التنبيه على مبادئ التوجيه - قسم العبادات

المبحث الثالث: النقد عند ابن بشير
ينتمي ابن بشير إلى المدرسة النقدية التي أسسها أبو الحسن اللخمي في القرن الخامس، والتي كان من روادها بالإضافة إلى ابن بشير؛ المازري وابن رشد الجد والقاضي عياض وغيرهم. يقول الفاضل بن عاشور: "فهؤلاء هم الذين سلكوا طريقة جديدة في خدمة الحكم، هي: الطريقة النقدية، التي أسس منهجها أبو الحسن اللخمي، فصاروا في الفقه يتصرفون فيه تصرف تنقيح، وينتصبون في مختلف الأقوال انتصاب الحكم الذي يقضي بأن هذا مقبول، وهذا ضعيف، وهذا غير مقبول، وهذا ضعيف السند في النقل، وهذا ضعيف النظر في الأصول، وهذا مغرق في النظر في الأصول، وهذا محرج للناس أو مشدد على الناس إلى غير ذلك. وهي الطريقة التي درج عليها الإمام المازري في شرحه على التلقين للقاضي عبد الوهاب، ودرج عليها ابن بشير في شرحه على المدونة الذي سماه التنبيه على مسائل التوجيه ... " (1).

* المطلب الأول: مجانبة ابن بشير للتعصب
وقبل الحديث عن منهجه النقدي لا بدّ لنا من التعرض لقضية تعتبر أساساً للنقد السليم ومعياراً للتقويم النزيه، أعني الإنصاف ومجانبة التعصب الذي ابتلي به بعض الفقهاء، فانساقوا وراء أهوائهم وتحاملوا على مخالفيهم. فجاءت معظم انتقاداتهم متابعة لأهوائهم.
والشيخ ابن بشير رحمه الله معافى من ذلك في الجملة، فإنصافه لغير المالكية فضلاً عن المالكية واضح جلي، وربما امتدح رأي المخالف وتوجيهه مومئاً أو مصرحاً بضعف رأي المذهب وتوجيهه، ويستحسن أن أذكر أمثلة توضح ذلك:
المثال الأول قال: "وروي عن عمر رضي الله عنه أنه صلى فلم يقرأ،
__________
(1) المحاضرات المغربيات ص: 81.

(1/145)


فقيل له في ذلك، فسأل عن الركوع والسجود هل أكملت؟ فقيل له أكملت، فقال: لا بأس إذاً.
وقد تأول المالكية ذلك على أنه أعاد. وهذا بعيد؛ لأنه يبطل معنى سؤاله عن الركوع والسجود. وتأوله الشافعية على أنه ترك الجهر ولم يترك القراءة جملة. وهذا أقرب من التأويل الأول" (1).
المثال الثاني: " ... وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ [وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ وَالْبِئْرُ جُبَارٌ] وَفِي الرِّكَازِ الخُمُسُ". وقد تعلق أصحابنا بهذا الحديث في أن المعدَن غير الركاز، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سماهما باسمين مختلفين. والظاهر أنه لا دليل في ذلك بل [يكاد أن] يكون حجة لأبي حنيفة القائل بأن ما يوجد في المعدن فيه الخمس، لأنه - صلى الله عليه وسلم - تكلم على حكمين مختلفين، فأخبر بأن ما سقط في المعدن أو يسقط عليه المعدن، فهو جبار لا دية فيه. ثم أخبر أن في الركاز الخمس، أي في الركاز الذي يكون في المعدن. وبهذا يحسن تأليف النظم في الحديث، ولسنا لإكمال الحجاج، وإنما نبهنا على أوائله." (2).
فهذه النصوص معبرة بوضوح على إنصافه وعدم تعصبه لمذهبه وتعسفه على مخالفه، وهي ليست في حاجة إلى تعليق، فالنص الأول صرح فيه ببعد تأويل المالكية وقرب تأويل الشافعية. والنص الثاني صرح فيه كذلك بأن ما تعلق به المالكية لا دليل لهم فيه بل هو حجة للأحناف (3).
__________
(1) انظر ص: 407 من هذا الكتاب.
(2) انظر ص: 860 من هذا الكتاب.
(3) قارن موقفه هذا مع من يتعصب لرأي أصحابه وينتصر لهم رغم اعتقاده رجحان رأي المخالف. أذكر هنا مثالاً على ذلك أبا الخطاب الكلوذاني الحنبلي (ت510) الذي صرح في موضعين من كتابه التمهيد بضعف مذهب أصحابه وأصر على نصرته رغم ذلك، وقد صرح بذلك في موضعين من الكتاب. الأول: في مسألة دخول المؤنث في المذكر السالم عند الخطاب وذكر فيها قولين: أحدهما: أنه يدخل، والقول الثاني: أنه لا يدخل وهو قول أكثر الفقهاء والمتكلمين وقال عنه: (وهو الأقوى ولكن ننتصر لرأي شيخنا). انظر التمهيد في أصول الفقه 1/ 291. =

(1/146)


ورغم هذا فإن ابن بشير رمي بالتحامل والتعسف في انتقاده للخمي. فقد ورد في طبقات المالكية لمجهول: "وكان بينه وبين أبي الحسن اللخمي قرابة وتعقبه في كثير من المسائل، ورد عليه اختياراته الواضحة في التبصرة وتحامل عليه في كثير منها، قال ابن ناجي: كان بعض من لقيته يقول: تعسف ابن بشير هنا كعادته معه في كثير من المسائل، وتعسفه عليه بين لمن وقف على كتابه التنبيه" (1) والحق أن المطلع على كتاب التنبيه يلاحظ أن ابن بشير انبرى للرد على تخريجات واختيارات اللخمي، ويلاحظ أنه خص أقواله واختياراته باهتمام زائد على غيره. ومرد ذلك في رأيي؛ جنوح اللخمي الواضح إلى كثرة التخريج، والترجيح، والنقد، والاستقراء، والاختيار على وجه اعتبره النقاد غير متقيد بالمسالك والتقريرات المذهبية في ذلك (2). فنتج عن منحاه هذا، تكون مادة فقهية غزيرة متميزة عن سابقاتها، جديرة بالاهتمام، والتتبع، والتمحيص والتدقيق. فكان الأليق أن يقوم بذلك واحد من أبناء مدرسة اللخمي النقدية.
ومهما يكن من أمر فإن ابن بشير لم يخرج في انتقاده للخمي عن إطار الأخلاق والآداب العلمية، وإن لوحظت صرامة، وشدة اقتضتهما المباحثة والاعتراض مما يدخل في مجال نقد النقد.
وتأكيدًا لما سبق أذكر بعض الأمثلة التي انتصر فيها ابن بشير للخمي، وأشاد فيها برأيه ليتأكد بطلان ما قيل من تحامله وتعسفه عليه.
المثال الأول: قال في باب حكم المسبوق وقضائه بعد إكمال إمامه: "لكن هذه المسألة نزلت قديما، فطال بحثنا عن روايات المذهب فيها،
__________
= الثاني: في مسألة جواز العليل بالحكم في إثبات حكم آخر، وذكر فيها قولين: الأول: جواز ذلك ونسبه إلى الحنابلة، والثاني: عدم جوازه ونسبه إلى بعض المتأخرين، وقال عنه: (وهو الصحيح ولكن ننصر قول أصحابنا) انظر المصدر السابق 4/ 44.
(1) تراجم مالكية لمؤلف مجهول ص: 298.
(2) يقول عياض: ... وهو مغرى بتخريج الخلاف في المذهب، واستقراء الأقوال. وربما تبع نظره فخالف المذهب فيما ترجح عنده، فخرجت اختياراته في الكثير عن قواعد المذهب .. ترتيب المدارك 8/ 109.

(1/147)


وخالفني بعض أشياخي ودافع ما قاله أبو الحسن كل المدافعة. وإنما اعتمدت له على أن ما قاله القياس، إذاً لا بالروايات. فأخرجت من كتاب "الإملاء" لابن سحنون أن من أدرك ركعة من المغرب يقوم فيأتي بركعتين بأم القرآن وسورة في كل واحدة منهما بجهر بالقراءة ولا يجلس بينهما، وهذا نص في صحة طريقة أبي الحسن اللخمي، إذ جعل في هذه الرواية أن ما أدرك آخر صلاته في القراءة والجلوس جميعاً.
ولم يكن عند من خالفني في هذه المسألة أكثر من قوله لبعض تلامذته: الكتب لا تقوم بأنفسها" (1).
المثال الثاني: قال في كتاب الزكاة: "واستحسن أبو الحسن اللخمي أن يجعل في الجميع حولاً وسطًا لا ينبني على أول الاقتضاءات والفوائد ولا على آخرها.
وهذا له وجه أن يحصل الوسط في ذلك، وهو جار على أصل المذهب في مال تنازعه اثنان أنه يقسم بينهما، لأن التعجيل والتأخير قد تنازعه المساكين ورب المال، ولا يمكن تغليب أحد الجانبيين مع الشك، فيقسم بينهما. وهذا بناء على [إسقاط] مراعاة الخلاف" (2).
المثال الثالث: قال أثناء حديثه عن اضطراب المذهب في حكم إزالة النجاسة: "وأما أبو الحسن اللخمي فحكى أن المذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: إزالة النجاسة فرض، وهو مذهب ابن وهب القائل إن من صلى بها يعيد في الوقت وبعده عامدًا كان أو ناسيًا. والقول الثاني: أن إزالتها سنة، وهو مذهب أشهب القائل إن من صلى بها لا يعيد إلا في الوقت وإن كان متعمدًا. والقول الثالث: أن إزالتها سنة مع النسيان فرض مع الذكر، وهو مذهب المدونة لأنه يقول: من صلى بها عامدًا أعاد وإن خرج الوقت، وإن كان ناسيًا أعاد في الوقت، وهذا الذي قاله أبو الحسن اللخمي يشهد بصحته هذه الرواية" (3).
__________
(1) انظر ص: 490 من هذا الكتاب.
(2) انظر ص: 811 من هذا الكتاب.
(3) انظر ص: 276 من هذا الكتاب.

(1/148)


فالأمثلة السابقة يظهر فيها بجلاء إنصافه للخمي وعدم التحامل عليه بل الانتصار لرأيه وإظهار وجاهته.
ففي المثال الأول يظهر تبني ابن بشير لرأي اللخمي ودفاعه عنه ومناظرة شيوخه فيه. والمثال الثاني نرى ابن بشير يتحدث عن وجاهة رأي اللخمي وجريانه على أصل المذهب. والمثال الثالث نلاحظ كيف استدل للخمي بروايات المدونة.
بعد هذا أرى أن المقام مناسب للحديث عن النقد عند ابن بشير وأبدأ بانتقاده للخمي للأسباب السالفة الذكر.

* المطلب الثاني: انتقاد ابن بشير للخمي
لقد تبين بالتتبع والاستقراء أن ابن بشير كان يتعقب اللخمي في عدة أمور لا يسمح المجال بذكرها كلها. وسأكتفي ببعض منها:

أ- يؤاخذ ابن بشير اللخمي، على حكاية أقوال ونسبتها للمذهب وليست منه، ومن أمثلة ذلك:
1 - قال ابن بشير: "فإن كان الماء يسيرًا ولم يتغير. ففي المذهب ثلاثة أقوال: أحدهما: إنه نجس وهو مقتضى مذهب المدونة. والثاني: إنه طاهر مطهر لكنه يكره للخلاف. والثالث: مشكوك في حكمه فيجمع بينه وبين التيمم.
فوجه الحكم بنجاسته قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً"، ليبين إذا كان الماء دون القلتين حمل الخبث. وأيضاً فإن النفوس تعاف الماء اليسير إذا حلته النجاسة اليسيرة ومبنى النجاسات على ما تعافه النفوس وتستقذره الطباع. ووجه الحكم بطهارته قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خلق الله [تعالى] الماء طهوراً لا ينجسه شيء"، وهذا عموم في كل المياه. ومن رواية البغداديين في هذا الحديث: "إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه". وهذا نص [في] أنه باق على الطهارة والتطهير ما لم يتغير أحد هذه الصفات، فهذه مبادئ أدلة المذهب. ووجه الحكم بالشك فلتعارض الأدلة.

(1/149)


وحكى أبو الحسن اللخمي عن أبي مصعب أنه طاهر مطهر من غير كراهة. وهذا لا يوجد في المذهب بل مقول البغداديين على رواية أبي مصعب. وقد قالوا بالكراهة مراعاة للخلاف" (1).
2 - "أن يوقن بالوضوء ويشك في الحدث، فهذا فيه قولان: أحدهما: الإيجاب للوضوء، والثاني: استحبابه. [والقسم الثالث: أن يشك في الحدث والوضوء جميعاً، فهذا يطرح ما شك فيه ويبني على ما كان حاله قبل الشك؛ فإن كان محدثاً لزمه الوضوء، وإن كان متوضئاً كان كالقسم الثاني]. وحكى أبو الحسن اللخمي عن المذهب خمسة أقوال فيمن أيقن بالوضوء وشكَّ في الحدث: أحدها: وجوب الوضوء، والثاني: إسقاطه. والثالث: استحبابه، والرابع: وجوبه إلا أن يكون في صلاة، والخامس: التفرقة بين أن يستند شكه إلى سبب متقدم أو سبب في الحال؛ فإن استند شكه إلى سبب متقدم [كمن شك هل كان أحدث قبل وقته فيجب عليه الوضوء، وإن استند إلى سبب في الوقت] كمن شك هل خرج منه ريح أم لا فإنه يعتبر هل سمع صوتاً أو وجد ريحاً، فإن لم ير أثراً من ذلك فلا وضوء عليه.
وهذا لا يوجد في المذهب على ما حكاه أبو الحسن اللخمي من الخمسة الأقوال. وإنما في المدونة القولان خاصة" (2).
3 - "وأما متى يجب عليه ستر العورة؟ فيجب عن أعين الإنسان بإجماع. وهل يجب في الخلوة لحرمة الملائكة؟ حكى أبو الحسن اللخمي استحبابه. والذي سمعناه في المذاكرات القولين؛ الوجوب والندب" (3).

ب- يؤاخذه على تعويله على اختلاف الروايات والاستقراء من المحتملات ومن أمثلة ذلك:
1 - قال ابن بشير في حديثه عن السفر يوم الجمعة: " ... وأما إذا زالت الشمس فذلك ممنوع بلا خلاف في المذهب وذكر أبو الحسن قولاً
__________
(1) انظر ص: 225 من هذا الكتاب.
(2) انظر ص: 262 من هذا الكتاب.
(3) انظر ص: 479 من هذا الكتاب.

(1/150)


بالكراهة وعول فيه على اختلاف الرواية كشأنه في الاستقراء من المحتملات" (1).
2 - "إن استخلف قوم واحداً منهم، فأتم الباقون أو واحد من الجماعة وحدانا تصح صلاتهم على المشهور. وقال محمد بن عبد الحكم: من لزمه أن يتم صلاته في جماعة فأتم فذا بطلت صلاته]. وقد أخذ من هذا أبو الوليد الباجي وأبو الحسن اللخمي بطلان صلاتهم إذا لم يستخلفوا بإمام، وبطلان صلاة من أتم فذا. ويحتمل أن يريد من يخرج عن إمامة الإمام الأول والمستخلف بعد أن اقتدوا به. وإنما أراد التنبيه على قول الشافعية أن للمأموم الخروج عن الاقتداء. فإذا احتمل ذلك لم يلزم [منه] الاستقراء" (2).

ج- يؤاخذه على جعل الخلاف في مسائل لا خلاف فيها ومن أمثلة ذلك:
1 - " وأما فقدان العقل بالجنون والسكر والإغماء، فيوجب الوضوء على أي حالة كان، لأنه يقتضي عدم العلم بخروج الحدث. وأراد أبو الحسن اللخمي أن يجعل فيه خلافاً إذا لم يطل، وعول في ذلك على كلام القاضي أبي محمد أن ذلك سبب حدث. وهذا الذي قاله ليس بشيء، لأن القاضي لما قال إنه سبب للحدث [ساوى بين قليله وكثيره في نقض الوضوء، وفرق في النوم. وإنما أراد به] [أنه سبب حدث] لكنه سبب يقتضيه ولا بد، وذلك حقيقة السببية" (3).
- قال في حكم غسل الجمعة "والمذهب كله على أنه سنة لا واجب. وحكى أبو الحسن اللخمي عن أبي جعفر أنه حكى اختلاف أصحابنا في غسل الجمعة فقال بعضهم: سنة مؤكدة لا يجوز تركها إلا
__________
(1) انظر ص: 618 من هذا الكتاب.
(2) انظر ص: 602 من هذا الكتاب.
(3) انظر ص: 253 من هذا الكتاب.

(1/151)


بعذر، وقال بعضهم: مستحب. وعوَّل على أن المذهب مختلف في وجوبه، أخذاً من حكاية أبي جعفر هذه. وليست صريحة في الوجوب كما ظنه، بل ظاهرها على غير الوجوب. وإنما يؤخذ من هذا أن المذهب على قولين: أحدهما: أن الغسل سنة، والثاني: مستحب. وهكذا قال أبو الحسن اللخمي في كتاب الطهارة. وقد يقال: إن ما حكاه أبو جعفر يقتضي الوجوب. وقوله: سنة، أي مما علم وجوبه بالسنة، كقول سحنون إن الوضوء من البول سنة، يريد: مما علم وجوبه بالسنة، وليس من قبل المندوبات. ولا شك أن ذلك محتمل، لكن الأظهر الأول" (1).
2 - وقال في كتاب الصيد: "حكى أبو الحسن اللخمي أربعة أقوال في شروط الجارح، أحدها إذا زجر انزجر وإذا أشلي أطاع. الثاني أن يضاف إلى ذلك إذا دعي أجاب، وهذا في الكلاب، وأما الطير فلا يشترط فيها الانزجار، حكى ذلك ابن حبيب. وقال قول ابن القاسم أن الطير والكلاب سواء، فأخذ أبو الحسن من هذا قولاً ثالثاً، أن ابن القاسم اشترط في الكلاب والطير ثلاثة أوصاف وهي: الانزجار والاشلاء والاجابة عند الدعاء. وأخذ القول الرابع من الكتاب إذ قال: فيمن أدرك كلابه تنهش الصيد ولم تنفذ مقاتله فمات بنفسه قبل أن يمكنه ذكاته أنه يؤكل فجعل الانزجار ليس بشرط.
وهذا الذي حكاه أبو الحسن ليس بخلاف وإنما يقال في هذا أن كل ما فقه التعليم من سباع الطير وسباع الوحش فإنه يشترط فيهما، والمقصود من ذلك أن تنتقل عن خلقها الأصلي حتى يصير تصرفها بحكم الصائد. فحينئذ تكون آلة له، وإذا تصرفت على خلفها الأصلي كانت آلة لنفسها فلم تمسكه على الصائد بل على نفسها، وأما قوله في الكتاب: فيحتمل أن يكون مات الصيد بنفسه لما نهشته الجوارح ولو زجرها فانزجرت لم ينفعه ذلك فلا يؤخذ منه قوله إلا برفع احتماله" (2).
__________
(1) انظر ص: 624 من هذا الكتاب.
(2) التنبيه ص: 223 نسخة خاصة.

(1/152)


د- يؤاخذه على استعماله للقياس في مسائل لا مجال للقياس فيها ومن ذلك قوله:
1 - " ولا يعيد عندنا من صلى في جماعة؛ لأن الإعادة لما قدمناه من التلافي لما فاته من الأجر بصلاته وحده. وإذا كانت الصلاة في جماعة فلا فائت يتلافى. قال ابن حبيب: إلا أن تكون الصلاة الأولى في غير المساجد الثلاثة: الكعبة ومسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومسجد بيت المقدس، ثم يدرك الجماعة في أحد هذه المساجد؛ فإنه يعيد لعظم الأجر في هذه بخلاف غيرها.
وألزمه أبو الحسن اللخمي أن يعيد في هذه المساجد فذًا، وإن صلى أولاً في غيرها في جماعة لتفاوت فضل الجماعة والانفراد في غيرها. وألزمه ذلك من طريق القياس إلا أن يقال: إنما ورد الأمر بإعادة الفذ في جماعة، وهذا عكسه. والموضع موضع عبادة فلا يتعدى به ما ورد" (1).
هكذا إذا تعامل ابن بشير مع اللخمي في نقاش علمي هادىء بعيد عن التحامل والتعسف، إلا أنه في بعض الحالات النادرة جداً يسبقه القلم فيستعمل ألفاظاً قاسية كما يتضح في المثال التالي:
"واحتج محمد بن عبد الحكم لوجوب الصلاة بقوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا}. وإذا حرمت الصلاة على غير المؤمنين وجب ضدها، وهو الصلاة على المؤمنين، لأن النهي عن الشيء أمر بضده. وتعقب هذا أبو الحسن اللخمي بأن النهي عن الشيء أمر بضده إذا كان له ضد واحد، وإلا متى كانت له أضداد فلا يكون النهي أمراً بالضد. قال: وترك الصلاة على غير المؤمنين لها أضداد. وعدَّ من أضدادها إباحة الصلاة على المؤمنين، والندب إلى ذلك، والوجوب. وإذا ثبت النهي في حق غير المؤمنين أمكن أن يكون محمولاً على أحد أضداده في حق المؤمنين. إما الندب أو الإباحة أو الوجوب. فهذه غلطة فاحشة؛ لأن الضد في الحقيقة
__________
(1) انظر ص: 412 من هذا الكتاب.

(1/153)


إنما هو الأمر، فإن كان النهي مقتضياً للتحريم كان الأمر مقتضيًا لضده، وضد التحريم الوجوب" (1).
هذه إذاً نماذج من انتقادات ابن بشير للخمي نكتفي بذكر ما ذكرناه إذ ليس الغرض استقصاء كل انتقاداته.

* المطلب الثالث: انتقاد ابن بشير لباقي العلماء
لم يكن جهد ابن بشير النقدي مقصوراً على اللخمي بل انتقد كل من رأى أن قوله لا ينسجم مع أصول المذهب ورواياته وقواعده وهذه نماذج من ذلك:
1 - انتقاده للمدونة بسبب التناقض. وانتقاده للقاضي عبد الوهاب لبعد قوله عن مقتضى اللفظ. وانتقاده للبراذعي لزيادة عبارة في النص. وانتقاده للباجي لكون قوله غير سالم من الاعتراض. وكل هذا في نص واحد. قال في حكم سؤر الحيوان الذي يمكن الاحتراز منه:
" ... والثالث التفرقة بين الماء والطعام، ينطرح الماء ليسارته ويستعمل الطعام لحرمته، وهذا مذهب المدونة. ولكن حكم الماء الذي شربت منه الدجاج المخلاة أن يترك وينتقل إلى التيمم. ثم جعل المصلي به يعيد في الوقت خاصة. وهذا كالمتناقض لأن الانتقال إلى التيمم يقتضي الحكم بنجاسته والإعادة في الوقت تقتضي طهارته على كراهية فيه. وقد أجيب عن هذا الاعتراض بثلاثة أوجه: أحدها: أن مراده بالتيمم لا يقتصر عليه دون أن يتوضأ، وإنما تجوز في الكتاب بقوله يتيمم ويتركه. ومراده يجمع بينه وبين التيمم، قاله القاضي أبو محمد عبد الوهاب. هذا وإن ساعده الفقه فهو بعيد عن مقتضى اللفظ. والجواب الثاني: أنه حكم بنجاسته على أصله فقال يتيمم ويتركه ثم إذا صلى به أحد وقعت صلاته جائزة عند من يقول بطهارته، وهو أحد قولي مالك .... وهذا جار على أصل المذهب
__________
(1) انظر ص: 664 من هذا الكتاب.

(1/154)


في مراعاة الخلاف، والجواب الثالث: أن الإعادة إنما هي لأنه صلى بنجاسة، ولذلك يترك الماء لأن فيه نجاسة لا يدري موضعها ......
وهكذا نقل البراذعي في تهذيبه في هذا الموضع، فقال: ومن صلى ولم يعلم أعاد في الوقت. واستدرك الأشياخ عليه زيادته: "ولم يعلم". وإنما عول في ذلك على ما في كتاب الصلاة الأول من المدونة ... وهذا الجواب أشار إليه الباجي وهو معترض، لأن النجاسة إذا حلت بالماء تختلط بأجزائه فلا تبقى في مكان واحد" (1).
2 - انتقاده لأشهب حيث رأى أن قوله، باطل لانخرامه وعدم شموله. فقال في حديثه عن وقت وجوب الزكاة:
"وانفرد أشهب فقال: لا تجب على من لم يصم يوماً من رمضان. وهذا باطل بغير المكلَّف، فإنما تجب عليه وإن لم يلزمه صيام. فإن علَّل أشهب بأنها طُهرة للصائمين، ومن أسلم أو ولد ولم يمض له زمن يصح صومه فلا طهرة عليه، وغير المكلَّف أيضاً لا يفتقر إلى تطهير إلا أن يقول تلزم من كان موجودًا تجري عليه أحكام المسلمين ولو يوماً.
فهذه مراعاة لحكم الإسلام لا لحكم الصوم" (2).
3 - انتقاده لأبي العباس الإبياني وابن بكير لكون قولهما يؤدي إلى الحرج الذي تسقطه الشريعة فقال: "وأما اللَّذة من غير لمس كمن يتذكر فيتلذذ أو ينظر فيتلذذ، فإن كان عن ذلك مذي وجب الوضوء، وإن لم يكن مذي ولا إنعاظ لم يجب الوضوء على المشهور والمعروف من المذهب. وأوجبه أبو العباس الإبياني وابن بكير. وهذا لا أصل له وهو يؤدي إلى الحرج الذي تسقطه الشريعة السمحة" (3).
__________
(1) انظر ص: 239 من هذا الكتاب.
(2) انظر ص: 933 من هذا الكتاب.
(3) انظر ص: 255 من هذا الكتاب.

(1/155)


4 - أ- انتقاده لابن الجلاب حيث رأى أن في قوله تناقضا (1) ومخالفة لأهل المذهب فقال:
"ولا يكرر الممسوح لأن مبنى أمره على التخفيف، والتَّكرار تثقيل. وفي حديث عبد الله بن زيد أنه "مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهمَا وَأَدْبَرَ بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ ثُمَّ رَدَّهُمَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ ... " وهذا يظهر منه التَّكرار. ولمحاذرته رأى الشيخ عبيد الله بن الجلاب أنه إذا ذهب بهما إلى قفاه، رفع راحتيه عن فوديه - وهما جانبا رأسه- فإذا ردَّ يديه رفع أصابع يديه عن وسط رأسه ومسح جانبي رأسه حتى يسلم من التكرار بالمسح على موضع واحد. والذي قاله خلاف لجميع أهل المذهب. واتفاق أهل المذهب أن يمر بيديه على جميع رأسه ذاهبًا وعائدًا ... وفي تفسيره في هذا الحديث لصفة المسح مناقضة لما ابتدأ به لأنه قال أقبل وأدبر، ثم فسره بالإدبار والإقبال. وخير ما يُؤَوَّلُ لذلك بأن الواو لا توجب رتبة الترتيب. فقال: أقبل وأدبر، ومراده أدبر وأقبل، فابتدأ في اللفظ بذكر الإقبال تفاؤلاً" (2).
ب - وفي النص الثاني رأى أن قوله لا أصل له. فقال أثناء حديثه عن انتقال المسافر إلى التيمم مع وجود الماء: "ومنها أن يجد الماء لكن بثمن خارج عن المعتاد بما يجحف به لقلة دراهمه أو لكثرة الزيادة في الثمن. وقد قرر ابن الجلاب التحديد المزيد بمقدار ثلث الثمن. ولا أصل لذلك. وقد يهون ثمن الماء فيكون زيادة ثلاثة أمثاله فأكثر ليس بمجحف".
5 - انتقاده لحمديس حيث رأى أن قوله مخالف لبعض طرق الحديث وللعلة. فقال:
"ولا يجب الوضوء بمس شي من البدن ولا من الدبر على المشهور.
وذكر حمديس أنه يلزم على قول من أوجب الوضوء على المرأة إن مست
__________
(1) انظر ص: 217 من هذا الكتاب.
(2) انظر ص: 348 من هذا الكتاب.

(1/156)


فرجها أن يقول يلزم الوضوء من مس الدبر. وهذا الذي قاله غير صحيح، لأن الفرج ينطلق عليه تسميته. وقد ورد في بعض الطرق: "ومن مس فرجه توضأ"، وأيضاً فإنه مما يمكن اللذة بمسه بخلاف الدبر" (1).
6 - انتقاده لأبي مصعب لتطرق الاحتمال لدليله فقال:
"أما إمامة غير البالغ في الفرائض؛ وهو ممن يؤمر بالصلاة في الفريضة فلا تجوز ابتداء. فإن وقعت ففي بطلان الصلاة قولان: المشهور بطلانها لسقوط الفرض عن الصبي ووجوبه على البالغ. وقال أبو مصعب: تصح الصلاة. واحتج له بما في البخاري عن عمرو بن سلمة أنه كان يؤم قومه وهو دون البلوغ. لكنه كان غائباً عن حضرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ويمكن أن يكون لم يبلغه ذلك، وإنما يكون حجة لو بلغه فأقره. وقال أبو الوليد الباجي: ويحتمل هذا القول أن يكون بناء على جواز اقتداء المفترض بالمتنفل، ويحتمل أن يكون بناء على المشهور لكون الصبي معتقدًا للوجوب، فلم يكن اقتداء مفترض بمتنفل" (2).
7 - انتقاده للباجي لاستقرائه شرطاً شرعيًا من غير صاحب الشرع فقال في شروط الخطبة:
"وهل من شرطها حضور الجماعة لها؟ قال القاضي أبو محمد وغيره من البغداديين: مقتضى المذهب اشتراطه مع عدم النص عليه. واستقرأه أبو الوليد الباجي من المدونة من قول مالك رحمه الله: ولا تجزئ الجمعة إلا بالجماعة والإمام يخطب. ولا شك أن مقتضى هذا اللفظ في اللسان ما قاله، لأن قوله: والإمام يخطب، معناه: الحال. فيكون بجماعة في حال خطبة الإمام. وهذا لو عوَّل عليه من كلام صاحب الشرع لكان له وجه. ولا يخفى أن ألفاظ المدونة لا يعول فيها على مثل هذا ... " (3).
__________
(1) انظر ص: 249 من هذا الكتاب.
(2) انظر ص: 445 من هذا الكتاب.
(3) انظر ص: 622 من هذا الكتاب.

(1/157)


8 - انتقاده للأشياخ لتخريجهم أقوالاً على أقوال في المذهب دون جامع بينها فقال في حكم اللمس:
"وتفصيل المذهب أن اللمس لا يخلو من أربع صور: إحداها: أن يقصد به اللذة وتوجد، فيجب الوضوء بلا خلاف. والثانية: أن يجد ولا يقصد، فكذلك أيضاً يجب الوضوء. والثالثة: ألا يقصد ولا يجد، فلا يجب الوضوء. والرابعة: أن يقصد ولا يجد فيها، هنا مقتضى الروايات وجوب الوضوء. والأشياخ يحكون عن المذهب قولين: الإيجاب والإسقاط، وإنما يعولون في ذلك على الخلاف في الوضوء هل يرفض بالنية، وفي المذهب في ذلك قولان. وهذا الذي يعولون عليه ليس بشيء، لأن اللمس ها هنا قد وجد منه فعلاً بخلاف الرفض بمجرد النية من غير فعل" (1).
9 - انتقاده الأشياخ لتعلقهم بصور نادرة لا تعلق الشريعة على مثلها أحكاماً. فقال في حديثه عما يحرم أثناء وقت صلاة الجمعة:
"ولكن اختلف في فسخ هذه العقود على القول بفسخ البيع على قولين: أحدهما أنه يفسخ قياساً على البيع، والثاني لا يفسخ لأنها مشبهة به، والمشبه بالشيء دونه في المرتبة. قال الأشياخ: هكذا يجري الأمر في الصلوات وغيرها من العبادات إذا تعيَّن وقتها واشتغل عنها ببيع أو غيره. وهذا فيه نظر، لأن الشريعة شأنها الالتفات إلى الكليات وحماية الذرائع ومنع المشغلات وهذا يظهر في الجمعة. وأما ما سواها فصوره نادرة. والصور النادرة لا يعلق عليها مثل هذه العقوبات كفسخ البيع وما في معناه" (2).
10 - انتقاده لبعض المتأخرين لبعد المعنى المعتمد في الاستقراء فقال:
"واستقرأ بعض المتأخرين من المدونة أنه يغسل الذكر من المذي عند إرادة الوضوء، فإن غسله قبل ذلك لم يجزه وعوَّل في ذلك على قوله في المدونة: ولا يلزم غسل الأنثيين عند الوضوء، إلا أن يخشى أن يكون
__________
(1) انظر ص: 254 من هذا الكتاب.
(2) انظر ص: 628 من هذا الكتاب.

(1/158)


أصابهما شئ، وإنما عليه غسل ذكره. فعوَّل على هذا الكلام ظاناً أن مراده إنما عليه غسل ذكره إذا أراد الوضوء. وهذا الاستقراء فيه بُعْدٌ، لأن مراده أنه لا يغسل الأنثيين وإنما يغسل الذكر خاصة" (1).

* المطلب الرابع: ترجيحات ابن بشير واختياراته
ومن أوجه النقد الفقهي عند ابن بشير نجده يحكم على الأقوال بالضعف والصحة ويختار ويرجح ... إلخ.

أ - ومن أمثلة ذلك قوله في وقت أذان الصبح:
"ومتى يجوز الأذان لها؟ في المذهب ثلاثة أقوال: أحدها: إنما يؤذن لها في سدس الليل الآخر لأن المقصود التأهب لها، وذلك يحصل في هذا الوقت. والثاني: أن يؤذن لها بعد خروج الوقت المختار للعشاء الآخرة. والقول الثالث: أنه يؤذن لها بعد صلاة العشاء الآخرة، وإن صليت في أول وقتها. والصحيح هو الأول، ولا يحصل الغرض من التأهب على هذين القولين." (2).

ب - قال في حديثه عن تأويل رفع اليدين في الصلاة:
" وقد قدمنا أن الرفع من الفضائل، وسببه إما تأهب لما يقدم عليه من الصلاة ورهبة، وإما نبذ للدنيا على ما نذكره في صفة الرفع. فيمكن أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع بحسب ما يكون عليه من الأحوال من رغبة أو رهبة، أو ما يخطر بباله من نبذ الدنيا وطرحها. وهذا خير ما تأولت عليه هذه الأحاديث الواردة المختلفة في صفة الرفع".

ج - قال في حكم مس الفرج:
" فإن مسه ثم صلى قبل أن يتوضأ فأربعة أقوال؛ أحدها: أنه لا إعادة عليه، والثاني: أنه يعيد في الوقت، والثالث: أنه يعيد وإن خرج الوقت، والرابع: أنه يعيد بعد اليومين والثلاثة، فإن طال لم يعد.
__________
(1) انظر ص: 260 من هذا الكتاب.
(2) انظر ص: 390 من هذا الكتاب.

(1/159)


والإعادة على ترك مراعاة الخلاف، وإسقاط الإعادة على مراعاته، وكذلك الإعادة في الوقت. وأما من قال يعيد بعد اليومين والثلاثة دون أن يطول فهو أضعف الأقوال".

د- قال في باب الهارب بماشيته من السعاة:
" ولا شك أنه متعد في الهروب، فالواجب عليه متعلق بذمته. فلا يختلف المذهب في ذلك، لكن اختلف إذا زادت نعمه بعد أن كانت ناقصة في أعوام، هل يؤخذ بما يوجد في يده من الزيادة على سائر الأعوام؟ وهو الشاذ من المذهب، أو يؤخذ عن كل عام بما في يده؟ وهو المشهور. وكان المشهور هو القياس" (1).

* المطلب الخامس: موقف ابن بشير من المشهور والشاذ
ما دمنا تحدثنا عن النقد والترجيح والاختيار، يستحسن أن نتحدث عن مسألة لصيقة بهذا المحور؛ أعني بذلك موقفه من المشهور والشاذ، وقد سبقت الإشارة إلى أن منهجه في ذلك أن يذكر الأقوال داخل المذهب، وينص على شهرتها وشذوذها في بعض الأحيان، وفي البعض الآخر لا يتعرض لذلك، بل يذكرها مجردة. ولعل العصر الذي عاش فيه ابن بشير ساعده على ذلك. إذ كان عصره عصر تنقيح وتحقيق وتهذيب، جمعت فيه الأقوال والروايات، وميز صحيحها من سقيمها. وربما تأثر بشيخه المازري الذي كان له دور كبير في ذلك. قال أبو القاسم النويري: " ... إن مذهب مالك، كان قبل المازري مشكلاً لكثرة رواياته، واختلاف أقوال أصحابه، فيبقى فيه المقلد حائراً في الفتوى وفي القضاء وفي ما يتدين به، ولذلك اختار عنه المشارقة مذهب الشافعي وأبي حنيفة، حتى قام المازري فاعتنى بنخل المشهور عن الضعيف واختياراتهم وترجيحاتهم، ورجح هو كثيراً فتبعه من بعده فسهل المذهب حينئذ" (2).
__________
(1) انظر ص: 907 من هذا الكتاب.
(2) فتاوى ابن سراج قسم الدراسة ص: 62.

(1/160)


وعلى الرغم من عدم التسليم بكل ما جاء في هذا النص، فإن الذي يعنينا منه، هو أن هذا العصر كان عصر خدمة المذهب.
ولنعد إلى شيخنا، لنشير إلى أنه اختصر الخلاف في تحديد المعنى المراد بالمشهور؛ فحصره في قولين بدلاً من ثلاثة، قال ابن فرحون: "وقد اختلف المتأخرون في رسمه فقيل: المشهور: ما قوي دليله، وقيل: ما كثر قائله، حكاهما ابن بشير ... " (1). وبهذا يكون قد أزاح القول الثالث الذي يرى أن المشهور هو: قول ابن القاسم.
وبالاستقراء والتتبع تبيين لي أنه يقصد بالمشهور: ما كثر قائله، بغض النظر عن رجحانه أو عدم رجحانه، وقد تبين لي ذلك من خلال بعض الأمور منها: أنه ينص على رجحان المشهور في مقابل الشاذ، كما أنه ينص على رجحان الشاذ، أو يلمح إليه بدون تصريح.
ولو كان يقصد بالمشهور الراجح؛ لما احتاج إلى الإشارة إلى رجحانه ولما احتاج إلى التنبيه على رجحان الشاذ، ويزكي هذا تنصيصه في بعض الأحيان على شهرة القولين معا، مما يدل على أنه يقصد انتشارهما واشتهارهما بين الناس. لا رجحانهما، إذ يستحيل ذلك، اللَّهم إلا على قول المصوبة، وابن بشير ليس منهم.
وأجلي ما قلت بالأمثلة:
فمن أمثلة تنصيصه على رجحان المشهور قوله في الزروع التي تسقى بالسيح:
"فإن كان يشرب بالسيح لكن رب الأصول لا يملك الماء وإنما يشتريه بالثمن ففيه قولان: والمشهور - وهو الصحيح - أنه يزكي بالعشر، إذ فيه نص الحديث." (2).
__________
(1) كشف النقاب الحاجب ص 62، وتبصرة الحكام 1/ 50.
(2) انظر ص: 919 من هذا الكتاب.

(1/161)


ومن أمثلة ترجيحه للشاذ ما جاء في حديثه عن تخلف السعاة:
"وهل ينظر إلى ما يوجد عند أرباب الماشية فيقدر كأنه ملكوه [في] كل عام؟ أما إن كانت الماشية فيما تقدم أكمل، فلا خلاف أنهم لا يضمِّنون أرباب الأموال وإنما يأخذون عن الأنقص. وأما إن كانت أنقص فكملت فهاهنا قولان: المشهور من المذهب أنهم ينظرون إلى حالة الوجود فيزكون على مقدارها لما تقدم من السنين. والشاذ أنهم يزكون عن كل عام بقدر المملوك فيه، وهذا [هو] القياس، لأن من تخلف عنه السعاة غير متهم" (1).
ومن أمثلة التنصيص على شهرة القولين معاً قوله: "وإن ركع في بيته للفجر ثم أتى المسجد فهاهنا قولان مشهوران: أحدهما: أنه يركع في المسجد ركعتين للأمر بالتحية. والثاني: أنه لا يركع للحديث المتقدم في نفي الركوع بعد الفجر" (2).
بعد هذا بقي سؤال يطرح نفسه بإلحاح، وهو ما هو موقفه من العمل بالراجح في مقابل المشهور؟
الحق أنه لا يمكنني أن أحدد موقفه بدقة من خلال ما بيدي من كتاب التنبيه؛ إذ ربما يتجلى موقفه أكثر في كتابه النوازل المفقود، الذي يكون النظر الفقهي فيه عملياً؛ لأن الجواب فيها يتنزل على مقصود السائل وهو التطبيق في الواقع، أما كتاب التنبيه فقد يكون سلك فيه مسلك التفقه بالرجوع إلى الأقوال المرجوحة والشاذة للنظر فيها من الناحية النقدية والتوجيهية، وهي الطريقة التي يقصد بها تأسيس المذهب من جهة والتمرن على استثمار الأحكام من جهة أخرى.
ولا نستغرب هذا إذا علمنا بأن الشيخ المازري كان لا يفتي إلا بالمشهور بالرغم من بلوغه درجة الاجتهاد.
وعلى هذا النهج سار كثير من الفقهاء، حتى وصل التعصب للمشهور قمته عند إبراهيم بن هلال (ت 903هـ) الذي قال: "لا يجوز لأحد أن يفتي
__________
(1) انظر ص: 910 من هذا الكتاب.
(2) انظر ص: 496 من هذا الكتاب.

(1/162)


إلا بالمشهور ولا يعمل إلا بالمشهور فمن أفتى بغير ذلك لم يعتد به" (1)، وقال: "لأن الحكم بغير المشهور لا يجوز. بل هو فسق وزندقة، قاله العلماء، لأنه من ناحية اتباع الهوى" (2)، ولا يتجه هذا الكلام إلا إذا حمل على أن المقصود به ردع من لا قدرة له على الترجيح من الهجوم على الاختيار بالهوى والتشهي، أما مطلقاً فما أبعده عن الصواب. ولن أجد أفضل من يرد على هذا الكلام، من أحمد بن عبد العزيز الهلالي حفيد الشيخ المذكور، الذي يرى أن ما عليه المحققون؛ هو وجوب العمل بالراجح في مقابل المشهور حيث قال: "إن الراجح نشأت قوته من الدليل نفسه، من غير نظر للقائل، والمشهور، نشأت قوته من القائل. فإن اجتمع في قول سبب الرجحان والشهرة ازداد قوة، وإلا كفى أحدهما. فإن تعارضا؛ بأن كان في المسألة قولان أحدهما: راجح والآخر مشهور، فمقتضى نصوص الفقهاء والأصوليين؛ أن العمل بالراجح واجب." (3).
ففي هذا القدر كفاية، ودلالة واضحة، على أن ابن بشير يعد من رواد المدرسة النقدية وحذاقها في المذهب المالكي. وبما أن الآليات التي وظفها في النقد والتعقيب، هي غالباً نفس الآليات التي وظفها في الاجتهاد. أرى أن ذلك يدعوني للحديث عن اجتهاده في هذا المكان.

...