البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة

كتاب العارية
من سماع ابن القاسم من مالك
قال سحنون : أخبرني ابن القاسم عن مالك فيمن استعار دابة إلى بلد فاختلفا ، فقال أعرتنيها إلى بلد كذا وكذا وقال المعير بل أعرتك إلى بلد كذا وكذا ، فإن كان يشبه ما قال المستعير فعليه اليمين ، قال ابن القاسم : وذلك إذا ركب المستعير ورجع فالقول قوله ، ولعل الدابة تعتل ويطلب منه كراء ما زاد ، فإذا كان يشبه ما قال المستعير فالقول قوله مع يمينه ، وإذا لم يركبها فالقول قول صاحب الدابة ، وإنما ذلك بمنزلة رجل أخدم رجلاً خادماً أو اسكنه منزلاً فسكن الرجل الدار واختدم العبد سنة ، فقال المخدم أخدمتني سنة وأسكنتني سني وقد انقضت السنة فالقول قول المخدم إذا جاء بما يشبه إن قال الآخر أخدمتك أو أسكنتك ستة أشهر لم يقبل قوله ، وهو مدعي إلا أن يأتي المخدم أو المسكن بما لا يشبه ، ولو كان لم يقبض المسكن أو المخدم ما أعطي كان القول قول صاحب العبد أو المسكن ، هذا يبين لك العارية .
قال محمد بن رشد : لا اختلاف بينهم في أن القول قول المعير إذا اختلفا في العارية إلى أي بلد أعاره إياها قبل الركوب أو بعد وصوله إلى البلد

(15/315)


الذي أقربه المعير ، فتفسير ابن القاسم لقول مالك في قوله إن القول قول المستعير إذا كان كان يشبه وعليه اليمين بقوله : وذلك إذا ركب المستعير ورجع صحيح ، ومثله في المدونة من رواية عبد الرحمن عن مالك ، وفي الدمياطية لابن القاسم خلافه أن القول المعير إذا اختلفا بعد الرجوع ، بخلاف إذا كان معه في سفره فاختلفا بعد الرجوع ، ونص الرواية قال : وسئل ابن القاسم عن رجل استعار ثوباً فحبسه عن صاحبه شهراً أو شهرين فجاء به وقد تغير ، وقال صاحبه إنما أعرتك اليوم واليومين ، وقال المستعير إنما استعرته منك إلى أن أقدم من سفري واتجمل به حتى اكتسي ، قال : أرى إن كان حاضرا وهو معه لا يسأله عنه فالقول قول المستعير ويحلف ، وأما السفر فإني أراه متعدياً إذا حلف صاحب الثوب إلا أن يكون للمستعير بينة على ما قال ، فالخلاف في المسألة إنما هو إذا غاب المستعير عن المعير بالدابة أو الثوب فلما رجع قال له المعير قد تعديت في وصولك بالدابة إلى حيث وصلت بها ، أو في إمساكك الثوب عني طول هذه المدة إذ لم أعرك الدابة إلا إلى بلد كذا أو ا لثوب إلا إلى مدة ذا ، فوجه قول مالك أن المعير لما أسلم الدابة أو الثوب إلى المستعير فقد ائتمنه وصار مدعيا عليه في تضمينه الدابة إن كانت تغيرت أو تلفت في المسافة التي يدعي أنه لم يأذن له فيها أو في تضمينه الكراء فيها إن كانت على حالها ، وهو الذي اعتل به ابن القاسم بقوله في الرواية وذلك لعل الدابة تعتل يريد فيكون مدعيا عليه في تضمين قيمتها أو لا تعتل فيكون مدعيا في طلب كراء ما زاد ، وقد أحكمت السنة أن البينة على من أدعى واليمين على من أنكر ، فوجب أن يكون القول قول المستعير إذا أشبه ما أدعاه .
ووجه قول ابن القاسم في الذمياطية أن الأصل قد حصل في أنه لا يؤاخذ أحد بأكثر مما يقر به على نفسه ، والمستعير مدع على المعير في المسافة التي لم يقر أنه أعاره إليها ، ولا دليل له على دعواه لكونه غائباً عنه ، بخلاف إذا كان حاضراً معه لأن في سكوته على طلب دابته منه عند انقضاء المسافة الأولى دليل على أنه أعاره إياها إلى الثانية ، وكذلك الثوب ، فقوله

(15/316)


في الرواية : وإنما ذلك بمنزلة رجل أخدم رجلاً خادماً أو أسكنه منزلاً إلى آخر قوله لا يلزم المخالف ، وهو قول ابن القاسم في رواية الذمياطي عنه ، لأن الذي يأتي على قياس قوله في الرواية أن يكون القول في الإخدام والإسكان قول رب الخادم ورب المسكن في المدة التي أخدمه إليها وأسكنه إليها إذا كان غائباً عنه ولم يكن حاضراً معه ، فيكون سكوته عن طلب خادمه ومسكنه عند انقضاء المدة التي أقر أنه أخدمه وأسكنه إليها دليلاً على دعوى المخدم أو المسكن ، فوجب أن يكون القول قوله إذا أدعى من ذلك لما يشبه وبالله التوفيق .
ومن كتاب طلق بن حبيب
وسئل عن الرجل يسأل الرجل أن يهبه الذهب فيقول نعم ، فيبدو له أن لا يفعل أفترى ذلك يلزمه ؟ قال : أما إن قال أنا أفعل أو أنا فاعل فما أرى ذلك يلزمه ، ومن ذلك وجوه لو كان في قضاء دين فسأله فقال نعم ورجال شهود عليه فما أحراه أن يلزمه ، والشهادة في ذلك أبين وما أحق إيجابه ، قال ابن القاسم : إذا اقتعد الغرماء على موعد منه أو أشهد بإيجاب ذلك على نفسه أن يقول أشهدكم أني قد فعلت ، فهذا الذي يلزمه ، فأما أن يقول له نعم أنا أفعل ثم يبدو له فلا أرى ذلك عليه .
قال محمد بن رشد : اختلف في العدة هل يلزم القضاء بها أم لا على أربعة أقوال ؟ أحدها أنه يلزم القضاء بها وإن لم يكن على سبب ، روى عن عمر ابن عبد العزيز أنه قضى بها على ما وقع في كتاب العدة على ظاهر قول النبي عليه السلام : وأي المؤمن واجب ، وهذا لا حجة فيه ، لأن

(15/317)


الحديث ليس على ظاهره في الوجوب ، لأن معناه واجب في مكارم الأخلاف ومحاسنها ، بدليل تخصيصه المؤمن لأنه لما لم يعم فيقول الوأي واجب علم أنه اراد بعض المؤمنين وهم الممدوح إيمانهم ، فدل ذلك على الندب إذا لم يعلم به جميع المؤمنين كقول الله تعالى في المتعة { حقا على المتقين } ، { حقا على المحسنين } والثاني أنه يقضي به إن كان علي سبب وإن لم يدخل بسبب عدته في السبب ، وهو قول أصبغ في كتاب العدة ، وقول مالك في هذه الرواية نحوه ، لأنه قال فيها ولو كان في قضاء دين فسأله فقال نعم ورجال شهود عليه فما أحراه أن يلزمه ولم يحقق إيجابه ، لأن قوله أنا أقضي عنك دينك ، وأنا أسلفك لتقضي دينك ، أو أهبك لتقضي دينك عدة بسبب ، فهي كالعدة على سبب ، إذ لا فرق بين أن يسأله أن يسلفه أو يهبه ليقضي دينه فيقول له نعم أن أفعل ، وبين أن يقول له ابتداء من غير أن يسأله أنا أسلفك أو أهبك لتقضي دينك أو أنا أقضي عنك دينك وقوله أنا أسلفك أو أنا أسلفك عدة على غير سبب ، ففرق مالك بين الوجهين .
ومعنى قوله ورجال شهود عليه أي ورجال حضور شهدوا عليه قوله من غير أن يشهدهم على نفسه .
وقوله والشهادة في ذلك أبين وما أحقق إيجابه ، معناه إذا قال نعم أشهدكم أني أفعل أو أني فاعل وأما لو قال أشهدكم أني قد فعلت لما وقف عن التحقيق في إيجابه عليه ، ولزم القضاء به عليه كما قال ابن القاسم والثالث أنه لا يقضي بها وإن كانت على سبب إلا أن يدخل من أجل عدته في السبب ، وهو معنى قول ابن القاسم في هذه الرواية : إنما اقتعد الغرماء منه على موعد

(15/318)


أن ذلك يلزمه بمنزلة إشهاده بإيجاب ذلك على نفسه ، لأنهم تركوا بوعده إياهم التوثق من غريمهم فاضرب بهم عدته إن أخلفهم فيها ، وهو قول سحنون في كتاب العدة : إن العدة لا تلزم إلا أن يكون على سبب فيدخل من أجل عدته في السبب ، مثل أن يقول الرجل للرجل إفعل كذا وكذا وأنا أسلفك فيفعله ، فقول الرجل للذي عليه الدين أنا أقضي عنك الدين الذي عليك يفترق عند ابن القاسم من قوله للذي عليه الدين أنا أقضيك الدين الذي لك ، لا يلزمه في الأول ويلزمه في الثاني على ما بيناه ، والرابع أن العدة لا تلزم ولا يقضي بها وإن كانت على سبب ودخل في السبب ، وهو الذي يأتي على ما روي ابن نافع عن أشهب عن مالك في أول سماع أشهب بعد هذا ، لأنه غره بما وعده فترك أن يحتال لنفسه بما يبريه من سلف أو غيره ، فكان بمنزلة من قال لرجل تزوج وأنا أنفق عنك أو تزوج وأنا أسلفك فتزوج فأبى أن يسلفه ، فقول ابن القاسم في هذه الرواية خلاف قول مالك فيها على ما تأولناه ، لأنه لم ير العدة تلزم بالسبب حتى يدخل فيه ، ورآها مالك لازمة بالسبب وإن لم تدخل فيه ولم يرها في رواية أشهب لازمة بحال وإن دخل بالسبب وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله اغتسل على غير نية
وقال مالك في أمة أتت إلى جارة لها بقلادة استعارتها لها ، فأنكرت حين جاءتها بها فقالت ما حملك على أن استعرتها لي ؟ وأنكرت ذلك وشهد عليها ناس فقبلتها منها لتردها على التي استعارتها منها ، فاغتلت القلادة عندها قبل أن تردها ، قال مالك : أرى أن تغرمها حين قبلتها ، فلو شاءت لم تقبلها ، قيل له : إن التي هي لها تزعم أنها ثمن خمسة عشر ديناراً ، وقالت التي قبلتها : ما ثمنها إلا ستة دنانير ، قال : أرى أن تصفها التي قبلتها ثم تحلف على صفتها ثم تقوم على ذلك ، ثم يلزمها غرم ما قومت به .

(15/319)


قال محمد بن رشد : إنما وجب أن تغرمها إذا قبلتها فاغتلت منها قبل أن تردها لأنها لما قبلتها فقد صدقتها في أنها استعارتها لها ولو أقرت المستعيرة أنها لم تأذن لها في استعارتها لها لوجب أن يكون الضمان منها ، لأنها كانت تكون كالرسول لها على ردها وقوله إن الغارمة لها هي التي يكون القول قولها في قيمتها وتحلف على صفتها صحيح ، لأنها هي المدعي عليها وبالله التوفيق .
مسألة
وقال في الرجل يسأله الرجل الشيء يعطيه إياه ويذكر له حاجته ويقول ائتني غداً ، فيأتي بشيء يعطيه إياه ولا يجده ، فقال مالك ما أراد بذلك ؟ فقيل أراده لله ، قال : فلينفذ ذلك لله على غيره ، قيل له : فإن لقيه بعض إخوانه وأقاربه فسأله أن يوصله فوعده فذهب فلم يلقه ؟ فقال : إن أحب أن ينفذه على مثل ذلك ، فإن أبى فلست أراه عليه بواجب .
قال مالك في السائل يقف عند الباب فيأمر الرجل جاريته تعطيه شيئاً فتجده قد ذهب ، فقال مالك أرى أن تعطيه غيره من المساكين ، وما أراه عليه بواجب .
قال محمد ابن رشد : ذكر ابن أبي زيد مسألة السائل يقف بالباب هذه في النوادر ، ووصل بها قال ومن خرج إلى مسكين بشيء فلم يقبله فليعطه غيره ، وهو أشد من الأول وليس بينهما فرق بين ، والمعنى الذي ذهب إليه ابن أبي زيد في الفرق بينهما والله أعلم هو أنه لما وجده فأبى أن يقبلها وقد كان له أن يقبلها فردها أشبه عنده بردها إليه بعد قبوله إياها ، ولعله إنما ردها إليه ليعطيها لغيره ، مثل أن يقول له أنا لا حاجة لي بها فادفعها لغيري فيكون ذلك قبولاً منه لها ، ويكون بذلك راجعاً في صدقته ، والاختيار في هذه

(15/320)


المسائل كلها أن ينفذ ذلك على غير الذي قصده بصدقته من غير وجوب ، وأخفها الرجل يلقاه بعض إخوانه أو أقاربه فيسأله أن يصله ، وتليها الرجل الأجنبي يلقاه الرجل فيذكر له حاجته فيعده أن يعطيه ، وتليها الرجل يأمر بالشيء للسائل يسمعه فيوجد قد ذهب ، وتليها أن يوجد فلا يقبل وهو أشهدها على ما وقع في النوادر ، وهذا إذا لم تكن له نية إن لم يجده في أن يصرفه إلى ملكه أو يبتله لغيره ، وأما إن كانت له نية فله نيته وبالله التوفيق .
ومن كتاب باع غلاماً
وسئل عمن استعار ثوباً يوماً أو يومين أو أياماً مسماة ثم تعدى فلبسه أكثر مما استعاره ، قال : يلزمه ما نقص من قيمتها بعد الأيام التي استعار إليها وإن كان قد أخلقه رده وما نقص من ثمنه بعد تلك الأيام التي استعاره إليها .
قال محمد بن رشد : المعروف من قوله أن صاحب الثوب مخير إذا أخلقه إن شاء أخذ ثوبه وما نقصه اللباس ، وإن شاء أخذ قيمته يوم تعدى عليه ، وقال أشهب إنما هو مخير بين أخذ ثوبه ولا شيء له غيره ، أو يأخذ قيمته يوم تعدى عليه ، وقد روى عن ابن القاسم مثل قول أشهب ، والقولان قائمان من المدونة ، وما ها هنا أيضاً يقوم من قوله في المدونة : وقد كان مالك يقول يغرم ما نقص ولا يفرق بين قليل من كثير ، فهي ثلاثة أقوال في الفساد الكثير ، ولا اختلاف في الفساد اليسير أنه ليس عليه إلا ما نقصه بعد الرفق وبالله التوفيق .

(15/321)


من سماع أشهب وابن نافع من مالك
قال سحنون : قال لي أشهب وابن نافع : سئل مالك عمن حلف لرجل له عليه حق ليوفينه إلى أجل فلما خشي الحنث ذكر ذلك لرجل فقال له لا تخف ائتني العشية أعطيكها فلما كان العشي جاءه فأبى أن يعطيه شيئاً ، فقال له : غررتني حتى خفت أن تدخل على الطلاق ، أتراه له لازماً أن يسلفه ؟ فقال : والله ما أرى ذلك لازماً له ، قال له أنا أسلفك فلم يسلف ، أنا أعيرك دابتي فلم يعره ، أنا أهب لك فلم يهبه ، ما أرى له عليه شيئاً ولا أدري كيف هو في ذلك بينه وبين الله ، وما هذا من مكارم الأخلاف ولا محاسنها .
قال محمد بن رشد : قد قيل إنه يلزمه ، وهو أظهر ، لأنه غره ومنعه أن يحتال لنفسه بما يبريه من سلف أو غيره ، وقد مضى تحصيل الاختلاف في هذه المسألة في رسم طلق من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته .
ومن كتاب الأقضية
وسئل مالك أترى من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ضرر ولا ضرار أن يستأذن الرجل جاره في خشبة يغرزها في جداره فيأذن له ثم يغضبه فيريد أن ينزعها ، فقال : إن كان أذن له فما أرى له أن ينزعها على وجه الضرر ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا ضرر ولا ضرار ، فهذا منه ، فأما إن كان احتاج إلى جداره لأمر لم يرد به الغرز رأيت ذلك للرجل أن يبني في جداره ويرفعه ما بداله وإن كان في ذلك مضرة على جيرانه ، لأن الرجل يعمل في حقه ما أحب .

(15/322)


فقيل له أرأيت إن كان أراد البيع فجاءه فقال إني أريد البيع واريد أن تنتزع خشبتك والمشتري ينزع هذه الخشبة ، تزيدني خمسين ديناراً ، فقال : تبيعها على حالها وفيها الخشب ، أرأيت إن كان المشتري عدوا له فأراد الإضرار به ما زاد ذلك له ؟ قلت أرأيت إن عرف صحة ذلك قال ما أراه ذلك له .
قال محمد بن رشد : قد مضى القول في هذه المسألة في رسم صلى نهاراً من سماع ابن القاسم من كتاب الأقضية مستوفى فلا معنى لإعادته .
من كتاب الأقضية الثاني
وسئل عمن أرفق رجلاً مرفقاً ثم بدأ له أن ينتزعه ، فقال : أما أنا فأرى أنه إن كان إنما أراد ذلك لحاجته إليه فأرى ذلك له إن اراد أن يرفع جداره ويكون ذلك أضر به ، فأما أن يكون على وجه الضرر له والشنئان فلا أرى ذلك له ، فقلت له : أذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا ضرر ولا ضرار ؟ فقال : إنا نقول ليس له أن يفعله على وجه الضرر .
قال محمد بن رشد : وهذه المسألة من معنى المسألة المتقدمة في الرسم الذي قبله ، وقد مضى القول عليه في سماع ابن القاسم من كتاب الأقضية مستوعباً حسبما ذكرناه فلا وجه لإعادته .
ومن كتاب فيه الوصايا والحج
قال أشهب : وسمعت مالكاً يسأل عن رجل قال لبيعه بع ولا

(15/323)


نقصان عليك ، ثم رجع عن ذلك فقال لو قال له قولاً غارماً بينا ثم رجع لم أر ذلك له ، ورأيته لازماً له فقال له : أرأيت الذي يقول بعد إيجاب البيع بع ولا نقصان عليك ، فيبيع ثم يدعي أن قد نص ، قال : يصدق فيما يشبه وعليه اليمين .
قال وسمعته أيضاً يسأل عن المبتاع يقال له بع ولا وضيعة عليك ، ثم يقول وضعت كذا وكذا أيصدق ؟ قال : نعم إذا جاء بما يشبه .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال إنه إذا قال له بعد البيع بع ولا نقصان عليك يلزمه ، لأن معنى قوله بع ولا نقصان عليك ، أن بع والنقصان علي ، فهو أمر قد أوجبه على نفسه ، والمعروف على مذهب مالك وجميع أصحابه لازم لمن أوجبه على نفسه ، يحكم به عليه ما لم يمت أو يفلس ، وسواء قال له ذلك قبل أن ينتقد أنقدني وبع ولا نقصان عليك ، فلا يجوز ذلك لأنه قد دخله بيع وسلف ، وقال في سماع عيسى من كتاب العدة : إنه لا خير في ذلك لأنه يكون فيه عيوب وخصومات فإن باع بنقصان لزمه أن يرد عليه النقصان إن كان قد انتقد وألا يأخذ منه أكثر مما باع به إن كان لم ينتقد ، وهذا إذا لم يغبن في البيع غبناً بيناً وباع بالقرب ولم يؤخر حتى تحول الأسواق ، فإن أخر حتى حالت الأسواق فلا شيء له لأنه فرط ، والقول قوله مع يمينه في النقصان إذا أتى بما يشبه كما قال ، لأنه قد ائتمنه على ذلك ، فوجب أن يصدق إلا أن يأتي بما يستنكر .
واختلف إذا كان عبداً فأبق أو مات ، فقيل له إنه لا شيء له ، وقيل إنه موضوع عنه ، وهو اختيار ابن القاسم في سماع عيسى من الكتاب المذكور ، قال فيه : وأما إن كان ثوباً أو ما يغلب عليه فلا يصدق في تلفه إلا ببينة ، ولا يحل للمشتري أن يطأها إن كانت أمة إذا رضي بالشرط وقبله ، قال ابن

(15/324)


القاسم : فإن وطئ لزمته الجارية بجميع الثمن ، ولا يعدي على البائع بشي ء، لأنه لما وطئ فقد ترك ما جعل له ، وأما إذا باع منه على أن لا نقصان عليه فلا يجوز ، واختلف إذا وقع ، فقيل إنه بيع فاسد ويحكم له بحكم البيع الفاسد ، وقيل إنه ليس ببيع فاسد وإنما هي إجارة فاسدة ، وسيأتي القول على هذا في موضعه من كتاب العدة إن شاء الله تعالى .
من سماع عيسى ابن دينار من ابن القاسم
وقال في رجل دفع إلى رجل حماراً ليحج عليه فتعدى عليه الحاج فباعه بعشرة دنانير ، ثم وجده الحاج بعد ذلك يباع فابتاعه بخمسة دنانير : إن صاحب الحمار بالخيار إن شاء يأخذ حماره وخمسة دنانير ، وإنشاء ضمنه العشرة وترك الحمار .
قال محمد بن رشد : قال إنه إذا باع الحمار بعشرة دنانير ثم اشتراه بخمسة إن صاحبه بالخيار بين أن يأخذ حماره والخمسة ، وبين أن يضمنه العشرة ويترك له الحمار ، ولم يفرق بين أن يكون اشترى الحمار بخمسة لنفسه أو لربه ، وكذلك روى ابن أبي جعفر الذمياطي عن ابن القاسم في رجل اغتصب حماراً فباعه بعشرين ثم اشتراه بعشرة فاستحقه صاحبه وهو عند غاصبه على حاله لم يتغير ، قال هو مخير إن شاء أخذ حماره والعشرة التي يفضلها ، وإن شاء تركه وألزمه العشرين التي كان باعه بها ، ولم يفرق أيضا بين أن يكون اشترى الحمار بعشرة لنفسه أو لرب الحمار ، ولا يصح أن يحمل الكلام على ظاهره في واحدة من المسألتين ، بل يفسر بما قاله محمد ابن المواز ، وذلك أنه حكى المسألة الأولى على نصها فقال : وهذا إذا اشتراه لربه ، وأما لنفسه أو لمن يأمره بشرائه فالخمسة له ، وليس لرب الحمار إلا لرضي بالبيع الأول ويأخذ عشرة أو يأخذ حماره فقط .

(15/325)


قال محمد بن رشد : قال أبو اسحاق التونسي : فإن أخذ حماره رجعت الخمسة إلى مشترية أولا بعشرة ، لأن رب الحمار إذا أخذ حماره بالاستحقاق انتفضت البيعتان جميعاً ، وكان المشتري الأول قد أخرج عشرة رجع إليه منها خمسة وبقي له خمسة فرجع بها على البائع منه ، وهو المستعير تمام العشرة التي دفع إليه وقول أبي إسحاق صحيح مفسر لكلام ابن المواز ألا ترى أنه لو باعه المستعير بعشرة ، ثم باعه مبتاع بعشرة من آخر بخمسة فجاء صاحبه فأخذه من يد الثاني لرجع الثاني على الأول بالخمسة التي دفع إليه ، والأول على المستعير البائع منه بالعشرة التي دفع إليه ، وهو دليل ما في سماع سحنون بعد هذا أنه إنما اشتراه لربه ، ولو باع الحمار بعشرة ثم اشتراه بخمسة عشر كان صاحب الحمار بالخيار إن شاء أن يأخذ حماره أخذه ، وإن شاء أن يجيز البيع الثاني فيأخذ الخمسة عشر من البائع الثاني الذي قبضها ، وإن شاء أن يجيز البيع الأول فيأخذ العشرة من البائع الأول الذي قبضها وهو المستعير ن فإن أخذ حماره انتقضت البيعتان جميعاً ورجع المبتاع الثاني المأخوذ من يده الحمار على البائع منه وهو المبتاع الأول بالخمسة عشر التي دفع إليه ، ويرجع هو عليه بالعشرة التي باع الحمار بها منه ولا يقاصه بها من الخمسة عشر فيرجع عليه بخمسة لا أكثر ، وإن أجاز البيع الثاني فأخذ الخمسة عشر من البائع الثاني الذي قبضها صح البيع الثاني وانتقض البيع الأول ، ورجع البائع الذي قبض صاحب الحمار منه الخمسة عشر على بائعه وهو المشتري الثاني الذي بقي الحمار بيده بالعشرة التي دفع إليه ، وإن أجاز البيع الأول وأخذ العشرة من البائع الأول وهو المستعير للحمار المشتري الثاني بقي الحمار بيده ، وصحت البيعتان جميعاً ولم يكن بينهما تراجع ، وقد رأيت لابن دحون في هذه المسألة كلاماً لا يصح قال إنه أن أخذ الخمسة عشر صح البيع الأول وبقي الحمار للمشتري الأول ، وإن أخذ العشرة بطل البيع الأول والثاني وبقي الحمار للمستعير بالعشرة .
والصواب ما ذكرناه أنه إن أخذ الخمسة عشر صح البيع الثاني ،

(15/326)


وانتقض البيع الأول وإن أخذ العشرة صحت البيعتان جميعاً وبقي الخيار في الوجهين جميعاً للمشتري الثاني والمستعير للحمار ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب إن خرجت من هذه الدار
وسئل عن امرأة أعارت أخرى حجلة لها ولم تشهد على ذلك إلا امرأتان ، فتزوجت المستعيرة ، ودخلت المعيرة إلى الريف وأقامت عشر سنين وماتت المستعيرة فأتت المعيرة تطلب الحجلة وأنكر ورثة المستعيرة فشهدت المرأتان بالعارية وقد غابت الحجلة ، قال ابن القاسم تحلف المرأة مع شهادة المرأتين بالله الذي لا إله إلا هو ما قبضتها بعد عاريتها ولا باعت ولا وهبت ، وتستحق ذلك في مال المتوفاة .
قال محمد بن رشد : قوله إن المعيرة تحلف مع شهادة المرأتين بالله الذي لا إله إلا هو ما قبضتها بعد عاريتها ولا باعت ولا وهبت معناه بعد يمينها مع شهادتها لقد أعارتها إياها ، وهذا ما لا خفاء به ، وإنما سكت عنه بالعلم به ، إذ لا يخفي بأنها لا تستحق العارية بشهادة المرأتين دون يمين ، فأراد أنها لا تكفي بحلفها مع شهادة المرأتين أنها أعارتها دون أن تحلف أيضاً على صفتها ، فيكون في مال المتوفاة ما قومت به الصفة التي حلفت عليها وبالله التوفيق .
مسألة
وقال إذا هلكت العارية عند المستعيرة وصفتها وحلفت على الصفة إذا كانت العارية مما يغاب عليها ، فإن نكلت عن اليمين

(15/327)


وصفتها المعيرة وحلفت على الصفة وتستحق حقها ، وذلك إذا لم يكن على صفتها شهود .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال ، وهو مما لا اختلاف أعلمه فيه في المذهب ، لأن لمستعيرة غارمة لما تغيب عليها من المتاع ، فالقول قولها في صفة ذلك على ما أحكمته السنة من أن البينة على من أدعى واليمين على من أنكر .
ومن كتاب البراءة
وسألته عن الخادم أو الحرة تأتي قوماً فتستعير منهم حلياً وتزعم أن أهلها بعثوها فيعيرونها فيهلك الحلي منها فيجحد أهلها ويقرون أنهم بعثوها وقد هلك منها المتاع قبل أن تخلص إليهم أو يأتي الرجل الرجل فيقول إن فلاناً بعثني إليك لتعيره شيئاً من متاعك أو تبتاع له بدين ، قال إن صقوه الذين بعثوه فهم ضامنون والرسول بري ، وإن جحدوا وحلفوا ما بعثوه حلف الرسول بالله لقد بعثوه ولا شيء على كل واحد منهم ، لأن الذين بعثوه لم يقروا له بشيء وإن الرسول قد صدقه الذين أعطوه بما جاء به من الرسالة ، فليس عليهم أكثر من يمينهم بالله ما بعثوه ، وإن أقر الرسول بأنه تعدى وكان حراً ضمن ، وإن كان عبداً كان في ذمته إن أعتق يوماً ما أو أفاد مالاً ولم يكن في رفقته شيء ، قال ولو زعم الرسول أنه قد أوصله إلى الذين بعثوه وجحدوه لم يكن عليهم ولا عليه إلا اليمين ويبروا .
قال محمد بن رشد : اختلف فيمن ادعى وكالة رجل يقبض له بها مالاً وأدعى تلفه ، فقيل يصدق فيما أدعى من الوكالة مع يمينه ، لأن الغريم

(15/328)


الدافع إليه قد صدقه ، ويسقط عنه الضمان ويرجع صاحب المال بماله على الغريم بعد يمينه إن كانت للغريم بينة على معاينة الدفع ، وهذا يأتي على رواية عيسى هذه ، ولا يرجع الغريم على الوكيل بشيء لأنه قد صدق فيما أدعى من الوكالة بيمينه ، فكان ذلك كما لو ثبت بالبينة أو أقر بها صاحب المال على ما في كتاب النكاح الأول من المدونة إلا أن يكون فرط في دفع المال إلى الموكل حتى تلف عنده ، قاله ابن الماجشون وهو مذهب ابن القاسم ، وحمله مطرف على التفريط فأوجب للغريم الرجوع عليه ، وقيل لا يصدق وهو ضامن يحلف صاحب المال ما وكله ، ويرجع بماله على من شاء منهما ، فإن رجع على الغريم رجع الغريم على الوكيل ، وإن رجع على الوكيل لم يكن للوكيل أن يرجع على أحد ، وهذا يأتي على ما في كتاب الوديعة من المدونة وعلى ما في سماع سحنون بعد هذا من هذا الكتاب لابن القاسم وأشهب .
فعلى القول بأن الوكيل يصدق فيما إدعاه فيحلف ويسقط عنه الضمان وهو قوله في هذه الرواية إن أقر بالعداء كان ذلك في ذمته إن كان عبداً ولم تكن في رقبته لأنه لا يلزمه عليها شيء إلا بالإقرار وإقراره لا يجوز على سيده ولا يعدو ذمته .
وأما على القول بأنه لا يصدق فيما أدعاه من الوكالة ويلزمه الغرم بعد يمين صاحب المال أنه ما وكله فاختلف إن كان عبداً هل يكون ذلك في رقبته أم لا على ثلاثة أقوال أحدها أن ذلك يكون في رقبته وإن كان الغريم قد صدقه فيما ادعاه من الوكالة ودفع إليه باختياره لأنه خلبه ، وهو قول أشهب وابن القاسم في سماع سحنون بعد هذا والثاني أن ذلك لا يكون إلا في ذمته ، لأن الغريم قد صدقه فيما ادعاه من الوكالة ودفع إليه باختياره والثالث أن ذلك لا يكون في رقبته إلا أن يقر بالعداء وبالله التوفيق .

(15/329)


ومن كتاب أوله باع شاة
قلت لابن القاسم : فالرجل يستعير العارية مما يغيب عليه مثل الثوب أو الفأس أو المنشار أو غير ذلك فيأتي به مكسوراً فيقول إنكسر في الذي أعرتنيه هل يصدق في ذلك ؟ قال : لا يصدق فيه ، وهو ضامن ، وقال ابن وهب مثله ، قال عيسى : لا ضمان عليه إذا أتي بذلك بما يشبه ويرى أنه إنما أنكسر في العمل لأن ذلك لا يخفى .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة يتحصل فيها أربعة أقوال أحدها قول ابن القاسم وابن وهب هذا أنه لا يصدق إذا أتى به مسكوراً في أنه أنكسر في الشيء الذي أعاره إلا أن يأتي على ذلك بالبينة ، وهي رواية ابن أبي جعفر الذمياطي عن ابن القاسم أيضاً والثاني أنه يصدق إذا أتى من ذلك بما يشبه ، وهو قول عيسى ابن دينار ، ومثله حكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وأصبغ ، واختاره ، غير أنه رأى من محاسن الأخلاق أن يصلحه والثالث قوله في المدونة في السيف إنه لا يصدق إلا أن يكون له بينة إنه كان معه في اللقاء ، والرابع قول سحنون أنه لا يصدق إلا أن يكون بينة أنه ضرب به في اللقاء ضربا يجوز له ، وهذا أبعد الأقاويل .
وأولاها بالصواب قول عيسى ابن دينار الذي اختاره ابن حبيب أن يصدق إذا أتى من ذلك بما يشبه ويرى أنه إنما انكسر في العمل الذي أعاره فيه ، يريد مع يمينه والله أعلم وبه التوفيق .
من نوازل سئل عنها عيسى ابن دينار
وسئل عيسى عن الجدار يكون بين الدارين لأحد الرجلين

(15/330)


ويكون قد مال ، فيسأل الذي ليس هو له صاحبه الذي هو له أن يأذن له يهدمه فيهدمه ويبنيه له على أن يحمل عليه خشب بيته فيفعل ، هل يكون سبيل هذا سبيل العارية يكون المعير إذا احتاج إلى حداره أولى به من المعار ؟ قال : بل سبيله عندي الاشتراء ، لا يكون لصاحب الجدار أن يرفع خشب الباني عنه أبداً وإن احتاج إليه .
من سماع يحيى ابن يحيى
من ابن القاسم
وسألته عن الرجل يستعير أو يكتري الثوب المرتفع أو الدني يبسه ويمسك مصباحاً فيسقط على الثوب فيفسده أيضمن ما أفسد فيهما أو لا ؟ فقال : نعم ضمان ذلك واجب عليه في الرفيع والدني ، فإن كان يسيراً أصلحه وإن كان مفسداً غرم قيمة الثوب وحبسه ، قال وسواء سقط على ثوب استعاره ، أو سقط على رجل كان إلى جنبه هو ضامن في الأمرين جميعاً .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة قد مضى القول فيها في رسم باع غلاماً من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق .

(15/331)


من سماع سحنون من ابن القاسم
قال : وسألته عن الرجل يستعير الدابة إلى موضع يركبها إليه فيبيعها قبل أن ينتهي الموضع بعشرة دنانير ، فلما رجع اشتراها بخمسة دنانير وأتى بها إلى صاحبها ، قال ابن القاسم : سيد الدابة بالخيار إن شاء أخذ دابته والخمسة دنانير التي نقصها البائع لأنها ثمن دابته ، وغن شاء أخذ العشرة دنانير ، وكذلك بلغني عن مالك .

(15/332)


من سماع سحنون من ابن القاسم
قال : وسألته عن الرجل يستعير الدابة إلى موضع يركبها إليه فيبيعها قبل أن ينتهي الموضع بعشرة دنانير ، فلما رجع اشتراها بخمسة دنانير وأتى بها إلى صاحبها ، قال ابن القاسم : سيد الدابة بالخيار إن شاء أخذ دابته والخمسة دنانير التي نقصها البائع لأنها ثمن دابته ، وغن شاء أخذ العشرة دنانير ، وكذلك بلغني عن مالك .
قال محمد بن رشد : قوله في هذه الرواية وأتى بها إلى صاحبها يدل على أنه إنما اشتراها لربها ، وعلى ذلك أتى جوابها به وقد مضى الكلام على ذلك في أوزل سماع عيسى فلا وجه لإعادته .
مسألة
قال سحنون : أخبرني علي ابن زياد أنه سمع مالكاً يقول وسئل عن رجل استعار دابة إلى بلد سماه فركبها إلى غير ذلك البدل الذي استعارها إليه فعطبت الدابة أتراه ضامناً أم لا ؟ فقال مالك إن كان البلد الذي ركبها إليه في السهولة والحزونة مثل البلد الذي استعارها إليه ، وهو الذي يأتي على أصله في كتاب الرواحل والدواب من المدونة في أن من أكرى دابة إلى بلد فليس له أن يركبها إلى بلد

(15/333)


غير ذلك البلد إلا برضى المكري ، وعلى قول غيره فيه إن ذلك لا يجوز وإن رضي المكري ، فيأتي على رواية علي ابن زياد هذه أن من أكرى دابة إلى بلد فله أن يركبها إلى بلد غيره إن كان مثله في الحزونة والسهولة .
ويحصل في المسألة ثلاثة أقوال أحدها أن ذلك له والثاني أن ذلك ليس له والثالث أن ذلك لا يجوز ، وقد مضى هذا المعنى في أول سماع ابن القاسم من كتاب الجعل والإجارة وفي آخر سماع أشهب من كتاب الرواحل والدواب وبالله التوفيق .
مسألة
وسألت أشهب عن العبد يأتي إلى الرجل فيقول سيدي أرسلني إليك في كذا وكذا فيعطاه ، ثم يزعم العبد أنه أعطاه إلى سيده أو يتلف ، وينكر السيد ، قال : أراه فاجراً خلاباً ، وأرى ذلك في رقبته كالجناية ، فلو كان حراً كان ديناً عليه ، وسألت عنها ابن القاسم فقال إنما هو على أحد وجهين ، إذا أقر السيد غرم ، وإن لم يقر كان في رقبته لأنه خدع القوم .
قال محمد بن رشد : قد قيل إن ذلك يكون في ذمته ، ولا يكون في رقبته ، وهو الذي يأتي على ما في رسم البراءة من سماع عيسى قبل هذا ، وإنما يكون ذلك في رقبة العبد بعد يمين السيد أنه ما أرسله إن حقق المرسل إليه الدعوى عليه باتفاق ، وإن لم يحققها عليه على اختلاف ، فإن نكل عن اليمين رجعت على المرسل إليه إن حقق الدعوى باتفاق ، وإن كان لم يحققها على اختلاف ، ويكون الغرم عليه يباع فيه عليه العبد وغيره من ماله ، وعلى ما مضى في رسم البراءة من سماع عيسى يحلف العبد لقد تلف أو لقد دفعه إلى سيده ويسقط عنه الضمان ويحلف السيد إن كان ادعى أنه دفعه إليه ويسقط عنه الضمان أيضا وبالله التوفيق .

(15/334)


مسألة
من سماع أصبغ ابن الفرج من ابن القاسم
قال أصبغ : وسمعته يقول في المستعير للعارية بضمان مثل الدابة وما يظهر أنه لا ضمان عليه إذا لم يفرط ولم يتعد ، وقال أصبغ وشرط المعير باطل ساقط ، لأنه شرط خلاف السنة في ذلك ، وقال أشهب في العارية والرهن يشترط المستعير والمرتهن أن لا ضمان عليه إن شرطه باطل وإنه ضامن فيهما جميعاً ، سئل عن هذا فأجاب بهذا ، ولم أسمعه فحكى قوله بعض أهل المجلس لبعض وهو يسمع ، فلم ينكر ذلك وسكت عليه ، وقاله أصبغ وقد قاله ابن القاسم لي سواء .
قال محمد بن رشد : أما إذا اشترط المعير على المستعير ضمان ما لا يغاب عليه فقول مالك وجميع أصحابه إن الشرط باطل جملة من غير تفصيل حاشا مطرف فإنه قال : إن كان شرط عليه الضمان لأمر خاف من طريق مخوفة أو نهر أو لصوص أو ما أشبه ذلك فالشرط لازم إن عطبت في الأمر الذي خافه واشترط الضمان من أجله ، وقال أصبغ لا شيء عليه في الوجهين ، مثل قول مالك وأصحابه ، وينبغي إذا اشترط المعير على المستعير الضمان فيما لا يغاب عليه فأبطل الشرط بالحكم عن المستعير أن يلزم إجارة المثل في استعماله العارية ، لأن الشرط يخرج العارية عن حكم العارية وسنتها إلى باب الإجارة الفاسدة ، لأن رب الدابة لم يرض أن يعيره إياها إلا أن يشترط أن يحرزها في ضمانه ، فهو عوض مجهول يرد إلى المعلوم .
وأما إذا اشترط المستعير أو المرتهن أن لا ضمان عليه فيما يغاب عليه أو اشترط ذلك الصانع فشرطه باطل قال ابن القاسم في المدونة في الرهن وفي

(15/335)


بعض الروايات فيها في العارية والصانع ، وقال أشهب ها هنا في العارية والرهن : وكذلك يلزم على قياس ذلك في الصانع ، وقد حكى ابن أبي زيد في المختصر عن أشهب في الصانع يشترط أن لا ضمان عليه : إن شرطه جايز ولا ضمان عليه ، فيلزم على قياس قوله مثله في العارية والرهن لأنه إذا لزم الشرط في الصانع فأحرى أن يلزم في المستعير ، لأن المعير إذا أعاره على أن لا ضمان عليه فقد فعل المعروف معه من وجهين ، فالأظهر إعمال الشرط وما لإسقاطه وجه إلا أن يكون ذلك من باب إسقاط حق قبل وجوبه ، فلا يلزم على أحد القولين .
وقد يحتمل أن يفرق على مذهبه بين الصانع والمستعير أن الأصل في الصناع أنه لا ضمان عليهم لأنهم أجراء ، وإنما ضمنوا لمصلحة العامة ، والأصل في العارية عنده الضمان لقول النبي عليه السلام لصفوان ابن أمية : عارية مضمونة مؤداة لما سأله عما استعاره منه من السلاح والأداة هل هي مضمونة أو مؤداة ؟ ألا ترى أنه يضمن المستعير ، وإن قامت البينة على التلف فرأى إعمال الشرط في الصانع ، لأنه اشترط ما هو الأصل ، ولم ير إعماله في العارية لأنه اشترط خلاف الأصل ، والأول أظهر لأنه اختلاف من قوله ، وإلا فرق في ذلك بين الصانع والمستعير ، إذ قد روي عن النبي عليه السلام أنه قال : ليس على المستعير ضمان ، وإذا وجب على المستعير ضمان

(15/336)


العارية فإنه يضمن قيمة الرقبة يوم انقضاء أجل العارية على ما ينقصها الاستعمال المأذون فيه بعد يمينه لقد ضاعت ضياعاً لا يقدر على ردها ، لأنه يتهم على أخذها بقيمتها بغير رضى صاحبها ، وبالله التوفيق .
من سماع محمد بن خالد
قال محمد بن خالد : وسألت ابن القاسم عن رجل يعري رجلاً نخلاً من نخله حياة المعرى فيموت المعري وقد أبر النخل لمن تكون الثمرة ؟ قال مالك للمعري ما لم تطب الثمرة فإن مات وقد طابت الثمرة فمن كان أعرى فذلك لورثته .
قال محمد بن رشد : قول مالك هذا في هذه الرواية إن ثمرة العارية تكون للمعري وإن أبرت ما لم تطب صحيح على قياس القول بأن السقي والزكاة على المعري ، لأنه رأى العارية باقية على ملكه ما لم يطب لأنها حملها محمل الحبس ، ونعلى القول بأن السقي والزكاة على المعري يكون حكمها حكم الهبة لا حكم الحبس ، ويستحقها المعري بالإبار ، وتكون لورثته إن مات قبل الطياب ، وهو مذهب أشهب أن التمرة تجب لورثة المحبس عليه بالإبار كالهبة وكذلك العارية على قياس قوله وبالله التوفيق لا شريك له .
ثم كتاب العارية بحمد الله تعالى

(15/337)