التنبيه
على مبادئ التوجيه - قسم العبادات المبحث الثاني:
عطاؤه العلمي
* المطلب الأول: مؤلفاته:
إن خير ما يصور مكانة ابن بشير العلمية ويوضح بجلاء منزلته الفقهية، هو ما
تركه من آثار ومؤلفات. وقبل أن أتحدث عن آثاره ومؤلفاته لابدّ أن أسجل هنا
شيئًا مهما وهو أن ابن بشير اشتهر في الساحة الفقهية بمؤلفاته وكتبه ولم
يشتهر بتلاميذه ومترجميه. فبكتبه ظهرت قدرته على التأصيل والتفريع وبراعته
في المناقشة والاستدلال والتعليل والنقد مع غاية في التدقيق والتمحيص.
ويلوح لي في الأفق أن الرجل كان كثير التأليف غزير الإنتاج، ولكن للأسف
ضاعت كتبه ولم يصلنا منها إلا النزر اليسير. ومن الكتب التي وصلتنا أو ثبتت
نسبتها لابن بشير ولم تصلنا:
__________
(1) 2/ 694.
(1/81)
1 - كتاب التنبيه
على مبادئ التوجيه، وهو أشهر وأعظم كتب المؤلف
وسيأتي الحديث عنه.
2 - الأنوار البديعة في أسرار الشريعة:
وقد نسبه المؤلف لنفسه في مقدمة كتاب التنبيه فقال: (وسميته "كتاب التنبيه
على مبادئ التوجيه"، وهو كالمدخل إلى كتابي المسمى "بالأنوار البديعة في
أسرار الشريعة") (1).
ونسبه له ابن فرحون، وصاحب طبقات المالكية المجهول، ومحمد مخلوف، وغيرهم من
المترجمين.
والكتاب كان متداولًا بين العلماء. فقد كان ينقل عنه الحطاب في مواهب
الجليل؛ نقل عنه في مواطن منها قوله: "والكلام فيها طويل، فعليك بكلام ابن
بشير في التنبيه، وقابله بنقل ابن يونس فإنهما مختلفان. ووافق ابن بشير في
الأنوار (2) البديعة ما نقله ابن يونس، واستتبع الكلام في الأنوار" (3).
وقال في نفس الكتاب ... فعلى الأول فقال ابن بشير وغيره المسألة على ثلاثة
أقسام: إن كان الدين عينًا وجب القبول؛ قال في أنواره إلا أن يتفق أن
للطالب فائدة في التأخير؛ كما لو حصل في الزمن خوف، أو فيما بين البلدين
... " (4).
ويظهر أن الكتاب ذو قيمة عالية جدًا, لأن المؤلف صرح بأن من ترقى إلى هذا
الكتاب وصل إلى درجة المبرز المجيد. كما أنه من خلال عنوانه يبدو أنه في
أسرار ومقاصد الشريعة وعللها. وهذا باب من العلم نفيس جدًا؛ الخائضون فيه
قليلون، خاصة زمن ابن بشير.
__________
(1) انظر ص: 212 من هذا الكتاب.
(2) في الكتاب الأنواع ولا شك أنه تحريف.
(3) مواهب الجيل 4/ 533.
(4) المصدر السابق 4/ 545.
(1/82)
3 - التهذيب على
التهذيب:
لقد نسب هذا الكتاب لابن بشير ابن فرحون، ومحمد مخلوف، وصاحب طبقات
المالكية المجهول.
والكتاب كان رائجًا بين العلماء متداولاً بينهم، قاموا بدراسته وتدريسه.
أذكر منهم محمد بن عبد الرحمن بن سعيد التميمي التسولي الكرسوطي، من أهل
فاس، نزيل مالقة. فقد قام هذا الإمام بتلخيصه (1). كما أني وجدت عدة نقول
عنه في المعيار، تأكد لي من خلالها أن الجزء الموجود بخزانة القرويين تحت
عدد 380، والذي نسبه محققا كتاب العمر لابن بشير. أقول تأكد لي بأنه هو
التهذيب. وقبل ذلك كنت أشك في نسبة هذا الجزء لابن بشير, لأن الكتاب مبتور
الأول، وليس فيه اسم المؤلف. ولم أظفر بأي شيء داخل الكتاب يدل على أنه
لابن بشير. كما أن واضع فهارس خزانة القرويين لم ينسبه له.
ومن بين النصوص التي أكدت لي هذه النسبة ما جاء في المعيار المعرب "فقال
ابن بشير في كتابه الموسوم بالتهذيب ولا تقام الجمعة في مصر بجامعين، إلا
أن يكون كبيرًا جدًا. والظاهر أن المذهب في هذا على ثلاثة أقوال" (2). ونفس
العبارة موجودة في لوحة 176.
والغريب أن محقق كتاب التهذيب للبراذعي لم يشر في دراسته عند حديثه عن
الشروح والتعليقات على التهذيب، لم يشر إلى أن ابن بشير هو أيضًا ممن
تناولوا هذا الكتاب بالشرح.
4 - التحرير ويسمى أيضًا المختصر:
وقد نسبه إليه ابن فرحون، ومحمد مخلوف، والمؤلف المجهول، والنقراوي. قال
هذا الأخير في الفواكه الدواني: "قال ابن بشير في
__________
(1) انظر الديباج ص 309، والدرر الكامنة 5/ 247 ونفح الطيب 6/ 94.
(2) 1/ 234.
(1/83)
تحريره ... " (1). وهو كتاب مختصر في
الأحكام الشرعية، يحفظه المبتدئون أتمه سنة 526 هـ، توجد منه نسخة بالمكتبة
العاشورية تحت رقم (ق، أ) 190، ونسخة في دار الكتب المصرية تحت رقم 2/ 37
مجاميع. وقد ذكر بدر الدين القرافي في ترجمة ابن عبد الوارث عبد الرحمن بن
عبد الوارث أنه كان يحفظ مختصر ابن بشير في الحديث والفقه (2). وقد بلغني
أن الأستاذ محمد أبو الأجفان يقوم بتحقيق هذا الكتاب.
5 - كتاب الجامع:
وقد نسب هذا الكتاب لابن بشير محمد مخلوف، فقال: "ألف كتاب التنبيه، وذكر
فيه أسرار الشريعة. وكتاب جامع الأمهات ... ".
ويبدو أن ابن فرحون سبقه القلم فجمع بينه وبين الأنوار البديعة، فقال: "وله
كتاب الأنوار البديعة إلى أسرار الشريعة كتاب جامع من الأمهات ... " وقد
تبعه في هذا حسن حسني عبد الوهاب.
وقد وقفت على قطعة منه تضم بضع ورقات في خزانة تمكروت ضمن مجموع تحت رقم:
2470.
وجاء في الصفحة الأولى: (بسم الله الرحمن الرحيم) كتاب الجامع من كتاب أبي
إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد بن بشير الأندلسي (3) رضي الله عنه. بسم الله
الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا ونبينا محمد المصطفى وآله
وسلم. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اتقوا الملاعن الثلاث؛ البول
في الموارد، وقارعة الطريق، والظل. عشرة من الفطرة؛ قص الأظفار، وغسل
البراجيم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وإنتقاص الماء ...
6 - شرح الجلاب:
لقد نسب هذا الكتاب لابن بشير المؤلف المجهول صاحب طبقات المالكية.
__________
(1) 1/ 176.
(2) انظر توشيح الديباج وحلية الابتهاج ص 149.
(3) سبق أن نبهت إلى أنه وقع خطأ في كنيته ونسبته إلى الأندلس.
(1/84)
ووقفت على ما يؤكد ذلك عند الحطاب في مواهب
الجليل. فقد قال: (قال ابن بشير في شرحه على ابن الجلاب: قيل له ما يختار
من القولين؟ قال: الصوم، قيل له: بناء على استصحاب الحال؟ قال نعم. انتهى)
(1).
ونقل عنه الونشريسي في عدة البروق مرتين الأولى في ص 232 والثانية في ص:
644.
7 - النظائر:
هذا الكتاب لم ينسبه لابن بشير إلا القرافي- حسب علمي- فقد نقل عنه نقولًا
كثيرة في كتابه الّذخيرة، وبعبارات مختلفة (2)، فتارة يقول: "نظائر: قال
ابن بشير" ومرة يقول: "قال ابن بشير في نظائره" ومرة يقول: "قال ابن بشير
في كتاب النظائر" ومرة يقول: "قال ابن بشير في كتاب النظائر له". وهذه
نماذج من ذلك: "نظائر قال ابن بشير: التي لا تتم إلا بالحيازة سبعة عشرة
مسألة: الحبس والصدقة والهبة والعمرى والعطية والنحلة والعرية والمنحة
والهدية والإسكان والعارية والإرفاق والعدية والإخدام والصلة والحبا
والرهن" (3). "نظائر قال ابن بشير: الممحوات في الكتاب أربعة: لا يثبت نكاح
المريض والمريضة بعد الصحة وولد الأضحية قال حسن أن يذبح معها، قال أبي: لم
أره واجبًا، ثم قال: امحوها واترك ذبحه. قال ابن القاسم وأرى عدم الوجوب.
والحالف لا يكسو امرأته، ثم افتك لها ثيابها من الرهن. قال: لا يحنث ومن
سرق ولا يمين له أو له يمين شلاء، قال: يقطع رجله اليسرى ثم أمر بمحوها.
وقال: بل يده اليسرى. وبالأول قال ابن القاسم ... " (4).
__________
(1) 1/ 267.
(2) انظر 4/ 209، 2/ 135, 12/ 185 , 5/ 118، 5/ 492، 5/ 521، 6/ 8، 6/ 139،
6/ 267، 8/ 101.
(3) 6/ 258.
(4) 4/ 209 انظر كذلك 2/ 135، 12/ 185، 5/ 118، 5/ 492، 1/ 525، 6/ 8، 6/
139، 6/ 267، 8/ 101.
(1/85)
8 - شرح اللمع
الشيرازية:
هذا كتاب لم ينسبه أيضًا أي واحد من المترجمين لابن بشير. وهو في الأصول؛
شرح فيه ابن بشير كتاب اللمع لأبي إسحاق الشيرازي المتوفي سنة 476 هـ. وقد
نسبه إليه الونشريسي في جواب له مطول حول الاجتهاد والتقليد فقال: "وبهذا
احتج حجة الإسلام أبو حامد لمذهبه وهو مذهب كثير من شيوخ الأصولين في منع
تقليد المفضول. ولأجل هذا التجويز الذي أشرنا إليه هنا عن حجة الإسلام لم
يتجاسر الشيخ أبو الطاهر بن بشير رحمه الله في شرحه للمع الشيرازية على
الجزم والقطع ببناء هذا الخلاف على الخلاف في تصويب كل مجتهد أو واحد كما
تجاسر عليه عز الدين، وإنما عبر بلفظ "لعل" المقتضي عدم الجزم، والله تعالى
أعلم وأحكم ... " (1).
9 - النوازل:
وهذا أيضًا لم ينسبه له أي واحد من المترجمين. وقد وقفت عليه منسوبًا لابن
بشير في كتاب التوضيح شرح مختصر ابن الحاجب لأبي المودة خليل بن إسحاق. وفي
مواهب الجليل للحطاب قال خليل: "قال ابن بشير في نوازله: والمذهب كله على
خلافه ... " (2)، وقال كذلك: "قال ابن بشير وغيره المسألة على ثلاثة أقسام:
إن كان الدين عينًا وجب قبوله، قال في نوازله إلا أن يتيقن أن للطالب فائدة
... " (3).
وقال الحطاب: " ... فنص ابن بشير في مسائل الحبس من نوازله ... " (4).
فهذه النصوص تدل على أن ابن بشير له كتاب يمسى النوازل.
__________
(1) المعيار 12/ 40.
(2) التوضيح 1/ 179.
(3) التوضيح 1/ 252.
(4) مواهب الجليل 3/ 283.
(1/86)
10 - الأجوبة:
هذا الكتاب نسبه الحطاب لابن بشير، فقال: " ... فعارضني بما قلت لكم وبما
قاله الشيخ ابن بشير في ذاك في الأجوبة" (1).
والحق أني غير متأكد هل هذا كتاب مستقل أم أنه هو النوازل السالف الذكر
لأنّ النوازل قد يطلق عليها أجوبة.
هذه هي الكتب التي أمكنني الوقوف عليها، وثبتت لدي نسبتها لابن بشير. ويلوح
لي أن هناك كتبًا أخرى لم تصلنا ولم نعرف عنها أي شيء، ولعل مزيداً من
البحث والتنقيب يكشف لنا ما اندثر من مصنفات هذا الإمام.
بقي أن أشير إلى ملاحظة مهمة وهي أن مؤلفات ابن بشير يغلب عليها الطابع
الفقهي الأصولي، فالرجل أخلص نفسه للفقه والأصول. وتصح هذه الملاحظة إذا لم
تكن له كتب أخرى في فنون علمية لم تصلنا.
* المطلب الثاني: مكانة ابن بشير العلمية
إن مكانة الفقيه تتضح من خلال جهوده الفقهية ومناقشاته لآراء الآخرين، وعدم
قبولها وكأنها من المسلمات. فإذا ترقى الإنسان إلى هذه الدرجة وصارت عنده
هذه الملكة، أصبح فقيهًا حقًا وإمامًا صدقًا. وابن بشير رحمه الله لم يسر
على هذه الطريقة فحسب، بل كان منظرا لها وراسمًا لمعالمها، ألف في ذلك
كتابه هذا الذي بين أيدينا "التنبيه على مبادئ التوجيه"، و"الأنوار البديعة
إلى أسرار الشريعة". وسار على هذا النهج الذي ارتضاه لنفسه حتى لفت انتباه
العلماء بكثرة آرائه واختياراته وخروجه عن المذهب، هو وأبو الحسن اللخمي
فبدؤوا يتدارسون هذه الظاهرة. وهل تعد اختياراتهم قولًا يحكى عن المذهب أم
لا؟
وقد سأل أبو العباس الغبريني هذا السؤال الشيخ أبا العباس أحمد بن
__________
(1) مواهب الجليل 2/ 345.
(1/87)
عثمان القيسي والشيخ أبا القاسم بن زيتون
فقال: "سألته رحمه الله (1) تعالى عن اختيارات أصحابنا المتأخرين من
الفقهاء؛ كاللخمي، وابن بشير، وغيرهما. هل تحكى أقوالًا عن المذهب، فيقال
مثلا: في المذهب ثلاثة أقوال، بما يقوله اللخمي أو لا؟ فقال لي: إنما تكون
الحكاية بحسب الواقع، فيقال: في المذهب قولان. ويقال: وقال اللخمي كذا أو
فلان، ويعزى إليه ما قال. وسألت عن هذه القضية شيخنا الفقيه أبا القاسم بن
زيتون، فقال لي: نعم، يحكى قول اللخمي وغيره قولًا في المذهب، كما يحكى قول
من تقدم من الفقهاء قولًا في المذهب. وهذان الجوابان جيدان، أما جواب
الفقيه أبي العباس فإنه مبني على سبيل التوقف والورع، وأما جواب الفقيه أبي
القاسم، فإنه مبني على سبيل النظر. لأنه رأى أن كل جواب بني على أصول مذهب
مالك وطريقتة، فإنه من مذهبه. والمفتي به إنما أفتى على مذهبه، فيصح أن
تضاف هذه الأقوال إلى المذهب وتعد منه" (2).
هكذا نرى أن ابن بشير رحمه الله استطاع أن يصل إلى درجة تؤهله للانفراد
بقول داخل المذهب، وأن يحكى قوله ضمن الأقوال المعتبرة في المذهب. ولعل هذا
ما دفع بابا التمبكتي إلى أن يصنفه ضمن فحول المذهب وأئمته، وأن يرفعه عن
الشراح. وقد جاء هذا التصنيف عرضا ذكره عند حديثه عن عمر بن محمد المعروف
بالقلشاني، فقال: "ينقل كلام ابن عبد السلام ويذيله بكلام غيره من الشراح
كابن راشد وابن هارون والناصر المشدالي وخليل وابن عرفة وابن فرحون وغيرهم،
مع البحث معهم. ويطرزها بنقل كلام فحول (3) المذهب كالنوادر وابن يونس
والباجي واللخمي وابن رشد والمازري وابن بشير وسند وابن العربي وغيرهم"
(4).
ففي هذا النص قسم باب التمكيني العلماء إلى قسمين: شراح
__________
(1) يعني أبا العباس القيسي.
(2) عنوان الدراية ص: 100.
(3) في كفاية المحتاج [أئمة]، بدل [الفحول] 1/ 327.
(4) نيل الابتهاج ص:306.
(1/88)
وفحول، وجعل ابن بشير ضمن الفحول. وهي
منزلة من أرقى المنازل وأعلاها، إذ الفحولة تطلق على الجيد والصفوة من كل
شيء.
وفي نفس السياق يقول الفاضل ابن عاشور مفسرًا لهذه الفحولة: "وتكون بالإمام
اللخمي الإمام أبو عبد الله المازري، فكان مع الحلبة التي عاصرته من
الفقهاء الذين نستطيع أن نذكر منهم على سبيل المثال الواضح أربعة: وهم
المازري وابن بشير وابن رشد الكبير والقاضي عياض. فهؤلاء هم الذين سلكوا
طريقة جديدة في خدمة الحكم؛ هي الطريقة النقدية التي أسس منهجها أبو الحسن
اللخمي، فصاروا في الفقه يتصرفون فيه تصرف تنقيح، وينتصبون في مختلف
الأقوال انتصاب الحكم الذي يقضي بأن هذا مقبول، وهذا ضعيف، وهذا غير مقبول،
وهذا ضعيف السند في النقل، وهذا ضعيف النظر في الأصول، وهذا مغرق في النظر
في الأصول، وهذا محرج للناس أو مشدد على الناس، إلى غير ذلك. وهي الطريقة
التي درج عليها الإمام المازري في شرحه على التلقين للقاضي عبد الوهاب ودرج
عليها ابن بشير في شرحه على المدونة الذي سماه التنبيه على مسائل التوجيه
... " (1).
ولما ذكر صاحب الاختلاف في المذهب المالكي طائفة من علماء المذهب الذين
تبوؤوا منزلة الاجتهاد المذهبي وتسنموا غارب الترجيح واعتمدهم المصنفون في
التشهير والتصحيح، لم يغب عن ذهنه ابن بشير، فذكره ضمن هذه الكوكبة من
العلماء (2).
وبعد هذا لا نستغرب توشيح ابن فرحون له بقوله: "كان رحمه الله إمامًا
عالمًا مفتيًا جليلًا فاضلًا ضابطًا متقنًا حافظًا للمذهب إمامًا في أصول
الفقه والعربية والحديث، من العلماء المبرزين في المذهب، المترفعين عن درجة
التقليد إلى رتبة الاختيار والترجيح" (3).
__________
(1) المحاضرات المغربيات ص: 81.
(2) الاختلاف الفقهي في المذهب المالكي ص: 199، 200.
(3) الديباج المذهب: 1/ 265.
(1/89)
* المطلب الثالث:
تأثيره فيمن بعده
إن من وصل إلى هذه المرتبة العلمية المتميزة، لا بد أن يترك آثارًا فيمن
بعده، وأن يعثر الدارس على بصماته في الفقه المالكي. وقد حاولت أن ألتمس
آثار ابن بشير من خلال تصفح سريع لبعض الكتب، فلاحظت أن اسم الرجل كثير
التردد على ألسنة الفقهاء، فهم يستشهدون بأقواله وينقلون عنه ويتعقبونه.
وقد حاولت أن أحصي عدد المرات التي ذكر فيها اسم ابن بشير في بعض الكتب،
مستعينًا بالحاسوب فوجدته ذكر في مواهب الجليل حوالي ثلاثمائة وسبعين مرة،
وفي التاج والإكليل حوالي ثلاثمائة واثنتي عشرة مرة، وفي حاشية الدسوقي
حوالي مائة وعشرين مرة. وهذه الأرقام إن دلت على شيء فإنما تدل على أن ابن
بشير كان حضوره قويًا في الدرس الفقهي وتأثيره فيه واضح، بل لقد أصبح له
أتباع وطريقة، يستشف ذلك من خلال قول الحطاب في عدة مواطن منها قوله:
"وذكر ابن بشير وأتباعه" (1)، "وقول ابن بشير وتابعيه" (2)، "ولذا اعترض
ابن عرفة قول ابن بشير ومن تبعه" (3)، "وجعل ابن بشير وتابعوه" (4)، "قال
ابن عرفة: وقول ابن بشير ومن تابعه" (5).
ومن ذلك قول ابن فرحون: "وأما قوله عند قوم ... فالإشارة بهؤلاء القوم إلى
ابن بشير ومن وافقه" (6).
ومن ذلك قول خليل ابن إسحاق: "وتبع في اليوم ابن بشير" (7)، يقصد ابن
الحاجب تبع ابن بشير، "وبناء المصنف تبعًا لابن بشير" (8).
__________
(1) مواهب الجليل 1/ 162.
(2) مواهب الجليل 2/ 46.
(3) مواهب الجليل 2/ 85.
(4) مواهب الجليل 3/ 19.
(5) مواهب الجليل 1/ 490.
(6) كشف النقاب الحاجب ص: 173.
(7) التوضيح 1/ 232.
(8) التوضيح 1/ 150.
(1/90)
ومن ذلك قول الدسوقي: "صرح بذلك ابن بشير
وتابعوه" (1).
وأما ما يدل على أن له طريقة فأكتفي بما ورد في مواهب الجليل، من ذلك قوله:
"وهذه طريقة ابن بشير" وقد رددها تسع مرات في الكتاب (2).
بعد هذا لا أكون مبالغًا إذا قلت: إن لابن بشير مدرسة وأتباعًا داخل
المذهب، تأثروا به وساروا على نهجه. ومما يؤكد هذا ما ورد في نفح الطيب من
أن ابن الحاجب لم يخرج عن ابن بشير وابن شاس إلا في الشيء اليسير. قال
المقري: " ... ذكر عند أبي عبد الله ابن قطرال المراكشي أن ابن الحاجب
اختصر الجواهر فقال: ذكر هذا لأبي عمرو حين فرغ منه فقال: بل ابن شاس اختصر
كتابي. قال ابن قطرال وهو أعلم بصناعة التأليف من ابن شاس. والإنصاف أنه لا
يخرج عنه وعن ابن بشير إلا في الشيء اليسير. فهما أصلاه ومعتمداه، ولا شك
أن له زيادات وتصرفات تنبئ عن رسوخ قدمه وبعد مداه" (3).
ولم ينحصر إشعاع ابن بشير داخل المذهب بل تعداه إلى خارجه؛ فهذا تقي الدين
ابن تيمية الحنبلي يستدل بأقواله (4)، وابن الملقن أبو حفص عمر بن علي
الشافعي (5)، وكذلك الألوسي الحنفي (6). ولكن رغم هذا فإن تأثيره خارج
المذهب يبقى ضعيفًا إذا ما قورن بتأثيره داخله. ومرد هذا كون ابن بشير عاش
في فترة انكب المالكية فيها على دراسة المذهب وخدمته بعدما خلت لهم الساحة
ولم يعد هناك داع للخوض في المناظرات والخلاف العالي. وقد سبق الحديث عن
هذا قريبًا.
__________
(1) حاشية الدسوقي 3/ 76.
(2) انظر مواهب الجليل: 1/ 87، 147. 150، 3/ 292، 376، 136، 421، 455، 4/
533.
(3) 5/ 221.
(4) انظر الفتاوى 32/ 47.
(5) انظر الإعلام بفوائد عمدة الأحكام 1/ 605، 653، 2/ 93، 48، 541, 5/
445.
(6) انظر روح المعاني 7/ 231.
(1/91)
* المطلب الرابع:
موقفه من البدعة وأصحابها
لقد أشرت في الحديث عن عصر ابن بشير إلى أن سلطان المبتدعة اضمحل وتلاشى
بإفريقية في العصر المذكور، وخلت الساحة بذلك لأهل السنة. فخفت حدة الصراع،
وانكب المالكية على خدمة مذهبهم وتنقيحه.
ورغم هذا فإن ابن بشير لم يأل جهدًا في التنبيه والتحذير من البدعة
والمبتدعة كلما سنحت الفرصة بذلك. ويتجلى ذلك عبر واجهتين:
الواجهة الأولى: التنبيه على المذاهب المتبنية للبدعة والقائمة عليها،
كالشيعة والخوارج والمعتزلة والقدرية.
الواجهة الثانية: التنبيه على الشعائر والعبادات الفرعية المخالفة للسنة.
فبالنسبة للواجهة الأولى نجده يتحدث عن إمامة معتقد البدعة كالخوارج
والمعتزلة والقدرية؛ فيقول في حق الخوارج والمعتزلة: "فقد اختلف الأصوليون
في معتقد البدعة كالخوارج والمعتزلة؛ فللقاضي في تكفيرهم قولان. وكذلك
اختلف قول الفقهاء؛ فعن مالك في ذلك روايتان، ومثلهما عن الشافعي. وقال أبو
إسحاق التونسي وغيره من متأخري أهل المذهب: سبب الخلاف هل يكفرون بما آل
القول إليه أم لا؟ ومعنى ذلك: أن المعتزلة والخوارج متفقون على نفي الصفات
المعنوية في حق الباري؛ فينكرون كون الباري سبحانه عالمًا بعلم، وقادرًا
بقدرة، إلى غير ذلك من الصفات. إلا أنهم لا ينكرون أنه عالم ولا قادر ولا
حي ولا مريد".
فمن رأى إنكارهم أن يكون عالمًا يؤدي إلى نفي العلم عنه جملة، [وقوَّلهم]
[ما يؤدي إليه مبدأ أقوالهم كَفَّرهم.
ومن لم يقوِّلهم] ما يؤدي إليه مبدأ قولهم، لم يحكم بتكفيرهم وحكم
بتفسيقهم.
وقد سئل أبو المعالي عن هذه المسألة، فحكى خلاف الأئمة فيها. ثم قال: وقد
نبه الرسول - صلى الله عليه وسلم - على وقوع هذا الخلاف بقوله في الخوارج:
(1/92)
"يَمْرُقُونَ مِنْ الدَّينِ كَمَا يَمْرُقُ
السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ" (1)، وقال في آخر الحديث: "وَتَتَمَارَى في
الْفُوقِ". وهذه إشارة إلى خلاف الناس في تكفيرهم والمناظرة فيه؛ فلا شك أن
من حكم بكفرهم حكم ببطلان الاقتداء بهم، ومن حكم بأنهم غير كفار فلا يحكم
ببطلان الصلاة وراءهم كالزنديق." (2).
أما بالنسبة للقدري، فإنه حسم الخلاف فيه ورأى عدم جواز الصلاة وراءه،
فقال: "وفي الكتاب: في الإمام القدري أنه لا يصلى خلفه. قال: ولا الجمعة إن
استيقنت ذلك، وإن كنت تتقيه وتخافه على نفسك فصلها معه وتعيدها ظهرًا
أربعًا" (3).
وبالنسبة للشيعي فإنه يحكي أحد الأقوال التي ترى أن الإمام إذا زاد عن أربع
تكبيرات في صلاة الجنازة لا ينتظر، ويسلم المأمومون كي لا يتشبهوا بأهل
التشيع حيث صارت التكبيرات الخمس شعارًا لهم. كل ذلك حماية للذريعة في
موافقتهم (4) ..
أما واجهة التنبيه على الشعائر الفرعية المخالفة للسنة فهي كثيرة نذكر منها
نموذجين اثنين:
الأول: منعه للنافلة جماعة في غير رمضان بحجة أن ذلك بدعة فقال: "وأما
الجمع فلا خلاف في جوازه في نافلة رمضان، لكن الانفراد عند مالك رحمه الله
أفضل. وأما غير ذلك من النوافل فإن كان الجمع في الموضع الخفي والجماعة
يسيرة جاز. وقد تنفل - صلى الله عليه وسلم - في بيته واقتدى به ابن عباس.
وصلى عليه السلام في بيت من بيوت أصحابه واقتدى به الصبي والرجل والمرأة.
وإن كان الموضع مشهورًا والجماعة كثيرة فكرهه عبد الملك بن حبيب، وهو مقتضى
المذهب. ومنه ما يفعل في بعض البلاد من الجمع ليلة نصف شعبان وليلة
عاشوراء. ولا يختلف المذهب في كراهيته. وينبغي
__________
(1) أخرجه البخاري في المناقب (3610)، ومسلم في الزكاة (1064).
(2) انظر ص: 443 من هذا الكتاب.
(3) انظر ص: 444 من هذا الكتاب.
(4) انظر ص: 671 من هذا الكتاب.
(1/93)
للأئمة [والفقهاء] أن يتقدموا في النهي عنه
ولا يرخصوا فيه لأحد من الناس، فإن فعل النبي- صلى الله عليه وسلم - في
نافلة البيوت إنما كان ليتبرك به في صلاته ولا يعتقد المعتقد أنه يفعل ذلك
في المساجد أو عند كثرة الجماعة في البيوت فإن ذلك بدعة" (1).
الثاني: ذمه لتقديم الخطبة على الصلاة في العيد فقال: "وإن خطب قبل الصلاة
استحب له الإعادة، فإن لم يعد أجزأ. وبئس ما صنع في تركه السنة ... " (2).
* المطلب الخامس: أهم الانتقادات التي وجهت
إليه:
لا شك أن كل من لمع نجمه وسطع في الأفق ذكره أن يلتفت إليه العلماء ويهتموا
بما يصدر عنه. وابن بشير واحد من أولئك الذي لقي تراثهم اهتمامًا من طرف
الفقهاء. فتعرض للانتقاد كسائر العلماء ولعل أبرز من تعقبه وتتبعه أبو عبد
الله محمد بن عرفة الذي أحيى الطريقة النقدية بعد أن كادت تندثر معالمها
بانتشار مختصر ابن الحاجب وبروز مختصر خليل بن إسحاق. يقول الفاضل بن
عاشور: "وسلك ابن عرفة في فقهه الطريقة التي عبر عنها أصحابه وعبر عنها هو
بنفسه بالتفقه؛ وهي الرجوع إلى الأقوال المتروكة، أو المحكوم عليها بالضعف،
أو المحكوم عليها بالمرجوحية للنظر فيها من النواحي النقدية التي سبق من
قديم النظر في أمثالها على ذلك المنهج الإمام اللخمي في التبصرة فنشأ هذا
المنهج الجديد الذي هو منهج التفقه" (3).
وقد كانت الانتقادات التي وجهها ابن عرفة لابن بشير من النوع المعتاد بين
العلماء. وهي كثيرة (4)، أذكر منها المثال التالي: "قال ابن بشير
__________
(1) انظر ص: 494 من هذا الكتاب.
(2) انظر ص: 660 من هذا الكتاب.
(3) المحاضرات المغربيات ص: 85.
(4) انظر مواهب الجليل 1/ 71، 84، 410، 252, 310 ,450، 451، 482، 494، 2/
40، 124، 316، 361، 387، 392، 312، 3/ 98، 99، 231, 479، 4/ 460، 348، 5/
182.
(1/94)
وحقيقة ما يعاد من السنن المتروكة في
الوضوء وما لا يعاد، أن كل سنة إذا تركت ولم يؤت في محلها بعوض فإنها تعاد.
وهذا كالمضمضة والاستنشاق ومسح داخل الأذنين والترتيب وكل سنة عوضت في
محلها؛ كغسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء ومسح الرأس عائد من المقدم إلى
المؤخر فلا تعاد، لأن محلها قد حصل فيه الغسل والمسح. انتهى. وذكر ابن عرفة
كلام ابن بشير، وقال بعده: قلت يرد بعموم نقل الشيخ عن ابن حبيب إعادة ما
ترك من مسنونه، وإن سلم في اليدين فلاستحالة تلافيه لتقييده بالقبلية
وتلافيها مستحيل أو موجب إعادة الوضوء فتصير السنَّة واجبة، انتهى. قلت: قد
سلم ما قاله ابن بشير إذا كان لا يعيد غسل اليدين فلم يبق إلا رد مسح الرأس
والاستنثار وهما أولى بعدم الإعادة لأن إعادتهما تستلزم تكرار مسح الرأس
بماء جديد، أو مسحه من غير بلل في اليد. ولا فائدة فيه كما تقدم في كلام
اللخمي. وكذلك الاستنثار، لا يتصور فيه الإعادة إلا بإعادة الاستنشاق.
فالصواب تقييد ما نقله الشيخ عن ابن حبيب بما عدا الثلاثة المذكورة.
فتأمله، والله تعالى أعلم" (1). فمن هذا القبيل كانت غالب الانتقادات التي
وجهت لابن بشير.
لكن الانتقاد القاسي واللاذع هو الذي جاءه من قبل القباب وتبناه الشاطبي.
جاء في المعيار (2) أن الشاطبي كتب لبعض أصحابه مكتوبًا جاء فيه:
"وأما ما ذكرت لكم من عدم اعتمادي على التآليف المتأخرة فلم يكن ذلك مني
بحمد الله محض رأي ولكن اعتمدت بسبب الخبرة عند النظر في كتب المتقدمين مع
كتب المتأخرين، وأعني بالمتأخرين كابن بشير وابن شاس وابن الحاجب ومن
بعدهم. ولأن بعض من لقيته من العلماء بالفقه، أوصاني بالتحامي عن كتب
المتأخرين، وأتى بعبارة خشنة في السمع، لكنها محض النصيحة". "والعبارة
الخشنة التي أشار إليها كان رحمه الله ينقلها من شيخه أبي العباس أحمد
القباب، وهي أنه كان يقول في ابن بشير وابن
__________
(1) مواهب الجليل 1/ 252.
(2) 11/ 142.
(1/95)
الحاجب وابن ساش: أفسدوا الفقه"، وقال
أيضًا: "وشأني أن لا أعتمد على هذه التقييدات المتأخرة البتة. تارة للجهل
بمؤلفها، وتارة لتأخر زمان أهلها جدًا، أو للأمرين معا. فلذلك لا أعرف
كثيرًا منها ولا أقتنيه وإنما المعتمد عندي كتب الأقدمين المشاهير".
هكذا نرى أنه انتقاد قاس وخشن، فالإنسان قد تصدر منه أخطاء سواء على مستوى
المنهج أو الأفكار، فيحيد عن الصواب فهذا أمر عاد جدًا. لكن أن يصبح مفسدًا
ومخربًا، فذاك أمر يصعب تقبله ويتعسر هضمه.
وقبل أن أناقش حيثيات هذا الحكم وحججه، أسارع إلى التنبيه إلى نقطتين
أساسيتن، قد تساعدنا كثيرًا في فهم مساق الانتقاد الذي تعرض له ابن بشير.
النقطة الأولى: أن هذه الانتقادات اللاذعة والأحكام القاسية التي تصدر من
بعض العلماء في حق آخرين، ليست غريبة على الساحة العلمية، فما من إمام إلا
وقد طعن فيه طاعنون، بل هلك فيه هالكون.
وهذه طائفة من ذلك:
أولًا: روي عن أبي العباس القيرواني الفارسي (ت) سنة 213 هـ أنه كان شديد
الانتقاد للمدونة حتى أنه قام بإحراقها بنفسه (1). ونفس الموقف اتخذه منها
ابن الحداد، وكان يلقبها بالمدودة (2).
ثانيًا: روي عن ابن أبي زيد القيروان أنه لما عرض عليه تهذيب البراذعي، قال
يجب أن يمحى أو يحرق! (3).
ثالثًا: روي عن أصبغ بن خليل القرطبي أنه كان يقول لأن يكون في تابوتي رأس
خنزير أحب إلى من أن يكون فيه مسند ابن أبي شيبة! (4).
__________
(1) ترتيب المدارك 3/ 300.
(2) العبر 2/ 122.
(3) معالم الإيمان 3/ 120.
(4) تاريخ علماء الأندلس ترجمة رقم 347.
(1/96)
رابعًا: قيل عن اللخمي إنه مزق مذهب مالك!
خامسًا: روي عن ابن العربي أنه كان يقول: إياكم والعتبية فإنها بلية! (1).
ولم يقف الحد عند هؤلاء بل تعداه إلى الأئمة الكبار، فقد قيل الشيء الكثير
عن أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والبخاري ومسلم وغيرهم!
ومن هنا تقرر عند المحققين، أن أقوال العلماء بعضهم في بعض لا يلتفت إليها
ولا يؤخذ بها إلا بشروط، ومن لم يلتزم بتلك الشروط لم يبق عنده شيء غير
منتقد. وقد أفاض علماء الجرح والتعديل في الحديث عن تلك الشروط، ولا يتسع
المقام لتفصيل القول فيها. وأكتفي هنا بنص لابن عبد البر يعد أصلًا في هذا
الباب، قال رحمه الله: "والصحيح في هذا الباب، أن من صحت عدالته، وثبتت في
العلم أمانته، وبانت ثقته وعنايته بالعلم؛ لم يلتفت فيه إلى قول أحد، إلا
أن يأتي في جرحته ببينة عادلة، تصح بها جرحته على طريق الشهادات والعمل
فيها من المشاهدة والمعاينة لذلك بما يجب قبوله من جهة الفقه والنظر ...
والدليل على أنه لا يقبل فيمن اتخذه جمهور من جماهير المسلمين إمامًا في
الدين قول أحد من الطاعنين، أن السلف رضوان الله عليهم قد سبق من بعضهم في
بعض كلام كثير" (2).
النقطة الثانية: وهي أن القباب، وإن كان إمامًا صالحًا زاهدًا محققًا
فقيهًا نبيهًا من صدور عدول فاس، ذا دين وفضل (3) ... إلا أنه يبدو والله
أعلم أنه كان رحمه الله حاد التعبير خشن التجريح. يدل على ذلك أن التنبكتي
لما ترجم له نقل عنه انتقادين، كل منهما لا يخلو من حدة، فالأول في حق ابن
بشير ومن معه وقد سبقت عبارة الشاطبي في وصفه بأنه خشن
__________
(1) عارضة الأحوذي 1/ 85.
(2) جامع بيان العلم وفضله: 2/ 152.
(3) انظر هذه الصفات في كفاية المحتاج 1/ 98.
(1/97)
في السمع. والثاني لا يقل حدة ولا خشونة عن
الأول، فقد واجه به صاحبه ووضعه في موضع حرج، حتى تغير وجهه. يقول
التنبكتي: "ويذكر أنه لما اجتمع بابن عرفة في تونس، أراه ما كتب من مختصره
الفقهي وقد شرع في تأليفه. وقال له القباب: ما صنعت شيئًا فقال له ابن
عرفة: ولما؟ قال: لأنه لا يفهمه المبتدئ ولا يحتاجه المنتهي. فتغير وجه
الشيخ ابن عرفة ... " (1).
والنص لا يحتاج إلى تعليق فهو يطفح خشونة وحدة.
ومما يؤكد ما سبق أن الشاطبي لاحظ هذه الحدة والخشونة في أسلوب القباب من
خلال مراسلته معه في مسألة رعي الخلاف، فأظهر تبرمه واستثقاله من ذلك واضطر
إلى أن ينبهه عليه.
والمسألة كما حكاها صاحب المعيار؛ أن الشاطبي لما كتب إلى القباب يتدارس
معه مسألة رعي الخلاف استهل القباب جوابه بقوله:
"فاعلم أن مراعاة الخلاف من محاسين هذا المذهب.
وكم من عائب قولاً صحيحًا ... وآفته من الفهم السقيم" (2)
فكان من جواب الشاطبي ما نصه:
"وجرى في كلامكم عن هذه المسألة أنكم لما حكيتم عن العلماء استشكال القول
بمراعاة الخلاف، نزعتم بالبيت إلى من استشكله فهو بعيد الفهم عن الصحة.
وأنا يا سيدي أستثقل الحوم حول هذه المنازع التي تشير إلى استنقاص من تقدم
من أهل العلم المستشكلين، إذ منهم أبو عمر بن عبد البر وسواه وإن كانت
الإشارة على بعد. وأنتم أعرف بما فيها منا، وإنما حسن النظر معهم أن يكون
على جهة الاستشكال وتوقف الفهم عما أرادوه فهو أليق بأدب العلماء، وأخلاق
الفضلاء وأحرى بتنوير القلب وانشراح
__________
(1) المصدر السابق.
(2) المعيار 6/ 688.
(1/98)
الصدر وأجلب فائدة في الدنيا والآخرة
والمقصود بعد ذلك حاصل إذ تبين فيه الإشكال وظهر ما هو الصواب فإن ظهر
الصواب خلاف ما قالوه التمس لهم أحسن المخارج واحمل كلامهم على أقرب ما
يليق به من مناحي الصحة ... فهذا الذي يظهر لي وبالله التوفيق." (1).
وبهذا يتبين والله أعلم أن الإمام القباب كان يسبقه القلم بعض الأحيان
ويجره نحو المبالغة في التجريح.
والوقوف على هذه القضية مفيد جدًا، فمعرفة شخصية الناقد وطبعه وأسلوبه
واستحضار كل ذلك، يساعد على استخراج الحقيقة من مخابئها. ومن غابت عنه هذه
المسألة اختلطت عليه الأمور، وسوى بين انتقاد ابن حزم وغيره من العلماء!
وقد تنبه علماء الجرح والتعديل إلى هذه القضية فقسموا الخائضين في هذا
العلم إلى ثلاثة أقسام؛ قسم المتشددين وقسم المعتدلين وقسم المتساهلين.
ولكل قسم منهم نظر خاص به.
بعد هذه التوطئة، أرجع لأقف بتأن وروية مع هذا الانتقاد اللاذع الذي صدر من
القباب وتبناه الشاطبي، لنرى إلى أي حد هو صحيح أو مبالغ فيه.
فأقول إنه بعد إمعان النظر وإجالة الفكر في حيثيات هذا الحكم القاسي وحججه
وبراهينه، لم أظفر بشيء يقنعني وتطمئن إليه نفسي. فالقباب أرسل كلمته مجردة
من أي تعليل. والشاطبى قال كلامًا مجملًا، وكل ما ذكروه هو:
أن ذلك بسبب الخبرة عند النظر في كتب المتقدمين مع كتب المتأخرين.
وأن بعض من لقيه من الفقهاء- ويقصد القباب- أوصاه بالتحامي عن كتب
المتأخرين.
__________
(1) المصدر السابق 6/ 392.
(1/99)
وأن ذلك راجع تارة للجهل بمؤلفيها وتارة
لتأخر زمان أهلها جدًا أو للأمرين معا.
أما بالنسبة للسبب الأول فهو كلام مجمل غير مبين، فكأنه يريد أن يقول بأنه
قارن كتب المتقدمين وكتب المتأخرين وتوصل إلى أن كتب المتقدمين أفضل من كتب
المتأخرين، ويا ليته وضح وجه الأفضلية وطريقة توصله إلى ذلك، وأماط اللثام
عن هذا الكلام المجمل.
وأما السبب الثاني فهو وصية ومحض نصيحة، ويبقى أيضًا كلامًا خاليًا من
التعليل.
وبالنسبة للسبب الثالث فهو البين الواضح الذي بني عليه الشاطبي دعواه،
ولكنه للأسف الشديد سبب لا يليق بالشاطبي أن يعتمد عليه ويبني عليه حكمًا
كهذا. فمتى كان التأخر أو التقدم مقياسًا لجودة الكتاب أو رداءته؟
ولو طبقنا هذه القاعدة على الشاطبي وشيخه القباب لكانا أشد إفسادًا من ابن
بشير وابن شاس وابن الحاجب لأن هؤلاء متقدمون عنهما. والشاطبي والقباب أكثر
تأخرًا منهما. والواقع يدل على غير ذلك فما كتبه الشاطبي أفضل وأجود مما
كتبه كثير من المتقدمين.
ولكن يبدو أن الشاطبي وشيخه بنيا حكمهما على ما هو شائع عند الناس من أن كل
متقدم جيد، وكل متأخر رديء. يقول الفخر الرازي: "من القضايا الغالبة على
الأوهام، أن كل ما قدم فهو أكمل وأتم" (1). وهذه من أخطر القضايا المثبطة
للهمم والعزائم. يقول الحافظ ابن عبد البر: وما كان أضر بالعلم والعلماء
والمتعلمين من قول القائل ما ترك الأول للآخر شيئًا (2) ..
وقد رد ابن خلدون على هذا الوهم عندما تحدث عن ابن هشام وما وصل إليه من
منزلة عالية في علم النحو لم يصل إليها إلا سيبويه وابن جني
__________
(1) شجرة النور التتمة ص: 136.
(2) التراتيب الإدارية عبد الحي الكتاني 1/ 78.
(1/100)
وطبقتهم، فقال بعد ذلك: "ودل على أن الفضل
ليس منحصرًا في المتقدمين" (1).
بل إن كثيرًا من النقاد يرون أن المتأخرين لهم ميزات على المتقدمين في
تقنيات البحث ودقة الألفاظ وجدة الاكتشاف، قال ابن عبد ربه: "ثم إني رأيت
آخر كل طبقة، وواضعي كل حكمة، ومؤلفي كل أدب، أعذب ألفاظًا، وأسهل بنية،
وأحكم مذهبًا، وأوضح طريقة من الأول, لأنه ناكص على متعقب والأول بادئ
متقدم" (2).
ويقول ابن عابدين: "كتب المتأخرين تفوق على كتب المتقدمين في الضبط
والاختصار وجزالة الألفاظ وجمع المسائل وتقويم الدلائل. فالعالم المتأخر
يصرف ذهنه إلى تنقيح ما قالوه، وتبيين ما أجملوه، وتقييد ما أطلقوه، وجمع
ما فرقوه، واختصار عباراتهم، وبيان ما استقر عليه الأمر من اختلافهم".
كل هذه النصوص تبين أن معيار سبر مستوى الأداء العلمي بين المتقدمين
والمتأخرين، هو العمل نفسه. فالأعمال العلمية تكتسب قيمتها من مدى الصواب
والجودة. وهي مقاييس مجردة غير مرتبطة بزمان ولا مكان. قال حاجي خليفة:
"فإنما يستجاد الشيء ويسترذل لجودته ورداءته في ذاته، لا لقدمه وحدوثه"
(3).
نعم للأوائل شرف الفوز باستخراج الأصول وتمهيدها، ورسم معالم العلوم
وإبداعها. والأواخر لهم شرف الفوز بتفريع الأصول وتشييدها، وتهذيب العلوم
وتنقيحها. وقد قال عليه الصلاة والسلام: "أمتي أمة مباركة لا يدرى أولها
خير أم آخرها (4) " (5).
__________
(1) المقدمة 728.
(2) قواعد التحديث ص: 39.
(3) كشف الظنون 1/ 39.
(4) قال العجلوني في كشف الخفاء 1/ 228: رواه ابن عساكر عن عمرو بن عثمان
مرسلًا. وله شاهد عند الترمذي وأبي يعلى والدارقطني، وهو قوله - صلى الله
عليه وسلم -:"مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره" انظر كشف
الخفاء 2/ 258.
(5) كشف الظنون 1/ 39، أبجد العلوم 1/ 195.
(1/101)
بقيت نقطة أخرى أشار إليها الشاطبي، وهي أن
هؤلاء المتأخرين
مجهولون لديه. وشأنه ألا يعتمد إلا على كتب المتقدمين المشاهير.
وأقول إن ابن بشير وأمثاله ليسوا مجهولين فهم أعلام على رؤوسهم
نار كما يقال. وحتى لو فرضنا أنهم مجهولون فإن الحق يعرف بنفسه وليس بصاحبه
وشهرته.
هذه هي حيثيات الحكم التي بني عليها الشاطبي رأيه، وهي كما نلاحظ حجج داحضة
(1).
وكأني بالشيخ أحمد بابا التنبكتي لم يقتنع بهذه الأسباب وراح يلتمس أسبابًا
أخرى فقال في ترجمة القباب: "وذكر عنه أبو إسحاق الشاطبي أنه كان يقول إن
ابن بشير وابن شاس وابن الحاجب أفسدوا الفقه، ويأمر أصحابه بتركهم. قلت:
وكأنه يعني بذلك أن الأخيرين أدخلا جملة من مسائل وجيز الغزالي في المذهب
مع مخالفتها له، كما نبه عليه الناس. والأول بني فروعًا فقهية على قواعد
أصولية وأدخلها في المذهب كذلك. ومسائل المذهب لا تجري جميعها على قواعد
الأصول، والله أعلم" (2).
وقد نقل ابن فرحون عن ابن دقيق العيد كلامًا قريبًا من هذا فقال:
"وكان رحمه الله يستنبط أحكام الفروع من قواعد أصول الفقه وعلى هذا مشى في
التنبيه وهي طريقة نبه ابن دقيق العيد على أنها غير مخلصة إذ الفروع لا
يطرد تخريجها على القواعد الأصولية" (3).
وحتى ما علل به التنبكتي وابن دقيق العيد فإنه لا ينهض حجة لإدانة
__________
(1) لقد أكد الشاطبي كلامه هذا في الموافقات في المقدمة الثانية عشرة 1/ 61
وأتى بنفس الكلام وأضاف أحاديث من قبيل قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
"خير القرون قرني ثم الذين يلونهم". وما شابه هذا الكلام.
(2) كفاية المحتاج: 1/ 99.
(3) الديباج: 1/ 265.
(1/102)
ابن بشير بالخصوص. أما ما ذكره عن ابن شاس
وابن الحاجب (1) فلا شأن لنا به لأنه لا يتعلق بموضوعنا.
ويمكن تلخيص كلام ابن دقيق العيد والتنبكتي في أن فروع ومسائل المذهب لا
تجري جميعها على القواعد الأصولية، ولا يطرد تخريجها عليها، وابن بشير جعل
القواعد مطردة، ولم يراع المستثنيات.
ويمكن أن يقال عن هذا الكلام:
إن القواعد الأصولية وضعت أساسًا ليتم بواسطتها استنباط الأحكام من
الأدلة التفصيلية. وهي تمثل ميزانًا وضابطًا للاستنباط الصحيح وهي بمثابة
قوانين عامة ومعايير سليمة يقيس بها المجتهد صحيح الأحكام من سقيمها.
إلا أن هذه القواعد قد تخرج عنها جزئية أو جزئيتان، ولكن خروجها لا يخرمها
وعدم انخرامها يعني عدم تأثرها بخروج ما خرج عنها، فإذا ثبتت قاعدة عامة أو
مطلقة لا تؤثر فيها معارضة قضايا الأعيان ولا حكاية الأحوال.
وما خرج عن تلك القواعد يدخله العلماء ضمن قاعدة الاستحسان التي هي عبارة
عن "الأخذ بمصلحة جزئية في مقابل دليل كلي." (2) وقد وضح هذا عبد الوهاب
خلاف بقوله: "إذا عرضت واقعة يقتضي عموم النص حكمًا فيها أو يقتضي القياس
الظاهر المتبادر حكمًا فيها، أو يقتضي تطبيق الحكم الكلي حكمًا فيها، وظهر
للمجتهد أن لهذه الواقعة ظروفًا وملابسات خاصة تجعل تطبيق النص العام أو
الحكم الكلي عليها أو اتباع القياس الظاهر فيها يفوت المصلحة أو يؤدي إلى
مفسدة، فعدل فيها عن هذا الحكم إلى حكم آخر اقتضاه تخصيصها من العام أو
استثناؤها من الكلي أو اقتضاء قياس خفي غير متبادر، فهذا العدول هو
الاستحسان، وهو من طرق
__________
(1) استغرب كيف يحشر ابن بشير مع ابن الحاجب ويوضع معه في خانة واحدة مع
اختلافهما الواضح في المنهج، فالأول يعد من أصحاب الموسوعات التي تهتم
بالتأصيل والتعليل والنقد ... والثاني من أصحاب المختصرات.
(2) المواففات 4/ 16.
(1/103)
الاجتهاد بالرأي, لأن المجتهد يقدر الظروف
الخاصة لهذه الواقعة باجتهاده برأيه، ويرجح دليلًا على دليل باجتهاده برأيه
... " (1).
فإذا كان الأمر هكذا فهل يليق بابن بشير أن يذهل عن هذا؟؟ أم أن إدخاله ما
أدخله من الفروع في المذهب كان باعتبار أن دلالة الأصول الكلية أقوى من
أدلة المصالح الجزئية؟
لعل مزيدًا من البحث يوضح هذا أكثر. والذي أجزم به هنا هو أن هذا الانتقاد،
لم يلتفت إليه جمهور العلماء بل تجاهلوه ... بدليل أن ابن بشير ظل قوله
معتمدًا في المذهب وكتبه رائجة، بل محفوظة عن ظهر قلب كما سبق، وستظهر
مكانته العلمية أكثر في الفصل الثاني عندما نتحدث عن الكتاب.
وكم كنت أود أن أتجاهل أنا أيضًا هذا الانتقاد لاعتقادي أن ابن بشير أجل من
أن يوضع في هذا الموضع. وأسمى من أن يرشق بما رشق به، وهذا لا يعني أنه
مقدس أو معصوم من الخطأ. بل لاعتقادي أنه ليس من شرط العالم ألا يخطئ، ولكن
إذا رأينا عالمًا عاملًا وقعت منه هنة أو هفوة، نبه عليها ووضح وجه خطئها،
بألطف عبارة، وغمر ما بدر منه في بحر علمه وفضله، والله أعلم.
* المطلب السادس: إذا أطلق ابن بشير فما المراد
به عند المالكية؟
دفعني لطرح هذا السؤال كثرة الأعلام المالكية المنتهية أسماؤهم بابن بشير
وكثرة دوران هذا الاسم في كتب الفقه وحيرة الباحثين المعاصرين في تعيين
العلم المراد به. ومن أشهر الأعلام التي تنتهي أسماؤهم بابن بشير نجد منهم:
محمد بن سعيد بن بشير المعافري قاضي قرطبة روى عن مالك، (ت) 198هـ بقرطبة.
أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عبدوس بن بشير تلميذ سحنون، ولد سنة 202
هـ، (ت) 260 هـ.
__________
(1) مصادر التشريع فيما لا نص فيه ص:68.
(1/104)
عبد الرحمن بن أحمد بن سعيد بن بشير مولى
بني فطيس، المعروف بابن الحصار أبو المطرف، (ت) 422 هـ (1).
إبراهيم بن عبد الصمد بن بشير التنوخي.
محمد بن عبد الصمد بن بشير (2).
فهذه الأسماء أصحابها كلهم مالكية، فإذا وقف الباحث على ابن بشير منهم فإلى
من يصرفه؟ وقد تصدى للإجابة على هذا السؤال إبراهيم المختار الجبرتي
الزيعلي، محقق كتاب "مسائل لا يعذر فيها بالجهل على مذهب الإمام مالك".
فقال عند حديثه عن كنى بعض علماء المذهب الذين يكثر ذكرهم في أثناء الكتب:
إن ابن بشير المقصود به هو محمد بن بشير بن سرافيل. والحق أن الشيخ المذكور
جانب الصواب، ومن باب الأمانة العلمية أشير إلى أن أحمد بن حميد محقق القسم
الأول من كتاب القواعد للمقري نبه على عدم صحة هذا التفسير (3)، إلا أنه لم
يأت بما يدحض به كلام الزيعلي، وإنما أتى بما يثبت أن ابن بشير المذكور في
تلك الفقرة هو أبو الطاهر إبراهيم بن عبد الصمد. وبهذا أراني مضطرًا إلى
الإتيان بما يثبت أنه إذا أطلق ابن بشير عند المالكية بعد القرن السادس،
فالمراد به أبو الطاهر إبراهيم بن عبد الصمد التنوخي. ولن أجد في هذا الصدد
أفضل من الإتيان بنصوص الفقهاء التي نسبوا فيها الكلام لابن بشير بدون
تقييد والبحث عن ذلك الكلام هل يوجد عند أبي الطاهر أم لا؟
1 - وأبدأ بالمقري فقد قال في قواعده: "قاعدة: الحكم المرسل على اسم أو
المعلق بأمر هل يتعلق بأقل ما يصدق عليه حقيقة أو بأكثره؟ اختلف المالكية
فيه ويسمونه الأخذ بأوائل الأسماء أو بأواخرها؟ ومما يبني عليه المازري
وابن بشير الخلاف في مغسول المذي أهو الذكر أم محل الأذى؟ " (4) فهذا
الكلام موجود في التنبيه (5).
__________
(1) الديباج 1/ 149.
(2) شجرة النور ص: 126 والخريدة للعماد الأصفهاني 1/ 278 - 3/ 692.
(3) القواعد 1/ 224.
(4) 1/ 317.
(5) انظر ص: 259 من هذا الكتاب.
(1/105)
2 - وقال الونشريسي في المعيار: "وأيضًا
فظواهر نصوص أصحابنا كالرسالة والجلاب والمدونة وغير واحد أن من لم تبق له
قدرة على الصلاة إلا بالقلب أنه يصلي بقلبه. وإن كان ابن بشير ومن تبعه
كابن الحاجب إنما حكى ذلك عن الشافعي وقال لا نص في المذهب .. " (1) ونفس
الكلام موجود في التنبيه في كتاب الصلاة الأول.
3 - وقال صاحب كفاية الطالب الرباني. 1/ 252 وصاحب الثمر الداني 1/ 56:
"ولا فضيلة فيما زاد على الثلاث بل حكى ابن بشير الإجماع على منع الرابعة"
1/ 252 ونفس الكلام موجود في كتاب الوضوء.
4 - وقال الدسوقي في حاشيته 1/ 42 "أن الماء إذا استعمل أولًا في غير رفع
الحدث وإزالة حكم الخبث بأن استعمله فيما يتوقف على مطلق ويقصد معه الصلاة،
كغسل الإحرام والجمعة والعيد وتجديد وضوء وغسلة ثانية وثالثة، هل يجوز أن
يستعمل ثانيًا في رفع حدث وحكم خبث أو أوضية أو اغتسالات مندوبة أو يكره.
تردد للمتأخرين، فالكراهة لابن بشير" ونفس الكلام موجود في حكم الماء
المستعمل في الطهارة.
5 - وقال النفراوني في الفواكه الدواني "قال خليل تبعًا لابن الحاجب تبعًا
لابن بشير من أن الذي يشف كالعدم" (2). ونفس الكلام موجود في كتاب الصلاة
الأول.
7 - قال الحطاب في مواهب الجليل 1/ 56: "إذا ألقي الطحلب وما يتولد من
الماء في ماء فغيره فالمشهور أنه لا يضر والماء باق على طهوريته, لأن ذلك
مما لا ينفك الماء عن جنسه، قاله ابن بشير". ونفس الكلام موجود في التنبيه
في كتاب الطهارة.
ففي هذا القدر كفاية ودلالة على أنه إذا أطلق ابن بشير عند المالكية
فالمراد به صاحبنا.
__________
(1) 1/ 55.
(2) 1/ 215.
(1/106)
بعد هذا أرى، أنه من المفيد أن أذكر طائفة
من الباحثين المعاصرين الذين وهموا في تحديد ابن بشير المراد عند الإطلاق.
1 - فأولهم كارل بروكلمان في تاريخ التراث العربي ملحق 2/ 960. حيث نسب
كتاب التنبيه لابن عبدوس. ومعلوم أن كتاب التنبيه لأبي الطاهر صاحبنا.
2 - فؤاد سركين قال أثناء حديثه عن شروح المدونة:
- التنبيه على مبادئ التوجيه لمحمد بن إبراهيم بن عبدوس بن بشير المالكي؟
المتوفي سنة 260 هـ" (1). وقال في حديثه عن ابن عبدوس: "شرح مسائل من
المدونة". ولابدّ من بحث ما إذا كان هذا الشرح هو الكتاب المعروف باسم شرح
ابن بشير، أو التنبيه على مبادئ التوجيه" (2).
فخلط فؤاد سركين واضح وبين ولا يحتاج إلى كبير جهد لتبيينه لأن التنبيه على
مبادئ التوجيه لأبي الطاهر باتفاق العلماء.
3 - أحمد أبو طاهر محقق كتاب إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك، فقد حمل
ابن بشير المذكور في الكتاب على أبي المطرف المعروف بالحصار. ولكي يتجلى
الأمر أكثر أنقل كلام الونشريسي، فقد قال: "نوادر الصور هل يعطى لها حكم
نفسها أو حكم غالبها؟ وعليها نفقة الزَمِن بعد بلوغه فعلى المراعاة لا
تنقطع، وعلى؟؟ أن لا تنقطع، وعليه أيضًا إجراء ابن بشير الربا في الفلوس،
ثالثها يكره. ورد إجراء اللخمي إياه على أن في العين غير معلل أو العلة
الثمنية والقيمة" (3) وبغض النظر عن البتر الموجود في النص، فإن الذي يمكنه
أن يرد كلام اللخمي هو: أبو الطاهر. لا أبا المطرف لأن هذا الأخير متقدم
على اللخمي، فقد توفي سنة: 422 هـ، بينما اللخمي توفي سنة 478 هـ.
__________
(1) تاريخ الثرات العربي المجلد الأول ج 3 ص 150.
(2) تاريخ الثرات العربي المجلد الأول ج 3 ص 158.
(3) إيضاح المسالك ص: 256.
(1/107)
4 - عادل نويهض محقق كتاب عنوان الدراية
فيمن عرف من العلماء في المائة السابعة ببجاية. فقد حمل ابن بشير المذكور
في ص 101 على محمد بن سعيد المعافري قاضي قرطبة (ت) 198 هـ، ونص كلام صاحب
الكتاب "وسألته رحمه الله تعالى عن اختيارات أصحابنا المتأخرين من الفقهاء
كاللخمي وابن بشير وغيرهما".
والنص واضح الدلالة على أن المقصود صاحبنا أبو الطاهر لأنه هو الذي له
اختيارات وهو الذي ينطبق عليه كونه من المتأخرين ومحمد بن سعيد من
المتقدمين إذ الفاصل بين المتقدمين والمتأخرين هو ابن أبي زيد القيرواني،
فمن كان قبله فهو من المتقدمين ومن كان بعده فهو من المتأخرين.
5 - واضعو فهارس المعيار المعرب، وهم محمد حجي وأحمد الشرقاوي ومحمد
العرائشي: فإنهم لما جمعوا الصفحات التي ذكر فيها ابن بشير مطلقًا حملوه
على ابن بشير محمد قاضي قرطبة (1)، وهذا غير سديد وقد ذكرت سابقًا أنه إذا
أطلق ابن بشير فالمراد به أبو الطاهر. وأثبت نموذجًا من المعيار نفسه فلا
داعي للتطويل في ذلك.
6 - الدكتور محمد الحبيب الهيلة، فقد وقع في نفس ما وقع فيه سابقوه، أثناء
تحقيقه لفتاوى البرزلي، فحمل ابن بشير في الفهارس على ابن بشير محمد قاضي
قرطبة (2)، وهذا أيضًا غير سديد، وقد سبق توضيحه فلا داعي للتطويل في ذلك.
أكتفي بهذا القدر للدلالة على أن كثيرًا من الباحثين المعاصرين يتعسر عليهم
تعيين الشخص المراد عند إطلاق ابن بشير، وهذا نتيجة للإهمال الذي تعرض له
ابن بشير من قبل المترجمين.
والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو لماذا أهمل هذا العلم؟ هذا ما سأحاول
الإجابة عنه في المبحث الموالي.
__________
(1) المعيار الجزء الخاص بالفهارس 13/ 336.
(2) المعيار الجزء الخاص بالفهارس 13/ 336.
(1/108)
* المطلب السابع:
لماذا أهمل المترجمون ابن بشير؟
سبق أن أشرث في بداية هذا الفصل إلى أن ابن بشير لم يلق عناية واهتمامًا من
قبل المترجمين، والآن وبعد أن ظهرت مكانته في الفقه عمومًا وفي المذهب
المالكي خصوصًا علينا أن نجيب على هذا السؤال اللغز.
وبعد التأمل في المسألة تبين لي أن ذلك يرجع إلى ثلاثة أسباب:
السبب الأول: هو طبيعة ابن بشير نفسه، فقد تبين من خلال كتابه أنه لم يكن
يبحث عن الشهرة والظهور، بل كان يفضل الخمول ويميل إلى الإبهام والتنكير
وعدم ذكر أخباره وشيوخه. على خلاف ما جرت به عادة كثير من العلماء من تسجيل
بعض أخبارهم ومناظراتهم ومراسلاتهم وشيوخهم ... بطريقة عرضية ضمن كتبهم حتى
إن الباحث يستطيع التعرف على معالم شخصية المصنف من خلال أخباره المبثوثة
في كتبه. وهذا ما لا نلمسه في التنبيه. وإن اضطر ابن بشير إلى ذكر شيء من
ذلك، فإنه يبهم الأحداث وينكرها. وأسوق أمثلة توضح ذلك.
منها ما جاء في كتاب الوكالة: "ومن ذلك أخذ بعض المذاكرين مسألة وقعت في
بعض البلاد بين يدي بعض القضاة ... " (1)، فالنص في غاية التعتيم والتكتم،
فلم يبين من هم هؤلاء المذاكرين، ولا البلد ولا القضاة. فساق هذه الأشياء
كلها مبهمة.
وعلى هذا النهج جاء كلامه عن أشياخه فلم يسم لنا أي شيخ منهم. فإن كان
السياق يقتضي ذكرهم يميل إلى التعميم كعادته كما في المثالين التاليين:
" ... وقد ألزمه بعض أشياخي .. " (2) " ... وقد كان بعض أشياخي ينكر هذا
الذي يعتمد عليه ... " (3).
__________
(1) كتاب التنبيه ص: 50 نسخة خاصة.
(2) كتاب الطلاق من كتاب التنبيه.
(3) المصدر السابق.
(1/109)
فعلى هذا النهج كان يذكر الأحداث التي يضطر
لذكرها، فتبين لي أن ابن بشير ساهم أيضًا بقسط وافر في التعتيم عن نفسه وعن
أخباره.
السبب الثاني: قلة المعتنين بالتاريخ في عصر ابن بشير. وقد أشار إلى هذا
صاحب معالم الإيمان في ترجمة أبي عبد الله محمَّد بن أبي الفرج المازري
المعروف بالذكي فقال: "ثم انقضت هذه الطبقة بعد الخمسمائة سنة ولم يبق
بالقيروان من له اعتناء بتاريخ، لاستيلاء مفسدي الإعراب على إفريقية
وتخريبها وإجلاء أهلها عنها إلى سائر بلاد المسلمين وذهاب الشرائع بعدم من
ينصرها من الملوك إلى أن من الله على الناس بظهور دولة الموحدين" (1).
السبب الثالث: وهو احتمال أن يكون الموحدون ساهموا في طمس تاريخ هذا الرجل
المهتم بالفروع الفقهية.
وقد علمنا أن الموحدين كان من أهدافهم القضاء على المذهب المالكي؛ يقول عبد
الواحد المراكشي عن أبي يوسف يعقوب الموحدي: "وكان قصده في الجملة هو مذهب
مالك وإزالته من المغرب مرة واحدة، وحمل الناس على الظاهر من القرآن
والحديث. وهذا المقصد بعينه كان مقصد أبيه وجده، إلا أنهما لم يظهراه،
وأظهره يعقوب هذا" (2). ويقول أيضًا: "وفي أيامه انقطع علم الفروع وخافه
الفقهاء وأمر بإحراق كتب المذهب ... فأحرق منها جملة في سائر البلاد كمدونة
سحنون وكتاب ابن يونس ونوادر ابن أبي زيد ومختصره وكتاب التهذيب للبراذعى
وواضحة ابن حبيب وما جانس هذه الكتب ونحا نحوها" (3).
ومن المعلوم أن بضاعة ابن بشير لا تخرج عن هذه الكتب. فلا بدّ إذًا أن يكون
من الفقهاء الخائفين، أو الذين أحرقت كتبهم، أو غير ذلك.
__________
(1) معالم الإيمان 3/ 252.
(2) المعجب 401.
(3) المعجب 400.
(1/110)
بل إن الأمر وصل إلى أكثر من هذا، فعبد
الحق الإشبيلي تعرض لمحنة بعد دخول الموحدين لبجاية. وقد أهدر المنصور دمه،
لكن الله نجاه منهم (1). وابن العربي مات مسموما بعد أدائه البيعة لعبد
المؤمن وانصرافه من مراكش، وطبعًا أصابع الاتهام موجهة نحو الموحدين الذين
يعرفون ولاء هذا الفقيه للدعوة المرابطية (2). والقاضي عياض خنق بعد تشريده
والتنكيل به (3).
بعد هذا لا أستبعد أن يكون للموحدين تأثير في طمس أخبار هذا الرجل- والله
أعلم-.
* المطلب الثامن: وفاته
لا نعرف شيئًا عن تاريخ وفاته، وكل ما نعرفه هو أنه كان حيا سنة 526 هـ
أثبت ذلك في كتابه التحرير، فقال إنه انتهى من تأليفه في هذه السنة (4).
وكذلك توصلت من خلال كلام الحطاب إلى أنه عاش بعد سنة 536 هـ. جاء ذلك
عرضًا عندما قال أثناء حديثه عن بيع النجاسات، بأن المازري متقدم على ابن
بشير. والنص كالتالي: "قال ابن عرفة: ويفهم من كلام المازري رده بأنه لو
اعتبر فارقا ما صح تخريج ابن القاسم المنع في الزبل لمالك من منعه بيع
العذرة. انتهى بالمعنى. وهو ظاهر. والضمير في رده عائد إلى التعقب. لا بقيد
كونه لابن بشير، لتقدم المازري عليه. وكذلك قال في التوضيح." (5) ففي هذا
النص يصرح الحطاب بأن، المازري متقدم على ابن بشير. ومعلوم أن المازري توفي
سنة 536 هـ. فيستنتج من هذا أن ابن بشير عاش بعد هذا التاريخ.
__________
(1) الفكر السامي 3/ 227.
(2) ممن ذهب إلى أنه مات مسمومًا النباهي في المرقبة العليا ص 106 وابن
غازي في الروض الهتون ص 10.
(3) المرقبة العليا ص: 95.
(4) انظر الديباج: 1/ 256.
(5) مواهب الجليل: 4/ 260.
(1/111)
أما ما ذكره محققا كتاب العمر، من أنه عاش
بعد سنة 573 هـ فقد سبق لي أن قلت بأنهما لم يبينا طريقة التوصل لذلك.
وبالنسبة لطريقة موته ومكانها، فقد ذكر ابن فرحون أنه مات شهيدًا قتله قطاع
الطرق في طريقه إلى الحج بعقبة (1). فرحمه الله وأسكنه فسيح جناته.
وقبل أن أنتقل إلى الحديث عن الكتاب المحقق. أختم هذا الفصل بتأكيد ما قلته
سابقًا من أن ابن بشير اشتهر بكتبه وآرائه الفقهية، ولم يشتهر بتلاميذه
ومترجميه.
__________
(1) لم أتمكن من تحديد الموقع المذكور.
(1/112)
|