التلقين في الفقة المالكي

كتاب الإجارة
مدخل
...
كتاب الإجارة
الإجارة جائزة وهي معأوضة على منافع الأعيان ولا تصح إلا أن تكون المنافع المعقود عليها معلومة وللعلم بها طريقا:
أحدهما: أن يكون جنسها معلوما كركوب الدابة وبناء الحائط وما أشبه ذلك.
والأخر: أن يكون جنسها غير معلوم فيعلم بالعرف فيحتاج فيه إلى ضرب الأجل ينحصر به ذلك كأجير الخدمة وفي الأول لا يحتاج إلى ضرب الأجل.
وكل عين لها منفعة يجوز تنأولها بغير أجرة فإجارتها لتلك المنفعة جائزة.
وإجارة الأعيان مدة معلومة على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يبين ابتداءها وانتهاؤها فيقول استأجرت منك هذه الدار أو العبد شهرا أو له كذا وآخره كذا أو كذا وكذا يوما أولها كذا وآخرها كذا.
والثاني: أن يذكر المدة ولا يحدها فيقول استأجرت منك هذه الدار شهرا أو سنة فتصح ويكون من وقت العقد.
والثالث أن يستأجرها مشاهرة وهو على حساب الشهر بكذا فيصح وإن لم يعين مدة ما يعقد عليها ويكون لكل واحد منهما الترك إذا شاء ويلزمه من الإجارة بحساب ما سكن وقيل يلزمه أجرة واحدة مما جعلا علما على حساب الأجرة من شهر أو سنة.
وعقد الإجارة لازم من الطرفين ليس لأحدهما فسخة مع إمكان استيفاء
المنافع فإن طرأ ما يمنع ذلك كاحتراق الدار وانهدامها أو غصبها أو مرض العبد أو الدابة فإن العقد ينفسخ معه.
وتسليم الأجرة غير مستحقة بمجرد العقد إلا أن تكون هناك عادة أو شرط أو يقارن العقد ما يوجب التقديم مثل أن تكون الأجرة عرضا معينا أو طعاما رطبا وما أشبه ذلك وما عرى من هذا فلا يستحق تقديم جزء من الأجرة إلا بالتمكين من استيفاء ما يقابله من المنفعة وإذا حصل التمكين فالأجرة مستحقة استوفيت المنفعة أولا.

(2/158)


والإجارة ضربان إجارة عين وإجارة في الذمة.
فالعين يتعلق الحق بها وينفسخ العقد بتلف العين قبل استيفاء المنفعة وتقع المحاسبة.
وأما التي في الذمة فتجوز حالة ومؤجلة ولابد أن تكون معلومة إما بمسافة كركوب الدابة أو الحمل عليها أو اكتراء رسول إلى بلد بعينه أو يكون الفعل متعذرا بنفسه كخياطة القميص أو بضرب مدة ويجب فيها تعجيل أحد الطرفين من الأجرة أو الشروع في الاستيفاء فيخرج عن الدين بالدين.
وموت أحد المتعاقدين لا يوجب فسخ الإجارة ما دام استيفاء المنافع ممكنا.
فصل
وإذا استأجر أرضا للزرع فغرقت سقط كراؤها ولا يسقط بأن لا ينبت زرعها أو بأن لا يسلم من جائحة أو ما عدا الشرب ولا يتعين ما يستوفى به المنافع وإن عين.
وإذا استأجر دابة ليركبها جاز أن يركبها مثله وكذلك إذا استأجرها ليحمل عليها بزافله أن يحمل عليها مافي معناه.
وكذلك ليزرع في الأرض نوعا من الزرع وله أن يزرع ما ضرره كضرره فإن زاد على ذلك ضمن قيمة الزيادة.
وفي الدابة يزيد عليها في المسافة فربها مخير بين كراء الزيادة وبين تضمينه قيمتها يوم التعدي والأجرة الأولى لازمة على كل حال.
والأجرة كالثمن في وجوب انتفاء الجهالة والغرر عنها إلا أنه رخص في الظئر وللأجير أن يستأجر بطعامه وكسوته ويكون له الوسط مما لمثله.

(2/159)


ويجوز أن تكون الأجرة عينا أو منفعة من جنس الشيء المستأجر وغيره مثل أن يستأجر دارا للسكنى دار أخرى أو بخدمة عبدا أو بخياطة ثوب.
وإجارة المشاع جائز منم الشريك وغيره ويجب باستيفاء المنافع في الإجارة الفاسدة أجرة المثل ولا يضمن أجير ما تلف على يده مما سوى الطعام إلا بتفريط.
ولا يضمن الراعي ما هلك من الغنم ولا صاحب الحمام ولا صاحب السفينة إذا غرقت واختلف في كرائه على الراكب إذا عطبت الدابة وقد ضربها أو ساقها على ما يعرف الناس من غير خرق.
ويضمن الصناع الموثرون بصناعتهم كالصائغ والقصار وغيرهما ما سلم إليهم وغابوا عليه عملوه بأجر أو بغير أجر والقول قول الصانع إذا خالفه رب السلعة فيما استأجره عليه.
فصل
والجعل جائز وليس بلازم إلا أن يشرع في العمل ومن شروطه تقدير الأجرة دون العمل ومن ذلك الجعل في المجييء بالآبق والشارد.
فأما مشارطة الطبيب على برء العليل والمعلم على تعليم القرآن فتردد بين الجعل والإجارة.
وكذلك الجعل على استخراج المياه من الآبار والعيون على صفة معلومة من شدة الأرض ولينها وقرب الماء وبعده.

(2/160)


باب القراض
والقراض جائز وصفته أن يدفع الرجل ما لا يتجر به ويبتغي من فضل الله سبحانه ويكون الربح بينهما على ما يتفقان عليه وإن عقده على أن جميع الربح لأحدهما جاز.
ولا يكون رأس المال فيه عرضا ولا غيره سوى الدراهم والدنانير وفي التبر والنقار خلاف.
والقراض عقد خارج عن الأصول وهو مستثنى من أصول ممنوعة وهي الغرر والإجارة المجهولة
وموضوعة الجواز دون اللزوم ولا يجوز التأجيل فيه ولكل واحد منهما تركه إلا أن يتعلق للآخر فيه حق.

(2/160)


ولا يجوز أن ينضم إليه عقد غيره إلا أن يشترط أحدهما الزيادة على صاحبه وله أن يسافر بالمال إلا أن يشترط عليه ترك السفر وليس له أن يبيع بدين إلا أن يؤذن له.
وإذا سافر بالمال فله النفقة الزائدة على نفقة الحضر من المال والخسران على رب المال دون العامل وكذلك ضياع المال إلا أن يكون من العامل تفريط.
وإذا قبض المال ببينة ثم ادعى رفعه لم يقبل منه إلا ببينة وإذا قال قراض وقال ربه سلف فالقول قوله دون العامل وإذا طرأ ربح بعد الخسران فإن لم يكونا تفاصلا لم يكن للعامل شيء إلا بعد إكمال رأس المال وإن كان بعد أن تفاصلا لم يجبر الخسران من هذا الربح وكان له حكم نفسه.
ولا يفسخ العقد بموت أحد المتقارضين ولورثة العامل أن يعملوا بالمال إن كانوا أمناء أو يأتوا بأمين وإن عجزوا أسلموه ولا مقال لربه.
وفي المستحق بالقراض الفاسد روايتان قيل أجرة المثل وقيل قراض المثل وفرق بينهما بأن أجر المثل متعلق بذمة رب المال وقراض المثل يؤخذ من ربح إن كان.
وزكاة رأس المال على رب المال وزكاة الربح تابعة لأصله وتلزم
العامل في حصته بحلول الحول على رأس المال كان ما ناله نصابا أو أقل وأنهما شرط زكاة الربح وحده على صاحبه فإن شرط رب المال على العامل زكاة رأس المال وربح لم يجز.

(2/161)


باب المساقاة وكراء الأرض والمزارعة وما يتبع ذلك
المساقات جائزة في الأصول كلها من النخل والكرم وجميع الشجر وفي الزرع يعجز عنه صاحبه ويجوز في الثمر بعد ظهورها وقبل طيبها واختلف فيها بعد الطيب.
وهي عقد لازم وصفتها أن يدفع الرجل حائطه إلى من يعمل في نخله وشجره ما يصلحه من سقي وإبار وجذاذ وعلوفة دواب وغير ذلك وجميع الكلف والنفعة فيما يحتاج في الثمر على العامل ويكون له جزء من الثمرة يتفقان عليه.
ولا يلزمه عمل ما يبقى بعده كبناء جدار وحفر بئر أو ما أشبه ذلك وانتهاؤها إلى الجذاذ.

(2/161)


والمساقاة على كل أنواع الشجر جائزة وإذا أخرج الحائط خمسة أوسق بين العامل ورب المال ففيه الزكاة وليس لأحدهما زيادة شرط على الآخر كالقراض واشتراط أحدهما الزكاة على الآخر جائز.
وإذا كان في الحائط بياض جاز أن يشترطه العامل لنفسه إن كان قيمة أجرته بقدر ثلث ثمن لثمره بعد وضع قيمة ما يلزم العامل عليها.
وشرط رب الأرض جزءا مما يخرج منها جائز وكذلك من أكثرى دارا يسكنها أو أرضا يزرعها وفيها نخلة أو شجرة فاستثنى ثمرها جاز إن كانت قيمة ثمرتها الثلث فدون ولا يجوز إن زاد على ذلك.
وكراء الأرض للزرع بما عدا الطعام جائز ولا يجوز بالطعام كله كان مما تنبته الأرض أو مما لا تنبته كالسعل واللحم واللبن وغيره ولا ببعض ما تنبته الأرض من غير الطعام كالقطن والكتان والزعفران والمعصفر والجون بالخشب والقصب.
ولا يجوز اشتراط النقد إلا في المأمون منها.
والشركة في الزرع جائزة إذا أمن أن تؤدي إلى ما ذكرناه من المنع أو انتفاء التسأوي فإذا تكافأ في العمل والمؤنة والأرض والبذر جاز.

(2/162)


باب في الشركة
الشركة ضربان بمال أو بدون وضرب آخر غير جائز وهو شركة الوجوه مثل أن يشتركا على الذمم بغير مال ولا صنعة حتى إذا اشتريا شيئا كان في ذمتهما فإذا باعاه اقتسما ربحه فذلك غير جائز.
وشركة المال ضربان عنان ومفاوضة.

(2/162)


فالعنان أن يخرج كل واحد منهما رأس مال ويشترط الربح بقدره ثم يخلطاه مشاهدة أو حكما بأن يكونا في صندوق واحد أو تابوت واحد ويعملان جميعا فيه.
والمفاوضة أن يفوض كل واحد منهما إلى الآخر التصرف مع حضورة وغيبته وتكون يده كيده ولا يكون شركة إلا بما يعقد أن الشركة عليه وكل ذلك جائز.
فأما شركة الأبدان فجائزة ولها شرطان اتفاق الصناعتين والمكان ولا تجوز مع اختلاف الصناعتين كقصار وحداد وإسكاف وخياط ولا أن يكون في صفة واحدة منفردين في مكانين.
وتجوز في الاحتطاب والاصطياد ويجوز أن يكون رأس المال فيها عينا وعرضا وتنعقد على قيمته دون ثمنه كان العرض مما يتميز عينه كالرقيق والحيوان أو مما لا يتميز عينه كالحنطة والشعير.

(2/163)


باب الرهون
معنى الرهن احتباس العين وثيقة بالحق ليستوفى الحق من ثمنه أو ثمن منافعها عند تعذر أخذه من الغريم مفردة كانت أو مشاعة.
وهو جائز بكل دين لازم أمكن استيفاءه من ثمنه كان الدين من قرض أو بيع أو قيمة متلف أو غير ذلك.
ويصح عقده قبل وجوب الحق وبعده ومقارنا له ويلزم بمجرد القول والقبض شرط في صحته واستدامته وليس بشرط في انعقاده وإذا عقداه قولا لزم وأجبر الراهن على إقباضه للمرتهن.

(2/163)


وإذا تراخى المرتهن في المطالبة به أو رضى بتركه في يده بطل الرهن وإن قبضه ثم رده إلى الراهن بعارية أو وديعة أو استخدام أو ركوب بطل الرهن ويجوز أن يجعلاه على يد أمين يرضيان به.
وضمان الرهن من مرتهنه إن كان مما يغاب عليه إلا أن يقوم بهلاكه بينة وإن كان مما لا يغاب عليه كالعقار والحيوان فضمانه من راهنه وكذلك إن كان على يد أمين.
ونماء الرهن داخل معه إن كان مما لا يتميز عنه كالسمن أو كان نسلا كالولادة والنتاج وما في معناه كغسيل النخل وما عدا ذلك من غلة أو ثمرة أو لبن أو صوف وما أشبه ذلك فلا يدخل فيه إلا أن يشترطه ونفقته على راهنه ومال العبد ليس برهن معه ويثبت رهنا بتقاريرهما ما لم يفلس الراهن.
ولا يقبل إقراره بالإقباض دون معاينة البينة وإذا كان فيه فضل جاز أخذ حق آخر عليه من مرتهنه وكان رهنا بهما ويجوز من غيره بإذن المرتهن الأول واختلف فيه إن لم يأذن.
والرهن متعلق بجملة الحق وبأبعاضه فما بقي جزء منه فهو رهن به.
ولا يجوز غلق الرهن وهو أن يشترط المرتهن أنه يستحقه إن لم يأت به عند أجله وإذا حل الحق وتعذر أخذه من الغريم باعه الوكيل على الراهن واستوفى المرتهن حقه في ثمنه من غير حاجة إلى إذن الحاكم.

(2/164)


ويجوز أن يكون المرتهن وكيلا في بيعه وليس للراهن فسخ والوكالة وإن لم يكن له وكيل فإن المرتهن يثبت حقه عند الحاكم ويرهنه أو يبيعه الحاكم عليه.
وإذا اختلف المراهنات في عين الرهن فالقول قول المرتهن مع يمينه وإذا اختلفا في قدر الحق فلا يخلو الرهن أن يكون باقيا أو تالفا فإن كان باقيا فلا يخلو أن يكون في يد المرتهن أو في يد أمين فإن كان في يد المرتهن حلف على ماادعاه وكان القول قوله في قدر قيمة الرهن ثم حلف الراهن على ما زاد على ذلك ويسقط عنه وإن كان في يد أمين فالقول قول المدعى عليه مع يمينه.
وإذا كان الرهن تالفا فلا يخلو أن يكون اختلافهما في قيمته أو في مقدار الحق أو الأمرين فإن اختلافا في قيمته وتصادقا على مقدار الحق قيل لهما صفا الرهن فإذا وصفاه قوم على تلك الصفة وكان المرتهن قيمتها يقاص بها من دينه ويترادان الفضل.
وإن اختلفا في الصفة فالقول قول المرتهن مع يمينه فإن تصادقا على الصفة واختلفا في قدر الحق كان على ما تقدم من الحكم للمرتهن بقدر قيمته الرهن والتحالف فيما زاد على ذلك.
وإن اختلفا في الأمرين وصفه المرتهن وحلف على صفته وضمنه بقيمة تلك الصفقة.
ومن رهن عبدا ثم أعتقه نفذ عتقه إن كان موسرا وعجل للمرتهن حقه وغن كان معسرا لم ينفذ عتقه وبقى رهنا.
ومن رهن أمة لم يجز له وطؤها وإن وطئها بإذن المرتهن بطل الرهن وإن كان بغير إذنه فإن لم تحمل فهي رهن بحالها وإن حملت كانت أم ولد وعجل

(2/165)


للمرتهن حقه وإن كان معسرا بيعت عليه وقضى الحق من ثمنها وإن وطئها فهو زان ويحد ولا يلحق به الولد ويكون رهنا معها يباح بيعها.
وإذا باع الراهن الرهن بغير إذن المرتهن فللمرتهن إجارته وفسخه فإن أجازه بطل حقه في الرهن فإن زعم أن إجازته ليتعجل حقه من الرهن حلف على ذلك وكان له ذلك.

(2/166)