التنبيه
على مبادئ التوجيه - قسم العبادات الفصل الثاني: حياة ابن بشير
المبحث الأول: حياته الشخصية.
المبحث الثاني: عطاؤه العلمي.
(1/65)
الفصل الثاني: حياة
ابن بشير (1)
قبل أن أتحدث عن حياة ابن بشير لا بد من الإشارة إلى أن هذا الإمام لم يلق
من العناية والاهتمام ما يليق بمكانته العلمية ومنزلته الفقهية داخل
المذهب، فقد ضن المؤرخون والمترجمون على أن يجودوا بترجمة وافية عنه،
والمترجم الرئيس له هو: ابن فرحون (ت) 799 هـ الذي يفصل بينه وبين ابن بشير
قرنان ونصف من الزمن، وكل من ترجموا له فمعولهم على ما ذكره ابن فرحون.
باستثناء المخطوط المجهول المؤلف الموجود في الخزانة العامة رقم: 928 د،
الذي أضاف شيئًا قليلًا جدًا عما ذكره ابن فرحون، وإن كان ينقل عنه أيضًا.
وقد بحثت عن أخباره المنيعة المطلب والصعبة المرام في كل ما وصلت إليه يدي
من كتب الطبقات والتراجم والفهارس والبرامج والإثبات والمشيخات والمعاجم،
ولم أظفر إلا بالنزر اليسير.
ولم يكن حظ ابن بشير مع المعاصرين بأسعد من حظه مع المتقدمين. فقد لقي منهم
نفس الإهمال الذي لقيه من سابقيهم- في حدود علمي- إذ
__________
(1) ترجمته في الكتب التالية: الديباج المذهب: 1/ 265، تراجم مالكية لمؤلف
مجهول ص 299، شجرة النور الزكية: 126، كتاب العمر: 2/ 693، الفتح المبين في
طبقات الأصوليين 2/ 22، معجم المؤلفين: 1/ 48، تراجم المؤلفين التونسيين 1/
143، موسوعة الفقهاء - طبقات الفقهاء 6/ 7.
(1/67)
لم أقف إلى هذه اللحظة على أي كتاب طبع له،
ولا على أية دراسة أنجزت حوله، ولا حتى على مقالة كتبت عنه. اللَّهم إلا ما
بلغني من أن الدكتور محمد أبا الأجفان يحقق كتابه (المختصر).
ولو كان ابن بشير فقيهًا مغمورًا أو ضعيف القول والإنتاج، لما استغربت ذلك.
ولكن الرجل من فحول فقهاء المالكية، وقوله يعتد به داخل المذهب، وكل من جاء
بعده من الفقهاء ينقل عنه بما يجعل موقف المترجمين منه لغزًا يحتاج إلى
تفسير.
هذه كلمة لا بد منها لكي يكون القارئ على بينة من الظروف المتحكمة في
الترجمة.
...
المبحث الأول: حياته الشخصية
* المطلب الأول: اسمه ونسبه
هو: أبو الطاهر إبراهيم بن عبد الصمد بن بشير التنوخي. هكذا سمته جميع
المصادر التي وقفت عليها، باستثناء ما وجدته في أول كتاب الجامع (1) من أن
كنيته أبو إسحاق وأنه أندلسي. حيث جاء فيه: كتاب الجامع من كتب أبي إسحاق
إبراهيم بن عبد الصمد بن بشير الأندلسي رضي الله عنه.
ولم أقف على شخص بهذا الاسم، فظهر لي- والله أعلم- أن هذا خطأ من الناسخ.
وإن جرت عادة كل من تسمى بإبراهيم أن يتكنى بأبي إسحاق. أما نسبته إلى
الأندلس فخطأ بين.
هذا كل ما نعرفه عن نسبه. وأبوه عبد الصمد غير معروف، وجده
__________
(1) سيأتي الحديث عنه.
(1/68)
بشير كذلك. أما القبيلة التي انتسب إليها
"تنوخ"؛ فهو اسم أطلق على عدة قبائل عربية، اجتمعت في البحرين وتحالفت على
التناصر. فسميت تنوخا لتنوخها، أي: إقامتها (1).
وقد ذكر ابن فرحون ومن تبعه أن ابن بشير كانت بينه وبين أبي الحسن اللخمي
قرابة. ولم يوضح نوع هذه القرابة. ويبدو أنها قرابة من جهة الأمهات، أو
المصاهرة. لأن الأول تنوخي، والآخر لخمي. فامتنع بذلك أن تكون القرابة من
جهة الآباء.
وبالنسبة لإخوانه فإنا لا نعرف عنهم شيئًا، إلا ما استنتجه الأستاذ حسن
حسني عبد الوهاب من احتمال أن يكون أبو عبد الله محمد بن عبد الصمد بن بشير
(2) الشاعر أخًا لإبراهيم. فقال: "ويلوح لي أن الأديب أبا عبد الله محمد بن
عبد الصمد بن بشير التنوخي المهدوي أحد شعراء الأمير علي بن يحيي بن تميم
الصنهاجي- هو أخو الفقيه المتقدم. إلا أني لم أقف على من أثبت هذه القرابة،
التي حملتني على التفكير فيها وحدة اللقب والنسب" (3).
* المطلب الثاني: موطنه:
بالنسبة لموطنه، فقد جاء في الصفحة الأولى من نسخة (ص) ما يفيد أن ابن بشير
من أهل المهدية (4). وقد نسبه إليها، كل من محمد مخلوف وحسن حسني عبد
الوهاب، ولم ينسبه غيرهما إليها. ولم أقف على معتمدهما في ذلك.
__________
(1) تاريخ الطبري 1/ 360، شذرات الذهب 1/ 286، أبجد العلوم 3/ 73.
(2) هو أبو عبد الله بن عبد الصمد بن بشير التنوخي المهدوي من شعراء علي بن
يحيي بن تميم، كان من الفضلاء العلماء الأدباء جمع بين رقة المعنى ومتانة
اللفظ وقرب المقصد، توفي في حدود سنة 520، شجرة النور 126، الخريدة 1/ 278
و 3/ 692.
(3) كتاب العمر 2/ 693.
(4) انظر وصف نسخة "ص" صفحة: 194 من هذا الكتاب.
(1/69)
كما أن محققي كتاب العمر نَقَلا عن صلة
السمط لابن شباط، أن ابن بشير كان يقيم في بجاية (1)، وأن أصله من سفاقص-
إن ثبتت أخوته لأبي عبد الله الشاعر السالف الذكر-، ولم يذكرا كيف توصلا
لهذا الاستنتاج (2) ..
وهذا كله غير مستبعدة فيمكن أن يكون أصل العائلة من سفاقص ثم انتقلت
العائلة إلى المهدية. وانتقل ابن بشير بعد ذلك إلى بجاية.
هذا إذا علمنا أن هاتين المدينتين تغري العلماء بالإقامة فيهما زمن ابن
بشير.
فالمهدية (3) التي بناها عبيد الله المهدي سنة 304 هـ ليحتمي بها العبيديون
من غارة أعدائهم (4)، كانت هي الملاذ الآمن للصنهاجيين بعد اجتياح الأعراب
لإفريقية سنة 444 هـ. فقد انتقل إليها المعز بن باديس وجعلها قاعدة لملكه،
فنشطت فيها الحركة وازدهرت التجارة والعلوم.
أما بجاية فقد اتخذها بنو حماد سنة 457 هـ مقرًا لهم لما عجزت قلعتهم عن
حمايتهم من الزحفة الهلالية. وكانت عبارة عن ميناء صغير به دور قليلة
وحقيرة، فأعاد بنو حماد بناءها وحصنوها وجعلوها قاعدة لملكهم. فازدهرت فيها
الحياة العلمية "فكان القضاة وأهل الفتوى ومدرسو العلوم ينتقلون بحكم
الارتباط السياسي والإداري بين تونس وبجاية، وذلك ما سمح لوشائج العلم
وأوابد الفكر أن تروج مرددة الأصداء بين جامع
__________
(1) هامش 5 ص 674.
(2) هامش 5 ص 2/ 674.
(3) لقد كان علماء أهل السنَّة يسمون هذه المدينة بالمردية مناقضة لاسمها
الذي سماها به بنو عبيد إذ كانت عش كفرهم ودار ضلالهم، قال عياض ووجدت أبا
عمران الفقيه يحكي عنها بالمهدومة تطيراً لها ترتيب المدارك 5/ 300، قلت
لقد أصبحت هذه المدينة من بعد النصف الثاني في القرن الخامس دار لأهل
السنَّة ومثلها مثل الأزهر الذي بناه العبيديون لنشر التشيع فأصبح بفضل
الله مركزًا لنشر الفكر السني.
(4) تاريخ المغرب الكبير 2/ 604.
(1/70)
الزيتونة بتونس، والجامع الأعظم ببجاية.
فنفقت في بجاية زهرة العلم بسبب ذلك" (1). فما إن أطل عليها القرن السابع
حتى أصبحت تعج بالعلماء. وفيهم من يحفظ كتاب التنبيه لابن بشير. وقد سجل كل
هذا أبو العباس الغبريني في كتابه "عنوان الدراية في من عرف من العلماء في
المائة السابعة ببجاية".
كما أني لا استبعد دخول ابن بشير الأندلس طلبًا للعلم فقد أخذ عن علماء أهل
الأندلس كما سيأتي.
* المطلب الثالث: طلبه للعلم
لم يبلغنا شيء عن طريقة ابن بشير في طلبه للعلم، ولا متى بدأ ذلك. ولكنه في
الغالب لن يخرج عن الطريقة المألوفة والمعهودة عند المالكية في إفريقية
والأندلس. وقد تحدث عن هذه الطريقة بعض العلماء منهم ابن خلدون (2).
وقد جرت العادة أن يتخذ المالكية الكتاتيب لتعليم الأطفال الصغار، ولا
يدخلون إلى المساجد تنزيهًا لها عن عبث الأطفال، وتمشيًا مع رأي مالك
الفقهي الذي لا يرى دخول الأطفال للمساجد؛ لأنهم لا يتحفظون من النجاسة.
ولم تنصب المسجد للتعليم (3).
وقد صور ابن خلدون طريقة أهل إفريقية في تعليم الولدان فقال: "وأما أهل
إفريقية فيخلطون في تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب، ومدارسة
قوانين العلوم وتلقين بعض مسائلها. إلا أن عنايتهم بالقرآن واستظهار
الولدان إياه ووقوفهم على اختلاف رواياته وقراءاته أكثر مما سواه. وعنايتهم
بالخط تبع لذلك. وبالجملة فطريقهم في تعليم القرآن أقرب إلى طريقة أهل
الأندلس؛ لأنّ سند طريقتهم في ذلك متصل بمشيخة الأندلس" (4).
__________
(1) ومضات فكر ص 347.
(2) المقدمة 740.
(3) تاريخ التربية الإسلامية لأحمد شلمي ص 53.
(4) المقدمة 741.
(1/71)
فإذا ناهز الطفل الحلم، وتمكن من تلك
العلوم الأولية، حق له بعد ذلك أن ينتظم في حلقات الشيوخ بالمساجد (1).
وأظن أن ابن بشير قد يكون مر بهذه الطريقة التي مر بها غيره من العلماء.
* المطلب الرابع: أخلاقه
كذلك لم يبلغنا شيء عن صفاته وأخلاقه وسلوكه في الحياة وطريقة تعامله مع
الناس ومكانته في المجتمع، باستثناء تلك العبارة الوجيزة التي قالها ابن
فرحون من أنه كان "جليلًا فاضلًا". ورغم وجازة هذه العبارة، فإنها تدل على
أنه كان نبيلًا ذا قدر عظيم ودرجة رفيعة. إلا أنني وقفت على ما يمكنني أن
أستشف منه أنه كان حسن السمت، عليه وقار العلماء، حافظًا لمروءته.
فقد جاء في باب الرد بالعيب من كتاب البيوع ما يلي: "مسألة جرت فيها
المناظرة بين بعض الفقهاء ببلد إفريقية، وهي الدار إذا عرفت بنزول الأجناد
فباعها البائع ولم يبين، فهل يكون للمشتري الرد بذلك؟ فذهب بعض من حضر إلى
أنه لا يكون له عيب فإنه يزول وليس بالعيب الذي يوجب الرد وهو عند الناس
مستقل، فإنهم يسكنون معهم حتى يمضي. ومازال الأمير ينزل بجنوده في دور
البصرة وبغداد ومصر [وغيرهم من البلاد حتى يمضي، ولو كان ذلك عيبًا لما كان
الأمراء الأولون يفعلون ذلك، ولو كان الدار المعتاد الضيوف في نزولها عيبًا
أيضًا، وقال له من حضر الفرق بين ما نحن فيه مسألة الضيف]. وما ذهب إليه من
سير الأولين أن مسألة الضيف ينزل برضى أصحاب المنزل على سبيل الشهرة،
والرحمة التي أمر بها الشرع حيث قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر
فليكرم ضيفه جائزته يوم وليلة والضيافة ثلاثة أيام وما زاد فهو صدقة ولا
يحل له أن يجلس عنده
__________
(1) انظر الأثر السياسي والحضاري للمالكية في شمال أفريقية لمحمد أبو العزم
ص 422 وما يليها.
(1/72)
حتى يحرجه (1). وما نحن فيه من المسألة
إنما ينزل الجند على وجه التعدي من غير أن يختار ذلك أهل المنزل، فهو أشبه
بالذي يقال له عيب أو هو بعينه. وذلك عيب، لا يخفى أنه ينقص من ثمنها، وتقل
الرغبة في طلبها. وما قلته من سيرة الأولين فلم يذكر عن ابن الخطاب رضي
الله عنه مع كثرة دورانه في خطة الشام والعراق وغيرها، أنه كان يكثر
الدوران وينزل الأجناد في دور الناس بغير إذنهم وهذا لا يليق به وبأمثاله
فإن كنت تستدل بمثل فعل الحجاج بن يوسف أو غيره من الأمراء الظلمة فلا حجة
في فعله.
ولما وقع السؤال في نقل المسألة وطلبت في عينها، قلت لهم- عند سكوتهم
واعترافهم- بأن النقل لم يقف عليه واحد منهم. قيل لي: عندك أنت النقل؟ قلت:
نعم. قلت لهم المسألة عن مالك أنها إذا كانت ضيعة نقيلة (2) الخراج، وكانت
معتادة في نزول الأجناد، فإن ذلك كله عيب ترد به" (3).
والذي يعنينا في هذا النص هو قوله: "ولما وقع السؤال في نقل المسألة وطلبت
في عينها قلت لهم- عند سكوتهم واعترافهم- بأن النقل لم يقف عليه واحد
منهم".
فمن خلال هذا النص يتبين أن ابن بشير كان حاضرا أثناء النقاش والمناظرة.
ولم يتدخل رغم أنه كان عنده علم في عين المسألة لم يكن عند المتناظرين. ثم
تدخل في الأخير بعدما طلب منه التدخل، وبعد سكوت المتناظرين.
وهذه صفات أهل الوقار والمروءة والسمت الحسن، فهم لا يتكلمون
__________
(1) أخرج البخاري في الأدب (6135) واللفظ له، ومسلم في اللقطة (48) عَنْ
أَبِي شُرَيْح الْكَعْبِيَّ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -
قَالَ: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَليُكْرِمْ
ضَيْفَهُ جَائِزَته يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ. وَالضِّيَافَةُ ثَلاَثَةُ أَيَّام
فَمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ وَلاَ يَحِلُّ لَهُ أنْ يَثْوِيَ
عِنْدَهُ حَتَّى يُحْرِجَهُ". حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل قَالَ: حَدَّثَنِي
مَالِكٌ مِثْلَهُ وَزَادَ: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ".
(2) هكذا في المخطوطة. وهي غير واضحة المعنى.
(3) كتاب التنبيه، نسخة [ل] ص: 142.
(1/73)
إلا إذا سكت الآخرون واستمع لكلامهم. ولا
يتكلمون إلا بعد الطلب ليكون لكلامهم قيمة ووقع في آذان المتلقين. ويتجنبون
مواطن التشاغب ورفع الأصوات والمراء، الذي يقصد به الغلبة والإفحام.
ولو لم يكن ابن بشير من هذا الصنف، لوجدناه تدخل من بداية الأمر، وخاض مع
المتناظرين؛ إظهارا للفضل والشرف، واستمالة لوجوه الناس.
* المطلب الخامس: شيوخه
لقد عاش ابن بشير في زمن كانت إفريقية تعج فيه بالعلماء. ولا شك أنه أخذ عن
عدد كبير منهم فأثروا في تكوين شخصيته العلمية، إلا أن كتب التراجم لم
تحتفظ لنا إلا بعدد قليل منهم. بل إن مترجمه الرئيس ابن فرحون لم يذكر له
أي شيخ ولا تلميذ. كما ساهم ابن بشير نفسه في ذلك. فقد كان ضنينا ومتكتما
على شيوخه فكثيرًا ما يردد قال بعض أشياخي ولا يسميهم وهذان مثالان على
ذلك.
المثال الأول: "وقد استقرأه بعض أشياخي من المدونة." (1).
المثال الثاني: "لكن هذه المسألة نزلت قديمًا فطال بحثنا عن روايات المذهب
فيها، وخالفني بعض أشياخي، ودافع ما قاله أبو الحسن كل المدافعة." (2).
ومما وصلنا ممن قيل إنهم شيوخه: السيوري واللخمي وابن رشد وابن عتاب
والمازري.
ولنتحدث عن كل واحد منهم، ولننظر هل ثبتت مشيخته لابن بشير أم لا؟
__________
(1) انظر ص: 491 من هذا الكتاب.
(2) انظر ص: 490 من هذا الكتاب.
(1/74)
1 - السيوري:
هو: أبو القاسم عبد الخالق بن عبد الوارث السيوري. من تلاميذ أبي عمران
الفاسي، وأبي بكر بن عبد الرحمن، وطبقتهم. قرأ الكلام والأصول على الأذري.
قال عياض: "آخر طبقته من علماء إفريقية، وخاتمة أئمة القيروان، وذو الشأن
البعيد في الحفظ والقيام بالمذهب، والمعرفة بخلاف العلماء، وكان زاهدًا
فاضلًا دينًا نظارًا، وكان آية في الدرس والصبر عليه. ذكر أنه كان يحفظ
دواوين المذهب الحفظ الجيد، ويحفظ غيرها من أمهات كتب الخلاف، حتى إنه كان
يذكر له القول لبعض العلماء، فيقول: أين وقع هذا؟ ليس هو في كتاب كذا ولا
كتاب كذا. ويعدد الدواوين المستعملة من كتب المذهب والمخالفين والجامعين،
فكان في ذلك آية، وكان نظارًا. ويقال إنه مال أخيرًا إلى مذهب الشافعي"
(1). توفي رحمه الله سنة 460 هـ.
وقد أثبت مشيخة السيوري لابن بشير محمد مخلوف فقال: "أخذ عن الإمام السيوري
وغيره (2) ".
وأثبتها كذلك حسن حسني عبد الوهاب فقال: "إبراهيم بن عبد الصمد بن بشير
التنوخي المهدوي أبو الطاهر من تلاميذ السيوري" (3). إلا أن محققي كتاب
العمر شككا في ذلك. فقالا: شيخه الوحيد الذي أمكننا معرفته حسب رواية
الديباج (4). ولكن وقائع التاريخ تستبعده- إذا كان المقصود أبا القاسم عبد
الخالق السيوري-؛ لأن هذا الأخير توفي سنة 463 هـ بينما ابن بشير عاش إلى
ما بعد 573 كما يتضح فيما يأتي بعد. ثم قالا في الهامش 4: جاء في صلة السمط
4/ 103 ظ أن أبا الطاهر ابن بشير كان يقيم في بجاية. وكان أبو الحسن علي بن
أبي بكر عبد الله التقيوسي من
__________
(1) ترتيب المدارك 8/ 65.
(2) شجرة النور 126.
(3) كتاب العمر 2/ 693.
(4) بل حسب رواية شجرة النور، أما الديباج فلم يذكر له أي شيخ.
(1/75)
المعدودين في أصحابه. فتوفي أبو الحسن
التقيوسي فصلى عليه أبو الطاهر. ولم يذكر ابن الشباط تاريخ وفاته، ولكنه
نقل ذلك عن كتاب أبي عمرو بن حجاج التوزري ولم يسمه. والذي نعلم- من جهة
أخرى- أنه ألفه بعد رحلته إلى المشرق ولقاء السلفي سنة 573 هـ، وبهذا يتأكد
أن أبا الطاهر بن بشير عاش بعد سنة 573 هـ" (1).
فارتكز المحققان في تشكيكهما في ذلك على أن ابن الشباط نقل هذه المعلومة من
كتاب التوزري الذي لم يؤلف إلا بعد لقاء التوزري مع السلفي في المشرق سنة
573 هـ. ولم يوضحا كيف توصلا لذلك.
والحق أن ما ذكره المحققان لا يمكننا أن نقطع بصحته لأن ابن الشباط ما دام
لم يصرح بمصدره، فمن المحتمل أن يكون أخذ المعلومة من مصدر آخر، أو سمعها
من التوزري مشافهة قبل تأليف الكتاب. وإذا وجد الاحتمال بطل الاستدلال.
كما أننا لا نجزم في نفس الوقت بثبوت مشيخة السيوري لابن بشير، لأننا لم
نعثر في الكتاب على ما يوحي بذلك، بل نجد ما يدلّ على عكسه. وقد تتبعت
المواطن التي ذكر فيها السيوري فوجدته يشير إليه مرة بقوله: قال "أبو
القاسم السيوري"، أو "الشيخ أبو القاسم السيوري"، أو "الشيخ أبو القاسم
السيوري رحمه الله" (2). ولو كان شيخه لقال: (قال شيخي) كما جرت العادة
بذلك.
بل إن هناك ما يدل بوضوح على أنه ليس شيخًا له، فقد ذكر مرة رأي السيوري،
وذكر أن بعض أشياخ ابن بشير رد عليه. ولو كان السيوري شيخًا لابن بشير لصرح
بذلك في هذا الموطن؛ لأن السياق يقتضيه. قال ابن بشير: "والمعروف من المذهب
أن حكم المرأة الحامل بعد الستة أشهر حكم المريض. ويعرف فيها قول ثان؛ أن
حكمها حكم الصحيح. ولا أذكر الآن موضعه، وهو مذهب الشافعي. وهذا الذي كان
يعتمد عليه أبو القاسم
__________
(1) كتاب العمر 2/ 694.
(2) انظر ص: 319 من هذا الكتاب.
(1/76)
السيوري بناء على أن الغالب السلامة. وقد
ألزمه بعض أشياخي أن يحكم لها بحكم الصحيح، وإن كانت في الطلاق" (1).
وهكذا نرى أن المسألة لا زالت غامضة.
2 - اللخمي:
هو: علي بن محمد الربعي أبو الحسن اللخمي. كان إمامًا فاضلًا دينًا
متفننًا، ذا حظ من الأدب والحديث، جيد النظر، حسن الفقه جيد الفهم، كان
فقيه وقته، وأبعد الناس صيتًا في بلده. بقي بعد أصحابه فحاز رئاسة بلاد
إفريقية جملة. وتفقه به جماعة من السفاقسيين وغيرهم. "أخذ عنه أبو عبد الله
المازري .. وهو مغرى بتخريج الخلاف في المذهب، واستقراء الأقوال. وربما تبع
نظره فخالف المذهب فيما ترجح عنده، فخرجت اختياراته في الكثير عن قواعد
المذهب .. " (2). ويعد كتابه التبصرة من أوائل المصادر المالكية الموجودة
التي تحدثت عن أسباب الخلاف، على الرغم من أنه اقتصر على الخلاف داخل
المذهب. توفي رحمه الله سنة: 478 هـ وقد نص على مشيخة اللخمي لابن بشير
محمد مخلوف فقال: "بينه وبين أبي الحسن اللخمي قرابة، وتفقه عليه في كثير
من المسائل ورد عليه اختياراته" (3).
ويلوح لي أن هذا سبق قلم من المؤلف، فقد اعتمد على ابن فرحون وتحرفت عنده
بعض ألفاظه. فعبارة ابن فرحون كالتالي: "وكان بينه وبين أبي الحسن اللخمي
قرابة وتعقبه في كثير من المسائل ورد عليه اختياراته" (4) فعبارة مخلوف هي
نفس عبارة ابن فرحون إلا أن الأول استبدل كلمة "تعقبه" بعبارة "تفقه عليه".
ومما يؤكد وهم محمد مخلوف أن عبارة ابن
__________
(1) التنبيه نسخة (ت) ص 266.
(2) ترتيب المدارك 8/ 109.
(3) شجرة النور 126.
(4) الديباج 1/ 265.
(1/77)
فرحون، وجدت منقولة دون تحريف في كتاب
طبقات المالكية المجهول المؤلف.
ومن حيث المعنى فإن رد الاختيارات، يكون بالتعقب وليس بالتفقه. فعبارة "ورد
عليه اختياراته" تناسبها "وتعقبه".
أضف إلى هذا أنه على كثرة تردد اسم اللخمي في كتاب التنبيه لم أجد فيه ما
يدل على ثبوت مشيخة اللخمي لابن بشير، بل وجدت ما يمكن أن يستنتج منه عكس
ذلك.
فقد ذكر اللخمي في سياق يقتضي أن ينص على مشيخته له، ولكنه لم يفعل. والنص
هو التالي: "لكن هذه المسألة نزلت قديمًا فطال بحثنا عن روايات المذهب
فيها، وخالفني بعض أشياخي، ودافع ما قاله أبو الحسن كل المدافعة" (1).
فنلاحظ أنه نص على أن المخالف شيخ له، ولم يفعل ذلك مع اللخمي.
ومهما يكن من أمر فإن ابن بشير متأثر بمنهج اللخمي النقدي وسيأتي الحديث
عنه.
3 - ابن عتاب:
هو: أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن عتاب آخر الشيوخ الأجلة الأكابر في علو
الإسناد وسعة الرواية بالأندلس، روى عن أبيه وتفقه عليه كان عالمًا
بالقراءات والتفسير وغريبه. شوور في الأحكام بقية عمره. وكانت الرحلة في
وقته إليه، ومدار أصحاب الحديث عليه (ت) سنة 520 هـ (2).
وقد نص على مشيخة ابن عتاب لابن بشير المؤلف المجهول صاحب طبقات المالكية،
فقال: "أخذ عن القاضي أبي الوليد بن رشد، وسمع من أبي محمد بن عتاب" (3).
__________
(1) انظر ص: 490 من هذا الكتاب.
(2) ترتيب المدارك ص 150.
(3) تراجم مالكية لمؤلف مجهول 298.
(1/78)
وقد وجدت في التنبيه ما يدل على سماع ابن
بشير من ابن عتاب، فقد جاء في كتاب البيوع ما يلي: "وكان بعض الشيوخ فيما
أخبرنا به الفقيه أبو محمد عبد الرحمن بن محمد" (1). فالعبارة صريحة
الدلالة على سماع ابن بشير من ابن عتاب.
4 - ابن رشد:
هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد. يعرف بابن رشد الفقيه أو الجد تمييزًا
له عن ابن رشد الحفيد الفيلسوف. أحد كبار علماء المالكية. يعد شيخ مسائل
المذهب وفروعه بعد ابن أبي زيد القيرواني. وصف بأنه؛ العالم المحقق،
المعترف له بصحة النظر وجودة التأليف، زعيم الفقهاء، إليه المرجع في حل
المشكلات، متفننًا في العلوم، بصيرًا بالأصول والفروع. وكان له دراية
بالعقائد والأصول. وقد اشتغل ابن رشد في حياته بوظائف متعددة منها القضاء
والإفتاء والتدريس والتأليف والخطابة والإمامة. توفي رحمه الله سنة: 520
هـ.
والذي نص على مشيخته لابن بشير صاحب طبقات المالكية المجهول حيث قال: "أخذ
عن القاضي أبي الوليد بن رشد". وهذه المشيخة غير مستبعدة لأن ابن بشير نص
على أخذه عن ابن عتاب كما سبق وهو بلدي معاصر لابن رشد الجد فلا يبعد أيضًا
أخذه عنه.
5 - المازري:
هو: الإمام أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر التميمي المازري، المعروف
بالإمام. خاتمة العلماء المحققين والأئمة الأعلام المجتهدين الحافظ النظار.
كان واسع الباع في العلم والاطلاع، مع ذهن ثاقب ورسوخ تام. بلغ درجة
الاجتهاد. وبلغ من العمر نيفًا وثمانين سنة. ولم يفت بغير مشهور مذهب مالك.
أخذ عن أبي الحسن اللخمي وعبد الحميد الصائغ وغيرهما. وعنه من لا يعد كثرة.
له تآليف تدل على فضله وتبحره في العلوم. كان الشيخ تقي
__________
(1) كتاب الصلح من كتاب التنبيه ص: 63 نسخة خاصة.
(1/79)
الدين بن دقيق العيد يقول: ما رأيت أعجب من
هذا، يعني المازري، لأي شيء ما ادعى الاجتهاد؟ (1). وقد توفي رحمه الله سنة
536 هـ (2).
لم أقف في كتب التراجم على من نص صراحة على مشيخة المازري لابن بشير لكني
وجدت إشارات في بعض الكتب تدل على ذلك منها:
أولًا: قول ابن شاس: "قال الشيخ أبو الطاهر: والكل مجمعون على مراعاة وجود
اللذة وفقدها, لكن عدوًا في الروايات أن فقدها مع ما قيدوه نادر، فلا يراع.
وراعاه العراقيون.
وقال شيخه الإمام أبو عبد الله: من لم يراع اللذة من أصحابنا، ورأى أن مجرد
مسه بباطن الكف سهوًا وعمدًا ينقض الوضوء، فإنه يرى أن نقض الوضوء بمسه غير
معلل" (3).
ثانيًا: نفس النص الذي ذكره ابن شاس، ذكره تاج الدين الفكهاني في رياض
الأفهام شرح عمدة الأحكام وهو: (قال ابن بشير والكل مجمعون على مراعاة وجود
اللذة ... وقال شيخ الإمام أو عبد الله المازري ...) (4) النص يدل بوضوح
على أن المازري شيخ لابن بشير لأنه قال: "قال أبو الطاهر" ثم قال: "وقال
شيخه" فالضمير يعود على أبي الطاهر، فيكون المعنى، وقال شيخ أبي الطاهر.
ثالثًا: قول الدسوقي: "ما ذكره المصنف من عدم الإعذار هو قول القاضي ابن
بشير أحد تلامذة الإمام وهو غير ابن بشير تلميذ المازري" (5). فالقاضي ابن
بشير تلميذ الإمام هو: محمد بن سعيد بن بشير المعافري قاضي قرطبة تلميذ
الإمام مالك المتوفى بقرطبة سنة 198 هـ (6). وابن بشير-
__________
(1) الرد على من أخلد إلى الأرض ص: 195.
(2) الديباج 2/ 250.
(3) عقد الجواهر 1/ 58.
(4) رياض الأفهام شرح عمدة الأحكام تحقيق شريفة العمري ص 221 والكتاب مرقون
لم يطبع بعد.
(5) حاشية الدسوقي 4/ 149.
(6) ترجمته في: نفح الطيب 2/ 143 وشجرة النور الزكية: ص 63.
(1/80)
تلميذ المازري- هو إمامنا أبو الطاهر. لأنه ليس هناك أحد من فقهاء المالكية
ممن تنتهي أسماؤهم بابن بشير معاصر للمازري، ويمكن أن يكون تلميذًا له غير
أبي الطاهر.
وبهذا يتبين والله أعلم أن ابن بشير أخذ عن المازري.
تلاميذه:
هذا ما يتعلق بشيوخ ابن بشير. أما الحديث عن تلاميذه فهو أشد غموضًا من
الحديث عن شيوخه، إذ لم أعثر له على أي تلميذ مباشر في كتب التراجم
والفهارس. وكل ما وقفت عليه هو ما التقطه محققا كتاب العمر من صلة السمط
لابن شباط، "من أن أبا الحسن علي بن أبي بكر عبد الله التقيوسي كان من
المعدودين في أصحابه، فتوفي أبو الحسن التقيوسي فصلى عليه أبو الطاهر" (1).
ولم أقف على ترجمة أبي الحسن التقيوسي هذا.
... |