإن لم تدع أن خوفها بذلك الكلام ، ولا قاله لها ؛ بدليل قوله والمرأة في ذلك ليست كغيرها من الورثة ، إلخ قوله ، وذلك مثل قوله في المدونة في الذي يستأذن في أن يوصي لوارث ، وبأكثر من ثلثه فيأذنون له في ذلك ، أن لمن كان منهم في عياله وإن كان مالكاً لأمر نفسه مثل الزوجة ، والابن الذي لم يبن عن أبيه ، وهو في عياله - أن يرجع عنه ، إذ لا فرق بين أن يهب له ميراثها منه وهو مريض فيقضي فيه ، ثم تريد الرجوع عنه بعد موته ، وبين أن يأذن له في الوصية بأكثر من ثلثه - وفي الوصية لوارث فيفعل ، ثم يريد الرجوع عنه بعد موته ، ولو استوهبها شيئاً من مالها في مرضه فوهبته إياه ، لم يكن لها أن ترجع فيه على ما مضى في رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب الصدقات والهبات ، إلا أن يثبت أنه اكرهها على ذلك بالتخويف ، مثل أن يقول لها إن لم تفعلي لأفعلن بك كذا وكذا ، وقد مضى في رسم نقدها من سماع عيسى من الكتاب المذكور ، و في رسم العتق من سماع عيسى من كتاب الشهادات تحصيل القول في هبة الرجل ميراثه من أبيه في صحة أبيه أو في مرضه لبعض الورثة ، أو الأجنبي ، فلا معنى لإعادة ذلك ، وبالله التوفيق .

(14/140)


ومن كتاب أوله مرض وله أم ولد
قال وسئل مالك عن رجل هلك وله امرأة وترك جارية حاملاً فأراد ورثته إني صالحوا امرأته على حقها ، قال مالك لا يصح في مثل هذا الصلح ، لأنه لا يدري أيكون لها ثمن أو ربع ، فلا أرى هذا يجوز ( ولا أحبه ) .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قاله أن إذا لا يجوز لأن الزوجة صالحت قبل أن تعلم أن كان يجب لها ثمن أو ربع ، لأنها إن ولدت حملها ميتاً ، أو انفش ، وجب لها الربع ، وأن ولدته حياً وجب لها الشيء ؛ وصالحها الورثة قبل أن يعلموا ما وجب لهم من الميراث وأن كان يجب لهم منه شيء أم لا ، لأنها أن ولدت حملها حياً ذكراً ، لم يجب لهم شيء ، وإن ولدته حياً أنثى وجب لهم ثلاثون أثمان المال ، وإن ولدته ميتاً ، وجب لهم ثلاثة أرباعه ؛ فالصلح غرر من جهة الزوجة ومن جهة الورثة ، ولو لم يكن الصلح غرراً ، مثل أن يترك الميت حملاً وبنين ، فصالح البنون الزوجة عن ثمنها فيما تخلفه أبوهم بعرض أو بعين عما تخلفه من العروض ، لما جاز الصلح على الحمل إن وضعته حياً ، إلا أن يجيز ذلك الناظر له ، لما يراه فيه من الغبطة له ؛ وقد رأيت لابن دحون في هذه المسألة كلاماً فيه نظر ، قال إنما لم يجز هذا الصلح ، لأن الذي في البطن ليس ثم أحد يصالح عنه ، ولا يجوز الصلح عنه ؛ وليس ما اعتل به في الكتاب صحيحاً ، لأن الميت لو كان له ابن وترك حملاً لم يجز صلح المرأة مع علمنا بأن نصيبها الثمن من غير

(14/141)


شك ، لأن الحمل لا يصالح عنه ، وأشهب يجيز هذا الصلح عن الحمل إذا كان نصيب المصالحة معلوماً مثلما ذكرناه ، هذا نص كلامه ، فقوله إنما لم يجز هذا الصلح ، لأن الذي في البطن ليس ثم أحد يصالح عنه ولا يجوز الصلح عنه ؛ ليس بصحيح ، لأن الفساد املك به ، للغرر الواقع فيه بين المتصالحين ، إذ لم يدر واحد منهم مقدار ما صالح عنه على ما بيناه من الحق الواجب في فسخه للمولود ، إذ ليس الصلح بفاسد من جهته ، فلو لم يكن فيه غرر من جهة المتصالحين ، لجاز إن أجازه الناظر للمولود .
وقوله : وليس ما اعتل به في الكتاب صحيحاً ، لأن الميت لو كان له ابن وترك حملاً لم يجز صلح المرأة مع علمنا بأن نصيبها الثمن من غير شك ، لأن الحمل لا يصالح عنه ؛ ليس بصحيح أيضاً ، لأن الميت إذا لم يترك ولداً ، فالصلح فاسد لا يجوز إمضاءه ، للغرر الواقع بين المتصالحين فيه ، وإذا ترك ولداً فالصلح ليس بفاسد ، وإنما هو غير جائز على المولود إن ولد حياً ، إلا أن يجيزه الناظر له ؛ وفي قوله : وأشهب يجيز هذا الصلح عن الحمل إذا كان نصيب المصالحة معلوماً - نظر ، لأنه يقتضي أن غيره يخالفه في ذلك ، ولا خلاف عندي في أن للناظر على الحمل أن يجيز الصلح عليه ويمضيه إذا رآه نظراً له ، ولم يكن فيه غرر ولا فساد ، لعلم الزوجة بنصيبها ( ولا خلاف عندي في أن للناظر على الحمل أن يصالح الزوجة عنه قبل أن يوضع - إذا كان نصيبها معلوماً ) وبالله التوفيق .
ومن سماع أشهب وابن نافع من مالك من كتاب الأقضية
قال سحنون أخبرني أشهب وابن نافع ، قالا سئل مالك عمن

(14/142)


اتاه ابن عم له فسأله أن يسكنه مسكناً ، فقال نعم ، خذ مسكناً كذا وكذا ، فقال لا أريد ولكن أعطني مسكناً كذا وكذا ؛ فقال لا أقدر على ذلك ، هو لامرأتي ، ثم جاء ابن عم له آخر نف سأله إياه ، فقال لا اقدر على ذلك هو لامرأتي ؛ ثم بلغ ذلك امرأته فخاصمته على المسكن ، فقال إنما قلت ذلك تمخياً منهما ، وشهد بذلك عليه ؛ اترى المنزل لها ؟ فقال ما أرى ذلك لها ، ليس هذا على وجه العطية ، والناس يتمخون بمثل هذا ؟ فلا أرى لها شيئاً ؛ قد يطلب السلطان من الرجل العبد ، أو الأمة ، فيقول في الغلام مدبراً ويقول في الجارية قد ولدت مني مخافة أن يأخذهما منه ، فلا يلزمه ذلك ؛ وليس مثل هذا شهادة ولم يشهدوا على ذلك ، فلا أرى تلك شيئاً ، وقد قال إبراهيم بل " فعله كبيرهم هذا " ، وقد خرج عمر بن الخطاب إلى الشام فتلقاه عجمها يركب خلف اسلم ، وقلب فروه فجعلوا كلما لقوا أسلم ، قالوا أين أمير المؤمنين ؟ فيقول أمامكم ، أمامكم حتى أكثروا - وعمر يسمع ذلك ولا ينهاه ؛ فهذا تصاريف الكلام ؛ فقال له عمر : أكثرت عليهم ، أخبرهم الآن ؛ فسألوه : فقال هو هذا ؛ فوقفوا كالمتعجبين من حاله ، فقال عمر لا يروه على كسوة قوم غضب الله عليهم ، فنحن تزدرينا أعينهم ، ثم لما يزل قابضاً بين عينيه حتى لقيه أبو عبيدة

(14/143)


ابن الجراح فضحك وقال له أنت أخي حقاً لم تغيرك الدنيا ؛ ولقيه على بعير خطامه حبل شعر أسود ، قال مالك وتلقى عمر يومؤذ ببرذون عار فركبه ثم نزل عنه وسبه ، فقيل له ما له ؟ فقال حملتموني على شيطان حتى أنكرت نفسي ! وقد روى عيسى عن ابن القاسم مثل هذا سواء في الرجل يقال هذه أتبيع جاريتك ؟ فقال هي لامرأتي ، أو لرجل أجنبي ، ثم تدعي ذلك المرأة والرجل الأجنبي في حياته ، أو بعد موته ؛ لا شيء لهما ، إلا أن يأتيا عليه بشهود بصدقة قد جرت ، أو هبة ؛ قال : وسواء قال هي لامرأتي ، أو قال هي جارية
امرأتي ؛ وإنما هي كذبة كذبها ، وكلام اعتذر به .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة حسنة جيدة صحيحة ، وسيأتي مثلها زيادة عليها في الذي تخطب إليه ابنته فيقول قد زوجتها فلاناً في رسم العشور من سماع عيسى بعد هذا ، وقد مضى مثلها في رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب الصدقات والهبات ، والكلام عليها هنك مستوفى ولا فرق عند مالك بين أن يقول في اعتذاره هو لفلان أو قد تصدقت به على فلان على ما قاله في أول سماع أشهب منه ، خلاف ما ذهب إليه اصبغ من الفرق فين ذلك على ما يأتي له في رسم العشور المذكور من هذا الكتاب ، وأن معنى ذلك إنما هو إذا عرف الملك له ؛ وأما إذا لم يعرف الأصل له ، فإقراره به للمقر له وإن كان على هذا الوجه من الاعتذار عامل على ما يأتي في رسم الكبش من سماع يحيى من كتاب العتق ، وهو دليل قوله في رسم العشور بعد هذا ما هذا الكتاب وبالله التوفيق .

(14/144)


ومن كتاب الاقضية الثالثة
وسئل عن رجل كانت كانت في يده جارية فتسوق بها ، فجاءه قوم فقالوا نحن نشهد أن هذه الجارية مسروقة ، ثم ذهبوا عنه ورجعوا إلى بلادهم ؛ أترى أن يخلفها ههنا بالمدينة ، أو يسير بها معهم إلى مصر ، فإن جاءوا يطلبونها وجدوها من قريب ؛ قال : يسير بها معهم إلى مصر ، هو أحب الي من أن يخلفها بالميدنة ، فإن جاءوا يطلبونها ، اشتدت مؤونتها . قلت له أرأيت إن خلفها فماتت ، أترى لهم عليه ضماناً ؟ فقال لا أرى ذلك عليه ، وليس عليه في هذا ضمان ؛ وأنا أحب أن يشهد قوماً عليها فيقول هذه الجارية اعترفت في يدي ، ثم ذهب الذين اعترفوها فلم يأتوني ؛ فإذا كان هكذا ، فلا بأس ، وأحب إلي أن يسير بها معه ولا يبيعها ؛ فقال لا آمره بذلك .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة بينة ، ظاهرة المعنى ، فلا وجه للقول فيها ، وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل مالك عمن أتى رجلاً فقال له إن لي عليك عشرة دنانير من ثمن سلعة بعتكها ، فقال الرجل لا ، ولكن لك عندي عشرة دنانير وديعة استودعتنيها فضاعت ، القول قول من زعم إنها وديعة ، ويحلف أنها ما كانت إلا وديعة ، وأنها قد ضاعت ، ولا شيء عليه .

(14/145)


قال محمد بن رشد : هذه مسألة بينة صحيحة لا أشكال فيها ، إذ لا يؤخذ أحد بأكثر مما يقر به على نفسه ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البينة على من ادعى واليمين على من أنكر . والذي ادعى العشرة دنانير من ثمن سلعة باعها مدع ، عليه إقامة البينة ؛ والذي أنكر ذلك مدعى عليه ، فعليه اليمين ؛ والقول قوله في يتلف الوديعة التي أقر بها ، كما لو ثبتت عليه فادعى تلفها ؛ ولا اختلاف في هذه المسألة ، لأن الذي ادعى عليه العشرة من الشراء ، منكر أن يكون اشترى ، فالقول قوله إنه ما اشترى منه شيئاً ، بخلاف إذا دفع إليه مائة أو عشرة ، فقال الدافع دفعتها إليك سلفاً ، وقال القابض بل دفعتها الي وديعة فضاعت ؛ هذه يختلف فيها ، فيقول ابن القاسم القول قول الدافع ، ويقول أشهب القول قول القابض على أصله في أنه لا يؤخذ أحد بأكثر مما يقر به على نفسه ، وهو قول مالك ، رواه عنه ابن وهب ، وقول ربيعة ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب الأقضية الذي فيه مسائل ابن القاسم
وسأل ابن كنانة مالكاً عن الرجل في يديه دور ، فيأتي رجل فيقول إن هذه الدور لجدي ، فيسأل عن ذلك ؛ أيقر أم ينكر

(14/146)


ويقول ليقم البينة على ما ادعى ، فأما أنا فلا أقر ولا أنكر ؛ أيجبر على ذلك ، أم يترك على حاله ويقال للمدعي أقم البينة ، فقال اكتب إليه لا بل يجبر حتى يقر أو ينكر لا يترك وما أراد .
قال محمد بن رشد : المعنى في هذه المسألة ، أن المدعي للدور التي في يدي الرجل إنها لجده ، يعلم أنه وارث جده بتثبيت المواريث بذلك أو بإقرار المدعى عليه له بأنه وارثه ، إذا لو لم يعلم بأنه وارثه لم يجب على المدعى عليه أكثر من اليمين أن الدور حقه وماله ومالكه ، لا حق له فيها معه بإجماع واتفاق ؛ وأما إذا علم أنه وارثه ، فقال في هذه الرواية إنه يلزم المدعى عليه أن يقر بأن الدور لجده – يريد فيأخذها إذ قد علم ميراثه له ، أو ينكر – يريد فيكلف الطالب إثبات ملك جده لها ، وانه لم يفوتها في علم من شهد بذلك إلى أن توفي عنها ، فإن أبي أن يقر أو ينكر ، اجبر على ذلك ؛ مثل هذه الرواية حكى ابن المواز عن مالك من رواية ابن الماجشون عنه ، وقال إنها صواب ، وحكى ابن العطار أن العمل جرى بها ، وهي تحمل على إنها خلاف لما في المدونة لقوله فيها وأن لم يثبت لم يسأل الذي في يديه الدار عن شيء ؛ فمن ذهب إلى إنها خلاف لما في المدونة ، قال : الذي يأتي على مذهبه في المدونة أنه إذا ادعى أن الدور لجده وثبت المواريث ( لم يسأل الذي في يديه الدور : من أين صارت إليه ، ولا إن كانت لجده أم لا ، وإنما يسأل هل يقر أن الدور له أم ينكر ذلك بان يقول إنها مالي وملكي ، لا حق له معي فيها ، ولا أعلم له حقاً معي فيها .
وقد اختلف هل يحلف على ذلك أم لا ، فقيل أنه يحلف ، وقيل أنه لا يمين في دعوى الأصول ؛ وليس في المدونة 9 - عندي - ما يخالف هذه الرواية بنص ولا دليل ، لأنه إنما تكلم فيها على أن الطالب اثبت أن الدار لجده ، فقال إن ثبت المواريث ، كلف أن

(14/147)


يقيم البينة على الوجه الذي صارت إليه من قبل جده ، أو من قبله هو بما يصح أن يثبت به ذلك ، وإن لم تثبت الموارث ، لم يسأل الذي في يديه الدار عن شيء ؛ معناه لم يسأل من أين صارت إليه ، ولا هل كانت لجده أم لا ؟ ولا يلزمه أكثر من أن يقر أو ينكر - بان يقول إن الدار ماله وملكه ، لا حق للقائم فيها معه ؛ فتحصيل القول في هذه المسألة ، أن الطالب إذا لم يثبت المواريث ، فسواء أثبت أن الدار لجده أو لم يثبت ذلك ، لا يلزم المقوم عليه سوى التوقيف على الإقرار أو الإنكار ؛ وإذا ثبت أن الدار لجده ، وثبتت المواريث ، كلف الذي هي في يده أن يثبت تصييرها إليه من قبل الذي ثبتت له بما يصح أن يثبت به ذلك من بينة على القطع أو على السماع مع طول الحيازة ، إلا أن يكون الطالب حاضراً معه مدة تكون الحيازة عليه فيها عاملة ؛ واختلف إذا ثبتت المواريث ولم يثبت أن الدار لجده ، فقيل إنه لا يلزم المطلوب أكثر من أن يوقف على الإقرار أو الإنكار ، وهو الذي ذكرنا أنه يتأول على ما في المعونة .
وليس ببين فيها ؛ وقيل إنه يوقف ويسأل من أين صارت إليه ، وهل كانت لجد القائم وهو قول مالك في هذه الرواية ، قال إنه يجبر على ذلك ، قيل بالسجن وقيل بالضرب ؛ وليس ذلك عندي اختلافاً من القول ، وإنما معناه أنه أن أبى أن يقر أو ينكر ، المراد اجبر على ذلك بالسجن والضرب ؛ وأن قال لا أقر ولا أنكر ، لأني لا يقين عندي من ذلك ، استبرئ أمره بالسجن ، فإن تمادى على شكه ، قضي للطالب بحقه - قيل بيمين - وهو مذهب ابن القاسم على ما له في كتاب تضمين الصناع من المدونة في المتبايعين يختلفان في ثمن السلعة ، فيمتوتان وهي قائمة - أن ورثتهما يتحالفان ويتفاسخان إن ادعيا معرفة الثمن ، وأن ادعى أحدهما معرفته وجهل الآخر ، كان القول قول من ادعى المعرفة منهما مع يمينه ، وعلى ماله أيضاً في يرسم نقدها بعد هذا من سماع عيسى في الذي يقر للرجل بأحد ثوبين بعينهما ،

(14/148)


ولا يدري أيهما هو ، أن المقر له يحلف إن ادعى أجودهما ، وقيل بغير يمين ؛ وإلى هذا ذهب محمد بن الموازن ، واستحسن إذا تمادى على شكه أن يحلف أنه ما وقف عن الإقرار أو الإنكار ، إلا أنه على غير يقين ؛ فإن حلف على ذلك ، قضى للطالب بحقه دون يمين ؛ قاله في المال مثل أن يدعي رجل على رجل بستين ديناراً فيقر له بخمسين ، ويأبى أن يقر أو ينكر في العشرة ؛ وقاله أيضاً في الدور أنه أن أبى أن يقر أو ينكر ، قضي للطالب دون يمين ، وكذلك إذا أبى أن يقر أو ينكر إلداداً بصحابه ، فتمادى على إبايته بعد السجن والضرب ، يقضي للطالب بحقه - قيل بيمين ، وقيل بغير يمين ، وبالله التوفيق .
من سماع عيسى بن دينار ( من ابن القاسم ) من كتاب نقدها
قال عيسى بن دينار ( سئل ابن القاسم ) عن الرجل يدعي زيتوناً قبل رجل ، أن له أصله وثمره ، واثبت شاهداً واحداً ، فطلب أن يجعل وكيلاً ًله على الثمرة يحوزها في الجني والعصر حتى يستحق حقه ، وطلب الذي هي في يديه ، أن يقوم عليها ليبيعها ، وجل الناس - عندنا - لا يبيعون إنما يعصرون ؛ قال إن كان الشاهد عدلاً ، فينبغي للوالي أن يحلفه عليها ويدفع إليه الثمرة

(14/149)


وأن كان ممن لا يقضي باليمين مع الشاهد ، فإني أرى للوالي أن ينظر إلى الذي فيه النماء والفضل في بيعه أو عصره فيوكل به رجلاً يثق به من عنده ويوقفه ، فإن أتى بشاهد آخر دفعت إليه ولا أحلفه بالله : إنه ما يعلم أن ما ادعى صاحبه حق ، ثم يدفعه إليه ، فإن نكل حلف الطالب ودفع إليه ؛ فهذا وجه ثان فيه .
قال محمد بن رشد : اختلف في تأويل هذه المسألة ، فقيل المعنى فيها أن المدعي ادعى الأصول والثمرة جميعاً ، مثل أن يقول اشتريتها بثمرتها أو أقام على ذلك شاهداً واحداً ، فلذلك وقفت له الثمرة بالشاهد الواحد ، إذا كان الولي لا يرى القضاء باليمين مع الشاهد ، فإن أتى بشاهد آخر دفعت إليه ، وقيل بل إنما ادعى الأصول خاصة ، فرأى توقيف الثمرة بشهادة الشاهد الواحد ، وهو الذي يأتي على ماله في آخر رسم العرية بعد هذا في الذي يدعي الدابة ويقيم عليها شاهداً واحداً فتموت الدابة قبل أن يقضى له باليمين مع شاهده أنه يحلف وتكون المصيبة فيها منه ، لأنه إذا رأى الضمان منه بالشاهد الواحد ، التوقيف والغلة تابعان له ، وقد اختلف في الحد الذي يدخل فيه الشيء المستحق في ضمان المستحق ، وتكون الغلة له ، ويجب التوقيف به على ثلاثة أقوال ، أحدها أنه لا يدخل في ضمانه ولا تجب له الغلة حتى يقضى له به ، وهو الذي يأتي على قول مالك في المدونة أن الغلة للذي هي في يديه حتى يقضى بها لطالب ، وعلى هذا القول لا يجب توقيف الأصل المستحق وتوقيف ، يحال بينه وبينه ، ولا توقيف غلة وهو قول ابن القاسم في المدونة أن الرباع التي لا تحول ولا تزول ولا توقف مثل ما يحول يزول ، وإنما توقف وقفاً يمنع فيه من الأحداث والثاني أنه يدخل في ضمانه وتكون له

(14/150)


الغلة ويجب توقيفه وقفاً يحال بينه وبينه إذا ثبت له بشهادة شاهدين أو شاهد وامرأتين ، وهو ظاهر قول مالك في موطئه ، إذ قال فيه أن الغلة للمبتاع إلى يوم يثبت له الحق ؛ وقول غير ابن القاسم في المدونة إذ قال أن التوقيف يجب إذا اثبت المدعي حقه وكلف المدعى عليه بالمدفع ، وعلى هذا القول جرى عندنا حكم الحكام ، والثالث أنه يدخل في ضمانه وتجب له الغلة والوقف بشهادة شاهد واحد وهو الذي يأتي على ما قاله ابن القاسم في رسم العرية في الضمان - حسبما ذكرناه ، ويقوم من هذه الرواية على التأويل بان المدعي إنما ادعى
الأصل خاصة ، أن الحد فيما يكون به الثمرة في الاستحقاق غلة فيستوجبها المستحق منه ببلوغها إليه ، قيل بالحكم والقضاء وقيل بثبوت الحق بشهادة شاهدين ، وقيل بشهادة الشاهد الواحد على الاختلاف الذي ذكرناه الجني في الزيتون ، والجداد في الثمر ، وقد قيل أن الحد في ذلك الطيب وقيل اليبس ؛ والثلاثة الأقوال كلها لابن القاسم ، وقد ذكرناها وبيناها في كتاب العيوب من كتاب المقدمات ، وبالله التوفيق .
مسألة
وسألته عن الرجل يقول للرجل في ثوبين له أو عبدين أحد هذين العبدين لك أو أحد هذين الثوبين لك ، ولا ادري أيهما هو ؟ قال يقال للمقر احلف انك ما تدري أن أجودهما للمقر له ، فإن حلف أنه ما يعلم أيهما له ، قيل للمقر له احلف انك ما

(14/151)


تعلم أيهما هو لك ، فإن حلف أيضاً ، كانا شريكين في الثوبين جميعاً ، قيل له فإن قيل للمقر الأول احلف ، فنكل عن اليمين فرد اليمين على المقر له قال يقال له احلف ، فإن فعل كانا أيضاً شريكين في الثوبين ، وأن نكلا جميعاً كان كذلك شريكين في الثوبين أبداً على كل حال ، إلا أن يقول المقر لا اعرفه ، ويقول المقر له أنا اعرفه ؛ فإن زعم المقر له أن أدناهما هو ثوبه ، أخذه بلا يمين ، وأن ادعى أجودهما ، أخذه بعد أن يحلف ؛ وإن قال المقر أدناهما هو ثوبه حلف ولم يكن للمقر له غيره ؛ وأن ادعى المقر له أن أجودهما له ، لم يقبل قوله ولا يمينه إذا زعم المقر أن أدناهما هو ثوبه وحلف على ذلك ، وأن زعم المقر أن أجودهما ثوبه اعطيه المقر ولو لم يكن على واحد منهما يمين ؛ لأنه قد اعطاه أجودهما ؛ قال عيسى وقال أشهب إذا حلف المقر أو نكل فرد اليمين على المقر له ، فإنه يحلف على البتات على أيهما شاء ، فإن نكل عن اليمين ، كان له أدناهما .
قال محمد بن رشد : قول ابن القاسم انهما يحلفان جميعاً ، إذا تجاهلا المقر والمقر له ، فإن حلفا أو نكلا ، أو حلف أحدهما ونكل الآخر ، كانا شريكين في الثوبين يأتي على القول بلحوق يمين التهمة ، وعلى إنها ترجع ، لأن كل واحد منهما يتهم صاحبه : يقول المقر له للمقر لعلك تعلم أن أجودهما لي ، فاحلف انك ما تعلم ذلك ، ويقول المقر للمقر له لعلك تعلم أن أدناهما لك ، فاحلف انك ما تعلم ذلك ، فاوجب اليمين لكل واحد

(14/152)


منهما على صاحبه بذلك ، فإن حلفا جميعاًن أو نكلا جميعا ، كانا شريكين فيهما ، كما قال ، لا ستوائهما في الحلف ، أو النكول ، وأن حلف أحدهما ونكل الآخر ، كانا أيضاً شريكين فيهما ، لأن الناكل منهما لما نكل وجب أن ترجع اليمين على صاحبه ، فيحلف لقد يعلم أن الاجود له وهو لم يحلف إلا أنه لا يعلم أيهما ثوبه أو يمين التهمة إنما ترجع على البت ؛ قال مالك وهو رجل سوء أن حلف على ما لا علم له به ويأتي على القول بان يمين التهمة لا تلحق ، أن يكونا شريكين في الثوبين ، ولا يكون لواحد منهما على صاحبه يمين ، ويأتي على القول بلحوق يمين التهمة ، وإنها لا ترجع ، وانه أن نكل المقر عن اليمين وحلف المقر له ، كان له اجود الثوبين لأنه قد وجب له بنكول المقر ، إذ قد حلف المقر له دون أن ترجع عليه اليمين على البت ؛ لقد يعلم أن أجودهما له ، وانه أن نكل المقر له عن اليمين وحلف المق رن كان له أدناهما ؛ لأن المقر قد وجب له أجودهما بنكول المقر له عن اليمين دون أن يرجع عليه على البت : لقد يعلم أن أدناهما له . وقوله : إذا قال المقر لا اعرفه ، وقال المقر له أنا اعرفه أنه أن ادعى الأجود أخذه بعد أن يحلف ، هو مثل قوله في مسألة تضمين الصناع من المدونة ، خلاف ما ذهب إليه محمد بن الموازن وقد مضى هذا في تكلمنا على رواية ابن كنانة في آخر سماع أشهب .
وقوله وأن قال المقر أدناهما هو ثوبه حلف ولم يكن للمقر له غيره ، ولا اختلاف في يمينه أن ادعى المقر له أجودهما ؛ وأما إن قال لا ادري ، فلا يمين عليه عند ابن المواز حسبما ذكرناه عنه ؛ ووجه قول أشهب أن الأصل براءة الذمة ، ولا يجب الحكم لأحد على أحد بما يشك فيه ، فإذا لم يدع المقر له أحد الثوبين لم يحكم له إلا بما لا شك فيه - وهو الأدنى من

(14/153)


الثوبين ، وفي إيجاب اليمين على المقر له في ادعائه الأجود من الثوبين مع أن المقر لا يكذبه في دعواه ، إذ لا يدري أيهما له ، من الاختلاف ما ذكرته عن ابن القاسم ، وابن المواز ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب العرية
وقال مالك في الرجل يأتي إلى رجل يقول هات ثمر جاريتي هذه ، وقد ولدت منه ؛ فيقول لا والله ما اشتريت منك ، ولكن زوجتنيها ؛ فيقول بل اشتريت مني ؛ فقال أن كان الذي ادعى التزويج ليس مثله ممن يتزوج الإماء لشرفه وماله ، لم يقبل قوله وكان عليه ثمنها ؛ وأن كان مثله ممن يتزوج الإماء كان القول قوله ؛ وقيل للذي ادعى بيعها أنت قد زعمت انك ( قد ) بعت وقد جحدك ذلك ، وقد ثبت لها عتق بشهادتك أنه اشتراها حين ولدت منه ، فليس لك أن تأخذها وأنت شاهد في عتقها ، وتزعم إنها أم ولد ، فتقر في يديه يطؤها ويصنع بها ما يشاء ؛ لأنها في يكلا الوجهين له حلال - أن كانت زوجته ، كما يزعم ، فهي له حلال ، وأن كانت أم ولد - كما يزعم البائع ، فهي حلال قلت له

(14/154)


فلو لم تلد - وادعاها هذا ، قال يحلف بالله أنه صادق وينفسخ ما ادعى من النكاح ، ويأخذ صاحب الجارية جاريته ؛ وسئل عنها سحنون فقال رب الجارية ههنا مدعى عليه المال ، فلزمه إقراره بأنها أم ولد بلا ملك له فيها ، وولدها احرار لاحقون بأبيهم ، ولا يثبت له ما ادعى من المال ، إلا أن يقيم البينة ؛ قيل له فما يكون حال الجارية ؟ قال تكون موقوفة حتى تموت وولدها احرار ، فإذا ماتت أخذ رب الجارية الثمن الذي ادعى من تركتها ، أن تركت مالاً ، ويكون ما بقي له من المال ، وإلا كان ما بقي موقوفاً ؛ قيل فعلى من تكون نفقتها - إذا أوقفتها ؟ قال تكون نفقتها على نفسها . وقال أصبغ مثله ؛ قيل لأصبغ أرأيت إن مات الذي ادعى أنه تزوج الأمة قبل الأمة ، ما حال الأمة ؟ قال تكون حرة ، لأن السيد قد اقر إنها أم ولد لهذا الميت ، قيل له فإن ماتت الأمة بعد ذلك وتركت مالا أيكون للسيد في مالها ثمنها ؟ قال لا يكون له في مالها شيء ، لأنها ماتت وهي حرة ، وما لها للورثة الذي أقر السيد أنه باعها منه .
قال محمد بن رشد : قول مالك إن كان الذي ادعى التزويج ليس مثله ممن يتزوج الإماء لشرفه وماله ، لم يقبل قوله ، وكان عليه ثمنها . معناه أن يكون القول قول رب الجارية مع يمينه فيما ادعاه من أنه باعها منه بالثمن الذي ادعى أنه باعها به إذا كان الثمن الذي ادعى يشبه أن يباع به ، لأنها أتى بما يشبه ، واتى الذي ادعى التزويج بما لا يشبه ، فوجب أن يكون قول سيد الجارية ، لأنه أتى بما يشبه على أصولهم في أن القول قول من أتى من المتداعيين بما يشبه ، فإن لم يشبه قول رب الجارية فيما ادعاه من الثمن ، حلفا جميعاً وكان على الذي ادعى التزويج قيمة الجارية ، يحلف رب الجارية

(14/155)


أنه باعها منه بما ذكره من الثمن ، ليحقق عليه الشراء ، ويحلف هو أنه تزوجها وما اشتراها ليسقط عن نفسه ادعاه صاحبها من الزيادة على قيمتها ، وقد قيل إنه لا يصدق صاحب الجارية فيما ادعاه ، من الثمن وإن أشبه ، إذا كان ذلك أكثر من قيمتها ، وهو الذي يأتي على قول غير ابن القاسم في كتاب الجعل والإجارة من المدونة ، فيحلف على هذا صاحب الجارية أنه باعها منه بالثمن الذي ادعاه ، ليحقق عليه الشراء ، ويحلق المدعى عليه الشراء أنه ما اشتراها منه ، وإنما زوجها إياه ليسقط عن نفسه يمين ما ادعاه من الثمن زائداً على قيمتها ، وقوله وإن كان مثله ممن يتزوج الإماء ، كان القول قوله ، معناه في تكذيب رب الجارية فيما ادعاه من أنه باعها منه ، لا في أنه زوجها منه ، لأنه في ذلك مدع ، فلا يصدق فيه ، ولا يحلف عليه ، وإنما يحلف أنه ما اشتراها منه ، وأن زاد في يمينه ولقد زوجها منه ، تحقيقاً لدعواه عند من سمعه لم تثبت بذلك الزوجية بينهما ، إلا ترى إنها إذا لم تلد ، يحلف أنه صادق فيما ادعاه من أنه تزوجها وما اشتراها ، ويحلف صاحبها لقد باعها منه وما زوجها إياه ، فينفسخ النكاح والبيع ، ويأخذ صاحب الجارية جاريته .
فيقول سحنون أن الجارية إذا ولدت تكون موقوفة حتى تموت ، أظهر عندي من قول مالك إنها تقر بيد الذي ادعى أنه تزوجها ، يطؤها ويصنع بها ما شاء ، لأنها في كلا الوجهين له حلال إن كانت زوجته كما زعم فهي له حلال ، وإن كانت أم ولد له كما زعم بالبائع ( فهي له حلال ) وإنما قلت أنه اظهر ، لأن كل واحد منهما مدع على صاحبه ، وقد ابطل صاحبه دعواه عنه بيمينه ، فلم تثبت زوجة ولا أم ولد فوجب أن توقف كما قال سحنون ، لقول الله عز وجل : ( والذين هم لفروجهم حفظون ، إلا على أزواجهم أو ما ملكت

(14/156)


أيمانهم ) ، وهذه لم تثبت زوجة ولا أم ولد ، ولقد رأيت لابن دحون أنه قال : قول سحنون قول ضعيف ، لأن الأمة لا تخلو عن أن تكون زوجة على ما ادعى الذي هي في يديه ، ( أو تكون ) أم ولد على ما أقر به سيدها الذي كانت له ، فهي مباحة لمن هي في يديه على كل حال ، فإيقافها ومنعه من وطئها لا معنى له ، إلا ترى أن رجلاً لو قال كنت أولدت إيمائي كلهن ، وتزوجتهن كلهن إلا واحدة وقد بقيت عندي منهن واحدة لا ادري هل هي زوجة أو أم ولد ، لم يمنع من وطئها ، لأنه حلال له على أي وجه كانت ، هذا نص قول ابن دحون ، وقوله - عندي - هو الضعيف ، لا قول سحنون ، لأن الشراء لم يصح ولا التزويج وقد انفسخا جميعاً بيمين كل واحد منهما على تكثير صاحبه ، ولا يصح للحاكم أن يقر الجارية في يد الذي هي في يديه بما ادعاه من تزويجها ، إذ لم يثبت ذلك عنده ، وقد انفسخ بيمين سيدها : أنه ما زوجه إياها ، ولا بما أقر به سيدها من أنه باعها منه ، إذ لم يثبت ذلك عنده ، وقد بطل بإنكار الذي هي في يده لذلك وحلفه عليه ، وإنما يقال له إن كنت صادقاً أنك تزوجتها فوطؤها - لك حلال فيما بينك وبين خالقك ، ولا يصلح للحاكم أن يقرها عنده ويبيح له وطئها ، لاحتمال أن يكونا جميعاً كاذبين ( لم يزوجها إياه ، ولا باعها منه ، والمسألة التي نظر بها ابن دحون ، لا تشبهها ، لأن الذي شك في المرأة ،
فلم يعلم أن كانت زوجته أو أم ولده ، لا يشك في إنها تحل له ، لأنها إن لم تكن زوجة ، فهي أم ولد ، وإن لم تكن أم ولد ، فهي زوجة ؛ والحاكم في مسألتنا يشك : هل تحل له الأمة أم لا ، لاحتمال أن يكونا جميعاً كاذبين ) ، فيما ادعياه كما ذكرناه .

(14/157)


وقول سحنون أن الولد أحرار ، مفسر لقول مالك لا خلاف له . وقول سحنون : إن نفقتها على نفسها في حال الايقال ، صحيح ، فإن عجزت قيل لهما : أنفقا عليها ، أو أعتقاها ، ولا تكون موقوفة بغير مؤنة ، وقوله : إنها إن ماتت أخذ رب الجارية الثمن الذي ادعى من تركتها - إن تركت مالاً ، صحيح ( لأن الذي كانت الجارية بيده يقرأن جميع تركتها له ، لا حق له فيه ، فله أن يأخذ من ذلك ما يدعي أن له قبله ، والباقي يكون موقوفاً ، لأن كل واحد منهما يقرأنه لصاحبه ، فمن كذب منهما نفسه أولاً : ورجع إلى قول صاحبه أخذه ، وقول أصبغ أنه إن مات الذي ادعى أنه تزوج الأمة قبل ذلك تكون حرة ، صحيح ) لأن سيدها أقر أنها أم ولده ، وكذلك قوله أنها إن ماتت بعد ذلك لا يكون للسيد في مالها ثمنها ، صحيح أيضاً ، لأنها لما ماتت بعد موت الذي ادعى أنه تزوجها ، ماتت حرة ، ووجب ميراثها للعصبة الذين يرثون الولاء عنه بإقرار سيدها أنها أم ولد له ، وهو لا حق له قبلهم ، إنما كان حقه على دعواه قبل الميت الذي ادعى أنه باعها منه . وقول أصبغ لأنها ماتت وهي حرة ، ومالها لورثة الذي أقر للسيد أنه باعها منه ، معناه للذين يرثون الولاء عنه من الرجال ، وبالله التوفيق .
مسألة
قلت لسحنون : فلو أن الذي كانت الجارية في يديه قال اشتريتها وقال : رب الجارية بل زوجتها ، فقال القول قول رب الجارية ، وولدها رقيق ، ويلحق نسبهم بالأب ، لأن الذي الجارية في يديه قد أقر بها له وادعى الاشتراء ، فلا يقبل قوله فيما ادعى ،

(14/158)


ولا يزيل ملكه منها بعدما أقر له بها إلا ببينة تثبت له . قال أصبغ عن ابن القاسم : يتحالفان ويتفاسخان ، ولا تكون زوجة ، ولا أم ولد ، وترجع الأمة إلى سيدها ، فإن المشتري يقر بأنه لا زوجة له ، فهو كالمطلق ويدعي إنها أمته ، ولا بينة له ، فهي راجعة إلى ربها ، وأما الولد ، فإنها في الوجه الأول حر وتبع للأب ولا قيمة على الأب فيه ، وفي الوجه الثاني ، الذي قال : زوجتك - رقيق .
قال محمد بن رشد : هذه المسألة عكس المسألة التي قبلها فلا يقبل قول الذي الجارية في يديه أنه اشتراها ، لأنه في ذلك مدع على صاحب الجارية ، والقول قول رب الجارية أنه ما باعها منه ، ولقد زوجها إياه ويكون ( له ) الولد رقيقاً ، ويلحق نسبهم بالأب ، وينفسخ نكاح الأمة ، لإنكاره تزويجها مع يمينه على ذلك ، فترجع الأمة إلى سيدها ولا يلزمه فيها طلاق ، وتكون إن تزوجها عنده على طلاق مبتدأ على ما قاله ابن القاسم في رواية اصبغ عنه من انهما يتحالفان ويتفاسخان ، فلا تكون زوجة ولا أم ولد ، إذ ليس قوله بخلاف لقول سحنون . وقوله إنه كالمطلق - يريد أنه لا يصح له المقام عليها ، لإنكاره نكاحها ، ولو كان ما ادعى سيد الجارية من أنه زوجه إياها لا يشبه ، لكونه ليس مثله ممن يتزوج الإماء في شرفه وحاله ، لوجب أن يكون القول قوله فيما ادعاه من الشراء ، ويكون ولده احراراً على قياس ما قاله مالك في المسألة التي قبلها ؛ وقول ابن القاسم : وأما الولد فإنه في الوجه الأول حر وتبع لأبيه ، ولا قيمة على أبيه فيه - يريد المسألة الأولى التي ادعى صاحب الجارية أنه باعها منه ، وبالله التوفيق .

(14/159)


مسألة
قال سحنون فلو قال رجل لرجل إدفع إلي ثمن جارتي هذه التي بعت منك ، وقال الذي في يده الجارية استودعتنيها وما اشتريتها منك فتعديت عليها فوطئتها وأولدتها ، فقال أرى رب الجارية مدعياً مالاً ومقراً أنها أم ولد ، هذا الذي هي في يديه فلا يقبل قوله فيما ادعى من المال إلا ببينة ، ولا يصل إلى الجارية ، لأنه أقر إنها أم ولد الذي هي في يديه ، وأراها أم ولد الذي هي في يديه موقوفة ، وأولاده منها أحرار ، لأن رب الجارية قد أقر له بذلك ، وتوقف الجارية ، ولا يصل الذي هي في يديه إلى وطئها ، فإن ماتت وتركت مالاً ، كان للذي ادعى أنه باعها أن يأخذ الثمن من مالها الذي ادعى قبل الذي في يديه الجارية ، قيل له ولمن يكون ما بقي من مالها ؟ فقال يكون موقوفاً ، فإن ادعى الذي أولدها أنه كان اشتراها ، وأنها أم ولده ، كان له ما بقي من المال ، وإن أقام على إنكاره كان موقوفاً أبداً ، قيل فهل يكون على هذا الذي كانت في يديه وأقر أنه وطئها بالعداء الحد ؟ قال نعم إن ثبت على إقراره ، وفي سماع حسين بن عاصم عن ابن القاسم مثله .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة صحيحة لا اختلاف في شيء من وجوهها ، يبينها ما مضى من الكلام على أول مسألة من الرسم . وقوله فيها وأولاده ، منها أحرار - يريد ولا يلحق نسبهم به ، لأنه يحد لإقراره إنهم

(14/160)


من زنى . وقوله فيها ( أيضاً ) وأراها أم ولد للذي هي في يديه موقوفة ، ليس على ظاهره ، إذ لو كانت أم ولده لما وقفت ، ولجاز له وطؤها وإنما معناه أنه يكون لها حكم أم ولده في إنها تعتق بموته ، ويرثها - إن ماتت بعده - من يرث ولادها عنه من عصبته ، وذلك كله بإقرار سيدها له بذلك ، وإنما تكون له أم ولد إن رجع إلى تصديق سيدها فيما زعم ( من ) أنه باعها منه ، فإن فعل ذلك ( كانت أم ولد له ) وحل له وطؤها وغرم الثمن ودرأ عنه الحد ، إن كان لم يحد بعد ولحق به الولد ، وبالله التوفيق .
مسألة
قال عيسى وسئل ابن القاسم عن الرجل ، يشتري الدابة فيدعيها رجل في يديه فتوقف له ، على من يكون علفها ؟ قال علفها على الذي تصير له ، قيل فإنها ماتت قبل أن يقضى بها ، ممن تكون مصيبتها ؟ قال مالك في رجل ادعى دابة في يدي رجل فأقام عليها شاهدين فشهدا عند القاضي وعدلا ، فلم يقض بها حتى ماتت ، قال مصيبتها من الذي ادعاها وأقام الشاهدين عليها ، ويرجع مشتريها على بائعها بالثمن ، قيل لابن القاسم وكذلك لو أقام شاهداً واحداً وبقي له أن يحلف ثم يقضى له بها ، فلم يحلف

(14/161)


حتى ماتت ، قال يحلف وتكون المصيبة أيضاً منه ، وإن كانت يمينه بعد موتها ، قيل له فإن كان ادعاها واستحقها وأقام البينة عليها بعد موتها ، قال إذا كان إنما أقام البينة بعد موتها فاستحقها ، فمصيبتها من الذي ماتت في يديه ، ويرجع مستحقها على بائعها بالثمن أو القيمة - إن كانت أكثر من الثمن - إن كان هو غاصباً .
قال محمد بن رشد : قوله في نفقة الدابة الموقوفة في الاستحقاق ، إنها على الذي تصير إليه هو مثل ما في المدونة ، ومثل ما في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة من سماع ابن القاسم من كتاب الاستحقاق ، ولم يتكلم على من ينفق عليها في خلال التوقيف ، والظاهر من قول مالك أن المدعى عليه ينفق في حال التوقيف ، فإن قضى بها له ، رجع عليه بالنفقة ، وقد قيل انهما ينفقان جميعاً عليها ، فمن قضي له بها منهما ، رجع عليه صاحبه بنصف النفقة ، وهو قول ابن القاسم في رسم إن خرجت بعد هذا من سماع عيسى ، وفي المجموعة ، وقوله في مصيبتها إن ماتت في حال التوقيف بعد إقامة البينة عليها ، وقبل أن يقضى له بها إنها من الذي ادعاها ، وأقام البينة عليها ، ويرجع مشتريها على بائعها بالثمن ، خلاف ما في المدونة من أن مصيبتها من الذي هي في يديه حتى يقضى بها للطالب ، وقول مالك في هذه الرواية إن المصيبة من الذي أقام البينة عليها ، أجرى على القياس ، وهو أن تكون من الذي عليه النفقة لأن القياس أن تكون النفقة والغلة تابعتين للضمان ، وكذلك التوقيف أيضاً هو تابع للضمان ؛ وقد اختلف في الحد الذي يدخل به الشيء المستحق في ضمان المستحق ، وتكون الغلة له ، ويجب التوقيف به على ثلاثة أقوال ، أحدها أنه لا يدخل في ضمانه ولا تجب له الغلة حتى يقضى له به ، وهو قول ابن القاسم في رسم حمل صبيا من سماع عيسى بعد هذا ، والذي يأتي على قول مالك في المدونة إن الغلة للذي هي في يديه حتى

(14/162)


يقضى بها للطالب ، وعلى قول سحنون في نوازله من كتاب الغصب إن المصيبة من المشتري حتى يحكم به للمدعي ، وعلى هذا القول لا يجب توقيف الأصل المستحق توقيفاً يحال بينه وبينه ، ولا توقيف غلته ؛ وهو قول ابن القاسم في المدونة أن الرباع التي لا تحول ولا تزول ولا توقف ، مثل ما يحول ويزول وإنما يوقف وقفاً يمنع من الإحداث فيها ، والثاني أنه يدخل في ضمانه وتكون الغلة له ويجب التوقيف وقفاً
يحال بينه وبينه إذا ثبت ذلك بشهادة شاهدين ، أو شاهد وامرأتين ، وهو قول مالك في رسم مرض من سماع ابن القاسم من كتاب الاستحقاق ، وهو ظاهر قوله في موطئه إذ قال فيه إن الغلة للمبتاع إلى يوم يثبت الحق ، وقول غير ابن القاسم في المدونة ، إذ قال فيها إن التوقيف يجب إذا ثبت المدعي حقه وكلف المدعى عليه المدفع . والقول الثالث أنه يدخل في ضمانه وتجب له الغلة والتوقيف بشهادة شاهد واحد وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية أنه يحلف مع شهادة شاهده وتكون المصيبة منه .
إن كانت يمينه بعد موتها ، فإن قيل كيف يحلف وتكون المصيبة منه ، ويستحق المستحق منه بيمينه - الرجوع على بائعه بالثمن ، قيل إنما يحلف ، لأنه إن نكل عن اليمين على هذه الرواية يحلف المستحق منه الذي مات العبد عنده أنه لا حق للقائم فيه ، ولقد ادعى باطلاً ، فيرجع عليه بقيمته ، لأنه أحق عليه بيمينه العداء في توقيفه عليه بغير حق ، ويؤيد هذا ما وقع في رسم حمل صبيا من سماع عيسى من كتاب الاستحقاق ، وقد مضى الكلام عليه هناك ، ويؤيده أيضاً قول أشهب في نوازل سحنون من كتاب الرهون ، فليست يمين المستحق على هذه الرواية ليستحق غيره وهو المستحق منه الرجوع على بائعه بالثمن ، وإنما هي لينفي عنه نفسه العداء في التوقيف الذي يدعيه ( عليه ) المستحق منه ، فإن نكل عن اليمين حلف هو

(14/163)


وأغرمه القيمة ، فما وقع في أحكام ابن زياد من أن التوقيف يجب في الدار بالقفل ، وتوقيف الغلة بشهادة الشاهد الواحد ، يأتي هذا القول الثالث ، وكذلك النفقة أيضاً القياس فيها أن تجري على هذا الاختلاف ؛ فعلى القول الأول لا يجب للمقضي عليه الرجوع بشيء من النفقة على المقضي له ، لأنه إنما انفق على ما ضمانه منه ، وغلته له ، وعلى القول الثاني يجب له الرجوع عليه بما انفق بعد ثبوت الحق بشهادة شاهدين ، أو شاهد وامرأتين ، لوجوب الضمان عليه ، وكون الغلة له من حينئذ ، وعلى القول الثالث يجب له الرجوع عليه بما أنفق منذ وقف بشهادة الشاهد الواحد ، لوجوب الضمان عليه ، وكون الغلة له من حينئذ ، وقد فرق في رسم حمل صبيا من سماع عيسى بعد هذا بين النفقة والضمان والغلة ، فقال إن النفقة ممن تصير إليه ، والغلة للذي هي في يديه ، لأن الضمان منه ؛ وساوى بين ذلك عيسى بن دينار من رأيه ، وهو القياس وكذلك ظاهر ما في المدونة أنه فرق بين النفقة والغلة ، والصواب إلا يفرق بينهما في أن يكونا جميعاً تابعين للضمان ، إما من يوم وجوب التوقيف بشهادة شاهد واحد ، وإما من يوم
وجوبه بشهادة شاهدين ، وإما من يوم القضاء والحكم ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله يوصي لمكاتبه
قال وسألت ابن القاسم عن الرجل يقر لرجلين بعبد يقول هو لكما غصبتكماه أو غير غصب يقر لهما جميعاً ، فيدعيه كل واحد منهما خالصاً دون صاحبه ، فيقول هو لي خالص وأدخلت علي في عبدي من ليس له فيه شيء ، وكلاهما يقول ذلك ولا بينة لواحد

(14/164)


منهما ، قال يقال له احلف انك لا تعرفه لواحد منهما خالصاً ، فإن حلف برئ ولم يكن لهما عليه شيء ، وصار الأمر بين هذين ؛ ولان كل واحد منهما يدعيه لنفسه خالصاً ، فيقال لكل واحد منهما احلف أنه لك خالص ، فإن حلفا جميعاً على ذلك ، كان العبد بينهما نصفين ! وإن نكل المقر الأول عن اليمين أنه ما يعرفه لأحدهما خالصاً دون صاحبه ، قيل لهذين اللذين ادعياه : يحلف كل واحد منكما لصاحبه أنه له خالص دون صاحبه ، فإن حلفا كان على المقر الأول أن يغرم لهما قيمة العبد إذا نكل عن اليمين أنه لا يعرفه لواحد منهما دون صاحبه ، فإذا غرم القيمة ، كانت القيمة والعبد بينهما نصفين ، وإن نكلا عن اليمين جميعاً من نكول المقر لهما لم يكن لهما إلا العبد بينهما ؛ وإن حلف أحدهما بعد نكول المقر ونكل صاحبه عن اليمين ، كان العبد خالصاً للذي حلف ، ولم يكن على المقر الأول لهذا الذي نكل عن اليمين شيء ، لأنه يقول : أقررت لك بشيء وقد جاء من استحقه من يديك بما هو أثبت من إقراري لك ؛ قلت فإن أتى رجل لم يقر له بعد به ، فادعاه والمسألة كما هي ؛ قال إن كان خليطاً للمقر ، حلف أنه ليس له ، فإن حلف برئ . وإن نكل ، قيل للمدعي احلف ، فإن حلف غرم له قيمة العبد ، فإن لم يحلف فلا شيء له ، وإن لم يكن خليطاً ، فلا يمين له عليه ولا شيء . قلت : وكيف أحلف للمقر لهما

(14/165)


بعضهما لبعض - وهما ليسا خليطين ، قال وأي خلطة أبين من أن يكونا شريكين في العبد يدعيه كل واحد منهما .
قلت وكذلك الدنانير والدراهم إذا أقر لرجلين بمائة دينار ، فادعاها كل واحد منهما خالصة دون صاحبه ، قال العمل على ما وصفت لك بينهما في العبد ، قلت فلو كان المقر لهما بالعبد ، ادعاه أحدهما خالصاً دون صاحبه ، وقال الآخر لا ادري إنما أقر لي بشيءفقبلته ، ما ادري أهو لي أم لا ؛ فقال يقال له احلف انك ما تدري في الذي أقر لك به هذا أ÷و لك أم لا ؟ فإن حلف ، كان نصف العبد له ، وقيل للمقر احلف انك ما تعرفه لهذا الذي ادعاه خالصاً فإن حلف برئ وكان العبد بينهما نصفين ، وإن نكل ، قيل لمدعيه خالصاً احلف أنه لك خالصاً . فإن حلف كان العبد بينه وبين الذي حلف ، أنه ما يدري الذي أقر له أنه حق أم باطل ، وكان على المقر أن يغرم لهذا نصف قيمة العبد ، ولو نكل الذي قال لا اعرف ما أقر لي به هذا عن اليمين ، حلف مدعيه وكان له العبد خالصاً ، ولم يكن على المقر يمين ولا قليل ولا كثير .
قال محمد بن رشد : إنما قال : إن المقر بالعبد لرجلين إذا ادعىكل واحد منهما أن العبد له خالص ، يحلف المقر على العلم أنه ما يعرفه لأحدهما خالصاً ، لأن كل واحد منهما يدعي عليه أنه علم أن العبد له خالصاً ، أقر بنصفه لصاحبه ، وفوته بذلك عليه ، فإن حلق أنه إلى يعرفه لأحدهما خالصاً ، برئ وكانت الدعوى بينهما فيه ، فإن حلفا جميعاً أو نكلا

(14/166)


جميعاً ، كان العبد بينهما ؛ وإن حلف أحدهما ونكل الآخر عن اليمين ، كان العبد للحالف منهما ، وأما إن نكل المقر عن اليمين فقال في الرواية إن المقر لهما يحلف كل واحد منهما أنه له خالص دون صاحبه ، فإن حلفا على ذلك غرم المقر قيمة العبد ، فكانت هي والعبد بينهما ، والصواب أن يحلف كل واحد منهما أنه له خالص دون صاحبه ، وإن المقر عالم بذلك : لأن الضمان لا يجب على المقر لكل واحد منهما ، إلا بان يعلم بان العبد له خالصاً فيقر به لهما جميعاً ، فلا يلزمه عزم قيمة العبد لهما بنكوله عن ذلك حتى يحلف المقر لهما على حكم المدعي والمدعى عليه في رجوع اليمين على المدعي إذا نكل عنها المدعى عليه ! وقال إنه إذا أتى رجل لم يقر له بعد به فادعاه ، والمسألة على حالها - إن المقر يحلف أن كل خليط له - أنه ليس له ، ظاهره أنه على البتات ، والصواب أن يحلف على العلم - كما يحلف للمقر لهما فيقول بالله ما نعلمه له ، فإن حلف برئ ، وإن نكل عن اليمين حلف المدعى أنه له ، وإن المقر علم بذلك ؛ وحينئذ يغرم له قيمة العبد على ما بيناه ، وهذا الذي ذكرناه كاف في بيان ما بقى من المسألة وقد قيل لا يمين على المقر بحال ، وهو الذي يأتي على قوله سحنون في نوازله من كتاب الاستلحاق في الذي يقر لثلاثة رجال فيقول هذا أخي ، بل هذا أخي ، فقف على ذلك ، وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن الرجل يقر للرجل بالعبد ثم يقر به لرجل آخر ، قال يكون العبد للذي أقر له به أولاً ، ويكون عليه للأخر قيمة العبد . قلت ولا يكون عليهما يمين ؟ قال نعم .

(14/167)


قال محمد بن رشد : قول ابن القاسم في هذه المسألة صحيح على قياس قوله في المسألة التي قبلها ، فكل واحد منهما مبينة لصاحبتها . وقوله قال نعم ، معناه لا يكون عليهما يمين ؛ وذكر ابن أبي زيد في النوادر هذه المسألة فوصل بقوله ولا يكون عليهما يمين ، قال عيسى ، لا أن يدعيه الثاني فإن ادعاه فله اليمين على المقر له به أولاً ، فإن حلف فالعبد له وكان للثاني على المقر قيمته ، وإن نكل المقر له أولاً من اليمين ، حلف المقر له أخراً وكان العبد له ، ولم يكن على المقر شيء ؛ وقول عيسى بن دينار تفسير لقول ابن لاقاسم ، ويأتي على ما لسحنون في نوازله من كتاب الاستلحاق إنه لا شيء على المقر للثاني ، لأنه إنما أقر له بما قد استحقه الأول بإقراره له به أولاً ، وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن الرجل تكون عنده وديعة مائة دينار ، فيأتيه رجلان فيقول هذه الوديعة والله لا ادري من دفعها الي منكما وتداعيانها جميعا ، كل واحد منهما خالصاً لنفسه ، قال تقسم بينهما بعد أن يحلف كل واحد منهما إنها له ، فإن حلف واحد ونكل الآخر ، كانت للذي حلف ولم يكن للذي نكل قليل ولا كثير ؛ قال ولو كان قال في مائة دينار عليه دين : والله ما أدري أهي لفلان أو لفلان ، فادعاها كلا الرجلين ، حلفا وكان عليه لهما غرم مائتي دينار - مائة ، مائة ، وهو مخالف للوديعة ، لأن الوديعة في أمانته ، والدين في ذمته .

(14/168)


قال محمد بن رشد : قد قيل إنه يلزمه في الوديعة أن يدفع مائة دينار لكل واحد منهما ، وهو الذي يأتي على ما لابن القاسم في رسم القطعان من سماع عيسى من كتاب القراض ، وقد قيل أيضاً إنه لا يلزمه في الدين إلا مائة واحدة وتكون بينهما - إن حلفا أو نكلا ، وهو الذي يأتي على أحد التأويلين في مسألة رسم البيوع من سماع أصبغ بعد هذا ، وقد مضى ذكر ذلك في رسم يدير ماله من سماع عيسى من كتاب المديان والتفليس ، لتكرار المسألة هناك ، فيتحصل في جملة المسألة ثلاثة أقوال قولان في كل مسألة ، وهذه التفرقة ، وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن الرجل يشتري الدابة فتستحق في يديه ، فيريد أن يطلب بها الثمن الذي اشتراها به ، فيضع قيمتها فيخرج بها فيضيع الثمن وتهلك الدابة ، قال مصيبة الدابة من الذي خرج بها ، ومصيبة الدنانير من الذي وضعت له الدنانير - وهو مستحق الدابة ؛ قلت فلو كان خرج بها فضاعت الدنانير وجاء بالدابة قد نقضت ، قال يأخذ صاحب الدابة دابته وتكون مصيبة القيمة من الذي خرج بالدابة .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة بينة لا اعرف فيها نص خلاف ، وهي على قياس ما في المدونة في ثمن الجارية المبيعة على المواضعة إذا وضع على يدي عدل فتلف ، أن مصيبته ممن كان يصير إليه ، فالخلاف الذي في ثمن الجارية الموضوع بيد عدل يدخل في هذه ، فعلى القول بأنه من المبتاع إذا تلف ، وإن خرجت لاجارية سليمة من المواضعة ويلزمه ثمن آخر

(14/169)


تكون مصيبة القيمة الموقوفة للمستحق إن تلفت من الذي وضعها على كل حال ، ويلزمه قيمة أخرى أن تلفت الدابة قبل أن يردها إلى المستحق : ويتخرج في المسألة قول ثالث إنه إن تلفت القيمة قبل أن تتلف الدابة ، كانت مصيبتها من الذي وضعها ، ويغرم للمستحق قيمة أخرى ، وأن تلفت الدابة قبل ، كانت مصيبة القيمة ، الذي وضعت له ، وهو مستحق الدابة ، ومصيبة الدابة من الذي ذهب بها ووضع القيمة فيها ، وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن الرجل يقول للرجل المائة الدينار التي استودعتك ، فيقول له ما استودعتنيها ولكن أعطيتنيها قراضاً ، وهذه مائة دينار ربحت فيها فلك منها خمسون ، فيأبى أن يأخذ الخمسين ، قال أن أبى أن يأخذ الخمسين حبسها واستأنس سنين ، لعله أن يأخذها ، وإن أبى أن يأخذها تصدق بها ، قيل له فإن مات فاحب ورثته أن يأخذوها ؟ قال يأخذونها أن شاءوا - إذا أحب المقر أن يدفعها إليهم . قلت ولا يقضي عليه بدفعها إلى ورثته ؛ قال لا يقضي عليه بدفعها إليهم .

(14/170)


قال محمد بن رشد : هذه مسألة يتحصل فيها ثلاثة أقوال ، أحدها : إنه ليس له أن يأخذ الخمسين التي أقر له بها - إلا أن يكذب نفسه ويرجع إلى تصديقه ، وهو الذ ييأتي على ما لابن القاسم في كتاب الرهون من المدونة ، وما لاشهب في كتاب ارخاء الستور منها ، وهو أحد قولي سحنون ، والثاني : إنه ليس له أن يأخذ الخمسين وإن رجع إلى تصديقه وكذب نفسه ، إلا أن يشاء أن يدفعها إليه باختياره ، وهو ظاهر قول ابن القاسم ههنا فيه وفي ورثته إن مات ونص ما في سماع لم يدرك من سماع عيسى من كتاب النكاح . والثالث : أن له أن يأخذها وإن كان مقيماً على الإنكار ، وهو قول سحنون في نوازله من كتاب الاستحقاق ، وإنما يكون له على القول بان يأخذها إن كذب نفسه ورجع إلى تصديق صاحبه ، ما لم يسبقه صاحبه بالرجوع إلى قوله وتكذيب نفسه ؛ فتحصيل هذا القول أن من سبق منها بالرجوع إلى قول صاحبه ، كانت له الخمسون دون يمين ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب بع ولا نقصان عليه
وعن الرجل يقول عند الموت لفلان عندي عشرة دنانير ولي عليه خمسة ، فأنكر الذي أقر له بالعشرة أن تكون عليه خمسة ، قال يأخذ العشرة وعلى الورثة البينة في الخمسة إنها عليه ، قيل فلو قال لفلان عشرة دنانير من مالي وصية ، ولي عليه خمسة . فأنكره ، قال لا يكون له إلا الخمسة ، لأنه لم يوص له إلا

(14/171)


بخمسة حين قال لي عليه خمسة ، وكذلك قال مالك .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال ، والفرق بين المسألتين بين ، لأنه في المسألة الأولى مقر على نفسه له عشرة ، ومدع عليه بخمسة ، فلزمه إقراره على نفسه بالعشرة ولم يصدق في الخمسة التي ادعاها إلا أن يقيم الورثة البينة عليها ، وفي المسألة الثانية لم يوص له إلا بخمسة حين ذكر أن له عليه خمسة - كما قال مالك ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله سلف ديناراً في ثوب
وقال في رجل ، مات موال لجده ، فجاء يطلب ميراثهم أو طرأ للجد مال فجاء يطلبه ، فشهد شاهدان عدلان أن هذا الرجل اقعد الناس بفلان اليوم ، وقد مات الموالي منذ سنين ، قال لا ينتفع بذلك حتى يشهدوا إنه اقعد الناس به يوم مات الموالي . قلت له فإن لم يعرف أحد غيره ، قال لا يعجل في ذلك ويسال وينظر ويكتب في ذلك إلى ذلك الموضع ، ولا يعجل في ذلك حتى يؤيس من ذلك ، ولا يأتي أحد يطلب ذلك ، ثم يقضى له ويؤخذ عليه حميل ، ثم ضعف أمر الحميل إن أبى أن يدفعه .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال في موالي الجد لأن العبد المعتق لا يرثه بالولاء إلا أقرب الناس بمولاه الذي اعتقه يوم مات الموالي ، لا يوم مات سيده الذي اعتقه ولا يوم يطلب ميراثه ؛ فإذا شهد الشهود لرجل إنه أقرب الناس بمولاه الذي اعتقه اليوم ، لم تكن الشهادة عاملة ، لأنهم لا يدرون لعل غيره كان اقعد بالجد يوم مات الموال ين فيكون ميراثهم لورثته ، فوجب أن يثبت في ذلك ولا يعجل به كما قال ؛ فإن لم يأت له طالب سواه ، قضي له

(14/172)


به بحميل ، ثم ضعف أمر الحميل ؛ وفي ذلك عندي تفصيل ، أما إن قال الشهود الذين شهدوا لهذا الرجل إنه اقعد الناس به اليوم يعرف غيره اقعد منه قد مات ، إلا أنا لا ندري هل مات قبل الموالي أو بعدهم ، فأخذ الحميل منه ظاهر ؛ وأما إن قالوا لا نعرف هل كان له غيره يوم مات الموالي أم لا ؟ فاخذ الحميل منه ضعيف ، وأما المال الذي طرأ للجد ، فلا يأخذه ورثته حتى يثبتوا ميراثهم منه يوم مات ، وبالله التوفيق .
من كتاب أن خرجت من هذه الدار
وسئل عن رجل كان له على رجل حق منذ عشر سنين فقام به عليه اليوم فزعم الذي عليه الحق أن قد قضاه ، فيأتي بالبينة إنه قد قضاه منذ تسع سنين أو نحوها ، ويأتي صاحب الحق بالبينة إنه أقر له به منذ سنتين فأي الشهادتين يؤخذ ؟ قال يؤخذ بأحدثهما ، وهي الشهادة على الإقرار .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال أن الذي يوجبه الحكم إنما هو أن يؤخذ بالشهادة على الإقرار ، لأنه لما أقر له بالحق بعد أن أقام البينة على القضاء ، حمل على أن القضاء إنما كان من حق له آخر قبله ، كما لو أقر إنه قد كان له قبله حق آخر فقضاه ، فادعى صاحب الحق أن

(14/173)


القضاء إنما كان من ذلك الحق القديم ، لكان القول قوله ؛ ولو كان لما أقام البينة على القضاء ، ادعى صاحب الحق إنه إنما قضاه حقاً آخر كان له قبله ، وانكر المطلوب أن يكون له حق قبله سوى هذا الذي قضاه ، لكان القول قول المطلوب باتفاق ، وأن لم يكن بينهما مخالطة قديمة ؛ واختلف إن كانت بينهما مخالطة ، فقيل القول قول الطالب ، وقيل القول قول المطلوب على ما يأتي في رسم الأقضية من سماع يحيى بعد هذا من هذا الكتاب ، ولسحنون في نوازله من كتاب المديان والتفليس قول ثالث في هذه المسألة ، وقد مضى تحصيل القول في هذا في سماع أبي زيد من كتاب الشهادات ، وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن عبد ادعاه رجلان فوضع على يدي عدل ، على من نفقته ؟ قال ممن يصير له . قلت فنفقته بين ذلك على من تكون ؟ قال منهما جميعاً .
قال محمد بن رشد : قد مضت هذه المسألة والقول عليها مستوفى في آخر رسم العرية من سماع عيسى قبل هذا ، فلا معنى لإعادته ، وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن امرأة كانت له جارية فولدت غلامين ، فاشترى أحدهما رجل فأعتقه وتركه عند أمه ، فمات أحدهما وادعى

(14/174)


المشتري أن الباقي منهما هو الذي اشترى ، وزعمت المرأة أن الهالك هو الذي اشترى ، القول قول من قال القول قول المرأة مع يمينها .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال ، لأن المشتري مدع على المرأة في شراء هذا الباقي من الغلامين . وهي تنكر أن تكون باعته ، فالقول قولها على ما أحكمته السنة من أن البينة على من ادعى ، واليمين على من أنكر ؛ ولو اختلطا ولم يعرف واحد منهما أيهما هو الذي اشترى واعتق ، لوجب أن يعتقا جميعاً ، إذ لا يصح للمرأة أن تسترق أحدهما بالشك ، ولو ادعى المشتري الباقي منهما وقالت المرأة لا ادري ، لكان القول قوله ؛ قيل بيمين وهو مذهب ابن القاسم ، وقيل بغير يمين وهو قول ابن المواز – على ما مضى من اختلافهما في تكلمنا على مسألة رسم نقدها من سماع عيسى ، وكذلك لو ادعت المرأة الباقي منهما ، وقال المشتري : لا ادري ، لكان القول قولها ؛ قيل بيمين ، وقيل بغير يمين ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب أسلم
وسئل ابن القاسم عن الرجل يستلف من الرجل المال ، أو يبتاع منه سلعة إلى أجل ، فيقوم عليه صاحبه فيجحد ويقول ما بعتني أو ما اسلفتني شيئا ، أو يقول ما لك علي شيء ، فتقوم البينة في كلا الوجهين جميعاً ، ثم يأتي بالبراءة من ذلك ويزعم إنه قد قضاه ذلك ؛ قال ( أما إذا قال ) لم تسلفني شيئاً ، أو لم تبعني

(14/175)


شيئاً ، لم تنفعه براءته ولا شهوده على البراءة ، لأنه قد جحد وانكر أن يكون باعه شيئاً ، أو أسلفه شيئاً ؛ فقد كذب شهوده ولا تنفعه براءته ؛ وأما الذي قال ليس لك علي شيء ، ثم قامت البينة عليه إنه اسلفه أو باع منه ، ثم جاء ببراءته من ذلك بامرأتين وشهود ، فإن براءته تسقط ذلك الحق عنه ، وليس هو مثل الأول ، لأن هذا إنما قال ليس لك علي شيء وكان صادقاً إنه لم يكن عليه شيء ، لأنه قد كان قضاه ، وأما الأول فقد أكذب من شهد له على البراءة حين قال لم يسلفني أو لم يبعني شيئا فهذان وجان بينان - أن شاء الله . وروى سحنون عن ابن القاسم في الذي يشهد عليه بدين من سلف أو شراء ، فينكر ويقول ما لك علي دين من وجه من الوجوه ، لا من شراء ولا من سلف ؛ ثم يقيم بينه إنه قد قضاه الدين الذي شهد عليه به ، قال أراه قد جرح شهوده ، وأرى الحق لازماً له ، وأما أن يقول ما لك عندي شيء مثل ما يقول إذا أقام بينة - إني إنما جحدتك من قبل أني كنت قد قضيتك ، فإن بينته تقبل ويدفع عنه الحق .
قال محمد بن رشد : قد قيل إن البينة تقبل منه بعد الإنكار ، وقيل إنها تقبل منه في الأصول ، ولا تقبل في الحقوق - وهو قول ابن كنانة ، وابن

(14/176)


القاسم في المدنية ، قالا ولو أن رجلاً ادعى أرضا في يد رجل فقال ما لك عندي أرض ولا علمت لك أرضا قط ، فأقام البينة بأنها أرضه وأثبتها ثم أقر الذي هي في يديه فقال نعم هي والله ارضك ولكني قد اشتريتها منك ، وأقام على ذلك بينة ، فإن اشتراءه بذلك يقبل منه ، وتكون له الأرض ، ولا يضره انكاره أولاً ، لأنه يقول كان والله حوزي ينفعني ؛ اصنع بالأرض ما شئت ، فأبيت أن أقر إنها له ، فيكون علي العمل ؛ فكرهت أن اعنت في ذلك ، فإذ قد احتجت إلى شرائي بعد أن أثبتها ، فهذا شرائي ، قال فذلك له ، وليس مثل الذي ادعى عليه الحق فجحده ، وادخل ذلك ابن أبي زيد في النوادر من المجموعة ، قال وسواء أقام بينة بشراء من المدعي ، أو من أبيه ، لأنه يقول رجوت أن حيازتي تكفيني ، وليس ذلك مثل الدين ؛ وقيل إن ذلك لا يقبل منه إلا في اللعان إذا ادعى رؤيته بعد انكاره القذف وأراد أن يلاعن ، وكذلك ما شابه اللعان من الحدود ، وهو قول محمد بن المواز .
وقيل إن ذلك لا يقبل منه في اللعان ، وهو قول غير ابن القاسم في المدونة إنه يحد ولا يلاعن ؛ فيتحصل في المسألة أربعة أقوال ، أحدها أن ذلك لا يقبل منه ما أتى به بعد الجحود في شيء من الأشياء ، وهو قول غير ابن القاسم هذا في اللعان ، لأنه إذا لم يقبل ذلك منه في اللعان فأحرى أن لا يقبله فيما سواه من الديون والأصول ، والثاني إنه يقبل منه ما أتى به بعد الجحود في جميع الأشياء ، والثالث ما ذهب إليه ابن المواز من الفرق بين

(14/177)


الحدود وما سواها من الأشياء ، والرابع إنه يقبل منه ما أتى به في يالاصول والحدود ، ولا يقبل منه ذلك في الحقوق من الديون وشبهها ، وهو الذي يأتي على ما في المدنية لابن كنانة ، وابن القاسم ، لأنه إذا قبل منه ما أتى به بعد الجحود في الأصول فاحرى أن يقبل منه ذلك في الحدود ، ومن هذا المعنى من اداعى عليه إنه أودع وديعة أو ائتمن أمانة ، فانكر ، فلما مات قامت عليه البينة ، ادعى الضياع أو الرد ؛ قيل إنه يصدق ، وقيل إنه لا يصدق ، وقيل إنه يصدق في دعوى الضياع ، ولا يصدق في دعوى الرد ، والأقوال الثلاثة مجموعة في رسم اسلم من سماع عيسى من كتاب القراض ؛ والمسألة متكررة في مواضع ، من ذلك ما وقع في رسم طلق ابن حبيب من سماع بن القاسم من كتاب البضائع والوكالات ، وفي رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب الشركة ، ومن هذا الأصل والمعنى من ملك امرأته بكلام يقتضي التمليك ، فقضت بالثلاثة ، فانكر أن يكون أراد بذلك الطلاق ، ثم قال أردت واحدة ، فقيل إنه لا يصدق إنه أراد واحدة بعد أن زعم إنه لم بذلك الطلاق ، وقيل يصدق في ذلك مع يمينه ، والقولان في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم من كتاب التخيير والتمليك وفي قول سحنون أن البينة لا تقبل منه في البراءة إذا كان قد قال أولاً ما لك علي دين من وجه من الوجوه ؛ لا من شراء ولا من سلف - نظر ، لأن من حجته أن يقول صدقت ما كان لك علي دين من شراء ولا سلف ،
لأني قد كنت قضيتك حقك ، وإنها لا تكون له حجة إذا قال ما أسلفتني شيئا ، ولا بعتني شيئا ، وبالله التوفيق .

(14/178)


ومن كتاب الثمرة
قال ابن القاسم في رجل مات وترك امرأة وفي البيت غزل يعرف أن الكتان للرجل ، قال ابن القاسم أن عرف أن الكتان للرجل ، وأن المرأة غزلته ، أحلفت المرأة بالله ما غزلته له فإن حلفت أقيم غزلها وأقيم الكتان فكان الغزل بينهما - على قدر ذلك ؛ وأن كان لا يعرف الكتان للرجل فالغزل للمرأة . وسئل سحنون عن المرأة تنسج الثوب فيدعيه زوجها لنفسه يقول إن الكتان لي ، وتزعم المرأة أن الكتان لها ومن كتانها غزلته ، فقال ابن القاسم هي أولى بما في يديها مع يمينها ، ولا حق للزوج في ذلك ، إلا أن يكون له بينة ، أو تقر له بأن الكتان كان له ، فيكونان شريكين في الثوب بقدر ما لكل واحد منهما ؛ وكذلك امرهما فيه بعد موت زوجها إنها مصدقة فيما بيديها مع يمينها ، وقال سحنون وكذلك قال لي ابن نافع أن تكون أولى بما في يديها مع يمينها من زوجها .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة بينة حسنة لا أشكال في إنه إذا عرف أن الكتان للرجل ، وأن المرأة غزلته ، أن يكون بينهما على قدر ما لكل واحد منهما فيه ؛ وإذا لم يعرف أن الكتان له وعرف إنها هي التي غزلته ، فالقول قولها أن الكتان لها ، وكذلك إذا عرف إنها هي التي نسجت الثوب أو أقر لها بذلك الزوج ؛ ولو ادعت هي إنها غزلت الغزل أو نسجت الثوب وأنكر ذلك الزوج فادعى إنه هو استأجر على غزل الغزل أو على نسج الثوب ؛

(14/179)


لكان القول قولها في ذلك مع يمينها إذا أشبه قولها على ظاهر قول ابن القاسم في هذه الرواية إنها مصدقة فيما في يديها مع يمينها ، ومثله قول ابن نافع ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب حمل صبياً
وقال في رجل يدعي في الماشية الغنم قبل الرجل ، فيوقفها القاضي حتى ينافذه ؛ على من رعيتها ؟ قال رعيتها ممن تصير إليه . قلت فغلتها ما دام قال غلتها للذي هي في يديه ، لأن ضمانها منه ؛ قال عيسى الرعي على من له الغلة .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في آخر رسم العرية من هذا السماع قبل هذا ، وتكررت المسألة في غير ما موضع من هذا الكتاب ومن غيره ، والكلام عليها في كل موضع منها ، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك ، وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن الرجل يساكنه الرجل في داره المعروفة أو القرية - أختانه أو مواليه ، أو يسكنون دوراً له أو قرية أزماناً فعايشهم طول ذلك الزمان - وتلك الدور في أيديهم

(14/180)


والقرى - حتى مات فأرادوا أن يستحقوا ذلك بتقادمه في أيديهم ، وقالوا ليس علينا أن نسأل عما تقادم في أيدينا كيف وهو في أيدينا ؟ أو ماتوا هم ؛ فقال ورثتهم لا علم لنا كيف كان الحق في أيدي آبائنا ؛ أو مات صاحب أصل الحق والذين اسكنوا أيضاً فتداعى فيها ورثة الذين لهم الأصل ، وورثة الذين أسكنوا ؛ قال ابن القاسم أرى ذلك للذين كانت في أيديهم وحازوا ، لا تخرج من أيديهم إلا ببينة تقوم لورثة الذي له أصل الحق بسكنى أو عمرى أو عارية ، وإلا فهي للذين هي في أيديهم ، ولم ندرك احداً من علمائنا من أهل المدينة ، ولا سمعنا به عمن مضى ، ولا من قضاتهم ، إلا والحيازات اوثق ما في أيدي الناس لتقادم الزمان وذهاب الشهود ، وثم دور وأرضون تعرف من أولها ، وقد تداولتها ايد حتى لقد قال لنا مالك هذه الدور التي أنا فيها ، لعبد الله بن مسعود ، وقد تناسخت لقوم بعده ، أفيسأل هؤلاء البينة ؟ فالحوز على الحاضر الذي لا شك فيه القول لهم ، ولا يخرج من أيديهم إلا ببينة تقوم لورثة صاحب الأصل ، على ما ذكرت من سكنى أو عارية أو من مرفق ، وإلا فأهل الحوز أولى ، هذا الذي سمعت ممن أدركنا والقضاء بالمدينة ورأى العلماء ورأينا ، إلا أن يكون عندهم أمر قد جروا عليه وعرفوه ، فإن كان لذلك أمر مشهور معروف بالبلد ، عليه جروا وأمر فاش ، فأهل الأصل أولى

(14/181)


بأصلهم ، إلا أن تقوم لمن هي في أيديهم بينة على أمر يستحقونه ، أو سماع على بيع ، لأن مالكاً قال لي في الغائب تحاز عليه أرضه فيقدم فيجدها في يد الذي حازها ، فيقيم البينة إنها أرضه أو أرضه أو أرض أبيه أو دار أبيه ، فإذا أقام على ذلك البينة ، سئل الذي هي في يديه البينة على سماع من شراء ، فإن أتى ببينة من سماع أو شراء ، كان الذي
في يديه ، أولى من الغائب ، وإن لم يأت بذلك ، فالغائب أولى ، إلا أن من رأى مالك وغير واحد ممن مضى ، أن الأقارب بنو الأب لا حوز بينهم فيما ورثوا من أبيهم فيما يسكنون ويزرعون ويتوسعون ، وأنهم على مواريثهم ، إلا أن يأتوا ببينة على أمر يثبت لهم حوزهم من شراء أو مقاسمة أو أمر ستحقونه به ، أو سماع بذلك لتقادم الزمان ؛ فإن أتوا بذلك ، كانت حيازتهم لهم حيازة ، وإلا فلا حوز بينهم ، وهذا الذي سمعت من أهل العلم ، وممن مضى ممن أرضي ، فقد فسرت لك وجه الحيازة عندنا ورأيي فيما قبلكم ، ولا توفيق إلا بالله .
قال محمد بن رشد : حكم في هذه الرواية للموالي والاختان بحكم الأجنبي في الحيازة ، أو مثله في رسم شهد من سماع عيسى من كتاب الاستحقاق ، خلاف ما في رسم الكبش من سماع يحيى منه من أن الاختان والموالي في الحيازة بمنزلة القرابة ، وهذه المسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم يسلف من سماع ابن القاسم من كتاب الاستحقاق ، فمن أحب الوقوف من الحيازات على الشفاء تأمله هناك ، فلا معنى لإعادته ، وبالله التوفيق .

(14/182)


ومن كتاب العشور
وسئل عن الرجل يقال له أتبيع جاريتك ؟ فيقول هي لامرأتي ، ثم هلك فادعتها امرأته واحتجت بقوله ، وكيف إن طلبت ذلك في حياته أو بعد موته ؟ فقال لم أرد بقولي ذلك إلا الانتفاء منها ، وكيف إن قال ذلك لغير امرأته ؟ هل تراه يثبت له الخادم إذا نسبها إليها إن طلبت ذلك في حياته ، أو بعد موته ؟ وهل الولد بتلك المنزلة ؟ وهل يختلف أن قال هي جارية امرأتي أو خادم امرأتي ؟ قال ابن القاسم لا أرى ذلك يثبت للمرأة ، ولا لغيرها قريب ولا بعيد - إذا عرف إنها قد كانت له في حياته ، ولا في مماته إذا اعتذر بمثل ما ذكرت لكم من العذر في حياته ولا بعد موته ، إلا أن تشهد عليه بصدقة حيزت أو هبة سواء ؛ قال هي لامرأتي ، أو جارية امرأتي ، وإنما هي كذبة كذبها ، أو كلام اعتذر به أراد أن يستتر به ممن سأله ذلك ، قيل لأصبغ فلو يسهم رجل بعبده ، فقال هو لفلان الأجنبي ، أو قال هو لامرأتي ، أو لابني ؛ فقام أولئك عليه بهذا الإقرار وقالوا هو لنا حق ، قد أقر لنا به ، أو قالوا هو حق لنا قد كنا لنا قبل إقراره ، فأنكر ذلك المقر وقال إنما كنت معتذراً ، والعبد عبدي ؛ قال أصبغ هذا خلاف لما قبله ، وليس في هذا حق الإثبات غير هذا ، ويحلف بالله أن لا حق لهم ويبرأ ، فإن نكل وادعوه حقاً لهم قديماً لغير هذا الإقرار ، حلفوا واستحقوا ؛ وأن كانوا إنما

(14/183)


يدعه بهذا الإقرار ، لم يوجب لهم نكوله شيئاً ؛ قيل لا صبغ فلو سهم بعبده فقال قد بعته فلاناً بمائة دينار ، أو قد وهبته فلاناً أو قد تصدقت به على فلان - وقامت عليه بهذا القبول ببينة ، فقال كنت معتذراً ، أيلزمه لهؤلاء شيء أم لا ؟ قال أصبغ هذه حقوق أوجبها على نفسه لغيره واخرج نفسه منها بقوله ولفظه ، فهو مأخوذ به ، وليس قوله : وهبت واعتقت وتصدقت ، كقوله هو لفلان ، لأن هذه أشياء أقربها من سببه وفعله ، فقد أخرج نفسه بأمر أقر بفعله ، فما ورد عليك من هذا ، فضعه على هذا تصب ، إن شاء الله .
قيل لاصبغ فالرجل ، يخطب إلى الرجل ابنته ، وهي بكر في حجره ، فيقول للخاطب قد زوجتها فلاناً ، فيقوم فلان ذلك الذي زعم إنه زوجه ، فيقول الأب ما أردت بقولي ذلك إيجاباً ، وما كنت إلا معتذرا إلى القوم ، دافعاً لطلبهم ، هل يلزمه ذلك ؟ وهل يختلف أن كان الطالب يقول قد كنت زوجتني قيل ذلك ، أو يقول قد زوجتني بقولك هذا ، وإيجابك لي ؛ قال لي أصبغ أرى قوله لازماً ، والنكاح للطالب واجباً ، لا يبالي بأي ذلك كان طلبه : بهذا القول ، أو بنكاح قبل ؛ لأن النكاح ليس فيه لعب ولا اعتذار ، وهزله جد ؛ وهو الطلاق أخوان لا هزل

(14/184)


فيهما ولا لعب ؛ وقال ابن كنانة إن طلب ذلك الذي زعم إنه زوجه وقال قد وزجتني قبل اليوم ، وكان الأب ينكره ، وشهد له الطالب إنه قال قد زوجت فلاناً ، لزمه ذلك ولم يعمل قوله أردت دفعهم بذلك ، وأن كان الذي زعم إنه زوجه إنما طلب ذلك بقول الشاهدين الخاطبين إليه ويقول قد أقر على نفسه أن قد زوجتني ولم يدع إنه زوجه قبل ذلك ، لم يكن ذلك ولم يلزمه .
قال محمد بن رشد : قول ابن القاسم في الذي يسال بيع جاريته ، فيقول هي لامرأتي أو لفلان ، أن ذلك لا يثبت لواحد منهما إذا عرف إنها قد كانت له ، يدل على إنه إذا لم يعرف إنها قد كانت له وجهل أصل الملك فيها ، فهي للذي أقر له بها - وإن كان إقراره على سبيل الاعتذار ، وهو نص قوله في رسم الكبش من سماع يحيى من كتاب العتق ، وقول أصبغ بعد ذلك في هذه المسألة هذا خلاف لما قبله ، إشارة منه إلى مسألة لم تذكر كانت في أصل السماع ، فسقطت من هذه الرواية فليس قول أصبغ في هذه الرواية مخالفاً لابن القاسم ، وما زاده من إيجاب اليمين على المقر ، ورجوعها على المقر لهم ، أن نكل عنها إذا كانوا إنما ادعوا ذلك حقاً قديماً لهم قبل هذا الإقرار ، ولم يدعوه بهذا الإقرار ؛ مفسر لقول ابن القاسم ، وإنما يخالف أصبغ ابن القاسم إذا قال في اعتذاره ؛ قد وهبتها فلاناً ، أو قد تصدقت بها عليه أو قد بعتها منه ؛ فيقول : هذه حقوق قد أقر بها على نفسه فيؤخذ بها أن ادعى ذلك المقر له لا بهذا ( الإقرار ) إلا بشراء أو هبة أو صدقة متقدمة له ، وهو عند ابن القاسم سواء - قال في اعتذاره هو لفلان ، أو قد بعته فلانا ، أو تصدقت به عليه ؛ لا يلزمه به عنده شيء في الوجهين ، وهو مذهب مالك

(14/185)


على ما قاله في أول سماع أشهب من كتاب الصدقات والهبات ، وقد مضت هذه المسألة والتكلم عليها في أول سماع أشهب من هذا الكتاب ، وفي رسم البز من سماع ابن القاسم ، من كتاب الصدقات والهبات ، وفي أول سماع أشهب منه أيضاً ؛ وأما إذا خطب إلى رجل ابنته البكر فقال : قد زوجتها فلاناً ، فطلب ذلك المقر له ؛ ففي ذلك ثلاثة أقوال ، أحدها : أن النكاح يجب طلبه بذلك القول ، أو بقول متقدم ؛( وهو قول أصبغ في هذه الرواية ، وإليه ذهب ابن حبيب .
والثاني الفرق بين أن يطلبه بذلك القول أو بقول متقدم ، وهو قول ابن كنانة في هذه الرواية ، وقول أصبغ وروايته عن ابن القاسم في رسم النكاح من سماع أصبغ من كتاب النكاح ، فإن طلبه بقول متقدم ، حلف الزوج بالله لقد كان زوجه ، ويثبت النكاح ؛ قاله ابن القاسم في سماع أصبغ من كتاب النكاح ، وهو مفسر لقول ابن كنانة : وأن طلبه بهذا القول ، حلف الأب بالله ما كان ذلك منه إلا اعتذاراً إليه ، وما زوجه ؛ - قاله ابن القاسم أيضاً .
والثالث إنه لا شيء له - طلبه بذلك القول أو بقول متقدم ) ، وهو قول ابن المواز ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب شهد على شهادة ميت
وعن رجل وجد ثوراً ميتاً في الجبل ، فعلم إنه لبعض جيرانه ، فسلخه فأتى إلى صاحبه بجلده ؛ فقال : هذا جلد ثورك ، وجدته بمكان كذا وكذا قد مات ، فقال له صاحب الثور : بل أنت قتلته ؛ هل تراه ضامناً الثور ؟ قال ابن القاسم : لا شيء على الذي

(14/186)


جاء بالجلد وسلخ الثور - بعد أن يحلف بالله إنه لم يقتله ولم يتعد فيه .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ماق إله إذ لا يؤخذ أحد بأكثر مما أقر به على نفسه ، ولو قال وجدته على أن يموت فذبحته نظراً لك قبل أن يموت ، للزمه ضمانه قولاً واحداً ، ولم يدخل فيه الاختلاف الذي في الراعي يخاف على الغنم الموت فيذبحها ، لأن هذا لم يأتمنه صاحبه على شيء ، فهو متعد عليه في ذبح ثوره ، ولعله لو لم يذبحه لعاشر ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله يدير ماله
وسئل ابن القاسم عن رجل أقر أن هذه البقعة بينه وبين فلان ، وأن ما فيها من البنيان له وحده ، قال البنيان تبع للأصل ، فجميع ذلك بينهما - وهو مدع ، ورواها أصبغ عن ابن القاسم وقال لا أرى ذلك ، وارى إذا كان إقراره ودعواه نسقاً ليس بمفترق ، وكان الذي أقر به وفيه لا يعرف إلا له ، وليس هو إلا في يديه حتى لو لم يقر بما أقر ، لم يكن لفلان ذلك حتى يستحقه ، فليس له إلا ما أقر به من العرصة ، وله ثنياه في البنيان وينقض أو يعطيه نصف قيمته ويكون بينهما أو يقتسمانه ، فإن صار في حصة الباني فهو له ، وإن وقع في حصة الآخر نقضه له وأعطاه قيمته .

(14/187)


قال محمد بن رشد : هذا من قول ابن القاسم مثل قوله في سماع أصبغ من كتاب جامع البيوع في رسم الكراء والأقضية منه ، وفي نوازله من كتاب المديان خلاف قوله في كتاب الغصب من المدونة في هذه المسألة وفيما يشبهها إنه يصدق إذا كان كلامه نسقاً ، وهو قول أصبغ . ومن هذا المعنى مسألة هي أشكل منها لمعنى زايد فيها ، قد مضى الكلام عليها في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم من كتاب الإيمان بالطلاق ، وهي قول الرجل لامرأته أنت طالق البتة ، أنت طالق البتة ، أنت طالق البتة ، إن أذنت لك إلى اهلك وقد كانت سألته الإذن أو لم تسأله إياه ، فلا معنى لإعادته ، وبالله التوفيق .
( ومن كتاب البراءة )
وسألته عن الرجل يقر لولده أو لامرأته أو لبعض من يرثه بدين في الصحة يموت الرجل بعد سنين ، فيطلب الوارث الذي أقر له في الصحة فذلك له .
قال محمد بن رشد : هذا هو المعلوم من قول ابن القاسم عن مالك المشهور في المذهب ، ووقع في المبسوط لابن كنانة ، والمخزومي ، وابن أبي حازم ، ومحمد بن مسلمة إنه لا شيء له - وإن أقر له في صحته ، إذا لم يقم عليه بذلك حتى هلك إلا أن يعرف ذلك عسى أن يكون قد باع له راسا ، أو أخذ من مورث أمه شيئاً ، فإن عرف ذلك ، وإلا فلا شيء له ، وهو

(14/188)


قول له وجه من النظر ، لأن الرجل يتهم أن يقر بدين في صحته لمن يثق به من ورثته على ألا يقوم به عليه حتى يموت فيكون وصية لوارث ، وبالله التوفيق .
مسألة
وسألته عن رجل أتى إلى رجل فقال له هات ثمن الثوب الذي بعتك ، فقال ما بعتنيه ولكن أمرتني أن أبيعه ، فالقول قول صاحب الثوب ويحلف إنه باعه منه 0 فإن نكل عن اليمين ، حلف الآخر وبرئ ، قلت ، فإن حلف صاحب الثوب إنه باعه منه ) واختلفا في الصفة ، فقال يقال لمشتري الثوب صفه ، فإذا وصفه حلف على صفته ثم قومه أهل البصر وغرم القيمة ، قلت فإن نكل ، قال يقال لصاحب الثوب صفه ، فإذا وصفه قومت صفته وغرم المشتري . قلت فإن اتيا جميعاً بما يستنكر في صفة الثوب ، ونكلا عن اليمين ؟ قال القول قول مشتري الثوب . قلت فإن كانت قيمة الثوب أدنى من الثمن الذي باعه به ، قال يقال للذي باع الثوب اتق الله أنظر إن كان قولك في الثوب حقاً إنه امرك ببيعه فادفع إليه بقية ثمن ثوبه ولا تحبسه ولا يقضى عليه بذلك ، لأن صاحب الثوب يدعي إنه باعه منه ، وقال أنظر كل يمين وجبت على رجل في شيء ادعاه على صاحبه فنكل عن اليمين ، مثل أن يقيم شاهداً واحداً على حق له فيكلف اليمين مع شاهده ، وينكل ويرد اليمين على صاحبه ، فإذا نكل الذي ردت عليه اليمين فهو غارم ، وإن حلف برئ ، وإن لم تكن له بينة ، الحف المدعى عليه ، فإن حلف برئ ، وإن

(14/189)


نكل قيل للمدعي احلف فإن حلف استحق حقه ، وإن نكل فلا شيء له ، وأن اختلفا ، فقال صاحب الثوب أمرتك أن تبيع بالنقد ، وقال الآخر بل أمرتني أن ابيع بالدين ، قال إن لم يفت الثوب في يد المشتري ، حلف صاحب الثوب واخذ ثوبه ، وإن فات في يد المشتري ، كان القول قول بائع الثوب ، وهو بمنزلة ما لو قال أمرتك أن تبيع بعشرة ، وقال الآخر بل بثمانية ، فإنه إن لم يفت الثوب بيد المشتري ، حلف صاحب الثوب ، وأخذ ثوبه ، وإن فات كان القول قول البائع قال وليس على بائع الثوب يمين إذا لم يفت .
قال محمد بن رشد : قوله القول قول صاحب الثوب ويحلف إنه باعه منه ، يريد ويحلف الآخر قد أمره ببيعه ، لأن كل واحد منهما مدع على صاحبه . صاحب الثوب يريد إني لزمه غرم الثمن الذي ادعى إنه باع به الثوب منه ، والآخر يريد أن يلزمه أخذ الثمن الذي ادعى إنه باع به الثوب ، فيمين صاحب الثوب ينفي ما ادعى عليه الآخر من الوكالاة ولا يوجب له أخذ ما ادعاه من الثمن ، لأنه فيه مدع ، وإنما يوجب له القيمة ، لأنه يبطل بيمينه ما ادعاه عليه من الوكالة ، فتجب عليه القيمة للتعدي بالبيع ، وذلك إذا كان الثمن الذي باعه به أقل من قيمة الثوب ، مثل أن تكون قيمة الثوب تسعة ، فيبيعه بثمانية ، ويدعي رب الثوب إنه باعه منه بعشرة ؛ ولو كان باع الثوب بتسعة وهي قيمة الثوب ، لكان القول قوله إنه أمره ببيعه ولم يكن على صاحب الثوب يمين ، إذ لا فائدة ليمينه ، لأن يمينه ، إنما توجب له القيمة التي قد أقر الآخر إنه باع ثوبه بها ، ولو باع الثوب بعشرة فأكثر ، لم يحلف واحد

(14/190)


منهما ، لأن العشرة التي يدعي صاحب الثوب إنه باع منه ثوبه بها ، قد أعطاه الآخر إياها ، والزيادة على العشرية تكون موقوفة ، لأن كل واحد منهما ينفيها عن نفسه ويقربها لصاحبه ، وقد مضى الاختلاف في الحكم فيها في آخر رسم يوصي ، فلا معنى لإعادته ، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر كان القول قول الحالف منهما ، وذلك بين من قوله في الرواية ، فإن نكل عن اليمين ؛ حلف الآخر وبرىء ، وكذلك لو نكل هو حلف صاحب الثوب ، كان له ما ادعاه من الثمن الذي حلف عليه ، وإن حلفا جميعاً ، أو نكلا جميعاً ، كان لصاحب الثوب قيمة ثوبه إذا كان الثوب قد فات ، وأما إذا كان الثوب قائماً بيد المشتري لم يفت ، فقال في كتاب ابن المواز ، ومثله ابن القاسم في رواية أصبغ عنه إنه يرد إذا تحالفا ، واعترض ذلك أبو إسحاق التونسي ، فلا يجب أن يرد ، لأنهما جميعاً يقران أن بيع الوكيل لا يجب أن ينقض ، لأن رب الثوب يقول
بعته منه ، فبيعه لا ينقض ، والوكيل يقول أمرني ببيعه فلا ينقض بيعي . وقوله في الرواية وإن حلف صاحب الثوب إنه ما باعه منذ يريد وقد حلف صاحبه فوجبت عليه القيمة ، واختلفا في الصفة إنه يقال للمشتري للثوب صفة يريد للمدعى عليه الشراء ، وهو صحيح ، لأنه الغارم ، فوجب أن يكون القول قوله ، وفي قوله في الرواية إنه إن كانت قيمة الثوب أدنى من الثمن الذي باعه به ، قيل للذي باعه اتق الله وادفع إليه بقية ثمن ثوبه ، ولا يقضى عليه بذلك ، لأن صاحب الثوب ، إذ يزعم إنه ثمن ثوبه ، ولا يقضى عليه بذلك ، لأن صاحب الثوب يدعيه وزيادة عليه ، لأنه يقول إنه باع منه ثوبه بأكثر من ذلك ، وصفة ايمانهما إذا حلفا أن يحلف صاحب الثوب ما أمره ببيعه وليس عليه أن يزيد في يمينه : ولقد باعه منه بكذا وكذا ، إلا أن

(14/191)


يشاء أن يزيد ذلك في مينيه رجاء أن ينكل صاحب عن اليمين فلا يحتاج إلى يمين أخرى ، ويمينه إنه باعه منه بكذا وكذا ، على ما قاله في الرواية ، يقتضي نفي الوكالة التي يدعي عليه بها ، فالصواب أن يصرح في يمينه بذكرها فيحلف إنه ما وكله على بيعها ، فإن شاء أن يزيد مع ذلك ولقد باعها منه رجاء أن ينكل صاحبه ، كان ذلك له على ما ذكرناه ، وأما الآخر فيحلف ما اشترى منه الثوب ولا يزيد في يمينه : ولقد أمره ببيعه ، إذ لا فائدة ليمينه بذلك إذ قد حلف رب الثوب على تكذيبه في ذلك ، وبالله التوفيق .
مسألة
وقال أنظر كل يمين وجبت على رجل في شيء ادعاه على صاحبه فنكل عن اليمين ، مثل أن يقيم شاهداً واحداً على حق له فيكلف اليمين مع شاهده وينكل ويرد اليمين على صاحبه ، فإذا نكل الذي ردت عليه باليمين ، فهو غارم وإن حلف برئ ، وإن لم تكن له بينة احلف المدعى عليه ، فإن حلف برئ ، وإن نكل ، قيل للدعي احلف ، فإن حلف استحق حقه ، وإن نكل فلا شيء له .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال ، وهو مما لا اختلاف فيه في المذهب ، والمخالفون في ذلك أهل العراق الذين يقضون بالنكول ولا يردون اليمين في الدعوى ، وبالله التوفيق .
مسألة
وقال أن اختلفا : فقال صاحب الثوب أمرتك أن تبيع بالنقد ،

(14/192)


وقال الآخر بل أمرتني أن ابيع بالدين ؛ قال أن لم يفت الثوب في يد المشتر ين حلف صاحب الثوب واخذ ثوبه هذا وأن فات في يد المشتري ، كان القول قول بائع الثوب ؛ وهو بمنزلة ما لو قال أمرتك أن تبيع بعشرة ، وقال الآخر بل بثمانية ؛ فإنه إن لم يفت الثوب بيد المشتري ، حلف صاحب الثوب وأخذ ثوبه ؛ ( فإن فات كان القول قول البائع ، قال : وليس على البائع للثوب يمين - إذا لم يفت ،
قال محمد بن رشد : هو مثل ما في المدونة وغيره ، ولا اذكر في ذلك نص خلاف ، وإنما الخلاف إذا نكل عن اليمين : فقيل يلزمه البيع بالنكول بالثمانية أو إلى الأجل ولا ترجع اليمين على البائع ، وهو قوله في هذه الرواية وليس على البائع للثوب يمين إذا لم يفت ، وكذلك يقول ابن المواز إنه لا يحلف المأمور ، وقال أصبغ يحلف ؛ ووجه هذه الرواية وما ذهب إليه ابن المواز ، أن الحق في يمين رب السلعة إنما هو للمشترين لأنه يقول له ما قال البائع من انك إمرته بأن يبيع بثمانية ، أو إلى أجل ، فاحلف على ما تدعي من انك لم تأمره بذلك ؛ فإن حلف أخذ سلعته ، وأن نكل عن اليمين لزمه البيع ولم ترجع اليمين على المأمور البائع ، لأنه يتهم إن رجعت عليه اليمين أن ينكل عنها ، لينقض البيع بعد أن باع ، ولا على المشتري ، لأنها يمين تهمة فلا ترجع ؛ وقد قيل في يمين التهمة إنها ترجع ؛ فعلى هذا أن نكل رب السلعة عن اليمين ، حلف المشتري وصح له البيع ، وقد قيل في يمين التهمة إنها لا تلحق ؛ فعلى هذا إذا كانت السلعة قائمة ولم يحقق المشتري

(14/193)


على رب السلعة ما قاله البائع من إنه أمره أن يبيع بثمانية ، أخذ سلعته دون يمين ؛ وأما أن حقق عليه الدعوى ، فتلزمه اليمين ، وله ردها عليه ؛ ووجه ما ذهب إليه أصبغ من أن صاحب السلعة إذا نكل عن اليمين ، ترجع اليمين على البائع المأمور ، وهو أن التداعي في ذلك ، إنما هو بين صاحب السلعة وبين المأمور ؛ فإن حلف صاحب السلعة أخذ السلعته ، وإن نكل عن اليمين حلف المأمور ولزم صاحب السلعة البيع ؛ فإن نكل المأمور ، كان القول قول صاحب السلعة فيما ادعى من إنه أمره بعشرة ، وأغرمه الدينارين الزائدين على الثمانية ؛ فإن حلف الأمر واخذ سلعته وأراد المشتري أن يحلف المأمور إنه ما رضي أن يحمل عنه الدينارين فقال أصبغ ذلك له ، وقال محد لس ذلك له إلا بتحقيق يحققه عليه إنه حمل عنه الدينارين ، وقوله في الرواية إنه إن فاتت السلعة ،
كان القول قول البائع المأمور ، هو مثل ما في المدونة وغيرها ؛ واخلتف بما تفوت : فقيل إنها تفوت بحوالة الأسواق فما زاد ، وهذا يأتي على ما في كتاب محمد في أن من أمر رجلاً أن يبيع له سلعة فباعها من نفسه ، أن حوالة الأسواق فيها فوت ، ولا يشبه إنها لا تفوت إلا بالعيوب المفسدة ، لأنه ليس ببيع فاسد ، وقيل إنها لا تفوت إلا بذهاب عينها ، وهذا القول في العشرة ليحيى عن ابن القاسم وهو القياس ، لأنها إذا بيعت بما لم يأمر به ، فكأنها قد بيعت بغير أمره ، فهي كالمستحقة ، ومن أفاتها بالعيوب المفسدة ، راعى شبهة الوكالة ، كما راعاها ابن القاسم في النكاح فيمن أمر رجلاً أن يزوجه بخمسين فزوجه بمائة ، وقال بذلك أمرتني فحلف ، أن النكاح يفسخ بطلاق ؛ وقال المغيرة يفسخ بغير طلاق ؛ فعلى قياس قوله لا تفوت السلعة في مسألتنا إلا بفوات عينها على ما ذكرناه من قول ابن القاسم في العشرة ؛ وأن فاتت السلعة فنكل المأمور عن اليمين ، حلف رب السلعة واغرمه الدينارين ؛ قال أبو إسحاق التونسي ولا يرجع على المشتري بها أن كان المأمور

(14/194)


عديماً ، بخلاف هبة الغاصب إذا عدم إنه يرجع بذلك على الموهوب ، لأن المشتري ههنا لم يدخل ( على إنه موهوب له ، وإنما دخل ) على حكم الشراء بأمر يمكن أن تباع به السلعة ، فلا يرجع عليه بشيء ؛ قال ولو ظهر إنه باع بأمر لا يمكن أن يباع به ، مثل أن يبيع ما يساوي مائة بعشرين ، لوجب أن يكون ذلك كهبات الغاصب ، إذ ليس هو من جنس ما وكل عليه ، يرجع على المشتري أن كان المأمور عديماً ، وبالله التوفيق .
( ومن كتاب العتق )
وسئل ابن القاسم عن رجل قال لآخر فلان الذي في منزلك ساكن بأي وجه يسكنه ؟ فقال أنا أسكنته بلا كراء ، والساكن في المنزل يسمع ذلك فلا ينكر ولا يغير ، هل ترى سكوته يقطع دعواه أن ادعى ذلك المنزل يوماً ما ، قال لا أرى ذلك يقطع دعواه إذا كانت له بينة عادلة على أن المنزل منزله ، لأنه يقول إنما ظننت إنه يداعبه وما أشبه ذلك ؛ لأنه أمر معروف ، فيكون على حقه إذا قامت له بينة أن المنزل منزله ، ويحلف على ذلك ؛ وسئل عن رجل سئل عند موته لا لأحد عندك شيء ؟ فقال لا ، قيل ولا لامرأتك ؟ قال لا - والمرأة جالسة ، ثم تجئي تطلب حقها - ولها عليه بينة ؛ قال تحلف بالله أن حقها عليه وتأخذ إذا شهد الشهود أن لها عليه بعد دخوله ، ولا يضرها سكوتها .

(14/195)


قال محمد بن رشد : قول ابن القاسم في هاتين المسألتين خلاف قوله في رسم العرية من سماع عيسى من كتاب المديان ، والقولان مشهوران في المذهب ، منصوص عليهما لابن القاسم في غير ما موضع من كتبه ، أحدها ما في رسم العرية من سماع عيسى من الكتاب المذكور أن السكوت على الشيء إقرار به واذن فيه ، والثاني قوله في هذه الرواية ، وفي سماع من كتاب المدبر ، وفي غير ما موضع : أن السكوت على الشيء ليس بإقرار به ولا إذن فيه ، وهو ظاهر القولين وأولاهما بالصواب ؛ لأن في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - والبكر تستأذن في نفسها ، واذنها صماتها . دليلاً على أن غير البكر في الصمت بخلاف البكر ، وقد أ<معوا على ذلك في النكاح ، فوجب أن يقاس ما عداه عليه إلا ما يعلم بمستقر العادة أن احداً لا يسكت عليه إلا راضياً به ، فلا يختلف في أن السكوت عليه إقرار بهكالذيح يرى حمل امرأته فيسكت ولا ينكر ، ثم ينكره بعد ذلك ، وما أشبه ذلك ؛ وقد مضى هذا المعنى في رسم اسلم من سماع عيسى من كتاب النكاح ، وفي غير ما موضع من كتابنا هذا . وقوله تحلف بالله أن حقها عليه ، معناه أن حقها عليه ، باق إلى الآن لم تقبضه ولا وهبته ، ولا سقط عنه بوجه من الوجوه ؛ لا أن حقها عليه حق ، إذ قد شهد لها الشهود بذلك ، فلا تحلف عليه ، وإنما تحلف على ما لم يثبت الشهود فيه الشهادة ، وإنما شهدوا فيه على العلم من إنهم لا يعلمون الحق تأدى ولا سقط ، وبالله التوفيق .

(14/196)


من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم من كتاب الكبش
قال يحيى وسألت ابن القاسم عن نصراني مات وترك أولاداً فتأخر اقتسامهم ما هلك عنه النصراني زماناً ، ثم تداعوا إلى قسمته وفيه حينئذ مسلم ، فأراد النصراني دفعه عن الميراث ، وقالوا مات أبونا وأنت مسلم ؛ وقال المسلم لم اسلم إلا منذ قريب بعد ما كان وجب لي الميراث ؛ على ايهم ترى البينة فيما تدعوا فيه ؟ فقال البينة علىالمسلم أن اباه مات وهو نصراني يوراثه ، وذلك أن إسلامه ظاهر ، فهو مدع لأخذ ميراث بدين كان عليه بزعمه يوم مات أبوه ، فلا أراه يستوجب شيئاً بدعواه ، وعليه البينة ، وإلا فلا ميراث له .
قال محمد بن رشد : محمد بن عبد الحكم يرى القول قول المسلم إنه اسلم بعد موت أبيه - وقاله أصبغ في الواضحة ، وقال لأن أصله النصرانية التي تحق له الميراث ، فمن طلب أن يزيله عن ذلك فهو المدعي ؛ واحتج على قول ابن القاسم بقوله لو مات الأب واختلف هو وأخوه ، فقال هذا مات مسلماً ، وقال الآخر مات نصرانياً ، أن القول قول النصراني ، لأن أباه قد عرف بالنصرانية ، وقول ابن القاسم اظهر ، ولا يلزمه ما احتج به عليه أصبغ ، لأن النصراني لم يعلم إسلامه ، فهو محمول على النصرانية حتى يعلم إسلامه ؛ وهذا في مسألتنا مسلم يدعي إنه كان نصرانياً يوم مات أبوه ، فعليه

(14/197)


إقامة البينة على ذلك ، كما قال ابن القاسم ، وبالله التوفيق .
مسألة
قال وسألته عن رجل ادعى على رجل إنه افتض ابنته وأنكر ذلك الرجل اذي رمي بذلك ، ثم قال المنكر بعد إنكاره ينظر إليها النساء ، فإن لم تكن بكراً فأنا بها ؛ فنظر إليها النساء فإذا هي مفتضة ، فأنكر أن يكون فعل ذلك بها ؛ أترى قوله ينظر إليها النساء ، فإن لم تكن بكراً فانا بها اقراراً ؟ قال لا أراه بهذه المقالة مقراً ، لأنه يقول إذا رجع إلى الإنكار رجوت أن تكون براءتي إذا نظر إليها النساء ، وأن تكون سالمة مما ظن بها ابوها ؛ فإذا لم توجد كذلك ، فليست بها ، فلا أرى الحد ولا الصداق يزلمه بمثل هذا حتى يقيم على الإقرار ؛ قلت فإذا لم يلزمه بالذي قال إقرار ، افترى الأب بالذي ادعى قبله مما لم يثبته عليه من افتضاض ابنته قاذفاً له ، قال أن رمى بذلك رجلاً مشهوراً بالعدل ، غير متهم بالفواحش ولا مظنون به القبيح ، ولا مشار به إليه رأيته قاذفا له بالذي رماه به ، قال وأن رمى بذلك رجلاً من أهل التهم والظنة ، لم أر عليه حداً ولا نكالاً .
( قال محمد بن رشد : هذه مسألة بينة صحيحة لا إشكال فيها ولا التباس في شيء من معانيها فلا يفتقر إلى التكلم عليها وبالله التوفيق ) .

(14/198)


ومن كتاب الأقضية
قال يحيى وسألت ابن وهب عن الرجل يدعي عليه الرجل بمائة دينار ، فيدعي المدعى عليه أنه قضاه مائة دينار وعشرين ديناراً ويأتي بالبينة على ذلك ولا تشهد البينة على المائة الدينار - بعينها - إنها دخلت في المائة والعشرين ، فيقول الطالب إنما لي عليك مائة دينار من ثمن عطر بعتكه ، وثبت ذلك له بالبينة أو إقرار المشتري ، فيقول له الطالب هات البينة انك قضيتني ثمن العطر بعينه ، ويقول المشتري للمدعى عليه قد قضيتك مائة وعشرين ثمن العطر فيها . فهل يبرأ المطلوب بهذه الشهادة أم لا ؟ وسألت عنها ابن القاسم فقال يحلف المدعى عليه بالله : دخلت المائة الدينار ثمن العطر - في المائة وعشرين الدينار التي قضى ، ثم لا شيء له عليه ؛ قال ولقد بلغني عن بعض العلماء إنه سئل عن الرجل ادعى على رجل يأل دينار وأتى بذكر حق ، فأتى المدعى عليه ببراءة من الفي دينار ، قال يحلف المدعى عليه ويبرأ ، وهذا أمر الناس عندنا ؛ قال يحيى وسألت ابن نافع عن ذلك ، فقال أن كانت بينهما مخالطة معروفة وملابسة ، فالبينة على المطلوب أن المائة الدينار ثمن العطر - دخلت في العشرين ومائة ، وإلا غرم ،

(14/199)


لأن المخالطة التي جرت بينهما تدل على إنه قد عامله في غير العطر .
قال محمد بن رشد : سقط جواب ابن وهب في أكثر الكتب وثبت في بعضها : قال نعم ، فقوله ، مثل قول ابن القاسم ، ومثل ما حكى إنه بلغه عن بعض العلماء ؛ وأما قول ابن نافع في تفرقته بين أن تكون بينهما مخالطة وملابسة معروفة أو لا ، فهو خلاف قول ابن وهب ، وابن القاسم وما حكاه عن بعض العلماء ؛ إذ لا فرق على مذهبهم بين أن تكون بينهما مخالطة وملابسة أو لا تكون ، القول عندهم قول المطلوب في الوجهين جميعاً حتى يأتي الطالب بمن يشهد إنه كان له عليه دين سواه ، ولا اختلاف إذا لم تكن بينهما مخالطة وملابسة ( في ) أن القول قول المطلوب ، ولا في إنه إذا علم إنه كان له عليه دين غيره في أن القول قول الطالب ؛ وإنما الخلاف إذا كانت بينهما مخالطة وملابسة ، فابن نافع يرى القول قول الطالب ، وابن القاسم وابن وهب وغيرهما يرون القول قول المطلوب ، وقد مضى هذا في رسم إن خرجت من مساع عيسى ، ومضى تحصيل القول في ذلك أيضاً في سماع أبي زيد من كتاب الشهادات ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب الكبش
قال يحيى وسألته عن الرجل يصالح وارثاً من الورثة في جميع ما ورثه على شيء يعطيه إياه ، وقد كان للميت حظ في منزل بمصر أو القيروان ، والورثة وجميع ما ورثوا بالاندلس إلا هذا الحظ

(14/200)


الذي بمصر أو القيروان ، فصالحه على جميع ما ورثه عن أبيه ونص ميراثه من جميع ما هلك عنه أبوه بالاندلس ، ولم يذكر الحظ الذي كان بمصر ، ولم يكن الوارث يعرف كم حقه من ذلك الحظ ؛ قال أن كان صالحه في جميع موروثه ، فهذا الحظ الذي بمصر من الجميع ؛ فإن كان الحظ مجهولاً أو كان معروفاً ولم يره المصالح ولم يوصف له ولم يره له رسول ولم ينعت له حتى يكون قد صالح في أمر يعرف قدره أو نعته ، فالصلح منتقض ؛ قلت أرأيت إن قال المصالح إنما صالحتك في جميع ما ورثت بالأندلس ، ولم أرد ما كان لك بمصر ، لأني لم أعلم انك ورثت بها شيئاً ، ليجوز بذلك الصلح حين خاف أن ينتقض لجهالتهما بالحظ الذي بمصر ، وقال لا حاجة لي بذلك الحظ ؛ لأنه ليس مما صالحتك عليه ، ولا علمت به ؛ وقال الوارث بل وقع الصالح في جميع مورثي والحظ الذي بمصر من مورثي ، فهو مجهول لا علم لي به ولا لك ، والصلح بلك منتقض في جميع المورث ؛ أترى أن ينتقض ؟ فقال يقال للوارث إن جئت بالبينة أن هذا الذي صالحك كان عالماً أن لك بمصر موروثاً ، فصالح على الجميع ، وذلك الحظ مجهول ، فسخنا الصلح ؛ وإن لم يأت بالبينة احلف المصالح بالله لما علم بالحظ الذي بمصر ولا أراد بالصلح إلا المورث الذي بالأندلس وقد نصصنا ذلك كله وعرفناه ، ثم يجوز الصلح بينهما إن حلف فإن نكل فسخ .
قال محمد بن رشد : قوله فصالح وارثاً من الورثة في جميع مورثه على شيء يعطيه إياه ، معناه يشتري منه مورثه بشيء يعطيه إياه . وقوله فإن

(14/201)


كان الحظ مجهولاً ، معناه مجهول القدر عندهما جميعاً ، لا يعلم واحد منهما أن كان ثلثاً ، أو ربعاً ، أو نصفاً ، أو أقل ، أو أكثر . وقوله أو كان معروفاً ولم يره المصالح ولم يوصف له ، يريد ولا رأه الوارث أيضاً ولا وصف له ، لأن البيع لا يكون فاسداً إلا إذا جهلا جميعاً قدره أو صفته مع علمهما به ، وأما إذا علم ذلك أحدهما وجهله الآخر فليس ببيع فاسد ، وإنما هو بيع غش وخديعة ، يكون الجاهل منهما إذا علم مخيراً بين إمضاء البيع أو رده . وقوله إنه إذا ادعى المشتري إنه لم يعلم بهذا الحظ المجهول ليصح له الشراء فيما ادعاه ، يحلف على ذلك ويجوز الصلح بينهما . أي الشراء فيما عدا ذلك الحظ صحيح ، لأنه ادعى صحة ، وادعى الوارث فساداً ؛ فوجب أن يكون القول قوله لادعائه الصحة .
وقوله وأن نكل فسخ ، يريد بالنكول دون رد يمين ، لأن الظاهر أن الصلح قد وقع عليه ، لأنه من المورث وهما قد تصالحا على جميع المورث ، وقد قال بعض الشيوخ أن فسخه البيع في هذه المسألة دون رد اليمين ، خلاف قوله في مسألة رسم أن خرجت من سماع عيسى من كتاب المديان والتفليس ، إنه أن أبي أن يحلف ، حلف الذي عليه الحق وفسخ الشراء ؛ وليس ذلك عندي بصحيح ، بل يرجع اليمين في ذلك في وجه دون وجه حسبما فصلناه ، وبينا القول فيه وشرحناه هناك ؛ ولو اتفقا جميعاً على انهما لم يعلما بالحظ الذي بمصر أو القيروان ، لبقي للوارث ، وصح البيع فيما سواه ونفذها ؛ ولو اتفقا على انهما قد علما به - وهو مجهول القدر أو الصفة ، لكان البيع فاسداً ؛ وأما إذا اختلف في ذلك ، فلا يخلو اختلافهما من سبعة أوجه لا ثامن لها ، قد ذكرناها وبينا وجه الحكم في كل واحد منها - في رسم أوصى من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع ، فاكتفينا بذكرها هناك عن إعادتها ههنا مرة أخرى ، وبالله التوفيق .

(14/202)


ومن كتاب الصبرة
وسئل عن الرجل يذبح شاة لرجل فيلزمه غرم قيمتها ، فيريد صاحبها أن يأخذ منه بالذي الزمه من القيمة حيواناً من الأنعام شاة ، أو بقرة ، أو فصيلا ًمن الإبل ، أو ما أشبه ذلك ، ( والشاة ) المذبوحة بحالها لم يفت لحمها بعد ، فقال لا يجوز له أن يأخذ بها شيئا من الحيوان الذي لا يجوز أن يباع بلحمها ؛ قلت ولم وإنما وجبت لرب الشاة على ذابحها القيمة من دنانير أو دراهم ؟ فقال لأن رب الشاة ما دام لحمها لم يفت ، مخير بين أن يأخذها مذبوحة بعينها ، وبين أن يأخذها قيمتها حية ، فلما كان له الخيار ، كره له أخذ الحيوان من الأنعام بتلك القيمة التي وجبت له على الذابح ، لأنه يترك لحماً لو شاء أخذه ويأخذ به شاة حية ، فيدخله بيع اللحم بالحيوان ؛ قلت فإن فات لحمها من يد الذابح ؟ قال لا بأس بذلك حينئذ أن يأخذ بالقيمة التي وجبت له شاة من حيوان الأنعام وغيره ، يتعجل ذلك ولا يدخره .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال إنه لا يجوز له أن يأخذ بقيمة الشاة التي ذبحت له ما دام لحمها قائماً لم يفت ، حياً من ذوات الأربع ، كان مما يقتني أو مما لا يقتني ، لنهي النبي عليه السلام عن اللحم بالحيوان ؛ وأما إذا فات اللحم فيجوز له أن يأخذ بالقيمة التي وجبت له

(14/203)


عليه ما شاء من حيوان الأنعام وغيره ، يريد بعد المعرفة بقيمة الشاة ، وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن الرجل يستهلك صبرة الرجل من القمح فيجب عليه قيمتها ، فيريد أن يعطيه بها قمحاً يصالحه عليه ، أو شعريا ًن أو سلتا ؛ فقال ما استهلك من الطعام الذي لا يعرف كيله فوجب على مستهلكه غرم قيمته ، فلا بأس أن يؤخذ منه بتلك القيمة من أصناف الطعام المخالفة للذي استهلك أو عرضاً من العروض يتعجل ذلك ولا يؤخره ؛ فإن صالحه على شيء من القمح أو الشعير أو السلت لم يصلح على الخرص ، لأنه صار طعاماً جزافاً مصبراً بكيل من الطعام ، أو مصبر يرى إنه مثله ، ولا يوصل إلى استيفان اعتدالهما وتكافئهما في الكيل والطعام ؛ فالطعام لا يصلح إلا مثلا بمثل ، كيلا بكيل ، وليس بالتحري ولا بالخرص ، ولكن إن صالحه على كيل لا يشك إنه أدنى مما كان في الصبرة المستهلكة باليقين ، والأمر البين الذي يقطع الشك منه نف لا بأس به ، وإنما هو حينئذ رجل أخذ بعض حقه ووضع بعضه ؛ ولا بأس إذا كان هكذا أن يأخذ قمحاً أو شعرياً أو سلتاً ، إذا استيقن إنه أقل مما كان في الصبرة المستهلكة .
قال محمد بن رشد : قوله إنه يجوز أن يصالحه على كيل لا يشك إنه أدنى مما كان في الصبرة المستهلكة باليقين والأمر البين الذي ينقطع الشك

(14/204)


فيه ، أي أقل كيلاً فيأخذ ذلك قمحاً أو شعرياً أو سلتاً ، هو خلاف نص قوله في المدونة إنه لا يجوز له أن يأخذ بعد حلول الأجل محمولة من سمراء أقل من مكيلته ، ولا شعيرا من قمح ، لأنه من بيع الطعام بالطعام متفاضلا ، لأن المحمولة قد تكون في بعض الأحوال أفضل من السمراء ، والشعير قد يكون أفضل من القمح ، فيكون ذلك مبايعة لا حطيطة ، فيدخله التفاضل فيما لا يجوز فيه التفاضل ؛ وقال أشهب إنه جائز ، وهو مثل قول ابن القاسم في هذه الرواية لأنه لا يراعى ما قد تؤول إليه الأسواق من ارتفاع قيمة الشعير حتى لعله يكون أغلى من القمح أو ارتفاع قيمة المحمولة حتى لعلها تكون اغنى من السمراء ؛ ويرى إنه إذا أخذ من الشعير أقل من كيل ما كان له من القمح أو من المحمولة أقل من كيل ما كان له من السمراء ؛ والقمح في ذلك الوقت اغلى من الشعير ، والسمراء اغلى من المحمولة ؛ فلم يبايعه وإنما وضع عنه بعض حقه وتجاوز عنه في صفة بقيته ، وهو اظهر من قوله في المدونة لا سيما إذا أخذ شعيراً من قمح أقل من كيله ، لأن جل الناس يرون القمح والشعير صنفين ، فيجيزون التفاضل بينهما على ما قد جاء في الحديث من قوله فيه " وبيعوا القمح بالشعير كيف شئتم " . ولو أخذ المحمولة من محمولة ، أو سمراء من سمراء ، أو شعيراً من شعير أقل من كيله وادنى من صفته بعد حلول الأجل ، لجاز ذلك باتفاق ؛ إذ لا يكون الرديء من ذلك أفضل من جيده على حال ؛ ولو أخذ قبل محل الأجل في القرض سمراء من محمولة ، أو قمحاً من شعير ، مثل كيله ، لجاز على قول ابن القاسم في هذه الرواية ، وعلى قول أشهب ؛ ولم يجز على قول ابن القاسم في المدونة ، لما ذكره من أن الأسواق تختلف حتى يكون الشعير انفق من القمح ، أو المحمولة انفق من السمراء ، وبالله التوفيق .

(14/205)


ومن كتاب الصلاة
وسئل ابن القاسم عن رجل مات فصالح ولده امرأته على شيء من المال قاطعها عليه ثم طرأ عليهم وارث اثبت نسبه ، فقال الصلح ماض جائز والوارث يأخذ حقه منهم أجمعين من جميع ما هلك عنه الميت ؛ قلت وكيف يأخذ منهم ذلك ؟ قال أن كان له سدس الميراث أخذ الرجل من كل رجل وامرأة من الورثة سدس ما في يديه مما أخذ بالميراث وإن كان له الربع أو الخمس فكذلك .
قال محمد بن رشد : قوله الصلح ماض جائز ، معناه إن كان الولد أو أحدهم صالح المرأة من ماله على أن يكون له الثمن ، لأن المصالح يتنزل فيها بمنزلتها ، فيأخذه من جملة التركة ولا يكون للوارث الطارئ في ذلك كلام ، إذ لا رجوع له على الزوجة بشيء ؛ لأنها ترث الثمن على كل حال - قل عدد الورثة ، أو كثر ، وإنما ينظر إلى الجزء الذي يجب له مع جملة الورثة سوى الزوجة - قلوا أو اكثروا ، استوت سهامهم - مثل أن يكون الورثة مع الزوجة أولاداً ذكوراً أو بناتاً إناثاً ، أو اختلفت مثل أن يكون الورثة مع الزوجة ، أولاداً ذكوراً وإناثاً ، فيرجع بذلك الجزء على كل واحد منهم فيما بيده مما أخذه قل أو أكثر - كما قال ، فيستوفي بذلك حقه ، ولا يتبع الملئ منهم عن المعدم ؛ وقد قيل إنه إذا وجد أحدهم مليئا - وقد اعدم الثاني ساواه

(14/206)


فيما في يديه إن كان جزؤه مثل جزئه ، أو رجع عليه بقدر جزئه من جزئه إن لم يكن جزؤه مثل جزئه ، ويتبعان معا أصحابهما قايسا على المسألة التي في كتاب محمد ، وهي الرجل يترك زوجة وورثة غيرها فيقتسمون المال ثم تطرأ بعد ذلك زوجة أخرى فتجد هذه الزوجة الأولى التي أخذت الثمن كله عديمة إنها تترجع بحصتها في يد من وجدت مليئاً من الورثة ، ثم يتبع ذلك الذي رجعت عليه بحصتها فيما في يده الزوجة الأولى معها ، وهذا إذا كان الذي اقتسموا دنانير ، أو دراهم ، أو ما يكال ، أو يوزن ؛ فإن كان غير ذلك ، انقضت القسمة ؛ وأما إن كان الولد أو أحدهم صالح المرأة على ثمنها من التركة ، فلا يجوز ذلك على الوارث الطارئ إلا أن يشاء ، إذ قد يترك الميت في التمثيل سبعين مثقالاً ، وداراً تساوي خمسة عشر مثقالا أو عشرين ، فيصالحها الورثة على ثمنها بالدار ، فلا يلزم ذلك الوارث الطارئ ، ولا من لم يصالحها على ذلك من الورثة ، وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن الرجل يخاصمه الرجل في دار بيده ، فيصالحه على أن أعطاه مائة دينار وابطل دعواه فيها ، ثم جاء رجل فاستحق الدار أو نصفها ؛ فقال إن استحقت كلها رد المائة التي أخذ ، وإن استحق نصفها رد خمسين ، وعلى هذا الحساب يرد من المائة دينار بقدر ما يستحق من الدار .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال ، لأنه قد تبين باستحقاق الدار بطلان دعوى المدعي فيها ، فوجب أن يرد ما صولح به على دعواه التي قد

(14/207)


تبين كذبه فيها ؛ وكذلك إذا استحق منها النصف ، يرد نصف ما صولح به ، لأنه قد تبين كذبه في نصف دعواه ، إلا أن يطول الزمان إلى مثل ما تهلك فيه البينات وينقطع العلم ، فلا يرد المائة - قاله ابن القاسم في نوازل سحنون من هذا الكتاب في بعض الروايات ؛ فيحمل قوله هناك على التفسير لقوله هنا ، وهذا إذا كان الصلح على الإنكار ؛ وأما إذا كان على الإقرار ، فلا يرد شيئاً على قياس قول ابن القاسم في رواية عيسى من كتاب الاستحقاق في الذي يشتري العبد من الرجل فيستحق من يده ويقر المبتاع إنه من تلاد البائع إنه لا رجوع له عليه بالثمن ، وكذلك ما اشبهه ؛ ولسحنون في نوازله من هذا الكتاب في بعض الروايات ، إنه يرد ما أخذ في الصلح إذا استحق الشيء المدعي فيه سواء كان الصلح فيه على الإقرار أو على الإنكار ، ومثله لأشهب في المجموعة ، وذلك مثل قوله وقول ابن وهب في سماع عبد الملك من كتاب الكفالة والحوالة على ما ذهب إليه الشيوخ ، خلاف ما حملنا عليه قولهما في الكتاب المذكور ، ولسحنون في نوازله من كتاب جامع البيوع ما ظاهره مثل رواية عيسى ، فالقولان متكافئان ، لكليهما وجه من النظر ، فوجه القول بأنه لا رجوع له عليه بما صالحه به ، إذا كان الصلح على الإقرار ، هو إنه لا يصح له أن يرجع عليه بما يعلم إنه لا يجب عليه ؛ ووجه القول الثاني أن الصلح إذا كان على الإقرار ، فهو بيع من البيوع ؛ لأن المدعي باعه من المدعى عليه ، وهو يقر إنه له ؛ فمن حجته
في الرجوع عليه إنه يقول له أنت ادخلتني في شرائه فعليك أن تبطل شهادة من شهد علي بباطل حتى لا تؤخذ السلعة من يدي ، ويتهم إذا لم يفعل ذلك بأنه قصر في الدفع إذ علم أن المشتري لا يتبعه ، فأراد أن يكفله من الدفع في البينة ما هو الزم له منه ، وبالله التوفيق .

(14/208)


ومن كتاب يشتري الدور والمزارع
وسئل عن الرجل يقتل الرجلين عمداً فيثبت ذلك عليه فيصالح أولياء أحد القتيلين على الدية وعفوا عن دمه وأبى أولياء الآخر إلا أن يستقيدوا منه ، فقال القود لمن أخذه ، ولا يمنع من قتله الولي الذي لم يرد إلا القود ، من أجل ما رضي به الذين صالحوا على دم صاحبهم ؛ ولكن أن استقادموا ، بطل صلح الذي صالحوا على دم صاحبهم ؛ ولكن أن استقادوا ، بطل صلح الذي صالحوه ؛ لأنه إنما صالحهم للنجاة من القتل ، فإذا أبى الآخرون إلا القود ؛ فلا يجمع عليه القتل وذهاب المال في أمر لم يدخل عليه به مرفق .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال أن الصلح لا يلزم المصالح إذا أبى الولي الآخر إلا القود ، وفيه أيضاً فساد أن كان نفذ من أجل الخيار الذي للولي الثاني نف لا يجوز إن أجازه الولي الثاني إلا على اختلاف ، إذ قد اختلف في الصلح ينعقد بين المتصالحين على حرام نف قيل إنه يفسخ ولا يجوز ، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جائز بين المسلمين إلا صلحاً احل حراماً أو حرام حلالاً . وهو قول مطرف ، وابن الماجشون ؛ وقيل إنه ينعقد إذا وقع في وجه الحكم ، لما روي أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أتى بصلح فقرأه ، فقال هذا حرام ، ولولا إنه صالح لفسخته . وهو قول أصبغ ، قال وأما فيما بينه وبين الله ، فلا يحل له أن

(14/209)


يأخذ إلا ما يجوز في التبايع ، وأما إذا وقع الصلح بمكروه ، فقيل إنه بمضي ، وهو قول مطرف ، وقيل إنه يرد ما لم يطل ، وهو قول ابن الماجشون ، وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن الرجل يدعي قبل الرجل إنه سرق غلاماً له ، وينكر المدعى عليه ، فيصطلحان على مال يغرمه المدعى عليه للمدعي ، ثم يوجد العبد ، فقيل له لمن يكون : ألسيده ؟ أم للذي صولح حين ادعى عليه إنه سرقه ؟ فقال يكون للذي ادعى عليه إنه سرقه بالذي غرم في الصلح ؛ قيل له فلا يكون السيد أحق به إذا ظفره الله بعبده ، ويرد المال الذي أخذ بالصلح ؟ فقال ليس ذلك له ، لأنه لو وجد العبد اعور ، أو اقطع ؛ أو وجده بعد زمان - وهو هرم أو دخله نقص يعطبه ، فقال الذي صالح عما ادعى عليه إذ جاء إليه بالعبد ، فارد علي ما أخذت مني وخذ عبد : معيباً ، أو صحيحاً بحال ما وجدته ؛ فليس ذلك له ، ولا ينتقض عنه الصلح بظهور العبد ، لأنه وقع بأمر جائز حلال ، فهو ثبت بينهما ويكون العبد للذي صولح بما غرم - وجد صحيحاً أو معيباً .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال ، وهو على معنى ما في المدونة ، لأنه لما ادعى عليه إنه سرق غلامه فأنكر ، تعينت له عليه اليمين ، ومن حقه أن يردها على الدعي . فيحلف ويأخذ قيمة عبده ، فإذا اصطلحا ، فقد باع منه بما اصطلحا عليه ما كان يجب له به الرجوع عليه من قيمة عبده لو

(14/210)


حلف على ألا يحلف ، فوجب أن يكون العبد للمدعى عليه أن وجد بما أخذ منه في الصلح على إلا يحلفه ، وأن كان على حاله التي كان عليها حين سرق أو أفضل منها ، لأنه رضي بما أخذ ، ولو شاء استثبت ولم يعجل ، وكذلك إذا وجد ، وهو اقطع أو اعور ، ولا يكون للمدعى عليه أن يقول له هذا عبده فخذه ورد علي ما أخذت مني ، لأنه يقول هل أنت سرقته مني وغيبته عني ، وقد وقع الصلح فيه بيني وبينك على أمر جائز ، فليس لك أن تنقضه ، ولو أقر صاحب العبد للمدعى عليه لما وجد العبد مقطوعاً أو اعور ، إنه لم يسرقه منه ، وانه ادعى عليه باطلاً ، لوجب عليه أن يأخذ عبده ويرد عليه ما أخذ منه ، وبالله التوفيق .
من سماع عبد المالك بن الحسن من ابن وهب
قال عبد المالك سئل عبد الله بن وهب عن امرأة ذات زوج لها أرض فغرس زوجها فيها ، أو بنى بنياناً ثم هلك ، فادعت ذلك البنيان ، أو الغراس إنها هي بنته بمالها ، أو غرسته ، وادعى ورثة زوجها ، أن العمارة لزوجها ؛ من أولى بتلك العمارة - إذا لم يكن لواحد منهما بينة أو قامت البينة لورثة الزوج ، فادعت المرأة أن زوجها عمر لها أرضا بنفقتها وبمالها ، وأنكر ذلك ورثة الزوج وقالوا إنما انفق ماله وعمر ، وغرس لنفسه في أرض المرأة ؛ فقال : إن كانت الأرض معروفاً أصلها للمرأة لا تدافع عنها بوجه من الوجوه ، فلم يقم لورثة الزوج بينة على نفقة ولا على ولاية بنيان ولا

(14/211)


قيام عليه ، فالقول قول المرأة ، ولا شيء لورثة الزوج ولا للزوج لو كان حياً عليها أكثر من يمينها على ما يزعمون ؛ وإن عرفت نفقة الزوج وبنيانه إياه وقيامه ، فالمرأة مخيرة إن شاءت اعطته قيمته منقوضاً وإن شاءت طرحت ذلك ؛ وإن ادعت إنه إنما بناه بمالها أو إنها اعطته ما بناه من مالها لم تصدق إلا ببينة تقوم لها ، وكان عليها غرم ذلك ؛ قال وقال أشهب إذا كان الزوج حياً ، فالقول في ذلك قوله ؛ وإذا مات الزوج ، فالقول في ذلك قول المرأة ؛ إلا تقوم بينة أن الزوج كان يدعي في حياته تلك المرمة ولو مرة واحدة ، فيكون القول في ذلك قول الورثة مع ايمانهم : ما يعلمون العمارة ولا شيئاً منها للمرأة . ومن كتاب الجواب من سماع عيسى قال عيسى وسألت ابن القاسم عن الرجل يبني في أرض امرأته بنفسه ورقيقه أو يرم لها بعض ما ورث من بنيانها ، ثم يطلب النقض ، أو يموت فيطلب ذلك ورثته ؛ قال ابن القاسم ذلك له أن كان حياً ، أو لورثته أن كان ميتاً ، إذا علم أن الباني لذلك والقائم به ، فإن ادعت المرأة إنه إنما بناه من مالها ، وإنها اعطته ذلك وفوضت إليه ، حلف إن كان حياً أن لم تكن لها بينة ، وإن كان ميتاً حلف وورثته إن كانوا ممن قد بلغ علم ذلك ، أو ممن يبلغ منهم ، ثم استحقوا نقضهم .
قال محمد بن رشد : فرق ابن وهب في هذه الرواية بين أن تقر المرأة لزوجها إنه بنى البنيان وتدعى إنه إنما بناه بمالها وبين أن تنكر أن يكون

(14/212)


بناه ، فيقيم هو البينة إنه بناه ، فقال إنه إذا أقرت له بأنه بناه وادعت إنه إنما بناه بمالها ، يحلف إنه إنما بناه بماله مكذباً لدعواها ، كان له عليها ما انفق ، وانه إذا انكرت أن يكون بناه ، فأقام هو البينة لى إنه بناه ، لم يكن له إلا نقضه يقلعه ، إلا أن يشاء أن تعطيه قيمته منقوضاً ؛ وساوى ابن القاسم في رواية عيسى هذه عنه بين الوجهين في إنه لا يكون له إلا قيمة نقضه منقوضاً أو يلعه ، لأنه إذا قال ذلك في الذي أقرت له بالبنيان وادعت إنه بناه بمالها وحلف على ذلك ، فأحرى أن يقوله في الذي أنكرت أن يكون بناه هو فأقامت البينة على ذلك ، فلا اختلاف بينهما إذا انكرت أن يكون بناه ، فاقام البينة على ذلك في إنه ليس له إلا نقضه يقلعه ، إلا أن يشاء أن تعطيه قيمته منقوضاً ، وإنما اختلفا إذا أقرت له إنه بناه وادعت إنه بناه بمالها ؛ فقال ابن وهب له نفقته ، وقال ابن القاسم له نقضه يقلعه إلا أن يشاء أن تعطيه قيمته منقوضاً ؛ فحمل ابن وهب أمره في ذلك على الوكالة حتى يثبت عليه التعدي .
وقوله في ذلك صحيح على قياس قول مالك في رسم حلف من سماع ابن القاسم من كتاب البضائع والوكالات ، وفي رسم البز من سماعه أيضاً من كتاب المديان والتفليس - في أن تصرف الرجل في مال امرأته ، محمول على الوكالة لا على التعدي ؛ وحمل ابن القاسم أمره في ذلك على العداء ، حتى يثبت إنها إمرته بذلك ووكلته عليه ؛ ولو أقرت إنها أذنت له في البنيان بمالها ، فادعى هو إنه انفق في ذلك ماله ، لكانت له نفقته عندهما جميعاً بعد يمينه أن النفقة في ذلك كانت من عنده ؛ وقد مضى بيان هذا أيضاً في رسم العرية من سماع عيسى من كتاب الاستحقاق ، وفي كتاب آخر رسم

(14/213)


الكبش من سماع يحيى منه ؛ ونزل على مذهب ابن القاسم وابن وهب ورثة الزوج منزلته في الدعوى وإن لم تعلم منه في ذلك دعجوى ، خلاف قول أشهب إنهم لا ينزلون منزلته في الدعوى إلا أن تعرف منه الدعوى ، ووجه قوله إنه حمل بنيانه في دار امرأته وغرسه في ارضها على العطية منه لها ، لما بينهما من حرمة الزوجية التي تقتضي المعروف بينهما بخلاف الأجنبيين ، ألا ترى إنه قد قيل في هبة أحد الزوجين لصاحبه إنه لا ثواب له في هبته إياه ، إلا أن يشترط الثواب ؛ وهو قول ربيعه في المدونة ، واحد قولي مالك فيها ؛ وقول أشهب في هذه المسألة على قياس قولهم في الذي ينفق على ولده ولهم بيده مال ناض قد ورثوه فيموت ، إنهم لا يحاسبون بما انفق عليهم أبوهم من ماله ، إلا أن يكتب ذلك عليهم ويوصي أن يحاسبوا بذلك ، وقد مضى في ياول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب طلاق السنة تحصيل القول في هذا ، وبالله التوفيق .
من سماع أصبغ من ابن القاسم من كتاب البيع والصرف
قال أصبغ بن الفرج : وسئل ابن القاسم عن رجلين اصطلحا على أن رضي كل واحد منهما يمين صاحبه في كل ما يدعي كل واحد منهما وطرحا بيناتهما ، فمن حلف منهما على ما يدعي

(14/214)


عليه به صاحبه سقط عنه ، وإن نكل غرم بلا رد يمين ، أو برد يمين ؛ فإن ادعى بعد ذلك شهادة أحد ، فلا شهادة لهم ، فاصطلحا على هذا ؛ قال ذلك جائز ثابت لا بأس به ، قيل له : فإن كان هذا مكتوباً ، فما ثبت لكل واحد منهما على صاحبه فهو يؤخر له به إلى أجل مسمى ، فقال لا خير فيه ولا يعجبني إذا كان ذلك شرطاً يلزم فأما أن لم يكن شرطاً يلزم فلا بأس أن يتطوع بذلك وقاله أصبغ بن الفرج كله ، ولا افسخ الذي أقر على أن يؤخره ، فإني امضيه إذا وقع وألزمه الإقرار واجعل له التأخير والأجل ، ولا اجد في حرامه من القوة والتهمة ما أبطله به ، وإنما هو أحد وجهين : أن يكون حقاً عليه فهي نظرة ، أو يكون باطلاً ليست عليه فيتطوع به له لأجل ، كالهبة والهدية والله أعلم ؛ قال أصبغ وهو الذي وجدت الناس على إمضائه ولا اعلمه إلا وقد قاله هو أيضاً ورجع إليه واختلف قوله فيه أيضاً .
قال محمد بن رشد : قول أصبغ إن الصلح إن وقع على أن يؤخر كل واحد منهما صاحبه بما ثبت عليه بنكوله أو يحلف صاحبه ، فهو مكروه ولا يفسخ ؛ لأنه لا يخلو من أن يكون حقاً فهي نظرة ، أو باطلاً فهي هبة ، ليس ببين ، لأنه يخشى أن يكون ما يثبت لكل واحد منهما على صاحبه حقاً فيكون قد آخر كل واحد منهما صاحبه بما ثبت له عليه على أن يؤخره هو بما ثبت له عليه ، فيدخله أسلفني وأسلفك ، ويخشى أن يكون أيضاً لأحدهما على صاحبه أقل من العدد الذي يؤخره به ، فيكون إنما نكل عن اليمين وردها على صاحبه ليؤخره بالخمسة التي له عليه إلى أجل على أن يعطيه بها عشرة عند الأجل ، إلا أن هذا لا يتحقق ، فالاظهر اجازة الصلح كما قال ، لا

(14/215)


سيما ومن مذهبه أن الصلح على الحرام يجوز عنده في وجه الحكم ، ولا يفسخ وإن كان لا يجوز عنده لأحد المتصالحين فيما بينه وبين الله إلا ما يجوز في التبايع ، وفي هذا تفصيل ؛ أما إذا انعقد الصلح على الحرام بين المتصالحين ، فلا يجوز ويفسخ باتفاق ؛ أما إذا انعقد الصلح على الحرام بين المتصالحين ، فلا يجوز ويفسخ باتفاق ؛ مثل أن يدعي رجل على رجل دعوى فينكره في بعضها ، فيصالحه على جميعها بما يتفقان عليه على أن يسلف أحدهما صاحبه سلفا ، فهذا لا يجوز باتفاق ، لأنه بيع وسلف ، وأما إن ادعى رجل على رجل دعوى انكره في جميعها ، فصالحه عنها بما سمياه على أن اسلف أحدهما صاحبه سلفاً أو ما شابه ذلك مما هو في معناه ، مثل أن يدعي رجل على رجل اردب قمح فينكره فيه ، فيصالحه عنه على سكنى دار أو خدمة عبد ، وما أشبه ذلك ؛ فإن هذا لا يجيزه مطرف وابن الماجشون ، ويفسخانه ولا يمضيانه ، ويجيزه أصبغ ويمضيه في وجه الحكم ولا يفسخه ؛ لأن المطلوب يدعي صحته ويريد اجازته ويقول للطالب إن كنت محقاً في دعواك ، فلا يحل لك أن تأخذ فيما تدعي ما لا يجوز لك أن تأخذه في البيوع ، ووجه المخرج له من ذلك إن كان صالح عن القمح بشعير أن يبيع الشعير
ويشتري منه القمح الي له ويدفع بقيته إن كان فيه فضل إلى صاحبه ، وإن كان صالح عن حق بسكنى دار واستخدام عبد لم يسكن الدار ولا استخدم العبد ، وأكرى ذلك بالنقد ، فاستوفى منه حقه ودفع الفضل إن كان فيه فضل إلى صاحبه ؛ ولو رفع ذلك إلى الإمام فكان هو الذي يفعل لك ، لكان اخلص له - والله أعلم ؛ وأما إذا وقع الصلح على وجه ظاهره الفساد ولا يتحقق في جهة واحد من المتصالحين ، فهذا لا يفسخ باتفاق ، وتورع كل واحد منهما في خاصة نفسه ، وذلك نحو مسألتنا هذه في هذه الرواية ، وبالله التوفيق .

(14/216)


مسألة
وسئل ابن القاسم عن الرجل يدفع إلى الصراف الدينار زينه فيقول الصراف قد رددته إليك ، ويقول الرجل لم تردهإلي وهما في مجلسهما ومكانهما ، قال القول قول الصراف ويحلف .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال إن القول قول الصراف مع يمينه إنه قد رده إليه إذا كان إنما دفعه إليه ليزنه له ويرده إليه ، لأنه مؤتمن على رده ولو دفعه إليه ليزنه فيعطيه صرفه ، فقال قد رددته إليك إذ لم أجده وازناً وأنكر دافعه ، لوجب أن يكون القول قول صاحب الدينار إنه ما صرفه إليه ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب البيوع
قال وسئل ابن القاسم عن رجلين شهدا على رجل إنه قال لفلان علي مائة دينار ، أو لفلان لا يدريان أيهما هو ، قال ليس عليه أن يغرم أكثر من المائة ، ثم يحلف هذان المسميان ، ثم يقتسمان المائة بينهما ؛ قال أصبغ يحلف كل واحد منهما إنه هو ، وأن له عليه مائة ثابتة ؛ فمن نكل منهما فهي للأخر إن حلف ؛ وإن نكلا جميعاً اقتسماها بينهما بغير يمين بمنزلة حلفهما جميعاً ، فإن رجع الشهيدان عن شهادتهما بعد الحكم وزوروا

(14/217)


انفسهما ، غرما ذلك للمشهود عليه إذا كان يوم شهدا منكراً لشهداتهما .
قال محمد بن رشد : قول أصبغ هذا مفسر لقول ابن القاسم ، وفي قوله فإن رجع الشهيدان في شهداتهما بعد الحكم وزوروا انفسهما ، غرما ذلك للمشهود عليه إذا كان يوم شهدا منكراً لشهادتهما ، دليل على أن لا فرق فيما يلزم المقر بهذه الشهادة بين أن يكون مقراً بها ، أو منكراً لها ، وإنما يفترق ذلك فيما يلزم الشهيدين من الغرم برجوعهما عن الشهادة ، خلاف ما ذهب إليه ابن دحون فيما رأيت له إنه قال معنى هذه المسألة أن المقر هو الشك ، وانه أنكر إقراره فيلزمه بالبينة ، غرم المائة يقتسمانها بينهاما ؛ ولو كان مقراً بما قال ، للزمه غرم مائتين . وقوله لا يدريان أيهما هو ، معناه انهما لا يدريان ذلك من أجل أن المشهود عليه هو الذي قال لفلان علي مائة دينار أو لفلان من أجل إنه لم يدر لمن هي منهما ، فحصل الشك من المشهود عليه لا من الشاهدين ، ولو كان الشك من الشاهدين بان يقولا اشهدنا فلان أن عليه مائة دينار لأحد هذين الرجلين وسماه لنان إلا أن لا ندري من هو منهما نسيناه ، لما جازت شهداتهما على المشهور في المذهب ، وحلف لكل واحد منهما - إن كان منكراً أو لمن أنكر منهما - إن كان مقراً لأحدهما ؛ وقد قيل أن شهادتهما جائزة يلزمه بها مائة واحدة تكون لمن حلف منهما أن نكل أحدهما ، أو يقتسمانها بينهما إن حلفا أو نكلا ، وهو الذي يأتي على ما وقع في أصل الاسدية من كتاب الإيمان بالطلاق من المدونة ، ولابن وهب في رسم الأقضية والوصايا من سماع أصبغ من كتاب الصدقات والهبات ، وقد قيل في هذا النحو من الشهادات إنها تجوز في الوصية بعد الموت ، ولا تجوز على الحي ، فيتحصل فيها ثلاثة أقوال في الجملة : اجازتها في الوجهين ، وابطالها في

(14/218)


الوجهين ، والفرق بين الموضعين ؛ وكذلك يتحصل ثلاثة أقوال في الذي يقر بالمائة لأحد هذين الرجلين من دين أو وديعة لا يدري لمن هي منهما ، أحدها إنها لا تلزمه إلا مائة واحدة تكون لمن حلف منهما .
والثاني إنه يلزمه أن يغرم مائة لكل واحد منهما . والثالث الفرق بين الوديعة والدين ، وقد مضى هذا في رسم يوصي لمكاتبه من سماع عيسى من هذا الكتاب ، ومضى الكلام على المسألة متسوفى في رسم يدير ماله من سماع عيسى من كتاب المديان والتفليس ، لتكرر المسألة هناك ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب البيوع والعيوب
قال أصبغ سمعت ابن القاسم وسئل عمن ادعى قبل رجل جارية إنه رهنها عنده ، ويقول الآخر إنما اشتريتها منك ، فشهد للمدعي شاهدان إنه رهنها عنده ، وشهد للأخر شاهدان أيضاً على الاشتراء . ولا يدرى الرهن أولاً أو البعي ؟ قال : الاشتراء أولى إذا قامت له البينة إنه اشترى ، فهو اثبت ، لأنه قد ثبت إنها له ؛ فالاشترء أثبت ، إلا أن يقيم المدعي البينة إنه رهنه إياها بعد الاشتراء ، فيعرف إنها قد رجعت إليه .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال ، لأن بينة الشراء قد احقت انتقال الملك بالبيع ، فوجب إلا يبطل ذلك باشهاد على الرهن ، لاحتمال أن يكون الرهن قبل البيع ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب محض القضاء
وسئل ابن القاسم عن رجلين ادعيا داراً فأقام أحدهما شاهدين

(14/219)


والآخر شاهداً والشاهد ابرز في العدالة ، والدار ليست في يد واحد منهما ؛ قال : الدار لصاحب الشاهدين ، قال أصبغ صاحب الأبرز مع يمينه أحق .
قال محمد بن رشد : قد اختلف قول ابن القاسم في هذا ، فروى أبو زيد عنه في كتاب الشهادات مثل قول أصبغ ، ومثله ذكر ابن المواز في كتابه إنه يقضي بالشاهد الواحد - وأن كان الذي شهد بخلافه أربعة دونه في العدالة ، وقول ابن القاسم في هذه الرواية اظهر ؛ إذ من أهل العلم من لا يرى الحكم باليمين مع الشاهد أصلاً ، ومنهم من لا يرى الترجيح بين البينتين أصلاً ؛ فالقول بأنه يقضي بالشاهد الواحد مع يمين صاحب الحق إذا كان اعدل من الشاهدين ، اغراق في القياس ، ومثل قول ابن القاسم في هذه الرواية حكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن الماجشون قالا : ولو كان الشاهد اعدل أهل زمانه ، وقد مضى في سماع أبي زيد من كتاب الشهادات ذكر الاختلاف في الترجيع بين الشهود ، وفي آخر سماع عيسى منه - القول في الترجيح بين المعدلين ، فلا معنى لإعادته ، وبالله التوفيق .
مسألة
قال وسألته عن العبد يدعي العتق من سيده عند موته ، فيريد أن يحلف الورثة من علم ذلك ؛ قال : ما ذالك له ، قلت فإن ادعى أن الوارث قد حضر ذلك فأراد استحلافه ، فقال ليس ذلك له ؛ قال أصبغ ولا بشاهد أيضاً هنا .

(14/220)


قال محمد بن رشد : أما إذا لم يكن له شاهد على ما يدعيه من عتق سيده إياه فبين إنه لا يمين على الورثة : وإن ادعى العبد عليهم إنهم قد حضروا ذلك وعلموا به ؛ لأن اليمين إذا لم تجب على السيد ، فاحرى إلا تجب على الورثة ؛ وأما إذا كان له شاهد على عتق سيده إياه وادعى على الورثة علم ذلك ، فقول أصبغ ههنا أنه لا يمين عليهم مع تحقيق الدعوى بالمعرفة عليهم بعيد ، وقد روى ابن القاسم عن مالك في رسم قطع الشجر من سماعه من كتاب العتق أن الورثة يحلفون ما علموا بعتق صاحبهم إذا لم يجد إلا شاهداً واحداً ، ظاهره وأن لم يدع المعرفة عليهم ؛ ومثله في المدونة ، وههنا يصح الخلاف ؛ لأنها يمين تهمة ، وبالله التوفيق .
مسألة
قال أصبغ وسألت ابن القاسم عن الرجل يدعي حقاً قبل الرجل فيقول احلف لي أن ما ادعي عليك ليس حقاً ، وأبى فيقول له بل احلف أنت وخذ ، فإذا هم المدعي أن يحلف ، بدا للمدعى عليه وقال لا أرضي بيمينك ولم أظنك تجتري على اليمين ؛ هل ذلك عند سلطان وعند غير سلطان سواء ؟ قال ليس ذلك للمدعى عليه أن يرجع ويحلف المدعي ويحق حقه على ما أحب الآخر أو كره ؛ لأن المدعى عليه قد رد عليه اليمين ، فليس له الرجوع فيها ؛ وسواء كان ذلك عند سلطان أو غير سلطان - إذا شهد عليه بذلك ، وهو الحق ، أن شاء الله .
قال محمد بن رشد : تكررت هذه المسألة على - نصها - في رسم

(14/221)


الجواب من سماع عيسى من كتاب المديان والتفليس ، ومثل قوله هذا في كتاب الديات من المدونة ، ولا خلاف اعلمه من إنه ليس له أن يرجع إلى اليمين بعد أن يردها على المدعي ، واختلف هل له أن يرجع إليها بعد أن نكل عنها - ما لم يردها على المدعي ، فقيل ليس ذلك له وهو ظاهر ما في الديات من المدونة ، ورواية عيسى عن ابن القاسم في المدنية ؛ وقيل ذلك له وهو ظاهر قول ابن نافع في المدنية ، والقولان محتملان ، وبالله التوفيق .
من مسائل نوازل سئل عنها أصبغ
وسئل أصبغ فقيل له الرجل يدعي السلعة بيد الرجل فيخاف على سلعته أن تتلف فيشتريها من الذي هي في يديه ، ثم يريد القيام عليه بعد ذلك ببينة فقال : أن كان لم يعلم أن له بينة ولم يعلم بذلك ، فذلك له إن ثبتت البينة ويرجع بماله ، وأن كان قد علم أن له بينة وعرف موضعها نف لا أرى له بعد ذلك كلاماً ولا حجة ؛ وإن زعم إنه إنما اشتراها بداراً ومخافة أن غيبها أو ينفقها - وإنما ذلك - عندي مثل الرجل يثالح وهو يعلم أن له بينة ، إلا أن تكون بينته بعيدة جداً ويكون قد اشهد قبل أن يشتريها - إنه إنما يشتريها لما خاف من أن يغيبها الذي هي في يديه لموضع غيبة بينته وبعدها ، ثم يقوم بعد ذلك عليه ، فارى ذلك ينفعه إذا كان كذلك ، وإلا فلا كلام له ولا حجة ؛ قال وأن أتى ببينة بعد الاشتراء ، وعم إنه لم يعلم بها ، وقال البائع قد علمت واشتريت على علم بها أو صالحت ؛ فالقول قوله إنه لم يعلم مع يمينه ، إلا أن يثبت عليه

(14/222)


أنه قد علم ؛ لأنه ثبت له الرجوع بماله وأخذه ، فالبائع مدع عليه ما يسقط ذلك بالثبت عليه .
قال محمد بن رشد : قول أصبغ في هذه الرواية أن له أن يقوم بعد الصلح ببينته التي علم بها إذا كانت بعيدة جدا وقد كان اشهد قبل أن يشتريها إنه إنما يشتريها مخالفة أن يغيبها الذي هي في يديه لبعد غيبة بينته ، خلاف ظاهر ما في رسم أخذ يشرب خمراً من سماع ابن القاسم من كتاب المديان والتفليس من إنه لا ينتفع بالاشهاد قبل الصلح في مغيب بينته ، إذ لم يقرن في ذلك بين قرب الغيبة من بعدها ، والأولى أن يتأول على إنه إنما تكلم على أن غيبة الشهود غير بعيدة جداً ، فيكون قول أصبغ هذا مفسراً لقول ابن القاسم هناك ؛ ولا احتمال في إنه لا ينتفع بالاشهاد في السر إذا كانت غيبته غير بعيدة ، وقد مضى هناك تحصيل القول في هذه المسألة بتقسيم وجوهها ، فلا معنى لإعادته مرة أخرى ، وبالله التوفيق .
مسألة
قيل لأصبغ رجل توفي فجاءت امرأته ( بصداقها على زوجها ) فأنكر وارثه ، غير إنه اشهد نفراً فقال إن قامت على ما تذكر بينة عدلة ، فهو في مالي ؛ فشهد عل الصداق شاهد عدل ، فقال قد قلت إن أقامت بينة ، فالواحد ليس ببينة ، إنما أردت شاهدين ؛ قال ذلك له ويحلف ويبرا حتى تقيم شاهدين
قال محمد بن رشد : هذا كما قال ، لأنه الظاهر من قوله ، مع إنه

(14/223)


لا يؤخذ أحد بأكثر مما يقر به على نفسه ، فإذا حلف برئ ولم يلزمه في ماله شيء ، وحلفت هي مع شاهدها أن ما شهد به حق ، وإنها ما قبضت ولا وهبت ، وانه لباق عليه إلى حين يمينها وتستوجب حقها في تركته ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب الوصايا الأول من سماع أصبغ
قال أصبغ سالت ابن القاسم عن الوصي أيصالح لليتامى ؟ قال نعم إذا رأى لذلك وجهاً ، وكان على وجه النظر ؛ قلت له وكيف يعرف وجه ذلك : أبالسلطان ؟ قال بل يصالح فإن طلب نقض ذلك بعد ورفع نظر السلطان فيه - إذا رفع إليه ، فإن رأى وجه ضرر نقضه ، وهو أبداً جائز حتى يرى وجه ( ضرر ) غير وجه النظر .
قال محمد بن رشد : وقعت هذه المسألة في بعض الروايات ، وظاهرها أن الوصي يجوز صلحه عن اليتيم الذي إلى نظره فيما طلب له من حق أو طلب به في أن يأخذ بعض حقه الذي يطلب له ، ويضعه إذا خشي إلا يصح له ما ادعاه ، وبان يعطي من ما له بعض ما يطلب به إذا خشى أن يثبت عليه جميع ما يطلب به . وهو له في النوادر مكشوفاً خلاف ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن ابن الماجشون من إنه يجوز له أن يصالح عنه فيما طلب له من حق ، بان يضع بعضه ويأخذ بعضه ؛ ولا يجوز له أن يصالح عليه فيما طلب به ببعض ذلك ، والصواب ألا فرق بين الموضعين كما ذهب إليه ابن القاسم ، وبالله التوفيق .

(14/224)


مسألة
وسئل ابن القاسم عن دابة ادعاها رجلان وليست بيد واحد منهما ، فاقام أحدهما البينة إنها نتجت عنده ، وأقام الآخر البينة إنها اشتراها من المغانم : قال أراها للذي اشتراها من المغانم ، ولا يشبه الذي اشتراها من سوق المسلمين ؛ لأن هذه تسرق وتغصب وتؤخذ بغير حق ، وليست تحاز عن الذي نتجت عنده إلا ببينة تثبت عليه إنه باعها ، أو بأمر يحاز يستيقن إنها خرجت من يد صاحبها ، وأن الذي يشتري من المقاسم يستيقن إنها خرجت من يد صاحبها حين حازها المشركون ؛ فالمشتري أولى بها لحيازة المشركين إياها ، قال ولو وجدت في يد الذي نتجت عنده وأقام هذا البينة إنها اشتراها من المغانم ، أخذها منه أيضاً ، وكان أولى بها ؛ إلا أن يشاء أن يدفع إليه الثمن ويأخذها
قال محمد بن رشد : وهذه المسألة أيضاً وقعت في بعض الروايات وهي مسألة صحيحة ، والمعنى فيها بين ، لأن ملك المشركين لها ، يرفع ملك سيدها عنها ؛ فيكون من اشتراها من المغانم ، كمن اشتراها من سوق المسلمين بعد أن علم أن الذي نتجت عنده باعها أو وهبها أو تصدق بها ، وبالله التوفيق .
تم كتاب الدعوى والصلح - والحمد لله .

(14/225)