البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة

بسم الله الرحمن الرحيم
و صلى الله على سيدنا محمد و آله و صحبه أجمعين
كتاب المدبر
من سماع ابن القاسم من كتاب قطع الشجر

أخبرني محمد بن عمر ابن لبابة قال : أخبرني العتبي قال : أخبرنا سحنون قال أخبرنا ابن القاسم عن مالك أنه قال : من دبر عبده و اشترط ماله من بعد موت السيد كان جائزا له .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قاله ، و مثله في سماع أصبغ عن ابن القاسم في رسم المدبر منه ، قال : و هذا مما لا شك فيه ، و إنما هو رجل أوصى فقال : إذا مت فعبدي حر خذوا منه ماله ، ألا ترى لو أن مريضا قال في مرضه غلامي مدبر و خذوا منه ماله أخذ منه فما استثني في الصحة بمنزلة ما استثني في المرض ، قال : فإذا مات السيد قوم في الثلث بغير ما له ببدنه خالصا ، و أخذ منه ما كان بيده فكان مالا من مال الميت يقوم فيه رقبته مع غيره من مال الميت ، و قاله أصبغ ، و في المدونة لابن كنانة خلاف ذلك ، قال : سئل ابن كنانة عن رجل يدبر عبده و يستثني ماله ، فقال : ليس ذلك من عمل الناس و لا مما يعرف في أمر المدبر و لا مما جاءت به السنة فيه ، و ليس ذلك له ، و يتبعه ماله كما جاءت السنة فيه ، قال ابن كنانة : و مما يبين لك ذلك لو أن رجلا قال في مرضه غلامي مدبر و خذوا منه ماله لم يؤخذ منه فهذا بين ، و الحجة فيه قوله لأن ما استثني في الصحة بمنزلة ما استثنى في المرض ، و قول ابن القاسم و روايته عن مالك في هذه المسألة هو الصحيح في

(15/149)


النظر ، لأنه إذا جاز أن يعتق الرجل عبده و يستثني ماله جاز أن يوصي بذلك و أن يدبره على ذلك ، و لا يلزم ابن القاسم ما احتج به ابن كنانة من قياس امتناع جواز ذلك في الصحة ، و قد استدل ابن القاسم على جوازه في الصحة بجوازه في المرض ، فبان بذلك ضعف قول ابن كنانة و بطلان حجته على ابن القاسم و بالله التوفيق .
مسألة
و قال مالك فيمن انتزع أم لد مدبر ثم ردها إليه فهي على حالها الأول عنده .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة فيها نظر ، لأن قوله إنما يرجع عنده إذا ردها إليه علي حالها الأول معناه على حالها الأول من حرمة إيلاده لها الذي يوجب لها أن تكون به أم ولد إذا أعتق و هي عنده ، و قد اختلف في ذلك قول مالك فقال مرة إنها تكون أم ولده أمضى إلى الحرية بما ولدته في التدبير ، و قال مرة إنها لا تكون بذلك أم ولد حتى يولدها بعد أن أعتق ، فكان القياس إذا انتزعها منه ثم ردها إليه أن ترجع إليه رقيقا ، و تبطل الحرمة التي كان لها بإيلاده إياها على أحد قولي مالك كما لو باعها بعد أن أولدها ثم اشتراها ، و يحتمل أن يتكلم في هذه الرواية على القول بأنه لا حرمة لها بإيلاده إياها في حال التدبير حتى يولدها ثانية بعد أن أمضي إلى الحرية ، فيكون قوله صحيحا لا إعتراض فيه ، لأنها على هذا القول أمة له لا حرمة لها بإيلاده إياها قبل أن ينتزعها فكذلك تكون بعد أن ردها إليه و بالله التوفيق .
و من كتاب سن رسول الله صلى الله عليه
قال ابن القاسم : قال مالك : من دبر رقيقا له في صحة أو في

(15/150)


مرض فدبر بعضهم قبل بعض و عليه دين ، بيع الآخر فالآخر في الدين ، فإذا استوعب الدين رجع إلى الأول فالأول فعتق ما حمل الثلث ورق ما بقي .
قال محمد بن رشد : هذا مثل ما في المدونة من أن المدبر في الصحة أو في المرض يبدأ في الثلث الأول منهم فالأول ، و إذا بدئ الأول فالأول وجب على قياس ذلك أن يباع الآخر فالآخر في الدين على ما قال في هذه الرواية .
و سحنون يقول : إن التدبير في الصحة و إن كان شيئا بعد شيء فهو بمنزلة ما لو دبرهم في كلمة واحدة ، لأن له أن يعتق بعد تدبيره و يهب و يتصدق و لا يمنع و لا يقال له أدخلت الضرر على المدبر ، و أما إذا كان التدبير في كلمة واحدة في الصحة أو في المرض أو في الوصية بعد الموت فلا يبدأ أحد منهم على صاحبه و لا يسهم بينهم ، و إنما يعتق من كل واحد منهم ما حمل الثلث من جميعهم ، و كذلك إن كان عليه دين يباع من كل واحد منهم بالحصص ما نابه من الدين ، اتفقت قيمتهم أو اختلفت ، مثال ذلك أن يكون له ثلاثة مدبرون في كلمة واحدة قيمة أحدهم مائة ، و الثاني مائتان ، و الثالث ثلاثمائة و عليه دين مائة ، فيباع من واحد منهم سدسه ، و كذلك إن كانت قيمتهم سواء مائتان مائتان و علي دين مائة يباع من كل واحد منهم سدسه ، و لو كانت قمة كل واحد منهم مائة مائة و عليه دين لبيع من كل واحد منهم ثلثه ، بخلاف الموصي بعتقهم و المبتلين في المرض ، هؤلاء يقرع بينهم فيمن يباع عن مالك ، و لابن نافع في المدنية أنه يقرع بين المدبرين كما يقرع بين الموصي بعتقهم و بين المبتلين ، و قد مضى هذا في رسم الصلاة من سماع يحيى من كتاب العتق ، و بالله التوفيق .
مسألة

(15/151)


و سئل مالك عن المرأة ذات الزوج تدبر ثلث جاريتها ، قال : يلزم ذلك ، قال : و أراه التدبير كله ، مثل الرجل تدبر عليه كلها . قال ابن القاسم : و أرى أن تدبر عليها كلها ، قال ابن القاسم : لأن عندنا من قول مالك في المرأة ذات الزوج تدبر جاريتها كلها و ليس لها مال غيرها فيرد ذلك زوجها قال : ليس ذلك له ، هي مدبرة كلها علي حالها ، قال ابن القاسم : و إنما فرق بين التدبير كله من المرأة ذات الزوج و العتق ، و لأن التدبير لا يخرج من يدها شيئا و هو موقوف معها حتى يخرج ذلك من يديها ، فهذا فرق ما بينهما ، و هو وجه ما سمعت لم يروه سحنون و كرهه و رآه خطأ لا شك فيه ، و قاله مطرف و أباه ابن الماجشون .
قال محمد بن رشد : قد روي عن مالك مثل قول ابن الماجشون و سحنون ها هنا ، و في كتاب ابن سحنون أن المرأة ذات الزوج لا يجوز لها أن تدبر جاريتها إذا لم يكن لها مال غيرها إلا بإذن زوجها ، قال في كتاب المدنية عبد الرحمن بن دينار : و حدثني محمد بن يحيى السبائي أنه سمع مالكا يقول في امرأة دبرت نصف عبدها و لها زوج و ليس لها مال غيره : إنه لا تدبير عليها كله و لا يكون منه مدبرا إلا ما دبرت ، لأن زوجها يمنعها من ذلك ، فإن لم يكن لها زوج كان مدبرا كله ، و في قول مالك في هذه الرواية إنه لا يكون منه مدبرا إلا ما دبرت من أجل الزوج نظر على أصله في أن التدبير كالعتق للزوج أن يرد منه ما زاد علي الثلث إذ قال إنه لم يكن لها مال غيره ، فكان القياس على أصله أن لا يكون مدبرا منه إلا الثلث .
و لكلا القولين وجه نظر ، فوجه قول ابن القاسم و روايته عن مالك

(15/152)


في أن لها أن تدبر عبدها ، و أن لم يكن لها مال سواه أن من حقها أن تمسكه طول حياتها و لا تبيعه ، فلا حجة له عليها في تدبيرها إياه ، و وجه قول مالك في رواية محمد بن يحيى السبائي عنه و قول ابن الماجشون و سحنون أنها إذا دبرت نفسها إلزاما لا رجوع لها فيه ، صار ذلك كالتفويت له ، و بالله التوفيق .
و من كتاب المحرم يتخذ الخرقة لفرجه

و سئل مالك عن رجل قال : غلامي مدبر عن ابني في وصية أوصى بها عند موته و أوصى بوصايا مع ذلك .
قال ذلك جائز . قال ابن القاسم و ليس له أن يرجع فيه لأنه أعتقه إلى أجل من الآجال ، قال ابن القاسم و لو كانت جارية لم يطأها الأب و لا الابن ، قال و ولاؤه للابن الذي دبر عنه .
قال محمد بن رشد : حمل قوله في هذه الرواية لغلامه أنت مدبر عن ابني أنه إنما أراد أنه حر عنه بعد موته فرآه معتقا إلى موت ابنه عنه ، كأنه قال عبدي حر إذا مات ابني و جعل له ولاؤه ، لقوله عن ابني ، فهو حر على هذه الرواية من رأس المال إذا مات ابنه ، مات قبله أو بعده ، و ذلك خلاف ما يأتي في سماع أبي زيد من أنه إنما يعتق بعد موته من ثلثه ، إلا أن يقول هو حر عن دبر ابني فحينئذ يكون معتقا إلى موت ابنه من رأس ماله ، و الكلام محتمل للوجهين ، فيجب على أصولهم أن يسأل عما أريد من ذلك ، فما قال قبل قوله فيه ، و إنما يكون هذا الاختلاف إذا سأل فقال ولم تكن لي نية و لا أدري ما أردت أو مات قبل أن يسأل ، فعلى قول ابن القاسم في هذه الرواية لا يعتق حتى يموت ابنه و على رواية أبي زيد إذا مات من ثلثه ، و ولاؤه على كلا القولين للابن ، و بالله التوفيق .

(15/153)


و من كتاب يسلف في المتاع و الحيوان
قال ابن القاسم : حدثني مالك عن أبي الرجال عن عمرة ابنته عن عبد الرحمن عن عائشة أن جارية لها سحرتها و أن سنديا دخل عليها في مرضها ، و أنه قال لها إنك مسحرة قالت : من سحرني ؟ قال لها : جارية في حجرها صبي و قد بال عليها ، فدعت جاريتها فقالت حتى أغسل بولا في ثوبي فقالت : سحرتني ؟ فقالت : نعم ، قالت : و ما دعاك إلى ذلك ؟ قالت : أردت بذلك تعجيل العتق فأمرت أخا لها أن يببعها من الأعراب ممن يسيء ملكها ، فباعها ، ثم إن عائشة أريت بعد ذلك في النوم أن اغتسلي من ماء ثلاثة آبار يمر بعضها بعضا ، فاستقى لها فاغتسلت فبرئت ، قال سحنون : معنى الجارية أنها مدبرة .
قال محمد بن رشد : إنما قال السندي لعائشة إنها سحرت و إن الذي سحرها جارية في حجرها صبي و قد بال من ناحية الكهانة ، و الكاهن قد يصيب في يسير من كثير بما يلقيه إليه وليه من الجن فيما استرق من السمع فيخلط إليها مائة كذبة على ما جاء من ذلك في الحديث ، و الله أعلم ، و قول سحنون سعني الجارية أنها كانت مدبرة ، صحيح ، قد قاله مالك في كتاب ابن المواز و كتاب ابن سحنون ، و حكى ابن حبيب عن وهب عن عبد الجبار ابن عمر عن ابن شهاب و ربيعة ابن أبي عبد الرحمن أنهما قالا : كانت لعائشة زوج النبي صلى الله عليه و سلم جارية مدبرة فاتهمتها بسحر ، فقالت : أما و الله لأغربنك فيمن لا يرثى لك ، فباعتها من الأعراب فأخبر بذلك عمر بن الخطاب ، فبعث في طلب الجارية فأعجزته و لم يجدها ، فأرسل إلى عائشة فأخذ الثمن منها ، فاشترى بها جارية فجعلها ، مكانها على تدبيرها ، و قال مطرف عن مالك : ليس العمل عندنا على حديث عائشة حين باعت مدبرة لها

(15/154)


اتهمتها بسحر ، و قال سحنون في كتاب ابنه و لا حجة علينا في فعل عائشة من ذلك ، لأن الحادث الذي فعلت من السحر يوجب قتلها فكيف بيعها ؟ و لا يجوز بيعها عند أحد من السلف بغير حادث ، و ليس قوله في ذلك عندي ببين ، و إنما باعتها عائشة لأنها رأت أن تدبيرها قد بطل لما أرادت من استعجال عتقها بقتلها بالسحر الذي سحرتها به ، و ذلك بين من قولها في الحديث ، أردت بذلك تعجيل العتق ، فلما أرادت أن تتعجله قبل وقته حرمت إياه كما حرم القاتل عمدا الميراث بما أراد من تعجيله قبل وقته ، فهذا وجه ما ذهبت إليه عائشة رضي الله عنها ، و ولم يرد ذلك عمر فحكم بما رآه باجتهاده إذ كان هو الإمام ، و رأى مالك ما قضى به عمر فأخذ به و ترك ما ذهبت إليه عائشة ، و إليه ذهب أيضا ابن القاسم في رواية أصبغ عنه على ما يأتي له في رسم المدبر من سماعه خلاف قول أصبغ فيه على ما سنبينه إن شاء الله .
من سماع أشهب و ابن نافع من مالك
من كتاب العتق

قال أشهب : و سمعت مالكا يسأل فقيل له إن عندي يتيما في عيالي و بيني و بينه مملوك ، لي ثلاثة أرباعه ، و له ربعه ، فأردت تدبيره فقال : ما ثمنه ؟ أم يسير أم كثير ؟ فقال : ما لي علم بثمنه ، فقال : إني أحب أن أعلم ما ثمنه ، فقال هو وصيف رباعي ، فقال : ما أرى لك ذلك ، يكون أنت الذي تعمل فيما بينك و بين يتيمك ، و لكن لو أتيت السلطان حتى يقيمه بقيمته و ينظر فيه لليتيم ، فأما أن يكون أنت الذي تعامل نفسك ، فلا

(15/155)


قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قاله لأنه متهم في اشترائه مال يتيمه ، فالحظ له أن يأتي السلطان في ذلك حتى يكون هو الذي يحكم فيما بينه و بين يتيمه بما يراه له من السداد في القيمة ، و بالله التوفيق .
من سماع عيسى عن ابن القاسم من كتاب أوله نقدها نقدها

قال عيسى : و سألت ابن القاسم عن رجل قال لغلامه : أنت مدبر إلى عشر سنين ، قال : أراه حرا إلى عشر سنين ، فإن مات السيد قبل ذلك لم يعتق إلا إلى عشر سنين .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قاله ابن القاسم ، لأن المعنى في قول الرجل لغلامه أنت مدبر إلى عشر سنين أنت حر إلى عشر سنين ، فعبر بلفظ التدبير عن لفظ الحرية إذا كان التدبير سببا لها ، و بالله التوفيق .

و من كتاب أوله عبد استأذن سيده

قال عيسى : و سألت ابن القاسم عن عبد استأذن سيده في تدبير جارية له فأذن له فدبرها ، قال : لا يمسها السيد و لا العبد لأنها معتقة إلى أجل ، و هي تخرج من رأس المال ، و لا يلحقها دين و ولاؤها للسيد و إن عتق العبد .
قلت : فإن وطئها العبد فحملت ؟ قال : توقف هي و ولدها حتى يموت العبد فتعتق .
قلت فإن وطئها السيد فحملت ؟ قال : يلحق به الولد

(15/156)


و توقف حتى يموت العبد فتعتق أو يموت سيدها قبل موت العبد فتعتق عند موته ، و لو قال قائل إنها تعتق عليه ساعتئذ حملت ، لم أعب قوله ، و لكني لست أحب أن أحمل عليه في العتق حدا ، قال عيسى : تعتق عليه الساعة .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة حسنة بينة كلها ، إذ لا فرق في المعنى بين أن يدبرها العبد بإذن سيده أو ينتزعها منه السيد فيعتقها إلى موت العبد فهي معتقة إلى أجل ، و إن وطئها العبد فحملت منه كان ولدها منه بمنزلتها في أنه يعتق بعتقها ، و يعذر بالجهل في وطئها ، فيلحق به ولده منها ، و إن وطئها السيد لحق به ولدها منها كان لها حكم أم الولد في وجوب العتق لها بموته ، فوجب أن تعتق إلى أولهما موتا ، هو أو العبد كما قال ، و لم ير ابن القاسم أن يعجل لها العتق ة إن كان لا يجوز له وطئها لأن له أن يستمتع من خدمتها طول حياته بما يستمتع به السيد من خدمة أم ولده في الشيء اليسير الذي يشبهها ، و لم يراع عيسى ذلك الاستمتاع الذي له من خدمتها ليسارته ، فرأى أن يعجل عليه عتقتها ، و الظالم قد يحمل عليه بعض الحمل .

مسألة
قال : و سألته عن المدبر يقتل سيده قال : إن كان قتله خطأ عتق في ماله و لم يعتق في ديته ، و كانت الدية عليه دينه و ليس على العاقلة منها شيء لأنه صنع و هو مملوك ، و إن كان قتله عمدا قتل به ، فإن استحياه الورثة بطل تدبيره و كان عبدا لهم مملوكا .
قال محمد بن رشد : قوله إن كان قتله خطأ تكون الدية عليه دينا صحيح على معنى ما في المدونة و غيرها ، قال أصبغ في رسم سلف من سماع عيسى من كتاب الديات : و هذا إذا حمله الثلث و إن لم يخرج من الثلث عتق

(15/157)


منه ما حمل الثلث و كان عليه من الدية بقدر ما عتق منه ، يؤخذ من ماله إن كان له مال أو يتبع به دينا إن لم يكن له مال ، و لا يدخل فيما يؤخذ منه الدية و لا يعتق فيها منه شيء ، و قوله صحيح تذييل لقول ابن القاسم و زيادة عليه .
و قوله إنه يبطل تدبيره إن كان قتله عمدا هو قياس ما أجمعوا عليه من أن القاتل عمدا لا ميراث له ممن قتله ، و بالله التوفيق .
مسألة
و سألت ابن القاسم عن مدبرة جرحت رجلا و هي حامل ، فلما وضعت أسلمها سيدها إلى المجروح .
فقال : سيدها فيها بالخيار إن شاء أسلمها بغير ولد تختدم بدية الجرح أسلمها ، و إن شاء افتداها بدية الجرح ، فإن أسلمها أخدمت أو أجرت ، فإن استوفى المجروح من خدمتها أو إجارتها دية الجرح رجعت إلى سيدها على ما كانت عليه من التدبير ، و إن لم يستوف المجروح دية جرحه حتى توفي سيدها عتقت هي و ولدها إن خرجوا من الثلث ، و اتبعها المجروح ببقيته دية جرحه دينا عليها ، و إن لم تخرج هي و ولدها من الثلث و لم ويدع سيدها دينا عتق منها و من ولدها ما خرج من الثلث ، و رق ما بقي فيما عتق منها كان عليها من بقية دية الجرح بحسابه إن عتق نصفها كان عليه نصف بقيته دية المجروح ، و يخير الورثة فيما رق منها إن كان نصفها أو ثلثها في أن يسلموه إلى المجروح مما يصيبه من بقية دية جرحه أو يفتكوه به ، و إن كان الميت ترك دينا بيع منها و من ولدها مقدار الدين و بيع منها أيضا بقدر دية الجرح ، ثم يدفع إلى أهل الدين دينهم ، و إلى المجروح بقية دية جرحه و عتق منها و من ولدها ثلث ما بقي فيها من

(15/158)


الرق و من ولدها ، و كان لولدها في هذا الموضع من العتق أكثر مما لها ، و ذلك أنه أدخلها الرق بما أصابها من الدين و أصاب غيرها من ولدها ، و دخلها بالجناية التي جنت دون ولدها فصارت بذلك أكثر رقا و أقل عتقا و بما رقت الأم و عتق من الولد بعضهم ، و ذلك إذا أحاط الدين بما ينوبها من دين سيدها و دية الجناية بقيمة رقبتها .
و تفسير ذلك أنه يباع بالدين منها و من ولدها ثلث كل واحد منهم أو ربعه أو سدسه قدر ما يكون الدين ، ثم يعتق ثلث ما بقي من رقبة كل واحد من ولدها ، ثم ينظر إليها ، فيباع منه للجناية بعد الدين ، فإن أحاطت الجناية بعد الدين بجميع رقبتها لم يكن لها عتق ، و رقت كلها إذا كانت قيمتها كفاف ما حمل عليها من دين سيدها و من الجناية ، و إن كانت الجناية تحيط بجميع رقبتها سوى الدين كانت الجناية أولى برقبتها من الدين ، و رجع الغرماء فيقاصوا جميع حقهم من ودها ، و يعتق منهم ثلث ما بقي من رقبة كل واحد بعد الدين و رقت الأمة كلها ، و قيل لورثة الميت إن شئتم فأسلموها ، فإن أسلموها كانت رقيقا للمجني عليه يبيع و يهب و يصنع ما شاء .
و إن كانت الجناية و ما حمل عليها من دين سيدها أقل من قيمتها عتق منها ثلث ما بقي بعد الجناية و بعد دين سيدها ، و عتق من ولدها ثلث ما بقي بعد الدين ، فكان الولد ها هنا أكثر عتقا من أمهم ، و إن كان الدين يحيط بجميع ولدها و زيادة ، و الجناية تحيط بها فالمجني عليه أولى برقبتها إلا أن يزيد أهل الدين على الجناية فيكونون أحق بها و يقاصون الغريم بالزيادة التي زادوها على

(15/159)


الجناية ، و إن أبوا قالوا نحن نأخذها بدية الجناية لم يكن ذلك لهم أبدا حتى يزيدوا.
قلت : أفتكون الزيادة ها هنا درهما أو دينارا ؟ و كم الزيادة التي إذا زادوها الغرماء كانوا أولى بها ؟ و ما قدرها ؟ و كيف إن أخذوها بزيادة فباعوها بفضل على ما أخذوها به هل يقضي لصاحب الدين بذلك الفضل ؟ و إن ماتت أو نقصت ممن تكون مصيبتها ؟
قال ابن القاسم : إنما يقضي له بالزيادة الأولى ، و أما ما باعوها به بعد ذلك فإنما لهم خالصة و النقصان عليهم ، و إن ماتت كانت منهم ، و إن باعوها بأكثر مما أخذوها به من المجروح كانت الزيادة لهم ، قال : و لا يقبل منهم في الزيادة إلا ما يرى أنه زيادة ، و أما الدرهم و الدرهمان و الفلوس فإن ذلك ليس بزيادة ، قال : فإنما يباع أبدا أولا للمجروح ثم الدين ، الجرح أبدا مبدأ على الدين ، و قال سحنون مثله .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة صحيحة بينة على أصل قوله في المدونة إلا أنها مخالفة لما في المدونة في موضع واحد ، و هو إذا كان ما يقع عليها من الدين مع الجناية التي عليها يغترق رقبتها .
فقوله في هذه الرواية إنه يباع منها بما يقع عليها من الدين و يباع منها بالجناية التي عليها و إن اغترق ذلك جميع رقبتها و لم يفضل منها شيء ، هو خلاف قوله في المدونة ، لأن من قوله فيها إذا كان ما على الميت من الدين و ما على المدبر من الجناية يغترق رقيته و لا يفضل منها شيء كان أهل الجناية أحق بالرقبة إلا أن يزيد أهل الدين على أرش الجناية زيادة يحطونها على الميت من دينهم ، و إنما على مذهبه في المدونة من المدبر للدين و للجناية إذا كان يفضل بعد ذلك من رقبته فضل يعتق منه ثلثه ، و أما إذا لم يفضل عن رقبته

(15/160)


فضل فأهل الجناية أحق عنده إلا أن يزيد الغرماء على أرش الجناية زيادة يحطونها عن الميت من دينهم فلا اختلاف إذا لم تف الرقبة بالدين و الجناية أن أهل الجناية أحق بالرقبة إلا أن يزيد أهل الدين زيادة يعطونها من دين الميت .
و لا اختلاف ايضا في أنه إذا كان في رقبة المدبر فضل عن الدين و عن الجناية يباع منه للدين و للجناية و يعتق ثلث ما بقي .
و اختلف إذا كانت الرقبة كفاف الدين و الجناية لا فضل فيها عنهما و لا نقصان منهما ، فقال في هذه الرواية إنها تباع للدين و للجناية و قال في المدونة إن أهل الجناية أولى و ذهب سحنون إلى تفسير قوله في المدونة بما في هذه الرواية فقال فيها : و معنى قوله أولى أن الدين لما رد العتق كانت الجناية مقدمة على الدين فبيع منه للجناية ثم بيع منه للدين ، و ليس قوله بصحيح ، لأنه قد نص في المدونة على أنه إنما يباع منه للدين و للجناية إذا كان فيه فضل عنهما جميعا فعتق ثلثه .
و الأصل في هذه المسألة أن جناية المدبر لا تبطل تدبيره ، و الدين يبطل تدبيره ، و إذا بطل تدبيره بالدين كانت الجناية أحق برقبته من الدين ، لأن الجناية في رقبته ، و الدين في ذمة الميت ، فإذا مات السيد و لا دين عليه و قد جنى مدبره جناية تغترق قيمة رقبته أو لا تغترقها فالواجب أن يعتق إن حمله الثلث ، و تكون جناية في ذمته يتبع بها ، و إن لم يحمله الثلث عتق منه ما حمل الثلث و فضت جنايته على ما عتق منه و على ما رق منه للورثة ، فما ناب ما عتق منها اتبع به دينا ، و ما ناب ما رق منه كان الورثة فيه بالخيار بين أن يسلموه أو يفتكوه .
و إذا مات السيد و عليه دين يغترق المدبر بيع في الدين و يبطل تدبيره .
و إذا اجتمع الجناية و الدين فلا تخلو من أن تكون الجناية و الدين أقل من

(15/161)


قيمة الرقبة أو أكثر منها أو مثلها ، فإن كانا جميعا أقل منها بيع منها للدين و أعتق ثلث ما بقي ، و لا اختلاف في هذا الوجه على ما ذكرناه ، و إن كانا جميعا أكثر منها مثل أن يكون قيمته أربعين و قد جنى جناية قيمتها عشرون و على السيد دين أربعون أو ثلاثون فأهل الجناية أحق به ، لأنها في رقبته يأخذوه بجنايتهم إلا أن يقول أهل الدين نحن نأخذه بأكثر من قيمة الجناية فيؤدوا إلى أهل الجناية جنايتهم ، و يسقط الزائد على الجناية من ديننا عن الميت ، مثل أن يقولوا نحن نأخذه بثلاثين ، فيؤدي إلى أهل الجناية عشرين جميع جنايتهم ، و تنقطع العشرة من ديننا الذي لنا قبل الميت ، فيكون ذلك لهم ، إذ لا حجة لأهل الجناية إذا أعطوا جميع جنايتهم ، و لا اختلاف في هذا أيضا على ما ذكرناه .
و أما إن كانت الجناية و الدين يحيطان بقيمة الرقبة بلا زيادة و لا نقصان ، مثل أن يكون على الميت دين عشرون ، و الجناية عشرون ، و قيمة المدبر أربعون ، فهذا هو موضع الخلاف على ما ذكرته ، قيل إنه يباع بأربعين فيأخذ أهل الدين دينهم ، و أهل الجناية جنايتهم و هو قوله في هذه الرواية ، و قيل إن أهل الجناية أحق بالعبد إلا أن يقول أهل الدين نحن نأخذه بزيادة على قيمة الجناية لنقطع من ديننا ، مثل أن يقولوا نحن نأخذه بثلاثين فيؤدي إلى أهل الجناية أرش جنايتهم عشرين ، و يبقى لنا على الميت عشرة دنانير ، و هذا قوله في المدونة ، و بالله التوفيق لا شريك له .
و من كتاب العرية

و سئل عن رجل نصف عبده و كاتب نصفه ، ثم علم به قبل الموت أو بعده .
قال : إن علم به قبل الموت كان مدبرا كله ، و إن لم يعلم به

(15/162)


حتى مات عتق نصفه في ثلث الميت ، و مضى على الكتابة في نصفه .
قال محمد بن رشد : قوله إن علم به قبل الموت كان مدبرا كله صحيح بين ، لأن من دبر نصف عبد له أو أعتقه إلى أجل دبر عليه جميعه إن كان دبر نصفه ، أو أعتق جميعه إلى الأجل إن كان أعتق نصفه إلى أجل قياسا على ما أجمعوا عليه فيمن أعتق نصف عبد له أنه يعتق عليه جميعه ، لأن التدبير و العتق إلى أجل من عقود الحرية اللازمة ، و لأن من كاتب نصف عبده تفسخ كتابته و لا تجوز .
و إنما قال إنه لم يعلم حتى مات أنه يعتق نصفه في ثلث الميت و يمضي على الكتابة في نصفه لأنه إذا أعتق نصفه صحت الكتابة في النصف الآخر ، و لأن الكتابة في نصف العبد جائزة إذا كان نصفه حرا ، و إنما لا تجوز الكتابة في نصفه إذا كان الباقي منه رقيقا للذي كاتبه أو لغيره ، فهذا إذا حمل الثلث نصف العبد ، و أما إذا لم يحمله الثلث فتفسخ الكتابة في النصف الآخر من أجل حق الورثة أن يكاتبوه ما لم يحمله الثلث من نصف المدبر بمثل كتابة النصف الآخر أو أقل أو أكثر ، فيجوز ذلك باتفاق ، لأنهم إذا أمضوا كتابة الميت في نصفه و كاتبوا هم ما رق لهم ، فكأنهم قد كاتبوا الجميع .
و لا يدخل في هذه المسألة الاختلاف الواقع في المدونة في العبد بين الشريكين يكاتب أحد الشريكين حظه منه بغير إذن شريكه ، ثم يكاتب الشريك بعد ذلك حظه منه بمثل كتابة الأول أو بأقل أو بأكثر ، و بالله التوفيق .
و من كتاب أسلم و له بنون

قال : و قال مالك : إذا دبر الرجل في صحته ثم مرض فبتل

(15/163)


عتق عبد آخر في مرضه ، و أوصى بعتق آخر بعد الموت و تزوج في مرضه و دخل بها و أوصى بالزكاة فقال : تعطي المرأة صداق مثلها من الثلث ، ثم يعتق المدبر الذي كان في الصحة ، ثم الزكاة ، ثم المبتول و المدبر في المرض ، فإن بقي من الثلث شيء عتق فيه الموصى له بالعتق بعد الموت ، و قال : و لو اختلف المدبر و المبتول في الصحة و الزكاة ، ثم إن بقي بعد ذلك شيء عتق فيه الموصى له بالعتق بعد الموت ، و قال في المدبر في الصحة هو مبدأ على الزكاة و على جميع العتق الذي يكون في المرض إلا أن يكون معه مدبرون دبرهم في صحته فإنه يبدأ الأول فالأول .
قال محمد بن رشد : ظاهر قوله تعطي المرأة صداق مثلها من الثلث أنه إن كان أصدقها أكثر من صداق مثلها بطل الزائد على صداق مثلها ، و هو ظاهر ما في كتاب الأيمان بالطلاق من المدونة ، و قيل إنه يحاص به أهل الوصايا و لا يبدأ ، و هو قول أصبغ و روى ذلك عن ابن القاسم ، و قيل إنه يبدأ و هو قول مالك في رسم الطلاق من سماع أشهب من كتاب الوصايا ، و روى مثله عنه ابن نافع و علي بن زياد و ابن عبد الحكم ، و هو قول ابن الماجشون و اختيار سحنون .
و في قوله إنه يعتق المدب الذي كان في الصحة بعد ذلك اختلاف ، قيل إنه يبدأ المدبر في الصحة على صداق المريض و هو قول ابن القاسم في العشرة ، و قد روى عنه أنهما يتحاصا .
فالثلاثة الأقوال كلها لابن القاسم ، و لكل منها وجه ، فوجه قوله في هذه الرواية إنه يبدأ صداق المريض على المدبر في الصحة هو أن صداق المريض حق للزوجة في استمتاعه بها يقضي لها به عليه شاء أو أبى ، سمي

(15/164)


لها صداقا أو لم يسمه ، فهو أوجب من التدبير الذي أوجبه على نفسه باختياره لا عوضا عن شيء ، و وجه القول بأنه يبدأ المدبر في الصحة على صداق المريض هو أن التدبير عقد من عقود الحرية ، فوجب أن يبدأ العتق اتباعا لما روى من أن الرسول – صلى الله عليه و سلم – أمر أن يبدأ العتق على الوصايا ، فعم و لم يخص ، و من طريق المعنى أن المدبر في الصحة لما كان هو المتقدم اتهم المريض على القصد لإبطاله ، و ليس لمن دبر عبدا في صحته أن يدخل عليه ما يرد تدبيره ، ألا ترى أنه إذا دبر عبدا بعد عبد يبدأ الأول على الثاني ، و وجه القول بأنهما يتحاصان أنه لما كان لهذا مزية من وجه ، و لهذا مزية من وجه آخر ، استويا في التأكيد ، فوجب أن يتحاصا .
و إنما قال : ثم الزكاة صم المبتول و المدبر في المرض و إن بقي من الثلث شيء عتق فيه الموصى له بالعتق بعد الموت ، لأنه إنما تكلم عن ما سأله عنه ، لأن هذا هو عنده حكم ترتيب الوصايا في التبدية ، لأن من مذهبه أن عتق الظهار و قتل النفس يبدآن بعد الزكاة ، ثم بعد ذلك كفارة اليمين ، ثم كفارة الفطر في رمضان متعمدا ، ثم كفارة التفريط ، و هذا دليل ما في كتاب الصيام من المدونة ، و قد قيل إن الطعام لقضاء رمضان يبدأ على كفارة اليمين عند ابن القاسم . و الأول أظهر ، ثم النذر قاله ابن أبي زيد ، يريد في الصحة ، ثم بعد ذلك العتق المبتل في المرض ، و المدبر في المرض ، ثم بعد هذا كله الموصي بعتقه بعينه ، و الذي أوصى أن يشتري بعينه فيعتق ، و جعل ابن الماجشون المبتل في المرض بعد صداق المريض و بعد المدبر في الصحة فبدأهما جميعا على الزكاة التي فرط فيها و أوصى بها ، و هو أظهر من قول ابن القاسم ، لأنه يتهم على إبطال ما دبر أو أعتق في مرضه بما أوصى به من أنه فرط فيه زكاة ماله ، و تبدأ زكاة المال و الحرث و الماشية على زكاة الفطر ، و اختلف في عتق الظهار و قتل النفس إذا اجتمعا في الوصية بهما حسبما مضى القول فيه في رسم الثمرة من سماع عيسى من كتاب الظهار .

(15/165)


و اختلف أيضا في المدبر في المرض و المبتول فيه أيضا على ثلاثة أقوال : أحدها : أنهما يتحاصا و لا يبدأ أحدهما على الآخر ، و هو قوله في هذه الرواية ، و القول الثاني : أنه يبدأ المبتل في المرض . و الثالث : أنه يبدأ المدبر فيه ، و لكل قول منها وجه ، و فوجه القول بأنهما يتحاصان استواؤهما في وجوب كونهما من الثلث ، و وجه تبدية المبتل المزية التي له في أنه لو صح لكان حرا من رأس ماله ، و وجه تبدية المدبر على المبتل أنه فعل في التدبير في المرض ما يجوز له ، و لو علم أنه يعتق من ثلث ماله لم يرض بذلك و لهذه العلة قال من قال من أهل العلم أنه لا يكون في الثلث إلا ما أريد به الثلث ، و هذا أظهر الأقوال و أولادها بالصواب .
و اختلف أيضا في الموصي بعتقه بعينه و الموصي أن يشتري فيعتق ، فقيل إنهما يتحاصان ، و قيل يبدأ الذي في ملكه على الذي أوصى أن يشتري فيعتق ، ثم بعد الموصي بعتقه بعينه الموصى بعتقه على مال إذا عجل المال ، و الموصى بكتابته إذا عجل الكتابة ، و الموصى بعتقه إلى أجل قريب الشهر و نحوه لا يبدأ أحد منهما على صاحبه ، و قد قيل إنه لا يبدأ أحد منهم على الموصي بعتقه على غير مال ، ثم بعد ذلك الموصي بعتقه إلى سنة ، ثم بعد ذلك الموصي بعتقه إلى سنين بكتابته إذا لم يعجل الكتابة ، و الموصى بعتقه على مال إذا لم يعجل المال ، و قد قيل إن الموصى بعتقه إلى سنة كالموصي بعتقه إلى سنين على ما سيأتي القول فيه في سماع أصبغ من كتاب الخدمة ، ثم بعد ذلك كله الوصية بالمال و بالعتق بقي عينه و بالحج حج الفريضة و قد اختلف في ذلك على أربعة أقوال فقيل إنها كلها سواء في التحاص ، و قيل يبدأ العتق و يتحاص المال مع الحج ، و قيل إنه يبدأ الحج

(15/166)


و يتحاص المال مع العتق ، و قيل إنه يبدأ على الحج و يتحاص مع المال و وجه هذا القول أن العتق عنده أكدها كلها ثم يليه المال الحج ، فيتحاص المال مع الحج و مع العتق لقربه من كل واحد منهما و يبدأ العتق على الحج لبعد ما بينهما .
و أما حجة التطوع فلم يختلف قول ابن القاسم في أن العتق مبدأ عليه ، و اختلف قوله هل يبدأ العتق عليه أو يتحاصان ، و قال ابن وهب يبدأ الحج على العتق و لم يفرق بين الضرورة و غيره .
والصحيح على مذهب مالك أن الوصية بالعتق بغير عينه وبالمال يبديان على الوصية بحجة الإسلام ، لأنه لا يرى أن يحج أحد عن أحد فلا مزية في ذلك عنده على أصل قوله ، وقد حكى ابن زرب أن الشيوخ أجمعوا على أن الوصية بالحج تبدأ على كل شيء المدبر وغيره ، وكان أبو عمر الإشبيلي يرى تبديه ما أوصى به في فك أسير على جميع الوصايا المدبر في الصحة وغيره ، ويحتج لذلك برواية أشهب عن مالك في كتاب الجهاد ، وحكى عبد الوهاب في المدونة أن الوصية بالعتق المعين تبدأ على الزكاة وهو بعيد في القياس . [ ووجهه إتباع ظاهر المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أن تبدأ العتاقة على الوصايا ] فعم ولم يخص وبالله التوفيق .
ومن كتاب التمرة
قال عيسى حدثني عبد الله بن وهب عن ربيعة والليث ويحيى بن سعيد أنهم كانوا يقولون إذا مات الرجل وله مدبر فإنه يجمع المدبر وماله إلى مال الميت فينظر ، فإن كان ثلث جميع ذلك

(15/167)


المدبر وماله عتق ، وكان له ماله ، وإن كان الثلث أقل وهو يحمل رقبة المدبر وبعض ماله عتق ، وكان له الذي حمل من ماله مع رقبته ، وإن كان ليس له مال غير المدبر وماله فإنه إن كان قيمة المدبر مائة دينار وله ثمانمائة دينار عتق المدبر ، وكان له من ماله مائة دينار ، فهكذا يعمل في المدبر أبداً يضم ماله إلى مال الميت إن كان ترك شيئاً ، وإلا فاصنع فيه مثل ما وصفت لك إن لم يترك إلا المدبر وماله ، قال وكذلك الذي يوصي بعتق عبد له عند الموت وللعبد مال يصنع به مثل ما يصنع في المدبر ، وهذا رأي ابن وهب وبه يأخذ وكان له ماله وإن لم يحمله الثلث ، وقال ابن القاسم عن مالك في غير هذا الكتاب في المدبر إن حمله الثلث بماله عتق بماله ، وإن لم يحمله الثلث بماله عتق منه بماله ما يحمل الثلث وأقر ماله في يديه .
قال محمد بن رشد : مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك أن المدبر يقوم في ثلث الميت بماله ، فإن حمله الثلث بماله عتق وكان ماله له ، وإن لم يحمله الثلث بماله عتق منه ما حمل الثلث وأقر ماله في يديه هو القياس ، لأن مال المدبر له ما لم ينتزعه في صحته قبل أن يموت ، فوجب أن يقوم به في ثلث مال الميت ، لأنه إذا لم يقوم به في ثلثه وأضيف إلى مال الميت وأعتق دونه فقد حصل ماله للورثة من غير أن يستثنيه السيد ، وقد قيل إن استثناءه إياه لا يجوز ، فكيف إذا لم يستثنه ؟ فقول ابن وهب وروايته عن ربيعة والليث ويحيى بن سعد في تفرقتهم بين أن يحمله الثلث بماله ولا يحمله به استحسان واحتياط للعتق ، لأنهم رأوا عتق جميعه دون مال أولى من عتق بعضه وإبقاء ماله بيده وبالله التوفيق .

(15/168)


ومن كتاب جاع فباع امرأته
وسألته عن الرجل يموت عن مدبر وله دين على أقوام إلى أجل بعيد إلى عشر سنين ونحوها هل يوقف المدبر أبداً حتى يحل أجل الدين ؟ قال : لا يوقف ولكن يباع ذلك الدين بعرض نقداً إن كان عيناً أو يعين إن كان عرضاً ثم يعتق المدبر في ثلثه أو ما حمل الثلث منه .
قلت : فإن كان الذي عليه الدين غائباً غيبة طويلة مثل مصر من الأندلس ؟ قال : يكتب فيه ويستخلف عليه ، ويوقف المدبر حتى ينظر فيه فإما تقوضي إن كان حالاً وإما بيع هنالك إن كان إلى أجل بعيد ، يباع ممن هو معه في البلد بحضرته إذا أقر بذلك .
قلت له فإن آيس من الدين لغريم عديم هو عليه أو غيبته بعيدة لا ترجي ؟ قال : يعتق من المدبر ما حمل ثلث مال الميت مما يحضر ويرق بقيته .
قلت : فإن أيسر بعد ذلك الغريم المفلس الذي أيس منه أو قدم الغائب الذي آيس منه فتقوضي منهما جميعاً ؟ . قال : إن كان المدبر في أيدي الورثة عتق في ثلث ما تقوضي من الدين ما حمل ثلثه ، وإن كان قد خرج المدبر من أيديهم ببيع أو هبة أو صدقة أو وجه من الوجوه كان ما تقوضي من الدين لورثة الميت ولم يكن للمدبر فيه قليل ولا كثير ، قال عيسى : يعتق ذلك منه حيث كان ، ولا يكون للمشتري أن يرد ما بقي في يديه .
قال محمد بن رشد : قال في هذه الرواية في الدين المؤجل إلى

(15/169)


عشر سنين ونحوها : إن المدبر لا يوقف إلى ذلك الأجل ، ولكن يباع الدين بعرض نقداً إن كان عيناً ، أو بعين إن كان عرضاً ثم يعتق المدبر في ثلثه أو ما حمل الثلث منه ، وفي العشرة عن يحيى عن ابن القاسم أنه إن كانت الديون بعيدة الآجال والمال الغائب في بلاد بعيدة لا يصل إلا بعد طول زمان فإنه يعتق منه ثلث ما حصل ، فإذا جاء المال الغائب أو حل أجل المؤجل فاقتضى أعتق منه مبلغ ثلث جميع ذلك ، وهو معنى ما في المدونة ، لأنه قال فيها إنه إن دعا العبد الموصي بعتقه إلى أن يعتق منه مبلغ ثلث المال الحاضر ويوقف ما بقي منه إلى أن يحل أجل المال لم يكن ذلك إلا أن يكون فيه ضرر على الموصي والموصى له ، فقيل إن هذا اختلاف من قول ابن القاسم في الدين المؤجل هل يباع ويعجل عتق المدبر والموصي له بالعتق فيه أم يعتق منهما ما حمل ثلث المال الحار منهما ويوقف الباقي إلى أن يحل أجل الدين فيتقاص ويعتق فيه بقيمتهما .
والصواب أن لا يحمل ذلك على أنه اختلاف من قوله ، وإنما المعنى في ذلك أنه رأى أن يباع الدين إذا تفاحش بعد أجله العشرة الأعوام ونحوها على ما قاله في هذه الرواية ، وإذا لم يتفاحش بعده فمذهبه في المدونة أنه منه ثلث المال الحاضر ويوقف باقيه إلى أن يحل أجل الدين المؤجل لم يكن ذلك له إلا برضى الورثة ، لأن الميت يكون إذا فعل ذلك قد أخذ أكثر من ثلث المال الحاضر ، لأنه يعتق ثلثه فيه ويوقف باقيه ، وأشهب يرى من حق العبد ما دعا إليه من ذلك ، خلاف ما في المدونة من أن ذلك لا يكون له إلا أن يكون في توقيفه ضرر عليه وعلى الورثة لما يخشي من تلف المال الحاضر إذا وقف حتى يحل الأجل ويأتي المال الغائب ، والمدبر الواحد والجماعة منهم في ذلك سواء ، ويفترق الواحد من الجماعة في الموصي بعتقهم ، فلا يجوز في الجماعة منهم أن يعتق منهم ما حمل ثلث المال الحاضر ، ويوقف باقيهم إلى

(15/170)


أن يأتي المال الغائب أو يحل أجله وإن رضي الورثة بذلك من أجل الغرر في تكرير القرعة فيهم مرة بعد أخرى .
وقوله في الرواية إنه إن آيس من الدين بعدم الغريم أو بعد الغيبة فيعتق من المدبر ما حمل منه ثلث المال الحاضر ثم أيسر الغريم وقدم الغائب أنه لا يعتق ما بقي من المدبر في ثلث ما تقوضي من المال إلا أن يكون في أيدي الورثة لم يخرج عنهم ببيع ولا هبة ولا صدقة ، وهو خلاف المشهور في المذهب المعلوم من قول مالك وأصحابه في كل ديوان ، فقول عيسى بن دينار هو المعروف في المذهب الصحيح في النظر ، لأن حق المدبر في عتق ما يبقي منه لا يسقط ببيع الورثة إياه ، ولا بما سوى ذلك من هبة أو صدقة ، وإنما قال عيسى بن دينار إنه لا يكون للمشتري أن يرد ما بقي منه إن كان لم يعتق جميع ما اشتراه من أجل أنه إنما دخل فيما اشترى منه على ضرر العتق إلا أن يعتق جل ما اشتراه منه ، فيكون له حينئذ أن يرد الباقي منه ، ولو كان على الميت دين فبيع المدبر فيه ثم طرأ له مال عتق في ثلثه شيء منه ، ولو كان على الميت دين فبيع المدبر فيه ثم طرأ له مال عتق في ثلثه شيء منه ، وإن قل لكان للمشتري أن يرد باقيه لضرر العتق فيما اشتراه ، ولو كان المشتري قد أعتقه ثم طرأ للميت مال يحمله ثلث لنقض عتق المشتري فيه ، ورجع بالثمن الذي أدعى فيه واعتق في ثلث ما طرأ ولو لم يحمل ثلث ما طرأ من المال جميعه لعتق منه ما حمل الثلث ، وكان للمشتري أن يرجع من الثمن بقدر ما عتق منه عن الميت في ثلث المال الطارئ ، ويرجع بقيمة عيب العتق في باقيه ، إذ قد فات عنده بالعتق ، ولا يقدر على رده .
ووجه العمل في ذلك أن يقال : كم قيمة على أنه رقيق لم يعتق منه شيء ؟ فإن قيل مائة ، قيل كم قيمته ما لم يعتق منه عن الميت على أن ما اعتق منه عن الميت حر ، فإن قيل ستون وكان قد أعتق منه عن الميت الثلث علم أن قيمة جميعه بعيب العتق فيه تسعون ، فبين القيمتين عشرة ، وهي من المائة عشرها ، فيفض عشر الثمن ، وهو قيمة عيب العتق على ما أعتق منه عن

(15/171)


الميت وعلى ما أعتق منه على المشتري ، فما ناب من ذلك ما أعتق منه عليه رجع بذلك على الورثة ، ولا يرجع بما ناب من ذلك ما اعتق منه عن الميت ، لأنه قد أخذ ثمن ذلك ، وكذلك لو باعه السيد في صحته ثم مات فأعتقه المبتاع بعد موته وفي ثلث البائع له مجملاً له أو لبعضه ، الحكم في ذلك سواء ، بخلاف عتق المشتري إياه في حياة البائع هذا يمضي عتقه ، وإن لم يعثر على ذلك إلا بعد موته ، لأنه لو عثر على ذلك في حياته لم يرد عتقه على أحد قولي مالك ، وبالله التوفيق .
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم
من كتاب المكاتب
قال يحيى : وسألت ابن القاسم عن الرجل يقول غلامي فلان حر متى ما مات ، لا يغير عن حاله ، كان ذلك في صحة أو في مرض ، ثم أراد الرجوع فيه وبيعه وقال إنما أردت فيه الوصية .
فقال لا أراه إلا على حال التدبير لا يجوز لسيده أن يرجع فيه ، ولا سبيل إلى بيعه .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قاله ، لأنه قد نص في قوله على حكم التدبير ، فلا يصدق في أنه أراد بذلك الوصية وبالله التوفيق .
مسألة
قال : وسألته هل يطأ الرجل مدبرة مدبرة أو مدبرة أم ولده أو المعتق إلى أجل ؟ فقال : لا يحل له وطء واحدة منهن .
قلت : ولم وإنما هن مبدرات ؟ قال : لأنهن يعتقن بموت من

(15/172)


دبرهن وإن بقي السيد بعد ذلك فهن كالمعتقات إلى أجل ، قال : ولكن لو أن رجلاً أذن لمدبره أو لأم ولده أن يدبر أمة يكون عتقها بعد موت الذي دبرها وموت السيد حل له الوطء كما يحل له وطء مدبرته بعينها ، وذلك أنها لا تعتق إلا بعد موت السيد وموت الذي دبرها .
قلت : فهل يجوز لهؤلاء التدبير إلا بإذن السيد ؟ قال : لا .
قلت : فلمن ولاؤهن إذا أذن ؟ قال : للسيد .
قلت : فهل يجوز له أن ينتزع منهن خدمتهن من أم الولد والمعتق إلى أجل والمدبرة ؟ قال : نعم يجوز ذلك .
قلت : فإن دبر هؤلاء بغير علم السيد ولا يعلم حتى مات وعتقوا ما حال مدبرهم ؟ قال : التدبير ثابت لهم ، وليس لواحد منهم دبر أن يرجع في ذلك بأن يقول لم يأذن لي سيدي ولو علم بما صنعت فسخه ، ولكن إن علم ففسخ كان مفسوخاً ومنتقضاً ، ثم لا يلزمهم إمضاء التدبير بعد موت السيد .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة صحيحة بينة لا أعرف نص اختلاف في شيء منها ، وإنما قال إنه لا يجوز له أن يطأ مدبرة مدبره ولا مدبرة أم ولده ولا مدبرة معتقه إلى أجل من أجل أنهن معتقات إلى أجل من رأس المال على ما قاله في رسم استأذن من سماع عيسى ، إذ لا فرق في المعنى بين أن يأخذ لعبده أو لمدبره أو لأم ولده أو لمعتقه إلى أجل بتدبير جاريته أو ينتزعها منه فيعتقها إلى موته ، ولا فرق بين أن يأذن له في ذلك وبين أن يفعل ذلك فيجيزه .
وقوله إن ما دبر هؤلاء بغير علم السيد ولا يعلم بذلك السيد حتى مات وعتقوا لازم لهم ، هو نص قوله في كل موضع لا اختلاف فيه أحفظه إلا أن

(15/173)


يدخل فيه بالمعنى ، فقد قال بعض أصحاب مالك في فعل المرأة ذات الزوج إذا زادت على ثلثها فلم يعلم بذلك الزوج حتى مات عنها أو طلقها إن ذلك لا يلزمها على قياس القول بأن فعلها فيما زاد على ثلث مالها على الرد حتى يجيزه الزوج ، وإذا قيل ذلك في الزوج فأحرى أن يقال في السيد ، لأن تحجير السيد على عبده أقوى من تحجير الزوج على امرأته .
وأما إذا رد السيد فعل عبده فيما فعله من تدبير عبده أو كتابته أو عتقه ثم عتق وهو في يده فلا اختلاف في أنه لا يلزمه شيء من ذلك ، ولا يدخل ذلك الاختلاف الذي في المرأة ذات الزوج تعتق عبدها ولا مال لها سواه فيرد الزوج ثم يموت عنها أو يطلقها وهو بيدها ، لأن تحجير السيد على عبده أقوى من تحجير الزوج على امرأته فيما زاد على ثلث ماله ، وبالله التوفيق .
من سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم
قال سحنون : سئل ابن القاسم عن المدبر يكون ثمنه مائة دينار [ وللمدبر مائة دينار ] ويترك سيده مائة دينار فقال : قال مالك : يعتق من المدبر نصفه ويترك ماله بيده ، ويكون نصفه رقيقاً لورثة المدبر ، وذلك أنه لما كانت قيمته مائة دينار وفي يديه مائة دينار وترك سيده مائة دينار فجميع ما ترك الميت ثلاثمائة دينار فعنق من العبد ثلث المائة وهو مائة دينار وهو نصف العبد بقيمة رقبته وماله ، ولا يؤخذ ماله منه ، ويكون ما بقي من رقبته وما ترك سيده من ماله لورثته ، وهذا قول مالك .
قال محمد بن رشد : هذا على ما تقدم من قول ابن القاسم وروايته

(15/174)


عن مالك في رسم الثمرة من سماع عيسى في أن المدبر يقوم في ثلث مال الميت بماله ، ويكون له ماله إن حمله الثلث ، وإن لم يحمله عتق منه بماله ما حمل منه الثلث ، وأقر ماله بيده ، خلاف قول ابن وهب هناك وروايته عن ربيعة والليث ويحيى بن سعيد أنه إن لم يحمله الثلث بما له أضيف ماله إلى مال السيد فقوم فيه ، وقد مضى الكلام على ذلك هنالك ، إلا أن في قوله نظر ، لأنه قال إن المدبر إذا كانت قيمته مائة وله مائة ، ولسيده مائة ، فجميع مال السيد ثلاثمائة ، قيمة المدبر من ذلك بماله مائتان ، فعتق منه نصفه ويقر ماله بيده ، وليس ذلك بصحيح ، لأنه إذا كانت قيمة المدبر مائة ، وله مائة فقيمته بماله لا شك أقل من مائتين ، فإنما القياس أن يقوم بماله ، ويضاف ذلك إلى مال السيد فيعتق ما حمل الثلث منه بماله ، إلا أن يضاف ماله إلى قيمته فتجعل ثلث قيمته ، إذ لا شك في أن ذلك يكون أكثر من قيمته بماله ، ومثل ما وقع في هذه الرواية حكى ابن حبيب في الواضحة ، وفيه هذا الاعتراض ، وبالله التوفيق .
من مسائل نوازل سئل عنها سحنون
وسئل سحنون عن رجل دبر أمة له فولدت أولاداً في تدبيرها فأبق الأولاد ومات السيد فقام عليه الغرماء والدين يحيط برقبة الأمة ولا مال له غيرها : إنها تباع في قضاء دينهم ولا ينتظر بها الأولاد الذين أبقوا ، فإن انصرف الأولاد نظر إلى ولدها وإليها ونظر إلى الدين ، فإن كان يحيط بأثلاثهم وثلث الأم بيع من كل واحد ثلثه ، ويعتق ثلث ما بقي من الولد والأم ، ويقال لمشتري الأم : أنت بالخيار في الأم ، فإن أحببت فرد ، وإن أحببت أن تتمسك بما بقي من الأم رقيقاً فذلك لك ، والذي يصير في الأم من الرق سبعة أتساعها .

(15/175)


قال محمد بن رشد : ولد المدبرة مدبر بمنزلتها في مذهب مالك وجميع أصحابه ، لقول النبي عليه السلام : كل ذات رحم فولدها بمنزلتها ، وما روي عن زيد بن ثابت أنه أجاز بيع ولد المدبرة ، وقاله علي وعثمان وابن عمر وابن المسيب وعمر بن عبد العزيز في عدة من التابعين ، فالمعنى في هذه المسألة صحيح واللفظ فاسد ، لأنه قال إنه ينظر إلى الدين ، فإن كان يحيط بأثلاثهم وثلث الأم بيع من كل واحد ثلثه ، والأم قد يقدم بيعها كلها في الدين بسبب إباق الأولاد قبل أن يرجعوا من إبقاهم ، فكيف يباع ثلثها إذا رجع الأولاد ولا يحتاج أيضاً إلى بيع ثلث الأولاد ، وإنما يحتاج أن يباع منهم ما يرد إلى المشتري فيما يعتق منها .
فإنما يكون صواب الكلام أن يقول : وجه العمل في ذلك إذا رجع الأولاد أن ينظر إلى الدين فإن كان يحيط بأثلاثهم وثلث الأم تبين أنه قد كان يجب أن يباع ثلث كل واحد منهم ويعتق ثلث ما بقي من كل واحد منهم وهو تسعاه ، فيعتق من كل واحد من الولد تسعاه ، ومن الأم التي بيعت تسعاها أيضاً ، ويرجع المشتري بتسعي الثمن الذي أدي فيها على الورثة ، فيباع له في ذلك مما رق لهم من الأولاد ما يؤدي إليه ، وإن أراد الورثة أن يؤدوا إلى المشتري تسعي الثمن من أموالهم ويتمسكوا بما رق لهم من الأولاد وهو سبعة اتساع كل واحد منهم كان ذلك لهم ، ويبقى للمشتري في الأم سبعة أتساعها ! باستحقاق جزء منها بالحرية .
وهذا الذي ذكرناه بين كله ، ونزيده بياناً بالتنزيل فنقول : مثال ذلك أن السيد توفي وعليه ثلاثون ديناراً دين ، وقيمة المدبرة ثلاثون ، وولدها الذين أبقوا إثنان قيمة كل واحد منهما ثلاثون ثلاثون ، فقام الغرماء قبل رجوع الولد فبيعت لهم المدبرة بثلاثين وأخذوها في حقوقهم ، ثم رجع الإبنان فكشف

(15/176)


الغيب برجوعهما أن الواجب كان أن يباع من الأب ومن كل واحد منهما ثلثه في الدين ، لأنهما مدبران بتدبير أمهما ، وأن يعتق من كل واحد منهم ثلث الباقي وهو التسعان ، فيعتق من كل واحد من الولد تسعاه ، ويعتق من أمهم المبيعة تسعاها أيضاً ، ويكون المشتري بالخيار بين أن يرد الباقي منهما على الورثة ويرجع عليهم بجميع الثمن ، وبين أن يتمسك له بما بقي له منها رقيقاً ويرجع عليهم بتسعي الثمن لما أعتق منها ، والورثة بالخيار فيما يرجع به المشتري عليهم يؤدوه مما شاءوا مما رق لهم من الولد ، وإن شاءوا من أموالهم .
ورجوع الأولاد في هذه المسألة من الإباق بعد أن بيعت الأم في الدين كمال طرأ للميت بعد بيعها ، فقول سحنون فيها خلاف ما تقدم من قول ابن القاسم في رسم جاع فباع امرأته مثل قول عيسى بن دينار فيه من رأيه وما عليه الجماعة ، وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل سحنون عن الرجلين يكون بينهما العبد فيدبر أحدهما نصيبه ولا مال له غيره .
قال : اختلف فيه أصحابنا من أهل الحجاز ، والذي أقول أنا به ، إنه إذا دبر نصيبه وهو معسر أن تدبيره ليس بشيء ، إذا لم يرض شريكه ، ألا ترى أن المدبر لو قال أنا أقاويك ، فقال له : كيف تقاوي صاحبك وأنت لا مال لك ؟ فإن وقع عند صاحبك غرم إليك القيمة ، وإن وقع عندك في المقاواة لم يكن عندك ما تدفع إليه ، فكيف تقاوي وأنت لا مال لك ؟ وقد أدخلت عليه الضرر ، وتدبيرك

(15/177)


إياه عيب تدخله على صاحبك في عبده ، وليس هذا كالذي يعتق نصيبه ولا مال له أنه يعتق عليه ما أعتق ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من أعتق شركا له في عبد قوم عليه قيمة العدل ، ثم قال عيه السلام (( فإن لم يكن له مال فقد عتق منه ما عتق ، فإنما جاء هذا في العتق ، والتدبير وليس بصريح العتق وهو يباع في الدين ولا يعتق إلا في الثلث ، فلما أدخل على شريكه الضرر لشيء لم يتعجل به للعبد عتقاً نفيناً عن شريكه الضرر الذي أدخله عليه فخذ هذا على هذا فإنه أحسن ما سمعت ورويت .
قيل له : فلو أنه أعتق نصيبه إلى أجل ولا مال له غيره ؟ فقال : له بيعه ولا ينحل عن العبد ما عقد له من العتق ، والمعتق إلى أجل ليس كالمدبر ، فإن شاء أن يشتريه شريكه كان ذلك له ، ولم يجز اشتراؤه لغيره .
قيل له : فإن اشتراه منه شريكه ما يكون حال هذا العبد ؟ فقال : يكون معتقاً كله إلى الأجل الذي كان أعتق إليه نصفه قبل أن يشتريه .
قال محمد بن رشد : اختلف في العبد بين الشريكين يدير أحدهما حظه منه وهو معسر على أربعة أقوال أحدها : قول سحنون هذا ، وهو مذهب ابن الماجشون في ديوانه أن الشريك بالخيار إن شاء أجاز له ما صنع ، وإن شاء فسخ تدبيره ، إذ لا يلزمه مقاواته إياه من أجل أنه غريم ولأن من حقه أن يلزمه قيمته فيتبعه بها ، والقول الثاني : أنه بالخيار بين أن يجيز له ما صنع

(15/178)


ويتمسك بنصيبه وإن شاء أن يتبعه بقيمة نصفه ، وإن شاء أن يقاومه إياه على أنه إن وقع عنده اتبعه بما وقع به عليه ، وهو أحد قولي ابن القاسم في سماعه ، والقول الثالث أنه إن شاء تمسك بنصيبه وأجاز له ما صنع ، وإن شاء قاواه إياه ، فإن وقع عند المدبر بيع منه بنصف ما وقع به عليه ، كان أقل من نصيبه منه أو أكثر ، وكان الباقي مدبراً ، وإن وقع عند الذي لم يدبر كان رقيقاً كله ، وهذا القول حكاه ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ ، قال أصبغ في سماعه : وهذا هو القياس ، والاستحسان إن وقع على المدبر ألا يباع منه إلا نصفه فأقل ، فإن لم يف نصفه بما وقع به عليه في المقاواة أتبعه بالباقي ديناً ثابتاً في ذمته ، واستحسان أصبغ هذا هو القول الرابع وغذا كان له على مذهبهم أن يقاويه إياه فإن وقع على المدبر بيع منه بما وقع به عليه كان أقل من نصفه أو أكثر وما لم يكن أكثر من نصفه على ما استحسنه أصبغ فمن حقه إن شاء أن يترك المقاواة فيلزمه نصف قيمته فيباع منه بهاماً بيع منه أو ما لم يكن أكثر من نصفه على ما تقدم من استحسان أصبغ ، لأن وجه المقاومة في المدبر حيثما وقعت أن يقام قيمة عدل ، ثم يقال للذي لم يدبر إما أن تسلم إليه حظك بنصف هذه القيمة ، وإما أن تزيد ، فإن أسلمه إليه لزمه ، وأن زاد قيل للذي دبر إما أن تسلم إليه حظك بما زاد وإما أن تزيد ، كذا أبدا حتى يقف على من وقف منهما .
وأما إذا كان الذي دبر حظه منه ملياً ففي ذلك ثلاثة أقوال أحدها أنه يقوم على المدبر فيكون مدبراً كله ، ولا يكون للذي لم يدبر أن يتمسك بنصيبه ولا أن يقاويه كالعتق سواء ، وهذا القول وقع لمالك في العتق الأول من المدونة ، والقول الثاني أن الشريك بالخيار ، إن شاء أن يقومه عليه وإن شاء أن يقاويه إياه ، ليس له أن يتمسك بنصيبه ويجز له ما صنع ، وهذا قول مالك في رواية مطرف وابن الماجشون عنه ، والقول الثالث أن الشريك بالخيار بين أن

(15/179)


يتمسك بحظه أو يقومه عليه أو يقاويه إياه ، وهذا مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة ، وأما قول سحنون في هذه الرواية في الذي أعتق نصيبه إلى أجل ولا مال له إنه ليس كالمدبر فهو صحيح ، لأن العتق إلى أجل عقد ثابت يجب به العتق للعبد عند الأجل على كل حال ، فلا يصح إبطاله بالمقاواة .
وأما قوله فإن شاء أن يشتريه شريكه كان ذلك لم ولم يجز اشتراؤه لغيره فلا يستقيم على حال ، إذ لا يلزم شريكه أن يبيعه منه إذا لم يكن له مال ، ولا يصح أن يمنع من بيعه من غيره إذا لم يجب أن يقوم عليه لعدمه ، وإنما لا يكون لشريكه أن يبيعه من غيره إذا أعتق نصيبه منه وهو موسر على القول بأنه بالخيار بين أن يتمسك بحظه منه وبين أن يقومه عليه ، إذ قد قيل إنه يقومه عليه ويكون حراً إلى الأجل ، وقيل إنه لا يقوم عليه حتى يحل الأجل ، وقد يحتمل أن يكون أراد بقوله ولم يجز اشتراؤه لغيره إذا أيسر فيكون لذلك وجه ، لأنه يخرج على القول بأنه إذا أعتق نصيبه إلى أجل وهو موسر يكون الشريك مخيراً بين أن يتمسك بحظه أو يقوم عليه .
وأما قوله فإن شاء شريكه أن يشتريه كان ذلك له فلا وجه له بحال ، إذ لا يصح أن يكون المعتق لحظه من العبد بالخيار في شراء حظ شريكه في قول قائل وإنما الخلاف في هل يلزم تقويمه عليه ، أو يكون الشريك في ذلك بالخيار ، وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل سحنون عن امرأة توفيت وتركت زوجها وأخاها ومدبرتها ولا مال لها غير المدبرة ثم وتركت على زوجها ماية وخمسين ديناراً ولا مال له وقيمة المدبر خمسون ديناراً .
قال : يعتق من المدبرة ثلثها ويكون ثلثها رقيقاً للأخ

(15/180)


والزوج ، فيكون ثلثها للزوج ، وثلثها للأخ ، ويكون ثلث الزوج كأنه مال طرأ ، فيصير ثلث الزوج للأخ والمدبرة ، فيعتق من المدبر أيضاً نصف الثلث ، فيتم من المدبرة نصفها عتيقاً ، ويبقى نصف جميع رقبتها رقيقاً للأخ .
قيل فإن باع الأخ المدبرة ثم أفاد الزوج إلى زمان بعد ذلك مالا ترجع المدبرة على الزوج فيعتق منها ما بقي أم كيف يصنع ؟ قال : نعم يرجع عليه فيعتق منها بقدر ذلك .
قيل وهكذا يرجع أبداً كلما أفاد حتى تستتم رقبتها ؟ قال : نعم .
قيل له : فإن لم يبين الذي باعها أن لها دينا على الزوج إن أفاد يوماً مالاً ، هل يكون عيباً يردها به ؟ قال : لا .
قيل فإن أفاد الزوج مالاً فرجعت الأمة على الزوج فيعتق منها بقدر ما قضى للزوج من الدين ، فقال المشتري أنا أرد لأن النصف الذي اشتريت قد فسد علي ؟ فقال : إذا كان الذي أعتق منها تافها يسيراً بعد ما اشتراها فليس له ردها ، وإن كان كثيراً فله ذلك .
قال محمد بن رشد : قول سحنون في هذه المسألة إن الثلث الذي لا يعتق فيما طرأ للميت من مال إذا كان قد خرج من أيدي الورثة ببيع أو صدقة أو هبة وأما قول سحنون إنه إن كان الذي أعتق مما اشترى من المدبرة يسيراً فلا رد له ، وإن كان كثيراً فله ذلك ، فهو صحيح ، لأنه إنما اشترى بعضها على أن باقيها حر ، فقد دخل على ضرر العتق ، فلا رد له فيما استحق بالعتق مما اشترى منها ، إلا أن يكون جل ما اشترى منها وهو الذي أراد بقوله : وإن كان كثيراً والله أعلم لأن العروض إذا استحق على المشتري منها بعضها فليس له

(15/181)


أن يرد ما بقي منها إلا أن يكون الذي استحق منها جلها ، وقد تقدم هذا في رسم جاع من سماع عيسى وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن رجل استأجر مدبراً سنة لخدمة بتسعة دنانير ، ثم مات السيد وقد قبض التسعة فاستهلكها وليس له مال غير المدبر ولم يستوف المواجر من خدمة العبد شيئاً .
قال : تقسم التسعة على قيمة المدبر ، فإن كانت قيمته ثلاثين ديناراً فإن الثلث الذي كان يصير للعتق قد صار عليه من الدين ثلثه ، وذلك ثلاثة دنانير ، فيباع منه بثلاثة دنانير ، ويعتق منه بقية الثلث وهو سبعة دنانير ، فيكون ثلثاً الخدمة للمستأجر ، وثلثها بين العبد وبين الذي اشترى منه بثلاثة دنانير ، فإذا تمت السنة رجع العبد إلى الورثة فقال لهم : أكملوا لي ثلث الميت لجمع ثلثيه وهو عشرون ديناراً ، وما صار إلى العبد وهو سبعة دنانير فجملة سبعة وعشرون ، فيعتق ذلك من ثلث الميت وهو تسعة دنانير ، فيزداد العبد دينارين فيكون للعبد في نفسه تسعة دنانير ، وللورثة ثمانية عشرة ديناراً فإن كانت الإجارة مثل الرقبة سواء فأرى أن لا يباع منه شيء ، وأن تمضي الإجارة كلها ، لأن الإجارة محيطة برقبته ، فإذا انقضت السنة عتق ثلثه ورق ثلثاه .
قلت فلو كان على السيد دين لأجنبي خمسة دنانير والمسألة على حالها وقد مات السيد ولا مال له ولم يستوف المواجر من أجرته شيئاً ؟ قال : تفض للعشرة التي أوجر بها العبد على ما يعتق من العبد وعلى ما يرق منه ، فيصير على الثلث العتيق منه ثلاثة دنانير

(15/182)


وثلث وتكون الخمسة التي هي للأجنبي في الثلث الذي يعتق منه ، لأن ثلثي الورثة لا سبيل لصاحب الدين عليه ، لأن المستأجر أحق به ، ودين الأجنبي أولى من عتق المدبر فيباع من ثلث العبد بثمانية دنانير وثلث ، ثلاثة وثلث للمستأجر وخمسة للأجنبي ، ويعتق باقي ثلثه ، فهو ديناران إلا ثلث ، فإذا انقضت خدمة المستأجر ودفع ثلثي العبد إلى الورثة ، ورجع عليهم العبد فقال لي ثلث سيدي وقد ترك اثنين وعشرين ديناراً إلا ثلثا وإنما أعتق مني دينارين إلا ثلثا ، فيعتق منه ثلث الاثنين وعشرين ديناراً إلا ثلثاً .
قلت فلو كان دين الأجنبي خمسة عشر ديناراً ؟ فقال : أرى دين الأجنبي قد استغرق ثلث العبد ، فلا أرى أن يعتق منه شيء ، ويكون صاحب الإجارة أولى به ، فإذا انقضت الإجارة بيع نصفه للدين بخمسة عشر ديناراً وعتق منه ثلث ما بقي ، وهو سدسه .
قلت وكذلك لو كان دين الأجنبي ثلاثين ديناراً لم يعتق منه شيء وكان صاحب الإجارة أولى به إلى موتها ثم يباع كله للدين ؟ قال : نعم .
قلت فلو كان دين الأجنبي سبعة دنانير والمسألة على حالها ؟ قال : فلا يعتق منه شيء ، وصاحب الخدمة أولى به كما فسرت ذلك ، فانظر فإن كان إذا بعت بدين الأجنبي وما يصير على الثلث من الإجارة وتفضل منه فضلة تعتق منه فإنه يباع ، وإن كان لا تفضل منه فضلة يعتق منها لم يبع منه شيء ، وكان صاحب الخدمة أولى به ، وكذلك لو كانت الإجارة تغترقه كله وليس على السيد غيرها لم يبع منه شيء ، ومضى في خدمته حتى تنتقضي إجارته ثم يعتق ثلثه .

(15/183)


قال محمد بن رشد : هذه مسألة حسنة جيدة صحيحة في المعنى بينة أدخلها ابن حبيب في الواضحة على نصها إلى قوله : فإذا انقضت السنة عتق ثلثه ورق ثلثاه ، ولم يسم سحنوناً فقال : وسمعت من أرضي من أهل العلم يقول ، وزاد على ذلك قال : ولو كان للميت مال سواه انفسخت الإجارة وردت الدنانير من مال الميت وعتق في ثلث ما بقي ، وهكذا قال ابن حبيب إذا كان ثلث ما بقي من مال الميت بعد الإجارة يحمل جميعه لأن عتقه إذا وجب في الثلث وجب أن تفسخ الإجارة فيه .
وأما لو كان ما ترك الميت من المال لا يحمل ثلثه بعد الإجارة جميع رقبته ، مثل أن تكون قيمة المدبر أربعين فمات سيده وقد قبض في إجارته تسعة فاستهلكها وله سوى المدبر عشرون لوجب يجب للزوج من المدبرة يقسم بين الأخ والمدبرة ، فيعتق نصفه ويكون للأخ نصفه ، فيكمل لها عتقها نصف لا يصح ، لأن جميع الشركة فيها مايتا دينار ، قيمة المدبرة منها خمسون ديناراً وماية وخمسون دينا على الزوج فالواجب للمدبرة على هذا التنزيل جميع قيمتها ، وذلك خمسون ديناراً وللأخ مما على الزوج خمسة وسبعون ديناراً ، وللزوج خمسة وسبعون مما عليه ، وإنما الذي يصح أن يقسم الثلث الذي يصير للزوج من المدبرة من الأخ والمدبرة على قدر ما بقي لهما من حقوقهما ، فالذي بقي للمدبرة من حقها في هذه المسألة ثلاثة وثلاثون ديناراً وثلث دينار إذ قد أعتق منها ثلثها بستة عشر وثلثين ، والذي بقي للأخ من حقه ثمانية وخمسون وثلث ، فعلى هذه التجزية يتخلص الآخر والمدبرة في الثلث الذي يصير للزوج يضرب الأخ فيه بثمانية وخمسين وثلث ، وتضرب المدبرة فيه بثلاثة ثلاثين وثلث ، فما حصل للمدبرة في المحاصة من الثلث المذكور كان عتيقاً مضافا إلى الثلث المعتق منها . وما حصل للأخ في المحاصة كان رقيقاً له مضافاً إلى الثلث الذي رق له أولاً فكلما أفاد الزوج مالا اقتسم الأخ والمدبرة ما أفاد من المال على قدر ما بقي لهما من حقوقهما أيضاً على هذا التمثيل ،

(15/184)


فما صار للأخ كان له ، وما صار للمدبرة عتق منها بقدر ذلك حتى يستتم عتق جميعها ويستوفي الأخ تمام الخمسة والسبعين حقه الواجب له قبل الزوج ، وإنما يصح أن يقسم الثل الحاصل للزوج بين الأخ والمدبرة بنصفين لو كان الدين الذي على الزوج ماية دينار وقيمة المدبرة خمسون ديناراً ولا مال للمتوفاة غير ذلك ، لأن الشركة حينئذ يتساوى فيه الأخ والمدبرة والزوج فيكون للمدبرة خمسون جميع قيمتها ، وللأخ خمسون ، وللزوج مما عليه خمسون ، فيتساوى الأخ والمدبرة فيما لهما على الزوج ، فيقتسمان على هذا الترتيب الحاصل للزوج على نصفين ، لأن الذي يبقى للمدبرة من حقها مثل الذي يبقى للأخ ، والذي يبقى لكل واحد منهما ثلاثة وثلاثون وثلث ، لأن حق كل واحد منهما كان خمسون ديناراً فيقبض الأخ من حقه ثلث المدبرة بستة عشرة ديناراً وثلثي دينارٍ وقبضت المرأة المدبرة من حقها ثلث قيمتها بستة عشر وثلثين أيضاً ، فيكمل للمدبرة عتق نصف نصيبها ، ويكون للأخ نصف المدبرة رقيقاً ، فكلما أفاد الزوج مالا اقتسماه بينهما بنصفين أيضا ، لأن الذي يبقى لهما من حقوهما أبداً متساوي على هذا التنزيل حتى يكمل عتق المدبرة ويستوفي جميع حقه الخمسين ، ويبقى للزوج مما عليه خمسون ديناراً .
وكذلك ذكر ابن سحنون هذه المسألة عن أبيه على هذا التنزيل أن الدين الذي على الزوج مائة دينار ، وأن قيمة المدبرة خمسون ديناراً ، وهذه الرواية تبين أن ما وقع لسحنون في هذه النوازل وما روي موسى بن معاوية عن ابن القاسم من قسمة الثلث الذي يجب للزوج بين المدبرة والأخ نصفين مع أن يكون الدين الذي على الزوج مائة وخمسون ديناراً وقيمة المدبرة خمسون ديناراً غلط والله أعلم لأن من قول مالك وجميع أصحابه أن الغريم إذا كان عليه دين لرجلين لأحدهما عشرة وللآخر عشرون فتقاضيا منه شيئاً إن ما تقاضياه منه يتحاصان فيه على قدر ما لهما عليه ، ثم ينظر في هذه المسألة على ما صححنا من التنزيل ، وهو أن يكون الدين الذي على الزوج مائة دينار

(15/185)


إلى ما يجب للمدبرة على الزوج من حقها ، فيباع بعرض ويعجل لها العتق على ما روي موسى عن ابن القاسم والذي يبقى لها من حقها عليه خمسة وعشرون ديناراً ، لأن جميع حقها كان خمسون ديناراً ، فقبضت ثلثها أولاً ستة عشر وثلثين ، ثم قبضت نصف الثلث بثمانية وثلث ، فاستكملت نصف حقها وبقي لها النصف على الزوج ، وكذلك ينبغي إذا قررنا أن الدين الذي على الزوج مائة وخمسون ، وقيمة المدبرة خمسون على ما في الرواية أن ينظر إلى ما بقي لها من جميع قيمتها الخمسين بعد عتق ثلث قيمتها بستة عشر وثلثين ، وبعد عتق ما يجب لها من الثلث الواجب للزوج على ما رتبناه ، فيطرح ذلك من الخمسين فما فضل فهو الذي يجب للمدبرة على الزوج ، وهو الذي يباع على ما روي موسى ابن معاوية .
وأما قوله في رواية موسى ثم ينظر إلى ما يصيب الخادم من ذلك وهو نصف خمسين ومائة ، فيباع فلا يصح عندي بوجه ، وقوله إن الأخ إن باع المدبرة أي ما صار له منها ثم أفاد الزوج إلى زمان بعد ذلك مالاً أنها ترجع فيعتق منها بقدر ذلك ، أي بقدر ما يجب لها مما أفاد حتى تستتم رقبتها هو مثل ما تقدم من قوله في أول مسألة من هذه النوازل ، ومثل قول عيسى ابن دينار في رسم جاع من سماع عيسى .
وما عليه الجماعة خلاف قول ابن القاسم فيه أن تقسم التسعة على ما يجب عتقه من المدبر وعلى جميع بقيته المال ، فالذي يجب عتقه من المدبر نصفه بعشرين ، لأن جميع المال ستون ، فثلثه عشرون ، وقيمة المدبر أربعون ، فيباع من نصف المدبر ثلاثة ، ويعتق ما بقي من نصفه وهو سبعة عشر .
قال ابن حبيب أيضاً : وهذا التفسير على أن المستأجر علم أنه مدبر ، فأما لو جهل تدبيره واستأجره على أنه عبد فلما مات سيده ثبت أنه مدبر ولا مال له سواه ، وفيه فضل عما استؤجر به كما فسرنا في أول المسألة لانفسخت

(15/186)


الإجارة ، ثم بيع منه معجلاً لما استؤجر به ، لأنه دين على السيد ، ثم يعتق منه ما فضل منه ، ويرق ثلثاه ، وهذا الذي قاله ابن حبيب صحيح ، ومعناه إذا لم يرض المستأجر بذلك وأراد رده لأن ذلك عيب دخل عليه فيما استأجره من خدمة المدبر لانفساخ بعضها بما ثبت من التدبير الذي لم يعلم به .
وأما لو رضي المستأجر بالتمسك ببقية إجارته لجاز ذلك ، وكان بمنزلة إذا استأجره وهو يعلم أنه مدبر .
والأصل في هذه المسألة أن ما وجب من عتق المدبر فلا بد أن تنفسخ فيه الإجارة إن وجب عتقه كله في ثلث مال الميت انفسخت الإجارة في جميعه وردت إلى المستأجر الإجارة من مال الميت ، وإن وجب عتق ثلثه انفسخت الإجارة في ثلثه فبيع من الثلث الذي وجب عتقه بثلث الإجارة وأعتق الباقي من ذلك ، فإذا انقضت الإجارة رجع المدبر على الورثة فاعتق منه بقية الثلث وهو ثلثا ما بيع منه ، وكذلك إن وجب عتق نصفه أو ثلثيه في ثلث الميت فبيع منه بنصف الإجارة أو بثلثيها وأعتق الباقي ، فإذا انقضت الإجارة رجع على الورثة فاعتق منه بقية الثلث وهو ثلثا ما بيع منه في الإجارة وإن لم يجب عتق شيء منه مثل أن تكون الإجارة تستغرق جميعه أو لا يستغرق جميعه وعلى الميت من الدين ما يستغرق جميعه ، فالإجارة باقية لا تنفسخ ، وهي مقدمة على الدين إن كان على الميت دين لأن الإجارة في عين العبد والدين في ذمة الميت إذا انقضت الإجارة بيع في الدين .
وإنما قال إذا لم يكن له مال غير المدبر إنه يباع من ثلثه بثلث الإجارة وبجميع الدين ثم يعتق ما بقي من أجل ما بيناه من أن الإجارة مبدأة على الدين ، والدين مبدأ على العتق ، فوجب من أجل ذلك أن يباع من ثلث المدبر بجميع الدين وبثلث الإجارة ، فإذا استوفى المستأجر خدمته ورجع ثلثا المدير إلى الورثة رجع عليهم المدبر فيه فاستوفى منه ما بقي من حقه في العتق

(15/187)


وهو ثلثا ما بيع منه في الدين لأنه بيع منه بجميع الدين من أجل أنه يبدأ على العتق ولا يجب عليه من الدين إلا ثلثه وثلثا ما بيع منه في الإجارة أيضاً وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن رجل باع مدبرة من رجل فزوجها المشتري من عبده وأولدها العبد جارية ثم أعتق المشتري الأمة وبقي ولدها .
قال : يمضي عتقها ويكون ولدها رقيقاً للمبتاع ، وقاله عبد الله بن نافع .
قال محمد بن رشد : رأيت لأبي إسحاق التونسي أنه قال في هذه المسألة : قوله ويكون ولدها رقيقاً للمبتاع كلام فيه نظر ، إلا أن يريد بقوله يرق أن يكون مدبراً كأمه ، لأن ولدها من زوج إنما يجب أن يكون كأمه ، وهي مدبرة فيجب أن يكون ولدها مدبراً .
فإن قيل لما أعتقها بطل تدبرها ، فكان ولدها رقيقاً للمشتري ، قيل لو لزم هذا في المستشري للزم في المدبرة إذا ولدت فأعتقها المدبر أو ماتت إن يكون ولدها رقيقاً ، لأن موتها أو عتقها يبطل تدبيرها ، وهذا بعيد ، بل ولدها على ما كانت عليه أعتقت أو ماتت أو بقيت .
هذا نص قوله ، واعتراضه صحيح ، وإذا وجب أن يكون الولد مدبراً على ما قاله فيرد إلى البائع بما ينويه من الثمن إذا فض على قيمتها يوم البيع وعلى قيمة الولد يوم أعتق الأم ، وهذا على القول الذي رجع إليه مالك من أن المدبر إذا أعتقه المشتري لا يرد عتقه ، وأما على قوله الأول فينقض العتق وترد الأمة وولدها إلى البائع ويرد عليه جميع الثمن .

(15/188)


مسألة
وسئل المغيرة عن رجل جهل فوطئ مدبرة امرأته فحملت ، فلم تزل المرأة مقرة بإذنها له حتى ماتت .
قال المنغيرة أرى إن كان لها وفاء بعتق المدبرة فيه عتقت في ثلثها ، ولم أنتظر الذي وطئ بالخطأ أن تكون له أم ولد ، وأرى ولدها عليه بالقيمة ، وأرى القيمة لورثة سيدتها أو الدين إن كان عليهما دين .
قال محمد بن رشد : إذنها له بوطئها شبهة تسقط عنه الحد وتوجب لحوق الولد به ، ولم ير ذلك بمنزلة من اشترى مدبرة فوطئها فحملت في أن تكون أم ولد له وينفسخ التدبير من أجل أنه وطء فاسد وإن كانت القيمة تلزمه به لو كانت أمة ، وهو معنى قوله : ولم أنتظر الذي وطئ بالخطأ أي بالخطيئة أن تكون له أم ولد ، ولم يتكلم إذ لم يكن له وفاء تعتق فيه فأعتق بعضها أو كان عليها دين يغترق قيمتها .
فأما إذا لم يكن لها وفاء تعتق به فأعتق بعضها فيلزمه على قياس قوله من قيمتها لورثة سيدتها بقدر ما رق منها ، ويكون ما رق منها رقيقاً له بما لزمه قيمته ، ويلزمه من قيمة ولدها لورثة سيدتها بقدر ما رق منها .
وأما إذا كان عليها دين يغترقها فيلزمه قيمتها يوم وطئها ولا يكون عليه شيء من قيمة ولده منها ، وبالله التوفيق .
من سماع موسى ابن معاوية
من ابن القاسم
قال موسى : قال ابن القاسم في المرأة تموت عن ما برةٍ

(15/189)


ووارثها زوج وأخ ولم تترك مالاً غيرها إلا مهراً على زوجها ، وذلك المهر خمسون ومائة دينار ، والزوج معدم وقيمتها خمسون ديناراً فإنه يعتق منها ثلثاً وهو ثلث خمسين ، وذلك قيمتها ، ويكون الثلث لزوجها والثلث لأخيها ، ثم ينظر إلى الثلث الذي صار لزوجها فتأخذه الجارية والأخ فيقسمانه بينهما بنصفين ، لأن الذي بقي لهما على الزوج سواء فيما لهما عليه ، ثم ينظر إلى ما بقي على الزوج من الدين فيكون بين الجارية والأخ بعد سهم الزوج ، ويقال للأخ : إن أحببت أن تبيع نصيبك فبعه ، وإلا فأبيعه ديناً ، ثم ينظر إلى الذي يصيب الخادم من ذلك وهو نصف خمسين ومائة ، فيباع بعرض ويتعجل ويدفع ذلك إلى الأخ ، ويعتق من الجارية بقدر ما خرج لها من ذلك ، وهو أحب إلى من أن يؤجل ذلك على الزوج وينتظر به يسره ، لأن الأخ يموت فيورث نصيبه ويباع ويدخله المواريث ويفلس ويعجل لها عتق حتى لا يبقى لها حق على الزوج إلا أدخل فيها ، ولا يستأني به فيباع ذلك الشقص منها ثم يتقاصا يوماً ما فعل من يعتق إذا خرجت من يد الأخ فقد فسرت ذلك وجه الذي أرى .
وإن كان الزوج غائباً بعيد الغيبة بموضع لا يعرف فيه حاله ولا ماله لم يبع للجارية شيء مما عليه حتى يكون بموضع يجوز بيع ما عليه لها ، فيكون على ما فسرت لك ، وذلك بموضع يعرف فيه ملاؤه من عدمه .
قال محمد بن رشد : إنما يكون ما قال من أن يعتق من المدبرة ثلثها ، ويكون الثلث الذي للزوج بينها وبين الأخ إلى آخر قوله إذا لم يجيزا الوصية وقطعا للمدبرة بثلث جميع المال .
وقوله ثم ينظر إلى الثلث الذي صار لزوجها فتأخذه الجارية والأخ

(15/190)


فيقتسمانه بينهما بنصفين لأن الذي بقي لهما على الزوج سواء فيما لهما عليه ، لا يصح إلا إذا كان الدين الذي على الزوج مائة وقيمة المدبرة خمسون ولا مال للمرأة سوى ذلك ، وقد مضى بيان ذلك في نوازل سحنون فلا معنى لإعادته .
وإجازة سحنون القاسم في هذه الرواية بيع ما على الزوج من الدين إذا كان قريب الغيبة بموضع يعرف فيه ملاؤه من عدمه خلاف المعروف من قوله في المدونة وغيرها : إن ذلك لا يجوز إلا أن يكون حاضرا مقرا ، وقال في السلم الثاني من المدونة في اشتراء الكفيل ما على المتكفل به ، إن ذلك لا يجوز إلا أن يكون حاضرا ولم يقل مقرا ، فقيل معناه مقرا ، وقيل هو خلاف من قول ابن القاسم في إجازة شراء الدين إن كان الذي عليه حاضرا وإن لم يكن مقرا ، وقيل إن ذلك ليس اختلافا من قوله وإنما فرق بين المسألتين ، ولأصبغ في نوازله من جامع البيوع مثل قول ابن القاسم ها هنا ، وقد مضى الكلام على ذلك هنالك مستوفي فلا معنى لإعادته ، وبالله التوفيق .
مسألة
قال ابن القاسم في رجل دبرا عبداً له في صحته ، فلما مرض قال قد كنت أعتقت فلاناً لغلام له آخر .
قال : يعتق المدبر وتكون قيمة الذي ذكر أنه أعتقه في الصحة في جملة المال للمدبر يعتق بها ، ولا يعتق الذي ذكر أنه أعتقه في الصحة إلا أن تقوم بينة أو يقول أعتقوه ، فإن قال ذلك عتق في الثلث بعد التدبير .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة بينة صحيحة في المعنى على

(15/191)


أصولهم ، وإنما قال إن المدبر يعتق وتكون قيمة الذي ذكر أنه أعتقه في الصحة في جملة المال للمدبر يعتق بها لأنه يهتم على أنه أراد إبطال التدبير بما أقر به من أنه أعتق عبده الآخر في صحته ، وفوجب أن يدخل فيه ، بخلاف الوصايا لا اختلاف في أن الوصايا لا تدخل في الذي أقر أنه كان أعتقه في صحته .
وقوله إنه لا يعتق الذي ذكر أنه أعتقه في الصحة إلا أن تقوم له بينة هو نص ما في المدونة وغيرها ، ويتخرج في ذلك قول آخر أنه يعتق في الثلث بعد المدبر وإن لم يقل أعتقوه ، وأما إن قال أعتقوه فلا اختلاف في أنه يعتق في الثلث بعد المدبر ، ولا يدخل في هذه المسألة الاختلاف الذي ذكرناه في رسم العرية من سماع عيسى من كتاب الوصايا في الذي يقول في مرضه قد كنت أعتقت عبدي في صحتي ، لأنه بينهم مع المدبر كما يتهم مع الورثة إذا كان ورثته كلالة وبالله التوفيق .
من سماع أصبغ
[ من كتاب المدبر ]
قال أصبغ : سمعت ابن القاسم يقول في المدبر يباع فيفوت ببيعه فلا يدري أين وقع ولا ما صار إليه .
قال : أرى أن يجعل ثمنه كله الذي باعه في مدبر ، وليس ذلك بمنزلة فواته بالعنق والموت ، هذا تكون له قيمته على الرجاء والخوف في الموت خاصة إذا مات فيصنع بها السيد ما شاء ويجعل الفضل في مدبر أو يعين به في عتق إن لم يبلغ تدبيراً ، وفواته بالعتق ليس عليه قليل ولا كثير ، يصنع بجميع الثمن ما شاء ، لأنه قد صار

(15/192)


إلى خير مما كان فيه ومما يرد إليه ، وقاله أصبغ وذلك في الذي قد عمي أمره لا يدري ما حاله ؟ حياة أو موت أو عتق احتياطاً عليه ، وليس بالواجب عليه عندي ولا القياس القياس به إذا استبرئ أمره وآيس منه إياساً منطقعاً فهو بمنزلة الموت ولا يكون الموت أحسن حالاً وإنما هو بين أمرين عتق أو موت ، بالعتق ليس فيه شيء ، والموت له فيه القيمة على التدبير ، فهو مثله لأنه أوكد الوجهين كامرأة المفقود حين عمي أمره أنزل أمرها هي عمايته في عدتها بمنزلة الموت فاعتدت عدة وفاة ولم تعتد عدة فرقة .
قال محمد بن رشد : قوله في المدبر يباع فلا يدين أين وقع ولا ما صار إليه إنما يجعل ثمنه كله الذي باعه به في مدبر بخلا فواته بالعتق أو الموت صحيح بين في المعنى لأنه يخشى أن يكون حيالأ لم يمت ولا أعتق ، فوجب نقض البيع فيه ورده إلى سيده على ما كان عليه مر التدبير ، فلما لم يكن ذلك وجب أن يجعل جميع الثمن في مدبر مثله .
فقول أصبغ إن القياس إذا عمى أمره أن ينزل بمنزلة ولا يكون أحسن حالاً منه غلط بين ، وكذلك قال محمد ابن المواز : قول غلط ، قال : وقد طلب عمر رد المدبرة التي باعت عائشة رضي الله عنها ، فيما لم يجدها أخذ الثمن فجعله في مكانها .
وتفرقة ابن القاسم بين الموت والعتق هو نص قوله في المدونة ، وعلمه في العتق أنه قد صار إلى خير مما كان فيه ومما يرد إليه ليس بعلة بينة في أنه يسوع له جميع الثمن ولا يلزمه أن يتمخى منه شيء لأنه وإن كان أعتق فإنما أعتقه المشتري وثواب عتقه له ، فالقياس أن يلزمه أن يتمخى مما قبض زايداً

(15/193)


على قيمته على الرجاء والخوف يفعل في الموت ، وقد قال أبو إسحاق التونسي : القياس أن يكون لسيده البائع ثمنه كله إذا عند المشتري ، كما يكون له جميع ثمنه إذا أعتقه المشتري ، لأن التدبير يبطل بموته عند المشتري كما يبطل بعتقه أيضا ، ولو أمكن أن يعلم أن المدبر يموت قبل سيده لجوزنا بيعه إذ العتق إنما يجب له بعد موت سيده من الثلث ، هذا معنى قول أبي إسحاق ، قال وقد كان القياس أن يشتري بالثمن كله مدبراً مكان الأول فيكون له منه خدمته حياته كما كان له من الأول ، لأنه إذا أخذ من ثمن الأول قيمته على الرجاء والخوف ناجزاً وخدمه المدبر الذي يشتري بالفضل حياته فقد حصل له أكثر مما كان له في الأول إذ لم يكن له فيه سوى خدمته حياته ، هذا معنى قول أبي إسحاق دون لفظه .
وهذا الذي قاله هو قول ابن كنانة في المدنية ، قيل له : ما تقول في الذي يبيع المدبر فيموت بعتق أو غيره ؟ قال : يؤمر أن يمخي من ثمنه ، قال عيسى : قال ابن القاسم : هو له حلال يصنع بها ما شاء ، ورواية عيسى عن ابن القاسم هذا في المدنية أن الثمن له حلال في الموت والعتق يصنع به ما شاء ، هو الذي ذهب إليه أبو إسحاق من أنه لا فرق بين الموت والعتق لبطلان التدبير في الوجهين جميعاً ، والذي اخترت أنا وبينت وجهه أنه يجب عليه أن يتمخى من الزائد على قيمته على الرجاء والخوف فيجعله في مدبر .
فيتحصل على هذا في المسألة أربعة أقوال ، أحدها أنه لا يجب عليه أن يتمخى من شيء من ثمنه في الوجهين جميعاً ، والثاني أنه يجب عليه أن يتمخى من جميع ثمنه في الوجهين جميعاً ، والثالث أ،ه يجب عليه أن يتمخى مما زاد على قيمته على الرجاء والخوف جميعاً ، والرابع الفرق بين الموت والعتق ، ورواية ابن كنانة عن ابن القاسم في المدنية نحو قول ابن نافع ، واختيار محمد ابن خالد في سماعه من كتاب الولاء على ما حمله عليه بعض أهل النظر ، وهو صحيح على ما ذكرناه هنالك ، وبالله التوفيق .

(15/194)


مسألة
وسئل عن مدبر عجل له سيده بالعتق على أن يعطيه عشرة دنانير إلى شهر ثم مات السيد وترك مالاً أيعتق المدبر في ثلثه وتسقط العشرة ؟
قال : لا ، وهي له لازمة .
قيل له : فإن أفلس العبد : قال : لا يحاص السيد بالعشرة ، والغرماء يبدؤون عليه ، وقاله أصبغ كله والعطية بتعجيل الحرية وقد تم له واتبع به ولو طرقه دين .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قاله ، لأن الحرية قد وجبت للمدبر قبل موت سيده بما قاطعه عليه من العشرة إلى أجل ، فلا تسقط عنه بموت سيده وإن كان ثلثه يحمله ، ولا محاصة للسيد بها ، إذ ليست بدين ثابت عليه ، وإنما هي كالقطاعة ليس للسيد أن يقاص بها غرماء المكاتب ، وبالله التوفيق .
مسألة
قال أصبغ وسمعت ابن القاسم وسئل عن المولى عليه يدبر عبده .
وقال : لا يجوز تدبيره وإن حسنت حاله ، ولا يلزمه ، كان ذلك المال واسعاً أو غير واسع ، وإنما هو بمنزلة العتق ، وكذلك قال مالك في العتق ، قال ابن القاسم : والعتق لا يجوز منه قليل ولا كثير كان ماله واسعاً أم لا .
قال محمد بن رشد : في المدونة لابن القاسم مثل قوله في هذه

(15/195)


الرواية إن تدبيره بمنزلة عتقه ، لا يجوز منه القليل ولا الكثير ، كان ماله واسعاً أو غير واسع ، وقال ابن كنانة فيها : إن كان ليس له غير ذلك العبد الذي دبر لم يجز تدبيره ، وإن كان ماله واسعاً ليس ذلك العبد بالذي يجحف بماله كان ذلك له وجاز ، قال وإن دبر عبداً هو وجه رقيقه أو أكثرهم ثمناً أو جارية مرتفعة هل جل ماله فإن ذلك لا يجوز ، ولو كان ذلك جايزاً عليه كان إذا بلغ حال الرضى قد حبس عليه من ماله بما صنع في حال الشحطة مالاً يقدر أن ينتفع به إذا بلغ حال الرضى فليس يجوز له من ذلك إلا ما وصفنا .
وقول ابن القاسم هو القياس . وما ذهب إليه ابن كنانة استحسان وبالله التوفيق .
مسألة
قال أصبغ وسمعته يقول في الرجل يدبر عبده في الصحة ويستثني ماله : لا بأس بذلك ، وكذلك رويت عن مالك أن له أن يستثنيه ولا بأس بذلك ، وقاله أصبغ ، وتفسيره أن يستثنيه لبعد الموت إذا أعتق ليس استثناء انتزاع عن التدبير ، وبعده ذلك يكون له استثناه أو لم يستثنه ولكن لبعد الموت وهو مقر في يديه مع ما يفيد إلى ذلك على ذلك دبر واستثنى فذلك جايز وذلك له ، قال أصبغ : قال ابن القاسم : فإذا مات السيد قوم في الثلث بغير ماله ببدنه خالصاً وأخذ منه كل ما كان بيديه ، وكان مالاً من مال الميت تقوم فيه رقبته مع غيره من مال الميت ، وقاله أصبغ ك قال أصبغ : قال لي ابن القاسم : وهذا مما لا شك وإنما هو رجل أوصى فقال إذا مت فعبدي فلان حر وخذوا منه ماله ، ألا ترى لو أن مريضاً قال في مرضه غلامي مدبر وخذوا منه ماله أخذ منه ، فما استثنى في الصحة بمنزلة ما استثنى في المرض ، ولأنه حين اشترط ذلك عليه حين دبره

(15/196)


في الصحة وكأنه انتزاع منه له في موضع يجوز له فيه انتزاع .
قال محمد بن رشد : قد تقدمت هذه المسألة والكلام عليها في أول سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته .
مسألة
قال أصبغ سئل ابن القاسم عن مكاتب اشترى مدبرة فحملت منه .
قال : أرى أن يوقف عنها ، فإن أعتق المكاتب كانت أم ولد له ، وإن عجز ردت إلى التدبير ورد الثمن إلى صاحبه ، وكانت هي وولدها مدبرين لسيدهما ، وأرى الثمن يوقف إلا أن يكون البائع ملياً .
قال محمد بن رشد : هذا على القول بأن أمة المكاتب تكون أم ولد له إذا أفضى إلى الحرية بما ولدت له في حال الكتابة قبل إفضائه إلى الحرية أو بما حملت به منه في حال الكتابة فوضعته قبل إفضائه إلى الحرية وبعد إفضائه إلى الحرية وأما على القول بأنه لا حرمة بإيلاده إياها ولا تكون بشيء من ذلك كله أم ولد ، فإن البيع ينتقض فيها وترد إلى سيدها البائع لها على ما كانت عليه من التدبير .
وقد اختلف قول مالك في ذلك على ثلاثة أقوال أحدها أنه لا تكون له أم ولد بشيء من ذلك ، والثاني أنها تكون له أم ولد وإن كان الحمل قبل الشراء إذا كان الوضع بعده في حال الكتابة ، والثالث أنه لا تكون له أم ولد إلا أن يكون أصل الحمل بعد الشراء في حال الكتابة ، وأما ما ولد له قبل الشراء فلا تكون له أم ولد إلا على مذهب أبي حنيفة وبالله التوفيق .

(15/197)


مسألة
وسئل أشهب عن الرجل يهب مدبره جاهلاً ويقبضه الموهوب له ويحوزه ثم يموت السيد ولا مال له غيره .
قال : يعتق ثلثه ، قلت فالثلثان الباقيان لمن هما ؟ قال : للموهوب اللذان هما في يديه ، قال اصبغ : وكذلك قال لي ابن القاسم فيها .
قال محمد بن رشد : قد تقدم مثل هذا من قول ابن القاسم في رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب الصدقات والهبات في الصدقة ، ومعناه إذا لم يعثر على ذلك حتى مات المتصدق ، وأما لو عثر على ذلك في حياته لفسخت الهبة أو الصدقة ، ورد المدبر إلى الذي دبره ، لأن المدبر لا يجوز بيعه ولا هبته ولا صدقته .
ولو وهبه ما رق منه إن لم يحمله الثلث وخدمته من الآن فقبضه وجازه من الآن لجاز ذلك ولم يرد ، وكان للمتصدق عليه بعد موته ما رق منه ، لأن هبة المجهول جايزة كما يجوز رهنه لجواز رهن الغرر ويكون المرتهن إذا حازه أحق به من الغرماء بعد الموت يباع له دونهم على ما قاله في المدبر من المدونة ، والله الموفق .
مسألة
قال أصبغ سمعت ابن القاسم يقول في الذي يشتري المدبر وهو لا يعلم فيموت عنده إن مصيبته منه ولا يرجع على البائع بشيء لا بالثمن ولا بما بين القيمتين ، وكذلك قال مالك ، وقاله أصبغ وقاله ابن وهب عن مالك .
قال محمد بن رشد : لابن القاسم في سماع محمد ابن خالد من

(15/198)


كتاب الولاء أنه يرجع على البائع بما بين قيمته مدبراً وقيمته غير مدبر ، وهو الذي يأتي على أصله في المدونة ، لأنه قال فيها : إذا حدث عند المبتاع به عيب فرده وما نقص العيب عنده على حكم البيع المردود بالعيب خلاف ظاهر هذه الرواية قول ابن نافع واختيار محمد ابن خالد في سماعه فيما لم يعلم به من المال على القول بأن المدير في المرض يدخل فيما علم به الميت من المال وفيما لم يعلم ، ولا يكون له حكم التدبير في اللزوم له ، ويصدق إن رجع عنه في أنه أراد به الوصية ، وفي إعمال شهادة الشهود بما ظهر إليهم من قصد المشهود عليه اختلاف أعملها في هذه الرواية وفي رسم الطلاق من سماع أشهب من كتاب التخيير والتمليك ، ولم يعملها في رسم الكبش من سماع يحيى من كتاب الأيمان بالطلاق وبالله التوفيق .
ومن كتاب الوصايا
قال : وسئل ابن القاسم عن رجل دبر عبداً فأبق العبد ومات السيد وأوصى بوصايا .
قال : يوقف من الثلث قدر قيمته حتى ينظر في شأنه ، فإن مات في إباقه ذلك ردت تلك الدنانير على أصحاب الوصايا إن كان بقي لهم شيء أو الورثة .
قيل له : إلى متى يوقف ذلك ؟ قال : ينظر إلى قدر ما أتى عليه من السنين وما يعيش مثله ، قال اصبغ : مسألة جيدة دقيقة من المسائل في بعض وجوهها جامعة.
قال محمد بن رشد : قوله يوقف من الثلث قدر قيمته حتى ينظر في شأنه فيه نظر ، وإنما ينبغي أن ينظر ، فإن كان يخرج المدبر وجميع الوصايا

(15/199)


من الثلث بعد عتق المدبر ودفع إلى أهل الوصايا وصاياهم وأخذ الورثة بقية المال ولم يوقف شيء فإن كان المدبر حيا فقد أنفذت [ له ] الوصية وإن كان ميتاً فقد سقطت فيه الوصية ، والوصايا قد حملها الثلث فأنفذت وأما إن كان الثلث لا يحمل إلا الوصايا أو المدبر وتمثيل ذلك أن يكون الموصي قد ترك من المال مائتي دينار والمدبر الآبق وقيمته مائة دينار وأوصى بمائة دينار فإن كان المدبر حياً فقد عتقه وسقطت الوصايا لأن ثلث الميت قد استغرقه المدبر وكانت المائتان للورثة ميراثاً وإن كان المدبر ميتاً وجب لأهل الوصايا ثلث المائتين وذلك ستة وستون وثلثان ، لأن المدبر إذا مات فكأنه لم يكن ، فالواجب أن يوقف على هذا التنزيل ثلث المائتين ، فإن انكشف أن المدبر حي كان الثلث الموقف للورثة ، وإن كان ميتا كان لأهل الوصايا ، وأما قوله إنه يوقف قيمة المدبر فليس ببين ولا صحيح ، وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن مكاتب دبر عبداً له فعلم السيد بذلك فلم ينكر عليه حتى عجز .
قال : لا تدبير له إلا أن يكون أمره بتدبيره ، وليس السكوت والعلم شيئاً .
قال محمد بن رشد : اختلف في السكوت هل يعد إذناً في الشيء وإقراراً به أم لا ؟ على قولين مشهودين في المذهب منصوص عليهما لابن القاسم في غير ما وضع من كتابه أحدهما قوله في هذه الرواية وفي سماع عيسى من كتاب النكاح والصلح أنه ليس بإذن والثاني أنه إذن ، وهو قوله في رسم العرية من سماع عيسى من كتاب المديان والتفليس ، ورسم أسلم من سماع

(15/200)


عيسى من كتاب النكاح وأظهر القولين أنه ليس بإذن ، لأن في قول النبي عليه السلام والبكر تستأذن وإذنها صماتها دليلاً على أن غير البكر خلاف البكر في الصمت ، وقد أجمعوا على ذلك في النكاح ، فوجب أن يقاس ما عداه عليه إلا ما يعلم بمستقر العادة أن أحداً لا يسكت عليه إلا راضياً به ، فلا يختلف في أن السكوت عليه إقرار به كالذي يرى حمل امرأته فيسكت ولا ينكر ثم ينكره بعد ذلك وما أشبه ذلك ، وقد مضى هذا المعنى في المواضع المذكورة وفي غير ما موضع من كتابنا هذا وبالله التوفيق .
من سماع ابن زيد
ابن أبي الغمر من ابن القاسم
قال أبو زيد : وسئل ابن القاسم عن رجل دبر عبده فمات السيد فجهل الورثة فباعوه ثم مات في يد المشتري أو هو قائم بعينه وكان الذي اشتراه به غنماً فتوالدت وكثرت .
قال ابن القاسم : أما العبد فإن كان قائماً بعينه رد فإن كان للميت مال يعتق فيه أخرج في ثلثه عتيقاً ، وإن كان ليس له مال يخرج من ثلثه عتق منه ما حمل الثلث ورق ما بقي ، وكان المشتري بالخيار فيما رق منه إن شاء تمسك بمارق منه إن كان نصفه دفع إلى الورثة نصفه وأخذ نصف قيمة الغنم يوم قبضت منه ، وأما الغنم فهي للورثة ليس له منها شيء ، إنما يرجع عليهم بقيمتها يوم قبضت منه إن لم يخرج العبد كله كان بالخيار في ما بقي منه على ما بينت لك .
وإن مات العبد ولسيده أموال ، المذكور من كتاب الولاء أنه لا

(15/201)


يرجع على البائع بشيء ، فيحتمل أن يكون معنى قوله في هذه الرواية : وهو لا يعلم بأن بيع المدبر لا يجوز ، لا أنه لم يعلم أنه مدبر ، فلا يكون على هذا اختلاف من قول ابن القاسم في أن المبتاع يرجع على البائع ، وقد مضى في أول الرسم تحصيل القول فيما يلزم البائع في الثمن ، وقد كان القياس على المذهب إذا اشتراه وهو يعلم أنه مدبر ففات عنده بموت أن تكون عليه قيمته ، لأنه بيع فاسد لعقده فات الرد فيه بالموت على القول بأن البيع الفاسد لعقده إذا فات يرد إلى القيمة ولا يمضي بالثمن ، وإن حملت هذه الرواية على ظاهرها من أنه لا رجوع للمشتري على البائع بشيء إذا مات المدبر عنده وإن كان اشتراه وهو لا يعلم بتدبيره فيأتي مثل قول ابن نافع في كتاب الولاء وخلاف مذهبه في المدونة وخلاف ما في المدونة أيضاً في أن البائع يلزمه أن يتمخى مما أخذ زائداً على قيمته على الرجاء . والخوف ، لأنه إذا لم يجب للمبتاع عليه رجوع إذا دلس له بالتدبير فمات عنده لا يجب عليه هو أن يتمخى من شيء من الثمن ، وبالله التوفيق .
مسألة
قال أصبغ : سئل ابن القاسم عن المدبر في المرض أيدخل في المال الغائب الذي لم يعلم به الميت ؟
قال : نعم ، قلت فالعتق بتلا ؟ قال : لا .
قال محمد بن رشد : قوله إن المدبر في المرض يدخل فيما علم الميت من المال وفيما لم يعلم هو ظاهر ما في رسم جاع من سماع عيسى من

(15/202)


كتاب الديات ، ومثل نص قوله في المدنية من رواية عيسى عنه خلاف مذهبه في المدونة من أنه لا يدخل فيما لم يعلم به الميت من المال إلا المدبر في الصحة ، فعلى هذه الرواية إذا اجتمعا بدئ المدبر في المرض على المبتول فيه ، وقد قيل إنهما يتحاصان وقيل أيضاً إنه يبدأ المبتول في المرض ، فعلى هذا القول يدخل المبتول في المرض فيما لم يعلم به الميت من المال ، فإن اجتمعا جميعاً على القول بأنه لا يدخل المبتل في المرض في المال الذي لم يعلم به الميت وللميت مال قد علم به ومال لم يعلم به فثلث المال الذي علم به يقصر عن قيمتهما قوما جميعاً في ثلث المال الذي علم به ، ثم أكمل عتق المدبر منهما في ثلث المال الذي لم يعلم به أو ما حمل منه زائداً إلى ما أعتق منه مع المبتل في ثلث المال الذي علم به ، مثال ذلك أن يترك المتوفي ثلاثين ديناراً ومدبراً في المرض قيمته ثلاثون ديناراً أو مبتلاً فيه قيمته ثلاثون ديناراً أيضاً ويطرأ له ثلاثون ديناراً لم يعلم بها الميت ، فجميع مال الميت الذي علم به على هذا تسعون ، الثلث من ذلك ثلاثون فيعتق من كل واحد منهما نصفه بخمسة عشر ، ثم يرجع المدبر فيقول لي ثلث الثلاثين التي طرأت للميت ، فيعتق منه بعشرة زائداً إلى ما أعتق منه مع المبتل ، فيكمل فيه من الحرية خمسة أسداسه .
ولو كان المال الذي طرأ للميت خمسة وأربعون فأكثر لعتق باقيه في ثلث ذلك ، ولو كان المال الذي علم به الميت ستين ، والمال الذي طرأ له ثلاثون لعتق من كل واحد منهما في ثلث ما علم به الميت من المال ثلثاه ، لأن جميع المال الذي علم به الميت مع قيمة المدبرين مائة وعشرون ، الثلث من ذلك أربعون ، فيعتق من كل واحد منهما بعشرين ، ثم يرجع المدبر فيستتم باقيه في ثلث المال الطارئ وبالله التوفيق .

(15/203)


ومن كتاب الوصايا
قال ابن القاسم في رجل قال في مرضه : إن مت من مرضي هذا فغلامي مدبر .
قال : إن مات فيه فهي وصية وليس تدبيراً وإن عاش فهو أيضاً وصية يصنع بها ما شاء إلا أن يكون أراد بذلك تدبيراً واجباً ساعته مثل أن يكون تعمد التدبير عند الوصية وأخطأ وجه الكتاب ساعته مثل أن يكون تعمد التدبير عند الوصية وأخطأ وجه الكتاب والوصية فظن أن ذلك وجه الصواب والمأخذ وأنه التدبير ، قال أصبغ : فهو تدبير حينئذ ، أو يرى الشهود أنه إنما أراد التدبير ويقطعون ذلك فيما يرون ، أو يوقف قبل موته ويسئل عن ذلك فيذكر أنه اراد التدبير ، والقول قوله لما يذكر من إرادته .
قال محمد بن رشد : قوله إن مات فهي وصية يريد أن له حكم الوصايا في التبدئة وفيما لا يدخل فيما لم يعلم به من المال ، وفي أن له أن يرجع عنه في مرضه ذلك إن شاء .
وقوله إن عاش فهي وصية يريد إن كان كتب ذلك في كتاب ووضعه عند غيره أو أبقاه عند نفسه على اختلاف قول مالك في ذلك ، وأما إن لم يكتب ذلك في الكتاب فالوصية باطلة إن لم يمت من مرضه ذلك حسبما مضى من تحصيل ذلك في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الوصايا ، وقد قيل إنه تدبير لازم لا رجوع له ، حكى ذلك ابن المواز عن ابن القاسم ، ومثله في كتاب ابن سحنون لابن القاسم ولابن كنانة ، وقال أصبغ : إن أراد به التدبير مثل قوله بلفظ التدبير وعلقه بموته من مرضه ذلك .

(15/204)


والذي أقول به في هذا أنه إن مات من مرضه ذلك كان مدبراً على ما قال ، يكون له حكم التدبير من التبدئة والدخول مأمونة من دور وأرضين فهو حر ويلزمه رد قيمة الغنم إلى المشتري ، وإن كان لا يخرج إلا بعضه رد بقدر ما يخرج منه ، وما بقي كانت مصيبته من المشتري ، وإن كان موته بعد زمان واقتسمت الأموال على أمانة لو كان بأيديهم كان حراً رأيت للمشتري أن يرجع فيما يأخذ قيمة الغنم من الورثة وتكون مصيبته منهم .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة بينة صحيحة على ما قال ، لأن العتق قد وجب للمدبر بموت سيده إن حمله الثلث أو ما حمل منه ، فإذا باعه الورثة وعثر عليه قبل أن يموت وجب أن يرد ويعتق في ثلث الميت إن حمله الثلث ، ويأخذ المبتاع غنمه إن كانت قائمة أو قيمتها إن كانت قد فاتت ، والولادة فيها فوت لأنها تفوت في هذا بما يفوت به البيع الفاسد من حوالة الأسواق فما فوق ذل ، وإن لم يحمل الثلث عتق منه ما حمل الثلث ورجع بقدر ذلك من قيمة الغنم إن كانت فاتت ، وكان بالخيار فيما رق منه إن شاء تمسك به وإن شاء رده ورجع بجميع قيمة الغنم يوم وقع البيع فيها .
وإن مات العبد عند المشتري ولسيده أموال مأمونة كانت مصيبته من الورثة ، ورجع المشتري عليهم بجميع قيمة الغنم لفواتها بالولادة ، لأن الحرية تجب له بموت سيده إن كانت له أموال مأمونة ، وإن لم تكن له أموال مأمونة وكان موته بحدثان بيعه قبل النظر في مال الميت فمصيبته من المشتري وينفذ بيعه ، قال ابن المواز ، وهو مفسر لقول ابن القاسم ، وإن كان موته بعد طول فمصيبته من الورثة إن علم أنه كان يخرج من الثلث ويرجع المبتاع عليهم بجميع قيمة الغنم ، وإن علم أنه كان لا يخرج منه في الثلث إلا بعضه رجع على الورثة من قيمة الغنم بقدر ما كان يحمل الثلث منه ، وكانت مصيبته باقية من المبتاع ، هذا معنى قول ابن القاسم في هذه الرواية ، وبالله التوفيق .

(15/205)


مسألة
وسئل عن رجل قال في مرضه جاريتي مدبرة عن ولدي إن حدث بي حدث فصح .
قال فلا شيء عليه ، ولا تكون مدبرة عن ولده ، ولو قال في مرضه جاريتي مدبرة ولم يستثن شيئاً ولم يقل إن مات من مرضه إلا قال مدبر قط قال فهي مدبر وإن صح من مرضه ذلك .
قال محمد بن رشد : أما الذي قال في مرضه جاريتي حره إن حدث بي حدث فصح من مرضه فبين أنه لا شيء عليه كما قال ، لأنها وصية بتقييده إياها بذلك المرض ، فيبطل إذا صح منه إلا أن يكون كتب بذلك كتاباً ووضعه عند غيره أو أمسكه عند نفسه على اختلاف في ذلك حسبما بيناه في رسم الوصايا من سماع أصبغ قبل هذا ، وسواء قال في ذلك عن ولده أو لم يقل ، الأمر في ذلك سواء إذا صح من مرضه ذلك ، وإنما يفترق ذلك إن مات منه ، فإن لم يقل عن ولدي أعتق بعد موته من ثلثه ، قيل على حكم الوصية ، وقيل على حكم التدبير حسبما مضى من الاختلاف في ذلك في رسم الوصايا من سماع أصبغ ، وإن قال عن ولدي فقيل تعتق بموته من ثلثه ، وقيل تعتق بموت أبنه من رأس المال ، والولاء للابن على كل حال حسبما مضى بيانه في رسم المحرم من سماع ابن القاسم وبالله التوفيق .
مسألة
وقال في رجل قال لغلامه أنت مدبر عن أبي فإنه سواء كان أبوه حياً أو قد مات أبوه حين قال ذلك لا يعتق إلا بعد موت سيده الذي دبره عن أبيه ولا يعتق عند موت أبيه إلا أن يقول العبد عن دبر من

(15/206)


أبي ، فإن كان أبوه قد مات كان حراً الساعة قال وإن كان أبوه حياً فإنما يعتق إذا مات أبوه ، وولاؤه لأبيه .
قال محمد بن رشد : قول ابن القاسم في هذه الرواية خلاف ما تقدم من قوله في رسم المحرم من سماع ابن القاسم ، وقد مضى الكلام على ذلك هنالك وبالله التوفيق لا يشريك له .
تم كتاب المدبر بحمد الله تعالى وحسن عونه

(15/207)