التنبيه على مبادئ التوجيه - قسم العبادات

* المبحث الثاني: الوضع الثقافي والفكري
توجد علاقة وطيدة بين الوضع السياسي والنشاط الفكري والأدبي الموازي له، وقد تنعكس الخطوب والفتن السياسية سلبًا على هذا النشاط فتميد العلوم ويهوي صرح الأدب.
وقد تنعكس هذه الأحداث إيجابًا فيحيي الله بها العلوم والآداب والثقافة، وهذا ما حصل في المرحلة المدروسة حيث انعكس الوضع السياسي المتدهور إيجابًا على الوضع الثقافي، واستفادت الثقافة من الصراع السياسي، إذ تنافس الأمراء والوزراء في تقريب العلماء ورعايتهم والإغداق

(1/33)


عليهم، إما لرغبتهم في العلم، أو لتزيين مجالسهم واجتلاب محبة الشعب لهم بهم. فنتج عن هذا تنافس كبير في تحصيل العلم. كما كان الصراع الفكري والتصادم المذهبي بين الفرق والمذاهب الإسلامية حافزًا مهما لدفع العلماء نحو البحث والتنقيب، نصرة للمذهب ودحضًا لآراء مخالفيه. وقد تجلى هذا الصراع في شكل مناظرات كانت المساجد والقصور والمنتديات ساحة لها. فافرز هذا النشاط الموازي أجيالاً من الأئمة النحارير والعلماء الجهابيذ، دونوا من الكتب والمصنفات ما لا يقع تحت حصر.

* المطلب الأول: الوضع الثقافي في الشرق الإسلامي:
تعتبر منطقة الشرق الإسلامي؛ الشام والعراق ومصر، بحكم موقعها وظروفها التاريخية؛ موطنًا لكل المذاهب والفرق الإسلامية السنية وغير السنية؛ إذ امتزجت رواسب الديانات القديمة مع الفلسفة اليونانية المترجمة، فاصطدمت بالعقيدة الإسلامية الربانية. فأفرز هذا الاصطدام مذاهب فكرية وعقائدية مختلفة. كما كان لاختلاف مناهج الفقهاء في استنباط الأحكام دور أساس في نشوء المذاهب الفقهية.
وحتى لا نحيد عما نحن بصدده نبقى في الفترة المدروسة، وهي النصف الأخير من القرن الخامس والنصف الأول من القرن السادس. ففي هذه الفترة كاد نجم المعتزلة يأفل، وذلك بفقدانهم لمناصرة العباسيين خاصة المأمون والمعتصم والواثق، الذين حملوا الناس على اعتناق آراء الاعتزال وأجبروهم على ذلك. وما فتنة القول بخلق القرآن إلا نموذج لذلك. وفي مقابل ذلك لمع نجم الأشاعرة وانتشر مذهبهم في الآفاق، لشهرة إمامهم وانسلاخه من الاعتزال بعد ما كان رأسًا فيه، ومحاولته التوسط بين المعتزلة وأهل الحديث. بالإضافة إلى جهود أتباعه في تثبيت وتوطيد أركان المذهب. وأذكر على سبيل المثال جهود الباقلاني (ت) 403 هـ والجويني (ت) 478 هـ والغزالي (ت) 505 هـ. كما أنه كان للأشاعرة دور مهم في صد الفكر الشيعي الباطني الذي تبناه البويهيون والقرامطة في بغداد والجزيرة، والعبيديون في مصر.

(1/34)


كما أن النزعة الصوفية عرفت تطورًا ملحوظًا وتقلبًا لم يكن يرضي كثيرًا من العلماء فقد انتقلت من زهد سني مقبول، إلى كشف (1) وتجل، ثم حلول واتحاد (2)، وأخيرًا وحدة وجود (3).
وبالنسبة للفقه فإنه يتميز في هذه الفترة بانقراض الاجتهاد المطلق الذي يتسم أصحابه بالاستقلال التام في الأصول والفروع، واقتصر الناس على المذاهب الأربعة المعروفة التي كانت موجودة في المشرق الإسلامي على تفاوت بينها في الانتشار. فأخلدوا إلى تقليد هذه المذاهب. واهتموا بتهذيبها وتوثيقها وتحرير أقوال أئمتها وتوجيهها والاستدلال لها والتخريج عليها وتأصيل أصولها وبناء فروعها. وأحيانًا معاداة مخالفيها والذود عنها بالتأليف والمناظرة والتدريس، والتزام القضاة والمفتين بها وعدم الخروج عن قواعدها.
وقد كان أكثر هذه المذاهب انتشارًا في الشرق في هذه الفترة المذهب الشافعي وذلك بسبب تبني بعض قادة السلاجقة له، وخاصة الوزير نظام الملك ت 485 (4)، الذي لم يأل جهدًا في خدمة العلم والعلماء عن طريق المذهب الشافعي. فبنى عدة مدارس فاخرة، وجلب كبار العلماء وأحاطهم بالرعاية والتكريم والتبجيل. فكثر خريجو هذه المدارس، وانتشروا في سائر الأقطار، وتولوا أهم المناصب الإدارية، مما جعل نفوس كثير من العلماء تهفو إلى الانتماء للمذهب الشافعي، وأذكر منهم على سبيل المثال أبا
__________
(1) الكشف عند المتصوفة؛ أن يبدو للقلب من أنوار الغيوب ما ينال به الصوفي من المعارف ما لا يناله العقل منها، ثم بعد الكشف يترقى إلى مرتبة التجلي، وهي أن تظهر له الذات الإلهية في عين المظاهر الوجودية، ولم يعد بعد ذلك في حاجة إلى واسطة في تلقي المعرفة فيقول حدثني قلبي عن ربي ...
(2) حقيقة الحلول والاتحاد عندهم، أن المحب يفنى في المحبوب، ويحبه بكل قلبه، حتى لا يكون هناك فرق بين محب ومحبوب، فيختلط المحب بالمحبوب ويمتزجان، ويصيران شيئًا واحدًا.
(3) يقصدون بوحدة الوجود، أن الله والعالم شيء واحد، فليس في العالم وجودان، فالله هو العالم والعالم هو الله ...
(4) ترجمته في شذرات الذهب 3/ 273.

(1/35)


الفتح بن تركان (ت 518 هـ) المعروف بالجامعي الذي كان حنبليًا ثم انتقل إلى المذهب الشافعي (1).
بل وجد من انتقل من المذهب الحنبلي إلى المذهب الحنفي ثم الشافعي كالمبارك بن المبارك الواسطي النحوي المعروف بالوجيه. الذي أثار تحركه هذا اشمئزاز كثير من العلماء حتى قال الشاعر أبو البركات ابن زيد التكريتي:
تمذهبت للنعمان بعد ابن حنبل ... وذلك لما أعوزتك المآكل
وما اخترت قول الشافعي تدينًا ... ولكنما تهوى الذي منه حاصل
وعما قليل أنت لا شك صائر ... إلى مالك فافطن لما أنا قائل (2).
أما المذهب الحنفي فيأتي في الدرجة الثانية بعد المذهب الشافعي رغم تبني الخلفاء العباسيين له وكثير من سلاطين السلاجقة، فقد انحصر انتشاره في العراق وبلاد الأعاجم وخراسان وفارس، ولعل مرد هذا الانحصار إلى كون كثير من المعتزلة تمذهبوا في الفروع بالمذهب الحنفي، فأعرض الناس عنه، خشية أن يتسرب الاعتزال إليهم، أو يصنفوا مع المعتزلة.
وبالنسبة للمذهب الحنبلي، فإنه أقل انتشارًا من سابقيه وقد كان مقتصرًا على بغداد، وذلك لأسباب عديدة منها عدم الدعم السياسي؛ إذ لم تتبنه أية سلطة سياسية، فاكتفى بطاقاته وقدراته الذاتية. أضف إلى هذا طبيعة المذهب، إذ لم ينطلق انطلاقة واضحة من بداية أمره. فقد اختلف في عده مذهبًا مستقلًا. ويعد أبو بكر الخلال هو الذي حسم هذا الخلاف وجعله مذهبًا مستقلًا. يقول الذهبي: "ولم يكن قبله للإمام مذهب مستقل حتى تتبع هو نصوص أحمد ودونها وبرهنها بعد الثلاثمائة" (3). ورغم هذا كله فإن صوت الحنابلة كان مسموعًا وتأثيره في الساحة ملموسًا. وذلك لجرأتهم
__________
(1) سير أعلام النبلاء 19/ 457.
(2) وفيات الأعيان 4/ 153.
(3) السير 14/ 298.

(1/36)


على الصدع بالحق وصراعهم المرير مع الأشاعرة ومن قبلهم المعتزلة وغيرهما من الفرق الكلامية.
أما المذهب المالكي، فعلى الرغم من أن مصدره كان بالمدينة وكانت له مدرسة نشطة بالعراق، إلا أنه في الفترة المدروسة قل أتباعه، واضمحل تأثيره في المنطقة، ولم تكد تجد- بعد القاضي عبد الوهاب- مالكيًا لامعًا، اللَّهم إلا بعض الأفراد هنا وهناك، ربما كان أغلبهم نازحين من الغرب الإسلامي.

* المطلب الثاني: الوضع الثقافي في المغرب والأندلس:
إذا كان الشرق الإسلامي عرف بكثرة مذاهبه وفرقه وطوائفه وصراعاته العقائدية، والفكرية، فإن الغرب الإسلامي على خلاف ذلك عرف استقرارًا فكريًا وهدوءًا عقائديًا على العموم، وذلك بحكم بعده عن الشرق مصدر الخلاف وموطن تفريخ المذاهب والفرق. وبحكم طبيعة السكان وظروف المنطقة التاريخية فقد دخل الإسلام إلى المغرب والأندلس في إطار سني صاف من كل الشوائب والمعكرات، وصادف نفوسًا على الفطرة سرعان ما تخلصت من رواسب الوثنية والمسيحية، فتناغمت وانسجمت مع الإسلام الصحيح، ونفرت من باقي المذاهب المنحرفة وإن كان لبعض الفرق وجود في ظروف معينة كالخوارج والمعتزلة والشيعة، إلا أنه لم يكن لها جذور عميقة وممتدة في المجتمع المغربي، إذ سرعان ما تخلص المجتمع منها.
كما أن المذهب المالكي كان له دور مهم في ترسيخ العقيدة السنية ومنافرة علم الكلام. فقد اعتنق المغاربة مذهب مالك في وقت مبكر جدًا، وجعلوه مصدرًا لعقيدتهم وسلوكهم ولم يحصروه أو يقصروه على الفروع كما هو الشأن عند المتأخرين. فقد جعلوا نصب أعينهم قولة مالك التي توارثها عنه العلماء جيلًا بعد جيل، وجعلوها قاعدة لهم في هذا الشأن، وذلك عندما سئل عن معنى قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)}، فقال: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة". يقول ابن عبد البر: "أجمع أهل الفقه والأثر في جميع الأمصار، أن

(1/37)


أهل الكلام أهل بدع وزيغ. ولا يعدون عند الجميع في طبقات العلماء، وإنما العلماء أهل الأثر والتفقه فيه. ويتفاضلون في الإتقان والميز والفهم. وقال أيضًا: أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام. فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع؛ أشعريًا كان أو غير أشعري. ولا تقبل له شهادة في الإسلام، ويفجر ويؤدب على بدعته. فإن تمادى عليها استتيب منها .. وليس في الاعتقاد كله في صفات الله وأسمائه إلا ما جاء نصوصًا في كتاب الله أو صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو اجتمعت عليه الأمة" (1).
على هذا المنهج سار أهل المغرب والأندلس، إلى أواخر القرن الخامس الهجري. فتبنى بعض كبار المالكية العقيدة الأشعرية، وفرضها الموحدون على الغرب الإسلامي، كما سيأتي توضيح هذا في الحديث عن إفريقية.
وبالنسبة للتصوف فقد عرفته المنطقة، وعرفت بدايته السنية القائمة على الزهد في الدنياّ، والرباط في الثغور، والجهاد في سبيل الله ضد النصارى. إلا أنه ما فتئ يتأثر شيئًا فشيئًا بالتصوف الفلسفي القادم من الشرق، إلى أن وصل إلى حد الانحراف والتصادم مع العلماء المحافظين على سلامة العقيدة في جوهرها ومظهرها. بل تطور التصوف في الأندلس حتى صدرت هذه الأخيرة للمشرق بعض زعماء التصوف من أشهرهم ابن عربي صاحب وحدة الوجود.
أما وضع الفقه، فإن المغرب والأندلس يعدان من البلدان القليلة التي عرفت وحدة المذهب الفقهي؛ فقد وصل إلى المغاربة في بداية أمرهم مذهب الإمام الأوزاعي، ومذهب الإمام أبي حنيفة النعمان (2). لكن سرعان ما تخلصوا منهما وتمسكوا بالمذهب المالكي، وآثروه على غيره من المذاهب، وتكونت لهم في نفوسهم منزلة عظيمة حتى عدوا من خالفه
__________
(1) جذوة المقتبس 101، وبغية الملتمس 155.
(2) وقد أشار إلى هذا الحميدي في جذوة المقتبس ص 203 والقاضي عياض في ترتيب المدارك 1/ 25.

(1/38)


جديرًا بالعقوبة. فقد جاء في بعض مكاتبات المستنصر ما نصه: "من خالف مذهب مالك بالفتوى وبلغنا خبره أنزلنا به من النكال ما يستحقه، وجعلناه عبرة لغيره. فقد اختبرت فوجدت أن مذهب مالك وأصحابه أفضل المذاهب، ولم أر في أصحابه ولا في من تقلد بمذهبه غير معتقد للسنة والجماعة. فليتمسك الناس بهذا، ولينهوا أشد النهي عن تركه. ففي العمل بمذهبه جميع النجاة" (1).
ولعل هذا التصرف ومثله أدى إلى التعصب الممقوت فاكتوى به كثير من العلماء الذين لم يجدوا بدًا من مواجهته، وأذكر هنا على سبيل المثال موقف ابن حزم الذي واجه هذا الموقف بصلابة وعناد. ومن بين أقواله في هذا الشأن، ما ذكره صاحب نيل الابتهاج حيث قال: "قد وصل أهل الأندلس في تقليد مالك حتى يعرضوا كلامه تعالى وكلام رسوله على مذهب إمامهم، فإن وافقاه قبلوهما وإلا طرحوهما وأخذوا بقول صاحبهم، مع أنه غير معصوم. ولا نعلم بعد الكفر بالله معصية أعظم من هذا" (2).
بعد هذا أرى أنه قد آن الأوان للحديث عن الوضع الثقافي في إفريقية موطن ابن بشير.

* المطلب الثالث: الوضع الثقافي في إفريقية
قبل الحديث عن هذا الموضوع لا بد أن أشير إلى أنه لا يمكنني أن أبتر الفترة المدروسة عن سياقها الزمني وتأثير ما قبلها فيها.
ولذلك سأكون مضطرًا للحديث عن المؤثرات السابقة التي تركت بصماتها ماثلة في الفترة الزمنية المعنية.
وأستهل حديثي بعلم العقائد وعلم الكلام قبل الحديث عن وضع الفقه.
__________
(1) المعيار المعرب 12/ 26.
(2) نيل الابتهاج ص 191.

(1/39)


أولًا علم العقائد وعلم الكلام:
من المؤكد أن أئمة أهل السنَّة والجماعة مالكًا وأبا حنيفة وأحمد والشافعي متفقون في الأصول والعقائد، مختلفون في الفروع. والدليل على ذلك تطابق ما قرره ابن أبي زيد القيرواني في مقدمة رسالته مع ما قرره الطحاوي الحنفي في عقيدته، ما عدا الخلاف في تعريف الإيمان الذي خالف فيه أبو حنيفة، واعتبر ابن أبي العز الحنفي الخلاف لفظيًا (1).
فالخلاف- إذا- كان بين أهل السنَّة من جهة وبين باقي الفرق من جهة أخرى. ومن أهم الفرق التي كان لها وجود بالمنطقة وأثرت في ثقافتها الخوارج والمعتزلة والشيعة:

أ -الخوارج:
المعروف عن الخوارج أن تاريخهم تاريخ حروب وثورات وخروج عن الأئمة؛ فمن عهد الخليفة الراشد علي - رضي الله عنه - وهم يشكلون شوكة في خاصرة الدولة الإسلامية، ولم يستطع لا الأمويون ولا العباسيون القضاء عليهم، رغم أنهم تمكنوا من كسر شوكتهم وتمزيقهم وتشريدهم في البلاد. ولعلهم وجدوا في الغرب الإسلامي ملاذًا آمنًا ومستقرًا بعيدًا عن بطش الخلفاء الأمويين والعباسيين. وإن كان البعض يرجع سبب وجودهم في الغرب الإسلامي إلى عكرمة مولى ابن عباس. قال يحيي بن بكير: "قدم عكرمة مصر وقدم هذه الدار وخرج إلى المغرب. فالخوارج الذين بالمغرب عنه أخذوا" (2).
ومهما يكن من أمر، فإن تأثيرهم في الساحة الفكرية كان خافتًا ومضمحلًا, لأنهم لم يسلكوا مسلك الإقناع والحجة والمناظرة والتأليف، بل سلكوا مسلك الخشونة والشدة والتهور وحمل الناس على آرائهم بالعنف
__________
(1) شرح العقيدة الطحاوية ص 374.
(2) سير أعلام النبلاء 2/ 15.

(1/40)


والقسوة. ولهذا لم يحتج علماء السنَّة كبير جهد لدحض آرائهم، بل كان صراعهم غالبًا مع الحكام.
وقد حاولت الوقوف على بعض علمائهم ونظارهم في المنطقة فلم أقف إلا على قلة قليلة منهم، كمعاوية بن الصمادحي (ت) 199 (1) هـ، وأبي الخطاب الكندي (2)، وهود بن محكم الهواري عاش في النصف الثاني من القرن الثاني (3)، وسليمان بن يخلف أبي الربيع المزاتي (4)، وموسى بن زكريا المزاتي الدمري (5).

ب- المعتزلة:
لقد ظهرت البوادر الأولى للاعتزال في المنطقة، منذ زمن مؤسسه واصل بن عطاء. حيث يحكي القاضي عبد الجبار في كتابه فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة أن واصلاً أرسل بعثة إلى المغرب لنشر الاعتزال هناك (6). وقد كانت آثار هذه البعثة واضحة في المغرب الأقصى وبالأخص في طنجة والمغرب الأوسط خصوصًا بتهارت، إلا أن تلك الآثار امتدت إلى إفريقية (7)، حيث وجدت مناصرًا قويًا وداعمًا سياسيًا من طرف الأغالبة تقليدًا للعباسيين.
وحتى عند اندثار دولة الأغالبة واستيلاء العبيديين على إفريقية، لم يجد المعتزلة حرجًا في التحالف معهم ضد أهل السنة. والأمثلة على ذلك كثيرة منها:
أن إبراهيم بن محمد الضبي أبا إسحاق المعروف بالبرذون
__________
(1) طبقات علماء إفريقية ص 161
(2) المصدر السابق.
(3) كتاب العمر 2/ 957.
(4) المصدر السابق 2/ 259.
(5) كتاب العمر 2/ 261.
(6) ص 237.
(7) انظر فصول في الفكر الإسلامي بالمغرب ص 18.

(1/41)


(ت 297 هـ) (1) كان كثير التحكك بالعراقيين والمجادلة لهم، فأوذي بسبب ذلك مرتين؛ مرة في آخر دولة الأغالبة، ضربه القاضي محمد بن أسود الصديني بالسياط، وكان هذا الأخير ممن يصرح بخلق القرآن. ثم مرة أخرى على يد الفاطميين في بداية أمرهم، فقد سعى به كل من ابن ظفر والكلاعي المعتزلين إلى داعي الشيعة أبي عبد الله الصنهاجي، فأمر الداعي بقتله (2) ...
والتحالف بين المعتزلة والشيعة ليس بالأمر الغريب لأن "الشيعة تميل إلى العراقيين لموافقتهم لهم في مسألة التفضيل ورخصة مذهبهم" (3). بل إن بعض أئمة الشيعة تتلمذوا على يد واصل بن عطاء، كزيد بن علي بن الحسين إمام اليزيدية.
ومهما يكن من أمر، فإن أهل السنَّة في إفريقية - بالرغم من فقدانهم للمناصر السياسي- استطاعوا أن يضيقوا الخناق على المعتزلة، ويحاصروا نحلتهم فكريًا. وقد حاول الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب إحصاء المتكلمين من المعتزلة خلال القرن الثالث وأوائل القرن الرابع فوجدهم حوالي العشرين رجلًا (4). وهذا كله نتيجة لجهود علماء أهل السنَّة ومواقفهم الصارمة مع أهل البدع.
فهذا عبد الله بن فروخ "سأله حبوس بن طارق فقال له: ما تقول في المعتزلة؟ فقال له وما سؤالك عن المعتزلة؟ فعلى المعتزلة لعنة الله قبل يوم الدين وفي يوم الدين وبعد يوم الدين وفي طول دهر الداهرير، فقال له حبوس بن طارق: لا تفعل فإن فيهم رجالًا صالحين، فقال: ويحك؟ ... وهل فيهم رجل صالح؟
ولما قدمت جنازة ابن صخر المعتزلي قالوا لابن غانم: الجنازة، فقال
__________
(1) سير أعلام النبلاء 14/ 216.
(2) المصدر السابق.
(3) المصدر السابق.
(4) ورقات 1/ 216.

(1/42)


كل حي ميت، قدموا دابتي، ولم يصل عليه. فقيل لابن فروخ: الجنازة، فقال مثل ذلك، وقام ولم يصل عليه. وقيل للبهلول: الجنازة، فقال مثل ذلك" (1).

ت - الشيعة:
لقد كان أثقل وجود للفرق بإفريقية هو وجود الشيعة التي استطاعت أن تكون لها دولة سنة 297 هـ، وقد ألقت هذه الفرقة بثقلها الفكري العقدي تعززه وتؤازره السلطة السياسية.
فتغير أسلوب الصراع مع هؤلاء إذ انتقل من صراع فكري جدلي، وسيلته المناظرة والحجة والإقناع والتأليف والردود، إلى صراع حول الإيمان والكفر، وسيلته البطش والقتل والتمثيل من طرف الشيعة، والخروج والعصيان المدني من طرف المالكية وطبعًا علماء أهل السنَّة هم الضحية، تعرضوا لأبشع التعذيب وأصناف التنكيل، "فقد اعتبر المالكية التخلي عن المذهب المالكي ومتابعة بني عبيد، انسلاخًا من الدين وتبديلًا لنعمة الإسلام كفرًا. فما الإسلام إلا مذهب مالك، وما مذهب مالك إلا دين الإسلام" (2)، فامتحن أهل السنَّة في سبيل ذلك واستشهدوا في سبيل الثبات على العقيدة السنية. فهذا أبو إسحاق بن البرذون السالف الذكر وقد فرش له النطع وجيء به للقتل لطعنه على العبيديين، وطلب منه أن يرجع عن مذهبه، فقال: "أعن الإسلام تستتيبني؟ " (3).
وهذا أبو محمد بن التبان وقد شدد عبد الله المعروف بالمختال- صاحب القيروان - في طلب أهل العلم ليشرقهم (4)، فطلب الشيخ أبا سعيد بن أخي هشام، وأبا محمد بن التبان، وأبا القاسم بن شبلون، وأبا
__________
(1) رياض النفوس: 1/ 186.
(2) تطور المذهب المالكي في الغرب الإسلامي لمحمد شرحبيلي ص 111.
(3) سير أعلام النبلاء 14/ 216.
(4) أي ليحملهم على مذهب المشارقة، وهو: التشيع.

(1/43)


محمد بن أبي زيد، وأبا الحسن القابسي. فاجتمعوا في المسجد .. وقيل إنهم أرادوا السير إلى عبد الله فقال لهم ابن التبان أنا أمضي إليه أبيع روحي من دونكم, لأنكم إن أتى عليكم، وقع على الإسلام وهن ... فذهب ابن التبان إلى عبد الله ودارت بينه وبين دعاة الشيعة مناظرة تفوق فيها ابن التبان. فقال له عبد الله في الأخير: يا أبا محمد أنت شيخ المدنيين، وممن يتزين به. أدخل العهد، وخذ البيعة. فعطف عليه أبو محمد، وقال له: شيخ له ستون سنة يعرف حلال الله وحرامه، ويرد على اثنتين وسبعين فرقة، يقال له هذا؟ لو نشرت بين اثنتين ما فارقت مذهب مالك. فلم يعارضه، وقال لمن حوله: امضوا معه. فخرجوا ومعهم سيوف مصلتة، فمر بجماعة من الناس ممن أحضر لأخذ الدعوة، فوقف عليهم وقال لهم: تثبتوا، ليس بينكم وبين الله إلا الإسلام، فإن فارقتموه هلكتم. فترك عبد الله بقية الشيوخ بعد ذلك المجلس (1).
بهذه العزيمة القوية والإرادة الصلبة واجه علماء أهل السنَّة دعاة العبيديين وثبتوا في وجههم زهاء قرن ونصف من الزمن. فهذا يجلد، وذلك يسجن، والآخر يصلب. فلم يزدهم كل هذا إلا ثباتًا وصمودًا. وبثباتهم هذا تحصنت العامة فاقتدت بعلمائها ولم تسقط في مهاوي التشيع والبدع. واستمر حال أهل إفريقية على هذا المنوال وهم صابرون محتسبون، غير مستكينين ولا خانعين، إلى أن فرج الله عليهم بانجلاء العبيديين إلى مصر، وإدراك خلفائهم أن المصلحة في الرجوع إلى مذهب أهل السنَّة ومفارقة أهل البدعة.

ث- انتشار الأشعرية بإفريقية:
كما سبقت الإشارة فإن أهل الغرب الإسلامي تمسكوا بمذهب مالك فأخذوا منه الأصول- العقائد- والفروع والسلوك. ولفظوا كل العقائد التي لم تأت عن طريقه، وخاضوا في سبيل ذلك صراعًا مريرًا مع الخوارج
__________
(1) ترتيب المدارك: 6/ 255.

(1/44)


والشيعة والمعتزلة وغيرهم. إلا أن الأمر اختلف تمامًا مع العقيدة الأشعرية؛ إذ لم تلق تلك المعارضة الحادة التي ووجهت بها باقي الفرق، بل دخلت في بداية أمرها بهدوء، واعتنقها بعض الخاصة. ثم ما فتئت أن عممت بواسطة دولة الموحدين.
والتساؤل الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: لماذا لم تلق العقيدة الأشعرية مصير سابقاتها من العقائد؟ وما السر في دخولها بهذا الهدوء، إذا استثنينا دور الدولة الموحدية التي حاربت التوجهات العقائدية والفقهية للمرابطين؟
السبب في ذلك يرجع إلى عدة أمور من بينها:
1 - أن أبا الحسن الأشعري عده كثير من المالكية ضمن المالكيين (1)، وعليه، يكون فكره منبثقًا من داخل المدرسة.
2 - ظهور القاضي أبي بكر الباقلاني (ت 403 هـ) في النصف الثاني من القرن الرابع، الذي يعد المؤصل الحقيقي لهذا المذهب. فكان مالكية القيروان يشدون إليه الرحال، فيأخذون منه فقه مالك والعقيدة الأشعرية أيضًا. (ومن اشهرهم: أبو عبد الله الأذري، وأبو طاهر البغدادي، وأبو عمران الفاسي).
3 - التقارب الكبير بين العقيدة الأشعرية والعقيدة السلفية، إذ الخلاف بينهما محصور في أمور ليست من أركان العقيدة الإسلامية وأسسها (2).
__________
(1) منهم ابن فرحون في الديباج ص 193، والقاضي عياض الذي قال في ترتيب المدارك 5/ 24 ذكر محمد بن موسى بن عمران أنه كان مالكيًا، قال وذكر لي بعض الشافعية أنه شافعي حتى لقيت الشيخ الفاضل الفقيه رافعًا الحمال الشافعي فذكر لي عن شيوخه أن أبا الحسن كان مالكيًا.
وإن كان الشافعية هم أيضًا ينسبونه إلى مذهبهم قال أبو بكر بن قاضي شهبة في طبقات الشافعية 2/ 114 وقد صرح الأستاذ أبو بكر بن فروك في طبقات المتكلمين بأن الأشعري شافعي.
(2) علمًا بأن أبا الحسن الأشعري ألف في آخر عمره كتاب الإبانة عن أصول الديانة وصرح فيه بأنه على عقيدة السلف.

(1/45)


4 - أضف إلى هذا ما أثاره انسلاخ أبي الحسن الأشعري من الاعتزال الذي تربى في أحضانه وصار إمامًا فيه ينافح ويناظر من أجله. فكان انسلاخه نصرًا لأهل السنة، أحدث هزة فكرية قوية بلغ صداها إلى كل الأقطار الإسلامية.
5 - ظهور الفكر الأشعري كان استجابة لضرورة حضارية في مجال الفكر العقدي؛ فالمعتزلة التي نشأت أوائل القرن الثاني تمثل صيغة جديدة في فهم العقيدة تقوم على الحجة العقلية، والتغالي في الاعتداد بالعقل، والزهادة في النص. وعلى الأخص الحديث الذي سلطوا عليه مقياسًا نقديًا قاسيًا أفضى إلى رفض كثير منه، وتأويل جانب آخر بما يناسب آراءهم.
وفي القرن الثالث بدأت تظهر بوادر الحركة الفلسفية المتأثرة بالفلسفة اليونانية، وكانت نزعة تقوم على اعتبار العقل قبل اعتبار الشرع، وإخضاع النص للعقل، وبذلك كانت هذه النزعة تمثل تحديًا أشد من المعتزلة- رغم اتفاق المعتزلة معهم في تقديم النص على العقل- ثم يأتي التحدي الصارخ للعقيدة الإسلامية عمومًا ولأهل السلف خصوصًا، متمثلًا في الديانات المعادية للإسلام، التي اتخذت لها في الجدل أساليب وطرائق عقلية، استقتها من المنطق اليوناني لسبق اتصالها بالفلسفة اليونانية (1). أضف إلى هذة التحديات ما سقط فيه بعض جهلة النصيين من الوقوع في التشبيه والتجسيم (2).
فهذا الوضع الفكري الذي أسفر عنه القرن الثالث الهجري جعل أهل السلف في موقع صعب في الميدان الفكري، فبانت بذلك الضرورة الحضارية في مجال العقيدة ملحة أشد الإلحاح على التكيف حسب هذه البيئة في إثبات حقائق العقيدة الإسلامية التي فهموها من النصوص وفي أساليب الرد على الشبهات الواردة عليها. فكان ظهور الأشعرية ببغداد استجابة لتلك الضرورة في مجال الفكر العقدي (3).
__________
(1) فصول في الفكر الإسلامي بالمغرب ص 14 - 16 بتصرف.
(2) انظر بيان تلبيس الجهمية 1/ 410، وتلبيس إبليس ص: 86.
(3) إلا أن الشيخ عبد الله كنون فصّل: في المسألة وفرّق ما بين المشرق والمغرب فقال: وهو اجتهاد على كل حال أوجبته الضرورة، أملاه الموقف الذي كان عليه أمر الاعتقاد في المشرق الإسلامي. أما في المغرب فلم تدع لذلك ضرورة ولا جد موقف غير =

(1/46)


هذه هي هم الأسباب التي جعلت مالكية الغرب الإسلامي لا يواجهون العقيدة الأشعرية بمثل ما واجهوا به باقي العقائد. ورغم وجاهة هذه الأسباب، إلا أنها لم تشفع لها عند كثير من علماء الغرب الإسلامي الذين لا يبغون بديلًا عن عقيدة الإمام مالك السلفية، ولم يرضوا أن يحيدوا عنها قيد أنملة. فهذا شيخ المالكية بالقيروان ابن أبي زيد القيرواني رغم إجلاله واحترامه ودفاعه عن أبي الحسن الأشعري لم يتبعه في عقيدته. ومقدمة رسالته المشهورة دليل على ذلك. فهي من الناحية المنهجية ذات صبغة استعراضية لا أثر فيها للاستدلال العقلي (1)، كما أن الأفهام العقدية الواردة فيها لا تختلف عما كان مألوفًا عند أهل السلف سواء في مسألة الصفات- "فالله على العرش استوى وعلى الملك احتوى، وله الأسماء الحسنى والصفات العلى" (2) -، أو مسألة القرآن- فهو كلام الله ليس بمخلوق فيبيد ولا صفة لمخلوق فينفد-، أو مسألة علاقة الذات الإلهية بالمكان، وهي قوله: "وأنه -أي الله تعالى- فوق عرشه المجيد بذاته، وهو في كل مكان بعلمه" (3).
وهذا أبو الحسن اللخمي، فقد وصلنا عنه أنه كان يستثقل علم
الكلام. جاء في المعيار ما يلي: "وسئل المارزي عن قوله - صلى الله عليه وسلم - ما سمع صوت المؤذن إنس ولا جن ولا رطب ولا يابس، وفي لفظ ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة (4) "، فإنه يقتضي أن الجمادات تعقل ذلك.
__________
= الذي كان عليه الحال أيام السلف، فلم يكن ثم لزوم بل ولا مبرر لرواج هذه البدعة، ولذلك قاومها العلماء المغاربة بنصح وإخلاص: جولات في الفكر الإسلامي ص90، وقد أشار إلى هذه المسألة من قبل ابن رشد الجد في مسائله 2/ 860 - 862.
(1) فصول في الفكر الإسلامي ص 24.
(2) الرسالة ص 7.
(3) المصدر السابق.
(4) أخرج البخاري في بدء الخلِق 3296: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضيَ للهُ عَنْهُ قَالَ لَهُ: إِنِّي أَرَاك تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ، فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ وَبَادِيَتِكَ فَأَذَّنْتَ بِالصَّلَاةِ فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ فَإِنَّهُ لاَ يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلاَ إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -.

(1/47)


فأجاب: الذي عند أهل الأصول أن الجماد لا يسمع، ويستحيل أن يكون الجماد شيئًا من ذلك. وقد ذكرت شيئًا من ذلك عند اللخمي، وقلت له: إن القاضي ابن الطيب يمنع من هذا. فقال لي قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} يدل على أن الجمادات كلها تسبح. وأنكر قول القاضي غاية الإنكار. وقال لي: خلوا ما أنتم عليه من كلام الأصوليين. وكان رحمه الله يستثقل كلام الأصوليين. فقال له عبد الجليل: فهذه الحصاة تسبح. فقال نعم تسبح بالغيظ فسكت عبد الجليل لما رأينا من غيظه (1).
وهذا عبد الله بن ياسين تلميذ أبي عمران الفاسي وقد بعثه هذا الأخير إلى الأمير يحيي بن إبراهيم الصنهاجي مرشدًا ومعلمًا وزعيمًا روحيًا، فأسسا معًا دولة المرابطين على غير نفس أشعري. بل قامت على روح فقهية واكتفت في العقيدة بما كان عليه أهل السلف.
وهذا كله يدل على أن الأشعرية في بداية أمرها وإلى حدود القرن الخامس لم تلق معارضة قوية، وفي نفس الوقت لم تلق ترحيبًا واعتناقًا مطلقًا. فدخولها لم يحدث ضجيجًا. رغم ما بذله الإمام المازري (2) الذي يمثل ظهوره بداية نضج الأشعرية، وعطائها بإفريقية.
إلا أن هذا السير الهادئ للأشعرية بإفريقية لم يكتب له الدوام، إذ بحلول القرن السادس دخلت الأشعرية دخولاً يختلف عن دخولها الأول، ففي الأول دخلت من الشرق محمولة في صدور وكتب العلماء، أما دخولها الثاني فجاء من الغرب على سيوف الموحدين.

ج - التصوف:
لم يرج هذا المصطلح وينتشر في الثقافة الإسلامية إلا في نهاية القرن
الثاني الهجري (3). وقد كان يقوم مقامه مصطلح الزهد والورع أو ما شاكل
__________
(1) المعيار 12/ 354.
(2) انظر المازري للشاذلي النيفر ص 149.
(3) انظر الصوفية معتقدًا ومسلكًا ص 53.

(1/48)


ذلك. ولم يكن أحد من المسلمين يحاول التميز بسلوك ينفرد به دون غيره، يفسر شططًا بعض أمور العقيدة على ضوء ما بدر منه. فعامة المسلمين يؤدون شعائرهم على ضوء ما أمر به الله ورسوله ولم يكن بينهم من يريد أن يستقل بسلوك أو بنهج في التعبد يخرج به عن نطاق ما في كتاب الله والعمل بسنة رسوله.
ويتعسر هنا الحديث عن ظروف وحيثيات نشوء التصوف بمدارسه وأشكاله المعروفة. لكن الذي يعنينا هو وضع هذه النزعة بإفريقية.
فقد بدأ التصوف فيها زهداً سنيًا مرتبطًا بالجهاد والرباط في الثغور والانقطاع لتدريس العلوم الشرعية. وكان زعماؤه من فقهاء المالكية، فارتبط الفقه في هذه المرحلة بالزهد.
فهذا أبو إسحاق الجبنياني الزاهد الورع (ت) 369 الذي أقبلت عليه الدنيا وأعرض عنها، وقد كان أبوه وجيهًا عند الأغالبة ووصل إلى منصب الوزارة. قال عنه عياض: "أحد أئمة المسلمين وأبدال أولياء الله الصالحين" (1).
وقد أثنى عليه كثير من العلماء جمعهم القاضي عياض في النص التالي: "وكان أبو الحسن القابسي يقول: الجبنياني إمام يقتدى به، وكان أبو محمد بن أبي زيد يعظم من شأنه ويقول طريق أبي إسحاق خالية لا يسلكها أحد في الوقت. ويقول: لئن لم يكن أمر أويس القرني صحيحًا فالجبنياني أويس هذه الأمة. ويقول: لو فاخرتنا بنو إسرائيل بعبادها لفاخرناهم بالجبنياني، ويقول من محبتي فيه وكثرة ذكري له أني أراه في المنام. ولقد قوي قلبي أن يدعو لي، وأنه رأى جامع مختصر المدونة الذي ألفته فأعجبه. وكان أبو محمد بن التبان يثني عليه. وكان مسرة بن مسلم إذا ذكره يبكي بكاءً عظيمًا ويقول: كان والله مقدمًا علينا في صغره وفي كبره ... قال أبو القاسم اللبيدي: ... قال لي أبو إسحاق: أتدرسون في
__________
(1) ترتيب المدارك 6/ 225.

(1/49)


هذا الوقت العلم؟ قالت: نعم، قال: فتجتمعون للمذاكرة؟ قال: لقد كنا نجتمع ولقد ألقينا المدونة في شهر ندرس النهار ونلقي الليل فما علمت أنا نمنا ذلك الشهر ... ثم قال لي: أي كتاب في أيديكم تدرسونه؟ فقلت العتق الأول، فألقى علي من أوله وسرد المسائل حتى كأن الكتاب في يده. قال: وكان ينزع بالقرآن والسنة، وكان العلماء الفصحاء بين يديه كالغلمان بين يدي المعلم من هيبته" (1).
من خلال هذا النص يتبين لنا أن الفقهاء كان لهم تعاطف وإعجاب، بل وتنويه بهذا الزاهد السني. وهذا شأنهم مع كل من لم يحد عن النهج القويم.
لكن صفاء هذه العلاقة الودية عكرها بعض من لم يلتزم بالضوابط والقواعد الشرعية. ولا شك أن رحلات الإفريقيين إلى الشرق كانت من أهم العوامل التي ساعدت على انتشار الأنماط السلوكية الخاصة بأهل التصوف.
فبدأ المتصوفة بعد هذا يتميزون عن الفقهاء، وبدأت تلوح بوادر الصراع بين العلماء المحافظين على سلامة العقيدة في جوهرها ومظهرها وبين الصوفية المبتدعة. فهذا يحيي بن عمر بن يوسف الكندي (ت) 289 ألف كتابًا في النهي عن حضور مسجد السبت، وأفتى بهدمه، وكان يجتمع فيه بعض أهل الزهد والصلاح وتنشد فيه الأشعار (2).
وهذا ابن أبي زيد- شيخ المالكية- يؤلف كتابين في الرد على أبي القاسم عبد الرحمن بن محمد البكري (3)، الذي ألف كتابًا في الكرامات سماه "كرمات الأولياء المطيعين من الصحابة ومن تبعهم بإحسان". ويبدو أن أبا القاسم هذا كان في طليعة من أدخلوا آراء الصوفية وقواعدهم المنحرفة إلى إفريقية.
__________
(1) المصدر السابق 6/ 225.
(2) ترتيب المدارك 4/ 361، والديباج المذهب ص: 107.
(3) كتاب العمر 2/ 455.

(1/50)


وهذا أبو الحسن علي بن أبي طالب- المعروف بالعابر- أتى بمسألة غريبة لا تعرف ماهيتها، "لكن يبدو أنها من نوع الدعاوى الصوفية التي ينكرها علماء السنة" (1)، فدخل في صراع مع علماء البلد.
ولم تكن إفريقية بمنأى عما أحدثه كتاب "إحياء علوم الدين" لأبي حامد الغزالي في الغرب الإسلامي (2)، بل تفاعلت مع الحدث. ومن أبرز من تصدى للموضوع من أهل إفريقية؛ الإمام المازري الذي ألف كتابًا في الرد على "الإحياء" سماه "الكشف والإنباء عن كتاب الإحياء"، ومما جاء فيه: "ولقد أعجب من قوم مالكية يرون مالكًا الإمام يهرب من التحديد ويجانب أن يرسم رسمًا وإن كان فيه أثر ما أو قياس ما، تورعًا وتحفظًا من الفتوى فيما يحمل الناس عليه ثم يستحسنون من رجل فتاوى مبناها على ما لا حقيقة له، وفيه كثير من الآثار عن النبي-صلى الله عليه وسلم- لفق فيه الثابت بغير الثابت. وكذا ما أورد عن السلف لا يمكن ثبوته كله. وأورد من نزغات الأولياء ونفثات الأصفياء ما يجل موقعه، لكن مزج فيه النافع بالضار كإطلاقات يحكيها عن بعضهم لا يجوز إطلاقها لشناعتها. وإن أخذت معانيها على ظواهرها، كانت كالرموز إلى قدح الملحدين. ولا تنصرف معانيها إلى الحق إلا بتعسف على اللفظ، مما لا يتكلف العلماء مثله إلا في كلام صاحب الشرع الذي اضطرت المعجزات الدالة على صدقه المانعة من جهله وكذبه إلى طلب التأويل" (3).
__________
(1) كتاب العمر 2/ 458.
(2) لما دخل كتاب الإحياء إلى الغرب الإسلامي كان من بين الأوائل الذين اطلعوا عليه قاضي الجماعة محمد بن علي بن حمد (ت) 508 هـ، فأنكر ما فيه ولم يستصغه، فتدارسه مع العلماء والفقهاء، فاجتمعت كلمتهم على ضرورة إتلاف هذا الكتاب والتصدي لشبهاته والتحصن من ضلالاته، فرفعوا أمره إلى أمير المسلمين علي بن يوسف، فوافقهم على ذلك وأصدر أمراً بمصادرة الكتاب وإحراقه وأمر بتفتيش المكتبات الخاصة والعامة وأن يحلف من يشك في أمره بالأيمان المغلظة بأنهم لا يملكون كتاب الإحياء.
انظر البيان المغرب 4/ 59، والحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية 104.
(3) السير 19/ 330.

(1/51)


فكان المازري بهذا مسايرًا للتيار العام الرافض لمضمون كتاب "الإحياء". إلا أن هذا لا يعني أنه حصل الإجماع على ذلك، فقد وجد من أهل إفريقية من كان له رأي آخر في هذا الكتاب. ولعل أبرز من يمثل هذا الرأي هو أبو الفضل يوسف بن محمد النحوي (1)، الذي تجاسر وكتب لأمير المسلمين يوسف بن تاشفين كتابًا في ذلك، وأفتى بأن الأيمان التي فرضت في عملية التفتيش أيمان لا تلزم. وقال: وددت أنني لم انظر في عمري سوى كتاب الإحياء (2).
بعد هذا أرى أنه قد آن الأوان للحديث عن الوضع الفقهي في إفريقية.

ثانيًا وضع الفقه:
لقد كان المذهب المالكي في إفريقية في عصر ابن بشير هو المهيمن على الساحة الفقهية، والمسيطر عليها، وصاحب السيادة المطلقة فيها. ولم يكن ينازعه في ذلك أي مذهب من المذاهب. لكن قبل أن يصل إلى هذه المكانة مر بمراحل مختلفة وعصفت به أزمات متنوعة، استطاع أن يصمد في وجهها. فما هي إذن هذه المراحل؟ وما هي هذه الأزمات التي مر بها؟ هذا ما سنتحدث عنه في هذا المبحث.
لقد كان المذهب الحنفي هو الأسبق إلى إفريقية من غيره، فكان هو السائد بها والغالب عليها. يقول القاضي عياض: "وأما إفريقية وما وراءها من المغرب فقد كان الغالب عليها في القديم مذهب الكوفيين، إلى أن دخل علي بن زياد، وابن أشرس، والبهلول بن راشد، وبعدهم أسد بن الفرات وغيرهم بمذهب مالك فأخذ به كثير من الناس .. " (3).
__________
(1) كان مولده يتوزر في حدود 433 هـ، ورحل إلى القيروان ثم سفاقس فأخذ عنه أبو الحسن اللخمي والمازري. رحل إلى المغرب ودخل سجلماسة فتصدى للتدريس فطرده أهلها بدعوى إدخاله علومًا لا يعرفونها. توفي سنة 513، نيل الابتهاج 383 والعمر 2/ 464.
(2) كتاب العمر 2/ 465.
(3) ترتيب المدارك: 1/ 25.

(1/52)


فقد دخل المذهب المالكي إلى إفريقية في حياة الإمام نفسه، إذ كان يرد عليه أبناء المنطقة ينهلون من علمه ويرجعون إلى بلدهم لبثه فيها. وقد ورد عليها أكثر من ثلاثين رجلًا, كل منهم سمع منه. يقول الخشني: "كانت إفريقية قبل رحلة سحنون قد غمرها مذهب مالك بن أنس لأنه رحل منها أكثر من ثلاثين رجلًا كلهم لقي مالكًا وسمع منه. وإن كان الفقه والفتيا في قليهل منهم" (1). ومن أشهر من وفد على الإمام مالك من أهل المنطقة أبو الحسن علي بن زياد الذي كشف له مالك عن أصول مذهبه (2). فلما رجع فسر لهم قول مالك، ولم يكونوا يعرفونه.
ومن الوافدين على الإمام مالك كذلك: البهلول بن راشد القيرواني وعبد الله بن غانم الذي كان يجله الإمام مالك ويقعده إلى جنبه، بل عرض عليه أن يزوجه ابنته ويقيم عنده، فامتنع من المقام، وقال له: إن أخرجتها إلى القيروان تزوجتها (3). وعبد الرحمن بن أشرس (4) وغيرهم. فدخل هؤلاء الصفوة بآراء مالك وفقهه إلى إفريقية، التي كانت تعج بآراء الأئمة الآخرين. فمذهب أبي حنيفة قد تبناه العباسيون والمنطقة تابعة لهم.
كما عرفت المنطقة كذلك آراء كل من سفيان الثوري، والليث بن سعد (5)، وسفيان بن عينية (6)، والشافعي وغيرهم.
ورغم هذا الحضور المكثف للمذاهب المختلفة بإفريقية إلا أن الغلبة كانت للمذهب المالكي والمذهب الحنفي الذي كان المذهب الرسمي للأغالبة، فالتقى المذهبان في مجالس الدرس يتنازعان الظهور والغلبة، وكان النقاش بينهم هادئًا نوعًا ما، بل كان من العلماء من
__________
(1) تراجم أغلبية ص:93.
(2) ترتبب المدارك 3/ 81
(3) الترتيب 3/ 66.
(4) الترتيب 4/ 86.
(5) من الذين أدخلوا آراء سفيان الثوري والليث بن سعد البهلول بن راشد وعلي بن زياد.
ترتيب المدارك 3/ 80.
(6) وقد أدخل آراء سفيان بن عينية عبد الله بن حسان. ترتيب المدارك 3/ 310.

(1/53)


يدرس المذهبين معًا، فأسد بن الفرات كان يتكلم في كتب أبي حنيفة. وكان الطلاب يقولون له: أوقد القنديل الثاني يا أبا عبد الله فيتكلم في المذهب المالكي (1)، وابن غانم كان يدرس مذهب أبي حنيفة كل يوم جمعة (2).
ثم جاء بعد هؤلاء إمام عظيم كان له دور بارز في تثبيت مذهب الإمام مالك ونصرته في إفريقية، أعني الإمام عبد السلام بن سعيد التنوخي المعروف بسحنون، الذي كان عهده فتحًا جديدًا للمذهب المالكي. فصار هو الظاهر والغالب بسبب هذا العالم الذي انتهت إليه رئاسة العلم بإفريقية في عهده. فكثر تلاميذه، حتى بلغ مشاهيرهم نحو سبعمائة (3) كلهم يحفظ ويلم بمدونته المشهورة. قال محمد بن حارث: "ثم قدم سحنون بذلك المذهب واجتمع له مع ذلك فضل الدين والعقل والورع والعفاف والانقباض، فبارك الله فيه للمسلمين فمالت إليه الوجوه وأحبته القلوب وصار زمانه كأنه مبتدأ، قد أمحى ما قبله فكان أصحابه سرج أهل القيروان" (4).
ولعل ما ساعده على ذلك توليه لمهمة القضاء التي نجح فيها. فكانت هذه الولاية مساعدة له في ترسيخ مذهب مالك. ولم تكن هي السبب الرئيس كما زعم ابن حزم حيث قال عند حديثه عن دور يحيى بن يحيى في نشر المذهب المالكي في الأندلس وجعل منصب القضاء حكرًا على المالكية بالأندلس فقال: "وكذلك جرى الأمر في إفريقية لما ولي القضاء سحنون بن سعيد، ثم نشأ الناس على ما انتشر" (5).
ثم جاء بعد سحنون تلاميذه الذين يتمز عصرهم بالصراع العلمي الحاد
__________
(1) ترتيب المدارك 3/ 302.
(2) المصدر السابق 3/ 67.
(3) تطور المذهب المالكي ص 48.
(4) الترتيب 4/ 51.
(5) المغرب 1/ 164.

(1/54)


وكثرة الجدل والمناظرات والردود، حتى أصبح الأمر يستدعي وضع قوانين وقواعد للحوار والمناظرة. فظهر كتاب ابن سحنون "أدب الجدل" (1)، استجابة لهذه الضرورة وملئًا لذلك الفراغ.
وقد اختلفت نظرة العلماء لهذه الظاهرة؛ فالحجوي اعتبر ذلك بلاءً، وقال في حديثه عن ابن سحنون: "ألف في فنون كثيرة كالحديث والفقه والتاريخ وأدب المناظرة والخلافيات التي ابتلي بها ذلك العصر" (2).
ومهما يكن من أمر فإن المسألة لها ارتباط بظروف المذاهب الناشئة التي تجادل وتناظر من أجل الحفاظ على نفسها، إذ السمة البارزة لهذا العصر هي احتدام الصراع بين المذاهب، فكان لا بد للمالكية من نظار ينافحون ويذبون عن مذهبهم في خضم هذا النزاع المذهبي.
وكان من أشهر المناظرين محمد بن سحنون الذي يبدو أنه كان يهيأ من صغره لهذه المهمة، فقد أخذ مواد الخلاف العالي عن كبار العلماء، وكان يناظر أباه (3). فحرص هذا الأخير على تخريجه مناظرًا ألمعيًا. فلم يبخل عليه بالتوجيه والتسديد. ومن جملة ما وجه له في هذا الشأن قوله: "يا بني إنك ترد على أهل العراق، ولهم لطافة أذهان وألسنة حداد. فإياك أن يسبقك قلمك لما تعتذر منه" (4).
وقد جر له هذا المسلك الذي سلكه خصومات وعداوات خاصة مع سليمان بن عمران الحنفي الذي ناصبه العداء بسبب كثرة ردوده على الأحناف (5).
__________
(1) لقد اعتبر الحجوي ابن سحنون أول من ألف في علم الجدل والمناظرة ثم بعده القفال الشاشي من الشافعية. الفكر السامي3/ 99 و 129.
(2) الفكر السامي 3/ 99.
(3) ترتيب المدارك 4/ 205.
(4) رياض النفوس 1/ 443 وترتيب المدارك 4/ 208.
(5) ترتيب المدارك 4/ 217.

(1/55)


ومن الفقهاء البارزين في هذه المرحلة كذلك تلميذ ابن سحنون عبد الله بن طالب الذي كان مولعًا بالمناظرة الفقهية، وجعلها تقليدًا راسخًا. قال ابن حارث: "كان ابن طالب لقنًا (1) فطنًا، جيد النظر، يتكلم في الفقه فيحسن. حريصًا على المناظرة. ويجمع في مجلسه بين المختلفين في الفقه، يغري بينهم لتظهر الفائدة، ويبيتهم عند نفسه، ويسامرهم، فإذا تكلم أجاد وأبان حتى يود السامع ألا يسكت" (2).
ولعل هذا النمط من السلوك -أعني الولوع بالمناظرة-، لم يكن هو المسيطر على الساحة العلمية؛ فقد وجد من كان ينفر منه ويأبى الدخول فيه. فهذا يحيي بن عمر الكندي، لم يكن ينتحي الجدل والمناظرة على سعة علمه، قال القاضي عياض: "كان لا يفتح على نفسه باب المناظرة، وإذا ألحف عليه سائل أو أتاه بالمسائل العويصة، ربما طرده" (3). وكذلك ابن اللباد الذي كانت مناظرته تعسر كما يقول عياض (4).
هكذا كانت هذه المرحلة غزيرة الإنتاج كثيرة الجدل والمناظرة. إلا أن هذا الجدل وإن اتسم بنوع من الحدة، فإنه لم يخرج في الغالب الأعم عن إطار الآداب والأخلاق العلمية، إذا استثنينا بعض التصرفات الطائشة من بعض الأحناف (5)، كما هو الشأن بالنسبة لابن عبدون القاضي الذي "ضرب طائفة من أهل العلم والصلاح من أصحاب سحنون بالسياط وطيف بهم على الجمال بغضًا منه في مذهب مالك وفي أصحابه، منهم أحمد بن معتب وأبو إسحاق بن المضاء وأبو زيد المديني والحسن ابن مفرج مولى مهرية، فمات
__________
(1) لَقِنًا، أي: فَهِمًا. راجع لسان العرب مادة (لقن).
(2) ترتيب المدارك 4/ 309 وأخبار علماء إفريقية ص 257.
(3) ترتيب المدارك 4/ 358.
(4) المصدر السابق.
(5) لم يكن الشافعية بمنأى عن الصراع الذي كان يدور في المنطقة إلا أن موقف المالكية منهم كان أقل حدة على اعتبار أن المذهب الشافعي وليد المذهب المالكي وإن كان مخالفًا له وخارجًا عليه، وهذا ما حمل كثيرًا من المالكية على كتابة ردود كثيرة على الشافعية. انظر تطور المذهب المالكي في الغرب الإسلامي ص 286.

(1/56)


ابن المديني وأبو إسحاق بن المضاء على الحال وهما على الجمال، وكان ابن عبدون حنفيًا رجل سوء" (1).
وإن كان بعض المالكية أيضًا يسلكون هذا النوع من التصرف، إلا أنه لم يصل إلى هذه الحدة. فهذا يحيي بن عمر السالف الذكر، وقد كان "شجا على العراقيين" (2) أقصى ما فعله قوله في إحدى مجالسه، وقد حضر رجل من أهل العراق: "من كان هنا من أهل العراق فليقم عنا" (3).
هكذا كان وضع المالكية مع الأحناف وغيرهم من المذاهب السنية، لكن بعد قيام دولة للشيعة العبيديين في المنطقة سنة 297 هـ تغير وضع المذهب المالكي؛ إذ دخل في مواجهة شاملة مع العبيديين لا تقتصر على الفروع بل تتعداها إلى أركان الأصول، إذ كثير من المالكية كانوا يرون كفر بني عبيد (4). ومما زاد وضع المالكية تعقيدًا مع العبيديين كونهم لا يؤمنون بالحوار ولا بالنقاش ولا بالمناظرة، بل يؤمنون فقط بالبطش والقهر. فهذا المزدي قاضي العبيديين جمع الفقهاء للمناظرة فاستجابوا له فقال: "إني أمرت أن أناظركم في قيام رمضان، فإن وجبت لكم حجة رجعنا إليكم، وإن وجبت لنا رجعتم إلينا. قال ابن الحداد: فقلت له: ما تحتاج إلى المناظرة، فقال لي لا بدّ منها. فقلت له: شأنك وما تريد. فقال: ألستم تعلمون وتروون أن النبي- صلى الله عليه وسلم - لم يقم إلا ليلة ثم قطع، وأن عمر بن الخطاب هو الذي استن القيام، وقد جاء في الحديث الذي تروونه ونرويه أن كل محدثة بدعة، وأن كل بدعة ضلالة، وأن كل ضلالة في النار؟ فقلت له: هذه البدعة من البدع التي يرضاها الله عز وجل، ويذم من تركها. فقال: وأين تجد ذلك في كتاب الله عز وجل؟ فقلت له: في كتابه المنزل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
__________
(1) معالم الإيمان: 116 وما بعدها.
(2) ترتيب المدارك 4/ 363.
(3) يقصد بأهل العراق الأحناف.
(4) ترتيب المدارك 4/ 363.

(1/57)


قال: وأين؟ قلت له: قال الله عز وجل: ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها. فنحن نثابر على هذه البدعة التي هي رهبانية، لئلا يذمنا الله عز وجل كما ذمهم. فقال: من صلى القيام ضربت عنقه، قال: فقلت له: قد قلت لك هذا أولًا، ما تحتاج إلى المناظرة، فلم تقبل" (1).
فضرب علماء المالكية وهون بهم وقتل خيارهم كابن الهذيل (2) وإبراهيم بن البرذون (3)، قال عياض: وغلظ الأمر على المالكية من هذا الحيز ومنعوا من التحليق والفتيا، فكان من يأخذ منهم ويتذاكر معهم إنما يكون سرًا وعلى حال خوف ورقبة (4).
فاعتبر المالكية أنفسهم مسجونين فقد كان جبلة بن حمود الصدفي لا يحضر الجمعة ويصليها ظهرًا أربعًا فسأله بعض المالكية كيف جاز لك أن تصلي أربعًا والجامع يجمع؟ فقال: ألم يمر بك قول مالك في المسجونين أنهم يجمعون في السجن لأنهم منعوا من الجمعة؟ ونحن منعنا من الجمعة فأقمنا أنفسنا مقام المسجونين (5).
على أن المالكية لم يستكينوا ولم يخنعوا بل ثبتوا وصمدوا وواجهوا العبيديين بكل ما أوتوا من قوة. فخرجوا مع أبي يزيد بن مخلد بن كيداد الخارجي ضد العبيديين سنة: 383 هـ، وعبؤوا الرأي العام واستنهضوا الهمم والعزائم للجهاد. وكادوا يقضون على العبيديين الذين حوصروا في مدينة المهدية، إلا أن أبا يزيد هذا لما رأى "هزيمة الفاطميين وشيكة الوقوع وتأكد من نهايتهم، دعته نزعته الخارجية إلى التفكير في القضاء على فقهاء المالكية ومن اجتمع إليهم من أهل السنَّة فقال لأصحابه: إذا لقيتم القوم فانكشفوا
__________
(1) رياض النفوس 2/ 60 وما بعدها.
(2) ترتيب المدارك 5/ 121.
(3) ترتيب المدارك 5/ 117.
(4) الترتيب 5/ 121.
(5) رياض النفوس 2/ 36.

(1/58)


عن علماء القيروان حتى يتمكن أعداؤهم منهم، فيكونوا هم الذين قتلوهم لا نحن فنستريح منهم، وظن أن قتل شيوخ القيروان وأئمة الدين سيتيح له فرض مذهبه وبسط سلطانه. لكنه لم يكن يدري أنه وضع نهاية ثورته بخيانته تلك. فبعد أن قتل من صلحاء القيروان وفقهائها من أراد الله سعادته ورزقه الشهادة، غضب من بقي على قيد الحياة وفارقوا أبا يزيد" (1).
بعد هزيمة أبي يزيد الخارجي ازدادت أحوال المالكية سوءًا مع الفاطميين، واستمروا على ذلك الوضع إلى أن خرج العبيديون إلى مصر سنة 361هـ، وجاء بعدهم خلفاؤهم الصنهاجيون، فخفت حدة التوتر. ولم تزل إلا سنة 433 هـ على يد ابن باديس.
وخلال هذه الفترة -أعني النصف الثاني من القرن الرابع إلى النصف الثاني من القرن الخامس- امتاز الدرس الفقهي بالاتجاه نحو التخفيف من التأصيل (2) والتقليل من الأدلة والميل إلى جمع فروع المذهب المشتتة في الأمهات مع الاختصار في العبارة، وقد كان رائد هذا الاتجاه أبو محمد بن أبي زيد القيرواني، جامع المذهب وشارح أقواله. فاشتغل من جاء بعده بما كتبه ابن أبي زيد. وقد حاول البراذعي محاكاته في نهجه فألف مختصره، إلا أنه لم يلق قبولا لدى معاصريه. فقد كانوا ساخطين وناقمين عليه لموالاته بني عبيد، إذ كان يقبل هداياهم، وألف كتابًا في تصحيح نسبهم (3). وقد حاول البراذعي إقناع أهل القيروان بالانتفاع بعلمه، فجاء بكتابه المختصر إلى الشيخ أبي محمد بن أبي زيد، فأمر بحرقه أو محوه، وعاوده وأتى به إليه وأنشده:
خذ العلوم ولا تعبأ بناقلها ... واقصد بذلك وجه الخالق الباري
أصل الرواية كالأشجار مثمرة ... اجن الثمار وخل العود للنار
__________
(1) الأثر السياسي والحضاري للمالكية في شمال إفريقية. محمد أبو العزم داود ص:204.
(2) تطور المذهب المالكي في الغرب الإسلامي لمحمد شرحبيلي ص 407.
(3) ترتيب المدارك 7/ 257.

(1/59)


فاضطر البراذعي بعد هذا للخروج إلى صقلية. أما كتابه فقد لقي قبولا لدى الأجيال اللاحقة.
كما تأثر علماء هذه المرحلة ببعض كتب الحديث التي دخلت المنطقة؛ وأهمها صحيح البخاري، الذي دخل على يد أبي الحسن القابسي (ت) 403، فانتعش الدرس الحديثي، واشتغل الناس بشرح البخاري والموطأ.
إلا أن العصر الذهبي للمذهب المالكي بإفريقية يبدأ عندما أدرك المعز بن باديس أن القضاء على المذهب المالكي أمر بعيد المنال ومتعذر الوقوع، ورأى أن مصلحة الدولة في جمع الشمل والقضاء على القلاقل. ولم يجد أفضل من التخلي عن العبيديين، وتبني المذهب المالكي ذي القاعدة الشعبية العريضة. فارتفع الضغط والتسلط والقهر الذي مورس على المالكية ولم يبق هناك داع ولا مبرر للاشتغال بالجدل والردود والمناظرات، إذ لم يعد هناك وجود معتبر للمذاهب المخالفة.
فالأحناف لفظهم المجتمع بسبب تشرقهم ولم يعد لهم مساند سياسي، فخلت الساحة للمالكية فتفرغوا لخدمة فروع مذهبهم وأصوله، فركزوا على رواياته وأقواله وقارنوا بينها وميزوا صحيحها من سقيمها ومشهورها من شاذها. وبعبارة أخرى بدأت عملية الغربلة والتمحيص بعدما انتهت مرحلة الجمع.
كما بدأت تظهر بوادر الرجوع إلى التأصيل مرة ثانية، ونشط تعليل الخلاف (1) وذكر أسبابه. فنشط بذلك الدرس الفقهي وظهرت طبقة من العلماء تحاول التحرر من التقليد، وتتعامل مع نصوص المذهب بعقلية نقدية وتحاكمه إلى قواعده وأصوله. فقامت ثلة من المالكية في هذه المرحلة بدور كبير وبحركة أحدثت صدى ظاهرًا. عملوا من خلالها على لفت الانتباه إلى منهج السلف، وإلى ضرورة العودة إلى المنهج العلمي الأمثل. فألفوا كتبًا
__________
(1) ممن اشتهر بذكر سبب الخلاف عبد الحميد الصائغ واللخمي والمازري وابن بشير.

(1/60)


انتهجوا فيها نهج التأصيل والرجوع مباشرة إلى المنابع الأولى: القرآن والحديث في إطار المذهب وفروعه، غير متخلين عن اجتهاداتهم الخاصة. ومن أبرزهم ابن يونس واللخمي والمازري (1).
يقول الفاضل بن عاشور في نفس الصدد: "وتكون بالإمام اللخمي الإمام أبو عبد الله المازري، فكان مع الحلبة التي عاصرته من الفقهاء الذين نستطيع أن نذكر منهم على سبيل المثال الواضح أربعة: وهم المازري وابن بشير وابن رشد الكبير والقاضي عياض. فهؤلاء هم الذين سلكوا طريقة جديدة في خدمة الحكم؛ هي الطريقة النقدية التي أسس منهجها أبو الحسن اللخمي. فصاروا في الفقه يتصرفون فيه تصرف تنقيح، وينتصبون في مختلف الأقوال انتصاب الحكم الذي يقضي بأن هذا مقبول، وهذا ضعيف، وهذا غير مقبول، وهذا ضعيف السند في النقل، وهذا ضعيف النظر في الأصول، وهذا مغرق في النظر في الأصول، وهذا محرج للناس، أو مشدد على الناس، إلى غير ذلك. وهي الطريقة التي درج عليها الإمام المازري في شرحه على التلقين للقاضي عبد الوهاب، ودرج عليها ابن بشير في شرحه عل المدونة الذي سماه التنبيه على مسائل التوجيه" (2).
بعد هذا قد يقول قائل: إن ما قررته يتعارض تمامًا مع ما قاله المازري عندما تحدث عن اشتراط الاجتهاد في القاضي فقال: "وهذه المسائل تكلم عليها العلماء الماضون لما كان العلم في أعصارهم كثيرًا منتشرًا وشغل أكثر أهله بالاستنباط والمناظرة على المذاهب، وأما عصرنا هذا فإنه لا يوجد في الإقليم الواسع العظيم مفت نظار، قد حصل آلة الإجتهاد واستبحر في أصول الفقه ومعرفة اللسان والسنن والاطلاع على ما في القرآن من الأحكام، والاقتدار على تأويل ما يجب تأويله، وبناء ما تعارض بعضه على بعض، وترجيح ظاهر على ظاهر، ومعرفة الأقيسة وحدودها وأنواعها وطرق استخراجها، وترجيح العلل والأقيسة بعضها على
__________
(1) تطور المذهب المالكي في الغرب الإسلامي لمحمد شرحبيلي ص: 435.
(2) المحاضرات المغربيات للفاضل ابن عاشور ص: 81.

(1/61)


بعض. هذا الأمر زماننا عار منه في إقليم المغرب كله فضلًا عمن يكون قاضيًا على هذه الصفة" (1).
فالنص صريح الدلالة على خلو إقليم المغرب كله ممن حصَّل آلة الاجتهاد زمن المازري المعاصر لابن بشير، فكيف إذا تصف هذا العصر بأنه عصر اجتهاد وتحرر؟ (2).
ويمكنني أن أجيب عن هذا بما يلي:
أولًا: كلام المازري جاء في سياق الرد على من يشترط الاجتهاد في القاضي، ولم يأت في إطار الحديث عن وجود المجتهدين أو عدم وجودهم. ومعلوم أن السياق قيد، فجاءت العبارات عرضية. وغير خاف أن الكلام الذي يأتي عرضيًا لا يكون دقيقًا في بعض الأحيان, لأنه يؤتى به ليخدم فكرة أخرى.
ثانيًا: إذا كان المازري لم ينسب الاجتهاد لنفسه، ولم يدَّعِه -وهو إمام عصره بدون منازع، اتفق الفقهاء على أنه بلغ رتبة الاجتهاد (3). ولم يخالف في ذلك أحد، إلا ما روي من تحفظ ابن عرفة. وأنكر عليه العلماء تحفظه هذا أشد الإنكار؛ لأنه أثبت الاجتهاد لابن دقيق العيد وابن عبد السلام الهواري، وهما دون مرتبة المازري (4). بل إن ابن دقيق العيد استغرب من عدم ادعاء المازري للاجتهاد فقال: "ما رأيت أعجب من هذا- يعني المازري- لأي شيء ما ادعى الاجتهاد" (5). وأكثر من هذا كون المازري لم يكن يتجرأ على الخروج حتى على المشهور. ولذلك تفسيرات وتأويلات ليس هذا محلها.
__________
(1) تبصرة الحكام 1/ 18.
(2) نفس الرأي تبناه محمد بن الحسن الحجوي عندما اعتبر القرن الخاص بداية ظهور الشيخوخة والهرم المقرب من العدم. الفكر السامي 3/ 163.
(3) الغنية ص 123 والدبباج 2/ 251.
(4) المازري الفقيه والمتكلم ص 31.
(5) الوافي بالوفيات 4/ 151.

(1/62)


أقول: إذا كان المازري على هذه الجلالة والإمامة والمكانة، لم يدع الاجتهاد لنفسه ولم يخرج عن المشهور، فكيف ننتظر منه أن يدعيه لغيره؟
ولم يكن المازري وحيدًا في نسيجه أو حالة فريدة في شريحته، بل هذا شأن كبار العلماء أمثاله، وهم كثر. أذكر منهم الشاطبي؛ المنظر والراسم لمعالم الاجتهاد؛ فقد نفى هو أيضًا عن نفسه الاجتهاد فقال: "ومراعاة الدليل، أو عدم مراعاته ليس إلينا معشر المقلدين، فحسبنا فهم أقوال العلماء، والفتيا بالمشهور منها، وليتنا ننجو مع ذلك رأسًا برأس، لا لنا ولا علينا." (1).
وبهذا يتبين أن كلام المازري جاء متأثرًا بطبيعته ونفسيته الميالة إلى إجلال العلماء المتقدمين والتهيب من اقتحام باب الاجتهاد، الذي من شروطه:- بالاضافة إلى العلم- الشجاعة. وهذا دأب العلماء الراسخين في العلم، المغلبين جانب الورع والتواضع على جانب العجب والغرور، ورغم هذا كله فإن المازري كان يمارس الاجتهاد عمليًا في الجانب التكويني التفقيهي (2)، والله أعلم.
بقي أن أشير إلى أن علماء هذه المرحلة فرغوا جهودهم في المدونة المصدر الأول للمذهب. وكانوا يسمون الكتب التي تدور في ذلك المدونة شروحا أو تعاليق. قال ابن خلدون: "ولم تزل علماء المذهب يتعاهدون هذه الأمهات بالشرح والإيضاح والجمع؛ فكتب أهل إفريقية على المدونة ما شاء الله أن يكتبوا، مثل ابن يونس واللخمي وابن محرز والتونسي وابن بشير وأمثالهم" (3).
بعد هذا، أرى أنه آن الأوان للحديث عن حياة ابن بشير، وأرى أن ما سبق ذكره فيه كفاية لفهم الظروف المؤثرة في حياة هذا الإمام.
__________
(1) المعيار:11/ 103.
(2) انظر منهج الخلاف والنقد الفقهي عند المازري ص: 210.
(3) المقدمة ص: 450.

(1/63)