التنبيه
على مبادئ التوجيه - قسم العبادات المبحث الربع:
الاجتهاد عند ابن بشير:
* المطلب الأول: أنواع الاجتهاد
إن للاجتهاد مراتب ودرجات، أعلاها، الاجتهاد المطلق أو المستقل، والمقصود
به أن يستقل الإنسان بأصوله وفروعه، وهذا النوع افتقد من أوائل
__________
(1) نوازل ابن هلال ص: 478.
(2) المصدر السابق ص: 438.
(3) نور البصر ملزمة 10 ص: 3.
(1/163)
القرن الرابع، ولعل آخر المجتهدين
المستقلين ابن جرير الطبري ت 310هـ إذ لم نسمع بعده عمن استقل بالاجتهاد.
إلا أن جذوة الاجتهاد من حيث العموم لم تتوقف ولن تتوقف إذ لا بدّ أن يوجد
في الأرض من يقوم لله بالحجة.
ولقد ظهر الاجتهاد بعد هذه المرحلة في أنماط وأشكال مختلفة، أهمها التخريج
والاستقراء أو الإجراء، وهي مصطلحات ذات معان متقاربة، يستعملها المجتهد
المقيد الذي التزم النظر في نصوص إمامه، يستنبط منها ويقيس عليها، ويلحق ما
سكت عنه إمامه بما نص عليه. ولقد اختلف علماء المذهب في حكم التخريج ونسبة
القول المخرج إلى الإمام؛ فأجازه عامتهم بشروط منها: مراعاة قواعد الإمام
الخاصة به. وأجازه اللخمي مطلقاً، من غير مراعاة قواعد الإمام بل يخرج على
قواعده وقواعد غيره. ومنعه مطلقاً ابن العربي، وابن عبد السلام، وميارة
الفاسي، وهو ظاهر نقل الباجي (1).
وكيف ما كان الحال، فقد تعاطى له كبار أئمة المذهب بعد مرحلة الاجتهاد
المطلق، استجابة لما أفرزه المجتمع من قضايا ونوازل لا تجيب عنها أقوال
إمام المذهب على كثرتها، فكان من الضروري الالتجاء إلى الاجتهاد لملئ ذلك
الفراغ التشريعي، والإجابة على تلك النوازل والمسائل، فنشطت حركة التخريج
والتفريع ... وقد كان هذا في المرحلة التي تلت مرحلة الأئمة الكبار، أعني
القرن الثالث والرابع. والمرحلة التي جاءت بعد هذه ورث أصحابها عن سابقتها
ثروة فقهية غزيرة، احتاجت إلى من يقوم بتنقيحها وغربلتها وتميز صحيحها من
سقيمها ومشهورها من شاذها، فتفرغ علماء هذه المرحلة لهذا العمل. ولعل هذا
هو السبب الرئيس الذي جعلنا نلاحظ قلة المخرجين في المرحلة التي تلت مرحلة
الظهور والتأسيس، وإن كانت هناك استثناءات وحالات خرجت عن هذا النسق.
كاللخمي والمازري
__________
(1) انظر مواهب الجليل 6/ 94، وكشف النقاب الحاجب 107، وفتح الودود شرح
مراقي السعود 363، وأحكام القرآن لابن العربي 3/ 1212.
(1/164)
وابن بشير، الذين ضاهوا الأوائل في كثرة
تخريجاتهم واستقراءاتهم، والتي جرت عليهم انتقادات ممن جاء بعدهم، وخاصة
اللخمي وابن بشير.
* المطلب الثاني: منزلة ابن بشير الاجتهادية
بعد تدقيق النظر وإمعانه في الإجراءات والتخريجات التي وقفت عليها لهؤلاء
الأئمة، خاصة منهم ابن بشير يمكنني أن أقول بأنه كان مجتهداً منتسباً؛ وهي
منزلة بين الاجتهاد المطلق واجتهاد التخريج، فهو لم يستقل بأصوله بل تمسك
بأصول المالكية في الاستنباط والتوجيه والتخريج، إلا أنه لم ينظر في نصوص
إمام المذهب نظر المجتهد المستقل في نصوص الشارع، بل كان يرى عدم جواز ذلك،
ويستشف هذا من اعتراضه على الباجي حين استقرأ من ألفاظ المدونة؛ اشتراط
الجماعة لخطبة الجمعة وقد مر النص قريباً (1) وقد أوضح ذلك النص بجلاء
موقفه من هذا النوع من التخريج. إلا أن هذا لا يعني أنه كان لا يرى جواز
التخريج على نصوص الإمام بل إن موقفه هذا كان محصوراً في استنباط الأحكام
واستثمارها من نص الإمام. وإنزال نصوصه منزلة ألفاظ المشرع، أما ما عدا ذلك
فإننا نجده يخرج على نصوص الإمام، بمعنى أنه يقيس عليها ويلحق بها نظيرتها.
كما أنه يخرج على نصوص الشارع، وعلى القواعد الأصولية والفقهية، فنتج عن
هذا انفراده ببعض الأقوال وإنشاؤه للخلاف في بعض المسائل.
وهذه أمثلة نصية توضح ذلك:
أولاً: تعامله مع نصوص الشارع مباشرة:
النموذج الأول: قال أثناء حديثه عن حكم المولاة في الوضوء: " ... وسبب
الخلاف بين الوجوب والسقوط مبني على خلاف الأصوليين في الأمر هل يقتضي
الفور أو للمكلف التراخي؛ فإن قلنا إنه يقتضي الفور وجبت
__________
(1) انظر ص: 157.
(1/165)
الموالاة، وإن قلنا إنه يقتضي التراخي لم
تجب. وكذلك أيضًا وضوؤه - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: "هذا وضوء لا يقبل
الله الصلاة إلا به" (1).
يتضح في هذا النص أنه وظف القواعد الأصولية، وطبقها على الحديث مباشرة،
وأجرى حكم ترتيب أفعال الوضوء على حكم موالاة الأفعال، ولم يعتمد على نصوص
المذهب.
النموذج الثاني: قال ابن بشير: "ولا خلاف أن الخطبة إذا اشتملت على حمد
الله تعالى [والثناء عليه] والصلاة على نبيه عليه السلام وشيء من الوعظ ومن
تلاوة القرآن أنها مجزية. ولا يوجد في المذهب نص على اشتراط خطبتين حتى لا
يجوز دونهما. وحكى أبو الحسن اللخمي في ذلك قولين. وهذا لو ساعدته الروايات
لكان له وجه، لأن الرسول عليه السلام خطب خطبتين، فيجري على ما قدمناه من
الالتفات إلى أفعاله. وإن أتى منها بما لا بال له، مثل أن يقول الحمد لله
وشبهَه. فهل يجزي؟ قولان. والرجوع في ذلك إلى لسان العرب، ولا شك أن مثل
هذا المقدار لا يسمى خطبة ... " (2).
يتضح من هذا النص أنه استدل على وجوب الخطبة من فعل الرسول - صلى الله عليه
وسلم - على الرغم من وجود النص في المذهب واحتكم إلى أهل اللسان ولم يحتكم
إلى نصوص المذهب.
ثانياً: تعامله مع القواعد الأصولية والفقهية.
النموذج الأول: قوله: "وفروض الأعيان تجب بالعقل والبلوغ والإسلام ودخول
الوقت. واشتراطنا البلوغ بعد ذكر العقل يجري على خلاف الأصوليين هل يوصف
غير البالغ بالعقل أم لا؟ فإن قلنا إنه موصوف بذلك فيشترط البلوغ. وإن قلنا
إنه غير موصوف بذلك فيكتفى باشتراط العقل. وأما اشتراط الإسلام فيجري على
الخلاف في الكفار هل هم
__________
(1) انظر ص: 267 من هذا الكتاب.
(2) انظر ص: 623 من هذا الكتاب.
(1/166)
مخاطبون بفروع الشريعة أم لا؟ وإن قلنا
إنهم مخاطبون فلا يشترط الإسلام، وإن قلنا إنهم غير مخاطبين فيشترط ... "
(1).
نلاحظ أنه وظف هنا مسألتين أصوليتين وهما هل يوصف غير البالغ بالعقل أم لا؟
وهل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة أم لا؟.
النموذج الثاني قوله: "وإن رجع سهواً فلا تبطل صلاته بلا خلاف فإن رجع
جهلاً يجري على الخلاف في حكم الجاهل هل هو كالناسي أو كالعامد؟ " (2).
نلاحظ أنه وظف في هذه المسألة قاعدة فقهية وهي هل الجاهل كالناسي أو
كالعامد.
النموذج الثالث قوله: "ومنها لو طرأ الخوف ثم انكشف الغيب بعدمه فالمنصوص
من المذهب صحة الصلاة وإسقاط الإعادة. واستحب ابن المواز الإعادة في الوقت؛
وقد يقال: يجري الخلاف في الإعادة في الوقت على الخلاف في الاجتهاد هل يرفع
الخطأ أم لا؟ ولعلٌّ هذا لم يقل به أحد من أهل المذهب" (3).
نلاحظ أنه وظف قاعدة أصولية وهي هل الاجتهاد يرفع الخطأ أم لا؟
وانفرد بقول في المذهب.
ثالثاً: إجراء المسكوت على المنطوق:
النموذج الأول: قال ابن بشير: "وقد قدمنا أن ما لا نفس له سائلة لا ينجس
[بالموت] عندنا، والبرغوث من هذا القبيل. هذا إذا لم يجلب دماً فإن اجتلبه
فقولان: فقيل هو طاهر نظراً إلى أصله، وقيل: نجس نظراً إلى الدم الحاصل
معه. وعلى هذا يجري حكم قتل البرغوث في المسجد" (4).
__________
(1) انظر ص: 375 من هذا الكتاب.
(2) انظر ص: 587 من هذا الكتاب.
(3) انظر ص: 646 من هذا الكتاب.
(4) انظر ص: 502 من هذا الكتاب.
(1/167)
نلاحظ هنا أنه أجرى حكم البرغوث إذا قتل في
المسجد على حكم الميت الذي لا نفس له سائلة.
النموذج الثاني: قال ابن بشير: "وصوم رمضان من معالم الشريعة وأركان
الإسلام. ووجوبه معلوم من دين الأمة ضرورة، ومن يجحد الوجوب فهو كافر
قطعاً؛ فإن أقر بالوجوب وامتنع من الصوم فهل يكون كافرا؟ يجري على ما
قدمناه من الخلاف في المُقر بوجوب الصلاة التارك لها." (1).
نلاحظ أنه أجرى حكم تارك الصيام المقر به على تارك الصلاة المقر بها.
رابعاً: الأجراء على الخلاف.
النموذج الأول: قال ابن بشير:
"وفي المدونة في من صلى وذكر في الصلاة أنه نسي مسح رأسه فلا يجزيه أن يمسح
رأسه بما في لحيته من بلل. وهذا لا شك أنه يقطع الصلاة لأنه صلى بوضوء
ناقص، وإذا قطع فإن كان ليس في لحيته من الماء ما يكفي لمسح رأسه فلا شك
أنه يطلب الماء لذلك، وإن كان فيها من البلل ما يكفي لمسحه فهل يمسح بذلك
أم لا؟ أما إن كان بحضرة ماء فإن لا يمسح بذلك. وأما إن بعد عن الماء فيجري
على الخلاف في الوضوء بالماء المستعمل، وقد تقدم" (2).
نلاحظ هنا أنه أجرى حكم من وجد في لحيته بللاً لا يكفي لمسح كامل رأسه على
الخلاف في الوضوء بالماء المستعمل.
النموذج الثاني: قال ابن بشير: " ... وكذلك يجري الحكم في مسح الرأس في
الوضوء. فإنه أجاز في المدونة أن تمسح على ضفرها.
__________
(1) انظر ص: 696 من هذا الكتاب.
(2) انظر ص: 269 من هذا الكتاب.
(1/168)
وهذا إذا لم يكن عليه حائل يمنع من وصول
الماء إليه؛ فإن كان هناك حائل جرى نقضه وعدم نقضه على الخلاف في وجوب
إيعاب جميع الرأس فقد تقدم".
نلاحظ هنا أنه أجرى حكم مسح الضفائر في الوضوء إذا كان هناك حائل يمنع وصول
الماء، على الخلاف في وجوب إيعاب جميع الرأس.
خامساً: تخريج قول ثالث:
الأمثلة السابقة قد لا يكون فيها نص لأهل المذهب، فيجتهد ابن بشير لإلحاقها
بمثيلاتها، ويخرج لها حكماً، أما هذه فقد وجدت فيها أحكام ونصوص، لكنه رأى
أنه من الممكن أن تجري فيها أحكام أخرى، غير التي نص عليها سابقوه، وهذه
أمثلة توضح ذلك:
النموذج الأول: قال في حديثه عن إمامة العاجز عن القيام إذا كان المقتدون
به عاجزين كعجزه: "وإذا صححنا الإقتداء به فصح بعض المقتدين فما يفعل؟
قولان: قيل يقوم فيتم لنفسه فذًا؛ لأنه افتتح الصلاة بوجه جائز، ولا يصح
إتمامه مقتديًا. والثاني أنهم يتمون معه الصلاة قائمين. وهذا تعويلاً على
صحة الإقتداء به أولاً، ومراعاة لقول من يقول يجوز الإقتداء بالجالس وإن
كان المقتدي به قائماً، ويجري فيه قول ثالث: أنه يقطع الصلاة كالأمة تعتق
في الصلاة وليس عليها ما يستر عورة الحرة." (1).
نلاحظ هنا أنه حكى قولين عن المذهب وزاد قولاً ثالثاً يمكن أن يجري في
المسألة.
النموذج الثاني: قال ابن بشير:
"والستر هل هو من شرط صحة الصلاة، أو هو فرضٌ، من تركه أثم لكنه ليس بشرط
في صحة الصلاة؟ وقد قدمنا القولين في الرجل يصلي بادي الفخذين هل يعيد في
الوقت، أو لا إعادة عليه؟ فأما الإعادة في
__________
(1) انظر ص: 439 من هذا الكتاب.
(1/169)
الوقت فيحتمل أن يكون بناء على أن الفخذين
ليسا بعورة ولكنه يعيد مراعاة للخلاف، أو على أنه عورة لكن يقتصر على
الإعادة في الوقت مراعاة للخلاف. وأما ترك الإعادة فيحتمل أن يكون بناء على
أن الفخذين ليسا بعورة وهو الظاهر أو على أنه عورة، لكنها عورة خفيفة. ولا
شك أنه يجري فيه قول ثالث بوجوب الإعادة وإن خرج الوقت بناء على أنه عورة
على ترك مراعاة الخلاف" (1).
نلاحظ أيضًا أنه ذكر قولين في المسألة ونص على إمكان إجراء قول ثالث فيها.
النموذج الثالث: قال في حديثه عن زكاة المغشوش من الدنانير:
" ... فإن اختلفت الموازين وكانت في بعضها كاملة وفي بعضها ناقصة فالمنصوص
للبغداديين وجوب الزكاة تعويلاً على الكمال. ولا يبعد أن يجري على قولين.
وبين الأصوليين خلاف إذا اجتمع شيئان أحدهما موجب والثاني مسقط هل يغلب
الموجب أو بالعكس؟ " (2).
نلاحظ هنا أنه ذكر قولاً منصوصا للبغداديين ورأى أنه يمكن أن يجري فيه قول
آخر.
النموذج الرابع: قال في حديثه عن العطايا التي تقارن العقد ويقع عليها
النكاح: "فإن انفسخ النكاح فهل تبقى على حكمها الأول من عدم افتقارها إلى
الحوز أو لا تبقى على ذلك؟ فيه قولان للمتأخرين، ويجري فيه قول ثالث بأنها
لا تلزم إذا ظهر أنها إنما أعطيت بقصد صحة النكاح." (3).
نلاحظ أنه ذكر هنا قولين للأشياخ وزاد قولاً ثالثاً.
سادساً: إنشاؤه للخلاف:
ومما يلحق بالأمور السابقة؛ إنشاؤه للخلاف في مسائل لم يختلف
__________
(1) انظر ص: 482 من هذا الكتاب.
(2) انظر ص: 779 من هذا الكتاب.
(3) كتاب النكاح نسخة خاصة.
(1/170)
فيها أهل المذهب، وقد يعبر عن ذلك بأساليب
متعددة، منها قوله: "ينبغي أن يختلف" أو "لا يبعد أن يختلف" أو "فقد يختلف"
أو "فيختلف". أما إذا كان يحكي الخلاف عن علماء المذهب فإنه يستعمل الفعل
الماضي المبني للمجهول اختلف، أو يبنيه للمعلوم وينسبه للمختلفين كقوله:
اختلف الأشياخ أو المتأخرون أو غيرهم.
وقد سبق الحديث عن الخلاف عند ابن بشير، وأنه محصور في الخلاف الصغير أو
النازل. فنكتفي هنا بذكر أمثلة على إنشائه للخلاف.
النموذج الأول: قال فيمن صلى إلى غير القبلة:
"فأما من صلى وهو قادر على التحويل أو التحول فينبغي أن يعيد أبدًا. وأما
من لم يقدر على ذلك لفقد من يحوله؛ فينبغي أن يختلف في إعادته كما اختلف في
[إعادة] المريض يعدم من يناوله الماء، فيتيمم ويصلي ثم يجد من يناوله."
(1).
نلاحظ أنه أجرى المسألة على نظيرتها فرأى أنه يجب أن يختلف فيها كما اختلف
في مثيلاتها.
النموذج الثاني: قال في العاجز عن كل حركات الصلاة ولم يبق له إلا النية:
" ... وقد طال بحثنا عن مقتضى المذهب في هذه المسألة. والذي عولنا عليه في
المذاكرات موافقة مذهب الشافعي مع العجز عن نص يقتضيه في المذهب .... ولا
يبعد أن يختلف المذهب في هذه المسألة وإن وجد فيها نص] " (2).
نلاحظ أنه وإن ركن للمذهب الشافعى فإنه لا يستبعد أن يختلف المذهب لوجود
أسباب الاختلاف.
__________
(1) انظر ص: 427 من هذا الكتاب.
(2) انظر ص: 424 من هذا الكتاب.
(1/171)
النموذج الثالث: قال ابن بشير:
"ولا يجوز أن يصلي وهو يدافع خروج الحدث؛ فإن فعل ففي الكتاب يعيد بعد
الوقت. قال الأشياخ: وهذا على ثلاثة أقسام: أحدها أن يمنع الحدث إتمام
الفروض، وهذا يعيد في الوقت وبعده. والثاني أن يمنعه من إتمام السنن، فهذا
يعيد في الوقت لا بعده. وينبغي أن يختلف في هذا على الخلاف في تارك السنن
[متعمداً] هل يعيد بعد الوقت؟ ... " (1).
نلاحظ هنا أنه ذكر قول الأشياخ، ورأى أن المسألة ينبغي أن يختلف فيها،
طرداً للقواعد وإجراءً لها على مثيلاتها.
بعد هذا أنتقل إلى قضية أخرى وثيقة الارتباط بالاجتهاد أعني التعليل.
المطلب الثالث: التعليل عند ابن بشير:
إن إدراك كنه الشريعة، مرتبط أشد الارتباط بمعرفة مقاصدها وأسرارها وعللها
"فمن لم يتفقه في مقاصد الشريعة فهمها على غير وجهها" (2). "وزلة العالم
أكثر ما تكون عند الغفلة عن اعتبار مقاصد الشريعة" (3).
لقد كان ابن بشير مدركاً لهذه الحقيقة أشد الإدراك. وبذل جهداً في إبراز
علل الأحكام وأسرارها، وألف في ذلك كتاباً مستقلاً سماه: "الأنوار البديعة
إلى أسرار الشريعة" وجعل كتاب التنبيه، مدخلاً لهذا الكتاب (4). فمزج فيه
الأحكام بالعلل حتى أصبح الكتاب يتميز بهذه الميزة قال محمد مخلوف: "ألف
كتاب التنبيه ذكر فيه أسرار الشريعة" (5) ولو أنه ركز على النصوص الشرعية،
بدل الأقوال الفقهية؛ لكان من أوائل المؤسسين لعلم المقاصد لكن يبدو أنه
تأثر بشيخه اللخمي الذي رسم معالم هذا المنهاج (6).
__________
(1) 296.
(2) الاعتصام 2/ 175.
(3) الموافقات: 4/ 170.
(4) انظر مقدمة التنبيه.
(5) شجرة النور ص: 126.
(6) انظر أبو الحسن اللخمي وجهوده في تطوير الاتجاه النقدي ص: 155.
(1/172)
ويمكن تصنيف جهود ابن بشير في هذا المجال،
ضمن المقاصد الجزئية التي تكتفي بذكر مقاصد الأحكام الفرعية، وإن كان من
حين لآخر يتعرض للمقاصد الخاصة والعامة (1).
تجاذب الأحكام بين التعبد المحض ومعقولية
المعنى:
لقد قسم الغزالي الأحكام الشرعية إلى ثلاث أقسام: قسم تعبدي محض لا مدخل
للحظوظ والأغراض فيه، وقسم المقصود منه حظ معقول وليس يقصد منه التعبد.
وقسم مركب يقصد منه الأمران جميعاً وهو حظ العباد وامتحان المكلف
بالاستعباد.
وبغض النظر عن صحة هذا التقسيم أو عدم صحته (2)، فإن ابن بشير سار عليه.
فنجده يتردد أحياناً في إلحاق بعض العبادات بأحد الأقسام، أو يجزم بأنها من
قسم معين. والأمثلة على ذلك كثيرة منها:
أولاً: الأحكام التي اختلف العلماء في كونها معللة أو غير معللة فمن ذلك:
أ- اختلاف العلماء في غسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب هل هو للتعبد المحض أو
لما يمكن أن يكون ولغ فيه من النجاسة أو لأنه مما يستقدر (3).
ب- اختلاف القائلين بغسل جميع الذكر من المذي هل يفتقر إلى نية
__________
(1) المراد بالمقاصد العامة هي المقاصد التي تمت مراعاتها وثبت إرادة
تحقيقها على صعيد الشريعة كلها أو في الغالب الأعم، أما الخاصة فهي
المتعلقة بمجال خاص من مجالات التشريع كمجال الإرث والمعاملات والصيام ...
إلخ. انظر مدخل إلى مقاصد الشريعة ص: 11.
(2) الذي عليه المحققون أن كل ما في الشريعة معلل وله مقصوده ومصلحته، ولكن
عند عجز الفقيه عن إدراك العلة يقول: إن الأمر تعبدي. انظر الفكر المقاصدي
قواعده وفوائده ص 39.
(3) 201.
(1/173)
أم لا؟ وسبب الخلاف هل غسل جميعه تعبد
فيفتقر إلى النية أو غسله لتتقطع مادة المذي فلا يفتقر إلى نية؟ (1).
ج- الاختلاف في طلاق غير المدخول بها. هل يجوز في الحيض إذ لا عدة يخاف
تطويلها أو لا يجوز لأن ذلك غير معلل (2).
د- وقال في أنصبة الزكاة: "وقد تصرفت الشريعة في هذه النصب تصرفاً مناسبًا
يعقل معناه وإن كان فيه شوب التعبد على التفصيل" (3) ثم راح يذكر بعض الحكم
والأسرار.
فهذه نماذج من الأحكام تردد الفقهاء في إلحاقها بأحد الجانبين؛ جانب
الأحكام المعللة أو جانب الأحكام التعبدية.
وأما ما جزم بأنه تعبد محض فهو قليل، منه قوله:
"وهل يفتقر النضح إلى نية؟ للمتأخرين قولان: أحدهما وجوب النية لأنه تعبد،
والثاني إسقاطها. قال ابن محرز؛ لأنه لا يخلو أن يكون أصابه شيء أم لا؟ فإن
أصابه فلا يفتقر إلى نية، وإن لم يصبه فلا شيء عليه. وهذا الذي قاله هو
القياس، لولا أن النضح تعبد والتعبد يفتقر إلى نية" (4).
أما ما عقل معناه فهو كثير منه ما حكاه عن غيره وأقره ومثاله: ما حكاه عن
أبي المعالي في المقصد من الصوم فقال: " ... المقصود بالصوم في الشريعة
وجهان: أحدهما: كسر الشهوتين؛ شهوة البطن والفرج، فإنهما إذا أرسلا على
شهواتهما ولم تعود النفوس كسرها دعتا إلى الوقوع في المحظور. وإذا تعوَّد
الإنسان إمساكهما عن المباح وأخذ نفسه بذلك قدر على إمساكهما عن الممنوع.
فكأن الصوم في الشريعة إمساك عن مباح
__________
(1) 218.
(2) كتاب الطلاق نسخة خاصة.
(3) انظر ص: 872 من هذا الكتاب.
(4) انظر ص: 280 من هذا الكتاب.
(1/174)
ليكون حمى للممنوع، وعليه نبه - صلى الله
عليه وسلم -: "أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلاَ وَإِنَّ حِمَى
اللهِ مَحَارِمُهُ". والوجه الثاني: أن المقصود أيضًا كسر الشهوتين. لكن
ليس للاعتياد، بل يحصل من نفس الكسر قمع النفس عن شهواتها ومنعها من
الاسترسال على لذاتها. وإليه الإشارة بقوله - صلى الله عليه وسلم -:
"الصَّوْمُ جُنَّةٌ"" (1).
ومنه ما حكاه عن المحققين في علة إدراك الصلاة بركعة واحدة قبل خروج الوقت.
فقال:
"قال المحققون في الانتصار للمشهور إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
إنما جعل مُدْرَكَ الصلاة قبل الطلوع أو قبل الغروب بالركعة؛ لأن الركعة
صلاة كاملة؛ فيها تكبير وقيام وقراءة وركوع وسجود، وهذه جملة أحكام الصلاة.
ثم الركعات بعدها تكرير لهذه الأفعال من غير زيادة، وإنما تكررت لحصول
تأثيرها في النفس وهي في معنى الأول قطعاً، فالمدرك للركعة حصلت له جملة
الصلاة في الوقت" (2).
ومنه ما نقله عن غيره وانتقده وله عدة أمثلة منها:
أ- قال في الزرع الذي يسقى بالسيح، لكن رب الأصول لا يملك الماء وإنما
يشتريه: "ومن أوجب هاهنا نصف العشر فإنما يعول على الالتفات إلى المعنى،
وأن مقصود الحديث أن ما فيه كلفة ففيه نصف العشر، وما لا كلفة فيه ففيه
العشر [كاملاً]، وهذا ظاهر [ما لم] يصادم النص؛ فإن الرسول - صلى الله عليه
وسلم - جعل فيما يشرب بالعيون [أو بالبعل] العشر، وفيما سقي بالنضح نصف
العشر، فينبغي أن ينظر إلى المعنى لكن من غير أن يعود التعليل بمصادمة
النص، وقد قال المحققون: إن كل علَّة تعود على النص بالإبطال فهي باطلة"
(3).
ب- قال في علة كراهية اتخاذ الأعرابي إماما: "وأبو الوليد الباجي
__________
(1) انظر ص: 698 من هذا الكتاب.
(2) انظر ص: 468 من هذا الكتاب.
(3) انظر ص: 920 من هذا الكتاب.
(1/175)
يرى أن العلة في الكراهية كالعلة في كراهة
العبد، هو مداومته على ترك بعض الفروض كالجمعة، وإكمال الصلاة لكثرة
أسفاره. وابن حبيب وغيره من أهل المذهب يعللون لجهله بالسنن. ولو صح ما
قالوه لمنعت إمامته، لأنه إذا جهل أحكام الصلاة كان الإتمام به معرضًا
للبطلان" (1).
ج - قال في علة طهارة بول الصبي ونجاسة بول الصبية: "وقد علل هذا المذهب
بأن الذكر خلق من تراب والأنثى من ضلع، فإذا لم يأكلا الطعام رُدَّا إلى
أصلهما، فالتراب طاهر والضلع نجس. وهذا ليس بشيء لأنه يقتضي الحكم بطهارة
الرجيع وأجمعت الأمة على نجاسته. وإنما الخلاف في البول. وأيضاً فإن
المخلوق من تراب ومن ضلع هما أصل الخلقة، آدم وحواء. وأما من بعدهما فهو
مخلوق من نطفة" (2).
أما ما لم ينسبه لغيره فهو كثير منه:
أ- قال في وجوب جمع الذهب والفضة في تكميل النصاب، لاتحاد مقاصدهما: "ولما
كان النقدان متفقين في حال المقاصد، وأنهما ثمن للمبيعات وقيم المتلفات،
وهذا هو المقصد الأول [بهما]، ولا يختلفان إلا من باب كثرة القيمة وقلتها
وجب عندنا أن يجمعا في الزكاة فيكمل النصاب من أحدهما بالآخر" (3).
ب- قال في علة كراهية الصلاة بين الأساطين: "والصلاة بين الأساطين مكروهة،
إلا أن يضيق المسجد. واختلف في علة الكراهية فقيل: أنها محل الشياطين
والنجاسات، إذ كانوا يلقون هناك نعالهم، وقيل إنما كرهت لتقطيع الصفوف، ولا
تفسد الصلاة على هذا التعليل. وإن عللنا بنجاسة الموضع تفسد الصلاة" (4).
__________
(1) انظر ص: 447 من هذا الكتاب.
(2) انظر ص: 288 من هذا الكتاب.
(3) انظر ص: 781 من هذا الكتاب.
(4) انظر ص: 507 من هذا الكتاب.
(1/176)
ج- قال في العلة في امتناع أهل الفضل عن
الصلاة، على مظهري الكبائر: "فينبغي لأهل الفضل أن يجتنبوا الصلاة على
مظهري الكبائر ليرتدع بذلك أمثالهم" (1).
د- قال في العلة من منع إعطاء آل البيت من الصدقة: "فالمنع لقوله - صلى
الله عليه وسلم - للحسين رضي الله عنه وقد أخذ تمرة من تمر الصدقة: أما
علمت أن الصدقة لا تحل لآل محمد. ومن حمل ذلك على عمومه؛ منع في التطوع
والواجبة، ومن قصره على الغالب من كونه من الصدقة الواجبة، قصره على الواجب
دون التطوع. ويدل عليه تعليله - صلى الله عليه وسلم - للمنع لأنها أوساخ
الناس. وأما الجواز مطلقاً فمعلل بأنهم إنما منعوا منها لما كانت الأرزاق
الواجبة لهم جارية عليهم، والآن انقطعت فحلت لهم الصدقة. وأما التفرقة في
إجازة الواجبة دون التطوع فإن الواجبة لا مِنَّة فيها بخلاف التطوع، فجاز
لهم أخذ ما لا منة فيه" (2).
* المطلب الرابع: ابن بشير والأصول:
إن كل من أراد أن يسلك مسلك الاجتهاد، لا مناص له من التحقق والتمكن من
الأصول، وابن بشير حامل لواء الاستقلال بالاجتهاد والترفع عن أهل التقليد،
كان واحداً ممن استجمعوا شرائط هذا العلم وسلكوا سبيله. بل عبدوه ومهدوه
لغيرهم. فهو كثير الاعتماد على القواعد الأصولية في كتابه التنبيه، وقد
وظفها توظيفًا رائعاً محكمًا، فمزج الفروع بالأصول وبين مناهج العلماء في
استنباط الأحكام، وتوسع في ذلك توسعا بينا لا تخطئه العين. حتى أصبح ذلك
سمة بارزة فيه.
ولعل ما ساعده على ذلك اهتمامه بهذا العلم، وإفراده بالتأليف (3) في
__________
(1) انظر ص: 668 من هذا الكتاب.
(2) انظر ص: 856 من هذا الكتاب.
(3) فقد ألّف كتابًا سماه شرح اللمع الشيرازية. وقد سبق الحديث عنه.
(1/177)
وقت اتهم فيه المغاربة بالتقصير في علم
الأصول والعزوف عنه وقلة بضاعتهم فيه (1).
ومن كثرة استعماله للقواعد الأصولية واعتماده عليها، أصبح محط انتقاد بعض
العلماء. قال ابن فرحون: "وكان رحمه الله يستنبط أحكام الفروع من قواعد
أصول الفقه. وعلى هذا مشى في التنبيه. وهي طريقة نبه ابن دقيق العيد على
أنها غير مخلصة، إذ الفروع لا يطرد تخريجها على القواعد الأصولية" (2). وقد
سبق الحديث عن هذه القضية، فلا داعيًا لتكراره (3).
ومهما يكن من أمر فإن الدارس أو المتفقه، يجد متعة في التعامل مع القواعد
الأصولية وربطها بالفروع الفقهية. فهي الوسيلة المثلى لتنمية الملكة
والمساعدة على استنباط الأحكام واستثمارها.
ولتجلية الموضوع أكثر يستحسن ذكر بعض القواعد الأصولية التي احتج بها ابن
بشير أو رد إليها اختلاف الفقهاء.
فمن ذلك قوله:
هل الأمر يدل على الوجوب أو الندب؟ (4) هل القضاء يفتقر إلى أمر ثان؟ (5)
هل الأمر يقتضي الفور أم التراخي؟ (6). هل الأوامر تتعلق بوقت الكراهة؟ (7)
هل يقتدى بأفعاله كلها؟ (8) هل الأمر بالشيء نهي عن
__________
(1) لقد أطلق هذه التهمة ابن رشد الحفيد في كتابه: فصل المقال ص 27 وتبعه
المقري في نفح الطيب 1/ 22، وقد فند هذا الادعاء الدكتور محمد الجيدي في
كتابه محاضرات في تاريخ المذهب المالكي ص 72.
(2) الديباج 87.
(3) انظر ص: 102 من هذا الكتاب.
(4) انظر ص: 240 من هذا الكتاب.
(5) انظر ص: 660 من هذا الكتاب.
(6) انظر ص: 267 من هذا الكتاب.
(7) انظر ص: 377 من هذا الكتاب.
(8) انظر ص: 558 من هذا الكتاب.
(1/178)
ضده؟ (1) هل تحمل الأسماء على الأوائل أم
الأواخر؟ (2) هل العطف يفيد التشريك؟ (3) هل الجمع يفيد التشريك؟ (4) هل
إلى للانتهاء أم للغاية؟ (5) هل يخصص العام بالعادة؟ (6) هل العام الوارد
على سبب يتعداه أم لا؟ (7) هل النفي يقتضي الإجمال؟ (8) هل يرد المطلق إلى
المقيد؟ (9) هل يعمل بدليل الخطاب؟ (10) هل يعمل بلحن الخطاب؟ (11) ما
المقدم إذا اجتمع موجب ومسقط؟ (12) إذا قال الصحابي شيئاً ولم ينكر عليه هل
يعد إجماعا؟ (13) إذا قال الصحابي شيئاً من السنَّة كذا هل يضاف إلى النبي
- صلى الله عليه وسلم -؟ (14) زيادة العدل هل تقبل أم لا؟ (15) هل الكفار
مخاطبون بفروع الشريعة؟ (16) هل يكلف غير المطبق؟ (17) ما العمل إذا تعارض
استصحابان؟ (18) هل يقاس على الرخص؟ (19) هل يعول على قياس الشبه (20) ما
حقيقة قياس العكس (21) هل
__________
(1) انظر ص: 663 من هذا الكتاب.
(2) انظر ص: 259 من هذا الكتاب.
(3) انظر ص: 251 من هذا الكتاب.
(4) انظر ص: 651 من هذا الكتاب.
(5) انظر ص: 284 من هذا الكتاب.
(6) انظر ص: 241 من هذا الكتاب.
(7) انظر ص: 317 من هذا الكتاب.
(8) انظر ص:408 من هذا الكتاب.
(9) انظر ص: 234 من هذا الكتاب.
(10) انظر ص: 346 من هذا الكتاب.
(11) انظر ص: 726 من هذا الكتاب.
(12) انظر ص: 779 من هذا الكتاب.
(13) انظر ص: 512 من هذا الكتاب.
(14) انظر ص: 673 من هذا الكتاب.
(15) انظر ص: 333 من هذا الكتاب.
(16) انظر ص: 293 من هذا الكتاب.
(17) انظر ص: 320 من هذا الكتاب.
(18) انظر ص: 703 من هذا الكتاب.
(19) انظر ص: 254 من هذا الكتاب.
(20) انظر ص: 706 من هذا الكتاب.
(21) انظر ص: 706 من هذا الكتاب.
(1/179)
يقدم القياس على خبر الآحاد؟ (1) هل ترتفع
العلة بارتفاع حكمها أم لا؟ (2) هل يجب النسخ بالبلوغ أو بالنزول؟ (3) هل
كل مجتهد مصيب أم لا؟ (4) إلى غير ذلك ...
هذا العدد الكبير من القواعد الأصولية المنثورة في الكتاب، تضفي عليه قيمة
علمية خاصة، وتحقق أهداف مؤلفه منه وهي التمرس على الاجتهاد والارتفاع عن
التقليد.
* المطلب الخامس: ابن بشير والقواعد الفقهية:
إذا كان الفقه هو ثمرة العلوم الشرعية، فإن القواعد الفقهية هي ثمرة الفقه
وزبدته، فيها تبلورت العقلية الفقهية الإسلامية الناضجة، القادرة على
التجميع والتأصيل للمسائل الفقهية المتكاثرة (5). وقد ظهر علم القواعد
الفقهية كمادة مستقلة في القرن الرابع الهجري، وذلك بعد اختمار ونضج المادة
الفقهية، فانكب أصحاب كل مذهب على دراسة فروع مذهبهم، ووضع الضوابط
والقواعد له وضم المسائل المتشابهة إلى نظائرها، وجمع كل قضية مع شبيهتها.
وهذا كله من أجل تكوين الملكة الفقهية، واكتساب القدرة على التخريج
والتفريع وتيسير ضبط الفقه واستحضار جزئياته. وقد ألف عدد من الفقهاء كتباً
مستقلة في هذا الميدان.
وبالنسبة لابن بشير فإننا لا نسنطيع أن نثبت له كتاباً مستقلاً في هذا
الفن، ولا أن ننفيه عنه، نظراً للإهمال الشديد الذي تعرض له تراثه، نعم
نستطيع أن نجزم له بكتاب في الأشباه والنظائر وقد سبقت الإشارة إلى
__________
(1) انظر ص: 577 من هذا الكتاب.
(2) انظر ص: 503 من هذا الكتاب.
(3) انظر ص: 483 من هذا الكتاب.
(4) انظر ص: 355 من هذا الكتاب.
(5) قواعد الفقه الإسلامي من خلال كتاب الإشراف ص:103.
(1/180)
ذلك، ومعلوم أن هناك فرقا بين القواعد
الفقهية والأشباه والنظائر: إذ الأولى عبارة عن أصول فقهية كلية في نصوص
موجزة دستورية تضم أحكاماً تشريعية عامة، في الحوادث التي تدخل تحت
موضوعها، وتصاغ بعبارة موجزة ومحكمة (1)، وتلحق بها القواعد الفقهية التي
تشمل جزئيات وفروع تندرج في باب واحد أو جزء من باب (2). أما الأشباه
والنظائر، فليست كذلك. إذ يقصد بها المسائل التي يشبه بعضها بعضا مع اختلاف
في الحكم لأمور خفية (3) ...
ومهما يكن من أمر فإن ابن بشير ضمن كتابه التنبيه على مبادئ التوجيه مادة
علمية غزيرة في مجال القواعد الفقهية لو استخرجت منه لكانت كتاباً ضخما
(4).
ومعظم القواعد التي وظفها ابن بشير في كتابه هي قواعد وأحكام كلية خلافية،
كانت مثار نقاش وجدال بين الفقهاء ونتج عن الخلاف فيها خلاف في فروع أخص
منها. ولعل لهذا ما يبرره، إذ الكتاب قصد به حكاية الخلاف داخل المذهب،
فناسب هذا التعامل مع هذا النوع من القواعد الفقهية.
وأرى من المفيد ذكر بعض القواعد التي تعامل معها ابن بشير في كتابه. فمنها
على سبيل المثال:
"من ملك أن يملك هل يعد مالكاً؟ " (5) "هل تراعى الطوارئ أم لا؟ " (6)
"الأتباع هل تعطى حكم نفسها أو حكم متبوعاتها؟ " (7) "هل يكون
__________
(1) انظر المدخل الفقهي العام: 2/ 947.
(2) انظر قواعد الفقه الإسلامي من خلال كتاب الإشراف. ص: 112.
(3) انظر القواعد الفقهية للندوي ص: 63.
(4) بل هناك قواعد يعز أن توجد في أمهات الكتب غيره، وقد أكد ذلك القرافي
عندما قال: قواعد كثيرة جدًا عند أئمة الفتوى والفقهاء لا توجد في أصول كتب
الفقه أصلاً. الفروق 2/ 110.
(5) انظر ص: 810 من هذا الكتاب.
(6) انظر ص: 811 من هذا الكتاب.
(7) انظر ص: 780 من هذا الكتاب.
(1/181)
النظر إلى الحال أو إلى المآل" (1) "هل
المساكين كالشركاء بمضي الحول، أو ليس كالشركاء؟ " (2) "المترقبات هل تعد
حاصلة من يوم ترقبها أو من يوم حصولها؟ " (3) "إمكان الأداء هل هو شرط في
الوجوب أم لا؟ " (4) "هل يعطى الحكم للنية أو للموجود؟ " (5) "هل تتعين
الأضحية بالشراء أو بالنية؟ " (6) "من ملك ظاهر الأرض هل يملك باطنها أم
لا؟ " (7) "مجيء السعاة هل هو شرط في الوجوب أو في الأداء" (8) "هل كل جزء
من الصلاة عبادة قائمة بنفسها أو يقال صحة أوائلها موقوف على صحة أواخرها؟
" (9) "هل يعلق الحكم على الصور النادرة أم لا؟ " (10).
هذه جملة من الأمثلة على القواعد الفقهية التي تعامل معها ابن بشير في
كتابه، ووظفها فيه، ولعل الحديث عن طريقة استثماره لها ومنهج استدلاله بها
في الخلاف يقتضي بحثاً مستقلاً فلنكتفي بما ذكرنا.
* المطلب السادس: مصادر ابن بشير في الكتاب:
إذا كان بعض العلماء يميلون إلى التكتم على مصادرهم، وعدم البوح بها، كابن
رشد الحفيد في بداية المجتهد ونهاية المقتصد، وابن خلدون في المقدمة
وغيرهم، فإن ابن بشير كان واضحاً في هذه المسألة، كاشفاً عن مصادره ومبيناً
لها في الغالب الأعم.
__________
(1) انظر ص: 853 من هذا الكتاب.
(2) انظر ص: 783 من هذا الكتاب.
(3) انظر ص: 791 من هذا الكتاب.
(4) انظر ص: 795 من هذا الكتاب.
(5) انظر ص: 805 من هذا الكتاب.
(6) انظر ص: 837 من هذا الكتاب.
(7) انظر ص: 859 من هذا الكتاب.
(8) انظر ص: 912 من هذا الكتاب.
(9) انظر ص: 483 من هذا الكتاب.
(10) انظر ص: 628 من هذا الكتاب.
(1/182)
ويمكن تقسيم مصادره إلى ثلاثة أقسام: مصادر
صرح بأسمائها، ومصادر لم يصرح بها وإنما صرح بمؤلفيها (1)، ومصادر أبهمها.
فبالنسبة للمصادر التي صرح بها أو صرح بمؤلفيه، أول ما نذكر منها:
1 - المدونة؛ المصدر الذي يعتبر محور الكتاب وأساسه، وقد يعبر عنه أحياناً
بالكتاب وأحيانًا أخرى بالمدونة؛ ولعل هذا من تصرف النساخ، وإن كان هناك
احتمالاً بأن يقصد بالكتاب تهذيب البراذعي، لأنه بعد ظهوره أصبح البعض يطلق
عليه مصطلح الكتاب، وعلى المدونة مصطلح الأم، ولكن هذا بعيد لسببين:
أولهما: أن مصطلح الأم لم أقف عليه في كتاب التنبيه، ثانيهما: أنه من خلال
تتبعي للنصوص التي نسبها للمدونة أو الكتاب وجدتها كلها في المدونة. فتبين
لي أن المصطلحين لمسمى واحد.
وبما أن المدونة كانت مصدراً رئيساً عند ابن بشير، بل هي محور كتاب التنبيه
وقطب رحاه، حتى عد شرحاً لها، أرى أن ذلك يدعوني للحديث عن موقفه منها.
موقفه من المدونة:
من المعلوم أن ابن بشير ينتمي إلى المدرسة القيروانية، التي توسم بأنها
أثرية تركز على نصوص المدونة، وتدارسها وتناقشها، وتخرج عليها، يقول أبو
العباس المقري: "أما الاصطلاح القروي، فهو البحث عن ألفاظ الكتاب، وتحقيق
ما احتوت عليه بواطن الأبواب وتصحيح الروايات، وبيان وجوه الاحتمالات،
والتنبيه على ما في الكلام من اضطراب الجواب واختلاف المقالات مع ما انضاف
إلى ذلك من تتبع الآثار، وترتيب أساليب الأخبار، وضبط الحروف على حسب ما
وقع في السماع، وافق ذلك عوامل الإعراب أو خالفها" (2).
__________
(1) بالنسبة للمصادرة التي صرح بمؤلفيها فإني سأذكر أهم كتب أولئك المؤلفين
الفقهية على اعتبار أنها هي التي يمكن أن يعتمد عليها.
(2) أزهار الرياض 3/ 22.
(1/183)
فإذا هو منهج أشد التصاقاً واحتكاكاً
بالمدونة من غيره من المدارس المالكية (1). والكتاب الذي بين أيدينا ناطق
بذلك، فبالإضافة إلى أنه حريص على محاذاتها في الشكل والترتيب والتخريج
عليها والتنبيه على ما ليس فيها، فإنه كذلك حريص على تتبع ألفاظها، وضبط
حروفها وتصحيح رواياتها. وأسوق مثالين يوضحان ذلك:
الأول: قوله: "وفي المدونة في خشاش الأرض أنه لا ينجس ما مات فيه [من
الماء]. وإن وقع في قدر فيها طعام أكل ما فيها.
وذكر عن أبي عمران أنه قال سقط من المدونة: "لا"، وإنما الأصل أنه لا يؤكل
ما فيها لأنه لا ينجس الماء في الاستعمال، ويُمنع شربه وأكل الطعام لعلة
أنه لا يؤكل إلا بذكاة.
وهذا الذي قاله صحيح على أصل المذهب لكنه بعيد أن يقال سقطت لفظة "لا" من
جميع الكتب وأغفلها الرواة" (2).
والثاني: قوله: "وفي المدونة: لا بأس بالخبز من سؤر الفأرة. ويروى بضم
الخاء وبفتحها، ومعنى الضم نفس الخبز إذا أكلت منه ... ومعنى الفتح في
الخَبْز أنها إذا شربت من ماء فيجوز أن يعجن به، وصوب بعض الأشياخ هذه
الرواية ... " (3).
وعلى الرغم من هذا كله، فإنه لم يصل به اهتمامه بالمدونة واعتماده
عليها وإعجابه بها إلى درجة التحفظ في انتقادها، والتهيب من التنبيه على
أخطائها. بل بقدر ما هو معجب بها، ومتمسك بها، بقدر ما ينتقدها حيث
__________
(1) كمدرسة العراق مثلاً التي تأثرت بمحيطها العلمي فجاء منهجها قياسياً
جدليًا على نحو واضح، يقول المقري: فأهل العراق جعلوا في مصطلحهم مسائل
المدونة كالأساس وبنوْا عليها فصول المذهب بالأدلة والقياس، ولم يعرجوا على
الكتاب بتصحيح الروايات ومناقشة الألفاظ، ودأبهم القصد إلى إفراد المسائل
وتحرير الدلائل على رسم الجدليين وأهل النظر من الأصوليين، انظر المصدر
السابق.
(2) انظر ص: 230 من هذا الكتاب.
(3) انظر ص: 237 من هذا الكتاب.
(1/184)
تدعو الضرورة لذلك اتباعاً للصواب إذا ظهر
واستمساكًا بقوانين النظر الفقهي الذي يدور مع الدليل حيث دار، وأثبت هنا
نصا من التنبيه بالغاً في الدلالة على هذا المعنى.
قال ابن بشير: "والذي سمعناه في المذاكرات؛ أن هذه المسائل كلها ضعاف، وقد
خالفه كثير من أصحابه في مثل هذه المسائل، وإن كانوا رواتها لما يرون من
ضعفها. فروى أشهب عن مالك أنه قال: أكره حفر بيوت الجاهلية، وقبورهم للطلب
فيها. وقال: أشهب بل يجوز حفر قبورهم، وفتشهم وأخذ سلبهم، وليست حرمتهم
موتى أعظم من حرمتهم أحياء.
وقد قال مالك في الذي يحلف بطلاق كل امرأة يتزوجها، إلى ثلاثين سنة، ثم
يخاف العنت: يجوز له أن يتزوج. قال ابن نافع: إن تزوج طلقت عليه. وبه قال
ابن الماجشون. وقال: لست آخذ فيها بقول مالك، فإن له أن يتسرى، وهو لو خص
بلدا أو قبيلة لزمه. وكذلك إذا خص زمانًا يبلغه غيره.
وقال مالك: من باع امرأته، طلقت عليه البتة. وقال ابن وهب: لا تطلق عليه،
ولكنها إن طاوعته على البيع وهي رشيدة. وأقرت أن مشتريها وطئها طائعة رجمت،
وإن ادعت الإكراه صدقت. وقال ابن القاسم وابن نافع: تطلق طلاق الخلع. وقال
أصبغ بن الفرج: إن باعها من أهلها فهي طلقة خلع، وإن باعها من غيرهم، فهي
ثلاث تطليقات.
وقال مالك: من قال لرجل أو امرأة، دلني على من يشتري مني جاريتي ولك كذا.
فيدله فإنه يلزمه ما سمى له. وان قال دلني على امرأة اتزوجها ولك كذا وكذا
بذلك. قال لا شيء له، لأن النكاح لا بيع فيه، ولا إكراه. وبه قال ابن
القاسم. وقال سحنون: لا أقول به، بل يلزمه، لأن المؤمنون عند شروطهم.
وقال مالك في رجل يكون له على رجل دينار قرضًا، فيأخذ منه سدس دينار، أو
يأخذ منه عند الأجل به درهم؛ إن ذلك جائز. وكذلك إن
(1/185)
أخذ بنصفه أو ثلث غرضًا جاز. فإن أخذ بما
بقي من الدينار درهما؛ فلا خير فيه. قال أرى أنه يصير ذهبا وورقًا بذهب
وعرضًا بذهب.
قال أشهب: بل يجوز أن يأخذ باقيه ذهباً، فإنه بعض ديناره، فإنه قد كان بقي
له من الجزء، وأخذه إذا لم يكن ذلك بالشرط عند التبايع. وكذلك في أخذ العوض
بالجزء، والدراهم بجزء أخر، فإن ذلك لم يكن في صفقة واحدة، ولكن في عقد
الأول مشروط.
قال مالك: أكره أن يكون ولد الزنا إمامًا راتبًا، وقال ابن نافع: لا أرى به
بأسًا ولا أدري، فإن الله تعالى قال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ
أَتْقَاكُمْ}.
قال مالك: من سرق من بيت مال المسلمين، تقطع يده، وإن كان له فيها سهم.
وقال عبد الملك: لا تقطع عليه حتى يسرق فوق سهمه بربع دينار. وقال سحنون:
الحق ما قال عبد الملك، إذا كان زيادة ربع دينار على حظه من ذلك المسروق
منه.
وقال مالك: من خلع امرأته على أنها متى ما طلبت الذي أعطته، فهي امرأته كما
كانت، فطلبت ذلك فرده إليها، وراجعها ثم أصابها. قال: يفرق بينهما ولا
يتناكحان أبدًا؛ لأنه نكحها في عدتها منه. رواه أشهب عن مالك. قال محمد بن
المواز: سألت عنها غير واحد من أصحاب مالك، وكلهم يقول لا نأخذ به، ولا
يحرم عليه التأبيد.
وقال مالك: في الرجل يبتاع عشر نخلات، يختارها من حائط البائع، فذلك جائز.
قال ابن القاسم: ما رأيت أحداً من أهل المعرفة يعجبه قول مالك ولا يعجبني.
ولقد وافقته فيها نحوًا من أربعين ليلة.
وقال مالك: أرى أن يقسم البيت الصغير وإن لم يقع لأحدهم ما ينتفع به. وكذلك
الأرض القليلة. والدكان الصغيرة والحمام، وكل شيء. لقوله تعالى: {مِمَّا
قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ} قال بن القاسم: وأنا لا أرى ما لم ينقسم إلا
بضرر من ارض، أو دار، أو حمام، لم ينقسم. إلا بحيث أن يظهر لكل واحد منهم
ما ينتفع به على طريق الاستقلال، فيقسم، وإلا فلا.
(1/186)
ثم قال: وهذا قول جميع الرواة من أصحاب
مالك إلى غير ذلك مما يكثر تتبعه.
فلا تعتقد أن كل ما في المدونة صحيح، وإن في حديث النبي - صلى الله عليه
وسلم -، صحيح وسقيم، وقد حان أن نرجع إلى الكتاب" (1). انتهى.
وقد أثبت هذا النص على طوله، لأهميته ونفاسته. فهو يوضح بجلاء تحرر
المالكية وتمسكهم بالآراء الراجحة ومخالفة الآراء المرجوحة، ولو كانت هي
آراء الإمام نفسه.
2 - الموطأ؛ لقد اعتمد ابن بشير الموطأ، ولكن ليس كاعتماده المدونة، إذ
إشاراته إليه ونقوله عنه قليلة جداً إذا ما قورنت بالمدونة، ورغم هذا فإنه
كان ينظر إليه نظرة إجلال وإكبار ويرى أنه كتاب علم ألف للعلماء. قال في
كتاب المرابحة: "هذه مسألة من مسائل الموطأ قد قرأها سحنون، وكان يقول ما
في الموطأ هو أصل علم المدنيين وكثير من أهل العلم أصله في الموطأ، إلا أنه
ليس بتفسير يعلمه الجاهل، وإنما هو كلام مجموع من اختيار العلماء ممن قد
تبصر في العلم. قال سحنون سمعت ابن القاسم يقول ما قرأت الموطأ قط إلا
ازددت فيه علما ومعرفة، وهو أول ما سبق من العلم إلى أهل إفريقية، وكانوا
يقرؤونه ولا يعرفون معناه، فكان بعض من كان بها من العلماء، إذا قرأه، ولم
يفهم ما فيه، من الفقه والضوابط التي فيه من أصول العلم، يقول: ما أدري
ماذا فيه من العلم، حتى قدم علي بن زياد من تونس إلى القيروان، فرووه عنه،
وسألوه عن معانيه، فأخذ يشرح لهم معانيه، ويفسر لهم وجوهه، حتى استبان لهم
ذلك الذي فيه".
هكذا كان ابن بشير ينظر إلى هذا الكتاب القيم، وقد خصصته مع المدونة بهذه
الكلمة، لما يتمتعان به من مكانة متميزة في الفقه الإسلامي. أما باقي
المصادر فإني سأكتفي بالإلماع إليها، إذ المقام لا يسمح بغير ذلك.
__________
(1) باب الحكرة وأحكامها وما يجب على الحاكر.
(1/187)
3 - كتب عبد الله بن وهب (ت) 197 هـ، وهي
عبارة عن سماعاته من مالك والجامع الكبير.
4 - كتب عبد الملك بن الماجشون، ت 212هـ، وهي عبارة عن سماعاته وكتاب في
الفقه يرويه عنه يحيى بن حماد السجلماسي.
5 - كتب أصبغ بن الفرج، ت 225هـ، وهي سماعه من ابن القاسم وكتاب آداب
الصائم وكتاب المزارعة.
6 - الواضحة لعبد الملك بن حبيب، ت 238هـ، وهي كتاب في الفقه والسنن اقتفى
فيه منهج الإمام مالك في الجمع بين الأصول والفروع.
7 - المستخرجة لمحمد بن عبد العزيز العتبي (ت) 254 هـ ويسميها البعض
العتبية نسبة إليه ويسميها البعض الآخر المستخرجة لأنه استخرجها من الأسمعة
التي رويت عن الإمام مالك بواسطة تلاميذه.
8 - كتب محمد بن سحنون، ت 256هـ، وأهمها كتابه الكبير المعروف بالجامع.
9 - المجموعة لمحمد بن عبدوس، ت 261هـ، وكتابه هذا يعد من أجل كتب المالكية
لولا أن المنية عاجلته قبل إتمامه.
10 - كتب محمد بن عبد الحكم، ت 268هـ.
11 - الموازية أو كتاب محمد لمحمد بن إبراهيم بن المواز، ت 269هـ، يعد هذا
الكتاب من أجل كتب المالكية قصد به صاحبه بناء فروع المذهب على أصوله.
12 - المبسوط في الفقه للقاضي أبي إسحاق إسماعيل، (ت) 282هـ.
13 - كتب ابن اللباد أبي بكر محمد بن وشاح، ت 333هـ وهي كتاب الطهارة
والآثار والفوائد.
14 - كتب أبي إسحاق محمد بن شعبان القرطبي، (ت) 355هـ، وهي: كتاب الزاهي
الشعباني في الفقه، ومختصر ما ليس في المختصر.
(1/188)
15 - كتب أبي بكر محمد عبد الله بن محمد
صالح الأبهري الكبير، (ت) 375 هـ ومن أهمها شرحه على مختصر ابن عبد الحكم،
وهو من الكتب المعتمدة عند المالكية.
16 - كتب ابن خويز منداد أبي عبد الله البصري، وهي أحكام القرآن، ومسائل
الخلاف.
17 - التفريع لابن الجلاب عبيد الله بن الجلاب، ت 378 هـ، وهو معروف باسم
الجلاب عند المتأخرين وهو معتمد عند علماء المذهب.
18 - كتب ابن أبي زيد القيرواني، ت 386 هـ، ومن أهمها: النوادر والزيادات،
والمختصر والرسالة.
19 - المقصد لعبد الخالق بن خلف بن سعيد بن شبلون، ت 390 هـ.
20 - كتاب أبي الحسن علي بن عمر بن القصار، 398هـ، عيون المجالس في مسائل
الخلاف.
21 - كتب أبي جعفر أحمد بن نصر الداودي، ت 402هـ، منها كتاب النامي شرح
الموطأ، وكتاب النصيحة شرح البخاري.
22 - الممهد في الفقه وأحكام الديانة لأبي الحسن علي بن محمد المعافري
المعروف بابن القابسي، ت 403هـ.
23 - كتب القاضي عبد الوهاب بن علي أبي محمد البغدادي، ت 422هـ، ومنها كتاب
التلقين، والإشراف في مسائل الخلاف، والمعونة في درس مذهب عالم المدينة،
والممهد في شرح مختصر ابن أبي زيد القيرواني، وشرح الرسالة، وشرح المدونة،
والنصرة لمذهب إمام دار الهجرة، والأوائل في مسائل الخلاف، وغيرها من كتب
الفروع والخلاف.
24 - تعليقة أبي عمران موسي بن عيسى الغفجومي الفاسي، ت 430هـ، على
المدونة.
(1/189)
25 - تعليق عبد المنعم بن محمد أبي الطيب
الكندي، ت 435هـ، على المدونة.
التهذيب لخلف ابن سعيد الأزدي المعروف بالبراذعي، ت 438 هـ.
26 - شرح الموازية لأبي إسحاق إبراهيم بن حبيب التونسي، ت 443هـ.
تعليق أبي القاسم عبد الخالق بن عبد الوارث السيوري القروي، ت 460هـ، على
المدونة.
27 - التبصرة أو التعليق على المدونة والقصد والإيجاز لأبي القاسم عبد
الرحمن بن محرز، ت450هـ.
28 - التبصرة أو التعليق على المدونة لأبي الحسن علي بن محمد اللخمي (ت)
478 هـ.
29 - كتب الباجي أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي، ت 478هـ، من أهمها
المنتقى شرح الموطأ ومختصر المدونة.
هذه أهم الكتب التي اعتمدها ابن بشير وذكرها بأسمائها أو ذكر مؤلفيها.
أما القسم الثالث المتعلق بالمصادر التي أبهمها، والتي تتسم بشيء من
الغموض، ولو صرح بها لأماط اللثام عن كثير من جوانب حياته الغامضة؛ هذه
المصادر هي التي عبر عنها بمصطلح: الأشياخ أو الشيوخ وهو مصطلح راج كثيراً
في الكتاب، وقد تبين لي من خلال استقراء الكتاب ومقارنته مع معاصريه الذين
استعملوا نفس المصطلح كالمازري واللخمي، أنه يقصد به شيوخه وأساتذته،
والفقهاء المعاصرين له. إلا أنه للأسف ضن علينا بذكر أسمائهم مما زاد حياته
غموضًا.
* المطلب السابع: القيمة العلمية للكتاب
بعد أن تعرفنا على منهج ابن بشير الفقهي، ومكانته العلمية، وشخصيته
المستقلة التي أهلته لأن ينافس وينتقد كبار الفقهاء ويزاحمهم
(1/190)
بآرائه، مسلحاً في ذلك بما يمتلكه من قواعد
النقد والترجيح والاجتهاد.
أرى أن نتحدث بعد هذا عن قيمة الكتاب العلمية، ومكانته بين الكتب الفقهية،
وأسارع إلى القول بأن هذا الكتاب يعد من أهم كتب فقه المالكية وأنفسها،
وأجودها، وذلك للأسباب التالية:
أولاً: لم يؤلف الكتاب لمجرد التأليف أو رغبة في التأليف فحسب. وإنما جاء
تلبية لمقصد وهدف حدده ابن بشير في مقدمة الكتاب. كما أنه ملأ فراغاً
حاصلاً في الفقه المالكي. إذ لم يألف قبله- فيما أعلم- كتاب سلك فيه صاحبه
مسلك الاختصار المبني على قواعد الأصول.
ثانياً: جمع فيه مؤلفه مسائل الفقه المشتتة في كتاب واحد، متوسط الحجم،
وضمنه ما تحتويه الدواوين الطويلة من العلم. ولكن بعد تلخيصها وتنقيح
فصولها وحذف حشوها وفضولها. مع الإيجاز في العبارة والأسلوب الواضح، الذي
لا يحتاج إلى شرح أو تبيين.
ثالثاً: تضمن الكتاب نكتا عجيبة، وفوائد غريبة يتشوف لمعرفتها كبار العلماء
وحذاقهم. فضلاً عن عامتهم، وأشير هنا إلى ما ذكره إبراهيم ابن هلال
السجلماسي (ت): 903هـ عن القرافي في بحثه عن الفرق بين الشهادة والرواية
حيث قال: "فقول القرافي: أقمت أطلب الفرق بين الشهادة والرواية نحو ثماني
سنين. فلم أظفر به، وأسأل الفضلاء عنه. قال ولم أزل شديد القلق والتشوق إلى
معرفته حتى طالعت شرح البرهان للمازري رضي الله عنه، فوجدته حققه وميزه ...
إلى آخر كلامه؛ قصور إذ الفرق موجود في تنبيه ابن بشير، وتبصرة ابن محرز.
وهما بين يدي صغار الطلبة ..... " (1).
الذي يعنينا من هذا النص هو: أن الإمام القرافي مكث يبحث عن الفرق بين
الشهادة والرواية، ثماني سنين مع شدة القلق والتشوف إلى ذلك، وسؤال
الفضلاء. وهذه النفيسة التي يبحث عنها الإمام القرافي، هذا البحث
__________
(1) نوازل ابن هلال 3/ 766.
(1/191)
هي: واحدة من الكنوز والنفائس، التي احتوى
عليها كتاب التنبيه. قال ابن بشير: " ... ولما كان القياس عند المتأخرين من
أهل المذهب ردّ ثبوت الهلال إلى باب الأخبار. [رأوا أن] الفرق بين [باب]
الأخبار وبين باب الشهادة؛ أن كل ما خصّ المشهود عليه فبابه باب الشهادة،
وكل ما عمَّ ولزم القائل به ما يلزم المقول [له]، فبابه باب الأخبار" (1).
رابعًا: مما يدل على قيمت الكتاب العلمية كذلك؛ انتشاره بين الناس وإقبالهم
عليه وحفظهم له (2). وتأثيره فيمن بعد وقد سبق أن أشرت لذلك. ومما يزكي هذا
قول ابن هلال في النص السابق: "إذ الفرق موجود في تنبيه ابن بشير وتبصرة
ابن محرز وهما بين يدي صغار الطلبة".
فنستنتج من هذا أن الكتاب كان ذائعاً في عصر ابن هلال حتى بين صغار الطلبة.
وإن كانت العبارة فيها نوع من المبالغة، إذ صغار الطلبة والمبتدئون منهم
خاصة، ألفت لهم رسالة ابن أبي زيد وأمثالها. لكن نستشف من هذا أن الكتاب
كان ذائع الصيت ومنتشرًا وفي متناول حتى صغار الطلبة.
خامسًا: ربط المؤلف فيه المسائل الفقهية بأدلتها المعتبرة؛ من الكتاب
والسنَّة والإجماع والقياس، وعلل ووجه ووضح طريقة استثمار الأحكام من
الأدلة، وهذا كله يقوي الثقة بهذه الأحكام ويكون مدعاة للتمسك بها
والامتثال لمقتضياتها.
سادسًا: تضمن الكتاب لخلاف المذهب وأسبابه، ومبرراته ودواعيه. وهذا يعد
ضروريًا لمن أراد الوصول لدرجة الاجتهاد لأنه يصير بذلك بصيراً بأصول
المذهب وقواعده ومواطن الاتفاق والاختلاف ...
سابعاً: اشتماله على كم هائل من القواعد الفقهية والأصولية، التي
__________
(1) انظر ص: 707 من هذا الكتاب.
(2) من بين الذين كانوا يحفظون التنبيه أبو العباس علي الشهير بابن الزيات.
انظر عنوان الدراية ص 4197.
(1/192)
يندر وجودها في كثير من أمهات الكتب. وغير خاف ما لهذه القواعد من أهمية في
الفتاوى والأحكام.
... |