التنبيه على مبادئ التوجيه - قسم العبادات

الفصل الأول: عصر ابن بشير
المبحث الأول: الوضع السياسي.
المبحث الثاني: الوضع الثقافي والفكري.

(1/15)


الفصل الأول: عصر ابن بشير
مما لا شك فيه أن للبيئة وللظروف المحيطة بالإنسان تأثيرًا على حياته وسلوكه وثقافته، حتى قيل: إن الإنسان ابن بيئته، وكلما ازداد اطلاع الإنسان واتسعت ثقافته ومعارفه، دل ذلك على اتساع الرقعة المؤثرة فيه، فالعالم لا يتأثر ببيئته الضيقة فحسب، بل يتأثر بالمحيط الواسع الذي يتصل به.
ومن هنا لم يكن ليقتصر تأثر ابن بشير بما وقع بالقيروان وتونس وما والاهما من حواضر إفريقية، بل إنه ابن البيئة الممتدة في العالم الإسلامي آنذاك. وهذا يحتم علينا توسيع دائرة الحديث عن عصر ابن بشير ليشمل الشرق والغرب الإسلاميين. وكل ذلك باقتضاب وبحسب ما تدعو الحاجة إليه.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا العصر سبق وأن درس من قبل، لكن وإن تعددت الدراسات فإن لكل دراسة خصوصيتها تتميز بها عن غيرها، فالدراسات السابقة؛ إما دراسات عامة أو جزئية، أو دراسات تصب في التعريف بشخص في الشرق أو في الغرب، فتتحكم ظروف ذلك الشخص في الدراسة، ولذلك إن أحلنا عليها نكون قد أحلنا على شيء لا يمكننا من فهم الشخصية المراد التعريف بها.
كما أن الكتاب المحقق قد يقع في يد شخص لا علم له بتلك الدراسات أو لا طاقة له إلى الوصول إليها، فيقرأه بدون أن يدرك الإطار

(1/17)


الزماني والمكاني الذي ألف فيه الكتاب. من أجل هذا رأيت أنه لا بد من الحديث عن عصر ابن بشير، وأبدأ بالوضع السياسي.
...

المبحث الأول: الوضع السياسي
إن المصادر التاريخية التي تمكنت من الوقوف عليها ضنت علينا بضبط تاريخ ولادة ابن بشير وتاريخ وفاته، وغاية ما أفادتنا به هو أنه كان حيًا سنة 526 هـ. لكن من خلال تأملي في القضية- كما سأوضح من بعد- غلب على ظني أن ابن بشير عاش بين النصف الأخير من القرن الخامس والنصف الأول من القرن السادس الهجريين.
وقد وُسمت هذه المرحلة بسمة الاضطراب وتتابع الفتن على إفريقية والشرق الإسلامي والمغرب والأندلس. وبصفة عامة كان الوضع السياسي في العالم الإسلامي مضطربًا ومتفككًا.

* المطلب الأول: الوضع في بغداد
ففي بغداد أصبح الخلفاء رمزًا واسمًا بدون سلطة. بل دمية يضعها ويحركها السلاجقة، ومن قبلهم البويهيون (1)، فكانت الأوامر تصدر باسمهم، وعلى الخليفة أن يوقع على ما قرروه. وكان أول خليفة قهر وحجر عليه؛ المعتمد على الله وقد صور حال نفسه فقال:
"أليس من العجائب أن مثلي ... يرى ما قل ممتنعا عليه
وتؤخذ باسمه الدنيا جميعًا ... وما من ذاك شئ في يديه
إليه تحمل الأموال طرًا ... ويمنع بعض ما يأتي إليه" (2).
__________
(1) البويهيون: ينتسبون إلى بني بويه وهي: أسرة تتكون من ثلاثة رجال ظهر أمرهم وهم:
علي، والحسن، وأحمد أبناء بويه، كان أبوهم من عامة الناس يعيش من صيد السمك فملك أبناؤه البلاد واستولوا على الخلافة. انظر وفيات الأعيان 1/ 176.
(2) تاريخ الخلفاء ص 365.

(1/18)


وصور أحد الشعراء هؤلاء الخلفاء فقال:
"خليفة في قفص ... بين وصيف وبغا (1).
يقول ما قالا له ... كما تقول الببغا" (2).
أما بالنسبة للخلفاء الذين عاصرهم ابن بشير فيظهر أن أولهم هو أبو جعفر عبد الله القائم بأمر الله الذي تولى الخلافة من 422 هـ إلى 467 هـ (3)، وبويع بعده حفيده أبو القاسم عبد الله المقتدي بأمر الله الذي تولى الخلافة من 467 إلى 487 هـ ثم تولى بعده أبو العباس المستظهر بأمر الله من 487 إلى 512 هـ (4)، ثم بويع بعده أبو المنصور الفضل المسترشد بالله الذي تولى الخلافة من 512 إلى 529 هـ (5)، ثم أبو العباس المنصور الراشد بالله الذي تولى الخلافة من 529 إلى 530 هـ (6)، وأخيرًا أبو عبد الله محمَّد المقتفي بأمر الله الذي تولى الخلافة من 530 إلى 555 هـ (7).
ولم يكن لهؤلاء الخلفاء من أمر الخلافة شيء، اللَّهم إلا ما كان من الدعاء لهم على المنابر، وضرب السكة باسمهم. وكل من ظهرت منه بوادر التحرر والتخلص من سلطة السلاجقة يكون مصيره التنحية أو القتل.
فالخليفة القائم بأمر الله حبسه وزيره أرسلان التركي المعروف بالبساسيري وسيره إلى غابة سنة 450 هـ إلى أن فك أسره أبو طالب
__________
(1) وصيف وبغا من أسماء الحجّاب الأتراك الذين سيطروا على الخلفاء في العصر العباسي الثاني، ويعد بغا الصغير هو قاتل المتوكل سنة: 247هـ. انظر تاريخ الطبري أحداث سنة 247 هـ.
(2) مقدمة ابن خلدون ص 33.
(3) سير أعلام النبلاء 15/ 138.
(4) السير 18/ 318.
(5) السير 19/ 562.
(6) السير 19/ 569.
(7) السير 20/ 399.

(1/19)


محمد بن مكيال المعروف بطغرلبك سنة 451هـ (1). وقد حدث في عهد هذا الخليفة ما لم يكن معهودًا عند سابقيه من الخلفاء، وذلك أن العادة والعرف جريا على ألا يتزوج بنات الخلفاء إلا من كان من بني العباس. لكن القائم بأمر الله زوج ابنته لطغرلبك "بعد أن دافع بكل ممكن، وانزعج واستعفى ثم لان لذلك برغم منه، وهذا أمر لم ينله أحد من بني بويه مع قهرهم الخلفاء وتحكمهم فيهم ... " (2).
والمقتدي بأمر الله حاول التدخل في الحكم وتدبير شؤون الخلافة فما كان من السلطان السلجوقي ملك شاه إلا أن نفاه من بغداد. وأرغمه على خلع ولي عهده وأن يعهد لابنه الصغير جعفر، لكن ذلك لم يتم له بسبب موته قبل انتهاء المدة التي ضربت له لتنفيذ ما طلب منه (3).
أما الخليفة المسترشد بالله فقد أسر هو وأعيان دولته بهمدان، ثم نقل إلى مراغة، وطلب منه إن أراد أن يرجع إلى بغداد ألا يجمع العساكر، ولا يخرج من داره فرضخ لذلك (4).
وابنه الراشد بالله أبو العباس المنصور حاول أن يكون جيشًا ويخرج به من بغداد، فما كان من السلطان مسعود إلا أنه ادعى عليه أنه كتب في شروط عقد توليته "أني متى جندت أو خرجت أو لقيت أحداً من أصحاب السلطان بالسيف فقد خلعت نفسي من الأمر"؟؟. فحكم أهل الحل والعقد من العلماء والقضاة بخلعه وتولية أبي عبد الله محمد المقتفي بأمر الله على شروط وعهود وضعوها عليه فقبلها (5).
هكذا كان حال الخلفاء العباسيين في هذه المرحلة وهو وضع لا يحسدون عليه، انعدمت فيه الثقة بينهم وبين السلاجقة، فحاول السلاجقة
__________
(1) تاريخ الخلفاء ص 417.
(2) المصدر السابق ص 420.
(3) المصدر السابق ص 425.
(4) المصدر السابق ص 431
(5) الكامل 8/ 354.

(1/20)


تضييق الخناق على الخلفاء خوفًا منهم وحرصًا على بقائهم لاستمداد الشرعية منهم، فحيكت الدسائس والمؤامرات داخل أركان الدولة، وأصبح الجو مناسبًا ومواتيًا لكل معكر لصفوة الحياة وناشر للفتن.

وضع السلاجقة:
أما السلاجقة، فعلى الرغم من أنهم هم الحكام الفعليون في المشرق، إلا أن دولتهم لم تكن مستقرة، إذ سرعان ما تمزقت وتناثرت أشلاؤها بعد موت السلطان ملك شاه سنة 458 هـ الذي كان يحكم من حدود الصين شرقًا إلى جورجيا وفلسطين غربًا. فبموت هذا السلطان حصل تنافس وصراع على السلطة، ودارت في سبيل ذلك حروب طاحنة بين أبناء السلطان من جهة وأعمامهم من جهة أخرى، ثم بينهم وبين أبناء أعمامهم سلاجقة الروم بآسيا الصغرى، ثم بين أبنائه فيما بينهم. وقد دام هذا الصراع حوالي 77 سنة من موت ملك شاه سنة 485 إلى 552 هـ (1).
وقد نتج عن هذا الصراع ضعف السلاجقة واضمحلال دولتهم واندثار هيبتهم. فكونوا ثلاث دويلات؛ واحدة بدمشق، والثانية بآسيا الصغرى، والثالثة بالعراق وفارس.
وقد أدى هذا إلى ظهور إمارات عربية صغيرة متناحرة فيما بينها يتقلب ولاؤها بين العباسيين تارة، والعبيديين تارة أخرى. كما ظهرت دويلات مستقلة عرفت بالأتابكة أو الشاهات (2).
في هذه الأجواء انتعشت الحركات الباطنية والإسماعيلية، فتحركوا في البلاد طولًا وعرضًا يبثون أفكارهم ويعيثون في الأرض فسادًا بزعزعة عقائد الأمة ونشر الرعب والفزع في أبنائها، والقضاء على كل من يقف في طريقهم من العلماء (3).
__________
(1) انظر الحروب الصليبية في المشرق والمغرب لمحمد العروسي ص: 16.
(2) محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية 2/ 45.
(3) انظر الحركات الباطنية في العالم الإسلامي ص: 437.

(1/21)


* المطلب الثاني: الوضع في مصر:
لم يكن وضع مصر بأحسن حالًا من وضع العراق؛ فقد كانت مصر في هذه الحقبة أسيرة حكم العبيديين الأدعياء، الذين لم يكن لهم هم إلا منازعة العباسيين أمر الخلافة وفرض عقيدة الرفض والتشيع وإقناع الناس بصحة نسبهم لآل البيت. وقد يكون ابن بشير عاصر من حكامهم المستنصر بالله أبا تميم معد بن الظاهر الذي حكم من سنة 427 هـ إلى سنة 487 هـ، ثم جاء بعده المستعلي بالله بن المستنصر الذي حكم من سنة 487 هـ إلى 495 هى، ثم بعده ابنه الآمر بأحكام الله الذي حكم من سنة 495 هـ إلى 524 هـ، ثم الحافظ لدين الله الذي حكم من سنة 524 هـ إلى 544 هـ، ثم الظافر بالله الذي حكم من سنة 544 هـ إلى 549 هـ، ثم الفائز الذي حكم من سنة 549 هـ إلى 555 هـ.
وهؤلاء الحكام تولى أكثرهم الحكم وهم أطفال صغار؛ فالمستنصر بويع وعمره سبع سنين، وكان يسير الحكم الوزير الجرجري وبعد موت الجرجري استوزرت أم المستنصر أبا سعيد التستري اليهودي ..
وتولى الآمر بأحكام الله، والفائز بالله (1) الأمر وعمر كل منهما خمس سنين. ويذكر عن الفائز بالله أنه لما حمله وزيره على كتفيه وأخذ له البيعة من القواد والأعيان، فقالوا كلهم: سمعًا وطاعةً بصوت مرتفع، فزع الطفل وبال على كتف الوزير (2).
هذا فضلًا عن الظلم والطغيان الذي صدر منهم ومن آبائهم في حق الرعية، بل ادعاء الربوبية. فأبو علي الحاكم الزنديق الذي قتلته أخته ست الملك سنة 411 هـ. يقول الذهبي في حقه: " .. كان شيطانًا مريدًا، جبارًا
__________
(1) السير 15/ 197 - 205.
(2) المصدر السابق 15/ 205، من المفيد هنا التنبيه على أن هذه الحكاية قد تكون صحيحة، أو مما يختلقه الناس تنفيسًا أو سخرية واحتقارًا، ولكن هذا الاختلاق نفسه وإيراد العلماء له في كتب محترمة هو تعبير له دلالته ومغزاه ... فقيمة الحكاية في دلالتها وليس في صحتها أو عدم صحتها.

(1/22)


عنيدًا، كثير التلون، سفاكًا للدماء، خبيث النحلة، عظيم المكر، جوادًا ممدحًا، له شأن عجيب ونبأ غريب، كان فرعون زمانه، يخترع كل وقت أحكامًا، يلزم الرعية بها، أمر بسب الصحابة رضي الله عنهم، وبكتابة ذلك على أبواب المساجد والشوارع وأمر عماله بالسب ... " (1).
واستمر حال المصريين هكذا مع العبيديين إلى أن قضى على دولتهم صلاح الدين الأيوبي رحمه الله سنة 564 هـ.
هذه الأحداث، وهذا الضعف السياسي في الشرق الإسلامي، كان ينتظره العدو الخارجي المتربص ويراقب وقائعه من بعيد، فما إن تأكد لديه حتى انقض على الأمة وأصابها في قلبها. أعني بذلك الحملة التي دعا إليها البابا أوريان الثاني سنة 488 هـ واحتلال بيت المقدس سنة 492 هـ وتأسيس مملكة صليبية به، وإجراء السيف في رقاب المسلمين وإبادة آلاف منهم والتمثيل بهم ... ومحاولة الزحف على باقي بلاد الشام.
وقد استمرت بلاد الشام على هذا الوضع المضطرب والحروب الطاحنة مع الفرنجة إلى أن قاموا بحملتهم الثانية سنة 543 هـ، التي قصدوا بها دمشق فصدهم المسلمون عنها وانقلبوا خاسرين، وكانت بداية النهاية لوجودهم بالشام ومقدمة لتحريرها على يد صلاح الدين الأيوبي سنة 583 هـ.

* المطلب الثالث: الوضع في المغرب
أ: دولة المرابطين
لقد مر المغرب بأطوار عديدة من الفتح الإسلامي إلى أن ظهر المرابطون في وقت كانت فيه إفريقية في صرل مع أعراب بني هلال وبني سليم من جهة، والنرمن الغازين لسواحلها من جهة أخرى، وكانت دولة الأمويين بالأندلس تتمزق بين أمراء الطوائف، في هذه الظروف بدأت تنبثق
__________
(1) المصدر السابق 15/ 174.

(1/23)


دولة جديدة جنوب المغرب، وضع بذرتها يحيي ابن إبراهيم أمير جدالة، والفقيه عبد الله بن ياسين. فقام هذا الأخير بتعليم الناس وحثهم على التمسك بأحكام الإسلام. ولقيت دعوته صعوبة في بداية الأمر، إذ نفر منها من لم يوطن نفسه على ذلك. وثابر عبد الله بن ياسين إلى أن صار له أتباع سماهم بالمرابطين. فخرجوا من قلب الصحراء سنة 445 هـ وانطلقوا إلى درعة، ومن بعدها إلى سجلماسة. واستمر أمرهم إلى أن ظهر يوسف بن تاشفين سنة 454 هـ نائبًا عن ابن عمه أبي بكر بن عمر، الذي توجه إلى الصحراء ليصلح بين لمتونة ومسوفة. فواصل ابن تاشفين الفتوحات شمال المغرب، وأسس عاصمة جديدة للمرابطين بدلًا من أغمات لتكون مركزًا لقواتهم في جنوب المغرب هي مدينة مراكش. ولما توفي أبو بكر بن عمر استقل الأمر ليوسف ابن تاشفين الذي يعتبر المؤسس الحقيقي لدولة المرابطين (1). فكون دولة عظيمة، موطدة الأركان مهيبة الجانب. تمتد أطرافها من بجاية شرقا إلى المحيط الأطلسي غربًا، ومن بلاد السنغال جنوبًا إلى سرقسطة والثغر الأعلى في الأندلس شمالًا.
ولما توفي يوسف بن تاشفين سنة 500 هـ خلفه ابنه علي بن يوسف فصار على سيرة أبيه؛ جادًا، حازمًا، نزيه النفس، بعيدًا عن الظلم. فأحاط به العلماء والفقهاء، فلم يكن يقطع أمرًا إلا بمشورتهم (2). وهذا "من وضع الشيء في محله وإسناد الأمر إلى أهله، فالدولة إسلامية وأحق الناس بتولي مناصب الحكم والشورى فيها العلماء العارفون بأحكام الشرع المتفقهون في الدين" (3) وقد أنفق الجزء الأعظم من جهوده في متابعة شؤون الأندلس، فعبَر إليها أربع مرات ليتفقد بنفسه أحوالها.
ولما توفي علي بن يوسف سنة 537، خلفه ابنه تاشفين فتوالت عليه الهزائم على يد عبد المؤمن بن علي الكومي. ولما توفي سنة 539 هـ
__________
(1) انظر: البيان المغرب 4/ 123.
(2) المعجب ص 252.
(3) جولات في الفكر الإسلامي لعبد الله كنون ص: 107.

(1/24)


بوهران، بايعوا ابنه إبراهيم فوجدوه ضعيفًا عاجزًا، فخلعوه وبايعوا عمه إسحاق بن علي، الذي كان آخر المرابطين، إذ بموته سنة 541 هـ سقطت مراكش وحكمها الموحدون.

ب: ظهور الموحدين:
يعتبر ابن تومرت واضع بذرة دولة الموحدين، فقد بدأ دعوته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وانتهى بادعاء العصمة. وكان ينتقل بين المدن، وحيثما حل يُطرد أو لا يَطيب له المقام. إلى أن وصل إلى مراكش، وشدد على أهلها في النكير، وأغلظ لهم في القول، فرفع أمره إلى أمير المسلمين علي بن يوسف، فجمع له الفقهاء لمناظراته، فأشار عليه البعض بقتله أو سجنه، فتوقف أمير المسلمين في ذلك وقرر إخراجه من مراكش (1).
فانتقل إلى تنمل بالسوس واجتمع حوله الطلبة وبويع سنة 515 هـ وسمى أتباعه بالموحدين، ولم تزل طاعتهم له في ازدياد وفتنتهم به في اشتداد. فلما اطمأن إلى أتباعه واستشعر ولاءهم وقوتهم دخل في مناوشات مع المرابطين سنة 517 هـ وتوفي سنة 524 هـ وتولى بعده تلميذه عبد المؤمن بن علي الكومي الذي قضى على دولة المرابطين سنة 541 هـ (2).

* المطلب الرابع: الوضع في الأندلس:
لقد عرفت الأندلس نوعًا من الاستقرار والازدهار العلمي والعمراني أيام الخلفاء الأمويين بالأندلس. لكن لما وهن حكمهم في النصف الأول من القرن الخامس الهجري، سادت البلاد حالة من الارتباك والحيرة تبينت خيوطها السوداء بقيام ما عرف بدويلات الطوائف التي صور حال أمرائها ابن رشيق القيروانى أحسن تصوير عندما قال:
__________
(1) انظر تفصيل ذلك في المعجب ص: 271 - 274.
(2) انظر تاريخ المغرب الكبير 3/ 778.

(1/25)


مما يزهدني في أرض أندلس ... تلقيب معتضد فيها ومعتمد
ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد (1).
وقد حاول الإمام الباجي أن يجمع شمل هذه الدويلات ويوحد كلمتهم، فقام بجهود خيرة ومساع حميدة في هذا الشأن. فطاف على الأمراء داعيًا إلى توحيد الكلمة وجمع الشمل، ونبذ أسباب التفرق والفتن، ورغم أنهم كانوا يتلقونه بالترحيب والتعظيم في الظاهر، إلا أنه لم يجد آذانًا صاغية وبقي الوضع على ما هو عليه إلى أن منَّ الله على المغرب والأندلس بالملك العادل والمجاهد الصادق، أمير المسلمين يوسف بن تاشفين رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته، فهب لإنقاذ الأندلس وعبر إليها أربع مرات، الأولى سنة 479 هـ التي وقعت فيها معركة الزلاقة الشهيرة، ورجع منها ظانًا أن أهل الأندلس قادرون على حماية بلادهم، لكن تبين أنهم ليسوا أهلًا لذلك فكثرت القلاقل والفتن وعادوا إلى سالف عهدهم، فترددت الكتب والفتاوى إلى أمير المسلمين لإنقاذ الأندلس هذه المرة من ملوك الطوائف. قال ابن خلدون: "وأفتاه الفقهاء وأهل الشورى من المغرب والأندلس بخلعهم وانتزاع الأمر من أيديهم، وسارت إليه بذلك فتاوى أهل الشرق الأعلام مثل الغزالي والطرطوشي" (2). فما كان منه إلا أن عبر إلى الأندلس وبدأ في القضاء على أمراء الطوائف. فضم غرناطة بعد استسلام أميرها عبد الله بن بلقين سنة 483 هـ. ثم عاد أمير المسلمين وترك عددًا من قادته ليتموا خلع ملوك الطوائف. وخضعت قرطبة وكانت متابعة لبني عباد. واستسلمت إشبيلية في رجب من نفس السنَّة بعد مقاومة شديدة من المعتمد بن عباد، الذي استعان بالفونس السادس النصراني، فأسر ابن عباد ونفي إلى أغمات بالمغرب. ثم تتالت الفتوحات؛ ففتحوا مارية وشاطبة ومدنًا أخرى كما فتحت بلنسية مرة ثانية سنة 495 هـ بعد معركة أفليش بين المرابطين والقشتاليين، ثم بطليوس وأشبونة (لشبونة).
__________
(1) نفح الطيب 1/ 214.
(2) تاريخ ابن خلدون 6/ 249.

(1/26)


وبعد وفاة يوسف بن تاشفين سنة 500 هـ تولى ابنه علي الذي اقتفى سيرة والده وعبر في السنَّة الأولى من حكمه إلى الأندلس، وعين أخاه أبا الطاهر تميمًا على الجيوش في الأندلس، واستأنف المرابطون جهادهم هناك، ودخلوا معارك طاحنة مع النصارى كان النصر في أكثرها للمسلمين، واستمر حال الأندلس هكذا إلى أن ضعفت دولة المرابطين سنة 539 هـ، فهبت الوفود الأندلسية مستنجدة بالموحدين الذين قضوا على المرابطين. ولن أتحدث عن جهود الموحدين في الأندلس لأن ذلك خارج الفترة المدروسة.

* المطلب الخامس: الوضع في إفريقية:
تعتبر إفريقية (1) موطن ابن بشير الأصلي والبيئة المؤثرة والفاعلة مباشرة في حياته. ولهذا يتعين علينا تناولها بشيء من التفصيل، تجليةٌ للوضع وتقريبًا للصورة.
فقد كانت هذه المنطقة هي المحطة الثانية للعبيديين، الذين انتقلوا إليها من سلجلماسة فكونوا بها دولتهم التي دامت زهاء قرن من الزمان. ثم انتقلوا بعد ذلك إلى مصر، واستخلفوا يوسف بن بلكين الصنهاجي على إفريقية سنة 361 هـ.
وبعد رحيل المعز العبيدي إلى القاهرة باشر يوسف بن بلكين أمور الحكم، وقام بغزو مناطق من المغرب ليضمها إليه ويقطعها عن الأمويين بالأندلس. وانتصر في كثير من معاركه. وتوفي أثناء عودته إلى إفريقية سنة 373 هـ. وبويع بعده ابنه المنصور الذي كان يوثر السلم على الحرب واللين على العنف، وكان رجلًا عاقلًا عفيفًا عن الدماء، فجبلت الناس على محبته وقد دام حكمه ثلاثة عشرة سنة. وبعد وفاته سنة 386 هـ تولى ابنه باديس الذي دخل في حروب طاحنة مع أعمامه الذين ولاهم على بعض المناطق
__________
(1) قال ياقوت الحموي في معجم البلدان 1/ 228: إفريقية بكسر الهمزة اسم لبلد شمال إفريقية وكان يطلق على مدينة هناك قبل أن تندثر. وتمتد من طرابلس الغرب إلى بجاية وقيل: مليانة، وكان المغرب والأندلس تابعين لها في مرحلة من المراحل التاريخية.

(1/27)


تقريبًا لهم وطمعًا في مؤازرتهم ووقوفهم في جانبه، إلا أن ظنه خاب فيهم، إذ انفصلوا عنه وخذلوه فاضطر لمحاربتهم والقضاء عليهم.
كما دخل في حروب طاحنة مع أمراء زناتة كزير بن عطية وفلفل بن سعيد الزناتي انتهت بانتصار ابن باديس.
وقد بلغت أصداء هذه الحروب وشجاعة ابن باديس إلى العبيديين في مصر فلقبوه بنصير الدولة، وأرسلوا إليه هدية فاخرة تثبيتًا له على الولاء والتبعية لهم. ولما توفي باديس سنة ست وأربعمائة بايعوا ابنه المعز الذي كان سنه حوالي ثماني سنين.
وفي عهد المعز هذا طرأت على الساحة الإفريقية أحداث بالغة الأهمية، أفرزت وضعًا جديدًا كان له تأثير واضح في تغيير المجرى السياسي والمذهبي والثقافي لإفريقية؛ فقد انفصلت الدولة الصنهاجية عن العبيديين، وانقسمت إلى دولتين، واكتسحها الأعراب وخربوها.
فبالنسبة لانقسامها إلى دولتين: فإن الخلافات التي كانت بين باديس وأخيه حماد طفت على السطح بعد مبايعة المعز بن باديس الذي لم يكن تجاوز الثماني سنين، فاستغل حماد صغر سن المعز وأعلن استقلاله عن الدولة، وزحف على المدن المجاورة للقلعة. فلما بلغ الخبر للمعز جهز جيشًا للقائه وزحف نحوه فانهزم حماد، وفر إلى القلعة وقبض على أخيه إبراهيم، فأظهر الرغبة في الصلح، فأستجيب له وتوقفت الحروب ووقع الاتفاق على تقسيم الدولة الصنهاجية إلى دولتين، دولة آل المنصور بن بلكين، أصحاب القيروان، ودولة آل حماد بن بلكين أصحاب القلعة.
وبالنسبة لانفصال الصنهاجيين عن العبيديين، فقد أدرك الصنهاجيون أنه لا فائدة ترجى من إكراه الناس على اعتناق مذهب يمجونه ولا يستسيغونه. وقد لاحظوا أن أولياء نعمتهم- العبيديين- قضوا زهاء قرن من الزمن وهم يحاولون فرض التشيع على المغاربة بحد السيف وقهر السلطان ولم يفلحوا في ذلك، إذ اصطدموا بأناس عاضين على مذهب أهل السنَّة بالنواجذ، مستعدين بذل مهجهم وأموالهم في سبيل ذلك.

(1/28)


فرأى الصنهاجيون أن المصلحة تقتضي الرجوع إلى المذهب الأصيل والتخلي عن المذهب الدخيل ليحصل الاستقرار والتلاحم بين الحكام والرعية. فبدأوا يظهرون ميلهم ويعلنون توجهاتهم الجديدة شيئًا فشيئًا بدءًا من الترضي عن أبي بكر وعمر، وغض الطرف عن العامة الذين انقضوا على الشيعة وآذوهم. وكل هذا كان يراقبه العبيديون بقلق شديد، إلا أنهم فضلوا سلوك سياسة المهادنة والترغيب وإرسال الهدايا وإطلاق الألقاب، لكن بحلول سنة 433 هـ، ظهر كل شيء على حقيقته، وقطع الصنهاجيون علاقتهم كليا مع العبيديين، ودعوا على المنابر للعباسيين، وترضوا على الخلفاء الراشدين، وضربوا سكة خالية من أسماء العبيديين.
فلما وصل الأمر إلى هذا الحد، يئس الفاطميون من رجوع الصنهاجيين لولائهم فعزموا على الانتقام منهم.

اكتساح الأعراب لإفريقية:
لما عزم المستنصر العبيدي على الانتقام من الصنهاجيين استشار وزيره الحسن بن علي البزوري، فأشار عليه بخطة بالغة في المكر والدهاء، وكفيلة بسحق الصنهاجيين والقضاء عليهم دون أن يتكبد العبيديون أية خسارة، والخطة عبارة عن إعطاء الإذن لأعراب بني هلال وبني سليم ليجتازوا النيل نحو المغرب ومنحهم الأراضي التي يستولون عليها.
وقد كان هؤلاء الإعراب معروفين بجفائهم وهمجيتهم يعيشون على السلب والنهب ولا يخضعون لسلطان ولا نظام وقد حصرهم العبيديون في صعيد مصر، ومنعوهم من تجاوز النيل تسهيلاً لضبطهم وصونًا للحواضر المصرية من إفسادهم (1).
وقد كانت الخطة ناجحة غاية النجاح، أعطت أكثر مما كان يرجى منها، فبمجرد أن وصل الإعراب إلى برقة بدأت معاول الهدم تنهش في
__________
(1) الكامل 8/ 295.

(1/29)


جسم الدولة الصنهاجية، ولعل ما ساعدهم على تخريبهم، اغترار المعز بن باديس بشدة بأسهم وبطشهم وطمعه في استمالتهم وتقريبهم منه، وذلك أن المعز لم يكن مرتاحًا لإخوانه وبني عمه، فأراد أن يقرب هؤلاء الإعراب ويكون منهم جيشًا بديلًا عن الجيش الذي نفذ فيه أقاربه، فدفعه هذا الطمع إلى عدم التصدي لهم في بداية الأمر. بيد أن ابن باديس لم يكن على دراية بطبائع هؤلاء الإعراب وما جبلوا عليه من التمرد والتخريب والسلب والنهب، جاء في كتاب تاريخ المغرب الكبير: "وكان أول من وصل من بني هلال مؤنس بن يحيي الرياحي أمير رياح، فقدم على المعز، وكان المعز قد سئم صنهاجة فأراد أن يستبدلهم بعنصر آخر، فاستلطف مؤنسًا وكان سيدًا في قومه، شجاعًا عاقلًا، فاستدناه المعز إليه، وزوجه من إحدى بناته. وفاوضه في استدعاء عرب بني هلال من طرابلس وحدود إفريقية ليستعين بهم علي بني عمه فنصحه مؤنس بعدم التفكير في ذلك وعرفه بقلة اجتماعهم على الكلمة، وعدم انقيادهم إلى الطاعة. ولكنه ألح عليه إلحاحًا متواصلًا، وعلل امتناعه من استقدامهم إلى إفريقية بحسده لقومه. فلم يسع مؤنسًا أمام هذا الإلحاح إلا أن يدعوهم ... " (1).
فما كاد الأعراب يصلون إلى قرية من القرى الإفريقية حتى ظنوا أنها القيروان فتنادوا القيروان القيروان فهبوا إلى تخريبها ونهبها. فعظم الأمر على المعز فظن أن مؤنسًا دفعهم إلى ذلك ليظهر صدق نصحه للمعز. فأمر المعز بالقبض على أخي مؤنس، وبثقات أولاده، وختم على داره بالقيروان. وزاد ذلك من حنق مؤنس على المعز فقال: قدمت النصيحة فحاق الأمر بي ونسبت الخطيئة إلى فكان أشد إضرارًا من القوم (2).
ولما وصل الأمر إلى هذا الحد في سنة 443 هـ، لم يجد المعز بدًّا من مواجهة الإعراب فخرج إليهم في جيش عرمرم يقدر بثلاثين ألف جندي، إلا أن هذه الأعداد لم تثبت معه. فالعرب البلديون الذين كانوا معه
__________
(1) 2/ 668.
(2) البيان المغرب 1/ 289.

(1/30)


وهم من بقايا الفتح، انضموا إلى إخوانهم في الجنس، وانخذل عنه الصنهاجيون والزناتيون ففروا من المعركة، وبقي معه عبيده وخاصته يواجه الإعراب فثبت في وجههم وأبلى النبلاء الحسن، إلا أنه سرعان ما تكشف وهزم هزيمة نكراء وأعمل الإعراب السيف في عبيده، وقتل منهم عدد كبير، ففر المعز بنفسه وخاصته إلى القيروان، وبدأ يقاوم من داخلها إلى سنة 448 هـ. فاضطر للخروج منها إلى المهدية، فدخل الإعراب إلى القيروان وخربوها وتركوها قاعا يبابًا، بعد ما كانت مدينة في قمة الحضارة والتمدن، تعج بالعلماء والصناع والتجار.
ولم يقتصر تخريب وفساد الإعراب على القيروان بل تعداها إلى كل إفريقية، فنتج عن هذا كله قيام فترة من الاضطراب السياسي والاقتصادي، فخرب العمران وقضي على معالم الحضارة، وساد قطاع الطرق في المنطقة. ولعل ابن بشير صاحبنا واحد من ضحايا هذه الفتنة. وسيأتي ذلك.
أما المعز بن باديس فقد قضى بقية عمره في المهدية حزينًا إلى أن توفي سنة 454 هـ. وتولى بعده ابنه أبو يحيي تميم بن المعز، فورث عن أبيه دولة ممزقة الأشلاء، توالت عليها الحركات الانفصالية، فاستقل كل قائد بمدينة أو قلعة حتى أصبحت أشبه بالأندلس في عهد ملوك الطوائف (1). ورغم هذه الظروف فقد بذل تميم بن المعز جهودًا لا يستهان بها في قمع الثوار وجمع شتات الدولة.
ففي سنة 455 هـ تمكن من استرجاع مدينة سوسة، وحاصر تونس بعد ما تمرد حاكمها ابن حرصان، وأرغمه على النزول على شروطه.
كما أن القيروان أعلنت تمردها كذلك بقيادة ابن ميمون الصنهاجي فأرسل لها جيشًا، تمكن من استرجاعها والتجأ ابن ميمون إلى الناصر ابن علناس حاكم القلعة.
وفي سنة 456 هـ تجرأ حمو بن مليل البرغواطي حاكم سفاقص وهَمَّ
__________
(1) انظر خلاصة تاريخ تونس ص 114.

(1/31)


بالزحف على المهدية مركز الدولة الجديد. وجمع حوله جيشًا كبيرًا من الأعراب، إلا أن تميمًا بادره قبل أن يصل إلى المهدية، وتمكن من صد هجومه والقضاء على جيشه.
ولقد كان العدو الخارجي متربصًا مستغلاًّ لفرط الضعف, ففي سنة 480 هـ استغل النصارى خروج تميم من المهدية لقمع بعض الثوار فهاجموها من البحر. وتمكنوا من السيطرة عليها. ولما بلغ الخبر تميمًا رجع إلى المهدية وبذل أموالًا طائلة للنصارى مقابل خروجهم منها.
وفي سنة 484 استولى النصارى على صقلية بعدما بقيت في أيدي المسلمين مائتين ونيفا وسبعين سنة.
وبقيت أحوال تميم بن المعز معتلة وأموره متدهورة إلى أن توفي سنة 501 هـ، وتولى بعده يحيي بن تميم. وفي عهد هذا دخل محمد بن تومرت المهدية، متظاهرًا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثم رحل إلى المنستر ثم إلى بجاية. ولما توفي يحيي سنة 509 هـ تولى بعده ابنه أبو الحسن علي بن يحيي باتفاق من الجند. ودخل في حروب مع الأعراب كأبيه وجده. واستمر حكمه إلى سنة 515 هـ حيث توفي وتولى بعده ابنه الحسن بن علي الذي كان عمره لا يتعدى اثني عشر عامًا.
فقصده صاحب صقلية سنة 517 هـ بأسطول ضخم ولما وصل المهدية هاج البحر ودمر سفنهم، وتعقبهم المسلمون بالقتل وغنم المسلمون غنائم كثيرة. إلا أن هذا الطاغية عاود الكرة مرة ثانية، واستولى على جربة وسفاقص وطرابلس. وفي سنة 543 هـ باغت أهل المهدية، وأخذ أهلها على حين غفلة منهم. ففر منها الحسن بما خف حمله ودخلها النصارى من غير قتال. واستولوا على ذخائر الحسن. ثم انطلقوا نحو سوسة وسفاقص ودانت لهم سائر البلاد. أما الحسن فقد التجأ إلى عبد المؤمن بن علي الكومي مستنجدًا به ومستجيرًا، فأكرمه وأحسن وفادته، وهب لنصرته، فاتجه بنفسه سنة 554 هـ ومعه الحسن بن علي في جيش جرار لم تشهد المنطقة مثله، وحاصر المهدية ستة أشهر وفتحها بكرة عاشوراء سنة 555 هـ، وهي التي

(1/32)


تعرف بسنة الأخماس، ودانت له سائر إفريقية، وجمع شتاتها تحت حكمه. فانتشر الأمن, وشعر الناس بالطمأنينة والسلام. ثم رجع إلى مراكش بعد أن استخلف على إفريقية أبا عبد الله محمد الكومي وجعل معه الحسن وأقطعه أراضي مهمة. وبهذا انتهت دولة الصنهاجيين.
ويبدوا أن ابن بشير عاصر من ملوكهم تميم بن المعز، ويحيى بن تميم وعلي بن يحيي، والحسن بن علي آخرهم.
وقد تحدثت عن المعز ومن قبله رغم أن ابن بشير لم يعاصرهم لما لتلك المرحلة المتقدمة من تأثير على ما بعدها.
وهكذا يظهر أن ابن بشير رحمه الله عاش في فترة زمنية متسمة بالاضطراب وعدم الاستقرار بل بانتشار السلب والنهب ولعل ابن بشير نفسه كان واحدًا من ضحايا هذه المرحلة، إذ قتله قطاع الطرق كما سيأتي بيانه.
ويبقى السؤال الأهم وهو: كيف انعكست آثار هذا الوضع السياسي المضطرب على الحياة الفكرية والثقافية في المنطقة؟ هذا ما سنتحدث عنه في المبحث اللاحق.
...