التنبيه
على مبادئ التوجيه - قسم العبادات المبحث الثاني: الخلاف (1) الفقهي عند ابن
بشير
لقد ظهر الخلاف في المسائل الفقهية من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -،
واختلف الصحابة رضوان الله عليهم بين يديه عليه السلام، وأقرهم على ذلك
(2). وقد ظهر الحديث عن الخلاف في وقت مبكر جداً. ومن بين أقدم المؤلفات في
هذا الميدان: الحجة على أهل المدينة لمحمد بن الحسن الشيباني (ت) 189هـ.
وقد كانت مناهج العلماء الخائضين في هذا المجال في بداية الأمر لا تخرج عن
منهجين اثنين:
الأول: منهج سرد الأقوال والآراء الفقهية مجردة من أدلتها وأصولها، أو مع
ذكر بعض الأدلة والأصول من غير قصد إلى الترجيح والاختيار. ومن جملة من سلك
هذا المنهج نجد: أبا عبد الله محمد بن نصر المروزي ت 294هـ في كتابه اختلاف
العلماء. وأبا جعفر محمد بن جرير الطبري في كتابه اختلاف العلماء كذلك.
__________
(1) لقد حاول البعض التمييز بين الخلاف والاختلاف. والذي عليه المحققون؛
أنه لا فرق بينهما. انظر تفصيل ذلك في نظرية التقعيد الفقهي وأثرها في
اختلاف الفقهاء ص: 179، وتهذيب المسالك في نصرة مذهب مالك 1/ 103، والتصنيف
الفقهي في المذهب المالكي الخلاف العالي نموذجًا 2/ 202.
(2) فمن بين اختلافهم بين يديه عليه السلام ما أخرجه البخاري في صحيحه 1/
321 عن ابن عمر قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لنا لما رجع من
الأحزاب: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة". فأدرك بعضهم العصر في
الطريق. فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا
ذلك. فذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يعنف واحداً منهم.
ومن ذلك ما أخرجه أبو داود في سننه 1/ 93 عن أبي سعيد الخدري قال: خرج
رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمما صعيداً طيباً فصليا. ثم
وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء ولم يعد الآخر، ثم أتيا
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد: "أصبت
السنَّة وأجزأتك صلاتك". وقال للذي توضأ وأعاد: "لك الأجر مرتين". انظر
تفصيل ذلك في جامع بيان العلم وفضله 2/ 78.
(1/132)
وكأن أصحاب هذا المنهج يعتمدون على مشروعية
الخلاف، أو يرون أن كل مجتهد مصيب ما دام الخلاف مشروعاً ومقصوداً.
الثاني: منهج من يسرد الأقوال والآراء الفقهية، معززة بأدلتها وأصولها، مع
قصد الترجيح والاختيار ونصرة مذهب من المذاهب أو رأي من الآراء. وقد شحنت
مؤلفات أصحاب هذا المنهج بأساليب أهل الجدل والمناظرة. أو أساليب أهل
الحديث والأثر الذين يركزون على دراسة الأسانيد وضبط المتون، كالتمهيد لابن
عبد البر وغيره.
وفي القرن الخامس وفي الغرب الإسلامي بالتحديد، حصل تقدم وتطور نوعي في
تعامل الفقهاء مع الخلاف الفقهي، فقد نقلوا الدرس الفقهي من سرد للخلاف، أو
الانتقاء منه، إلى تعليل الخلاف وتأصيله وتقعيده وذكر أسبابه ومبرراته.
وقد تناول علماء الغرب الإسلامي هذه القضية من شقين:
شق نظري مجرد قصد به، حصر أسباب الخلاف الرئيسية. وشق تطبيقي قصد به ربط
الفروع بتلك الأسباب. ولعل أول من تحدث بوضوح عن الشق النظري هو: ابن حزم
الظاهري في كتابه الإحكام في أصول الأحكام، (1) وقد لخص أسباب الخلاف في
عشرة نقاط، تعتبر أصولاً ترجع إليها كل الأسباب الفرعية (2). ثم تبعه بعد
ذلك ابن السيد البطليوسي، فأفرد المسألة بكتاب مستقل (3)، وإن تحدث فيه عن
أسباب الخلاف عمومًا في الفقه وأصول الدين وغيرهما، ثم جاء بعد هؤلاء
الشاطبي (4) وابن
__________
(1) نعم إن الشافعي أشار إلى شيء من ذلك قبل ابن حزم إلا أنه لم يكن واضحاً
مثل ابن حزم- انظر الرسالة ص: 213.
(2) الإحكام: 2/ 248.
(3) والكتاب هو: الإنصاف في التنبيه على المعاني والأسباب التي أوجبت
الخلاف بين المسلمين في آرائهم.
(4) انظر الموافقات: 4/ 119.
(1/133)
جزي (1) وغيرهما، ولم يظهر التأليف في هذه
القضية عند المشارقة- حسب علمي- إلا في القرن الثامن على يد ابن تيمية، في
كتابه رفع الملام عن الأئمة الأعلام.
أما الشق التطبيقي الذي يتتبع المسائل الخلافية، ويذكر سبب الخلاف في كل
مسألة؛ فقد ظهر في القرن الخامس. ومن رواده الأوائل: اللخمي، وعبد الحميد
الصائغ، والمازري، وابن بشير، وهؤلاء كلهم مالكية من الغرب الإسلامي، ولا
أعلم للمشارقة كتاباً ألف على هذا المنوال الذي يتتبع المسائل الخلافية،
ويعللها ويبين أسبابها ودواعيها.
وما إن انتشر هذا المنهج الجديد، وتداوله المالكية في الخلاف الداخلي
بالخصوص، حتى أنجب الغرب الإسلامي جهبيذًا التقط الخيط وخطى به خطوة إلى
الأمام، أعني أبا الوليد محمد بن رشد الحفيد ت 595هـ الذي استفاد من جهود
سابقيه، ووظف ما قالوه في الخلاف العالي، وخرج على الناس بكتاب غاية في
السبك والإحكام فبهر أعينهم ونال إعجابهم، إلا أن هذا المنهج لم يكتب له
الاستمرار إذ آخر من سار على هذا المنهج هو أبو الحسن علي بن سعيد الركراكي
من علماء القرن السابع (2) في كتابه مناهج التحصيل ونتائج لطائف التأويل.
* المطلب الأول: اقتصار ابن بشير على ذكر
الخلاف داخل المذهب:
إن أهم ما يلاحظه المطلع على الكتاب؛ هو كثرة إيراده للأقوال والخلاف داخل
المذهب. وقد استغرب البعض كثرة هذه الأقوال في المذهب وسأل عنها فقيل له:
"ذلك لكثرة نظاره في زمان إمامه، وقد أخذ عنه مشافهة، نحو ألفين كلهم
مجتهد، أو قارب الاجتهاد" (3). ومهما يكن
__________
(1) انظر تقريب الوصول إلى علم الأصول ص: 168.
(2) ترجمته في كفاية المحتاج ولم يذكر تاريخ وفاته 1/ 336.
(3) نيل الابتهاج 357، 358.
(1/134)
من أمر فإن المسألة ظاهرة صحية، تدل على
مرونة المذهب، وإمكان استيعابه لأراء متعددة داخل دائرته. ولعله من هذا
المنطلق حرص ابن بشير على إيراد هذه الأقوال، بل نص على أن من مقاصده في
هذا الكتاب ذكر خلاف المذهب. فقال في المقدمة: "فرأيت أن أملي عليهم من
خلاف أهل المذهب، ما يحصل به للجمهور الاستقلال، منبهًا على أوائل التوجيه
والاستدلال".
وقال كذلك في كتاب الصلاة الثاني: "هذا أصل الكلام في صلاة الخوف على
المذهب وفاقًا وخلافاً." (1).
والكتاب كله شاهد على هذا، فإن كانت المسألة متفقا عليها أشار إلى ذلك. وإن
كانت مختلفا فيها داخل المذهب، ذكر ذلك الخلاف. وطريقته في ذلك؛ أن يبدأ
بذكر المشهور، ثم يثني بالشاذ، وقد يخالف هذه الطريقة في بعض الأحيان كما
هو الشأن في المثالين التاليين، حيث قدم الشاذ على المشهور:
أ- "واختلف هل الأفضل في تشييع الجنازة المتقدم عليها، أو التأخير؟ على
ثلاثة أقوال: أحدها أن الأولى المتقدم. والثاني بالعكس، وهما شاذان.
والثالث هو المشهور، أن المشاة يتقدمون والركبان يتأخرون." (2).
ب- "قال في الهارب بماشيته: ولا شك أنه متعد في الهروب، فالواجب عليه متعلق
بذمته. فلا يختلف المذهب في ذلك، لكن اختلف إذا زادت نعمه بعد أن كانت
ناقصة في أعوام، هل يؤخذ بما يوجد في يده من الزيادة على سائر الأعوام؟ وهو
الشاذ من المذهب، أو يؤخذ عن كل عام بما في يده؟ وهو المشهور ... " (3).
وفي كثير من الأحيان يذكر الأقوال بدون أن ينص على شهرتها أو
__________
(1) انظر ص: 644 من هذا الكتاب.
(2) انظر ص: 690 من هذا الكتاب.
(3) انظر ص: 907 من هذا الكتاب.
(1/135)
شذوذه، فيكتفي بقوله: القول الأول كذا،
والقول الثاني كذا، والثالث ... الخ.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الكتاب يعد مصدراً هاماً لمعرفة الأقوال التي حكم
عليها تحت ضغط مؤثرات مختلفة بالشذوذ، فأغفلها كثير من الناس، والحاجة ماسة
إليها في عصرنا هذا الذي لا بدّ لنا فيه من اللجوء إلى الاجتهاد الانتقائي
في المسائل المبحوثة، والإنشائي في المسائل المستجدة.
أما بالنسبة للمذاهب الأخرى؛ فإنه يكتفي بالإشارة إليها من حين لآخر، وهي
إشارات قليلة، ولا ضير في ذلك إذ الكتاب في الخلاف داخل المذهب، وليس في
الخلاف العالي، وقد ألمع إلى هذا ابن بشير فقال: "لأن القصد بيان المذهب
والإشارة إلى مذهب المخالف ... " (1). وإشاراته مقصورة غالباً على المذهب
الشافعي والحنفي. وقد يشير من حين لآخر لغير هؤلاء من المجتهدين كالليث بن
سعد، وداود الظاهري، وغيرهما. أما الإمام أحمد فإني لم أقف له على أية
إشارة، ولعل هذا راجع إلى ما كان رائجا آنذاك من عد الإمام أحمد من
المحدثين لا من الفقهاء.
ومن مصطلحاته في هذا الشأن؛ أنه يطلق على علماء غير المذهب لفظة الناس، كما
في النماذج التالية حيث قال: "لكن اختلف الناس والمذهب." (2) "وقد اختلف
الناس فيه وفي المذهب قولان" (3) "وأما أوقات النوافل فإنه يحرم أداؤها عند
طلوع الشمس وعند الغروب بإجماع. واختلف الناس فيما عدا ذلك، ولسنا للاختلاف
... " (4) "واختلف في العشر الأواخر وسنذكر خلاف الناس فيها" (5).
__________
(1) انظر ص: 915 من هذا الكتاب.
(2) انظر ص: 931 من هذا الكتاب.
(3) انظر ص: 431 من هذا الكتاب.
(4) انظر ص: 495 من هذا الكتاب.
(5) انظر ص: 773 من هذا الكتاب.
(1/136)
واستعماله لهذا المصطلح لا يشم فيه أية
إشارة إلى التنقيص، أو اللمز كما هو مستعمل عند البعض (1).
* المطلب الثاني: ثمرة الخلاف:
ثم إن ابن بشير لم يقتصر على سرد الخلاف والتعرض للأقوال. بل تعدى ذلك إلى
ذكر ثمرة الخلاف وفائدته، والتي بها يتضح للقارئ ما يترتب على كل قول عند
تفعيله. وهذا كله يساعد على الترجيح والاختيار وينمي ملكة النظر عند
المحصلين. ومن أمثلة ذلك قوله في باب زكاة الفطر:
"فأما زمان الخطاب بها ففي المذهب اضطراب يؤخذ من مسائل مفردة في المذهب.
ويتحصل من ذلك أربعة أقوال: أحدها أنها تجب بغروب الشمس من ليلة الفطر،
[والثاني من طلوع الفجر، والثالث من طلوع الشمس، والرابع أنها تجب بغروب
الشمس من ليلة الفطر]، لكن وجوباً مُوَّسعاً آخره غروب الشمس من يوم الفطر
... وفائدة هذا الخلاف فيمن ولد أو أسلم أو مات أو بيع [من العبيد] في ما
بين هذه الأزمان، هل تجب فطرته؟ أو لا تجب على المولود والداخل في الإسلام؟
وهل تسقط عن الميت؟ " (2).
وقوله كذلك: "وإن كان الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان فهل يخرج عند
غروب الشمس قياساً على الأول أو بعد طلوع الفجر؟ في المذهب قولان: البقاء
إلى طلوع الفجر، لأنه المروي عن الرسول عليه السلام. وإذا قلنا إنه يبقى
إلى الطلوع فهل على جهة الوجوب أو على جهة الندب؟ في المذهب قولان ...
وثمرة الخلاف لو فعل بعد خروجه فعلاً يضاد الاعتكاف فهل يفسد
__________
(1) هناك من يقول بأن الإمام البخاري يطلق كلمة الناس على الأحناف تنقيصًا
لهم.
(2) انظر ص: 933 من هذا الكتاب.
(1/137)
اعتكافه ويبتدئه من الأول أم لا؟ فإن
أوجبنا الإقامة فسد اعتكافه وابتدأه من الأول، وإن قلنا باستحبابه لم يفسد.
وقيل إنه يفسد بنفس الخروج." (1).
* المطلب الثالث: الخلاف في الحال:
ومن منهجه أيضًا في تعامله مع المسائل الخلافية؛ التمييز بين الخلاف الذي
يكون بتباين الأقوال، وهو المعروف بخلاف في فقه. والخلاف في الحال، أو
الخلاف في شهادة، الذي يتفق فيه على أصله، ويختلف في حصوله في محل النزاع.
فمن الفقهاء من يرى حصوله في محل النزاع، ومنهم من لا يرى ذلك فيقع الخلاف.
وقد أكثر ابن بشير من التنبيه على هذا النوع من الخلاف. قال ابن راشد
القفصي (ت) 736 هـ: " ... وقد يتفق على سببية السبب وشرطية الشرط، ويختلف
هل وقع ذلك في محل النزاع أو لا؟ وعن هذا يعبر ابن بشير بأن الخلاف في
شهادة، وإذا تأملت ذلك ظهر لك سبب الاتفاق والاختلاف، فاحتفظ بهذا الأصل
فإنه جيد جدا" (2)، وقال الونشريسي: "ولأجل تغيير الفوائد في الأموال
والسكك وغيرهما، جمع العلماء الأقوال المختلفة الصادرة عن أئمتهم المتقدمين
على وقتهم، فقالوا في كثير من مسائل الخلاف هو خلاف في حال لا خلاف في
مقال، وللشيخ أبي الطاهر بن بشير التنوخي عناية بالجميع في كثير من مسائل
الخلاف، وردها إلى خلاف في حال." (3). فمن خلال هذين النصين، يتبين أن ابن
بشير يتميز باعتنائه واهتمامه بهذا النوع من الخلاف. وهذه أمثلة توضح ذلك:
- أولاً: قال في إزالة النجاسة من المخرجين بالأحجار: "وهل يكتفي للمخرجين
بثلاثة أو يطلب لكل واحد ثلاثة؟ قولان. وهو خلاف في
__________
(1) انظر ص: 768 من هذا الكتاب.
(2) لب اللباب ص: 5.
(3) المعيار 8/ 467.
(1/138)
شهادة، هل يتلطخ الحجر بأحدهما فلا يكفي في
الآخر، أو يمكن أن يحصل الانتقاء في الموضعين بثلاثة." (1).
- ثانياً: قال في تطهير الزيت من النجاسة: "وهل يطهر الزيت وسائر الأدهان
بعد تنجيسها بماء يقع فيها؟ في المذهب قولان: المشهور أنه لا يطهر، والشاذ
أنه يطهر وهو خلاف في شهادة ترجع إلى الحس، وذلك أن الأدهان لا تمتزج بها
النجاسة امتزاجاً لا يمكن انفصالها عنها، بخلاف امتزاج سائر الأطعمة. وإذا
تقرر ذلك فهل يمكن أن يبلغ إذا غسل منها مبلغاً يذهب النجاسة ويبقى الدهن
على أصله؟ هذا محل الخلاف وهو محال على شهادة." (2).
- ثالثًا: قال في تنزيل التنحنح في الصلاة منزلة الكلام فيها: "وهل يتنزل
التنحنح بمنزلة الكلام؟ أما إن كان بغلبة فلا خلاف في صحة الصلاة، وأما إن
كان بغير غلبة، ففي المذهب قولان: أحدهما أنه بمنزلة الكلام، ينظر في السهو
والعمد إلى ما قدمناه. والثاني أنه ليس بمنزلته، وهو خلاف في شهادة تصوره
هل تتركب منه حروف كما تتركب من الكلام، أم لا يتركب ذلك؟ وهكذا اختلفوا في
النفخ هل يتنزل منزلة الكلام، وهو على ما قدمناه" (3).
* المطلب الرابع: خلاف التنوع
كما أنه كثيرًا ما ينبه على نوع آخر من الخلاف يمكن الاصطلاح عليه بخلاف
التنوع، أو خلاف الهيئات والصور، وهذا النوع من الخلاف تكون كل صوره
وهيئاته جائزة، وتبرأ ذمة المكلف بفعل أيهما شاء. ومن أمثلته: قوله: "وهل
يشير بالمسبحة أو يمدها غير محرك لها؟ في المذهب ثلاثة أقوال: أحدها أنه
يشير بها. فقيل المراد بذلك طرد الشياطين وقمعها. وهذا
__________
(1) انظر ص: 246 من هذا الكتاب.
(2) انظر ص: 294 من هذا الكتاب.
(3) انظر ص: 499 من هذا الكتاب.
(1/139)
أيضاً تحقيق معناه، أنه يقرر على نفسه ما
يذكر من التشهد. ويذكرها بالتقصير عن معاني ما يذكره ويمنعها أيضاً من
الغفلة عن ذلك. والقول الثاني أنه [يبسط مسبحته غير محرك لها. قيل المراد
بذلك الإشارة إلى الوحدانية. والقول الثالث أنه] يبسطها موحداً إلى أن يبلغ
قوله: "أشهد أن لا إله إلا الله" فيشير بأصبعه مقررا على نفسه جميع ما
يلزمه الإيمان به. وهذا كله لا ينبغي أن يعد خلافاً، وإنما يعد هيئات" (1).
* المطلب الخامس: ما لا ينبغي أن يختلف فيه:
بقدر حرص المؤلف على ذكر الخلاف، فإنه لا يعزب عنه ذكره المسائل المتفق
والمجمع عليها، إما داخل المذهب أو حتى خارجه، والمسألة واضحة نستغن عن
تكلف الأمثلة والشواهد لها. لكن الذي ينبغي أن يشار إليه، هو أن ابن بشير
لم يتوقف عند ذلك، بل تعداه إلى ذكر المسائل التي لا ينبغي أن يختلف فيها.
وكأنه يريد بذلك سد الباب على من يريد أن ينشئ خلافاً بدون وجود أسبابه
ودواعيه، وهو ما يمكن أن نسميه بالخلاف المرفوض، الذي لا مسوغ له ولا مبرر.
ومن أمثلة ذلك قوله في الواجب بارتكاب الممنوعات:
"ويتعلق بارتكاب الممنوعات ثلاثة أشياء: القضاء والكفارة وقطع التتابع، ولا
يخلو المرتكب من أن يكون معذوراً أو غير معذور؛ فإن كان معذورا بالنسيان أو
بالغلط في التقدير؛ وجب القضاء في جميع أقسام الصيام إلا في التطوع فلا يجب
بلا خلاف على هذا. وهل يستحب؟ في المذهب قولان، وهكذا نقل. ولا ينبغي أن
يختلف في استحبابه، لأنه فعل بر." (2).
وقال في باب حكم التحريم بالمصاهرة: "وقد قدمنا أن مقدمات الوطء؛ كالوطء،
وهذا إذا كانت اللذة. فإن كان لمس وما في معناه لغير لذة؛ فإنه لا تنتشر
الحرمة، وإن كان للذة من غير بالغ ففيه قولان، وهذا
__________
(1) انظر ص: 418 من هذا الكتاب.
(2) انظر ص: 701 من هذا الكتاب.
(1/140)
إنما يصح في المميز. وأما من لا يميز اللذة
من غيرها، فينبغي ألا يختلف فيه." (1).
* المطلب السادس: أسباب الخلاف عند ابن بشير
لقد سبقت الإشارة إلى أن ابن بشير ينتمي إلى مدرسة تعليل الخلاف التي ولدت
وازدهرت في الغرب الإسلامي. والمتتبع للكتاب يلاحظ حرص ابن بشير على ذكر
سبب الخلاف في معظم المسائل الخلافية التي أوردها في كتابه، ويعبر عن ذلك
بأساليب متعددة فإما أن يقول: "وسبب الخلاف كذا" أو "الخلاف آيل إلى كذا"
أو "منشأ الخلاف كذا" أو "مثار الخلاف كذا". وقد لا يصرح في بعض الأحيان
بذلك وإنما يستشف من خلال كلامه.
ولعل حرص ابن بشير على ذكر سبب الخلاف؛ راجع إلى أهمية هذا الأخير في معرفة
أصول الآراء الفقهية وأسسها، ومناهج العلماء في استنباط الأحكام واستثمارها
من مصادرها. وهذا كله يخدم مقصده من الكتاب، الذي يهدف منه إلى تمرين
المتفقة على الاجتهاد، والارتفاع به عن التقليد.
والمتأمل في أسباب الخلاف التي ذكرها ابن بشير، يرى أنها كثيرة جدًا
ومتنوعة، والغالب عليها القواعد الخلافية التي وردت بصيغة الخلاف، وانبنى
على الخلاف فيها خلاف في مسائل فرعية وهي؛ إما قواعد أصولية أو فقهية.
فمن القواعد الأصولية قوله: "هل تحمل أوامره على الوجوب أو على الندب" (2)
"هل يخصص العموم بالعادة أم لا؟ " (3) "هل الأمر يقتضي الفور، أم للمكلف
التراخي؟ " (4).
- ومن القواعد الفقهية قوله: "هل كل جزء من الصلاة عبادة قائمة
__________
(1) كتاب النكاح الثاني.
(2) انظر ص: 240 من هذا الكتاب.
(3) انظر ص: 241 من هذا الكتاب.
(4) انظر ص: 267 من هذا الكتاب.
(1/141)
بنفسها أو يقال صحة أوائلها موقوف على صحة
أواخرها؟ (1) " "من ملك أن يملك هل يعد مالكاً؟ " (2) "هل يعلق الحكم على
الصور النادرة أم لا؟ " (3).
- وقد يكون الخلاف راجعاً إلى النصوص. ومن ذلك قوله: "اختلاف آيتين" (4) أو
"اختلاف الظواهر" (5) أو "تعارض آية وحديث" (6).
- وقد يكون الخلاف راجعاً إلى مسائل لغوية، ومن ذلك قوله: "هل الأسماء تحمل
على الأوائل أو الأواخر" (7)، "هل "إلى" لانتهاء الغاية أو للجمع" (8)
"الاختلاف في اسم الوجه" (9).
- وقد يكون الخلاف راجعاً إلى مسائل تتعلق بعلوم الحديث، ومن ذلك الاختلاف
في ثبوت الحديث (10) - والاختلاف في زيادة العدل هل تقبل أم لا؟ (11) أو
قبول رواية الصحابي غير الفقيه (12) ...
وقد يكون الخلاف راجع إلى غير ذلك كالاختلاف في رعي الخلاف (13) أو
الاختلاف في التعليل (14) أو الاختلاف في التغليب (15) ... إلى غير ذلك.
__________
(1) انظر ص: 483 من هذا الكتاب.
(2) انظر ص: 810 من هذا الكتاب.
(3) انظر ص: 254 من هذا الكتاب.
(4) انظر ص: 258 من هذا الكتاب.
(5) انظر ص: 412 من هذا الكتاب.
(6) انظر ص: 415 من هذا الكتاب.
(7) انظر ص 259 من هذا الكتاب.
(8) انظر ص: 284 من هذا الكتاب.
(9) انظر ص: 218 من هذا الكتاب.
(10) انظر ص: 455 من هذا الكتاب.
(11) انظر ص: 389 من هذا الكتاب.
(12) انظر ص: 489 من هذا الكتاب.
(13) انظر ص: 250 من هذا الكتاب.
(14) انظر ص: 267 من هذا الكتاب.
(15) انظر ص: 324 من هذا الكتاب.
(1/142)
وحتى لا يبقى الكلام نظرياً أرى أنه من
الضروري أن أورد أمثلة توضح منهج ابن بشير في تعرضه لسبب الخلاف. وأكتفي
بذكر ثلاثة أمثلة:
الأول: قال فيمن شك في طلوع الفجر هل يباح له الأكل في رمضان أم لا؟
"وأما إن شك فهاهنا قولان: كراهية الأكل، وتحريمه. ورأى ابن حبيب أن القياس
الإباحة.
وسبب الخلاف استصحاب حالين: أحدهما إباحة الأكل، والثاني وجوب الصوم؛ فمن
نظر إلى استصحاب زمن الليل؛ أجاز الأكل أو كرهه مراعاة للخلاف، ومن نظر إلى
وجوب استصحاب الصوم منع إلا أن يتيقن بالجواز" (1).
الثاني: "وإذا وجبت الزكاة فأديت إلى فقراء الموضع الذي وجبت فيه، أجزت بلا
خلاف. فإن أديت إلى غيرهم؛ فإن كان بأهل الموضع حاجة وغيرهم ليس بمنزلتهم،
لم تجز، وإن تساوت الحالات فهل يجزي إخراجها إلى غير الموضع الذي وجبت فيه؟
فالمذهب على قولين. وسبب الخلاف قوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ:
"فأخبرهم -يعني أهل اليمن- أن الله أوجب عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم وترد
على فقرائهم"، فهل يحمل ذلك على فقراء المسلمين أو فقراء أهل الموضع؟ هذا
سبب الخلاف ... " (2).
الثالث: قال في باب الكفارة في الصيام "وأما الكبرى فقد اختلف المذهب في
صفتها؛ فالمشهور: أنه ليس فيها إلا الإطعام. لكن اختلف المتأخرون هل ذلك من
باب الأولى ويجزئ غيره، أو من باب الأوجب فلا يجزئ غيره. والشاذ أن يكون
بالإطعام وغيره. وإذا قلنا بهذا فهل تتنوع بقدر أنواع الموجب، أو تكون على
حدٍّ سواء؟ في المذهب قولان: والأشهر تساويهما وإن اختلف الموجب. والشاذ
أنها بالإطعام إن كانت بغير
__________
(1) انظر ص: 703 من هذا الكتاب.
(2) انظر ص: 839 من هذا الكتاب.
(1/143)
جماع، وعتق أو صيام إن كانت بالجماع. وإذا
قلنا بالتساوي فهل هي على التخيير ككفارة الأيمان أو على الترتيب ككفارة
الظهار؟ في ذلك قولان. وإذا قلنا بالتخيير هل يبتدأ بالطعام أولاً أو
بالعتق؟ في ذلك قولان.
وسبب الخلاف اختلاف ظواهر، فَعَوَّلَ في المشهور على قوله تعالى: {وَعَلَى
الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}، وحمله على الكفارة
الكبرى بتعمد الفطر. وقد قدمنا الخلاف في معنى الآية.
ومن فرَّق بين الموجب رأى أن الآية محمولة على الفطر بغير الجماع،
والأحاديث تقتضي الفطر بالجماع، ونظر أيضاً إلى أن الأشد والآثم [يجب على
الأشد في الارتكاب] والجماع أشد والشهوة فيه أغلب، فكان الواجب عنه أكبر من
الواجب عن غيره. ومن قال بالترتيب عوَّل على ما في بعض الطرق من أنه - صلى
الله عليه وسلم - سأل المستفتي له هل يستطيع إعتاق رقبة؟ فلما أخبره بعدم
قدرته على ذلك سأله عن استطاعته الصوم، فلما أخبره بالعجز عنه سأله عن
القدرة عن الإطعام. فهذا يقتضي الترتيب ككفارة الظهار، ولأنها أيضًا تنوعت
بأنواع الظهار ومقدرة بقدرها فتجب المساواة بينهما.
ومن خيَّر فلما في بعض الطرق من التخيير، وكأن من يرى أن الأولى الابتداء
بالعتق يراعي مذهب المرتبين، ومن يرى الابتداء بالإطعام يراعي مذهب
المقتصرين عليه. هذا مبادئ سبب الخلاف بحسب ما يليق بهذا المجموع ... "
(1).
نلاحظ من خلال هذه الأمثلة كيف أن ابن بشير يذكر الأقوال وسبب الخلاف
باختصار وتركيز بل صرح في آخر المثال الثالث بأنه اكتفى بذكر مبادئ أسباب
الخلاف. وهذا هو المنهج الذي سار عليه في الكتاب، فقد آثر عدم الإطالة
والتوسع في هذا الباب، وإنما أتى بما فيه الكفاية.
...
__________
(1) انظر ص: 752 من هذا الكتاب.
(1/144)
|