البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة

 [: كتاب العتق الثاني] [قال لرجل في غلام له هو حر إن لم آخذه بخمسة وعشرين دينارا]
(كتاب العتق الثاني) من سماع عيسى بن دينار من كتاب نقدها نقدها وسئل: عن رجل قال لرجل في غلام له هو حر- إن لم آخذه بخمسة وعشرين دينارا- إن أعطيتني إياه، فأعطاه إياه وقال: هو لك، قال: فذلك له، قال ابن القاسم -: إن شاء أخذه وإن شاء تركه ولا حنث عليه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه إذا أعطاه إياه وقال: هو لك، فله أن يأخذه وأن يتركه، فإن أخذه بر في يمينه- ولم يكن عليه شيء، وإن تركه، حنث ولم يلزمه شيء؛ لأنه إنما حنث بما في ملك غيره، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نذر في معصية ولا فيما لا يملك ابن آدم» فإذا لم يلزمه النذر فيما لا يملك، فأحرى ألا يلزمه الحنث فيه، فقوله وإن شاء تركه ولا حنث عليه، معناه وإن شاء تركه ولا شيء عليه، وقد رأيت لابن دحون أنه قال في هذه المسألة: البيع لازم للمشتري، إلا أن يعفو عنه البائع، وإنما أجاب فيها على الحنث أنه لا يحنث اشتراه أو تركه، فأما البيع

(14/495)


فقد لزمه، قال: المسألة المتصلة تبين هذا، وليس قوله بصحيح؛ لأنه لم يلزم نفسه الأخذ، وإنما حلف أن يأخذ، ومن حلف على شيء فله أن يبر، وأن يحنث، فليس للبائع أن يلزمه ما قد جعل لنفسه فيه الخيار، والمسألة التي بعدها لا تشبهها؛ لأنه لما قال له: بعني غلامك وهو حر، كان قد أوجب ذلك على نفسه، وفي ذلك اختلاف حسبما نذكره، وأما هذه المسألة فخارجة من الاختلاف، إذ لم يلزم نفسه الأخذ، وإنما حلف عليه، (وبالله التوفيق) .

[مسألة: قال بعني غلامك بعشرة دنانير على أنه حر]
مسألة ومن قال: بعني غلامك بعشرة دنانير على أنه حر، فقال: نعم، فقال: قد بدا لي أن ذلك لازم له.
قال محمد بن رشد: اختلف في الرجل يقول للرجل: بعني سلعتك بكذا وكذا، فيقول له: قد فعلت، فيقول: قد بدا لي، أو يقول له: خذ سلعتي بكذا وكذا، أو اشتر سلعتي بكذا وكذا، فيقول: قد فعلت، فيقول: قد بدا لي، فقيل: إن ذلك كالمساومة يدخل في ذلك من الاختلاف ما يدخل في المساومة، وقيل: إن قوله بعني سلعتك، إيجاب منه على نفسه شراءها بمنزلة أن لو قال: قد اشتريتها، وإن قوله خذ سلعتي بكذا أو لشرائها بكذا، إيجاب منه لبيعها بمنزلة أن لو قال قد بعتها منك بكذا. فقوله: إن ذلك لازم له هو (على) أحد هذين القولين؛ لأن قوله على إنه حر، لا تأثير له في إيجاب الشراء على نفسه، تخرج به المسألة من الخلاف، وقد مضى تحصيل

(14/496)


القول في هذه المسألة في أول رسم من سماع أشهب وكتاب العيوب، وبالله التوفيق.

[مسألة: قال للرجل بكم عبدك قال بعشرة قال هو حر إن بعتنيه بذلك]
مسألة وسئل: عن رجل قال للرجل: بكم عبدك؟ قال: بعشرة، قال: وتبيعه بعشرة، قال: نعم، قال هو حر إن بعتنيه بذلك - إن لم آخذه، فقال: قد بعتك، فقال: أحب إلي أن يشتريه وينقده ثم يستقيله.
قال محمد بن رشد: قال في هذه المسألة: أحب إلي أن يشتريه وينقده ثم يستقيله- زيادة على قوله فيها في أول رسم إن شاء أخذه، وإن شاء تركه- ولا حنث عليه، وإنما استحب له ذلك؛ لأنه إذا اشتراه بر في يمينه، وإن لم يشتره حنث، وإذا حنث احتمل أن يعتق عليه إن رضي صاحبه أن يمضيه له بقيمته، وقد قال ذلك ابن القاسم في أحد قوليه في رسم العرية من سماع عيسى من كتاب الصدقات والهبات في العبد بين الشريكين يتصدق أحدهما بجميع العبد على غير شريكه، فلا يبعد أن يقال بالقياس على ذلك من أعتق عبد رجل يلزمه عتقه- إن رضي صاحبه أن يأخذ منه فيه قيمته، ويحمل عليه بأن هذا هو الذي أراد العبد أن يعتق ما ليس له، وبالله التوفيق.

[مسألة: رجل سأل ابنا له امرأته أو أجنبيا أن يهب له غلاما ليعتقه]
مسألة وقال في رجل سأل ابنا له امرأته، أو أجنبيا من الناس في مرضه أن يهب له غلاما له على أن يعتقه يتقرب به إلى الله ففعل به ذلك على ذلك وأعتقه، ثم مات فقام أهل الدين يريدون أن

(14/497)


يردوا عتقه، أن عتقه ماض، وليس لأهل الدين فيه شيء؛ لأنه ليس بمال له، وإنما أعطاه الذي أعطاه على أن يعتقه. قال عيسى: وهو في الصحة كذلك، وهو خارج من رأس المال في المرض، كل ذلك من رأس المال يكون.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه لم يتقرر له عليه ملك إذ وهبه إياه بشرط العتق وولائه له؛ لأن الولاء كان يكون له لو أعتقه عنه فكذلك إذا أعتقه هو بما اشترط عليه من عتقه، وبالله التوفيق.

[مسألة: دفع إليه رأس ليبيعه فأعطي به عطاء فقال هو حر من مالي إن بعته ثم باعه]
مسألة وقال فيمن دفع إليه رأس ليبيعه فأعطي به عطاء، فقال: هو حر من مالي إن بعته ثم باعه، أنه لا شيء عليه، ولا يعتق عليه، ولو استعين به في شراء رأس فسام به، فقيل له بكذا وكذا، فقال: هو حر من مالي إن أخذته بهذا، ثم أخذه بذلك- والمشتري له واقف، قال: لا شيء عليه أيضا؛ لأنه إنما وجبت الصفقة لغيره.
قال محمد بن رشد: هذا على قياس قوله في المدونة في الذي يقول لعبد لا يملكه: أنت حر من مالي إنه لا يعتق عليه، وإن رضي سيده أن يبيعه منه؛ لأنه إذا قال ذلك في غير اليمين، فأحرى أن يقوله في اليمين، والقياس أن يلزمه في غير اليمين إذا قال في مالي ورضي سيده أن يبيعه منه بقيمته، وأما إذا قال: عبدي فلان حر- إن فعلت كذا وكذا- ولم يقل في مالي، فالقياس ألا يعتق عليه- وإن رضي سيده أن يبيعه منه بقيمته على ما قاله في هذه الرواية في الذي باع عبدا لغيره فحلف بحريته- إن باعه أو اشترى

(14/498)


عبدا لغيره فحلف بحريته إن اشتراه؛ لقول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لا نذر في معصية ولا فيما لا يملك ابن آدم» . ويشبه أن يعتق عليه إن رضي الذي باعه منه، أو الذي اشتراه له أن يمضيه بقيمته على أحد قولي ابن القاسم في رسم العرية من سماع عيسى من كتاب الصدقات والهبات في العبد بين الشريكين يتصدق أحدهما بجميعه على غير شريكه فيه أنه يكون له إن رضي شريكه أن يسلم حظه منه بقيمته، وبالله التوفيق.

[مسألة: قال لجاريته هي حرة إن وجد بها الثمن أو أكثر]
مسألة وفيمن قال لجاريته: هي حرة إن وجدبها الثمن أو أكثر- اليوم- إن لم يبعها، فبعث بها مع رجل يبيعها له وبجارية أخرى صغيرة فباعها الرسول وأرسل إليه يستأمره في الخيار، فقال للرسول: قل له يشترط الخيار في الصغيرة فأخطأ الرسول فقال للموكل يقول لك اشترط الخيار في الكبيرة ففعل، وباع على ذلك، فقال: هو حانث، ورأيته فيها قويا لا يشك. يريد إذا كان اليوم الذي حلف عليه قد انقضى وبقي له الخيار، قال: ولو أن الموكل باعها واشترط الخيار ولم يأمره أن يشترط ذلك، ثم رجع إليه وأخبره بذلك، فقال: اذهب فأنفذ له البيع، فرجع الوكيل فلم يجد المشتري، وغابت الشمس وانقضى ذلك اليوم، قال: إن أشهد الوكيل أنه قد أنفذ له البيع، لم أر على الرجل شيئا، وإن كان لم

(14/499)


يشهد على ذلك حين لم يجده وانقضى ذلك اليوم وغابت الشمس، خفت أن يحنث.
قال محمد بن رشد: قال في المسألة الأولى: إنه حانث، لذا كان اليوم الذي حلف عليه قد انقضى وبقي له الخيار مستبصرا في ذلك قويا فيه لا يشك، وقال في المسألة الثانية: إنه إن لم يشهد الوكيل على إمضاء البيع للمشتري حتى انقضى ذلك اليوم وغابت الشمس، خفت أن يحنث، والحنث في الثانية أبين منه في الأولى، وذلك أنه لم يكن من الحالف في المسألة الأولى تفريط في ترك البيع حتى انقضى النهار، بل كان مغلوبا عليه في ذلك بخطى الرسول عليه، وأما المسألة الثانية فالتفريط جاء من قبل الحالف، إذ كان قادرا على أن يشهد هو على إمضاء السلعة للمشتري بالخيار الذي اشترطه الوكيل فيها فإذا لم يفعل وصرف الأمر في ذلك إلى الوكيل، فقد فرط ووجب أن يحنث بلا شك، إلا أن قوله في المسألة الأولى إنه حانث هو المشهور في المذهب المنصوص عليه في المدونة وغيرها: أن من حلف ليفعلن فعلا لا يعذر في تركه بالغلبة على ذلك، إلا أن تكون له فيه نية (بخلاف الحالف أن لا يفعل فعلا هذا يعذر فيه بالإكراه على الفعل- وإن لم تكن له فيه نية) وقد قيل: إنه لا يعذر بالإكراه على الفعل إلا أن ينويه، وهو الذي يأتي على قول مالك الذي تقدم في رسم الأقضية من سماع أشهب، وقد مضى القول على ذلك هنالك وما يتحصل في المسألة من الاختلاف، وبالله التوفيق.

(14/500)


[مسألة: يقول متى ما حدث بي حدث الموت كل مملوك لي حر]
مسألة وعن الرجل يقول: متى ما حدث بي حدث الموت، كل مملوك لي حر - وله مماليك، وكسب أيضا مماليك بعد، ثم يموت، قال: يعتقون كلهم ما كان عنده، وما أفاد إذا وسعهم الثلث.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه إذا عم فقال في وصيته ثيابي، أو رقيقي لفلان أو رقيقي أو عبيدي، أو مماليكي، أو كل مملوك لي حر، أن الوصية تكون فيما كان له من الثياب، أو العبيد، يوم يموت، كانوا هم أو غيرهم، أو هم وغيرهم، وقد مضى الكلام على هذا مستوفى في رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب من كتاب الوصايا، وتكررت المسألة أيضا في مواضع من سماع أشهب منه وفي سماع عيسى في رسم باع شاة منه أيضا، وبالله التوفيق.

[مسألة: تكون لها الجارية المولدة الرائعة فتحلف بعتقها ألا تبيعها ولا تهبها ولا تزوجها]
مسألة وعن المرأة تكون لها الجارية المولدة الرائعة فتحلف بعتقها ألا تبيعها ولا تهبها ولا تزوجها، فتأتي الجارية السلطان فتخبره أنها لا تقدر على الصبر بغير رجل، وأنها تخاف على نفسها، قال: لا أرى أن تحنث إلا أن يكون الذي عملت برا- أنها أو أدق به ضررا، فتمنع من ذلك، فإن كان لها نية أني لا أبيعها طائعة، فباعها السلطان، فلا أرى عليها حنثا، وإن لم تكن لهانية، فلا تباع عليها.
قال محمد بن رشد: ليس على الرجل أن يزوج عبده ولا أمته إذا

(14/501)


سأله واحد منهما ذلك؛ لأن قوله عز وجل: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] ليس على الوجوب في العبيد والإماء، بدليل قوله: "والصالحين"، إذ لم يكن عاما في جميعهم كالمعتقة التي لم تحمل على الوجوب، لقوله فيها: حقا على المتقين وعلى المحسنين فلهذا لم ير في هذه الرواية أن تحنث المرأة في يمينها ألا تبيع جاريتها ولا تهبها ولا تزوجها، إلا أن يتبين أنها أرادت بذلك الضرر، فإن تبين ذلك، منعت منه كما قال: بأن تباع عليها إذا كانت لها نية أنها إنما حلفت ألا تبيعها طائعة يريد وتصدق في ذلك مع يمينها على ما قاله في أخر سماع أشهب من كتاب الإيمان بالطلاق: وإن لم تكن لها نية، أعتقت عليها ولم تبع لوجوب العتق عليها فيها ببيعها. وهذا معنى قوله: وإن لم تكن لها نية فلا تباع عليها وتعتق. وقد رأيت لابن دحون في هذه المسألة أنه قال فيها إتباعا لظاهر قوله فيها ألا يبيع السلطان الجارية إلا باجتماع شيئين أن يعلم أنها قصدت الضرر، وأن يعلم أنها أرادت: لا أبيع طائعة، فحينئذ يبيع، وإن انفرد أحدهما، لم تبع عليها: وليس ذلك بصحيح؛ لأن النية لا تعلم إلا من قبلها، فإذا تبين إرادتها الضرر (بمنعها) حنثت وأعتقت عليها، إلا أن تكون لها نية تدعيها فتصدق فيها وتباع عليها، وهذا الذي قلناه من أنه ليس على الرجل أن يزوج عبده ولا أمته إذا سأله واحد منهما ذلك، هو نص ما في رسم شك من سماع ابن القاسم من كتاب السلطان، وبالله التوفيق.

(14/502)


[مسألة: قال اشهدوا أن غلامي فلان حر بخمسين دينارا]
مسألة وقال ابن القاسم في رجل قال: اشهدوا أن غلامي فلان حر بخمسين دينارا، وهو حر إن رضي أن يبيعه بخمسين دينارا، فقال فلان قد رضيت، فقال: هو حر وهو بيع، فإن قال: لا أرضى وقد بدا لي، قال: ليس ذلك له وهو حر، قال: فإن قال صاحبه: قد بدا لي بعد ما قال قد رضيت، قال: ليس ذلك له قد باع، قال: وإنما الذي قال مالك الذي يقول: اشهدوا أن غلامي فلان حر من مالي، إن فعلت كذا وكذا- فيفعله، قال: ليس عليه شيء، قال ابن القاسم: والذي يقول لرجل: تبيعني غلامك بخمسين دينارا وهو حر على الإيجاب، فقال: نعم، فقال: قد بدا لي، فقال: ليس ذلك له وهو حر، وهو بمنزلة ما لو قال: غلامي فلان لي بخمسين دينارا إن رضي وهو حر فرضي، فالبيع له لازم، ولم تزده الحرية إلا قوة.
قال محمد بن رشد: إنما الذي قال: اشهدوا أن غلام فلان لي بخمسين دينارا، وهو حر إن رضي فلان أن يبيعه بذلك، فهو كما قال من أنه حر ولا رجوع لواحد منهما فيما رضي به؛ لأنه بيع قد انبرم بينهما وتم بما أشهد به المبتاع على نفسه من التزامه العبد بالخمسين، وإمضاء البائع له البيع فيه بذلك لقوله: قد رضيت، وإذا التزم المبتاع الشراء لزمته الحرية، وأما قول مالك في الذي يقول: اشهدوا أن غلام فلان حر من مالي، فإن فعلت كذا وكذا، فقد مضى الكلام فيه فوق هذا في هذا الرسم وما يدخله من الاختلاف، فلا معنى لإعادته؟ وأما الذي يقول لرجل: تبيعني غلامك

(14/503)


بخمسين دينارا- وهو حر على الإيجاب، فقال: نعم، فقوله فيه: إن ذلك يلزمه، بمنزلة ما لو قال غلام فلان لي بخمسين دينارا- إن رضي- صحيح، وإنما كان بمنزلته، من أجل قوله على الإيجاب، ولو قال: تبيعني غلامك بخمسين دينارا أو هو حر- ولم يقل على الإيجاب، فقال له: نعم، لما كان بمنزلة قوله: غلام فلان لي بخمسين دينارا؛ لأن قوله: غلام فلان لي بخمسين دينارا إن رضي، إيجاب منه على نفسه شراءه بخمسين دينارا. وقوله: تبيعني غلامك بخمسين دينارا مساومة، يختلف إن قال له البائع: قد بعتك إياه بالخمسين، هل يلزمه الشراء أم لا؟ وقد مضى بيان هذا في أول الرسم، وقد مضى تحصيل القول فيه في أول رسم من سماع أشهب من كتاب العيوب، وبالله التوفيق.

[مسألة: العبد يدفع إلى رجل مائة دينار ويقول له اشترني لنفسي من سيدي]
مسألة وسألته: عن العبد يدفع إلى رجل مائة دينار، ويقول له: اشترني لنفسي من سيدي، فيشتريه لنفس العبد، ويستثني ماله، قال: يكون حرا ولا يرجع السيد البائع على العبد، ولا على المشتري بشيء، ويكون ولاؤه للبائع، ومن سماع أصبغ بن الفرج قال ابن القاسم: ولا ينظر في هذا أعتقه بعد الاشتراء أو لم يعتقه، ليس للمبتاع في هذا عتق، قال عيسى بن دينار قلت: فلو كان قال: اشترني ولم يقل لنفسي، فاشتراه المشتري لنفسه وليس للعبد واستثنى ماله، قال: يكون عبدا له ولا يرجع البائع على المشتري بشيء، فإن أعتقه المشتري كان ولاؤه له؛ لأنه اشتراه بمال قد كان استثناه، قال عيسى: قلت لابن القاسم: فلو لم يستثن ماله فعتقه المشتري ثم عثر

(14/504)


على ذلك، قال مالك: يرجع البائع فيأخذ من المشتري مائة دينار أخرى، ويكون ولاؤه للمبتاع، فإن لم يكن عنده شيء، بيع من العبد المعتق قدر المائة، فإن فضل من رقبته فضل عن المائة، عتق منه ما بقي، وإن نقصت رقبته عن المائة، كان ما نقض دينا يتبع به المشتري، وإن قال: اشترني بهذه المائة لنفسك، فاشتراه ولم يستثن ماله، كانت المائة للسيد واتبعه بمائة أخرى، قال أصبغ: وإن اختلف المشتري والعبد ولم يستثن ماله، فقال العبد: أعطيته للمشتري لنفسي، وقال المشتري: أعطاني اشتريه لنفسي، فالقول قول المشتري؛ لأنه ضامن غارم، وأن الولاء قد وجب له والشراء قد عرف والعبد مدع، وكذلك إن كان استثنى ماله أيضا، فالقول. قول المستثني بظاهر الاشتراء حتى يعرف خلافه ببينة للعبد على معاملته على ذلك، أو على إقرار من المشتري بذلك قبل اشترائه، قال أصبغ: وإن اختلف السيد والمشتري إذا لم يستثن ماله فتداعيا، فقال السيد: إنما أعطيتني من مال عبدي، ولم يعرف كيف كان ذلك، فأنكر المشتري فالقول قول المشتري؛ لأن السيد مدع عليه للمائة ليغرمه إياه ثانية، وعلى المشتري اليمين، فإن حلف برئ وإن نكل حلف السيد واستحق، ورد بذلك عتق العبد حتى يباع له فيها إذ لم يكن له مال غيره، عرفت بينهما مخالطة وملابسة قبل ذلك، أو لم تعرف؛ لأن هذا سبب قد أوجب اليمين عليه.
قال محمد بن رشد: تلخيص قول ابن القاسم في هذه المسألة أنه إن اشترى العبد للعبد بالمائة التي دفعها إليه فاستثنى ماله، كان حرا ولم يكن للسيد في ذلك كلام، وإن لم يستثن ماله، (كان للسيد إذا علم أن يأخذ عبده وتكون المائة له، وإن اشتراه المشتري لنفسه لا للعبد، فاستثنى ماله، كان العبد له، ولم يكن للسيد في ذلك كلام، وإن لم يستثن ماله، كان للسيد،

(14/505)


إذا علم أن يرجع عليه بالمائة- ولا اعتراض في ذلك- إذا لم يستثن ماله) اشتراه لنفسه أو للعبد، وأما إن استثنى ماله ففي ذلك نظر من أجل أن المشتري علم بالمائة التي للعبد وجهل ذلك السيد، فمن حجته أن يقول لو علمت أن له هذه المائة لما بعته بماله، فيكون له أن ينقض البيع ويأخذ عبده على ما قالوا في الصبرة إذا علم المشتري كيلها وجهل ذلك البائع- قال ذلك ابن أبي زيد، ووجه قول ابن القاسم، أن المال لم يقع عليه حصة من الثمن لأنه ملغى، فلكلا القولين وجه، ومرض الأصيلي هذا الشراء من وجه أخر، وهو أن وكالته العبد على شرائه من سيده لا تجوز إلا بإذن سيده، فإن اشتراء العبد- على قياس قوله- للعبد بالمائة التي دفعها إليه، واستثنى ماله- ولم يعلم السيد أنه إنما يشتريه للعبد، كان للسيد ألا يجيز ذلك، وإن أعلمه بذلك، لم يكن له فيه كلام؛ لأنه هو البائع للعبد من نفسه، وأما إذا اشتراه بالمائة لنفسه لا للعبد، فلا كلام في ذلك للسيد على ما ذهب إليه الأصيلي، خلاف ما ذهب إليه ابن أبي زيد، وقول ابن أبي زيد هو الصحيح في المسألة، وأما قول أصبغ: إنه إن اختلف المشتري والعبد- ولم يستثن ماله، فقال العبد: أعطيته يشتريني لنفسي، وقال المشتري: أعطاني اشتريه لنفسي، فالقول قول المشتري؛ لأنه ضامن غارم، والولاء قد وجب له، فهو الصحيح، إلا أنه لم يبين أن كان يكون القول قوله بيمين أو غير يمين، والذي يأتي في ذلك على أصولهم أنه إن كان المشتري قد أعتقه، كان القول قوله بغير يمين؛ لأن العبد يريد إرفاق نفسه لسيده بما يدعيه من أنه أعطاه المائة ليشتريه بها لنفسه؟ ولو أقر له المشتري بذلك بعد أن أعتقه، لوجب ألا

(14/506)


يصدق؛ لأنه يريد إرفاق العبد، فوجب أن يكون القول قوله أنه اشتراه لنفسه دون يمين، وأما إن كان لم يعتقه، فالقول قول المشتري مع يمينه، فإن نكل عن اليمين، حلف العبد وكان القول قوله ورجع العبد إلى سيده، فإن نكل العبد عن اليمين كان للسيد أن يحلف ويأخذ عبده، فإن نكل عن اليمين أيضا بقي العبد للمشتري، وأما قوله وكذلك إن كان قد استثنى ماله أيضا، فالقول قول المشتري، فمعناه دون يمين؛ لأن العبد في دعواه إنما أعطاه المائة ليشتريه بها لنفسه لا للمشتري، مدع للعتق، فلا يمين له عليه في ذلك، إلا أن يأتي بشاهد واحد أنه عامله على ذلك، ولو كان المشتري قد أعتق العبد، لكان الولاء له، إلا أن يقيم سيده البينة على أن العبد إنما أعطاه المائة على أن يشتريه بها لنفسه لا للمشتري، ولو أقام على ذلك شاهدا واحدا لم يحلف معه؛ لأن الولاء لا يستحق باليمين مع الشاهد، ولو مات العبد بعد أن مات المشتري ولا ولد له عصبة لكان للسيد أن يحلف مع الشاهد الواحد ويستحق المال على مذهب ابن القاسم، خلاف قول أشهب؛ لأنه لا يستحق المال إلا بعد ثبات الولاء، وأما قول أصبغ: إنه إن اختلف السيد والمشتري فتداعيا في المائة، زعم السيد أنه أعطاه إياها من مال عبده فالقول قول المشتري، فهو بين لا إشكال فيه ولا اختلاف، وأما قوله: إنه إن نكل عن اليمين وكان ذلك بعد أن أعتق العبد ولا مال له غير العبد، أن السيد يحلف ويرد بذلك عتق العبد، فهو قول ضعيف ينحو إلى قول مالك في موطئه، والذي روى ابن القاسم عن مالك أنه لا يرد عتق العبد بالنكول هو القياس؛ لأنه يتهم على أن ينكل عن اليمين ليرد عتق العبد بيمين السيد، ألا ترى أنه لو أقر

(14/507)


له بما ادعاه من أنه دفع إليه المائة من مال عبده، لما صح أن يرد بذلك عتق العبد كما لو أعتق رجل عبده ولا مال له غيره، ثم أقر لرجل بدين لم يرد عتقه بإقراره، وأما لو اختلف السيد والمشتري وقد استثنى ماله، لكان القول قول المشتري دون يمين، كان المشتري قد أعتق العبد أو لم يعتقه؛ لأنه إن كان قد أعتقه فهو مدع لولائه، وإن كان لم يعتقه فهو مدع لحريته، ولا يمين في واحد من الوجهين، وبالله التوفيق.

[مسألة: العبد يكون بين الرجلين فيأذن له أحدهما بعتق عبد له]
مسألة وسألت ابن القاسم في العبد يكون بين الرجلين فيأذن له أحدهما بعتق عبد له، فيعتقه فيغير ذلك الآخر ويأباه، قال يرد عتقه، ولا يجوز إلا باجتماع منهما على الآخر، قلت: ولا يقوم حظ شريكه على الذي أذن له، قال: لا يقوم عليه ويرد عتقه، قلت لعيسى أرأيت إن حلف أحدهما بعتق عبد من عبيد عبيدهما فحنث أيقوم عليه أم لا؟ قال: أرى أن يقوم عليه، قيل: وكذلك لو ابتدأ عتقه من غير حنث وقع عليه، قال: يقوم عليه أيضا، قيل: وكيف تؤخذ القيمة منه أقيمته كلها أم نصف القيمة، قال: ذلك إلى شريكه إن شاء أخذ نصف القيمة، وإن شاء أخذ القيمة كلها وأقرت في يد العبد؛ لأنه لا ينتزع أحدهما ماله دون صاحبه.
قال محمد بن رشد: قول عيسى ليس بخلاف لقول ابن القاسم، والفرق بين أن يأذن له في عتق عبده فيعتقه، وبين أن يعتقه هو أو يحلف بعتقه فيحنث هو، أنه إذا أذن له في عتقه فالعتق في حظه منه، إنما هو من العبد والثواب له، ألا ترى الولاء يكون له إذا لم يعلم الشريك بذلك، أو علم

(14/508)


فلم يرده حتى عتق؛ لأنه أذن له في عتقه في حال لا يجوز له فيه انتزاع ماله على الأصل الذي تقدم في رسم من سماع ابن القاسم، وإذا أعتقه هو أو حنث بعتقه، فالعتق منه لا من العبد، والثواب له لا للعبد، وفي رسم المدبر والعتق من سماع أصبغ مسألة كان الشيوخ يحملونها على الخلاف لهذه، وليست بخلاف لها؛ لأنها مسألة أخرى، تلك إنما الشركة فيها في العبد المعتق لا في العبد المعتق، وهذه الشركة فيها في العبد المعتق، فقف على الفرق بين المسألتين فإنه بين، ولو أعتق نصف عبده بإذن أحد الشريكين، فأجاز ذلك الشريك الآخر، لتخرج ذلك على قولين؛ أحدهما: أنه يعتق جميعه عليهما، والثاني: أنه لا يعتق منه إلا النصف الذي أعتق على الذي أعتقه- على اختلافهم في الدار بين الرجلين يبيع أحدهما نصفها على الإشاعة، هل يقع البيع على نصف حظه ونصف حظ شريكه، أو على النصف الذي له؟ ولو أعتق نصفه بإذنهما جميعا، لعتق جميعه، كما لو أعتق عبد لرجل نصف عبده، بإذن سيده، لعتق جميعه، وبالله التوفيق.

[مسألة: يعتق عبد مدبره أو أم ولده عند الموت]
مسألة وسألت ابن القاسم: عن الرجل يعتق عبد مدبره أو أم ولده عند الموت، هل يجوز عتقه؟ قال ابن القاسم: إن كان له مال، أخرج قيمته له من ثلث ماله ولم يرد عتقه، وإن لم يكن له رد عتقه، قلت: ولم يجوز عتقه وإن كان له مال وهو في حال لا يجوز له أخذ مال واحد منهما؟ قال لي: أرأيت الرجل أيجوز له أن يأخذ مال ابنه الذي يلي في حياته أو عند موته، أو يجوز له أن يعتق عبده إذا لم يكن له مال، قلت لا، قال: فلو أن رجلا أعتق عبد ابنه الذي يليه عند

(14/509)


الموت، أما كان يجوز عتقه إذا كان له مال ويعطي الابن قيمة العبد من الثلث؟ قلت: بلى، قال: فالمدبرة وأم الولد أقوى في أن يجوز العتق عليهما إذا كان له مال، ويعطيان القيمة؛ لأن المدبرة وأم الولد قد يجوز له يوما ما أن يأخذ اموالهما، وأما مال الولد، فلا يجوز له أخذه أبدا إلا على وجه الفرض له فيه بالمعروف إذا احتاج، ولأن المدبر وأم الولد قد قال جل الناس وعامة أهل المشرق ومن مضى من فقهائهم: النخعي وغيره- أنهما لا يتبعهما أموالهما، وإنما يعتقان بأبدانهما، فهو في مال المدبر، وأم الولد، أجوز منه في مال ابنه، قال عيسى وقال أشهب يرد عتقه فيما أعتق من رقيقهما، وإن كان له مال.
قال محمد بن رشد: لسحنون في كتاب ابنه مثل قول أشهب: أنه لا يجوز عتقه عند موته لعبيدهما، قال: وكذلك إن أوصى بعتقهم؛ لأنه لا ينتزع حينئذ أموالهم، فإن قيل يعطون أثمانهم من ثلثه، قيل: هذا غلط؛ لأن الميت لم يرد هذا، وقول أشهب وسحنون هو القياس على المذهب، وقول ابن القاسم استحسان مراعاة للاختلاف- حسبما ذكره، وبالله التوفيق.

[: يعتق العبد وعليه دين]
- ومن كتاب العرية- وسألته: عن الرجل يعتق العبد- وعليه دين إن بيع العبد كله- كان فيه أكثر من دينهم، وإن بيع بعضه لم يكن فيه قضاء الدين إلا أن يباع كله؛ لأنه إذا دخله شعبة من حرية، نقص ذلك من ثمنه،

(14/510)


قال: إذا لم يكن فيما بيع منه قضاء الدين، وليس يكون فيه قضاء الدين إلا أن يباع كله، بيع كله وجعل ما بقي بعد الدين في حرية، وذلك رأيي أن يجعل ما بقي منه في حرية، وقد سمعت عن مالك أنه ليس عليه ذلك أن يجعله في رقبة بواجب، ولكن أستحب ذلك وأستحسنه.
وسئل عنها سحنون فقال: قولي في هذه المسألة كقولي في رجل دبر عبده في مرضه ثم مات وعليه دين ولا مال له غيره، والذي عليه من الدين أقل من قيمته، يكون ربعه أو ثلثه، فإن بيع ذلك الجزء منه لم يبع إلا بأقل من قيمته، فالذي آخذ به فيها- وهو الحق إن شاء الله- أن ينظر إلى ما على الميت من الدين، فإن كان عشرة أو عشرين، والعبد قيمته مائة دينار إذا بيع كله، فإنه يوقف العبد ويقال: من يشتري من هذا العبد بما على صاحبه من الدين- وهو دينار أو عشرة، أو ما كان من الدين، فإنه الآن يقول: من يريد أن يشتري أنا آخذ ربعه بعشرة، ويقول آخر: أنا آخذ خمسه بعشرة، ويقول آخر: أنا آخذ سدسه بعشرة، فإذا وقف على شيء لا ينقص منه، بيع منه حينئذ، هكذا يكون أرفع لثمنه، وأزيد لقيمة ما بيع منه، وأعدل من أن يقال من يشتري ربع هذا العبد، أو خمسه أو جزءا منه؛ لأن ذلك يكون أكثر لثمنه بجزء هذا- على ما قلت لك، فإنه قول كثير من أصحاب مالك.
قال محمد بن رشد: قول سحنون هذا هو قول ابن القاسم بعينه، وإنما قلب السوم، فابن القاسم يقول: إذا كان عليه عشرة دنانير دينا، من يشتري ربع هذا الغلام بعشرة، فإن لم يجد مشتريا، قال: من يشتري ثلثه بعشرة، ثم يزيد في الجزء حتى يجد مشتريا، وسحنون يقول: كم تشترون

(14/511)


من هذا الغلام بعشرة دنانير؟ فيقول مشتر ثلثه، وآخر ربعه، وآخر خمسه، حتى يقف على حد مسمى لا يجد من ينقص منه، فكلا القولين واحد في المعنى، وبالله التوفيق.

[مسألة: الأمة تكون بين الرجلين ولها ولد هو بينهما أيضا]
مسألة وسألته: عن الأمة تكون بين الرجلين ولها ولد هو بينهما أيضا، فيعتق أحدهما نصيبه من الجارية ويستلحق الآخر الولد ويدعي أنه ولده، قال: يلحق به الولد ويكون عليه نصف قيمته لصاحبه، ويعتق نصيبه في الأمة.
قال محمد بن رشد في كتاب ابن حبيب: إنه لا قيمة عليه في الولد ولا في الأمة؛ لأن إقراره بالولد لو علم منه قبل العتق، لم يكن عليه في الولد قيمة، وإنما كانت تكون عليه نصف قيمة الأمة، فلما لم يعلم ذلك منه إلا بعد العتق سقطت عنه القيمة في الأمة، وهو أظهر من قول ابن القاسم؛ لأن استلحاق الولد يرفع عنه التهمة، فوجب أن يكون استلحاقه للولد بمنزلة أن لو أقر أنه وطئها فجاءت بولد لا يلزمه إلا نصف قيمة الأمة، ووجه قول ابن القاسم، أنه لم ير استلحاقه له يرفع التهمة عنه فيما يلزمه من نصف قيمته لو أعتقه، فعلى قياس قوله لو استلحق الولد قبل العتق، لوجب أن يكون عليه الأكثر من نصف قيمة الأمة، أو نصف قيمة الولد، فلا يلزم ابن القاسم على هذا التعليل ما ألزمه ابن حبيب من قوله؛ لأن إقراره بأن الولد له لو علم قبل العتق لم يكن عليه في الولد قيمة، وإنما كانت تكون عليه نصف قيمة الأمة، إذ لا يوافقه على أصله في أن استلحاقه للولد يرفع التهمة عنه، وسيأتي في رسم إن خرجت بعد هذا عكس هذه المسألة- إذا وطئ أحدهما

(14/512)


الجارية فولدت، فقال الآخر: قد كنت أعتقتها قبل ذلك، ونتكلم عليها إذا وصلنا إليها إن شاء الله، وبالله التوفيق.

[مسألة: يعتق نصف عبده والعبد خالص له]
مسألة وسألته عن الرجل يعتق نصف عبده، والعبد خالص له، فيجهل أمره، فلا يستتم عتقه عليه؛ ثم يقول له بعد ذلك أعطني كذا وكذا، وأتم لك عتقك ففعل العبد؛ ثم يعلم العبد بأنه لم يكن عليه غرم شيء، وأن استتمام عتقه كان على سيده واجبا، وقد أفلس السيد، وقام عليه غرماؤه، أو مات وهو مليء أو معدم؛ قال: أرى أن يرجع عليه بما دفع إليه إن مات فيما ترك، وإن فلس دخل مع الغرماء؛ وإن كان مليئا غرم له ذلك نقدا، وإن كان عديما، أتبعه به دينا.
قال محمد بن رشد: هذا أصل قد اختلف فيه: من دفع ما لا يجب عليه دفعُه جاهلا، ثم أراد الرجوع فيه؛ من ذلك الذي يثيب على الصدقة، ثم يريد الرجوع في الثواب، ويدعي الجهل، ولها نظائر كثيرة؛ في المدونة والعتبية، قد تكلمنا عليها في غير ما موضع، وأشبعنا القول فيه في رسم أوصى، من سماع عيسى من كتاب الصدقات والهبات، وقلنا هناك: إنها مسألة يتحصل فيها ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنه ليس له أن يرجع فيما أنفذ بحال، وإن علم أنه جهل؛ إذ لا عذر له في الجهل. والثاني: أن له أن يرجع في ذلك إن ادعى الجهل، وكان يشبه ما ادعاه مع يمينه على ذلك، وقيل بغير يمين. والثالث: أنه ليس له أن يرجع في ذلك، إلا أن يعلم أنه جهل، بدليل يقيمه على ذلك، وهو قول سحنون في نوازله، من كتاب الصدقات والهبات، وبالله التوفيق.

(14/513)


[مسألة: يحلف بعتق غلامه في دين عليه أن يقضيه إلى شهر]
مسألة وسئل عن الرجل يحلف بعتق غلامه في دين عليه أن يقضيه إلى شهر، فلم يقضه، فأعتق السلطان عليه؛ أيتبعه ماله أم لا؟ وعمن مثل بعبده، هل يتبعه ماله أم لا؟ قال ابن القاسم: قال مالك: كلاهما يعتق بماله، ورواها أشهب في كتاب العتق أيضا عن مالك.
قال محمد بن رشد: العبد يملك على مذهب مالك، فماله له ما لم ينتزعه منه سيده، أو يبعه؛ لأن بيعه إياه انتزاع منه لماله بالسنة الثابتة في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - من قوله: «من باع عبدا، وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع» .
فإذا أعتقه ولم يستثن ماله، تبعه على ما مضى من السنة في ذلك؛ إذ ليس له أن ينتزعه منه وهو حر بعد أن أعتقه، وكذلك إذا حنث فيه بالعتق يتبعه ماله، كما قال في الرواية؛ إذ ليس له أن ينتزعه منه بعد أن حنث فيه بالعتق، فصار حرا وإن كان ذلك قبل أن يعتقه عليه السلطان؛ لأن أحكامه أحكام حر من يوم الحنث، لا من يوم الحكم، وكذلك الذي يمثل بعبده فيعتقه عليه السلطان يتبعه ماله كما قال في الرواية؛ إذ ليس له أن ينتزعه منه وهو حر بعتق السلطان عليه إياه بالمثلة، ولو انتزعه بعد أن مثل به قبل أن يعتقه عليه السلطان، لجاز له انتزاعه منه؛ إذ ليس هو حرا بنفس المثلة، وأحكامه أحكام عبد حتى يعتق عليه، إلا أن ينتزعه منه بعد أن أشرف السلطان على الحكم عليه بالعتق، فلا يكون ذلك له، قاله أصبغ فيما حكاه عنه ابن حبيب، وبالله التوفيق.

(14/514)


[مسألة: العبد يكون نصفه حرا ونصفه مملوكا]
مسألة قال عيسى: سئل ابن القاسم عن العبد يكون نصفه حرا ونصفه مملوكا، فيعتق بإذن الذي له فيه الرق، أو بغير إذنه؛ فقال: إذا أعتقه بغير إذنه، فإنه يرد عتقه إن شاء؛ وأما إن أعتق بإذنه فولاء ما أعتق بينه وبين الذي أعتق النصف، فيكون ولاء ما أعتق هذا العبد الذي نصفه حر بين الذي له فيه الرق، وبين الذي أعتق النصف، ما كان الذي نصفه حر فيه الرق؛ وإن مات على ذلك وفيه الرق، فهو بينهما أيضا؛ فإن أعتق العبد الذي نصفه حر يوما ما، رجع إليه ولاء ما أعتق؛ لأنه مما لا يجوز للذي فيه الرق انتزاع ماله، فكل من لا يجوز لسيده انتزاع ماله، فما أعتق بإذنه فولاؤه يرجع إليه إذا أعتق؛ وقد قال في سماع يحيى، من كتاب الصلاة: إن ميراث ما أعتق هذا العبد الذي نصفه حر بإذن الذي له فيه الرق، للذي تمسك بالرق خالصا، وهو أحق بميراث مواليه من الشريك المعتق الأول.
قال محمد بن رشد: رواية يحيى أصح في النظر؛ لأنه لما لم يصح أن يرث هذا العبد المعتق سيده الذي أعتقه، من أجل أن بعضه عبد؛ وجب أن يكون ميراثه لمن يرث سيده الذي أعتقه، وهو الذي له بعض رقبته؛ لأن العبد إذا كان بعضه حرا، وبعضه رقيقا، فميراثه للذي له فيه الرق، فكما يرثه بالرق الذي له فيه دون الذي أعتق بعضه، فكذلك يرث مولاه بالرق الذي له فيه دون الذي أعتق بعضه؛ ووجه رواية عيسى أنه لما كان الرجل يرث معتق عبده، وجب إذا كان له بعض عبد ألا يرث من معتقه إلا بقدر ما له من

(14/515)


رقبته؛ ولما كان الباقي من ميراثه لا يصح أن يرثه الذي أعتقه من أجل ما فيه من الرق، جعله للذي أعتق بقيته، وليس ذلك ببين، وبالله التوفيق.

[مسألة: قال لعبده يوم أعتق فأنت حر فأعتق العبد في ملكه]
مسألة قال عيسى: وسئل عن عبد قال لعبده: يوم أعتق فأنت حر، فأعتق العبد في ملكه؟ قال: يعتق عليه، قيل له: فإن قال: اخدمني عشر سنين، وأنت حر فعتق؛ هل يلزمه ما جعل له؟ قال: نعم يلزمه، قلت: فلمن يكون ولاؤهما، وإنما عتقا بما عقد لهما في ملك سيده؛ قال: ولاؤهما له، وإنما هما بمنزلة ما أعتق، فلم يعلم به سيدهما حتى أعتقه، ولم يستثن ماله فولاؤه له؛ وإنما هذا إذا صنع ذلك بغير إذن سيده، وأما إن كان ذلك بإذن سيده فولاؤهما لسيده، وإن لم يعتقا إلا بعد عتق العبد الذي جعل لهما ذلك؛ قلت: فإن كانت جارية ففعل ذلك بإذن سيده، قال: أما الجارية فإذا أذن له سيده، فليس للعبد ولا لسيده أن يطأها، ولا أن يبيعها؛ لأنها معتقة إلى أجل؛ وأما الذي قال لجاريته: يوم أعتق فأنت حرة، فهذا يطأ، ويبيع إن شاء، قال ابن نافع: الولاء في مثل جميع هذه للسيد.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسائل بين، والأصل فيها أن من أعتق عبده وهو عبد، أو فيه بقية من رق، فلم يعلم بذلك سيده حتى عتق، فالولاء له؛ وإن علم فأجازه، أو كان العتق بإذنه؛ أفترى في ذلك من له أن ينتزع ماله، ممن ليس له ذلك؟ وقد مضى القول على هذا المعنى مجودا في رسم من سماع ابن القاسم، والله الموفق.

(14/516)


[مسألة: تحضره الوفاة فيدخل عليه أحد ولديه فيشهده أنه أعتق فلانا]
مسألة قال عيسى بن دينار: ثم سألت ابن القاسم عن الذي تحضره الوفاة وله ولدان، فيدخل عليه أحدهما، فيقول له أبوه: اشهد أني قد أعتقت غلامي فلانا، ثم يخرج فيدخل عليه الآخر فيسأله أن يوصي، فيقول له: اشهد أن رأسا من رقيقي حر، ولم يترك إلا ثلاثة أرؤس، ويكون ماله كثيرا، أو لا يكون له مال غيرهم، قال ابن القاسم: لا أرى لواحد منهما شهادة يقطع بها، ويؤمر للذي شهد على عبد بعينه أن يشتري بحصته منه رقبة، إن باعه أشراكه، وإن أمسكوا فلا يستخدم حصته منه؛ فإن صار له كله، عتق عليه، ويؤمر الذي شهد على رأس منهم في ثلث قيمة أولئك الأرؤس الثلاث مثل ذلك.
قال محمد بن رشد: قوله: لا أرى لواحد منهما شهادة؛ معناه أنها لا تلفق؛ لأنها مختلفة؛ وإذا لم تلفق بطلت؛ إذ لا يثبت العتق بشهادة واحد؛ وقد قيل: إنه يقرع بين العبيد بشهادة الذي شهد أنه أعتق رأسا من رقيقه، ولم يعينه، فإن خرجت القرعة على العبد الذي سماه الشاهد الآخر، لفقت الشهادة؛ لأنها قد اتفقت فيما يوجبه الحكم؛ وقد مضى هذا في نوازل سحنون، من كتاب الوصايا، ومضى في رسم العرية، من سماع عيسى، من كتاب الشهادات، تحصيل القول فيما تلفق فيه الشهادات مما لا تلفق فيه.
وقوله: إذا بطلت الشهادة؛ أن الشاهد يؤمر أن يشتري بحصته من العبد الذي شهد بعتقه رقبة يعتقها إن باعه أشراكه، فإن لم يبيعوا وأمسكوا، فلا يستخدم حصته

(14/517)


منه؛ معناه إذا لم يجد من يشتري منه حصته منه على انفراد، ولو وجد من يشتريها منه إذا لم يرد أشراكه البيع، لاستحب له أيضا أن يبيعها ويجعل ذلك في عتق، وكذلك قال في المدونة وغيرها.
وقوله: إنه إن صار له كله عتق عليه صحيح؛ لأنه إنما منع أن تعتق عليه حصته منه من أجل الضرر الداخل في ذلك على أشراكه؛ وعبد العزيز بن أبي سلمة لا يراعي هذا الضرر، فرأى أن تعتق عليه حصته منه، قاله في أول رسم من سماع ابن القاسم، من كتاب الشهادات، ومثله للمغيرة في نوازل سحنون منه؛ ويتخرج في المسألة قول ثالث، وهو أن يعتق عليه حظه منه، ويقوم عليه حظ أشراكه؛ لأنه يتهم أن يكون أراد أن يعتق حظه، ولا يقوم عليه حظ أشراكه.
وقد مضى بيان ذلك في أول رسم، من سماع ابن القاسم، من الكتاب المذكور؛ فإن رجع عما شهد به بعد أن ملكه كله، لم يعتق عليه عند أشهب، وهو قول غيره في العتق الثاني من المدونة؛ وما يلزم الذي شهد على عتق عبد بعينه من عتقه عليه إن ملكه كله ويؤمر به من أن يجعل ثمن حصته منه في عبد يعتقه، يلزم مثله الذي شهد على رأس منهم بغير عينه في ثلث قيمة أولئك الأرؤس، وذلك بأن يقوموا، فإن كانت قيمتهم سواء، أسهم بينهم على أيهم تخرج وصية الميت، فالذي يخرج السهم عليه يؤمر أن يبيع حصته منه فيجعله في رقبة، وإن ملكه كله عتق عليه، وذلك إن حمله الثلث؛ وإن لم يحمله الثلث، فيكون هذا الحكم فيما حمله منه، إلا أن تكون الشهادة عليه بالعتق في الصحة، فلا ينظر في ذلك إلى الثلث، وبالله التوفيق.

[مسألة: قال إن دخلت هذه الدار فجاريتي حرة]
مسألة وأما الذي قال: إن دخلت هذه الدار فجاريتي حرة، فولدت

(14/518)


قبل أن يدخلها، ثم دخلها ولها ولد، فإنها تعتق بولدها كذلك؛ قال لي مالك عن الاستثقال للعتق.
قال محمد بن رشد: القياس ألا يدخل والدها معها في العتق؛ لأنه فيها على بر، وله أن يطأ ويبيع، إلا أن قول مالك قد اختلف في ذلك، مرة كان يقول يعتق ولدها، ومرة كان يقول تعتق بغير ولدها؛ ولكن الذي ثبت عليه واستحسنه على كره أن تعتق هي وولدها على ما قاله في هذه الرواية، وما تقدم في رسم باع غلاما، من سماع ابن القاسم، وما يأتي في رسم بع ولا نقصان عليك من سماع عيسى، وفي رسم المدبر والعتق من سماع أصبغ؛ وقد مضى الكلام على هذه المسألة في رسم باع غلاما المذكور، من سماع ابن القاسم، وفي رسم العرية، من سماع عيسى، من كتاب الوصايا، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: بتلت عتق نصف جارية لها وهي صحيحة وكاتبت نصفها]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا يسأل عن امرأة بتلت عتق نصف جارية لها، وهي صحيحة، وكاتبت نصفها، ولم تعلم بذلك حتى ماتت؛ قال: لا يعتق منها إلا النصف التي أعتقت، وتمضي على الكتابة بالنصف، وسئل عن الرجل دبر نصف عبده، وكاتب نصفه، فقال: إن علم به قبل الموت كان مدبرا كله، وإن لم يعلم به حتى مات، عتق نصفه في ثلث الميت، ومضى على الكتابة في نصفه؛ قال: ولو لم يعثر على ذلك إلا وهو مريض، فإنهما يعتقان جميعا في ثلث الميت؛ فإن خرجا سقطت الكتابة، وإن لم يخرجا عتق منهما ما أعتق، وكان ما بقي منهما على الكتابة.
قال محمد بن رشد: سقطت مسألة التدبير في بعض الروايات،

(14/519)


ولا تصح المسألة إلا بثبوتها؛ لأن قوله قال: ولو لم يعثر على ذلك إلا وهو مريض إلى آخر المسألة، إنما هو تمام مسألة التدبير، ولا يصح أن تعاد إلى مسألة المرأة فتجعل من تمامها، لاستحالة ذلك في اللفظ؛ إذ هو بلفظ التذكير وخطابه في المعنى؛ إذ لا يصح أن يكون في ثلثها ما أعتقه في صحتها؛ وقد أصلح من الشيوخ من سقطت من كتابه مسألة التدبير المسألة بأن ردها على التأنيث فطرح قوله، وهو مريض إلى آخر المسألة، وجعل مكانه، وهي مريضة، فإنه يعتق جميعها في ثلث الميت إن حملها، وسقطت الكتابة؛ وإن لم يحملها عتق منها ما عتق من مبلغ الثلث، وكان ما بقي منها على الكتابة، وذلك خطأ؛ لأن الواجب إذا أعتقت نصف جارية لها، وهي صحيحة فلم يعثر على ذلك حتى مرضت؛ أن يكون ذلك بمنزلة إذا لم يعثر على ذلك حتى ماتت، يعتق منها النصف الذي أعتقت ويمضي على الكتابة في النصف على القول بأن من أعتق نصف عبد له وهو صحيح، فلم يعثر على ذلك حتى مرض، لا يعتق عليه باقيه في الثلث إلا بعد الموت؛ وعلى القول بأن من أعتق نصف عبد له في صحته، فلم يعثر على ذلك حتى مرض، يعتق عليه باقيه في الثلث؛ يعتق عليها النصف الذي أعتقت في صحتها؛ فإن ماتت من مرضها، والثلث يحمل النصف الذي كاتبت، أعتق في ثلثها، وسقطت عنه الكتابة؛ وإن لم يحمل الثلث جميعه، أعتق منه ما حمل ثلثها، وسقط عنه من الكتابة بقدر ذلك؛ وكان ما

(14/520)


بقي منه على الكتابة؛ وقد قال بعض من ذهب إلى تصحيح هذا الإصلاح، معنى ذلك أنها كانت ذات زوج؛ ولذلك قال: إن النصف الذي أعتقت في صحتها يكون في ثلثها، وذلك أيضا خطأ من التأويل؛ لأنه إن كان ثلث مالها لا يحمله فأجازه الزوج، وجب أن يجوز وتكون من رأس المال؛ وإن لم يجزه، وجب أن يبطل كله، ولا يجوز منه قدر الثلث؛ وهذا أمر متفق عليه في العتق؛ وأما في غير العتق، فقد قيل: إن الزوج إذا لم يجزه جاز الثلث، وبطل الزائد عليه، فساوى بين من أعتق بعض عبده، أو دبر بعضه بين التدبير والعتق في ألا يلزمه عتق الباقي ولا تدبيره حتى يحكم عليه به؛ فإن لم يحكم به عليه حتى مات لم يحكم به عليه بعد الموت؛ لأن تتميم عتقه عليه، إذا أعتق بعضه ليس فيه أثر؛ وإنما قيس على ما جاءت به البينة من أنه من أعتق شركا له في عبد قوم عليه قيمة العدل، فعتق الرجل بعض عبده مقيس على عتقه شقصا له في عبد، وتدبير الرجل بعض عبده مقيس على عتق بعض عبده، فإن عثر عليه في حياته كان مدبرا كله، وإن لم يعثر عليه حتى مات، لم يكن منه مدبرا إلا ما دبر، وكذلك إذا دبر بعض عبده وكاتب بقيته، فعثر على ذلك قبل أن يموت، تبطل الكتابة في نصفه؛ إذ لا يجوز للرجل أن يكاتب نصف عبده، ويكون مدبرا كله، وبالله التوفيق.

[مسألة: باع شقصا له في عبد واستثنى ماله]
مسألة وقال: من باع شقصا له في عبد، واستثنى ماله، فسخ البيع.

(14/521)


قال محمد بن رشد: دليل هذه الرواية أنه لو لم يستثن ماله، لم يفسخ البيع إن سلم البائع المال للمشتري، على قياس ما في رسم كتب عليه ذكر حق، من سماع ابن القاسم، من كتاب جامع البيوع، خلاف ما في رسم استأذن، من سماع عيسى منه، وخلاف ما في سماع أشهب أيضا من كتاب الشركة، وبالله التوفيق.

[: الولد يشهد أن أباه أعتق عبدا سماه]
ومن كتاب له أوصى بمكاتبه
بوضع نجم من نجومه وسألته عن الولد يشهد أن أباه أعتق عبدا سماه، وشهد بذلك غير ولد ممن يرث الميت، قال: لا تجوز شهادة واحد في العتق، ولا يعتق منه قليل ولا كثير، لا ما ينوبه ولا غيره، غير أنه إن ملكه يوما ما، أو ملك منه شيئا عتق عليه جميع ما يملك، فإن الذي ملك منه كله أو بعضه، فإنه يعتق عليه، ولا يحل له أن يسترق عبدا يزعم أنه حر، قلت: ولم لا يعتق منه مصابته فيه، وإن لم يملك منه شيئا؟ قال: كذلك قال مالك: لا يعتق منه شيء إلا أن يملكه، قال ابن القاسم: وما صار منه في حظه من دنانير، أو دراهم، أو غير ذلك من العروض، فإنه لا يأكله ويؤمر أن يجعله في عتق رقبة إن كان يبلغ رقبة، أو في شركة عبد يعتق إن لم يبلغ رقبة، أو في قطاعة مكاتب يجعله في عتق ولا يأكله، يؤمر بذلك وله أن يقضي عليه به، فإن ملكه يوما ما عتق عليه إن كان يحمله ثلث الميت يوم

(14/522)


مات، أو ما كان يحمل منه، ليس عليه أن يعتق منه أكثر مما كان يحمل منه ثلث الميت يوم مات، إن كان إنما زعم أنه أعتقه في المرض، ولو كان شهد أنه أعتقه في الصحة، لم يجز له أن يملك منه شيئا أبدا؛ ومتى ما ملك منه شيئا؛ عتق عليه، غير أنه إن كان إنما يزعم أنه أعتقه في المرض، فإنه إن ملك منه شيئا نظر، فإن كان هو ثلث الميت بعينه، ولم يكن معه من الوصايا شيء إلا وهو مبدأ عليه، فإنه متى ما ملك منه شيئا، عتق عليه إن ملكه كله عتق عليه كله؛ وإن ملك بعضه عتق عليه ما ملك منه؛ وإن كان معه من الوصايا من العتق أو غيره ما يكون غيره مبدأ عليه، أو يكون هو وإياه في الثلث، إسوة الغرماء، فإنه إذا ملكه يوما ما نظر إلى ما كان يعتق منه في ثلث الميت مع تلك الوصايا، لو ثبت عتقه يومئذ بشاهد آخر، فأعتق منه إذا ملكه مبلغ ذلك إن كان يعتق جميعه مع تلك الوصايا عتق جميعه، وإن كان نصفا فنصفا، وإن كان ثلثا فثلثا، يعتق منه مبلغ ما كان يعتق منه معهم لو ثبت عتقه بشاهدين؛ وأما إذا لم يملكه، وإنما صار له منه دنانير، أو دراهم أو غير ذلك من العروض، فإنه ينظر إلى ما صار إليه من قيمته؛ فإن كان قدر ما يعتق منه في الثلث أو أدنى، جعل جميع ذلك في عتق؛ قال ابن القاسم: إن كان كله، وإن كان أكثر مما كان يعتق منه أخرج مقدار الذي كان يعتق منه، فجعله في عتق واحتبس الفضلة، فهكذا يصنع فيما يصير له من شهد في عتق عبد من جميع الورثة

(14/523)


ولدا كان أو غير ذلك، امرأة كان أو رجلا، قاطع الشهادة كان أو غير قاطعها، إذا كان يملك ماله، ويجوز فيه قضاؤه، ويقبض ما ورث، ولا يولى عليه؛ فهذا الذي يجب عليهم أن يفعلوه من غير أن يقضى عليهم فيه، فكم من ليس بقاطع الشهادة، ولا يولى عليه في ماله لإصلاحه في ماله، وحسن نظره، وعسى أن يكون والد الميت، أو أخا، أو غير ذلك، فأولئك كلهم إذا شهدوا في عبد أن صاحبهم المالك أعتقه، فعليهم أن يصنعوا فيما يصير لهم مثل ما ذكرت لك، ولو شهد رجلان منهم ممن ليس بقاطع الشهادة، إلا أنهما ليس يولى عليهما في أموالها، فإن العبد لا يعتق بشهادتهما، ولكن كل من ردت شهادته، كان عليه أن يصنع فيما يصير له فيه مثل ما وصفت لك، وكذلك أيضا الرجلان العدلان من ولده يشهدان لعبد أن أباهما أعتقه، فإنه إن كان العبد ممن لا يتحمل بولايته ولا يتهمان في جر ولاء مثله لدناءته، فإن شهادتهما جائزة، ويعتق بشهادتهما.
وإن كان ليس معهما غيرهما ممن يرث ولاء الميت إنما معهما بنات ونساء ومن لا يرث ولاء، فإن شهادتهما جائزة، ولا يتهمان في جر ولاء العبد الدني ويعتق بشهادتهما؛ وإن شهدا في عبد نبيل يرغب في ولائه ويتحمل بولايته، أو في عبد دني إلا أن له أولادا من امرأة حرة مثلهم يرغب في ولائهم، فإنه إن كان كل من ورث الميت يرث الولاء، جازت شهادتهما، وإن كان معهما بنات أو أخوات أو من لا يرث ولاء، لم تجز شهادتهما وردت؛

(14/524)


لأنهما يجران إلى أنفسهما، ويتهمان في جر الولاء، ولا يعتق منه قليل ولا كثير، لا من مصابتهما ولا غيره، ويصنعان فيما يصير لهما منه من رقبته أو من ثمنه مثل ما وصفت لك في الشاهد الواحد، والشاهدين اللذين هما غير قاطعي الشهادة، فكل من ردت شهادته عدلا كان أو غير عدل إذا كان مالكا لماله، لا يولى عليه فيه صنع فيما يصير له من العبد، مثل ما وصفت لك، قال: ولو شهد رجل واحد من ورثته في عبد بعضه حر، أن الميت أوصى بعتقه، عتق من العبد نصيب الشاهد منه فقط، ولم يعتق منه غيره؛ لأنه لا يتهم هاهنا، ولم يدخل فسادا بشهادته إذا كان بعضه حرا.
قلت: أرأيت إن شهد رجل أو رجلان من ورثته في عتق عبد نصفه حر، أن صاحبهم أعتق بقيته، والعبد مما يتحمل بولايته، ويرغب فيه، ومعهم من الوراث من لا يرث ولاء، أتجوز شهادتهم أم لا؟ قال ابن القاسم: لا تجوز شهادتهم إذا كان العبد يتهمون فيه على جر ولائه، وكان معهم من الورثة من لا يرث ولاء، وإن كان بعضه حرا؛ لأن جر قليل الولاء وكثيره سواء، قال ابن القاسم: لا يعتق من العبد إذا ملك شقصا أحد ممن شهد له، وردت شهادته أكثر مما ملك منه، ولا يعتق عليه نصيب شريكه فيه بالقيمة، وإنما يعتق منه الذي ملك، فلا يعتق عليه غيره.
وما ملكوا من العبد فعتق، فإن ولاء ما عتق منه للميت، ولمن ورث الميت، قال ابن القاسم: ولو كان الذي شهد ليس للميت وارث غيره، جازت شهادته وعتق بشهادته وحده العبد في ثلث الميت، أو ما حمل الثلث منه، كان جائز الشهادة، أو غير

(14/525)


جائز الشهادة، إذا كان لا يولى عليه في ماله؛ وكذلك أيضا الشهيدان إذا لم يكن معهما وارث غيرهما جازت شهادتهما، وأعتق العبد بشهادتهما في ثلث الميت، كانا جائزي الشهادة، أو غير جائزي الشهادة إذا كان لا يولى عليهما في أموالهما، قال: وكل من ملك ممن ذكرت لك في هذه المسألة من الشهداء من رقبة العبد شيئا، فإنه يجبر على عتق ما ملك منه على حال ما وصفت لك، ومن لم يملك منه شيئا، وإنما صار له في مصابته منه دراهم أو دنانير، فإنه يؤمر أن يجعل ذلك في رقبة، ولا يجبر على ذلك كما يجبر على عتق ما يملك منه؛ قلت: فالسفيه مولى عليه، والصغير والبكر من النساء المولى عليهما، يشهد أحدهم بهذه الشهادة في حال ولايته، ثم ملك من ذلك العبد شيئا، هل يعتق عليه؟ قال: لا؛ لأن مالكا قال لي في السفيه يحلف بعتق بعض رقيقه في شيء ألا يفعله، فتحسن حاله، ثم يفعل وهو حسن الحال؛ أترى أن يعتق عليه؟ قال: لا، ولا أراه يخرج من المأثم، ولا يقضى عليه بذلك؛ لأن الأيمان يوم تقع.
قال محمد بن رشد: هذه المسائل كلها صحاح بينة، مثل ما في المدونة، وما فيها من الزيادة عليها مفسرة لما فيها؛ ولما سأله عن الابن يشهد أن أباه أعتق عبدا له سماه، لم لا يعتق عليه حظه منه؟ قال له كذلك قال مالك، فاكتفى بذلك منه دون أن يبين له العلة؛ والعلة في ذلك هي الضرر الذي يدخل على سائر الوراث بعتق بعض العبد؛ لأن ذلك ينقص قيمته إذا أعتق ربعه، قد لا تساوى ثلاثة أرباعه إلا نصف ثمن جميعه، ولهذه

(14/526)


العلة جاءت السنة فيمن أعتق شقصا له في العبد، أن يقوم العبد على أن جميعه مملوك، فيعطي شركاؤه حصصهم منه، ولا يقوم عليه نصيب شريكه منه على أن نصيبه حر، ألا ترى أنه إذا شهد على موروثه بعتق عبد بعضه حر، عتق عليه نصيبه منه على ما قاله في الرواية؛ لارتفاع علة الضرر في ذلك، فقوله في الذي شهد أن أباه أعتق عبدا سماه، أنه إن ملكه يوما ما، أو ملك منه شيئا، أعتق عليه جميع ما يملك، كان الذي يملك منه كله أو بعضه صحيح؛ لأنه إذا ملكه كله، لم يكن على أحد ضرر في عتقه عليه، وإذا ملك منه بعضه باشتراء أو هبة، فوجب أن يعتق عليه ما اشترى، لإقراره أنه حر، وجب أن يعتق عليه ما ورثه منه أيضا لارتفاع علة الضرر في ذلك بدخول العتق فيه بما اشتراه منه، أو وهب له؛ مثال ذلك أن يكون للرجل ثلاثة من الولد، فيشهد أحدهم على أبيه أنه أعتق عبدا له سماه، فلا يعتق عليه حظه منه، فإن اشترى حظ أخيه الثاني عتق عليه ثلثا العبد، الثلث الذي ورثه والثلث الذي اشتراه، ولا يقوم عليه حظ أخيه الثالث على ما قاله في الرواية، وقد قيل: إنه يقوم عليه، وهو الذي يأتي على قول أصبغ في نوازله، من كتاب الشهادات، في الرجلين يشتريان العبد من الرجل، ثم يشهد أحدهما على البائع أنه كان قد أعتقه، والاختلاف في تقويمه عليه جار عندي على اختلافهم في ولاء ما أعتق عليه منه بإقراره أن غيره أعتقه، هل يكون له أو للذي زعم أنه أعتقه، فمن يرى أن الولاء يكون للمشهود عليه بالعتق، لا يقوم عليه حظ الشريك، وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، ومن يرى أن الولاء يكون للذي أعتق عليه، وهو مذهب أشهب والمخزومي، يرى أن يقوم عليه.
وإلى هذا ذهب أصبغ، والله أعلم، وقد قيل: إنه يعتق عليه ما ورثه منه، قاله عبد العزيز بن أبي سلمة، في أول رسم من سماع ابن القاسم، من كتاب

(14/527)


الشهادات، والمغيرة في نوازل سحنون منه، فهي ثلاثة أقوال في المسألة، وكان القياس على مذهب ابن القاسم وروايته عنه إذا لم يعتق عليه حظه الذي ورثه منه للضرر الداخل في ذلك على أشراكه، ألا يعتق عليه ما اشتراه منه أيضا للضرر الداخل في ذلك أيضا على أشراكه، إلا أن يشتري جميعه، وقوله في السفيه المولى عليه، والبكر من النساء المولى عليه، والصغير يشهد أحدهم بهذه الشهادة، ثم يملك من ذلك العبد شيئا في حال ملكه لأمر نفسه، أنه لا يعتق عليه، فقد مضى القول عليه في رسم العتق، من سماع أشهب، وبالله التوفيق.

[مسألة: حلف في جارية له بحريتها إن لم يبعها بعشرين دينارا إن وجد]
مسألة وسألته عن رجل حلف في جارية له بحريتها، إن لم يبعها بعشرين دينارا إن وجد، وإن لم يبعها بنقصان عشرة دينار من رأس ماله إن وجد من يشتريها، فعرض فلم يجد من يأخذها بوضيعة عشرة دنانير، ولا من يشتريها بعشرين دينارا، قال: لا يحال بينه وبين وطئها، ويعرضها أبدا ما عاش؛ فإن لم يجد من يأخذها بذلك حتى مات، فلا حرية لها، ولا حنث عليه، وإن وطئها فحملت منه، عتقت عليه ساعة حملت.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة يختلف منها في موضعين؛ أحدهما: هل له أن يطأ في حال العرض أم لا؟ والثاني: إن عرض فوجد الثمن الذي حلف عليه، هل يحنث إن لم يبعها، أو لا يحنث؟ ويكف عن وطئها؛ لأنه على حنث، ولم يبعها حتى مات، عتقت في ثلثه، والاختلاف في هذا إنما

(14/528)


هو إذا لم تكن له نية في التعجيل ولا في التأخير، على أي الوجهين تحمل يمينه من ذلك، وأما إذا عرض فلم يجد الثمن الذي حلف عليه، فلا اختلاف في أن له أن يطأ، فإن مات قبل أن يجد الثمن، فلا شيء عليه ولا عتق لها، ويلزمه أن حال السوق بزيادة، أن يعود إلى العرض على القول بأن يمينه تحمل على التأخير إذا لم تكن له نية، وهو مذهبه في هذه الرواية، بدليل قوله، فإن لم يجد من يأخذها بذلك حتى مات، فلا حرية لها ولا حنث عليه، وإن وطئها فحملت منه عتقت عليه ساعة حملت؛ إذ لو حمل يمينه على التعجيل؛ لكان قد بر إذا عرضها في ذلك السوق، فلم يجد بها الثمن الذي حلف عليه، وقد مضى في رسم المكاتب، من سماع يحيى، من كتاب الإيلاء، ما يبين ما قلناه في هذه المسألة، وبالله التوفيق.

[مسألة: باع من عبده نفسه بمائة دينار نقدا]
مسألة وسئل عن رجل باع من عبده نفسه بمائة دينار نقدا، ومائة ثوب موصوف إلى أجل، هل يكون الآن حرا، ويكون ذلك دينا عليه يتبع به؟ قال ابن القاسم: هو حر الآن، كان للعبد مال أو لا مال له؛ لأنه حين باعه نفسه، قد علم أنه سيعتق بملكه نفسه وهو بمنزلة رجل باع عبدا إلى سنة فأعتقه مشتريه، والبائع يعلمه فلم يعثر على ذلك حتى حلت السنة، فلم يجد عنده شيئا، فأراد رده، فليس ذلك له، وهو القياس بعينه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن البيع ينقل الملك، فإذا ملك العبد نفسه بالشراء عتق، ووجب عليه ما التزم من الثمن إلى أجله، فلا يدخل في هذه المسألة الاختلاف الحاصل بينهم فيمن قال لعبده: أنت حر على

(14/529)


أن عليك كذا وكذا نقدا، أو إلى أجل كذا وكذا حسبما نذكره إن شاء الله في رسم الصبرة، من سماع يحيى، من كتاب المكاتب، وبالله التوفيق.

[مسألة: يقول لعبده أنت حر قبل موتي بيوم أو يومين]
مسألة وسألت ابن القاسم عن الرجل يقول لعبده: أنت حر قبل موتي بيوم أو يومين، أو شهر أو شهرين أو سنة أو سنتين ما كان من الأجل، قال ابن القاسم: إن كان سيده مليئا أسلم العبد إلى السيد واختدمه حتى يموت، ثم ينظر في موته والأجل، فإذا كان الأجل في حين كان يجوز للسيد فيه القضاء في ماله كله، عتق العبد من رأس المال، ونظر إلى كراء خدمته بعد الأجل، فأعطيه من رأس مال سيده، وإن كان حل الأجل في مرض السيد، وفي حين كان لا يجوز للسيد القضاء في ماله إلا في الثلث، فإنه لا يعتق العبد إلا من الثلث، ويرده الدين ولا كراء له في خدمته، وإن كان السيد غير مليء خرج العبد ووقف خراجه، فإذا مضت السنتان أو الأجل ما كان حبس ذلك الخراج، فكلما مضى شهر بعد السنتين، أعطى خراج شهر من أول السنتين الماضيتين بقدر ما ينوب لكل شهر من الخراج، فعلى هذا يكون العمل فيها قرب الأجل أو بعد.

(14/530)


قال محمد بن رشد: اختلف في الرجل يعتق عبده إلى قبل موته بأجل سماه على أربعة أقوال؛ أحدها قول ابن القاسم هذا في هذه الرواية: أنه لا يعجل عليه عتقه بالشك، ويترك في خدمته إن كان له مال حتى يموت، فإذا مات نظر في الأجل الذي سمى، فإن كان حل والسيد مريض من مرضه الذي مات منه عتق من ثلثه؛ لأن موته كشف أن العتق وجب له في مرضه الذي مات فيه، وإن كان حل وهو صحيح عتق من رأس ماله، وأعطى من رأس ماله أيضا قيمة خدمته، فإن كان الأجل في التمثيل سنة استؤجر سنة ووقف خراجها، فكل ما مضى شهر بعد السنة، وقف خراج هذا الشهر، وأعطى السيد خراج شهر من أول السنة؛ هكذا أبدا، وتكون نفقته وكسوته من خراجه، فإن استؤجر في هذه المسألة على أن نفقته وكسوته على سيده، أسقط من إجارته نفقته وكسوته، ووقف الباقي، وإن استؤجر على أن نفقته وكسوته على المستأجر، وقفت الإجارة كلها، وذلك يخرج إلى شيء واحد؛ فإن مات العبد في حياة سيده أخذ السيد ما وقف له، حكى ذلك ابن المواز عن ابن القاسم، والذي يأتي على قياس قوله أن يبقى موقوفا حتى يموت السيد فيعلم بموته هل وجب للعبد العتق قبل موته من رأس مال سيده أم لا؟ فإن تبين أن العتق قد كان وجب له قبل أن يموت من رأس المال، كان ما وقف لورثته؛ وقال المدنيون على قياس هذه الرواية: إنه من أراد أن يستخدم لعبده طول حياته، ويكون حرا من رأس ماله بعد وفاته، فيعتقه إلى قبل السبب الذي يكون منه وفاته من أجل يسميه، وذلك لا يصح؛ إذ ليس للرجل بعد وفاته أكثر من ثلث ماله؛ والواجب إذا فعل ذلك أن يعجل عتقه باتفاق؛ لأن العتق قد حصل له بيقين، إما بقوله، وإما بموته، فلا يصح أن يمكن من اختدامه بشك؛ إذ لا يدرى لعله حر من الآن.
والقول الثاني: أنه

(14/531)


يعجل عتقه من الآن، ولا ينتظر به موت سيده، لاحتمال أن يكون لم يبق بينه وبين موته إلا مثل الأجل الذي سمي، أو أقل، فلا يسترقه بالشك، وهو أحد قولي ابن القاسم. حكى محمد بن المواز أن قوله اختلف في ذلك. والقول الثالث: أنه يكون كالمدبر يعتق بعد موته من الثلث؛ لأنه عتق لا يكشفه إلا الموت، وهو قول أشهب.
والقول الرابع: أنه لا يعتق من رأس المال، ولا من الثلث، وهو قول أشهب أيضا، حكى البرقي عنه القولين جميعا، ووجه هذا القول أنه لا يعتق عليه بالشك؛ إذ لا يدرى هل وجب له العتق بعد، أو لم يجب له إلى الأجل من رأس المال، أو من الثلث، وقد لا يكون له الثلث، وهذا القول هو أضعف الأقوال في هذه المسألة، وقول ابن القاسم في هذه الرواية أظهرها وأبينها، وأما إن قال الرجل لعبده: أنت حر قبل موتك بكذا وكذا، فيعجل عتقه على مذهب ابن القاسم، ولا عتق له على مذهب أشهب، وبالله التوفيق.

[: بايع رجلا واستحلفه بعتق غلامه ليدفعن إليه حقه إلى أجل فحنث]
ومن كتاب أوصى أن ينفق على أمهات أولاده وسمعته يقول في رجل بايع رجلا، واستحلفه بعتق غلامه ليدفعن إليه حقه إلى أجل فحنث، وليس له مال غيره؛ فأراد هذا الذي استحلفه أن يرد عتقه ولا يجيزه، لمكان ماله عليه حتى يستوفي ماله؛ قال ذلك له، ولا أرى أن يجوز عتق أحد وعليه دين، وإن كان هو الذي استحلفه، وأن بعض الناس يقولون: ليس له أن يرد عتقه، ولكن هذا رأي؛ وقال عبد الله بن وهب: ليس له أن يرد عتقه؛ لأنه أذن له في عتقه حين استحلفه، ولكن إن كان عليه دين لغيره، فقاموا به لم

(14/532)


يجز له عتق، وضرب معهم المستحلف بحقه؛ قلت فموضع يكون له فيه شيء، وموضع لا يكون له فيه شيء؟ قال: كذلك يكون الاستحسان.
قال محمد بن رشد: قد تقدم القول على هذه المسألة في أول رسم من سماع ابن القاسم، وقول ابن وهب؛ ولكن إن كان عليه دين لغيره، فقاموا به، لم يجز له عتق، وضرب معهم المستحلف بحقه، معناه إذا كان الذي لغيره يحيط برقبة العبد؛ لأنه إذا أحاط برقبته ووجب رد عتقه بذلك؛ كان البائع أحق بعبده، وإن شاء تركه، وحاص الغرماء، فيضرب معهم فيه بحقه؛ وأما إن كان الدين الذي عليه لغيره لا يحيط برقبة العبد، فيباع منه بذلك، ولا يدخل في ذلك البائع، ويعتق الباقي من العبد، هذا معنى قول ابن وهب، وبالله التوفيق.

[مسألة: عبد بين رجلين أعتق أحدهما مصابته بتلا]
مسألة وقال في عبد بين رجلين، أعتق أحدهما مصابته بتلا، وأعتق الآخر مصابته إلى أجل، أنه يقال للذي أعتق إلى أجل: إما عجلت عتقه الساعة، وإلا قوم على الأول، وكذلك لو أعتق أحدهما مصابته إلى موت إنسان سماه، وأعتق الآخر مصابته إلى موت آخر؛ سماه أن العبد يخدمهما على حاله، فإن مات فلان الذي سماه المعتق الأول أولا، أعتق نصيبه، وقيل لشريكه: أما أعتقت مصابتك الساعة، وإلا قوم على الأول؛ فإن مات فلان الذي سماه

(14/533)


المعتق الآخر أولا أعتق نصيبه فقط، ولم يقوم عليه نصيب صاحبه؛ لأنه لم يبتدئ له فسادا، من قبل أن عبدا لو كان بين رجلين فيعتق أحدهما مصابته إلى أجل قوم عليه كله، فكان عتيقا إلى ذلك الأجل، وإن لم يكن له مال يقوم عليه فيه، عتق عليه نصيبه إلى الأجل الذي سماه؛ فإن أعتق الذي له فيه الرق بعد ذلك نصيبه بتلا قبل الأجل الذي أعتق عليه الأول، لم يقوم على الثاني؛ لأنه ليس هو ابتدأ الفساد، وإنما الأول هو الذي ابتدأ فساده؛ فكذلك إذا مات فلان الذي أعتق الثاني مصابته بعد موته قبل موت الذي أعتق الأول مصابته بعد موته، لم يعتق عليه إلا مصابته، ولم يقوم عليه ما بقي؛ وموت فلان إنما هو أجل من الآجال، مثل ما وصفنا؛ قال ابن القاسم: وإن ناسا ليقولون: إذا أعتق الرجل شقصا له في عبد إلى أجل، لم يقوم عليه حظ صاحبه حتى يحل الأجل؛ ولست أقول أنا ذلك؛ لأنه ليس بمنزلة المدبر؛ لأن المدبر يتقاومانه فيفسخ التدبير، وهذا لا يفسخ؛ وأن الذي يدبر شقصا له في عبد، أن الذي له فيه الرق إن رضي أن يدفعه إلى شريكه بالقيمة؛ لزمه ذلك، ولم يترك حتى يموت، فهذا مثله.

[: أعتق كل واحد منهما إلى موت صاحبه]
ومن كتاب المكاتب والمدبر والبيوع
من سماع أصبغ قيل لابن القاسم: فلو أعتق كل واحد منهما إلى موت صاحبه، فقلت أنا: ليس هذا من هذا، ثم سألته بعد ذلك عنها إذا قال: كل

(14/534)


واحد منهما لصاحبه نصيبي حر إلى موتك، فقال: لا أدري ما هذا؟ فقلت: لا تكون فيه قيمة؟ قال: لا أرى ذلك، قلت: ويكون عليه ما جعلاه؟ قال: نعم، ثم قال لي من الغد نظرت فيها البارحة، قال أصبغ: فلا أدري ما قال، غير أني ظننت، وهو قولي: إنه يترك إلى موتهما، فإن مات أحدهما قبل صاحبه، عتق نصيب الحي مكانه، وترك نصيب الميت إلى موت الحي، ولم يقوم على الحي نصيب الميت؛ لأنه ليس هو مبتدئ الفساد، لم يزده إلا خيرا؛ وجعله بمنزلة ما لو أنه أعتق الأول إلى أجل، ثم أعتق الثاني إلى أجل دونه؛ أنه لا يقوم على الثاني عند أجله؛ لأنه لم يزده إلا خيرا حين كان أجله دون أجل المبتدئ؛ قال أصبغ: وهما من رأس المال.
قال محمد بن رشد: قوله في أول هذه المسألة في العبد بين الرجلين يعتق أحدهما نصيبه بتلا، ثم يعتق الآخر نصيبه إلى أجل، أنه يقال للذي أعتق إلى أجل: إما عجلت عتقه الساعة، وإلا قوم على الأول؛ هو مثل قوله في المدونة وروايته عن مالك، ورواية أشهب أيضا؛ والوجه في ذلك أن تقويم العبد بين الشريكين على الذي أعتق نصيبه منه، حق للشريك في إفساد حظه منه عليه، وحق للعبد في تبتيل عتق جميعه؛ فإذا ترك السيد حقه في التقويم، وأعتق حظه منه إلى أجل كان من حق العبد أن يقوم على الأول فيبتل عتقه، إلا أن يبتل الثاني عتق نصيبه، فلا يكون للعبد حجة، ولبعض الرواة في المدونة، وهو المخزومي أنه يعجل العتق على الذي أعتقه إلى أجل، ولا يقوم على الأول، وهو اختيار سحنون؛ ووجه قوله، أنه لما أعتق نصيبه إلى أجل، فقد أفاته بالعتق، ووجب له ولاؤه؛

(14/535)


فلم يجب أن يقوم على الأول لوجهين؛ أحدهما: أنه قد ترك حقه في التقويم عليه. والثاني: أنه قد فوت نصيبه بالعتق، ووجب له ولاؤه، فلا يصح أن يفسخ ذلك، وإذا لم يصح فسخه، وجب أن يعجل عتقه لحق العبد في تعجيل عتقه، وهذا القول أظهر، والله أعلم.
وأما الشريكان في العبد الذي يعتق كل واحد منهما حظه فيه إلى موت إنسان سماه، فقوله في ذلك أنه إن مات الذي أسماه المعتق الأول أولا عتق نصيبه، وقيل لشريكه: أما عتقت مصابتك الساعة، وإلا قوم على الأول؛ فهو صحيح على قياس قوله فيما تقدم.
وفي المدونة في الذي يعتق حظه من العبد تبلا، ثم يعتق شريكه حظه منه إلى أجل؛ ويأتي في ذلك على قياس قول المخزومي أن يبقى نصيبه على حاله معتقا إلى موت الذي سماه، ولا يعجل عليه عتقه؛ إذ لم يتعد فيما صنع، ولا يقوم على الأول إذ قد ثبت فيه الولاء للثاني بعتقه إلى موت الذي سماه، وأما قوله: إنه إن مات الذي سماه المعتق الآخر أولا أعتق نصيبه قط، ولا يقوم عليه نصيب صاحبه، فهو صحيح؛ لأنه بمنزلة العبد بين الرجلين يعتق أحدهما نصيبه منه إلى أجل، ثم يعتق الآخر نصيبه منه بثلاث؛ أنه يبقى على حاله نصفه حر، ونصفه معتق إلى أجل، ولا يقوم على الذي بتل حظه منه؛ لأنه لم يبتدئ فيه فسادا، ولأن الولاء قد ثبت للأول؛ وقد قال بعض أهل العلم واستحسنه ابن القاسم، ثم رجع عنه في رسم العشور، من سماع عيسى، من كتاب الخدمة أن خدمته تقوم على الذي بتل حظه منه؛ لأن الخدمة رق فيعجل عتقه، ووجه القول الذي رجع إليه، ما ذكره في الرواية من أنه رآه ظلما أن يؤخذ منه قيمة الخدمة، ويكون ولاؤه لغيره؛ ويأتي على قياس هذا القول الذي استحسنه ابن القاسم، ثم رجع عنه في مسألتنا إذا مات الذي سماه المعتق الآخر أولا، أن يعتق نصيبه

(14/536)


ويقوم عليه خدمة حظ الأول إلى موت الذي سماه على غررها، فيعجل عتق جميعه؛ وأما الذي يعتق حظه من العبد إلى أجل، ففي ذلك ثلاثة أقوال؛ أحدها: قوله في هذه الرواية، وفي المدونة، أنه يقوم عليه، ويكون حرا إلى ذلك الأجل، إلا أن يشاء أن يعتق نصيبه منه إلى ذلك الأجل على ما قاله في رسم جاع بعد هذا.
والثاني: أنه لا يقوم عليه حتى يحل الأجل، وهو قول مالك في رواية مطرف عنه على ما وقع في رسم جاع بعد هذا؛ فإن خشي عليه العدم أخذت منه القيمة، ووقفت حتى يحل الأجل على ما قاله في رسم يوصي، من سماع عيسى، من كتاب الخدمة. والثالث: أن الشريك مخير بين أن يقومه عليه الآن، وبين أن يتماسك بحظه حتى يحل الأجل، فيقومه عليه عند حلوله؛ فإن تماسك لم يكن له أن يبيعه قبل السنة إلا من شريكه، وهو قول عبد الملك؛ واختلف إن أراد أن يقومه عليه فألفاه عديما، هل له أن يقومه عليه عند الأجل إن أيسر أم لا؟ فقال ابن الماجشون: ذلك له، وقال المغيرة وسحنون: إن عدمه اليوم قاطع للتقويم عليه بعد ذلك إن أيسر؛ وقول أصبغ فيما سئل عنه ابن القاسم في رسم المكاتب من سماعه في العبد بين الرجلين يعتق كل واحد نصيبه إلى موت صاحبه، ليس هذا من هذا؛ يريد ليست هذه المسألة مما تشبه المسألة التي تقدمت في الذي أعتق كل واحد منهما حظه من العبد الذي بينهما إلى موت رجل سماه، معناه عندي أنها ليست تشبهها إذا قالا ذلك معا، أو تقدم أحدهما صاحبه بالقول، ولم يعلم الأول منهما؛ وأما إذا تقدم أحدهما صاحبه بالقول، وعرف الأول منهما فهي تشبهها؛ والجواب فيها على ما تقدم في الأولى، أن ينظر إلى الذي ابتدأ بالعتق إلى موت صاحبه، فإن مات صاحبه قبله، عتق عليه نصيبه، وقوم عليه نصيب الميت، إلا أن يشاء ورثته أن يعتقوه فذلك لهم، وإن مات قبل

(14/537)


عتق نصيب صاحبه بموته وبقي نصيبه، يخدم ورثته حتى يموت الآخر فيعتق من رأس المال، ولا يقوم نصيب المعتق أولا على الثاني؛ لأن الثاني لم يبتدئ عتقه، إنما ابتداه الأول، وهو الذي يقوم عليه نصيب صاحبه إذا مات؛ إلا أن يبت الورثة عتقه، فذلك لهم؛ وإذا لم يتقدم أحدهما صاحبه بالقول، أو تقدمه به، ولم يعلم الأول منهما؛ فالذي نص عليه ابن القاسم في هذه الرواية هنا، وقاله أصبغ أيضا تأويلا عليه، وأخذ به؛ وهو قول ابن القاسم أيضا في سماع أبي زيد، أنه لا تقويم في ذلك على الذي عتق عليه نصيبه بموت صاحبه قبله، فيعتق نصيب الحي منهما بموت الميت، ونصيب الميت على الورثة بموت الحي من رءوس أموالهما، ويرد عتق نصيب واحد منهما الدين المستحدث.
ولا تقويم في ذلك على واحد منهما إذا أعتق نصيبه بموت صاحبه؛ إذ لا يدري هل هو الذي ابتدأ الفساد أم صاحبه؟ وقول أصبغ وجعله بمنزلة ما لو أنه أعتق الأول إلى أجل، ثم أعتق الثاني إلى أجل دونه، أنه لا يقوم على الثاني؛ معناه أنه إذا لم يدر أيهما الأول، أو كان ذلك من قولهما معا، كان ذلك بمنزلة إذا أعتق الأول إلى أجل، ثم الثاني إلى أجل دونه في أنه لا تقويم في ذلك على من أعتق حظه أولا بموت صاحبه قبله، وسيأتي في رسم العتق بعد هذا إذا أعتق أحد الشريكين حظه من العبد إلى أجل، ودبر الآخر حظه منه، فنتكلم عليها إن شاء الله.

[مسألة: عبد بين ثلاثة نفر بميراث أو بشراء فقال أحدهم نصيبي حر]
مسألة وقال ابن القاسم في عبد بين ثلاثة نفر بميراث أو بشراء، فقال أحدهم: نصيبي حر، فلم يوجد له مال يقوم عليه فيه، فيعتق منه نصيبه؛ ثم قال الآخر: نصيبي ونصيب صاحبي حر إن رضي؛ فقال

(14/538)


صاحبه: قد رضيت وقد أمضيته له، فقال المعتق المشتري: قد رضيت أيضا، ثم قال: قد بدا لي، أو قال: لا أرضى؛ أنه لا يلزمه من ذلك شيء، إلا أن يقول: نصيبي ونصيب صاحبي لي بخمسين دينارا، وهو حر إن رضي، فقال صاحبه: قد رضيت؛ فذلك لازم للمشتري رضي المشتري أو لم يرض إذا كان صاحبه قد رضي، وكان قد سمى له ثمنا، وإنما ذلك بمنزلة ما لو قال: غلام فلان حر من مالي إن رضي، فقال فلان: قد رضيت، وقلت أنا: لا أرضى، أو قلت: قد رضيت، ثم بدا لي أنه لا يلزمني من ذلك شيء، إلا أن يقول غلام فلان علي بخمسين دينارا إن رضي وهو حر، فقال فلان: قد رضيت، فقلت: قد بدا لي، إن ذلك لازم له؛ وإنما هو بمنزلة من قال: غلام فلان لي بخمسين دينارا إن رضي، وليس فيه حرية، ورضي بذلك سيد العبد، فذلك يلزمه؛ فلما لزمه البيع، لزمه فيه العتق، قال عيسى: أما الذي أعتق الشريك الثاني نصيبه ونصيب صاحبه الثالث، فأرى أن يقوم عليه ويعتق عليه سمى له ثمنا أو لم يسم له؛ لأن بعض أهل العلم قد رأى أن يقوم على الثاني ولم يعتقه، فكذلك إذا أعتق نصيبه ونصيب صاحبه، فذلك الذي لا شك فيه.
قال محمد بن رشد: إنما رأى عيسى بن دينار أن يقوم عليه إذا أعتقه، وإن لم يسم له ثمنا، مراعاة لقول من رأى من أهل العلم، وهو ابن نافع من أصحاب مالك أن يقوم عليه، وإن لم يعتقه؛ فلو قال رجل في عبد بينه وبين رجل: نصيب شريكي من هذا العبد حر من مالي، لم يلزمه ذلك على مذهبه، وإن قال شريكه: أنا أرضى أن آخذ منه قيمته فيه؛ إذ ليس في هذا

(14/539)


الموضع اختلاف يراعى فيتحصل على هذا فيمن أعتق عبد غيره، فرضي صاحبه أن يأخذ منه فيه قيمته أربعة أقوال؛ أحدها: أن ذلك يلزمه، وإن كان قال: هو حر من مالي، إلا أن يقول: هو حر في مالي بكذا وكذا، فرضي صاحبه أن يمضيه له بذلك الثمن الذي سمى فيه. والرابع: الفرق بين أن يكون قال ذلك في عبد لا يجب عتقه عليه باتفاق، أو في عبد يجب أن يعتق عليه في قول قائل، وقد مضى في أول رسم، من سماع عيسى بيان هذا الاختلاف، وبالله التوفيق.

[مسألة: أعتق ثلث عبده وهو صحيح فلم يعلم به حتى مات]
مسألة قال عيسى: قال ابن القاسم: قال مالك: من أعتق ثلث عبده، وهو صحيح، فلم يعلم به حتى مات، لم يعتق إلا ذلك الثلث؛ ولو علم به وهو مريض، عتق ما بقي من الثلث؛ قال عيسى: وهو مخالف للذي يعتق ثلث عبده في مرضه بتلا، ذلك يعتق عليه كله في ثلثه، وإن لم يعلم بما صنع من عتق ثلثه إلا بعد موته.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم العتق، من سماع أشهب، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[: قال أحد غلامي حر فينظر فيهما فإذا أحدهما مدبر]
ومن كتاب أوله بع ولا نقصان عليك
وسألته عن رجل قال: أحد غلامي حر، فينظر فيهما فإذا أحدهما مدبر؛ قال: يقومان وتعرف قيمتهما، ثم يسهم بينهما، فإن

(14/540)


خرج سهم المدبر، وكانت قيمته أدنى من نصف قيمتها جميعا، عتق في المملوك بقية النصف مع قيمتهما؛ وإن أحاط المدبر بنصف قيمة جميعهما، فلا عتق للذي ليس فيه تدبير، وإن خرج سهم الذي ليس فيه تدبير، وهو نصف قيمتهما، بدئ بالمدبر فيعتق، ثم يعتق هذا إن حمله الثلث أو ما حمل منه.
قال محمد بن رشد: قوله فإن خرج سهم الذي ليس فيه تدبير، وهو نصف قيمتهما بدئ بالمدبر فيعتق، ثم يعتق هذا إن حمله الثلث، أو ما حمل منه، معناه إن حمله الثلث مع المدبر، وإن لم يحمل الثلث المدبر، ووقع عليه السهم، عتق منه ما حمل الثلث؛ وكذلك إذا وقع السهم على الآخر، ولم يحمل الثلث إلا أقل من المدبر، لم يعتق إلا ما حمل الثلث من المدبر، فالمدبر يبدأ ولا يعتق الذي ليس بمدبر كله إلا إذا وقع السهم عليه، وهو نصف قيمتهما، والثلث يحملهما، فيخرج عتق المدبر بالتدبير، ويخرج عتق الآخر بالوصية؛ لأن معنى المسألة أنه قال ذلك في مرضه الذي مات منه؛ ولو كانت قيمة العبد أكثر من نصف قيمتهما وخرج سهمه، بدئ بالمدبر، ولم يعتق من العبد إلا مقدار نصف قيمتهما، وإن كان الثلث واسعا، وسيأتي في سماع عبد الملك بن الحسن إذا قال: اقرعوا بين فلان وفلان يريد المدبر، وآخر من عبيده، وبالله التوفيق.

[مسألة: أبق غلامه فطلبه فلم يجده فأوصى إليه أني عند النخاسين]
مسألة وقال في رجل أبق غلامه، فطلبه فلم يجده، فأوصى إليه أني عند النخاسين، فإن كان لك حاجة ببيعي فهلم فبعني، وأتى سيده فوجده، فقيل له: بعه، فقال: هو حر إن بعته هذه الثلاثة الأيام؛ ثم

(14/541)


أعطاه رجل به عطاء، فقال هو لك بعد ثلاثة أيام، قال: هو حانث، والغلام حر.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه إذا أوجب له فيه البيع بعد ثلاثة أيام، فقد باعه، وهو بيع جائز لا بأس به على ما قاله في رسم للمدبر، والعتق من سماع أصبغ بعد هذا، فوجب أن يحنث بهذا العقد، وإن كان لا ينتقل الملك به إلى المبتاع إلا بعد الثلاثة الأيام؛ لأنه يحنث فيما لا شيء به لو حلف أن يبيعه اليوم، لما بر بهذا البيع، وإن كان يحنث بعقد البيع الفاسد على ما قاله بعد هذا؛ وإن كان الملك لا ينتقل به إلا أن يفوت؛ وقد قيل: إنه لا ينتقل به، وإن فات، فأحرى أن يحنث بهذا البيع الذي هو صحيح ينتقل به الملك على كل حال، وإن كان لا ينتقل به إلا بعد الأجل، وبالله التوفيق.

[مسألة: قال لعبده أنت حر إن بعتك فباعه بيعا حراما]
مسألة قال ابن القاسم: كل من قال لعبده: أنت حر إن بعتك، فباعه بيعا حراما؛ فهو حر.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في رسم المدبر والعتق من سماع أصبغ، ومثل ما حكى ابن حبيب في الواضحة؛ ويلزم ألا يحنث على قياس القول بأن البيع الفاسد لا ينتقل به الملك، ومصيبته من البائع، وإن تلف عند المبتع؛ وهو قول ابن القاسم في سماع أبي زيد من كتاب

(14/542)


جامع البيوع في بعض الروايات؛ ولو حلف أن يبيعه لما بر بالبيع الفاسد، إلا أن يفوت عند المبتاع قبل الأجل إن كانت يمينه إلى أجل؛ لأنه يحنث بما لا يبر به، وعلى القول بأن الملك لا ينتقل بالبيع الفاسد، لا يبر به على حال، وبالله التوفيق.

[مسألة: يقول جاريتي حرة إن لم أسافر سفرا أو إن لم أضربها]
مسألة
وسألت ابن القاسم عن الذي يقول: جاريتي حرة إن لم أسافر سفرا، أو إن لم أضربها، أو إن لم أضرب عبدي، أو إن لم أنحر بعيري؛ قال ابن القاسم: أنظر أبدا كل شيء حلف إن لم يفعله، ولم يضرب أجلا، فإنه لا يطأ جاريته ولا بناتها إن حدث لها بنات بعد اليمين حتى يفعله؛ ولا يبيعهم ولا يهبهم، ولا يتصدق بهم حتى يفعله؛ وإن ضرب أجلا، خير بين البنات والأم في الوطء إلى الأجل، وليس له أن يبيع واحدة منهن، ولا يتصدق بها، ولا يهب حتى الأجل، فإن بر، وإلا كانت هي وولدها أحرارا؛ وإذا حلف على شيء ألا يفعله، فإنه يطأ، ويبيع، ويتصدق؛ فإن حنث فيما حلف عليه ألا يفعله، فكانت عنده الجارية التي حلف عليها، عتقت عليه، وما كان لها من ولد بعد اليمين، فقد اختلف قول مالك فيها: مرة كان يقول: تعتق بولدها، ومرة كان يقول: تعتق بغير ولدها؛ ولكن الذي ثبت عليه من ذلك واستحسن على كره أن تعتق هي وولدها؛ قال ابن القاسم: وعلى ذلك رأيي، ولست أعيب قول من قال: لا تعتق إلا هي وحدها.

(14/543)


قال محمد بن رشد: أما الذي حلف بحرية جاريته أن يفعل فعلا، فقال: جاريتي حرة إن لم أفعل كذا وكذا؛ فإن لم يضرب أجلا، فلا يطأ، ولا يبع، ويدخل ولدها في اليمين؛ لأنه على حنث هذا هو القياس، وقد روى عن مالك أن ولدها لا يدخل في اليمين، وهو قول المغيرة المخزومي؛ وأما إن ضرب ليمينه أجلا، فيتخرج في دخول ولدها في اليمين قولان متكافئان على اختلاف قول مالك في المدونة في جواز الوطء له، مرة قال فيها: إن له أن يطأ؛ لأنه على بر مثل قوله في هذه الرواية؟ ومرة قال: إنه ليس له أن يطأ؛ إذ ليس له أن يبيع من أجل أنها مرتهنة بيمينه في البيع، وأما إذا حلف بحريتها ألا يفعل فعلا، فسواء ضرب أجلا أو لم يضرب، هو على بر؛ فالقياس ألا يدخل ولدها في اليمين، وقد اختلف قول مالك في ذلك حسبما وقع هنا، وفي رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم، وفي رسم المدبر والعتق من سماع أصبغ، وفي رسم العرية من سماع عيسى، من كتاب الوصايا، وبالله التوفيق.

[مسألة: قال كل رأس أملكه إلى ثلاثين سنة فهو حر فورث رقيقا]
مسألة قال: وسئل مالك عن رجل قال: كل رأس أملكه إلى ثلاثين سنة فهو حر، فورث رقيقا، فقال ابن كم هذا الرجل الحالف؟ قال: ليس هو بكبير، قال: فما ورثه فهو حر، ولا يعتق عليه أنصباء أصحابه، لا يعتق عليه إلا ما ورث قط، إلا أن تكون له نية في الاشتراء والصدقة أو الهبة، ولم يرد الميراث، فيدين ويحلف على ما نوى.
قال محمد بن رشد: قال في الذي حلف بحرية ما يملك من العبيد

(14/544)


إلى ثلاثين سنة، أن ذلك يلزمه إذا لم يكن كبيرا، ولم يجد في ذلك حدا، والحد فيه حد التعمير في الاختلاف من السبعين سنة إلى مائة وعشرين. وقوله: إن ادعى أنه لم يرد الميراث، فيدين ويحلف على ما نوى، يدل أنه نواه مع قيام البينة عليه؛ إذ لو لم تكن عليه بينة، وأتى مستفتيا، لصدق دون يمين؛ وإنما نواه مع البينة مراعاة للاختلاف في أصل المسألة؛ إذ قد قيل: إنه لا يلزمه حرية ما يملك لما جاء من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا طلاق قبل نكاح، ولا عتق قبل ملك» وهو قول الشافعي وجماعة من أهل العلم، وكان القياس على أصل مذهبه في إلزام العتق له ألا تقبل منه النية مع البينة؛ لأنها نية مخالفة لظاهر قوله، وإلى هذا ذهب ابن المواز، قال في الذي يقول: إن كلمت فلانا، فكل عبد ملكه من الصقالبة فهو حر؛ أن اليمين تلزمه إذا لم يقل أبدا في كل ما كان في ملكه من الصقالبة يوم حلف، وفيما استفاد منهم بعد ذلك، إلا أن يقول: أردت في المستقبل، ولا شيء عليه، إلا أن تكون عليه بينة؛ وكذلك قوله: إنه لا يعتق عليه إلا ما ورث، ولا يعتق عليه أنصباء أصحابه، هو أيضا مراعاة للاختلاف الذي ذكرته في أصل المسألة، وكان القياس إذا أعتق عليه حظه مما ورث من العبيد، أن يقوم عليه الباقي منهم، وبالله التوفيق.

[مسألة: قال كل مملوك أملكه في شهر رجب فهو حر]
مسألة قال أشهب في رجل قال: كل مملوك أملكه في شهر رجب فهو حر، فورث نصف عبد فحنث في الذي حلف عليه؛ قال: تعتق عليه حصته، ويستتم عليه عتقه؛ قلت له: كيف وإنما دخل عليه بميراث؛ قال: لأنه إنما أعتق عليه بحلفه.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف قول ابن القاسم في المسألة التي

(14/545)


قبلها؛ أنه لا يعتق عليه أنصباء أصحابه، وهو القياس على ما ذكرناه؛ وقول ابن القاسم استحسان مراعاة للخلاف، وقد قيل: إن قول أشهب ليس بخلاف لقول لابن القاسم، وأن معنى مسألة أشهب أنه حلف، فقال: إن فعلت كذا وكذا، فكل مملوك أملكه في شهر رجب حر، فورث نصف عبد، ثم فعل ما حلف عليه؛ فإنه يعتق عليه النصف، ويقوم عليه باقيه؛ والأظهر أنه خلاف لقول ابن القاسم؛ لأنه إنما اعتل لما سأله كيف يقوم عليه، وهو إنما دخل عليه بميراث، بأنه أعتق عليه بحنثه، ولم يعتل بأنه حنث في يمينه بعد أن ملك النصف، وإن كان تقويمه عليه إذا حنث بعد أن ملك نصفه أبين، فقد قال ابن كنانة في السفيه المولى عليه يحلف بحرية عبده، ثم يحنث بعد أن عاد حليما، وولي نفسه والعبد في يديه أنه يعتق عليه؛ وقاله أيضا في الصغير يحلف في حال صغره، ثم يحنث بعد بلوغه، وقد مضى الكلام على هذا في رسم العتق الثاني، من سماع أشهب، وبالله التوفيق.

[مسألة: يحلف بحرية جاريته على شيء أن يفعله إلى أجل]
مسألة وسألت ابن القاسم عن الرجل يحلف بحرية جاريته على شيء أن يفعله إلى أجل، أو إلى غير أجل، فلحقه دين بعد اليمين، هل تباع الجارية؟ قال: نعم، تباع كان إلى أجل، أو إلى غير أجل؛ كان الدين قبل اليمين، أو بعد اليمين.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن العتق لا يجب إلا بالحنث، إما بالموت إن لم تكن اليمين إلى أجل، أو بالأجل إن كانت إلى أجل، والدين سابق له، فوجب أن تباع.

(14/546)


[مسألة: قال لرجل اذهب إلى غلامي فقل له يلقاني في مكان كذا وكذا]
ومن كتاب أوله لم يدرك من صلاة
الإمام إلا الجلوس وسئل عن رجل قال لرجل: اذهب إلى غلامي فقل له يلقاني في مكان كذا وكذا، فإن لم يفعل فهو حر، فتوانى الغلام، وأبى أن يجيب؛ قال: لا حنث عليه، قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في رجل أرسل رسولا إلى غلام له إن لم يأت غدا فهو حر، قال: إن بلغه الرسول، وكان السيد إنما أرسل إليه استعجالا، فتأخر العبد عنه ليحنثه، وليخرج حرا، فلا حرية له؛ وقد قال مالك في الذي يقول لغلامه في غريمه: إن فارقته فأنت حر، ففارقه فلا حرية له؛ وقد ذكر ذلك عمر بن عبد العزيز وربيعة، وإن كان الرسول لم يبلغ العبد، فلا حرية له أيضا.
قال محمد بن رشد: أما إذا لم يبلغ الرسول العبد، فلا إشكال في أنه لا يعتق؛ وأما إذا بلغه الرسول، فاختلف قول مالك في ذلك، فكان في بدء أمره يقول بقوله في هذه الرواية: أنه لا حنث عليه، قال: وليس ذلك بمنزلة من يقول لامرأته: أنت طالق، إن خرجت إلى مكان كذا وكذا لمكان يسميه، ثم تخرج بغير إذنه، فأرى الطلاق يلزم هذا، ولا يلزم سيد العبد الحرية، وفرق بين ذلك أن الرجل يعاقب امرأته بطلاقها، ولا يعاقب عبده بالعتق، قال ابن نافع: وفرق بين ذلك أيضا، أن للرجل أن يملك امرأته في يمينه، فإن أحنثته وجب ذلك عليه، ولا يملك عبده في يمينه بأن يجعل ذلك بيده حتى يعتق نفسه، ثم رجع فقال: هو حانث، واختلف في ذلك أيضا قول ابن القاسم وأصبغ، وجاءت عن عمر بن العزيز في ذلك قضيتان، قضى أولا بعتق

(14/547)


الغلام على سيده، ثم رفع إليه آخر، فلم يعتقه على سيده، وقال: أخشى أن يكون ذلك ذريعة لتحنيث العبيد لساداتهم؛ وقال ابن الماجشون والمخزومي بقول مالك الأول: أنه لا حنث عليه، وقال معرف بقول مالك الثاني: أنه حانث، وقال أصبغ في أحد قوليه محتجا لقوله: إنه لا حنث عليه، انظر أبدا كل شيء حلف عليه سيده من أمر يأمره به، أو ينهاه عنه، ليبره في ذلك، فخالفه فحنثه ليعتق نفسه، فلا عتق له.
قال: وقد قال بعض الناس: إن الطلاق مثل ذلك سواء إذا حلف على امرأته بمثل ذلك، ولم يقله أصحابنا، ولست ممن يقوله، ويرى أنها طالق إن حنثته، وقوله في الطلاق بمنزلة التمليك، وقال أشهب في الطلاق مثل ذلك، وأنه سواء في العتق والفرقة.
والفرق بين العتق والطلاق في هذه المسائل بين بالمعنى الذي فرق به مالك بينهما، وقد رأيت لابن دحون أنه قال فيها هذه المسائل خارجة عن أصول المدونة وغيرها، والفتوى على خلافها، والحنث يلزم السيد في كل هذا إذا لم يأته العبد، بلغه الرسول أو لم يبلغه؛ لأنه قد جعل أمره في يدي غلامه ويدي رسوله، فقد سبب حنث نفسه، أو ملك أمره لغيره، فهو حانث في جميع ذلك إذا لم يأته الغلام، وليس قوله بصحيح؛ أما إذا لم يبلغه الرسول، فلا إشكال في أنه لا حنث عليه، ولا اختلاف؛ وأما إذا بلغه الرسول، أو كان هو الذي شافهه؛ فالصحيح في النظر ما قاله ابن القاسم في هذه الرواية، ورواه عن مالك من أنه لا حنث عليه؛ لأن الرجل إذا نهى عبده عن الشيء، وقال له: إن فعلت فأنت حر، فبين أنه لم يرد بذلك حريته، وإنما أراد به ضد ذلك من ترك حريته، وسواء ملكته إياه كمثل ما يقول الرجل لابنه في الشيء ينهاه عن فعله ويتوعده عليه. افعل كذا وكذا وأعطيك ألف مثقال، فمن نظر إلى معنى يمينه، قال: لا حنث عليه، وهو قول مالك الأول،

(14/548)


ومن لم ينظر إلى المعنى، واتبع ما يوجبه ظاهر لفظه ويقتضيه، قال: هو حانث؛ وإلى هذا رجع مالك، وقوله الأول أظهر؛ لأنا إنما تعبدنا بالمفهوم من معنى الكلام دون ظاهره، قال تعالى: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 15] فظاهره الأمر، والمراد به النهي والوعيد، ومن مثل هذا كثير، فكذلك مسألتنا، وبالله التوفيق.

[مسألة: قيل له في عبد من ربه قال ما له رب إلا الله]
مسألة قال عيسى: وسئل عن رجل قيل له في عبد من ربه؟ قال: ما له رب إلا الله؛ أو قيل له: أمملوك هذا العبد؟ فقال: لا، ما هو مملوك، أو قيل له: ألك هذا العبد؟ قال: ما هو لي؛ إنه لا شيء عليه في هذا كله، وهو بمنزلة ما لو قيل لرجل ألك امرأة؟ قال: ما لي امرأة، أو قيل له في امرأته أهذه امرأتك؟ فقال: ما هي امرأتي؛ أنه لا شيء عليه في هذا ونحوه، إذا لم يرد به طلاقا، قال عيسى: إذا لم يرد به طلاقا ولا عتقا، فإن عليه اليمين بالله ما أراد به طلاقا ولا عتقا.
قال محمد بن رشد: ظاهر قول مالك، لا شيء عليه في هذا كله، أنه لا يمين عليه فيه، ويدل على ذلك أيضا من مذهبه مساواته بين أن يقول في عبده: ما هو مملوك، أو ما له رب إلا الله، وبين أن يقول: ما هو لي؛ إذ لا اختلاف ولا إشكال في أنه لا يمين عليه في قوله في عبده ما هو لي؛ إذ ليس في قوله ما هو لي، إقرار به لأحد بعينه، خلاف قول عيسى بن دينار من رأيه، أنه يحلف ما أراد بذلك طلاقا ولا عتقا، ولابن القاسم في أول رسم الرهون بعد هذا مثل قول عيسى في إيجاب اليمين عليه، ومثله في المدونة في الذي

(14/549)


قال لعبد: أنت حر اليوم من هذا العمل، فاختلف في ذلك قول ابن القاسم، والاختلاف في هذا على اختلافهم في يمين التهمة؛ لأن العبد يقول: أردت بذلك عتقي، وهو يقول: لم أرد بذلك عتقك، ولو ادعى العبد أنه قد كان أعتقه قبل ذلك، واحتج عليه بقوله ما هو مملوك، للزمته اليمين قولا واحدا، بمنزلة إذا ادعى عليه العتق، وأقام على ذلك شاهدا واحدا، فإن نكل عن اليمين، فقيل: إنه يعتق عليه، وقيل: إنه يحبس حتى يحلف، إلا أن يطول سجنه فيخلى عن سبيله، وقد وقع في أول رسم، من سماع ابن القاسم، من كتاب الطلاق السنة، في قول ابن القاسم إيجاب اليمين في نحو هذه المسألة بزيادة فيها عليها، وقد مضى الكلام على ذلك هنالك، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: ولا يجوز في الرقاب الواجبة خصي]
مسألة قال: ولا يجوز في الرقاب الواجبة خصي، ولا أقطع، ولا أشل، ولا أصم، ويجوز الأعور، والأعرج الخفيف العرجة، وروى أشهب من كتاب العتق عن مالك في الخصي والأعرج يجزئان في الرقاب الواجبة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم العتق، من سماع أشهب، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[: قال إن أنا مت في هذا البيت فجاريتي حرة]
ومن كتاب سلف دينارا في ثوب إلى أجل وسئل مالك عن رجل نزل فندقا، فكان في بيت منه فمرض،

(14/550)


فقال: إن أنا مت في هذا البيت، فجاريتي حرة؛ فصح من مرضه ذلك، وخرج من ذلك الفندق، ثم رجع إلى ذلك البلد، فنزل في ذلك البيت، فمرض فمات فيه؛ أتعتق جاريته؟ فقال: أرى أن تعتق، إلا أن تكون تعرف أنه إنما أراد في مرضه ذلك الأول.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال على أصولهم في أن الحالف لم تكن له نية تحمل يمينه على ما يقتضيه لفظه، إذا لم يكن له بساط يدل على خلاف لفظه، وبالله التوفيق.

[مسألة: زوج أمته عبده ثم قال لها إن لم أبعك إلى سنة فأنت حرة]
مسألة وسئل عن رجل زوج أمته عبده، ثم قال لها: إن لم أبعك إلى سنة، فأنت حرة، وما أشبه ذلك. قالت: اشهدوا أنه إن لم يفعل وجاءني العتق فقد اخترت نفسي، قال: ليس ذلك لها، وفرق بينها وبين الحرة التي يقول لها: إن تزوجت عليك فأمرك بيدك، فتقول: اشهدوا أنه إن فعل هذا، فقد اخترت نفسي، فهذه الحرة إن تزوج عليها فهي طالق، وفرق بينها وبين الأمة ولم يرها مثلها.
قال محمد بن رشد: الفرق بين الحرة والأمة أن الخيار للأمة إذا أعتقت تحت العبد لمن يجعله الزوج لها، وإنما وجب لها بالسنة إذا عتقت وزوجها عبد، فليس لها أن تختار نفسها قبل أن يجب ذلك لها، وقد لا يجب لها؛ إذ قد يعتق زوجها قبل أن تعتق هي، وأما الحرة فالزوج جعل الخيار لها بشرط تزوجه عليها، فكان لها أن تقضي بما جعل لها، وقد روى أصبغ عن أشهب في رسم النكاح من سماعه، من كتاب النكاح، أن ذلك ليس

(14/551)


لها، وطلاقها قبل أن يتزوج عليها باطل، وهو القياس على مسألة الأمة هذه، وعلى قولهم في أن أخذ الشفيع بالشفعة قبل وجوبها له باطل، وبالله التوفيق.

[مسألة: قال لعبده أنت حر إن بعتك إلا ممن يجيزك البحر]
مسألة وقال في رجل قال لعبده: أنت حر إن بعتك إلا ممن يجيزك البحر، وأنه باعه من رجل وحلف له بحريته أن يجيزه البحر، ثم باعه الذي اشتراه منه، أوبق منه قبل أن يجيزه على من يعتق، قال ابن القاسم: أرى أن يعتق على الأول إن لم يجزه الذي باعه البحر يعني البائع الثاني، وذلك أن مالكا سئل عن عبد حلف سيده، وقال: أنت حر إن بعتك من فلان، وقال المحلوف عليه: هو حر إن ابتعته، فباعه منه على من يعتق، قال على البائع، وروى أصبغ مثله، وقال: لو كانت يمينه ألا أبيعك إلا ممن يحلف أن يجيزك البحر، لم يكن فيه شيء، وكان على المشتري أن يجيزه، وكان على البائع القيام عليه بذلك إذا تعدى وتركه حتى يجيزه؛ وروى محمد بن خالد قال: سألت ابن القاسم عن الرجل يبيع الجارية من الرجل على أن يجيزها البحر، وقد كان حلف بحريتها ليبيعنها ممن يجيزها البحر، وهو رجل أندلسي، فباعها من رجل بذلك الشرط، واجتهد في ذلك، فوطئها المشتري فحملت منه أو أعتقها؛ فقال لابن القاسم: إذا فاتت بحمل أو عتق، سلك بها مسلك التي تباع على أن تتخذ أم ولد، قلت لابن القاسم: ولا يكون على الذي حلف شيء؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: اختلف في الحالف أن يفعل فعلا هل يحمل على التعجيل حتى يريد التأخير، أو على التأخير حتى يريد التعجيل حسبما

(14/552)


مضى القول فيه في رسم كتب عليه ذكر حق، من سماع ابن القاسم؛ فقول ابن القاسم في رواية عيسى عنه في هذه المسألة في الذي يحلف بحرية عبده ألا يبيعه إلا ممن يجيزه البحر، فباعه واستحلف المشتري بحريته أن يجيزه البحر، فلم يفعل حتى باعه أوبق منه؛ أنه يعتق على الأول إن لم يجزه المشتري حتى باعه أوبق منه، هو على قياس القول بأن يمينه محمولة على التعجيل؛ لأنه رآهما جميعا البائع والمشتري حانثين بتأخير إجازته البحر، فلما استويا في الحنث، كان البائع منهما هو أحق أن يعتق عليه؛ لأنه مرتهن بيمينه، قياسا على ما قاله مالك في الذي يحلف بحرية عبده ألا يبيعه من رجل، ويحلف ذلك الرجل بحريته إن اشتراه منه، والذي يأتي في هذه المسألة على قياس القول بأن اليمين محمولة على التأخير حتى يريد التعجيل، ألا يقع الحنث عليهما إلا بموت المشتري والعبد بيده، فإن باعه رد البيع فيه ووقف بيده، فإن لم يبر فيه بإجازته البحر حتى مات، حنثا جميعا، وعتق على البائع، ورد الثمن للمشتري، ولا يبر الحالف أن يبيع عبده ممن يجيزه البحر على رواية عيسى هذه إلا بإجازة المشتري إياه، لا بأن يبيعه بشرط ممن يجيزه البحر، ولا بأن يبيعه بغير شرط، ويستحلف المشتري أن يجيزه، إلا أن ينوي ذلك على ما قاله في رسم المدبر والعتق من سماع أصبغ، وظاهر رواية محمد بن خالد هذه عن ابن القاسم، بل هو نص قوله في آخر المسألة أنه يبر ببيعه على أن يجيزه بشرط؛ لأنه الظاهر من مقصد الحالف، فقد قيل: إن يمين الحالف إذا لم تكن له نية يحلف على ما يظهر من مقصده، وقد اختلف إن باعه على هذا من الشرط على أربعة أقوال؛ أحدها: أنه بيع جائز، وهو قول ابن وهب في الدمياطية. والثاني: أنه بيع فاسد يفسخ على كل حال، فإن فات بما يفوت به البيع الفاسد، كانت فيه القيمة بالغة ما بلغت. والثالث: أنه يفسخ إلا أن يشاء البائع أن يترك الشرط، فإن لم يعثر على ذلك حتى فات، كان فيه

(14/553)


الأكثر من القيمة أو الثمن؛ وقيل: يرجع البائع على المبتاع بقدر ما نقص من الثمن بسبب الشرط، وهو القول الرابع؛ والذي يأتي في هذه المسألة إذا فاتت الجارية عند المشتري بحمل أو عتق على القول بأن البائع الحالف لا يبر ببيعها على الشرط، وإنما يبر بأن يجيزها المشتري على ظاهر ما لفظ به في يمينه، وهو مذهبه في رواية عيسى هذه عنه، ونص قوله في رسم المدبر والعتق من سماع أصبغ على ما ذكرناه أن يرد على البائع ويعتق عليه ويرد الثمن على المشتري إن كانت فاتت بعتق، فإن كانت فاتت بإيلاء، كان على المشتري قيمة الولد، وقاصه بذلك من الثمن، فكانت قيمته أقل من الثمن، ورجع عليه ببقية الثمن، وإن كانت قيمة الولد أكثر، لم يرجع عليه البائع بشيء على ما قاله في رسم العتق بعد هذا السماع، وبالله التوفيق.

[مسألة: استأذنته امرأته في عتق جارية لها مرارا]
مسألة وسئل مالك عن رجل استأذنته امرأته في عتق جارية لها مرارا، وأكثرت عليه وكل ذلك يأبى، فلما رأت ذلك، دعت شهودا في السر، فأشهدتهم على عتقها، وأمرتهم بكتمان ذلك، ثم دخل عليها زوجها فاستأذنته في عتقها، فقال: أكثرت علي، إن أعتقتها فأنت طالق البتة، قال مالك: لا شيء عليه، إلا أن يكون أراد بذلك، إن كنت أعتقتها فأنت طالق البتة.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه لا شيء عليه؛ لأنه إنما حلف ألا تفعل ما لا يمكنها أن تفعله؛ إذ قد كانت فعلته؛ ومثله في رسم العرية، من سماع عيسى، من كتاب النذور، ولو قال لها: إن أعتقتها فأنت طالق البتة، وهو عالم بأنها قد كانت أعتقتها؛ لكان ذلك بمنزلة الذي يحلف ألا يبيع

(14/554)


السلعة بعد أن باعها؛ وقد مضى الكلام على ذلك مستوفى في سماع سحنون، ونوازل أصبغ من كتاب الأيمان بالطلاق، ومضى في رسم العتق، من سماع أشهب، من هذا الكتاب الكلام في الذي يحلف ألا يكري رجلا أرضا له فوجد وكيلا له، قد أكراها ذلك الرجل، وبيان ما فيها من الإشكال، فلا وجه لإعادته.

[: دفع إليه سيده مائة شاة وقال اعمل فيها حتى تصير ثلاثمائة وأنت حر]
ومن كتاب أوله إن خرجت من هذه الدار وسئل ابن القاسم عن عبد دفع إليه سيده مائة شاة، وقال: اعمل فيها حتى تصير ثلاثمائة، وأنت حر، فمات السيد فأراد الورثة أخذ الغنم منه، وقال العبد: لا أدفعها لكم؛ قال: إن رضوا أن يعتقوه ويأخذوها منه فذلك لهم، وإلا كانت في يديه حتى يعلم أنه لا يكون فيما بقي منها ثلاثمائة شاة.
قال محمد بن رشد: قوله: إن ذلك يلزم الورثة، وليس لهم أن يأخذوا الغنم منه إلا أن يعتقوه، يدل على أنه أجاز ذلك على وجه الكتابة، يريد ويضرب له في ذلك أجل، كمن كاتب عبده على عدد يسميه، ولم يضرب له أجلا. وقوله: إن لم يرض الورثة بعتقه، أن الغنم تكون في يديه حتى يعلم أنه لا يكون فيما بقي منها ثلاثمائة، معناه إلى الأجل الذي ضرب له في ذلك، وهذا هو مذهب أصبغ، وقوله في أول رسم من سماعه، من كتاب المكاتب أنه يجبر على ذلك إذا وقع، ويراها كتابة لازمة على سنة الكتابة، تلزم الورثة ولا يردها الدين المستحدث؛ غير أنه يكره ذلك ابتداء، لما فيه من الغرر، على ما قاله في رسم أول عبد ابتاعه، فهو

(14/555)


حر، من سماع يحيى، من كتاب المكاتب؛ وذلك خلاف قول ابن القاسم، في سماع يحيى، من كتاب المكاتب. وفي أول سماع أصبغ منه أن ذلك ليس بكتابة، وإنما هو بمنزلة من أعتق عبده إلى أجل مجهول، قد يكون وقد لا يكون، فلا يلزم الورثة ويرده الدين المستحدث، وسيأتي الكلام على ذلك في موضعه من كتاب المكاتب، إن شاء الله.

[مسألة: حلف ألا يكلم فلانا أبدا ولا يدخل دار فلان أبدا بحرية رقيقه]
مسألة قال ابن القاسم: لو أن رجلا حلف ألا يكلم فلانا أبدا، ولا يدخل دار فلان أبدا بحرية رقيقه، فحنث فرد الغرماء عتقه فبيعوا، ثم اشتراهم بعد ذلك، أو تصدق بهم عليه، أو وهبوا له؛ أن اليمين ترجع عليه إذا رجعوا في ملكه بوجه من الوجوه غير الميراث؛ فإن كلم فلانا، أو دخل دار فلان، عتقوا عليه، ولزمه الحنث؛ ولو كان أعتقهم عتقا بتلا في غير يمين، فرد الغرماء عتقه وباعوهم واقتضوا دينهم، ثم اشتراهم بعد ذلك؛ لم يلزمه عتقهم، وكانوا مماليكه.
قال محمد بن رشد: إنما قال في الذي يحلف بعتق رقيقه ألا يفعل فعلا فحنث، فرد العتق فأعتقهم فبيعوا، ثم اشتراهم بعد ذلك، أو تصدق بهم عليه، أو وهبوا له؛ أن اليمين ترجع عليه إذا رجعوا في ملكه بوجه من وجوه الملك غير الميراث، ومن قولهم: إن من حلف ألا يفعل فعلا، ففعله مرة فحنث، أنه لا يحنث بفعله مرة أخرى؛ لأن العتق لما رد فبيع في الدين، كان كأن لم يحنث؛ إذ لم يلزمه بالحنث عتق على ما قالوا فيمن حلف

(14/556)


بعتق عبد ألا يفعل فعلا، فباع العبد ثم فعل ذلك الفعل، ثم اشتراه ففعله ثانية، أن العتق يلزمه؛ إذ لم يلزمه بالفعل الأول، والعبد في غير ملكه شيء، وقد وقع في رسم يدير ماله، من سماع عيسى، من كتاب النذور ما ظاهره خلاف هذا، أن اليمين لا ترجع عليه إن اشتراه، إلا أنه محتمل للتأويل على ما ذكرناه هناك؛ وإن حمل على ظاهره، فالوجه في ذلك أنه لما حنث بعتقهم مرة، وجب أن يعتبر بحنثه؛ وإن كان قد رد العتق في الدين، فلا يحنث فيهم ثانية إن اشتراهم؛ إذ لا يحنث في اليمين الواحدة مرتين، فلكلا القولين وجه؛ وأما الذي أعتق عبيده بغير يمين، أو بيمين على فعل لا يتكرر، فرد عتقهم في الدين، فلا اختلاف في أنه لا شيء عليه إن اشتراهم، وبالله التوفيق.

[مسألة: قال لامرأته كل أمة أتسراها فهي حرة]
مسألة وسئل عن رجل قال لامرأته: كل أمة أتسراها فهي حرة، فاشترى خادما تخدمه فوطئها؛ فقال: هي حرة، وابن كنانة يقول في مثل هذا لا تكون حرة إلا أن تحمل.
قال محمد بن رشد: التسري عند ابن القاسم الوطء المجرد، فلذلك رآها حرة بوطئه إياها، وإن كان إنما اشتراها للخدمة، ولم يرد حبسها، وذلك بين من مذهبه بما قال في سماع أبي زيد من كتاب الأيمان بالطلاق، من أنه يبر بذلك إذا حلف أن يتسرى على امرأته؛ وذهب ابن كنانة إلى أن تسري الجارية إنما هو الوطء لها مع استصحاب النية في اتخاذها

(14/557)


لذلك؛ ولذلك رأى إذا اشتراها للخدمة، أنها لا تكون حرة بوطئه إياها إلا أن تحمل؛ لأنها إذا حملت لم يكن له فيها إلا الاستمتاع بوطئها، فتعتق علية؛ إذ لا يصح له ذلك فيها من أجل يمينه عليه بحريتها، وبالله التوفيق.

[مسألة: حلف بعتق ما يملك ألا يقع بينه وبين أخيه معاملة أبدا]
مسألة وسئل عن رجل حلف بعتق ما يملك ألا يقع بينه وبين أخيه معاملة أبدا، وكان اشترى منه شيئا فجحده، ثم طال به الزمان، فاستودعه الحالف مالا وهب له عشرة دنانير وأسلفه عشرة، قال: هو حانث بما أسلفه واستودعه؛ لأن هذا معاملة؛ إلا أن تكون له نية حين حلف على بيع الدين خاصة، وذلك الذي نوى وحلف عليه فيدين.
قال محمد بن رشد: السلف والاستيداع ليس بمعاملة على الحقيقة، إلا أن فيه من معنى المعاملة ما دل عليه بساط يمينه أنه أراده، وحلف عليه، وهو جحود ما كان له عليه؛ ولذلك قال: إنه حانث بما أسلفه واستودعه، فجوابه صحيح على القول بمراعاة البساط في الأيمان إذا عدمت النية فيها. وهو المشهور في المذهب؛ وأما على القول بأنه لا يراعي البساط في الأيمان، وإنما ينظر فيها إلى مقتضى اللفظ، فلا يحنث بالسلف ولا بالإيداع، ولو باعه بالنقد، ولم يعامله بالدين، فحنث على القول بأنه لا يراعي البساط في الأيمان، وإنما ينظر فيها إلى اللفظ، ولو عامله بالدين، لحنث على القولين جميعا، فهذا تحصيل القول في هذه المسألة، وبالله التوفيق.

(14/558)


[مسألة: قال في غلامه إن باعه فهو حر فباعه على أنه بالخيار]
مسألة وقال في رجل: قال في غلامه: إن باعه فهو حر، فباعه على أنه بالخيار؛ فقال: لا يلحقه الحنث حتى يقطع الخيار.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن بيع الخيار لا يجب إلا بعد إمضاء ممن له الخيار فيه، فإذا كان الخيار للبائع الحالف لم يحنث إن رد سلعته، وأما إن أمضاها ولم يكن ليمينه أجل، فيحنث بكل حال كما قال؛ ولو كانت يمينه إلى أجل فأمضى البيع فيها بعد الأجل، لحنث على القول بأن بيع الخيار إذا أمضى، فكأنه لم يزل ماضيا لمشتريه من يوم العقد، ولم يحنث على القول بأنه إنما وجب الشراء له يوم أمضى البيع؛ ولو كان الخيار لغير الحالف من البائع أو المشتري؛ لحنث الحالف باتفاق، وبالله التوفيق.

[مسألة: أذن الرجل لعبد له نصفه حر بعتق]
مسألة وقال: إذا أذن الرجل لعبد له نصفه حر بعتق، فولاء ما أعتقه العبد للعبد إذا أذن، وكذلك كل من لا يجوز لك أخذ ماله إذا أذنت له بعتق، ولاء ما أعتق له إذا أعتق.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة
قد مضت، والكلام عليها مستوفى في رسم مضى، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: أمة كانت بين شريكين فوطئها أحدهما فحملت]
مسألة وسئل عن أمة كانت بين شريكين فوطئها أحدهما فحملت، فقال الذي لم يطأ: قد كنت أعتقتها منذ سنة؛ قال: إن كان الواطئ مليئا بقيمتها لم يقبل قوله؛ لأنه إنما أراد أن يفسدها عليه، وتقوم على الواطئ، وإن كان الواطئ معدما، جاز العتق على الذي قال: كنت أعتقتها منذ سنة، وعتق أيضا نصيب الواطئ؛ لأنه إنما كان له فيها

(14/559)


الاستمتاع، فقد قطع بعتق شريكه؛ لأنه من وطئ أمة جزء منها حروسا له فحملت، أعتقت كلها؛ لأنه لا استمتاع له فيها، وليس له أن يطأ أمة نصفها حر ونصفها رقيق.
قال محمد بن رشد: قوله: إن كان الواطئ مليئا بقيمتها، يريد بنصف قيمتها؛ لأن ذلك هو الذي يلزمه غرمه، وإذا قومت عليه على ما قال، فالحكم في ذلك أن تكون نصف القيمة موقوفة لا يأخذها الشريك، إلا أن يكذب نفسه فيما كان ادعاه من أنه كان أعتقها منذ سنة، وإن رجع الواطئ إلى تصديقه فيما ادعاه من أنه كان أعتقها منذ سنة قبل أن يكذب هو نفسه، رجعت إليه القيمة الموقوفة، وأعتق نصيبه في الأمة؛ إذ لا يستطيع أن يطأها، ونصفها أم ولد، ونصفها حر، وأما قوله: وإن كان الواطئ معدما، جاز العتق على الذي قال قد كنت أعتقتها وعتق نصف الواطئ؛ فهو صحيح على أحد قولي مالك في المدونة، وهو القول الذي رجع إليه في أن الأمة بين الشريكين إذا وطئها أحدهما فحملت، ولا مال له يباع نصفها للذي لم يطأ، فيدفع إليه وإن كان في ذلك نقصان عن نصف قيمتها يوم حملت، اتبعه بذلك وبنصف قيمة الولد؛ إذ لا يصح أن يباع له نصفها فيعطاه، وهو يقول: إنه حر قد كان أعتقه منذ سنة، وأما على القول بأنه يتبع بنصف قيمتها، وتكون له أم ولد، ولا يكون عليه من قيمة الولد شيء، فلا يعتق عليه نصيبه في الأمة، وتكون له أم ولد، ويتبعه الشريك بنصف قيمتها يوم حملت إن أكذب نفسه فيما ادعاه من عتقها، وإن رجع هو إلى تصديقه قبل أن يكذب هو نفسه، أعتق عليه نصيبه في الأمة، وسقطت القيمة عن ذمته؛

(14/560)


ورأيت لابن دحون أنه قال في هذه المسألة، ولا تقوم على الواطئ في ولده؛ لأن الأمة حملت وهي حرة من ملك الذي لم يطأ؛ قال: وولاء الولد بينهما إن ثبت العتق الأول ببينة؛ فأما قوله: إنه لا تقوم على الواطئ في ولده فهو صحيح، وأما تعليله لذلك بأن الأمة حملت وهي حرة من ملك الذي لم يطأ، فليس بصحيح؛ إذ لو حملت وهو لم يعتق نصيبه، لما كان له في الولد قيمة، وإنما كان يجب على الواطئ أن تقوم عليه يوم وطئها دون أن يكون عليه شيء في ولدها؛ وأما قوله: إن ولاء الولد بينهما إن ثبت العتق للأول ببينة فهو غلط ظاهر؛ إذ لا يكون الولاء له إلا لو ملكه ملكا صحيحا، وبالله التوفيق.

[: قال الرجل لامرأته كل جارية أتخذها أم ولد فأمرها بيدك]
ومن كتاب أسلم وله بنون صغار وقال مالك: إذا قال الرجل لامرأته: كل جارية أتخذها أم ولد فأمرها بيدك، فاشترى جارية فأراد أن يمسها في كل طهر مرة.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه إذا وطئها لا يدري لعلها قد حملت ووجب الخيار في عتقها لامرأته، ولا يصح له أن يطأ ما لغيره الخيار في عتقها؛ ويأتي على قول أشهب في الذي يقول لجاريته: إذا حملت فأنت حرة؛ أن له أن يطأ ويعاود أبدا حتى يتبين الحمل، من أجل أن الشك عنده لا يؤثر في اليقين؛ إذ يكون لهذا الرجل أن يطأ أبدا حتى يتبين بها حمل، فيكون أمرها بيد امرأته، وبالله التوفيق.

(14/561)


[مسألة: حلفت بحرية مالها إن تزوجت فلانا ثم تزوجته ورقيقها أكثر من ثلثها]
مسألة وسئل عن امرأة حلفت بحرية مالها إن تزوجت فلانا، ثم تزوجته ورقيقها أكثر من ثلثها؛ فلما وجبت عقدة النكاح أنكر عليها زوجها، وقال: إنا ننكر عليك؛ لأن رقيقك أكثر من ثلث مالك، هل تحنث في يمينها، أم لأنها إنما وقع عليها الحنث ولها زوج؟ قال ابن القاسم: إن كان زوجها لم يعلم بيمينها حتى تزوجها، فله أن ينكر عليها، وإن كان علم بيمينها فتقدم على ذلك، جاز ذلك عليها، ولم يكن له أن ينكر ذلك عليها، وهو بمنزلة ما لو أذن لها.
قال محمد بن رشد: قد قيل: إن لزوجها أن ينكر عليها ويرد عتقها، وإن علم بيمينها، وهو قول أصبغ في نوازله من كتاب الولاء، قال: وهو قول أهل العلم، وفي كتاب ابن المواز أنه ليس له أن يرد ذلك، وإن لم يعلم بيمينها؛ قال ابن المواز: لأن عقد نكاحها لم يكن قبل حنثها؛ وإنما وقع هذا الاختلاف؛ لأن الحنث والنكاح وقعا معا ممن غلب وقوع النكاح قبل الحنث والزوج رد ذلك، ومن غلب وقوع الحنث قبل النكاح، لم ير للزوج رده، فتفرقة ابن القاسم في هذه الرواية بين أن يكون الزوج علم بيمينها، أو لم يعلم جيدة؛ لأنها لا تخرج عن أحد القولين؛ وأما إذا كان الحنث بعد النكاح، فللزوج أن يرده، وإن كانت اليمين قبل النكاح؛ بدليل قول ابن المواز: إن عقد نكاحها لم يقع قبل حنثها، وقد وقع لابن أبي حازم وابن كنانة في المدونة من قولهما ما يدل أنه ليس للزوج أن يرد يمينها بأكثر من ثلث مالها، وإن حنثت به بعد النكاح إذا كان حلفها به قبل النكاح، وبالله التوفيق.

(14/562)


[مسألة: قالت لابنها قد أحللت لك جاريتي هذه والغلام له امرأة]
مسألة وعن امرأة من أهل البادية قالت لابنها: قد أحللت لك جاريتي هذه، والغلام له امرأة، وهو ساكن مع امرأته، والجارية عند الأم، فأعتقت الأم الجارية فتعلق بها ابنها، وقال: قد كنت أحللتها لي، قالت: إنما هو كلام قلته، والجارية عندي منذ سنة لم تحزها ولم أدفعها إليك؛ قال: إن كان الابن وطئها فلا عتق لها فيها، وإن كان لم يطأها ولم يحز شيئا، فعتقها جائز؛ وإن كان قد حاز أو وطئ، فلا عتق لها؛ لأنه ضمنها، ولزمته قيمتها، وأنه إذا لم تمكنه منها ولم يقبضها، وإن أحللتها له، فضمانها منها إذا هلكت؛ قال عيسى عتقها جائز إلا أن تحمل.
قال محمد بن رشد: قوله: وإن كان قد حاز أو وطئ، فلا عتق لها؛ لأنه قد ضمنها ولزمته قيمتها إلى آخر قوله، معناه إذا حازها وغاب عليها، فرأى القيمة لازمة له بالغيبة عليها، وإن لم يطأها؛ لأنه لا يصدق إذا غاب عليها في أنه لم يطأ؛ هذا معنى الرواية عندي؛ إذ لو قبضها ولم يغب عليها لما لزمته قيمتها، ولكان ضامنا لها، ولجاز عتق أمه لها، وقد رأيت لابن دحون أنه قال في هذه المسألة ذكره للحوز فيها ليس بجيد؛ لأنه لو حازها ولم يطأ فماتت، لم تلزمه قيمتها؛ وإنما تلزمه القيمة بالوطء، فالحوز بغير وطء لا ينفعه، وعتق السيدة ماض فيها على كل حال حتى يطأ؛ فإذا وطئ، لزمته القيمة، وصارت في ملكه؛ فلا عتق حينئذ للأم فيها؛ هذا نص قوله، والمعنى في الرواية إنما هو ما قلته، وقال ابن كنانة في امرأة أحلت لزوجها فرج جاريتها، قال: إن حملت قومت عليه، وإن لم يكن له مال، كان

(14/563)


دينا عليه يتبع به؛ قال: وإن لم تحمل ردت عليها؛ ظاهره مليا كان أو معدما، وهو بعيد؛ ومعناه عندي إن لم يكن له مال، ولم يكن في ثمنها وفاء بقيمتها يوم وطئها؛ والصواب ما في المدونة أنه إن لم يكن له مال بيعت فيما لزمه من قيمتها، فإن لم يكن في ثمنها وفاء بقيمتها يوم وطئها، اتبع بالباقي دينا ثابتا في ذمته؛ قال عيسى بن دينار: قال ابن القاسم: قال مالك: تقوم عليه حملت أو لم تحمل، يريد فإن كان عديما ولم تحمل، بيعت فيما لزمه من قيمتها على ما قاله في المدونة؛ واختار عيسى قول ابن كنانة، واختار ابن نافع قول مالك، وهو الصواب عندي؛ لأنه إذا ردت إليها بعد أن وطئ لعدمه، آل ذلك إلى عارية الفروج؛ إذ قد تحلها له، وهو عديم فتأخذها منه بعد أن وطئها، فيتم لهما ما عملا عليه من عارية فرجها، وبالله التوفيق.

[مسألة: حلف بالحرية فحنث ولعبيده عبيد]
مسألة قال: وقال مالك: لو أن رجلا حلف بالحرية فحنث، ولعبيده عبيد، وقع الحنث عليه في عبيده، ولم يقع عليه في عبيد عبيده؛ ولو أنه حلف بطلاق امرأته أنه ما يملك عبدا، ولجاريته عبد؛ أن الحنث يلزمه.
قال محمد بن رشد: الفرق بين المسألتين أن الحنث يدخل بأقل الوجوه، فوجب أن يحنث الحالف ما يملك عبدا إذا كان لجاريته عبد؛ لأنه يملك انتزاعه منها؛ ويجري هذا على الاختلاف في الذي يحلف ألا يركب دابة رجل، فركب دابة عبده؛ وأما الذي يحلف بحرية عبيده ولعبيده عبيد فيحنث، فلا يعتق عليه عبيد عبيده؛ لأنهم ليسوا بملك له حتى ينتزعهم، وإن كان يملك انتزاعهم، وبالله التوفيق.

(14/564)


[مسألة: يقول لجاريته إذا حملت فأنت حرة]
مسألة وسئل عن الرجل يقول لجاريته: إذا حملت فأنت حرة، فقال: يطؤها في كل طهر مرة، فقيل له: ولم لا يطؤها أبدا حتى يتبين حملها، ولا يدري أتحمل أم لا؟ فقال: قال لي مالك: جل النساء على الحمل، فإذا كان الشيء غالبا على الناس حتى لا يشذ من ذلك إلا القليل، حمل الناس في ذلك الأمر على الذي يصيب جل الناس، ولم ينظر إلى الشيء الشاذ.
قال محمد بن رشد: ظاهر قوله يطؤها في كل طهر مرة، أنه لا يلزمه شيء إن كانت حاملا يوم قال ذلك لها، أو كان قد وطئها في ذلك الطهر، وأنه لا يلزمه شيء إلا في حمل مؤتنف، وهو مذهب سحنون فيها، حكى عنه ابن عبدوس أنه لا يلزمه شيء إذا قال إذا حملت، إلا في حمل مؤتنف، وذلك خلاف مذهبه في المدونة؛ وفي سماع سحنون بعد هذا، ومن هذا الكتاب، والذي يأتي على مذهبه في المدونة، وهو قوله في سماع سحنون أنه إذا كانت حاملا يوم قال ذلك لها، أعتقت عليه؛ لأنها حامل أبدا فيما بقي من حملها؛ وإذا كان قد وطئها في ذلك الطهر قبل أن يقول ذلك لها، وقف عنها ووقف خراجها حتى يعلم إن كانت حاملا أم لا؟ وإن كان لم يطأها فيه، فلا شيء عليه حتى يطأها؛ فإذا وطئها فيه، وقف عنها، ووقف خراجها؛ فإن تبين بها حمل، أعتقت ودفع إليها ما وقف من خراجها؛ وإن حاضت ولم يكن بها حمل، كان له أن يبيعها إن شاء، فإن لم يبعها حتى وطئها في الطهر الذي بعده، وقف عنها أيضا ووقف خراجها حتى يعلم إن كان بها حمل أم لا؛ هكذا يفعل أبدا في كل طهر يطؤها فيه، وأشهب

(14/565)


يرى أن له أن يطأها أبدا، ولا يمنع من شيء مما أحله الله له منها حتى يتبين حملها؛ وكذلك يختلف على هذا في الذي يقول لزوجته: إذا حملت أو إن كنت حاملا، فأنت طالق؛ فقوله في المدونة أنه إن كان وطئها في ذلك الطهر طلقت عليه بالشك، ولا يستأنى بها حتى يعلم أكانت حاملا أم لا؟ وقال سحنون وأشهب: إنه يستأنى بها ولا يعجل عليه الطلاق حتى يعلم أنها حامل؛ فإن مات، ورثته إن لم تكن حاملا؛ وإن ماتت هي قبل أن يتبين أمرها، لم يرثها بالشك، ويأتي على مذهب أشهب أن له أن يطأها في مدة الاستيناء بها، وسحنون يقول: إنه إذا قال لها: إذا حملت فأنت طالق، أنه لا يلزمه طلاقها إلا في حمل مستأنف، وهو ظاهر هذه الرواية على ما ذكرناه، وبالله التوفيق.

[مسألة: حلف بحرية ماله ألا يحدث في رقيقه بيعا ولا صدقة إلا بإذنه]
مسألة وسئل عن رجل حلف بحرية ماله ألا يحدث في رقيقه بيعا ولا صدقة إلا بإذنه، وأنه سأل ابنه عتق رأس من رقيقه، فأذن له الابن بعتق ذلك الرأس، فأعتقه الأب وقال الأب للشهود: أشهدكم يا هؤلاء، أن كل ما أعتق ابني وما أحدث في رقيقي فأمره جائز، والابن سفيه، فخرج الابن من عند أبيه، فباع من رقيق أبيه عشرة أرؤس بأربعمائة دينار وأربعين دينارا، واقتضى الثمن، أفترى ما صنع جائزا؟
قال ابن القاسم: البيع جائز على الأب، على ما أحب أو كره، إلا أن يكون بيعا لا يشبه أن يباع مثلهم به، يعرف أنه قد ترك من أثمانهم محاباة لمن باعهم، وإن كان الابن سفيها، وإنما ذلك بمنزلة رجل وكل وكيلا ببيع رقيقه، فبيعه جائز، إلا ما حابى أو داهن؛ فالسفيه وغير السفيه إذا رضي ببيعه ووكله سواء فيما يجوز

(14/566)


لهما، ويرد عليهما وبيعهما جائز، إلا أن يأتي في ذلك بيع محاباة ببينة، لا يتبايع الناس بمثله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة لا إشكال فيها ولا اختلاف؛ لأن للرجل أن يوكل على نفسه في حياته من رضي توكيله إياه من رشيد أو سفيه، فيلزمه من فعل السفيه ما يلزمه من فعل الرشيد؛ والتوكيل في الحياة بخلاف الوصية بعد الوفاة، ليس له أن يوصي بمال ولده إلى غير عدل، ولا إلى سفيه، ولو أوصى بتنفيذ ثلثه إلى سفيه، أو إلى غير عدل لجاز؛ لأن الثلث له حيا وميتا يجوز أمره فيه، وبالله التوفيق.

[: يقول لعبدين له أنتما حران إن شئتما]
ومن كتاب الثمرة قال: وسألت ابن القاسم عن الرجل يقول لعبدين له أنتما حران إن شئتما، فشاء أحدهما وأبى الآخر؛ قال: من شاء الحرية منهما فهو حر؛ وكذلك لو قال لامرأتيه: أنتما طالقان إن شئتما، فإن التي شاءت منهما طالق؛ قال أصبغ مثله، وقد قال لي في غير هذا الكتاب لا يكون ذلك إلا أن يجتمعا على المشيئة في العتق والطلاق.
قال محمد بن رشد: القول للذي حكى أنه قال في غير هذا الكتاب، هو قوله في المدونة، وقوله: إن من شاء الحرية منهما أو الطلاق، فذلك له؛ هو مثل قوله في سماع أبي زيد، من كتاب الصدقات والهبات في الذي يتصدق بالشيء على رجلين، ويقول: إن قبلتماه فهو لكما، فيقبل أحدهما؛ وله في رسم إن أمكنتني، من سماع عيسى، من كتاب الأيمان

(14/567)


بالطلاق، قول ثالث أنهما يعتقان جميعا بفعل الواحد منهما، وقد مضى الكلام على ذلك هنالك مستوفى، فلا معنى لإعادته.

[: يغيب عنها زوجها فتعتق رأسا اليوم وتعتق من الغد رأسا آخر]
ومن كتاب أوله حمل صبيا على دابة قال: وسألت ابن القاسم عن المرأة يغيب عنها زوجها فتعتق رأسا اليوم، وتعتق من الغد رأسا آخر، ثم تعتق بعد ذلك أيضا رأسا آخر، وذلك متواتر، ثم يجيء زوجها فيرد ذلك؛ قال: إن كان الرأس الذي أعتقت أولا الثلث، جاز عتقه، وبطل عتق الآخرين؛ وإن كان أكثر من الثلث بطل عتقهم جميعا هو ومن بعده، ولا ينظر فيمن أعتقت بعد الأول كان الثلث أو أقل، وإنما ينظر في الأول، فإن كان أكثر من الثلث رد عتقه؛ وأما عتق الآخرين فمردود على كل حال.
قال محمد بن رشد: تكلم في هذه الرواية إذا قرب بين ما تصدقت به، أو أعتقت شيئا بعد شيء، وتكلم في رسم المكاتب بعد هذا إذا بعد ما بين ذلك، ورأيت لابن دحون أنه قال ابن الماجشون يقول: إذا أعتقت المرأة أكثر من الثلث جاز الثلث، ورد الزوج ما بقي؛ وابن القاسم يقول: يرد كل شيء؛ فعلى قول ابن الماجشون ينظر إن كان المعتق الأول أقل من الثلث، عتق من الثاني بقية الثلث، وإن كان الثلث، عتق عندهما جميعا؛ وإن بقيت من الثلث بقية، عتق من الثاني عند ابن الماجشون بمقدار ما بقي؛ وإن حمل الثلث كله، عتق كله عندهما، وهذا الذي حكى ابن دحون عن ابن

(14/568)


الماجشون، لا أعرفه له إلا في الهبة والصدقة؛ وأما في العتق فلا؛ لأنه إنما يقول فيه بقول ابن القاسم، من أجل أن العتق لا ينقض، وقد مضى في رسم الكبش، من سماع يحيى، من كتاب الصدقات والهبات، تحصيل القول في هذه المسألة إذا قرب ما بين الأمدين بمثل اليوم واليومين، أو بمثل الشهر والشهرين، أو بعدما بينهما بمثل الستة الأشهر أو السنة؛ وما يتفق عليه من ذلك، وما يختلف فيه منه، وسائر أحكام قضاء المرأة في مالها دون إذن زوجها ملخصا مبينا؛ فاكتفينا بذكره هناك عن إعادته هنا، ومضى أيضا في رسم اغتسل، من سماع ابن القاسم، من هذا الكتاب، التكلم على فعلها هل هو على الجواز حتى يرد، أو على الرد حتى يجاز، وما يتعلق بذلك من الأحكام، وبالله التوفيق.

[: يقول كل أسود أشتريه فهو حر]
ومن كتاب جاع فباع امرأته وسئل عن الرجل يقول: كل أسود أشتريه فهو حر، فشارك رجلا فاشترى الرجل سودا، فقال: إن كانا متفاوضين، فقد حنث فيما اشترى؛ وإن كان نهاه، فلا حنث عليه؛ وإن كان وكل رجلا أو شاركه، ولم ينهه حتى اشترى، فهو حانث.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في كتاب الأيمان بالطلاق من المدونة، من أن الرجل إذا حلف بطلاق كل امرأة يتزوجها من الفسطاط، فوكل رجلا يزوجه فزوجه من الفسطاط؛ أن النكاح يلزمه وتطلق عليه؛ إلا أن يكون نهاه عن نساء الفسطاط، فلا يلزمه النكاح؛ فكذلك هذا إذا نهاه وكيله أو

(14/569)


شريكه عن شراء السودان، لم يلزمه الشراء؛ وإن لم ينهه، لزمه الشراء وعتق عليه جميع السودان؛ إن اشتراهم له وكيله؛ وإن اشتراهم الشريك، قاسمه فيهم فعتق عليه حظه منهم على ما قاله محمد بن المواز في الذي حلف بعتق رقيقه فحنث، وله شريك في أرؤس، وقد قيل: إن ذلك ليس بخلاف لما في المدونة من أنه يعتق عليه حظه من جميعهم، ويقوم عليه بقيتهم على ما ذكرناه من الفرق بين المسألتين في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم؛ وإذا قال ذلك في حنثه بعتق ما يملك، فأحرى أن يقوله في هذه المسألة، للاختلاف الحاصل بين أهل العلم في العتق قبل الملك، وبالله التوفيق.

[مسألة: العبد يكون بين الرجلين فيعتقانه جميعا معا إلى السنة]
مسألة وسألته عن العبد يكون بين الرجلين فيعتقانه جميعا معا إلى السنة، فإذا مضت ستة أشهر بتل أحدهما نصيبه؛ فقال: لا يقوم عليه حظ صاحبه، وهو على حاله إلى الأجل؛ قلت: فإن مات عن مال قبل الأجل، لمن يكون؟ قال: للذي بقي له فيه الخدمة.
قال محمد بن رشد: قد قيل: إنه تقوم خدمته إلى الأجل على الذي بتل نصيبه، قال ابن القاسم في رسم العشور، من سماع عيسى، من كتاب الخدمة، واستحسنه في العبد يكون بين الرجلين فيعتق أحدهما حصته منه إلى أجل، ثم يعتق الآخر حصته منه بتلا؛ لأن الخدمة رق، ثم رجع عن ذلك ورآه ظلما أن تؤخذ منه قيمة الخدمة ويكون الولاء لغيره؛ ولا فرق بين المسألتين، وأما قوله: إنه ماله يكون إن مات قبل الأجل للذي بقيت له فيه

(14/570)


الخدمة، فهو صحيح؛ لأن الخدمة رق، ومن مات وفيه شعبة من رق، فماله للذي بقي له فيه الرق، وبالله التوفيق.

[مسألة: العبد يكون خالصا لرجل فيعتقه إلى سنة]
مسألة وسألته عن العبد يكون خالصا لرجل فيعتقه إلى سنة، فإذا مضت له ستة أشهر بتل نصفه؛ قال: يعتق عليه جميعه الساعة.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن لا إشكال فيه؛ لأن العبد جميعه له؛ فكما يعتق عليه بقيته إذا أعتق بعضه، فكذلك يعتق عليه ما بقي له فيه من الخدمة لأنها رق، وبالله التوفيق.

[مسألة: العبد يكون بين الرجلين فيعتق أحدهما نصيبه منه إلى سنة]
مسألة وسألته عن العبد يكون بين الرجلين فيعتق أحدهما نصيبه منه إلى سنة، قال: يقال للآخر يعتق إلى أجله، فإن أعتق جاز، وإن أبى قوم على المعتق حظ صاحبه، وكانت له خدمته إلى الأجل؛ وذلك خوف أن يؤخر التقويم عليه إلى الأجل، فيفلس أو يموت، ولم يحكه عن مالك؛ قال عيسى: قال لي ابن أبي حسان: قال لي مطرف عن مالك: إنه لا يقوم عليه إلى الأجل؛ وكان مما احتج به أن قال: يعمد الرجل الذي العبد بينه وبين صاحبه، فيعالجه على أن يبتاع منه نصيبه، فيأبى عليه، فيذهب فيعتق نصيبه إلى أربعين سنة، فيقوم عليه فيذهب بخدمته؛ لا أرى أن يقوم عليه إلى الأجل، قال ابن القاسم: ولو قال قائل هذا القول لم أعبه، وفيه متكلم.

(14/571)


قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها في رسم أوصى، وذكرنا هناك فيها قولا ثالثا، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.

[: قال في أم ولده وأراد أن يأخذ له قسما إنها حرة]
ومن كتاب الرهون وعن رجل قال في أم ولده، وأراد أن يأخذ له قسما: إنها حرة، هل يلزمه ذلك وتعتق عليه؛ قال: لا، وأرى أن يحلف بالله ما أراد عتقها.
قال محمد بن رشد: معناه أراد أن يأخذ لها قسما من العطاء باسم الحرية، ومثل هذا في المدونة في ذلك، قال في جارية له هي حرة؛ لأنه مر على عاشر ونحو هذا، فقال: إنه لا تعتق عليه إذا علم أنه دفع عن نفسه بذلك ظلما، ولم يذكر في ذلك يمينا؛ وقد ذكره في الذي قال لعبده: أنت حر اليوم من هذا العمل، واليمين في هذا يمين تهمة، فإذا تبين أنه لم يرد بذلك الحرية، لم يجب عليه يمين؛ وإذا احتمل أن يريد بذلك الحرية، لزمته اليمين على اختلاف؛ ولو ادعى العبد أنه قد كان أعتقه قبل ذلك؛ لكان قوله في مثل هذه الأشياء هو حر شبهة توجب عليه اليمين باتفاق، وقد مضى هذا في رسم لم يدرك، وبالله التوفيق.

(14/572)


[مسألة: السفيه يعتق فيجيز وليه عتقه ثم ينكر بعد أن احتلم]
مسألة وعن السفيه يعتق فيجيز وليه عتقه، ثم ينكر بعد أن احتلم، ويقول: أجاز لي وليي ما لم يكن ينبغي له أن يجاز على أنه لا يجاز عتقه، أجازه وليه أو لم يجزه حتى يجتمع له عقله، فيعتق أو يدع؛ ولو جاز هذا؛ لكان يشبه ذلك أن يحبس عليه رقيقه إذا أعتقهم، وهو سفيه حتى إذا اجتمع عقله عتقوا عليه، ولكانت أموال الناس التي خالطه بها من خالطه أولا بأن يبت في ماله من العتاقة؛ ولو جازت العتاقة هكذا، لما انبغى لورثته أن يرثوا رقيقه الذي أعتق إذا مات؛ فأمر السفيه مثل الصبي الذي لا يعقل؛ فلا يجوز منه شيء إلا ما قد جوز للسفيه من الوصية عند الموت.
قال محمد بن رشد: ثم ينكر ذلك بعد أن احتلم، معناه بعد أن رشد وملك أمر نفسه، فعبر بالاحتلام عن الرشد، والمسألة كلها صحيحة بينة، وقد مضى التكلم عليها وعلى ما كان في معناها مجودا في رسم العتق، من سماع أشهب، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: السفيه يشتري الجارية بغير إذن وليه فيعتقها]
مسألة قال أصبغ في السفيه يشتري الجارية بغير إذن وليه فيعتقها: إن عتقه باطل؛ ولو أنه وطئها فأحبلها، كانت له أم ولده، ولم يلزم السفيه من غرم الثمن قليل ولا كثير؛ قال عيسى بن دينار: رأى أن ترد الجارية على البائع، ويرد البائع الثمن على السفيه، ويكون الولد ولده، ولا يكون على السفيه من قيمة الولد شيء، ولو أن

(14/573)


رجلا أسلف سفيها مالا، أو باع منه شيئا، فاشترى به المولى عليك أمة فحملت منه، كانت أم ولد له، ولم يكن للمبتاع أو المسلف أخذها منه ورد عليه ذلك الشيء الذي ابتاع بالمال.
قال محمد بن رشد: لأصبغ في نوازل سحنون من كتاب المديان، مثل قول عيسى بن دينار هنا في السفيه يشتري الأمة فيولدها، ولا خلاف بينهم في العتق أنه ينقض، وترد الأمة إلى بائعها؛ والفرق بين العتق والإيلاد على قول أصبغ هذا، أن العتق من فعله وكسبه، وليس الإيلاد من فعله وكسبه؛ وإنما فعل من وطئه إياها الذي كان سببا لإيلادها الذي لا يقع باختياره، فقد يريده ولا يرزقه، وقد يرزقه ولا يريده؛ ما يجوز له إذا باعها صاحبها منه وسلطه عليها، وقول عيسى بن دينار ما وقع لأصبغ في نوازل سحنون من كتاب المديان والتفليس، في مساواتهما بين العتق والإيلاد استحسان، ووجهه أن الحمل وإن لم يكن من كسب السفيه ولا فعله، فالأمة عين مال البائع؛ والقول الأول هو القياس ألا فرق بين أن يولد الأمة التي اشتراها، أو التي اشتراها من مال استسلفه، أو من ثمن سلعة باعها، كما لا يفترق ذلك في المديان، للعلة التي ذكرناها، وبالله التوفيق.

[: قال لعبده إذا قدمت الإسكندرية فأنت حر]
ومن كتاب أوله يدير ماله وسئل عمن قال لعبده: إذا قدمت الإسكندرية فأنت حر، ثم بدا له أن لا يخرج؛ قال: أرى أن يعتق إلى مثل القدر الذي يبلغ، ولو قال له: مر معي إلى الإسكندرية، وأنت حر، فمثل ذلك.

(14/574)


قال محمد بن رشد: رأيت لابن دحون في هذه المسألة أنه قال فيها: إن كان السيد أراد خدمة العبد له، والقيام به حتى يصل الإسكندرية، فلا يلزمه شيء إذا لم يسافر؛ وإن كان إنما أراد عتقه إلى انقضاء زمن يصل به إلى الإسكندرية، فلم يسافر، نظر القدر الذي يصل في مثله لو خرج، فيعتق العبد بعده؛ وهذا الذي قاله لا كلام فيه؛ لأنه إذا علمت نية السيد، ارتفع الإشكال من المسألة؛ ونيته لا تعلم إلا من قبله، فإنما الكلام هل يصدق في نيته أم لا؟ وما يكون الحكم في المسألة إن لم تكن له نية، أو مات قبل أن يخبر بنيته، فيجب على أصولهم أن يصدق في نيته مع يمينه، إلا أن يأتي مستفتيا، فلا يكون عليه يمين، وأما إذا لم تكن له نية، أو مات قبل أن تعلم له نية؛ فيتخرج في ذلك ثلاثة أقوال؛ أحدها قوله في الرواية: أن ذلك كالأجل المعلوم؛ ويكون العبد حرا إلى مقدار البلوغ إلى الإسكندرية، خرج السيد أو لم يخرج، مات أو عاش؛ وهو الذي يأتي على ما في سماع عبد الملك، من كتاب الأيمان بالطلاق، عن ابن القاسم في الذي يقول لامرأته: إذا بلغت معي موضع كذا وكذا، فأنت طالق تلك الساعة.
والثاني: أن ذلك كالأجل المجهول الذي قد يكون وقد لا يكون، وليس الأغلب منه أن يكون، فلا يعتق العبد إلا أن يخرج السيد إلى الإسكندرية ويصل إليها؛ وهذا القول يأتي على ما في رسم استأذن من سماع عيسى، من كتاب الأيمان بالطلاق في الذي يقول لامرأته: إذا قدمت بلد كذا وكذا فأنت طالق؛ لأنها لا تطلق عليه حتى تصل إلى البلد. والثالث: الفرق بين أن يقول ذلك له قبل أن يخرج أو بعد أن يخرج؛ فإن قال ذلك قبل أن يخرج، لم يعتق إلا بوصول السيد إلى ذلك البلد، إن خرج إليه؛ وإن قال ذلك بعد أن خرج، كان العبد معتقا إلى

(14/575)


مقدار الوصول إلى ذلك البلد، وصل إليه أو رجع من الطريق؛ روى هذه التفرقة زياد بن جعفر عن مالك في الذي يقول لامرأته: إذا قدمت بلد كذا وكذا فأنت طالق؛ أنه إن قال ذلك لها قبل أن يخرج، لم يلزمه طلاق حتى يقدم البلد، وإن قال ذلك لها بعد أن خرج، كانت طالقا مكانتها، كمن طلق امرأته إلى أجل معلوم؛ وفي رسم المدبر والعتق بعد هذا من سماع أصبغ، عن أشهب في العبد يستأذن سيده في الخروج إلى موضع، فيقول له: اخرج إليه، فإذا بلغته فأنت حر، أنه ليس له أن يمنعه من الخروج؛ قال ابن المواز: إلا أن يبدو للعبد في الخروج، وهو قول رابع في المسألة أن ذلك تمليك للعبد في العتق يلزم السيد ولا يلزم العبد، فيكون مخيرا بين أن يخرج إلى البلد فتجب له الحرية، أو لا يخرج فيبقى في العبودية، وبالله التوفيق.

[: يحلف في عبد له بحريته ألا يبيعه]
ومن كتاب الجواب وسألت عن الرجل يحلف في عبد له بحريته ألا يبيعه، فيبيعه ويقبض الثمن فيستهلكه، ثم يعثر على ذلك ولا مال له؛ قال ابن القاسم: يرد العبد إن أدرك ويعتق ويخرج حرا، ويتبعه المشتري بالثمن دينا؛ لأنه حنث بحريته حين باعه، ووقعت حريته، وعنده به وفاء، وهو الثمن الذي قبض منه حين باعه هو له وفاء؛ لأنه لو عثر عليه ساعتئذ، عتق العبد ورد ذلك الثمن، فالثمن حين بقي في يديه هو مال المشتري ووفاؤه، فهو بمنزلة من أعتق وعليه دين وعنده وفاء بدينه، ثم تلف ذلك الوفاء بعد ذلك، فالعبد حر، ولا سبيل للدين عليه، ويتبع السيد بدينه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة لا إشكال فيها، ولو كان عليه يوم باعه دين يستغرق الثمن، لبيع في الثمن ولم ينفذ فيه العتق، إلا أن تكون

(14/576)


قيمته أكثر من الثمن، فيباع منه بالثمن على التبعيض، ويعتق الباقي، وبالله التوفيق.

[مسألة: يقول في مرضه جاريتي فلانة تخدم ابنتي حتى تنكح ثم هي حرة]
مسألة وسألت عن الرجل يقول في مرضه جاريتي فلانة تخدم ابنتي حتى تنكح، ثم هي حرة، فيجيز الورثة الوصية لابنته، فيعرض لابنته مرض بعد مبلغ النكاح حتى لا ينكحها أحد، ويمسك عنها الأزواج وقد عنست، وهل يختلف إذا قال حتى تنكح، أو إذا بلغت النكاح، قال ابن القاسم: نعم تختلف، أما قوله: حتى تنكح، فلا عتق لها أبدا عرض لابنته مرض، أو لم يعرض، عنست أو لم تعنس، فلا عتق للمملوكة حتى تنكح الجارية، إلا أن يأتيها الأزواج فتردهم وتأبى النكاح، فإذا كان ذلك وعرف ذلك، عتقت المملوكة، وإن تزوجت، عتقت المملوكة عند العقدة، ولم تحبسها إلى الدخول، وإن ماتت الابنة قبل مبلغ النكاح، خدمت الورثة إلى مقرار النكاح ثم عتقت، وإن لم تخرج الجارية من الثلث، خير الورثة فإما أجازوا وكان سبيلها سبيل ما وصفت لك، وإن أبوا عتق من الجارية مبلغ ثلث الميت ساعتئذ، ورق ما بقي، وسقطت وصية الابنة في الخدمة، ولم يكن لها من الخدمة قليل ولا كثير، ولم يقع لها على الجزء الذي عتق منها من الخدمة شيء.
وأما قوله: إذا بلغت ابنتي مبلغ النكاح فهي حرة، فإذا بلغت الابنة النكاح، وأمكن ذلك منها، عتقت الجارية، قلت: ما حد ذلك البلوغ الحيضة؟ قال: وبعد ذلك بقليل علة ما يرى ويجتهد، وما

(14/577)


ليس فيه ضرر، وقد تحيض الجارية وتقيم السنة والسنتين قبل أن تنكح، ويمكن ذلك منها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة صحيحة على أصولهم لا إشكال فيه، ولا موضع للقول.

[مسألة: أم أم الأب بمنزلة أم الأب إذا لم تكن أم الأب حية]
مسألة وسألت عن الجدة جدة الأب في ميراثها أي جدة هي؟ وأنه ذكر لنا في أمر الأب أنها ترث هي بعينها، فإن لم تكن هي بعينها، وكانت أبعد فلا ترث، قال ابن القاسم: فليس كما ذكر لكم هذا خطأ، أم الأب وأمهاتها بمنزلة أم الأم وأمهاتها إلى أبد، يرثن إذا لم تكن أم الأب بعينها، ولا أم الأم بعينها، فأمهاتهن في مثابتهن إلى أبد، يرثن بعد ذلك أو قرب.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أن أم أم الأب بمنزلة أم الأب، إذا لم تكن أم الأب حية، وكذلك ما بعدن، ويحجب الأقرب منهن الأبعد، كما أن أم أم الأم بمنزلة أم الأم إذا لم تكن أم الأم حية، وكذلك ما بعدن، ويحجب الأقرب منهن الأبعد، وإنما الاختلاف في الجدة أم الجد للأب، والجدة أم الجد للأم، فمالك لا يورث واحدة منهما، ومن أهل العلم من يورثهما جميعا، فيورث أربع جدات؛ اثنتان من قبل الأب، واثنتان من قبل الأم، وهو مذهب ابن مسعود من الصحابة، ومنهم من يورث ثلاث جدات؛ اثنتان من قبل الأب، وواحدة من قبل الأم، وهو مذهب الأوزاعي، وفي ذلك أثر يروى عن النبي عليه الصلاة

(14/578)


والسلام: ورث الجدات اثنتان من قبل الأب، وواحدة من قبل الأم، وإن اجتمعت الجدتان جميعا على مذهب مالك، فالسدس بينهما إلا أن تكون التي من قبل الأم أقرب، فيكون السدس لها، وبالله التوفيق.

[مسألة: الأخت للأب والأم إذا كانت هي والجد وكان لها إخوة لأبيها]
مسألة وسألت عن الأخت للأب والأم إذا كانت هي والجد، وكان لها إخوة لأبيها، هل تعاد بهم الجد؟ قال ابن القاسم: نعم تعاد بهم، وهذا مما لا شك فيه، ولا اختلاف ولا كلام لأحد.
قال محمد بن رشد: معنى تعاد بهم الجد، تعدهم عديه من العدد؛ لأن الجد ينزل مع الإخوة الأشقاء، والذين للأب منزلة أخ، فيقاسمهم للذكر مثل حظ الأنثيين، إلا أن يكون الثلث أفضل له من المقاسمة، فلا ينقص من الثلث شيئا، من اجل أن الإخوة للأم يرثون الثلث مع الإخوة أشقاء والذين للأب، ولا يرثون شيئا مع الجد، فكان الجد أحق بهذا الثلث الذي حجب عنه الإخوة للأم، فللجد مع الأخت الواحدة الثلثان، ومع الأختين والأخ الواحد النصف، ومع الأخ والأخت الخمسان، ومع الأخوين فما زاد من الإخوة الثلث، لا ينقص منه شيئا كان الإخوة أشقاء أو لأب، فلما كان هذا حكمه مع الأشقاء إذا انفردوا، ومع الذين لأب إذا انفردوا؛ وجب أن يكون هذا حكمه معهم.
إذا اجتمعوا جميعا في المقاسمة، ثم يكون الإخوة الأشقاء أحق بما بعد نصيب الجد من الإخوة للأب؛ لأنهم يحبونهم، فلا يحصل للإخوة للأب مع الجد والإخوة الأشقاء شيء، إلا أن يكون الشقائق أختا واحدة، فيفضل من المال بعد نصيب الجد أكثر من النصف، فيكون الفاضل عن النصف الواجب لها للإخوة للأب، للذكر مثل حظ الأنثيين،

(14/579)


مثال ذلك أن يترك المتوفى جدا وأختا شقيقة وأخوين للأب، فما زاد فإن الأخت الشقيقة تعاد الجد بالإخوة للأب، فترده بسببهم من النصف الذي كان يجب له معها لو انفردت دون الإخوة للأب إلى الثلث؛ لأنه أفضل له من مقاسمة جميعهم، وتأخذ هي من الثلثين الباقيين بعد نصيب الجد النصف؛ إذ ليس لها أكثر من النصف الذي فرضه الله عز وجل لها، ويكون السدس الفاضل من المال للإخوة للأب، يقتسمونه بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، فهذا معنى قول ابن القاسم في الرواية: إن الأخت الشقيقة تعاد الجد بأخويها لأبيها؛ وأما قوله وهذا مما لا شك فيه ولا اختلاف ولا كلام لأحد، معناه على مذهب مالك، ومن اتبع زيد بن ثابت على ذلك، ولم يتابع أحد من الصحابة زيد بن ثابت على قوله بذلك، وقد روي عن ابن عباس أنه سأل زيد بن ثابت عن قوله في معادة الإخوة الأشقاء الجد بالإخوة للأب، فقال له: إنما أقول برأيي كما تقول برأيك، وفي ميراث الجد مع الإخوة اختلاف كثير ليس هذا موضع ذكره.
وقد قال جماعة من أهل العلم: إنه لا ميراث للإخوة ما كانوا مع الجد؛ لأنه ينزل بمنزلة الأب إذا لم يكن أب في أنه يحجبهم، كما ينزل ابن الابن بمنزلة الابن إذا لم يكن الابن في أنه يحجبهم، وهو مذهب جماعة من الصحابة، منهم: أبو بكر الصديق، وعبد الله بن عباس، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وأبو الدرداء، وأبو هريرة، وابن الزبير، وعائشة أم المؤمنين، والصحيح في النظر أنه لا يحجبهم؛ لأنهم أقرب إلى الميت منه؛ إذ يدلون إليه بأبيهم، والأب أقرب من الجد، بخلاف ابن الابن؛ لأنه أقرب إلى الميت من الأخ؛ لأن الأخ يدلي إلى الميت بالأب وابن الرجل وابن ابنه، وإن سفل أقرب إليه من أبيه، فوجب أن لا يحجب أخاه الذي إنما يدلي إلى الميت بأبيه، وبالله التوفيق.

(14/580)


[: قال لغلامه إن قضيت عني فلانا ما له علي فأنت حر]
ومن كتاب أوله إن أمكنتني
من حلق رأسك وسئل عن رجل قال لغلامه: إن قضيت عني فلانا ما له علي، فأنت حر، فتصدق عليه صاحب الحق بالحق، قال: هو حر إذا تصدق به عليه؛ قلت: فلو كان تصدق به على سيد الغلام فقبل أو لم يقبل؛ قال ابن القاسم: إن قبل السيد كان على العبد أن يؤديه أيضا إلى سيده، وإن لم يقبل، كان عليه غرمه للغريم، ولا يتعلق إلا بأدائه، إلا أن يتصدق به على نفسه، ورواه أيضا سحنون.
قال محمد بن رشد: هذا كله بيّن على ما قاله؛ لأن الغريم إذا تصدق على العبد بالدين الذي على سيده، فقد حصل للسيد غرضه في أن يتأدى الدين عنه دون منة تكون عليه، وإذا تصدق به على السيد، كان من حقه ألا يقبل ذلك، فيوجب على نفسه بذلك منة، ووجب ألا يعتق العبد حتى يؤدي الدين عن سيده، فيسقط عنه دون منة تكون للغريم عليه، إذا قيل كان من حقه ألا يعتق العبد حتى يؤدي ذلك إلى سيده، كما لو قضاه سيده؛ إذ لا فرق بين أن يقضيه إياه أو يهبه له الغريم في أن العبد لا يعتق حتى يؤدي ذلك إلى سيده، وبالله التوفيق.

[مسألة: يؤاجر عبده سنين فيعتقه فيولد للعبد أولاد من أمته وهو في إجارته]
مسألة وسئل عن الرجل يؤاجر عبده سنين فيعتقه فيولد للعبد أولاد من أمته، وهو في إجارته، هل ترى أولاده أحرارا؟ قال: نعم، هم أحرار ساعة يولدون، وليس يوقفون إلى انقضاء خدمة أبيهم؛ لأنه ليس لأحد فيهم خدمة؛ وهو بمنزلة أن لو أعتقهم هم أنفسهم، لم يكن للمستأجر أن يمنعه من ذلك؛ لأنهم ليسوا مع أبيهم في الإجارة.

(14/581)


قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قاله لا إشكال فيه؛ لأن ولد العبد من أمته بمنزلته، فما ولد له من أمته بعدما أعتق، فهو حر؛ لأنه إنما منع من ابتال حريته ما للمستأجر من الحق في خدمته قبل العتق، وبالله التوفيق.

[مسألة: قال لغلامه وهو حر صحيح أنت حر إلى سنة]
مسألة قال: وسألت أشهب بن عبد العزيز عمن قال لغلامه، وهو حر صحيح: أنت حر إلى سنة، إلا أن أموت دون السنة؛ فإن مت دون السنة، فأنت حر حين أموت، فمات السيد قبل السنة؛ قال ابن القاسم ينظر في ثلثه: فإن خرج منه عتق، وإن لم يحمله الثلث، عتق منه ما حمل الثلث واستخدم الورثة البقية إلى السنة؛ وهو بمنزلة من قال لغلامه: أنت حر لأولنا موتا لنفسه، ولرجل آخر، فمات السيد قبل الأجنبي، قال مالك: ينظر في الثلث، فإن خرج منه عتق، قال ابن القاسم: فإن لم يحمله الثلث، عتق منه ما حمل الثلث واستخدم البقية إلى موت الآخر، وليس بينهما فرق؛ وهو بمنزلة من قال: أنت حر إلى موت فلان، إلا أن أموت قبل ذلك، ومسألة أشهب قال: أنت حر لأولنا انقضاء أنا أو السنة، فليس بينهما فرق، فهذا مثل مسألة مالك سواء؛ وقد قال مالك: يقوم رقبته وليس خدمته، وقال أشهب بن عبد العزيز: لا يقوم في ثلث إلا خدمته، وليس رقبته؛ لأنه إنما فيه خدمة.
قال محمد بن رشد: قول أشهب أظهر؛ لأن العتق في الرقبة قد ثبت، وإنما بقي فيه الخدمة إلى أجل، وهو قول ابن القاسم في رسم المكاتب من سماع يحيى من كتاب الوصايا في الذي يعتق عبدا له إلى أجل، ثم يوصي في مرضه بوضع الخدمة عنه، وبعتاقة عبيد سواه، ولا يحمل ذلك

(14/582)


ثلثه، أنه يحاصهم بقيمة خدمته لا بقيمة رقبته، ووجه قول مالك في هذه الرواية، أنه يقوم رقبته، هو أن الحرية تبع للرق، وأنه في جميع أحكامه أحكام عبد، وبالله التوفيق.

[مسألة: الجارية تكون بين الرجلين فيقاومانها فيما بينهما فيبلغا بها ثمنا أضعافا]
مسألة وسألت ابن القاسم عن الجارية تكون بين الرجلين فيقاومانها فيما بينهما فيبلغا بها ثمنا أضعافا، فيعمد أحدهما فيعتقها، قال: وقعت هذه المسألة بالمدينة في جارية كانت بين رجل وامرأة، فوقع له فيها هوى واستتبعتها نفسه، فسأل امرأته أن تبيع منه نصيبها فأبت، فرفع أمرها إلى ابن عمران قاضي المدينة، فأمر ببيعها ممن يزيد، فزاد زوج المرأة فيها حتى بلغها ستمائة دينار، فألزموه ذلك، فأتى زوجها إلى المخزومي فقال له: ما الحيلة قد بلغت ستمائة دينار، وقد قصمت ظهري، فقال له المخزومي: أعتق حظك منها، فلا يلزمك إلا القيمة ففعل؛ فرفع ذلك إلى ابن عمران، وأخبر بما بلغت وبعتقه إياها؛ فقال: اذهبوا بها إلى السوق فصيحوا بها، فإن زادت على ستمائة دينار فألزموه ذلك، وإلا ألزموه الستمائة دينار وأعتقوها عليه؛ فرفع ذلك إلى مالك، فأعجبه ذلك، ورأى أنه الحق المستقيم، وأنه أبين من القمر.
قال مالك: لو أن رجلا وقف برأس له في السوق وأعطي به ثمنا، فعدا عليه إنسان فقتله؛ أنه يكون له ذلك الثمن إلا أن تكون قيمته أكثر من الثمن، فيعطى القيمة، وذلك إذا كان قتله بحدثان ما أعطى به ذلك، قال ابن القاسم: ولقد كان ابن أبي حازم يضحك بالذي أمر به المخزومي

(14/583)


الرجل من عتق الجارية، ويقول: دمر المسكين، فكان يسره ذلك، قال: وأراهما كانا يتعارضان.
قال محمد بن رشد: قول مالك هذا في الذي وقف برأس له في السوق، فأعطي به ثمنا، فعدا عليه عاد فقتله، أنه يكون عليه الأكثر من قيمته، أو مما أعطي فيه يبين ما وقع من قوله في أول رسم من سماع ابن القاسم، من كتاب الغصب، أنه يلزمه الثمن الذي أعطي به، وأن معناه إن كانت قيمته أقل، وأما إن كانت أكثر، فيلزمه الأكثر على ما قاله هاهنا، وعلى قياس ما قضى به ابن عمران على الرجل، وسحنون يقول في مسألة مالك إنه لا يلزمه إلا القيمة، قاله في سماع ابن القاسم من كتاب الغصب، وذلك خلاف ما قضى به ابن عمران على الرجل في الجارية التي زاد فيها، مثل مذهب المخزومي على ما أشار به على الرجل من عتق حظه في الجارية، وبالله التوفيق.

[: وهب لرجل بعض من يعتق عليه من ذوي قرابته أو أوصى له أو تصدق به عليه]
ومن كتاب القطعان قال ابن القاسم: قال مالك: من وهب لرجل بعض من يعتق عليه من ذوي قرابته، أو أوصى له، أو تصدق به عليه فهو حر قبله المعطي أو لم يقبله، قال مالك: وأرى أن يبدأ على الوصايا مثل العتق بعينه، والولاء للموصى له به، أو الموهوب له، أو المتصدق به عليه؛ وإن أوصى له ببعضه، أو تصدق ببعضه، أو وهب له بعضه فقبله، استتم عليه ما بقي، وإن لم يقبله، عتق منه عليه ما أوصى له به، أو تصدق به عليه، ويبدأ أيضا على الوصايا، ويكون ولاء ذلك للموهوب له، أو الموصي به، قال ابن القاسم: من تصدق على رجل بمن يعتق عليه، أو وهبه له في صحته، أنه حر قبله أو لم

(14/584)


يقبله، وولاؤه له، مثل قول مالك في المرض والوصية، وإنما هو عندي بمنزلة من قال: غلامي حر عن أبي، أو عن فلان، والولاء للأب أو لفلان، وكذلك لو تصدق عليه بنصفه، أو وهبه له، فإنه إن قبله، استتم عليه عتقه، وكان الولاء كله له، وإن لم يقبله، عتق منه ما تصدق به عليه، وليس له أن يرد ذلك؛ ويكون ولاؤه له على كل حال، قبله أو لم يقبله، قال عيسى: لا يعجبني قوله في الولاء، وقد سمعته يقول: إن قبل فالولاء له، وإن لم يقبل، فالولاء للمتصدق.
قال محمد بن رشد: قوله: إذا وهب له من يعتق عليه، أو تصدق به عليه، أو أوصى له به، فحمله الثلث؛ أن الولاء له، قبله أو لم يقبله؛ وأنه إذا وهب له شقصا منه، أو أوصى له به، فلم يحمله الثلث؛ أنه إن قبل، قوم عليه الباقي؛ وإن لم يقبل أعتق عليه ما وهب له منه، أو ما حمله الثلث منه، وكان الولاء له على كل حال، هو قوله في المدونة؛ ووجه ذلك أنه لما وهب له، أو تصدق به عليه، أو أوصى له به، وقد علم أنه يعمق عليه إذا ملكه، ولم يكن على يقين من قبوله إياه، حمل عليه أنه أراد عتقه عنه، فكان الولاء له قبل أو لم يقبل؛ ووجه القول الثاني: أنه لما علم أنه يعتق عليه فأوصى له به، أو وهبه إياه أو تصدق به عليه، فقد قصد إلى عتقه، فكأنه قال: إنه قبله، وإلا فهو حر، وكان القياس إذا لم يقبل، أن يرجع إلى الواهب، أو المتصدق، أو إلى ورثة الموصي، كان الكل أو البعض، وقد قاله علي بن زياد، عن مالك في المدونة إذا لم يحمله الثلث، وكذلك على قياس قوله إذا تصدق عليه ببعضه، أو وهب له بعضه؛ فيتحصل على هذا في المسألة إذا لم يقبل قوله أربعة أقوال؛ أحدها: أن الولاء له. والثاني: أن الولاء للواهب أو المتصدق. والثالث: أنه يرجع ملكا لواهبه أو للمتصدق به أو لورثة

(14/585)


الموصي. والرابع: الفرق بين أن يتصدق عليه بالكل، أو يهبه إياه، أو يوصي له به، فيحمله الثلث؛ وبين أن يتصدق عليه بشقص منه، أو يهبه إياه، أو يوصي له به، أو يحمله فلا يحمله، فإن كان الكل عتق، وكان الولاء له؛ وإن كان البعض، رجع إلى الواهب، أو المتصدق، أو إلى ورثة الموصي ملكا، ولا اختلاف في أنه إذا قبل يعتق عليه، ويكون الولاء له إن كان جميعه؛ وإن كان بعضه عتق عليه وقوم عليه الباقي، فهذا تحصيل القول في هذه المسألة، وقد مضى في رسم المكاتب، من سماع يحيى، من كتاب الصدقات والهبات، التكلم على هذه المسألة أيضا، وفي كل واحد من الموضعين زيادة على ما في الموضع الآخر، والله الموفق.

[مسألة: المرأة تعتق مدبرها عن أبيها]
مسألة وسئل ابن القاسم عن المرأة تعتق مدبرها عن أبيها، قال: لا أحب ذلك لها؛ فإذا فعلت، فالولاء لها، قيل له: فالمكاتب هل هو عندك في هذا مثل المدبر؟ قال: ما أشبهه به.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الكتابة والتدبير عقدان لازمان يوجبان الولاء، إلا أن يطرأ ما ينقضهما من عجز المكاتب، أو دين يستغرق تركة المدبر، فوجب إذا أعتق واحدا منهما عن أبيه، أن يكون الولاء له لا لأبيه؛ إذ لا يملك نقل الولاء عن نفسه إلى أبيه؛ لنهي النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عن هبة الولاء وبالله تعالى التوفيق، لا شريك له.
تم كتاب العتق الثاني، والحمد لله.

(14/586)