التنبيه
على مبادئ التوجيه - قسم العبادات الفصل الثالث: التعريف بالكتاب
المبحث الأول: توثيق الكتاب وبيان منهجه.
المبحث الثاني: الخلاف الفقهي عند ابن بشير.
المبحث الثالث: النقد عند ابن بشير.
المبحث الربع: الاجتهاد عند ابن بشير.
المبحث الخامس: منهج التحقيق.
(1/113)
الفصل الثالث:
التعريف بالكتاب
المبحث الأول: توثيق الكتاب وبيان منهجه
يعتبر كتاب التنبيه على مبادئ التوجيه وعاء من أوعية الفقه المالكي، قصد به
صاحبه بناء فروع المذهب على أصوله، وتوجيه الأقوال وتعليلها ودراستها دراسة
فقهية ترفع قارئها عن التقليد.
فجاء الكتاب محتويًا على مادة علمية غزيرة؛ شملت معظم جوانب العلوم
الإسلامية، ولهذا لا أحيد عن الصواب إذا قلت؛ إن الكتاب يصلح أن يكون
موضوعًا لعدة رسائل جامعية، بعضها يتناول منهجه العلمي في الاستدلال،
والبعض الآخر منهجه في التعامل مع القواعد الأصولية أو الفقهية، أو منهجه
في النقد أو التخريج ... إلخ.
لأجل ذلك فإن هذا الفصل لا يمكنه أن يتناول كل تلك الجوانب بالدراسة
والتحليل، وإنما سيحاول إعطاء صورة واضحة عن منهجية ابن بشير الفقهية،
ليستعين بها القارئ على فهم الكتاب، ومعرفة قيمته العلمية، ومنزلته بين كتب
الفقه المالكي.
* المطلب الأول: اسم الكتاب ونسبته لابن بشير
وتاريخ تأليفه
نص ابن بشير في مقدمة الكتاب على أن اسمه: التنبيه على مبادئ التوجيه،
وبذلك لم يدع مجالاً للاختلاف في اسمه. كما أنه يعرف عند
(1/115)
الفقهاء اختصارًا باسم: التنبيه أو تنبيه
ابن بشير (1).
ولم يختلف العلماء كذلك في نسبة هذا الكتاب لابن بشير، فالإجماع حاصل على
ذلك، وتحققت صحة هذه النسبة بعدة أمور منها:
1 - نسبة الكتاب له من قبل المترجمين، فكل من ترجم له نسب له هذا الكتاب.
2 - نسبة الكتاب له من قبل الفقهاء الناقلين عنه فكثيرًا، ما يرددون قال
ابن بشير في التنبيه. أو في تنبيهه، ولا أرى ضرورة لذكر النصوص الدالة على
ذلك فهي كثيرة جدًا.
3 - وجود اسمه على جميع مخطوطات الكتاب التي لم يصبها البتر.
__________
(1) ومن المستملحات ما ورد في كتاب الفوائد الجمة في إسناد علوم الأمة ص
123 - 124 أن قاضي الجماعة بفاس أبا محمد عبد الواحد بن أحمد الحميدي (ت)
1003 هـ ورد إلى تارودانت بسوس، فكأنه حقر شأن طلبتها فكتبوا إليه مسائل
بنظم رائق فعجز عن الجواب، فذهب بها إلى أبي العباس المنجور فأجابه عنها.
ومما جاء في السؤال:
إلى علمك العالي مسائل ترتقي ... تفطن لهن ياحميدي واصدق
فما الحكم في الأوزاع هل ساغ أكلها ... وما الحكم في موتى المجانين فانطق
وجاء في الجواب:
جوابك في الأولى إباحة أكلها ... بمذهبنا فاجزم بذاك واصدق
كذا ابن حبيب في الخشاش أباحه ... لمحتاجه مع العقارب فاسبق
وقد قيل في الأوزاغ يحرم أكلها ... وذاك في الكافي ليوسف فارتق
ومستقذر يحكي المخالف صوغه ... وأنكره التنبيه فافهم ودقق
والشاهد عندنا أنه ذكر التنبيه مطلقًا فانصرف إلى تنبيه ابن بشير لأن
الكلام موجود بمعناه في كتاب الأطعمة من التنبيه من أن المستقدر لا يسوغ
وإنما هو مكروه.
ومن ذلك ما جاء في قصيدة أبي عبد الله محمد بن أحمد الضرير موريًا فيها
بأسماء جملة من كتب العلم والأدب، قال في نفح الطيب 2/ 1144، 1145:
قال أبو عبد الله محمد بن أحمد بن علي الهراوي من أهل المرية ويعرف بشمس
الدين بن جابر الضرير موريًا بأسماء الكتب:
عرائس مدحي كم أبين لغيره ... فلما رأته قلن هذا من الأكفا نوادر آدابي
ذخيرة ماجد
شمائل كم فيهن من نكت تلفى مطالعها هن المشارق للعلا ... قلائد قد راقت
جوارها رصفا رسالة مدحي فيك واضحة
ولي مسالك تهذيب لتنبيه من أغفى فيا منتهى سؤلي ومحصول غايتي ... لأنت امرؤ
من حاصل المجد مستصفى =
(1/116)
تاريخ تأليفه:
أما بالنسبة لتاريخ تأليفه؛ فلا نعرف ذلك بالضبط إلا أنه يلوح لي أنه ألفه
في مرحلة النضج لأنه كتبه بعد الأنوار البديعة إلى أسرار الشريعة الذي ألفه
للمبرزين، وألف بعده التنبيه ليكون مدخلًا له، يترفع به قارئه عن التقليد.
وقد صرح بهذا في نسخة [ل] فقال: "وسميته كتاب التنبيه على مبادئ التوجيه
... وقد ألفت قبله كتابًا سميته "بالأنوار البديعة في أسرار الشريعة".
* المطلب الثاني: هدفه من تأليف الكتاب:
إن كل عمل جاد ناجح لا بدّ أن تكون له غاية يصبوا إليها، وهدف ينشد الوصول
إليه، وبدونهما يكون العمل عبثًا، والكلام حشوًا، والجهد شقاء. وهذه
الحقائق كانت حاضرة لدى شيخنا ابن بشير، إذ أفصح عنها في مقدمة الكتاب وفي
تضاعف مسائله، فقال: ". وبعد، فإنه لما انتهض إلى الطلب من لم يمارس قراءة
الكتاب، ابتدأنا لهم موعدًا بقصد الإيجاز [والاختصار] دون التطويل
والتكرار، وفيه من تحرير الدلائل وتقرير المسائل
__________
= قال المقري: وقد اشتملت هذه الأبيات الخمسة على التورية بعشرين كتابًا
وهي: العرائس للثعالبي والنوادر للقالي وغيره، والذخيرة لابن بسام وغيره،
والشمائل للترمذي والنكت لعبد الحق الصقلي وغيره، والمطالع لابن قرقول
وغيره، والمشارق للقاضي عياض وغيره، والقلائد لابن خاقان وغيره، ورصف
المباني في حروف المعاني للأستاذ ابن عبد النور وهو كتاب لم يصنف في فنه
مثله، والرسالة لابن أبي زيد وغيره، والواضحة لابن حبيب والمسالك للبكري
وغيره، والجواهر لابن شاس وغيره والتهذيب في اختصار المدونة وغيره،
والتنبيه لأبي إسحاق وغيره، ومنتهى السؤل لابن الحاجب والمحصول للإمام
الرازي والغاية للنووي وغيره، والحاصل مختصر المحصول والمستصفى للغزالي.
ولست أدري ماذا يقصد بقوله والتنبيه لأبي إسحاق فإن كان يقصد ابن بشير فلا
إشكال وقد سبق أن أشرت إلى أنه كني بأبي إسحاق في أول كتابه الجامع على
العرف الجاري من أن كل إبراهيم يلقب بأبي إسحاق. وإن كان يقصد أبا إسحاق
إبراهيم بن محمد بن ملكون (ت) 581 هـ فهذا بعيد لأن كتابه التنبيه غير
مشهور شهرة تنبيه ابن بشير. والله أعلم، (انظر ترجمة ابن ملكون في تكملة
الصلة 1/ 135).
(1/117)
ما تشوقوا إلى نقله، وضعفوا عن حمله. فرأيت
أن أملي عليهم من خلاف أهل المذهب ما يحصل به للجمهور الاستقلال، منبهاً
على أوائل التوجيه والاستدلال ... وهو كالمدخل إلى كتابي المسمى "بالأنوار
البديعة في أسرار الشريعة". وفي هذا الإملاء لمن اقتصر عليه ما يخرجه من
زمرة أهل التقليد، وفي ذلك لمن ترقى إليه ما يبلغه رتبة المبرز المُجيد ..
".
وقال في آخر باب السهو "وقد استوفينا كثيراً من أحكام السهو ولا يشذ عنه
إلا نوادر الصور، ومن حقق الأصول التي قدمنا، لم يشذ عنه شيء من هذا الباب"
(1).
وقال في آخر كتاب الصلاة الثاني: "وقد أتينا على الغرض من هذا الكتاب، ولا
يشذ عما حصرنا إلا مسائل أتينا على أصولها" (2).
وقال في أول كتاب الصيام: "وأما ما يجب بارتكاب الممنوعات؛
فنأتي فيه بكلام جلي يكتفي به الذكي ونحيل غيره على التفصيل" (3).
وقال في باب زكاة الحبوب: " ... لأن القصد بيان المذهب والإشارة إلى مذهب
المخالف" (4).
من خلال هذه النصوص يتضح لنا أن ابن بشير رام تحقيق الأهداف التالية:
1 - إفادة طلبة العلم المتشوفين لمعرفة خلاف المذهب، وأدلته وتوجيهها.
2 - الإشارة إلى مذهب المخالف.
3 - إعطاء أصول ضابطة للمسائل، وقواعد جامعة للفروع، يستفيد منها الذكي،
وإحالة غيره على التفصيل.
__________
(1) انظر ص: 598 من هذا الكتاب.
(2) انظر ص: 695 من هذا الكتاب.
(3) انظر ص: 701 من هذا الكتاب.
(4) انظر ص: 915 من هذا الكتاب.
(1/118)
4 - إخراج من اقتصر على هذا الكتاب من زمرة
أهل التقليد.
5 - جعل الكتاب مدخلاً إلى كتابه الآخر الأنوار البديعة إلى الأسرار
الشريعة الذي من ترقى إليه بلغ مرتبة المبرز المجيد.
هذه هي أهم الأهداف التي صرح بها ابن بشير وحاول تحقيقها من خلال هذا
الكتاب. وهي أهداف جليلة، لا يحوم حولها إلا النظار، إذ جوهرها تعبيد
الطريق للاجتهاد، والتمرس عليه وتحصيل رتبته.
نعم لقد جاء في نسخة "ل"- التي لم أعتمدها لأسباب سيأتي ذكرها- ما نصه:
"أما بعد فإنه لما انتهض خاطري إلى شرح كتاب المدونة، أردت أن أسلك فيه
الإيجاز والاختصار ... ".
ففي هذه النسخة ذكر سبباً آخر هو: رغبته في شرح كتاب المدونة. ولعل هذا ما
جعل كثيراً من العلماء يذكرون ابن بشير ضمن شراح المدونة، ولكن من اطلع على
الكتاب، لا يجده فيه سالكًا للشرح بالمعنى المعروف المتداول عند الشراح
المتأخرين، وهو مباشرة المتن بالتوضيح والتبيين والتعليق.
بل كل ما هناك أن ابن بشير حاول أن ينسج كتابه على منوال المدونة، وأن
يحاذيه في الترتيب والتبويب والتراجم، وحرص على ذلك وأكده أكثر من مرة،
فقال: "ولنجر على سنن الكتاب فنقول .. " (1) وقال: "وغرضنا محاكاة الكتاب"
(2). وقال: "ونجري على ترتيب الكتاب" (3). وقال: "لكن شأننا في هذا الإملاء
أن نبه على الترتيب الواجب ثم نحاذي رتبة الكتاب" (4) وهذا النمط من الشرح
أو التعليق على المدونة لم يكن غريباً على المدرسة المالكية، فقد عرفت في
هذا العصر- وخاصة بالقيروان - شروحًا وتعاليق على المدونة لا يلحظ فيها أي
مسلك للشرح اللفظي
__________
(1) انظر ص: 214 من هذا الكتاب.
(2) انظر ص: 216 من هذا الكتاب.
(3) انظر ص: 247 من هذا الكتاب.
(4) انظر ص: 698 من هذا الكتاب.
(1/119)
للكتاب، وإنما تفصيل المذهب وتوجيه مسائله
والتخريج عليها على نسق المدونة، دون العروج على ألفاظها بالبيان والشرح،
وعلى هذا جرى اللخمي في تعليقته الشهيرة بالتبصرة. ولعله في ذلك مستفيد من
القاضي عبد الوهاب في طريقته الفذة في شرحه على الرسالة وعلى مختصر ابن أبي
زيد القيرواني، إذ أبان المذهب وبسط أدلته ورد على مخالفيه، دون التوقف عند
ألفاظ الكتاب بالتعليق المباشر والبيان اللفظي.
* المطلب الثالث: أسلوبه ولغته:
الأسلوب السلس الفصيح من مجملات التأليف الفقهي. وقد أدرك العلماء قديماً
هذه القضية، فعبر عنها ابن السيد البطليوسي بقوله: " ... إن الطريقة
الفقهية مفتقرة إلى علم الأدب مؤسسة على أصول كلام العرب" (1) ولقد توفرت
هذه الحقيقة في جملة من كتب الخلاف، وكتب الفقه الشارحة لمتون الحديث كبعض
شروح الموطأ والبخاري وغيرها، والعلة في ذلك كون هذه المؤلفات تتداخل فيها
الأدلة والمناقشات والاعتراضات والاحتجاجات والافتراضات، مما يجعل الأسلوب
الجاري على أساليب البلاغة ومقتضيات اللسان غالباً على هذا النمط.
أما كتب التفريع المذهبي التي ينتمي إليها كتاب التنبيه، فإن طبيعة مادتها
قد لا تسعف على الإتيان بذلك الأسلوب الذي يطمح إليه. وشيخنا ابن بشير واحد
من جملة الفقهاء الذين سيطرت عليهم المادة الفقهية، فجاء أسلوبه علمياً
عقلياً، تقريريًا قد تبدو عليه سمة الجفاف.
رغم أن ألفاظه دقيقة ومركزة، وتراكيبه رصينة ومتأنية، وعباراته واضحة لا
غموض فيها ولا التباس وليست في حاجة إلى شرح ولا تبيين، وبالجملة فأسلوبه
أسلوب من يقرر الحقائق لا من يصف أو يستطرد أو يتخيل.
__________
(1) الإنصاف في التنبيه على المعاني والأسباب التي أوجبت الاختلاف ص 29،
وانظر كذلك منهج البحث في الفقه الإسلامي لعبد الوهاب أبو سليمان ص 214.
(1/120)
وقد اعتمد المؤلف في كتابه طريقة الإملاء
(1)، متبعا النمط السائد بإفريقية في هذا الوقت في التعليق على المدونة حيث
قال في المقدمة: "فرأيت أن أملي عليهم من خلاف المذهب" وقال أيضاً: "وفي
هذا الإملاء لمن اقتصر عليه ما يخرجه من زمرة أهل التقليد ... " والإملاء
قد يكون من محفوظ أو مرتجلا .. بالإضافة إلى أن حرص المؤلف على محاذاة
المدونة التي صيغت على شكل أسئلة وأجوبة أثرت على أسلوبه كذلك، وتركت بصمات
واضحة فيه. فكثيراً ما يعالج المسائل الفقهية على شكل أجوبة يضع لها أسئلة.
والأمثلة التي توضح ذلك كثيرة أختار منها ما جاء في باب زكاة العروض من
كتاب الزكاة الأول: فمن ذلك قوله: "ولا يجوز عندنا أن يتطوع بالإخراج قبل
البيع فإن فعل فهل يجزيه؟ " "هل تجب عليه الزكاة لعدم تحصيل حول يزكي فيه،
أو لأنه لما أكثر الإدارة في العروض صارت في حقه كالعين؟ وعلى هذا اختلف
المذهب فيمن كان يبيع العروض بالعروض ولا ينض له عين، هل يجب عليه التقويم
أم لا؟ " "وإذا قلنا بوجوب الزكاة وإن لم ينض له شيء، فهل يخرج عرضا بقيمته
أو يبيع ويخرج عينه؟ " "وإذا بارت عروض المدير فهل يخرج بذلك عن حكم
الإدارة ويرجع إلى النوع الأول الذي تجب فيه الزكاة بالبيع؟ " "وهل يزكي
المدير دينه؟ " "وهل يقوم المدير ما كان من الدين طعامًا من بيع؟ " "وهل
يقوم المدير ما استغله من الثمار والحب؟ ".
على هذا المنوال سار ابن بشير في معظم الكتاب يضع أسئلة ثم يجيب عنها.
__________
(1) قال ابن عابدين: (الأمالي جمع إملاء وهو: أن يقعد العالم وحوله تلامذته
بالمحابر والقراطيس، فيتكلم العالم بما فتحه الله تعالى عليه من ظهر قلبه
في العلم وتكتبه التلامذة، ثم يجمعون ما يكتبونه فيصير كتابًا، فيسمونه
الإملاء والأمالي، وكان ذلك عادة السلف من الفقهاء والمحدثين وأهل العربية
وغيرها في علومهم فاندرست لذهاب العلم والعلماء وإلى الله المصير. وعلماء
الشافعية يسمون مثله تعليقة. (مجموعة رسائل ابن عابدين. 1/ 17).
(1/121)
ورغم هذا فقد أبى ابن بشير إلا أن يسير على
النهج المألوف في وقته، المتسم بالحرص على اضفاء لمسة جمالية على اسم
الكتاب ومقدمته. فصاغ عنوان الكتاب مسجعا، قصير الفواصل، شفاف المعنى،
منمًا عن مضمون الكتاب. وسار على نفس النهج في المقدمة، فضمنها كثيراً من
السجع، وأشار إلى دوافع تأليفه للكتاب ومنهجه الذي سار عليه، كل ذلك في
أسلوب رشيق جميل، حرصًا منه على براعة الاستهلال التي تحسب في بلاغة
الكتاب.
* المطلب الرابع: طريقة تنظيم الكتاب:
لقد حاولت أن أرصد المنهج الذي سار عليه ابن بشير في كتابه التنبيه على
مبادئ التوجيه، فوجدته اتبع الخطوات التالية:
قام بتقسيم الكتاب، إلى كتب وأبواب وفصول. فذكر لكل كتاب أو باب عنواناً،
ولم يعنون الفصول غالباً. ثم إنه بعد ذكر عناوين الكتب والأبواب يأتي
بمقدمة، يُعرف فيها ما يحتاج إلى تعريف في اللغة والاصطلاح. ثم يذكر حكم
القضية الكلية المتناولة، معززا بالأدلة العامة التي تنبني عليها معظم فروع
الكتاب أو الباب. وقد يستطرد أحياناً في هذه المقدمة، ويذكر بعض الحكم
والعلل التشريعية كما جاء في كتاب الزكاة الأول وغيره.
فإذا انتهى من ذلك؛ ذكر المحاور الرئيسية التي يريد طرحها في ذلك الكتاب أو
الباب. وهذه نماذج توضح ذلك:
1 - قال في بداية كتاب الصيام: "والصوم في اللغة: الإمساك مطلقاً، وهو في
الشرع: عبارة عن إمساك مخصوص في زمن مخصوص على وجه مخصوص. وصوم رمضان من
معالم الشريعة وأركان الإسلام. ووجوبه معلوم من دين الأمة ضرورة، ومن يجحد
الوجوب فهو كافر قطعًا؛ فإن أقر بالوجوب وامتنع من الصوم فهل يكون كافراً؟
يجري على ما قدمناه من الخلاف في المُقر بوجوب الصلاة التارك لها. ويجبر
على فعله عند القائلين بنفي التكفير، كما يجبر على فعل الصلاة.
(1/122)
والأصل في وجوبه الكتاب والسنَّة وإجماع
الأمة؛ فأما الكتاب فقول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا
كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}، وفيه: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}،
وقد اختلف هل الإشارة بها إلى رمضان. وهو يسير بالنسبة إلى شهور السنة،
فلهذا عبر عنه بأيام معدودات، أو إلى غيره. واختلف القائلون بذلك على ثلاثة
طرق: أحدها أنها ثلاثة أيام من كل شهر غير معينة، والثاني أنها أيام البيض،
والثالث أنها يوم عاشوراء. وجمعت لأنها تتكرر في العدّ.
فمن قال: الإشارة بها إلى رمضان، جعل ما بعدها من النص على أشهر بيانًا
[للإجمال المتقدم]، ومن قال الإشارة بها إلى غيرها جعل ما بعدها من تعيين
الشهر ناسخاً.
واختلف في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ
مِسْكِينٍ} هل هو منسوخ أم لا وهؤلاء يرون أنه كان في أول الإسلام المكلف
يخير بين أن يصوم أو يفطر ويطعم، ثم نسخ بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}. وهو غير منسوخ، ومعنى يطيقونه أي يلزمون
به [ويكلفون به، وإن كان عليهم في الأداء مشقة. وقد قرئ يطوقونه أي
يلزمونه]. وسيأتي الخلاف في موضعه. والحامل والشيخ الكبير هل تلزمهما
الفدية أم لا؟ وهو جار على هذا.
وأما السنَّة فقد نقل وجوبه متواتراً، وتلقته الأمة بالقبول لقوله - صلى
الله عليه وسلم -: "بُنِيَ الْإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ" فذكر فيها صوم
رمضان.
وأما الإجماع فهو ثابت قطعاً. قال أبو المعالي: المقصود بالصوم في الشريعة
وجهان: أحدهما كسر الشهوتين؛ شهوة البطن والفرج، فإنهما إذا أرسلا على
شهواتهما ولم تعود النفوس كسرها دعتا إلى الوقوع في المحظور. وإذا تعوَّد
الإنسان إمساكهما عن المباح وأخذ نفسه بذلك قدر على إمساكهما عن الممنوع.
فكأن الصوم في الشريعة إمساك عن مباح ليكون حمى للممنوع، وعليه نبه - صلى
الله عليه وسلم -: "أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَى أَلاَ وَإِنَّ
حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ". والوجه الثاني أن المقصود أيضاً كسر الشهوتين.
لكن
(1/123)
ليس للاعتياد، بل يحصل من نفس الكسر قمع
النفس عن شهواتها ومنعها من الاسترسال على لذاتها. وإليه الإشارة بقوله -
صلى الله عليه وسلم -: "الصَّوْمُ جُنَّةٌ".
وإذا ثبتت هذه المقدمة، قلنا بعد هذا: المقصود من الكتاب ينحصر في خمسة
فصول: أحدها شروط الصوم، والثاني أركانه، والثالث تفصيل ممنوعاته، والرابع
حكم ما يجب بارتكاب الممنوعات، والخامس حكم مقتضيات الفطر".
2 - وقال في بداية قضاء المنسيات: "والأصل في قضائها الكتاب والسنَّة
والإجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} الآية، وإن
احتملت فقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من نام عن صلاة أو
نسيها فليصلها إذا ذكرها، فإن الله تعالى: يقول: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ
لِذِكْرِي}. [وهذا يقتضي أن المراد بالآية إذا ذكرتك إياها، وقيل في تأويل
الآية: إن معناها أقم الصلاة لتذكرني فيها، وقيل: لنذكرك بها. وقراءة ابن
شهاب: {أقم الصلاة للذكرى} يحتمل هذه الأوجه].
وأما السنَّة فمنها الحديث المتقدم آنفا. وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم
- أنه نام عن صلاة الصبح ثم قضاها بعد طلوع الشمس.
وأما الإجماع فقد اجتمعت الأمة على وجوب قضاء المنسية من الصلوات إذا كانت
خمسا فدون. ومذهب فقهاء الأمصار وجوب القضاء وإن زادت على الخمس قياسًا على
المجمع عليه ووجوب قضاء ما تعمد تركه، لأنهم رأوا أن الآية تقتضي العموم
[في العمد] وغيره إذا حملناها على موافقة ما ورد في الحديث من التأويل،
ولأن القضاء إذا ثبت في المنسية والتي نام عنها - وإن كان الإثم ساقطا-
فأحرى أن يجب في المتعمد تركها بثبوت الإثم في الترك [عامداً]. واقتصاره في
الحديث على ذكر المنسيات والتي نام عنها من باب التنبيه بالأدنى على
الأعلى.
وإذا ثبتت هذه المقدمة فإن النظر في هذا الباب ينحصر في ثلاثة فصول: أحدها
أوقات القضاء، والثاني لزوم الترتيب، والثالث حكم
(1/124)
المنسيات في ترتيب بعضها على بعض. وإذا
اعترى الشك في أيامها وأعيانها وأعدادها".
على هذا النهج سار ابن بشر، في كتابه وقد أثبت هذين النموذجين على طولهما
تجلية لذلك.
أما بالنسبة للفصول، فإنه في الغالب الأعم يتركها بدون عناوين. وقد يتناول
في الفصل الواحد عدة جزئيات وفروع متناثرة، وأحياناً يفرد بعض القضايا
بفصول مستقلة.
ثم إن ابن بشير آل على نفسه ألا يستطرد في ذكر الجزئيات والتفاصيل والأمور
الواضحة، إلا أنه لم يتمكن من الوفاء بذلك أحياناً، وكثيراً ما يتنبه إلى
أنه قد خرج عن المنهج الذي رسمه لنفسه. فيقول: "ولنقبض عنان البيان عن هذا
المكان، وقد خرجنا في هذا الباب عن مقصود الكتاب." (1).
ولكي يجعل الكتاب أكثر وضوحاً، وفي متناول طلبة العلم، قام بشرح الغريب
الذي يستدعي شرحا، إذ نادراً ما يحتاج القارئ الرجوع إلى المعاجم اللغوية.
فأصبح الكتاب بذلك تام الوضوح لا يحتاج إلى مزيد بيان.
* المطلب الخامس: طريقة تناوله للمسائل الفقهية
لقد اخترع ابن بشير طريقة جديدة، انفرد بها عن غيره، تقوم على الاختصار
المبني على القواعد الأصولية (2). فقد حاول أن يجمع المادة الفقهية، وأن
يذكر أقوال المذهب وفاقًا وخلافًا، وأن يذكر مبادئ الأدلة، مع الإشارة إلى
أسباب الخلاف، وانتقاد الأقوال التي تخالف أصول المذهب، كل ذلك في حرص شديد
على عدم الإطالة في الجزئيات والتفاصيل. فجاء الكتاب في شكل مختصر اختصارًا
موسوعياً. ابتعد فيه عن
__________
(1) انظر ص: 555 من هذا الكتاب.
(2) لقد أشار إلى هذا المنهج الأستاذ محمد شرحبيلي في كتابه تطور المذهب
المالكي في الغرب الإسلامي ص: 553.
(1/125)
الإطناب، واتسم بالوضوح والشمول. فقارئه لا
يشعر بأنه أمام مختصر مغلق، لا يفهم إلا بواسطة الشروح أو الشروح والحواشي،
كما أنه لا يشعر بأنه أمام كتاب مطول ممل، يغرق صاحبه في تتبع الجزئيات
والفروع التي لا تنتهي.
ومن أجل هذا نجد الباحثين المعاصرين اختلفوا في تصنيفه؛ هل هو ضمن
الموسوعات (1) والمطولات؟ أو هو ضمن المختصرات؟ فالدكتور عمر الجيدي جعله
ضمن الموسوعات المطولات (2) والدكتور محمد شرحبيلي جعله ضمن المختصرات (3).
والحق أن الصفة التي تصدق عليه هو كونه مختصراً اختصارًا موسوعيًا.
* المطلب السادس: منهجه في المسائل التي لا نص
فيها في المذهب:
يندر جداً أن نجد مسألة ليست من النوازل، لا نص فيها في المذهب
__________
(1) من لطائف ما يحضرني حول هذا المصطلح، قول بكر بن عبد الله أبو زيد في
كتابه فقه النوازل 1/ 152: (وقد لهج المعاصرون بلفظ "موسوعة" وهو اصطلاح
قريب العهد في صدر القرن الثالث عشر، وقد وقع ذلك في قصة لطيفة على لسان
أحد الأعجميين، كما في مجلة الأزهر: "لواء الإسلام" 26/ 1158 بعنوان الآداب
والعلوم. ومما جاء فيه ما نصه: "لطاش كبري زاده كتاب باسم: موضوعات العلوم،
ولما كانت إحدى مكتبات القسطنطينية تدون فهرسًا لمحتوياتها. أملى أحد
موظفيها اسم هذا الكتاب على أحد موظفي المكتبة بلفظ [موضوعات] لأن الأعاجم
يلفظون الضاد بقريب من لفظ: الظاء، فسمع الكاتب الضاد: سينًا فكتب اسم
الكتاب [موسوعة العلوم]، وسمع الشيخ إبراهيم اليازجي صاحب مجلة الضياء باسم
هذا الكتاب وموضوعه فخيل إليه أن كلمة موسوعات تؤدي معنى: دائرة معارف
فأعلن ذلك في مجلته، وأخذ به أحمد زكي باشا وغيره، فشاعت كلمة موسوعة
وموسوعات لهذا النوع من الكتب، وهي تسمية مبنية على الخطأ كما رأيت. وكان
العلامة أحمد تيمور باشا وغيره يرون تسمية دائرة المعارف، باسم: معلمة،
لأنه أصح وأرشق، وأدل على المراد منه").
(2) مباحث في المذهب المالكي 75، 80.
(3) تطور المذهب المالكي ص 552، 553.
(1/126)
ولا تدخل في معنى المنصوص أو شيء من
ضوابطه، يقول الجويني: "يبعد أن تقع واقعة لم ينص على حكمها في المذهب، ولا
هي في معنى شيء من المنصوص عليه فيه من غير فرق، ولا هي مندرجة تحت شيء من
ضوابطه." (1) وإن كان الجويني شافعياً فإن كلامه هذا ينطبق على سائر
المذاهب.
وعلى ندرة هذه المسألة، فقد حظيت بالاهتمام من طرف العلماء، وتناولوها
بالدرس والنقاش. فالأحناف مثلاً يرون الرجوع والميل إلى المذهب المالكي
عندما لا يجدون في مذهبهم قولاً في المسألة، على اعتبار أنه أقرب المذاهب
إليهم (2).
والمالكية اختلفوا، فبعضهم يرى وجوب العمل بالمذهب الشافعي، على اعتبار أن
الشافعي تلميذ لمالك. والبعض يرى وجوب اتباع المذهب الحنفي، لقلة الخلاف
بينهما. لكن الذي رجحه المحققون كالقرافي والأجهري هو الرجوع إلى المذهب
الشافعي فيما لا نص فيه (3)، ولعل ابن بشير سار في هذا الاتجاه على الأقل
في هذا الجزء الذي وقفت عليه، وقد لاحظت ذلك في مسألتين: الأولى: صرح فيها
أنه عول على مذهب الشافعي وإن حكى في نفس الوقت مذهب أبي حنيفة.
والثانية: لم يصرح فيها باعتماده على مذهب الشافعي، وإنما حكاه، ويستشف من
حكايته هذه مع عدم حكاية المذاهب الأخرى، أنه مال إليه.
والمسألتين هما كالتالي:
__________
(1) المسودة ص: 490.
(2) انظر حاشية ابن عابدين 3/ 411.
(3) نشر البنود 2/ 334 وحاشية العدوي 1/ 78.
(1/127)
الأولى: قوله فيمن
عجز عن كل أفعال الصلاة ولم يبق له إلا النية:
" وقد طال بحثنا عن مقتضى المذهب في هذه المسألة. والذي عولنا عليه في
المذاكرات موافقة مذهب الشافعي مع العجز عن نص يقتضيه في المذهب. فالمسألة
في غاية الإشكال من [جهة أن التكليف لا يمكن إلا متمكناً ولا يقع التكليف
إلا بممكن. ولكن] الاحتياط مذهب الشافعي، والرجوع إلى براءة الذمة هو مقتضى
مذهب أبي حنيفة. ولا يبعد أن يختلف المذهب في هذه المسألة [وإن وجد فيها
نص] " (1).
والثانية: قوله في المفاضلة بين الأفقه والأصلح
في الإمامة:
" وإن اجتمع الأصلح والأفقه، فلم أر في المذهب نصاً في هذه المسألة.
وللشافعية قولان: أحدهما تقديم الأفقه مراعاة لقدرته على مراعاة إصلاح ما
يعرض له في الصلاة من المفسدات الشواذ. والثاني تقديم الأصلح، إذا كان لَهُ
من الفقه ما يمكن به أداء الصلاة وإصلاح ما يعرض له فيها من المفسدات
المتكررة والتي ليست شاذة جداً" (2).
* المطلب السابع: المنهج التأصيلي عند ابن بشير:
لقد مر المذهب المالكي من حيث تأصيل المسائل الفقهية وربطها بأدلتها، قبل
ابن بشير بعدة مراحل.
المرحلة الأولى: مرحلة الانطلاق من النصوص مباشرة عند استثمار الأحكام،
والاستئناس بآراء الصحابة والتابعين والتمسك بالتراث الفقهي لأهل المدينة،
وهذه المرحلة يمثلها إمام المذهب نفسه.
__________
(1) انظر ص: 424 من هذا الكتاب.
(2) انظر ص: 438 من هذا الكتاب.
(1/128)
المرحلة الثانية: مرحلة تدوين الأحكام
مؤصلة ومرتبطة بأدلتها إقتداء بروح منهج الإمام. وقد تبلور هذا المنهج على
يد كل من سحنون في المدونة وابن حبيب في الواضحة ونظرائهما.
المرحلة الثالثة: مرحلة التخفيف من التأصيل والتقليل من الأدلة، وقد سُلك
هذا الاتجاه تحت ضغط تنوع الأدلة وتضخم الكتب الفقهية. ويعد ابن أبي زيد
القيرواني بكتابه مختصر المدونة، والنوادر والزيادات. والبراذعي، بكتابه
التهذيب؛ رائدي هذه المرحلة.
المرحلة الرابعة: مرحلة العودة إلى التأصيل مرة أخرى، والسير على المنهاج
العلمي الأمثل والانطلاق من المنابع الأولى؛ القرآن والحديث في إطار قواعد
المذهب وفروعه (1).
وقد أحيى هذا المنهج كل من ابن يونس الصقلي (ت) 451 هـ، وأبو الحسن اللخمي
478 هـ والمازري 536 هـ وابن بشير.
فابن بشير ينتمي إلى المرحلة الرابعة مرحلة العودة إلى التأصيل. وقد تجلت
الصورة التأصيلية في كتابه التنبيه على مبادئ التوجيه، الذي اختار له هذا
العنوان لينم عن مدى اهتمامه بتوجيه الأقوال وتأصيلها.
إلا أن طبيعة الكتاب المتسم بالاختصار؛ جعلته لا يتوسع في ذكر الأدلة. بل
يكتفي برؤوسها ومبادئها، حيث يقول مفصحاً عن منهجه في ذلك: "ولسنا لإكمال
الحجاج وإنما نبهنا على أوائله" (2).
ومن خلال نماذج من كتابه التنبيه أحاول تلمس معالم منهاجه، وأختار مثالين
من كتاب الصلاة الثاني.
__________
(1) انظر تفاصيل هذه المرحلة في تطور المذهب المالكي في الغرب الإسلامي من
ص 375 إلى 452، وتجدر الإشارة إلى أن هذا التحقيب للمذهب هو اجتهاد مختلف
فيه، فللفاضل بن عاشور تقسيم وللجيدي تقسيم، وهذا يدل على أن المسألة لا
زالت في أمسّ الحاجة إلى مزيد من البحث.
(2) انظر ص: 860 من هذا الكتاب.
(1/129)
المثال الأول قوله: "من كان إماماً فسلم من
صلاته قبل كمالها، فقال له بعض المقتدين: إنك لم تكمل صلاتك، فقال: بل
أكملت، وسأل غير المتكلم أولا، فأخبره أنه لم يكمل. فهل تصح هذه الصلاة أو
تبطل؟ في المذهب ثلاثة أقوال: المشهور صحتها، والشاذ بطلانها. وقال سحنون:
إن جرى ذلك في الصلاة الرباعية بعد ركعتين صحت الصلاة، وإن كان من غير
الرباعية أو ليس بعد الركعتين بطلت. ووجه المشهور الاعتماد على الحديث في
أنه - صلى الله عليه وسلم - سلم من اثنتين فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة
أم نسيت يا رسول الله فقال: كل ذلك لم يكن، فقال ذو اليدين: قد كان بعض
ذلك. فسأل الناس فأخبروه بصحة ما قال ذو اليدين ورجع رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - إلى إكمال صلاته.
ووجه الشاذ إما لأن الحديث لا يحكم بصحته. وقد تكلم عليه أصحاب أبي حنيفة
[من جهة] أن الراوي أبو هريرة رضي الله عنه، ولهم في ذلك معان لسنا لها.
وإما لأنه انفرد بنقله الآحاد. وإما لأن القياس مقدم عليه. وبين الأصوليين
خلاف في تقديم القياس على خبر الآحاد. وإما لأن القصة جرت في زمن يجوز فيه
النسخ ولم يتكلم ذو اليدين إلا وهو يجوز النسخ فعذر بذلك. بخلاف من يطرأ له
ذلك بعد تقرر الشرائع واستحالة النسخ. وعلى هذا عول ابن كنانة القائل
ببطلان الصلاة، وأجاب ابن القاسم عن هذا بأن غير ذي اليدين من الصحابة
تكلموا بعدما علموا بأن الصلاة لم تقصر.
وأما وجه قول سحنون، فهو أن القياس بطلان الصلاة، وقد وردت صحتها في صورة
فيقتصر على ما وردت. ولا يجري القياس فيما عداها." (1).
المثال الثاني قوله: "ولو نسي أن يسجد سجود السهو فلم يسجده حتى طال الأمر؛
فأما اللتان بعد السلام فيسجدهما متى ما ذكر، وأما اللتان قبله فهل تبطل
الصلاة لتركها متى طال الأمر؟ في المذهب خمسة أقوال:
__________
(1) انظر ص: 577 من هذا الكتاب.
(1/130)
أحدها: أنها تبطل، وهو المشهور. والثاني:
أنها لا تبطل، وهو الشاذ. والثالث: أنها تبطل إن كان السجود واجبًا عن نقص
فعل، ولا تبطل إن كان عن نقص قول. والرابع: أنها تبطل لنقص الجلوس الأوسط
وأم القرآن من ركعة واحدة، ولا تبطل إن كان من نقص غير ذلك. والخامس: أنها
تبطل إن كان النقص في القول أو في الفعل، إلا أن تكون التكبيرتان وما في
معناهما من قول "سمع الله لمن حمده".
فأما القولان بالبطلان ونفيه فبناء على أن السجود واجب لأن الرسول - صلى
الله عليه وسلم - أمر به فتبطل الصلاة لتركه، أو على أنه ليس بواجب لأنه
بدل على غير واجب فلا تبطل الصلاة لتركه. وهذا الذي قلناه من كون المبدل
غير واجب هو أصل المذهب وقاعدته. وانفرد أبو الوليد الباجي فرأى أن القول
بالبطلان يقتضي أن المبدل عنه واجب، ورأى أن الصلاة على ثلاثة أضرب؛ منها
إن كان لا يجزيه عنها إلا الإتيان بها ونفي ما قدمنا من الفروض. ومنها
واجبات ينوب عنها السجود، وهذه التي عددناها آنفاً. ومنها فضائل هيئة لا
تجبر. وهذا قياس على الحج فإنه على هذه الثلاثة الأقسام.
وأما الأقوال الأخيرة فمبناها على تأكيد المتروك وعدم تأكده، فتأكد عند قوم
لكونه فعلاً، وعند قوم لهذا أو بالخلاف في فرضيته كأم القرآن في ركعة، وعند
قوم بهاذين، وبكثرة الأقوال".
وبهذين المثالين تبرز النزعة التأصيلية الواضحة والمتمكنة في منهج ابن
بشير، ورغم ميله إلى الاختصار والاكتفاء برؤوس الأدلة؛ يمكن أن تدفع به مع
غيره ممن ساروا على نفس المنهج، التهمة التي حاول البعض إلصاقها بالمذهب
المالكي. أعني دعوى عدم تأصيله واستناده إلى أقوال الرجال بدل الاستناد إلى
النصوص من الكتاب والسنة (1).
...
__________
(1) انظر مباحث في المذهب المالكي في المغرب ص 271.
(1/131)
|