التنبيه
على مبادئ التوجيه - قسم العبادات كتاب الطهارة
(1/209)
بسمِ الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمَّد وآله وصحبه وسلم تسليمًا
الحمد لله الذي أبدع الأنام (1)، وشرع الأحكام، وأسبغ الإنعام على
المتفقهين في الحلال والحرام. فصَّيرهم قدوة الأنام، ومصابيح الظلام.
والصلاة على المبعوث لبيان شرائع الإِسلام وعلى آله وصحبه [البررة الكرام]
(2) المرافقين له في دار السلام (3).
وبعد، فإنه لما انتهض إلى الطلب من لم يمارس قراءة الكتاب (4)، ابتدأنا (5)
لهم موعداً بقصد الإيجاز [والاختصار] (6) دون التطويل والتكرار (7)، وفيه
من تحرير الدلائل وتقرير المسائل ما تشوكوا (8) إلى نقله، وضعفوا عن حمله.
فرأيت أن أملي عليهم من خلاف أهل المذهب ما يحصل به
__________
(1) في (ص) الأحكام.
(2) ساقط من (ص).
(3) في (ق) الإسلام.
(4) إذا أطلق المالكية الكتاب فالمراد به المدونة لصيرورته علماً بالغلبة
عليها ككتاب سيبويه عند النحويين وكتاب القدوري عند الأحناف. وبعد ظهور
التهذيب للبراذعي أصبح البعض يطلق عليه مصطلح الكتاب، وعلى المدونة مصطلح
الأم؛ أما ابن بشير فإنه يقصد بالكتاب المدونة.
(5) غير واضحة في (ق).
(6) ساقط من (ق).
(7) في (ص) والاكثرار.
(8) في (ق) تشوقوا (بالقاف).
(1/211)
للجمهور الاستقلال، منبهاً على أوائل
التوجيه والاستدلال. وسميته "كتاب التنبيه على مبادئ التوجيه"، وهو كالمدخل
إلى كتابي المسمى "بالأنوار البديعة في أسرار الشريعة" (1). وفي هذا
الإملاء (2) لمن اقتصر عليه ما يخرجه من زمرة أهل التقليد، وفي ذلك لمن
ترقى إليه ما يبلغه رتبة المبرز المُجيد، ومن الله سبحانه أستمد (3)
المعونة والتأييد وإياه أسال التوفيق والتسديد، إنه جل ذكره الجواد المجيد.
__________
(1) سبق الحديث عن هذا الكتاب.
(2) خرم في (ق).
(3) في (ص) أسأل.
(1/212)
[كتاب الطهارة]
(1)
(أقسام الحكم)
أحكام الشريعة تنحصر في ثلاثة أقسام: مطلوب فعله، ومطلوب تركه، ومأذون في
فعله وتركه.
والمطلوب فعله ينقسم قسمين: مطلوب طلباً لا خيرة للمكلف في تركه وهذا هو
الفرض، ومطلوب طلباً للمكلف خيرة في تركه وهذا هو المندوب.
والمطلوب تركه ينقسم قسمين: مطلوب طلباً لا خيرة للمكلف فيه وهذا هو
الحرام، ومطلوب طلباً للمكلف فيه خيرة وهذا هو المكروه.
والمأذون في فعله وتركه وهو المباح. ولا تقسيم فيه.
والفرض يسمى (2) على الحقيقة واجبًا ولازمًا وحتمًا، والحرام يسمى محظورًا
وممنوعاً.
والمندوب ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: ما تعظم أجوره، فيسمى سنة. والثاني: ما
تقل أجوره فيسمى نافلة. والثالث: ما يتوسط في الأجر بين هذين فيسمى فضيلة،
ورغيبة، وقد قيل في الفرق بين هذه أن كل ما واظب
__________
(1) ساقط من (ق).
(2) غير واضح في (ق).
(1/213)
عليه الرسول عليه السلام على فعله مظهراً
له فهو سنة بلا خلاف. وما نبه عليه وأجمله في أفعال الخير فهذا نافلة، وما
واظب على فعله (1) في أكثر الأوقات وتركه في بعضها فهو فضيلة، ويسمى رغيبة
(2). وما واظب على فعله غير مظهر له ففيه قولان: أحدهما: تسميته سنة (3)
التفاتاً إلى المواظبة، والثاني: تسميته فضيلة التفاتاً إلى ترك إظهاره
وهذا كركعتي الفجر.
وحدود الواجب والحرام والمندوب والمكروه والمباح على التقريب؛ أن الواجب:
ما أمرنا بذم تاركه ومدح فاعله. والحرام: عكسه. والمندوب: ما أمرنا بمدح
فاعله من غير ذم تاركه. والمكروه: ما أمرنا بمدح تاركه من غير ذم فاعله.
والمباح: ما أنبأنا مالك الأعيان (4) بأن فعله وتركه سيان.
وواجبات الشريعة على قسمين؛ قسم مراد لنفسه كالصلاة والصيام والزكاة والحج،
وقسم مراد لغيره كالطهارة وستر العورة واستقبال القبلة. ولما كانت الصلاة
من أشرف معالم الدين وجبت البداية بها لكنها لا تجزي إلا بالطهارة، ولا تجب
الطهارة إلا بعد دخول وقت الصلاة. وقد اختلفت طرق المؤلفين في الفقه
فجمهورهم على الابتداء بالطهارة لما كانت شرطا في صحة الصلاة. وابتدأ مالك
في موطئه وابن المواز (5) في كتابه (6) بأوقات الصلاة. لما تعلق وجوب
الطهارة بدخول الوقت، ولنجر على سنن الكتاب (7) فنقول:
__________
(1) في (ق) عليه.
(2) في (ق) رغبة.
(3) غير واضح في (ص).
(4) هكذا في (ص). وخرم في (ق).
(5) هو محمد بن إبراهيم بن زياد المعروف بابن المواز الإسكندري، من أشهر
فقهاء المالكية، تفقه بابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ (ت 269هـ) بدمشق.
ترتيب المدارك: 4/ 167.
(6) يعرف هذا الكتاب بالموازية، وهو من أجلّ كتب الفقه المالكي؛ بل يعد من
الأمهات. والظاهر أنه مفقود الآن. انظر مباحث في المذهب المالكي في المغرب
ص: 72.
(7) في (ص) المدونة.
(1/214)
(أقسام الطهارة)
الطهارة على قسمين: طهارة حدث، وطهارة خبث، وطهارة الحدث على قسمين: صغرى
وكبرى، وقد ابتدأ في المدونة بالصغرى وفاقاً للابتداء بها في آية الطهارة
ولأنها تتكرر ما لا تتكرر الطهارة الكبرى. والصغرى تشتمل على ثلاثة أقسام:
فروض وسنن وفضائل.
(فروض الطهارة الصغرى)
ففروضها على المشهور (1) سبعة وهي: النية، والماء الطاهر، وغسل الوجه، وغسل
اليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين إلى الكعبين، وموالاة فعلها
مع الذكر.
(سننها)
وسننها سبع وهي: غسل اليدين قبل إدخالها في الإناء، والمضمضة، والاستنشاق،
ومسح داخل الأذنين، وتجديد الماء لهما، ورد اليدين في مسح (2) الرأس من
مؤخره إلى مقدمه، والترتيب.
(فضائلها)
وأكثر ما قيل في الفضائل (3) إنها سبع وهي: التسمية، والسواك، ووضع الإناء
على اليمين، وألا يتوضأ في موضع نجس، والابتداء بالميامن، والابتداء بمقدم
الرأس في المسح، وتَكرار (4) المغسول (5) ثلاثاً.
__________
(1) قال ابن فرحون: المشهور ما قوي دليله، وقيل: ما كثر قائله، حكاهما ابن
بشير ... كشف النقاب الحاجب عن مصطلح ابن الحاجب ص: 62، وقد سبق الحديث عن
هذا المصطلح في الكتاب.
(2) في (ق) المسح.
(3) في (ق) فضائلها.
(4) في (ص) وتكرير.
(5) في (ق) الغسل.
(1/215)
وغرضنا محاكاة الكتاب وقد ابتدأ بحكم
المغسول في القدر المُجزي والتَّكرار؛ فأما القدر المجزي فإنه الإسباغ
بالإجماع، وهو عموم العضو بالماء والدلك (1).
(نهاية تكرار المغسول)
وأما الفضيلة فنهايتها الثلاثة، فمن عمَّ العضو مرة واحدة فقد أتى بالفرض.
ووقع لمالك كراهية الاقتصار على الواحدة وعلل بوجهين: أحدهما: خيفة ألا يعم
بها، أو خيفة أن يراه من لا يحسن فيقتدي به فلا يعم بواحدة. والثاني: أن
المقتصر على الواحدة تارك للفضل جملة وتارك الفضل مقصر، فلا يجوز الاقتصار
على الواحدة بإجماع كما لا تجوز الزيادة على الثلاث إذا عم بها بإجماع.
وبأي نية يكرر؟ لا تخلو من ثلاثة أقسام: إما يتيقن أنه عمَّ بالأولى، أو
يتيقن أنه لم يعم، أو يشك. فإن تيقن أنه عم [بالأولى] (2) نوى بالزيادة
الفضيلة (3)، وإن تيقن أنه لم يعم نوى بالزيادة الفرض، وإن شك نوى بالزيادة
الفرض (4). لأن الطهارة في ذمته بيقين فلا يبرأ منها إلا بيقين الكمال،
ومتى شك وجب عليه الإكمال فينوي الوجوب. فإن نوى الفضيلة في موضع تجب عليه
نية الفرض فقولان؛ أحدهما: الإجزاء، والثاني: عدم الإجزاء. ومنه الخلاف (5)
في من اغتسل لجمعته ناسياً لجنابته.
ولا يكرر غسل الرجلين على المعروف من المذهب، لأن المطلوب منهما (6)
الإنقاء وقد لا يحصل بالثلاث.
__________
(1) في (ق) التدلك.
(2) ساقط من (ص).
(3) في (ق) الفضل.
(4) من هنا تبتدئ نسخة (م).
(5) في (ق) وسبب الخلاف.
(6) في (م) منهم وفي (ص) منها.
(1/216)
(حكم تكرار الممسوح)
وكذلك لا يكرر الممسوح لأن مبنى أمره على التخفيف، والتَّكرار (1) تثقيل.
وفي حديث عبد الله بن زيد (2) أنه "مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ
بِهِمَا وَأَدْبَرَ بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا
إِلَى قَفَاهُ ثُمَّ رَدَّهُمَا إلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ ...
" (3). وهذا يظهر منه التَّكرار. ولمحاذرتهَ (4) رأى الشيخ عبيد الله بن
الجلاب (5) أنه إذا ذهب بهما إلى قفاه، رفع راحتيه عن فوديه- وهما جانبا
رأسه- فإذا ردَّ يديه رفع أصابع يديه عن وسط رأسه ومسح جانبى رأسه حتى يسلم
من التكرار بالمسح على موضع واحد. والذي قاله خلاف لجميع أهل المذهب.
واتفاق أهل المذهب أن يمر بيديه على جميع رأسه ذاهبًا وعائداً ليحصل المسح
على جميع وجه الشعر، إذ الشعر منصب من وسط الرأس إلى جهة الوجه ومن الوسط
أيضاً إلى جهة القفا. وفي تفسيره في هذا الحديث لصفة المسح مناقضة لما
ابتدأ به لأنه قال أقبل وأدبر، ثم فسره بالإدبار والإقبال. وخير ما
يُؤَوَّلُ لذلك بأن الواو لا توجب رتبة الترتيب. فقال: أقبل وأدبر، ومراده
أدبر وأقبل، فابتدأ في اللفظ بذكر الإقبال تفاؤلاً.
...
__________
(1) في (ق) و (ص) التكرير.
(2) هو عبد الله بن زيد بن عاصم، يعرف بابن أم عمارة، أحد بني مازن النجار،
وهو الذي قتل مسيلمة بالسيف مع رمية وحشي (ت 63هـ)، يوم الحرة. الإصابة: 6/
91، والسير: 2/ 277.
(3) متفق عليه، فقد أخرجه البخاري في كتاب الوضوء (185) واللفظ له، ومسلم
في كتاب الطهارة 235.
وقد ورد عند ابن بشير بلفظ "الذي منه بدأ" عوض "الذي بدأ منه".
(4) هكذا في (ص) و (م) وغير واضحة في (ق).
(5) هو أبو القاسم عبيد الله بن الحسين بن الجلاب. شيخ المالكية بالعراق،
صاحب كتاب التفريع (ت 378 هـ). ترتيب المدارك: 4/ 605، والسير 16/ 383.
(1/217)
فصل
وقد قدمنا ذكر الفروض والسنن والفضائل جملة، ومنها ما فصِّل (1) في المدونة
فيترك الكلام عليه إلى بابه، ومنها ما لم يقصد تفصيله (2) كالوجه. والنظر
فيه في شيئين (3): أحدهما: حدّه، والثاني: حكم الشعور النابتة عليه.
(حد الوجه)
فأما حدُّه طولاً فمن منابت الشعر المعتاد إلى آخر الذَّقَن. واحترزنا
بالمعتاد من الأَغَمِّ -وهو من نبت الشعر على بعض وجهه- فيجب عليه غسل ما
غطاه (4) الشعر من الوجه. ومن الأنزع -وهو من انحسر الشعر عن بعض رأسه- فلا
يجب عليه غسل ما انحسر (5) عنه الشعر من رأسه.
فأما حدُّه عرضاً ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه من الأذن إلى الأذن،
والثاني: أنه من العذار إلى العذار (6)، فيخرج من ذلك ما بين العذار
والأذن، والثالث: أنه كالقول الأول في حق النقي الخد من الشعر، وكالقول
الثاني في حق الملتحي.
وسبب الاختلاف اختلافهم في اسم الوجه على أي شيء يقع.
وزاد القاضي أبو محمد (7) قولاً رابعاً، وهو أن غسل ما بين العذار
__________
(1) في (ص) فصله.
(2) في (ق) يفصله.
(3) في (ق) و (م) فصلين.
(4) في (ق) و (م) ما ينكشف عنه.
(5) في (ق) ما انكشف.
(6) جاء في لسان العرب 4/ 550: عذار الرجل شعره النابت في موضع العذار،
والعذار استواء شعر الغلام. يقال ما أحسن عذاره أي خط لحيته.
(7) هو الإمام العلامة القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر التغلبي
العراقي، له كتاب "التلقين" وغيره. توفي بمصر سنة (422هـ). ترتيب المدارك:
4/ 691، والسير: 17/ 429.
(1/218)
والأذن سنة. وهذا وجهه أمره - صلى الله
عليه وسلم - بإطالة التحجيل والغرة (1)؛ وهو ما يبدو على أعضاء الوضوء من
النور في الآخرة. فمن زاد على المقدار المفروض كثر نوره. ولهذا كان - صلى
الله عليه وسلم - إذا غسل يديه شرع في العضد (2).
(حكم الشعور النابتة على الوجه)
فأما الشعور النابتة على الوجه إن كانت خفيفة بحيث تظهر منها البَشَرَةُ
عند التخاطب وجب إيصال الماء إلى البشرة، وإن كانت كثيفة بحيث لا تظهر منها
البَشَرَةُ فقولان: المشهور أن الفرض انتقل إلى الظاهر من الشعر لأنه الذي
تحصل به المواجهة الآن. والثاني: أنه يجب عليه إيصال الماء إلى البَشَرَة
لأنها محل الوجوب قبل نبات الشعر.
وهل يجب غسل ما طال من شعر اللحية؟ قولان: أحدهما: الوجوب اعتبارًا بحكم ما
نبتت عليه، والثاني: أنه لا يجب عليه اعتبارًا بحكم ما يحاذيه من الصدر.
وكذلك القولان فيما طال من شعر الرأس. وأما حكم الوجه واليدين والرجلين
وحكم الموالاة فنؤخر الكلام عليها إلى موضعها في الكتاب.
(غسل اليدين قبل إدخالهما في الأناء)
والمشهور من المذهب أن غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء سنة في حق من لم
تكن في يديه نجاسة، فإن كان في يديه نجاسة أمرناه بإزالتها حذاراً من أن
يلاقي بها الماء وتنظيفًا لليد من النجاسة. وهل يسن غسلهما للقريب العهد
بغسلهما كمن توضأ ثم أحدث في أثناء وضوءه؟ قولان:
__________
(1) يشير إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْن
يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرَاً مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ فَمَنْ
اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ". متفق عليه. فقد
أخرجه البخاري في كتاب الوضوء 136، ومسلم في كتاب الطهارة 246.
(2) أخرج مسلم في الطهارة (362) عَنْ نُعَيْم بْنِ عَبْدِ اللهِ
الْمُجْمِرِ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَتَوَضَّأُ فَغَسَلَ
وَجْهَهُ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى حَتَّى
أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ ثُمَّ يَدَهُ الْيُسْرَى حَتَّى أَشْرَعَ في
الْعَضُدِ ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى حَتَّى
أَشْرَعَ فِي السَّاقِ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى حَتَّى أَشْرَعَ
فِي السَّاقِ ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه
وسلم - يَتَوَضَّأُ" الحديث.
(1/219)
أحدهما: يسن له ذلك وهو (1) المشهور، كغسل
الجمعة فإنه يسن لكل من تلزمه الجمعة وإن كان أنظف الناس بدنًا. والثاني:
أنه لا يسن له ذلك لأن المقصود بالغسل نظافة اليدين عن الأوساخ التي يمكن
أن يلاقيها من جولانها في البدن.
وهل يغسلهما مجتمعتين أو كل واحدة بانفراد؟ قولان: أحدهما: الجمع لأنه أبلغ
في النظافة، والثاني: الإفراد قياساً على سائر أعضاء الوضوء. وفي حديث عبد
الله بن زيد في ذكر غسل اليدين روايتان: إحداهما: أنه قال: "فَغَسَلَ
يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ" (2)، فهذا يقتضي الإفراد. والثانية:
"فَغَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ" (3) - من غير تكرار- وهذا يقتضي جمعهما.
وأما حكم المضمضة والاستنشاق وبقية سائر السنن فنؤخر الكلام عليها إلى
موضعه من الكتاب.
(حكم السواك)
وأما السواك فهو من الفضائل في الوضوء، ولا يجب عند فقهاء الأمصار، لأنه
ليس مذكوراً في الآية نصاً ولا تنبيهاً (4). وهذا عمدتهم (5) في إسقاط
فريضة كل غير مذكور في الآية (6) وعمدتهم في ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم
-: "لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ كما أمره الله تعالى" (7) فأحال
على الآية.
(اختلاف المذهب في التسمية)
وأما التسمية ففي المذهب فيها ثلاثة أقوال؛ أحدها: عدّها فضيلة- كما
__________
(1) في (ق) و (ص): في.
(2) أخرجه النسائي في الطهارة 96، ومالك في الطهارة 32.
(3) أخرجه النسائي أيضًا في الطهارة 97، وابن ماجه في الطهارة 434.
(4) في (م) ولا شبيهًا.
(5) في (م) عادتهم.
(6) يقصد الآية 6 من سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ...} الآية.
(7) لم أقف عليه بهذا اللفظ. وهو عند البخاري في الوضوء (135) بلفظ: "لاَ
تُقبَلُ صَلاَةُ مَنْ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ".
(1/220)
قدمنا- لما روي عنه - صلى الله عليه وسلم -
أنه قال: "لا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللهِ [عَلَيْهِ] " (1)
(2)، والثاني: إنكارها، لأن الحديث لم يثبت. وأيضاً فهو محمول على الذكر
بالقلب، وهو النية، والثالث: أنه مخير إن شاء سمى وإن شاء لم يسم. فيعد من
نوافل [الخير] (3) ولا يلحق بالفضائل لأنه لم يثبت أمر به.
(وضع الإناء على اليمين)
وأما وضع الإناء على اليمين فالصحيح أنه لا يلحق بدرجة الفضائل لأنه لم يرد
أمر بذلك، وقد لا يتيسر في كل الأواني.
(الوضوء بموضع نجس)
وكذلك محاذرة الوضوء بموضع نجس لا يعد من الفضائل، وإنما ينبغي أن يقال إن
خاف أن تصيبه النجاسة فلا يتوضأ فيه بوجه، وإن أمن ذلك فالأولى تركه. ولا
يلحق برتبة الفضائل.
(مشروعية الابتداء بالميامين)
وأما البداية بالميامن فهو من نوافل الخير، ولا يختص ذلك بالوضوء بل يستحب
الابتداء باليمين في كل أفعال الخير.
وأما الابتداء بمقدم الرأس فهو الوارد في حديث عبد الله بن زيد كما تقدم.
ويمكن أن يبدأ به لأنه أول العضو (4)، فلا يلحق بالفضائل لهذا (5) الإمكان.
__________
(1) ساقط من (ص).
(2) والحديث أخرجه الترمذي في الطهارة 25، وأبو داود في الطهارة 102، وابن
ماجه في الطهارة 412، وأحمد في مسنده 3/ 41، والدارمي في الطهارة 691، ثم
قال الترمذي: "قال أحمد بن حنبل: لا أعلم في هذا الباب حديثًا له إسناد
جيد".
(3) ساقط من (م).
(4) في (ق) الوضوء وساقط من (م).
(5) من هنا تبتدئ نسخة (ر).
(1/221)
وقد تقدم الكلام على تَكرار المغسول. وقد
استحب مالك وعبد العزيز (1) ما ورد من صورة المسح في حديث عبد الله بن زيد،
وقالا: هذا أحسن ما سمعنا في مسح الرأس وأعمه عندنا. وإنما قالا ذلك،
لاشتمال تلك الصفة على جميع الرأس. و [أما] (2) الابتداء بالمقدم وهو فضيلة
على ما قدمناه، والرد من المؤخر وهو سنة.
...
فصل [في أحكام المياه] (3).
والماء ما دام على أصله فله صفة (4) الطهارة والتطهير، واجتمعت على ذلك
الأمة.
فإن خالطه شيء فلا يخلو أن يكون المخالط [له] (5) قراره وما عادته أن يتولد
فيه كالحمأة (6)، أو غير قراره. فإن كان [من] (7) غير قراره فلا يخلو أن
__________
(1) هو: الإمام أبو عبد الله عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة ميمون
وقيل: دينار التيمي، مولاهم المدني الفقيه والد المفتي عبد الملك بن
الماجشون صاحب مالك. من كبار الفقهاء، عن ابن وهب قال حججت سنة ثمان
وأربعين ومئة وصائح يصيح لا يفتي الناس إلا مالك وعبد العزيز بن أبي سلمة.
(ت) سنة 164هـ وصلى عليه المهدي وقيل سنة 166هـ، الديباج ص: 153 والسير: 7/
309.
لعل المقصود هو هذا. وهناك فقيهان يعرفان بعبد العزيز، الأول هو: عبد
العزيز بن محمد الدراوردي، صحب مالكًا وكتب عليه الحديث توفي بالمدينة سنة
186 "شجرة ص: 55 (3). والثاني هو: عبد العزيز بن حازم بن دينار الفقيه
الأعرج، كنيته أبو حاتم تفقه مع مالك على ابن هرمز وسمع أباه وزيد بن أسلم
ومالكًا وكان من جملة أصحاب مالك، توفي سنة أربع وقيل خمس وقيل: ست وثمانين
ومائة. الديباج المذهب ص: 58.
(2) ساقط من (ق) و (ص).
(3) ساقط من (ص).
(4) في صفات.
(5) ساقط من (ر).
(6) قال الفيروز آبادي في القاموس المحيط: "الحمأة: الطين الأسود المنتن".
ص: 48.
(7) ساقط من (ر) و (ص).
(1/222)
يكون طاهراً أو نجساً، ولا يخلو أن يتغير
الماء به (1) أو لا يتغير. فإن كان المخالط قرار الماء وما عادته أن يتولد
فيه، فإن كان حل فيه من غير نقل ناقل نقله إليه فالماء طاهر مطهر، تغير أو
لم يتغير، وإن نقله ناقل إليه فإن لم يتغير (2) فلا حكم له، وإن تغير
فقولان: المشهور أنه لا بأس (3) به والماء باق على أصله، لأنه لا ينفك
الماء عن جنسه، ولأنه إنما يجاور الماء ولا يخالطه ولا يمازجه حتى لو ترك
الماء لتميز عنه. والقول الثاني أنه يسلب للماء التطهير لأنه إنما غيره
بفعل فاعل فأشبه ما ينقل إلى الماء من سائر المائعات.
وإن كان المخالط غير قرار الماء وما يتولد فيه والمخالط طاهر كسائر الأطعمة
والأدهان؛ فإن لم يتغير الماء فهو طاهر مطهر. فهذا هو المعروف من المذهب.
وكرهه الشيخ أبو الحسن القابسي (4) إذا كان الماء يسيراً.
وإن تغير فهو طاهر غير مطهر، لأنه قد يسلب الرقة والنظافة فأشبه سائر
المائعات.
(حكم الماء الذي خالطته النجاسة)
وإن كان المخالط نجساً فإن غير لون الماء أو طعمه كان نجساً بإجماع. وإن
غير رائحته فكذلك يكون نجساً على المعروف من المذهب. وحكى أبو الحسن اللخمي
عن ابن الماجشون (5) أنه لا ينجس بتغيير [الريح] (6). وهذه الرواية محمولة
على تغيير الريح بالمجاورة لا بحلول
__________
(1) في (ص) بالمخالط لة.
(2) في (ص) فإن لم تضر الماء به.
(3) في (ص) و (ق) لا مبالاة.
(4) هو أبو الحسن علي بن محمد بن خلف المعافري القابسي، كان ضريرًا. وهو من
أصح العلماء كتبًا كتب له ثقات أصحابه كرفيقه الأصيلي. تفقه على أبي عمران
الفاسي وغيره، توفي باالقيروان سنة 324 هـ، انظر السير 17/ 159.
(5) هو أبو مروان عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله بن الماجشون تلميذ
الإمام مالك ومفتي المدينة في زمانه توفي سنة 213، ترتيب المدارك 2/ 360،
والسير 10/ 359.
(6) ساقط من (م).
(1/223)
النجاسة في الماء. وإن لم يتغير والماء
كثير بحيث إنه إذا حرك [أحد] (1) طرفيه لم يتحرك في الحال الطرف الثاني فهو
باق على الطهارة والتطهير.
فإن كان الماء يسيرًا ولم يتغير. ففي المذهب ثلاثة أقوال: أحدهما: إنه نجس
وهو مقتضى مذهب المدونة. والثاني: إنه طاهر مطهر لكنه يكره للخلاف.
والثالث: مشكوك في حكمه فيجمع بينه وبين التيمم.
فوجه الحكم بنجاسته قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا بلغ الماء قلتين لم
يحمل خبثاً" (2)، ليبين إذا كان الماء دون (3) القلتين حمل الخبث. وأيضاً
فإن النفوس تعاف الماء اليسير إذا حلته النجاسة اليسيرة ومبنى النجاسات على
ما تعافه النفوس وتستقذره الطباع. ووجه الحكم بطهارته قوله - صلى الله عليه
وسلم -: "خلق الله [تعالى] (4) الماء طهوراً لا ينجسه شيء" (5)، وهذا عموم
في كل المياه. ومن رواية البغداديين في هذا الحديث: إلا ما غير طعمه أو
لونه أو ريحه" (6).
__________
(1) ساقط من (ر).
(2) لم أقف عليه بهذا اللفظ إلا بلفظ قريب عن عبد الله بن عمر قال:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يُسْأَلُ عَن
الْمَاءِ يَكُونُ في الْفَلاَةِ مِنَ الأَرْضِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنَ
السِّبَاعِ وَالدَّوَابِّ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه
وسلم -: "إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يحْمِلِ الْخَبَثَ".
الترمذي في الطهارة 67 واللفظله، وابن ماجه في الطهارة 517.
(3) في (ر) و (ق): فوق.
(4) ساقط من (ص) و (م) و (ق).
(5) لم أقف عليه بهذا اللفظ إلا بلفظ: "إِنَّ الْمَاءَ طهُورٌ لاَ
يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ" أخرجه الترمذي في الطهارة 66، وأبو داود في الطهارة 67
واللفظ له.
(6) لم أقف عليه بهذا اللفظ إلا بلفظ قريب عَنْ أَبِي أُمَامَةَ
الْبَاهِلِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولِّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ
الْمَاءَ لاَ يُنَجِّسُهُ شيْءٌ إِلاَّ مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ
وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ" أخرجه ابن ماجه في الطهارة 514.
قال الشوكاني بعدما ذكر طرق الحديث وبيّن ضعفها: قال في البدر المنير:
فتلخص أن الاستثناء المذكور ضعيف، فتعين الاحتجاج بالإجماع كما قال الشافعي
والبيهقي وغيرهما. يعني الإجماع على أن المتغير بالنجاسة ريحاً أو لوناً أو
طعمًا نجس. وكذا نقل الإجماع ابن المنذر فقال: أجمع العلماء على أن الماء
القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة فغيرت له طعماً أو لونًا أو ريحاً فهو
نجس. انتهى نيل الأوطار 1/ 35.
(1/224)
وهذا نص [في] (1) أنه باق على الطهارة
والتطهير ما لم يتغير أحد هذه الصفات، فهذه مبادئ أدلة المذهب. ووجه الحكم
بالشك (2) فلتعارض الأدلة.
وحكى أبو الحسن اللخمي عن أبي مصعب (3) أنه طاهر مطهر من غير كراهة. وهذا
لا يوجد في المذهب بل مقول البغداديين على رواية أبي مصعب. وقد قالوا
بالكراهة مراعاة للخلاف.
وكيف يفعل على مذهب القائلين بالشك إذا لم يجد غير هذا الماء المشكوك فيه؟
لهم طريقان: أحدهما: أنه يتيمم ويصلي ثم يتوضأ به ويصلي [صلاة] (4) ثانية
لئلا يلاقي الأعضاء، يريد بذلك الماء قبل الصلاة بالتيمم. [والطريقة] (5)،
الثانية: أنه يتوضأ به حتى يتلفه في الأعضاء ثم يتيمم ويصلي صلاة واحدة.
وسبب الخلاف بين الطريقتين، هل الماء طاهر وإنما يتيمم مراعاة (6) للخلاف؟
أو هو نجس وإنما يصلي مراعاة للخلاف؟ فإن جعلنا الأصل الطهارة كان الأولى
الابتداء [به] (7) ثم يتيمم ويصلي واحدة، وإن جعلنا الأصل النجاسة كان
الأولى [أن يصلي بتيمم] (8) ثم يعيد الصلاة بالوضوء به.
...
__________
(1) ساقط من (ر) و (م) و (ق).
(2) في (ر) و (ق) وأما الشك.
(3) هو: مطرف بن عبد الله بن مطرف بن سليمان بن يسار اليساري الهلالي أبو
مصعب .. ابن أخت مالك بن أنس الإمام، كان أصم روى عن مالك وغيره وروى عنه
أبو زرعة وأبو حاتم والبخاري وخرّج عنه له في صحيحه، تفقه بمالك وصحبه سبع
عشرة سنة. مات سنة عشرين ومائتين بالمدينة. الديباج المذهب ص: 345، 346،
طبقات الفقهاء: 1/ 153.
(4) ساقط من (م) و (ق).
(5) ساقط من م.
(6) في (ر) كراهة.
(7) ساقط من (ر).
(8) في (ر) الابتداء به.
(1/225)
فصل (هل الملح
كالتراب؟ أو كالطعام)
واختلف المتأخرون (1) في الملح هل هو كالتراب فلا ينقل حكم الماء على
المشهور من المذهب؟ أو كالطعام فينقله إلى غيره؟ ولهم في ذلك ثلاثة طرق؛
أحدها: أنه كالتراب، والثانية: أنه كالطعام، والثالثة: أن المعدني منه
كالتراب والمصنوع منه كالطعام. واختلف من بعدهم هل ترجع هذه الطرق إلى قول
[واحد] (2)، فيكون من جعله كالتراب يريد المعدني ومن جعله كالطعام يريد
المصنوع؟ أو يرجع في ذلك إلى ثلاثة طرق (3) كما تقدم تفصيله؟ ووجهها أن
الالتفات إلى أصله يلحقه بالتراب، والالتفات إلى استعماله في الطعام
وإلحاقه بالربويات (4) يلحقه بالطعام. والتفصيل لأن المعدني لم ينضف إليه
زائد (5)، والمصنوع قد انضاف إليه زائد فأخرجه عن بابه.
...
فصل (حكم الماء المستعمل في الطهارة)
وأما الماء المستعمل في الطهارة، فإن كان الذي استعمله (6) نجس الأعضاء
فيكون الذي (7) سقط عن أعضائه ماء حلته النجاسة فيعود إلى ما تقدم. وإن كان
وسخ الأعضاء غير نجس (8) فهو ماء حلته أوساخ طاهرة، فيرجع إلى
__________
(1) يقصد بالمتأخرين من جاء بعد ابن أبي زيد القيرواني (ت 366هـ):
والمتقدمين من كانوا قبله. انظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1/ 37.
(2) ساقط من (ر).
(3) في (ر) و (ص) أقوال.
(4) الربويات أي الأمور التي يحرم فيها الربا.
(5) في (ص) شيء.
(6) في (ر) قد استعمله في الطهارة.
(7) في (ص) و (ق) و (م) ما.
(8) في (ص) نجسهما.
(1/226)
ما تقدم من حكم الماء يحله [شيء] (1) طاهر.
وإن كان نقي الأعضاء من الأوساخ والنجاسة ففي المذهب ثلاثة أقوال: المشهور:
أنه طاهر مطهر يكره استعماله مع وجود غيره للخلاف فيه، والثاني: أنه طاهر
غير مطهر، وعُلل بثلاثة أوجه؛ أحدها: أنه لا يسلم من الأوساخ تحل (2) فيه
وإن قلت فتضيفه (3)، والوجه الثاني: أنه ماء أتلف (4) قواه في عبادة فلا
تعاد به عبادة أخرى، كالعبد يعتق في عبادة فلا يصح عتقه (5) لأخرى. ولا
يلزم على هذا في الثوب [ألا يصلي] (6) به، فإنا قد قلنا نفدت قواه في عبادة
والثوب إنما المراد منه ستر [العورة] (7)، فحكمه في ذلك باق (8)، والوجه
الثالث: أن الأولين لم يذكر عن واحد منهم أنه جمع ما سقط عن أعضائه من
الماء ثم استعمله مع كونهم بالحجاز والماء يعوز (9) فيها. وافتقارهم إلى
الوضوء والطهارة الكبرى، وتركهم ذلك يشعر بأن هذا الماء لا يجوز استعماله
مرة أخرى.
والقول الثالث بأنه مشكوك في حكمه وتطهيره (10)، فيجمع بينه وبين التيمم
ويصلي صلاة واحدة، وهذا لتعارض الأدلة؛ إذ القياس الجلي يقتضي بقاءه على
أصله، وما ذكرناه من الثلاثة الأوجه يقتضي كونه غير مطهر، فلما تعارض ذلك
حكم بالشك في تطهيره.
...
__________
(1) ساقط من (ر) و (ص) و (ق).
(2) ساقط من (ر).
(3) هكذا في (ص) و (م)، وهي غير واضحة في (ر)، وخرم في (ق). والفصل: كله
غير موجود في (ل). ولعلها "تعافه"، قال في القاموس: عاف الطعام أو الماء:
كرهه ولم يشربه. القاموس المحيط 1086، وانظر مختار الصحاح 466.
(4) في (ص) أذهبت.
(5) في (ص) عتقه في عبادة أخرى.
(6) ساقط من (ص) و (ر).
(7) ساقط من (ص) وم وق.
(8) في (ص) باقٍ على أصله.
(9) في (ص) معوز.
(10) في (ص) مشكوك في تطهيره وفي (ر) مشكوك في طهارته.
(1/227)
فصل في تمييز الطاهر
عن النجس
وجميع الموجودات لا تخلو (1) من أن تكون جمادات؛ أعني بذلك (2) ما لم تحله
حياة أو ينفصل عن ذي حياة، وحيوانات (3)، وأجزاء حيوانات، ومنفصلات عن
الحيوانات (4).
(حكم الجمادات)
فأما الجمادات فجميعها طاهر إلا الخمر وما في معناه عند مالك رحمه الله،
والشافعي كل مسكر.
(حكم الحيوانات الحية)
فأما الحيوانات فما دامت مستصحبة للحياة فهي طاهرة ونعني بذلك أعراقها
وأسآرها وما ينفصل (5) عن أنوفها إذا لم تستعمل النجاسات، هذا هو المشهور
من المذهب من غير استثناء شيء من الحيوانات. واستثنى سحنون (6) الكلب
والخنزير تعويلاً على الأمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب. وألحق به الخنزير
فحكم لهما بالنجاسة. ورأى في المشهور أن الأمر بالغسل سببه أنهم كانوا في
العصر الأول يخالطون الكلاب استمرارًا منهم على عادة الأعراب (7)، فقال
عليه السلام: "من
__________
(1) في (م) يخلو.
(2) في (ص) و (ر) ونعني بها.
(3) في (ق) أو يتفصل: عن ذي حياة كالحيوانات.
(4) في (ص) الحيوان.
(5) في (ص) وما يخرج.
(6) هو سحنون بن سعيد التنوخي أبو سعيد، وسحنون لقب واسمه عبد السلام، تفقه
بابن القاسم وابن وهب وأشهب ثم انتهت الرياسة إليه في العلم بالمغرب وولي
القضاء بالقيروان .. وحصل له من أصحاب ما لا يحصل لأحد من أصحاب مالك. وعنه
انتشر علم مالك في المغرب. وهو مؤلف المدونة عن ابن القاسم مات سنة أربعين
ومائتين. السير 12/ 63، الديباج 1/ 160.
(7) في (ر) العرب.
(1/228)
اقتنى كلبًا لغير (1) زرع ولا ضرع نقص من
أجره قيراط" (2)، فلم ينتهوا عن ذلك فكلفوا غسل الأواني (3) لينتهوا من
اتخاذهم الكلاب؛ لأنهم متى اتخذوها ولغت في الأواني، وغسلها سبعاً شاق.
ولهذا قدر الغسل [بالسبع] (4) بخلاف غسل سائر النجاسات (5).
(حكم الحيوان فاقد الحياة)
فإن فقد الحيوان الحياة فهو على قسمين؛ بري وبحري، فالبحري على قسمين (6):
قسم تطول حياته في البر بعد مفارقته الماء، وقسم لا تطول حياته. والبري على
قسمين: قسم لا دم فيه، ويعبر عنه بأنه لا نفس له سائلة، وقسم له نفس سائلة
(7).
(حكم الحيوان البحري)
فأما البحري الذي لا تطول حياته في البر فهو طاهر بعد الموت كهو في الحياة.
وأما ما (8) تطول حياته في البر كالسلحفاة والسرطان فالمشهور من المذهب
إلحاقه بالأول، والقول الثاني إلحاقه بحيوان البر. واختلف في افتقاره إلى
الذكاة، وسبب الخلاف أن الذكاة شرعت في الحيوان لإراقة الدم، أو لإزهاق
الروح بسرعة. وما تطول حياته في البر من البحري لا دم
__________
(1) في (م) من غير.
(2) في (ق) كل يوم قراط.
ولم أقف على الحديث بهذا اللفظ. وقد أخرجه البخاري بلفظ قريب في المزارعة
2323 "مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا لاَ يُغْنِي عَنْهُ زَرْعًا وَلاَ ضَرْعًا
نَقَصَ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطٌ".
(3) في (ر) الإناء.
(4) ساقط من (م).
(5) في (ق) الأواني.
(6) في (م) ضربين.
(7) في (ص) و (ق) و (م): له دم سائل.
(8) في (ق) و (م) الذي.
(1/229)
فيه يطلب إخراجه، لكنه مفتقر إلى إزهاق
روحه بسرعة. فمن رأى أن المطلوب الأول في الذكاة إراقة (1) الدم لم يفتقر
عنده إلى ذكاة، ومن رأى أن المطلوب الأول (2) إزهاق الروح بسرعة افتقر عنده
إلى الذكاة.
(حكم الحيوان البري)
وأما البري فما لا نفس له سائلة لا ينجس بالموت بلا خلاف في المذهب.
وما له نفس سائلة فإن كان مأكول اللحم ومات بذكاة فهو طاهر، وإن كان غير
مأكول اللحم فهو نجس بالموت، وكذلك ما لم يُذَكَّ من المأكول اللحم. وفي
المدونة في خشاش الأرض أنه لا ينجس ما مات فيه [من الماء] (3). وإن وقع في
قدر فيها طعام كل ما فيها (4).
وذكر عن أبي عمران أنه قال سقط (5) من المدونة: "لا"، وإنما الأصل أنه لا
يؤكل ما فيها لأنه لا ينجس الماء في الاستعمال، وُيمنع شربه وأكل الطعام
لعلة أنه لا يؤكل إلا بذكاة.
وهذا الذي قاله صحيح على أصل المذهب (6) لكنه بعيد أن يقال سقطت لفظة "لا"
من جميع الكتب وأغفلها الرواة، وإنما (7) معنى إجازة الأكل إذا لم يتحلل من
الخشاش شيء، ولو تحلل لم يجز الأكل. وإنما سئل في [الكتاب] (8) عن مجرد
الموت فجاوب بأنه لا يفسد بخلاف ما له
__________
(1) في (ص) إخراج.
(2) في (ر) و (ق) و (م) الثاني.
(3) ساقط من (م).
(4) انظر المدونة 1/ 4.
(5) في (م) يسقط.
(6) في (م) المدونة.
(7) في (م) إنما.
(8) ساقط من (م).
(1/230)
نفس سائلة. وفي الكتاب [أيضاً] (1) في
حيتان ملحت (2) فأصيب (3) فيها ضفادع ميتة لابأس بأكلها (4). واختلف
الأشياخ هل يعود الضمير في أكلها على الحيتان أو على الضفادع؛ فأما الحيتان
فيجوز أكلها بلا خلاف، وأما الضفادع فإن كانت ميتة جاز أكلها عند مالك وإن
لم تحصل لها ذكاة، وعلى الرواية الشاذة (5) المتقدم ذكرها فيما تطول حياته
في البر (6) لا تؤكل هذه الضفادع إذا وجدت ميتة.
...
فصل [في أجزاء الحيوان] (7)
وأما أجزاء الحيوانات فلا شك أن حكم البعض حكم الجملة، إلا أن يكون (8)
البعض يؤخذ (9) من حي فيكون نجساً إذا كان المأخوذ منه برياً ذا نفس سائلة.
(حكم الشعور)
وأما الشعور فهي طاهرة عند مالك، ولأن الحياة لا تحلها فأشبه النبات هذا في
كل شعر. وفي معناه الأصواف والأوبار إلا شعر الخنزير ففيه قولان في المذهب؛
أحدهما: طهارته إلحاقاً له بسائر الشعور، والثاني: نجاسته أخذاً بعموم
تحريم الخنزير.
__________
(1) ساقط من (م) و (ق).
(2) في (م) إذا ملحت.
(3) في (ص) فوجد.
(4) المدونة 1/ 5.
(5) تقدم الحديث عن الشاذ في الكتاب.
(6) في (ص) في البري من البحري.
(7) ساقط من (ق) و (ر).
(8) في (ص) يوجد.
(9) ساقط من (ص).
(1/231)
(حكم العظام)
وأما العظام فهي عند مالك بمنزلة اللحوم فمتى كان اللحم طاهراً حكمنا
للعظام بذلك، ومتى كان اللحم نجساً حكمنا للعظام بها، لأنها مما تحلّه
الحياة، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ
وَهِيَ رَمِيمٌ} (1) والظاهر إضافة الحياة [إلى نفس العظام] (2). لكن في
الآية {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} (3) فأضاف
الحياة إلى الدار الآخرة والإنشاء إلى دار الدنيا. والإنشاء تركيب لا إحياء
لكن اجتمعت الأمة على أن العودة في حلول الحياة كالبداية، فيكون معنى
إنشائها هنا إحياءَها. والبلاغة تقتضي تغيير اللفظ وإن اتحد المعنى. وقال
المتأخرون من أهل المذهب ينبغي أن تكون أطراف الأظلاف وأطراف القرون
كالشعور؛ لأنها لا تحلها الحياة.
(حكم الريش)
وأما الريش فما اتصل من أصله بالجسم فهو كالعظم لأنه تحله الحياة. وما لم
يتصل بذلك من أطرافه (4) فهو كالشعور.
(حكم ناب الفيل)
واختلف المذهب في استعمال ناب الفيل والتجر فيه على ثلاثة أقوال؛ مذهب: أنه
لا يستعمل ولا يتجر به، وهو المشهور من المذهب، والثاني: أنه يتجر به
ويستعمل، قاله عبد الملك (5)، والثالث: أنه إن سلق جاز استعماله، قاله مطرف
(6)، وهذا خلافُ هل تحله الحياة أم لا؟ وكأن من اشترط سلقه بناء على أنه
تحله الحياة لأن السلق عنده كالدباغ. وهذا حكم الحيوانات وأجزائها وما يتصل
بها.
__________
(1) يس: 78.
(2) ساقط من (م).
(3) يس 79.
(4) في (ص) من أصولها وفي (م) من أطرافها.
(5) في (ق) قاله مطرف وعبد الملك.
(6) هو: أبو مصعب وقد تقدمت ترجمته.
(1/232)
(هل ينجس الآدمي
بالموت؟)
واختلف في الآدمي هل ينجس بالموت قياساً على ما في معناه من الحيوان أو لا
ينجس (1) تكرمة له؟ وقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) على سهيل
بن بيضاء (3) في المسجد، ولو كان نجساً لم يدخله المسجد (4).
...
فصل (حكم الفضلات المنفصلات من الحيوان)
وأما فضلات منفصلات (5) من الحيوان فهي على قسمين: قسم له مقر في الجسم
يستحيل فيه ثم يخرج أو يبقى هناك، وقسم يخرج إلى سطح الجسم من غير أن يكون
له مقر يستحيل فيه.
فأما ما له مستقر (6) في الباطن يستحيل فيه فهو على قسمين: قسم يستحيل إلى
فساد، كالدم والعذرة والبول، وقسم يستحيل إلى صلاح كاللبن.
(حكم الدم المسفوح وغيره)
فأما ما يستحيل إلى فساد كالدم؛ فالمسفوح منه نجس بإجماع الأمة. وأما غير
المسفوح -وهو ما يبقى في العروق- ففيه قولان: أحدهما: أنه
__________
(1) في (م) بالموت.
(2) ساقط من (ص).
(3) هو الصحابي الجليل أبو موسى سهيل بن بيضاء الفهري هاجر إلى الحبشة وإلى
المدينة شهد بدرًا وأحُدًا ومات بعد رجوع النبي - صلى الله عليه وسلم - من
تبوك سنة تسع. الإصابة 4/ 283، والسير 1/ 384.
والحديث أخرجه مسلم في كتاب الجنائز باب الصلاة على الجنازة في المسجد 2/
668.
(4) أخرجه مسلم في الجنائز 1615، والترمذي في الجنائز 1033.
(5) هكذا في جميع النسخ ولعل الصواب "الفضلات المنفصلات" بالتعريف.
(6) في (ق) و (م) مقر.
(1/233)
نجس أخذا بعموم قوله تعالى: {حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} (1) فَعَمَّ. والثاني: أنه غير نجس،
لأنه تعالى قيد التحريم في موضع ثان فقال: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} (2).
وبين الأصوليين خلاف في رد المطلق إلى المقيد هل يجب أم لا؟
(حكم دم الحوت)
وكذلك اختلفوا في نجاسة دم الحوت على قولين: أحدهما- وهو المشهور- إلحاقه
بسائر الدماء في النجاسة. وقال أبو الحسن القابسي: هو طاهر. وهذا يحتمل أن
يبنيه على شهادة يتأكد منها أنه غير مسفوح، أو لأن الذكاة غير مشروعة فيه،
والذكاة مشروعة لإخراج الدم، ولم يطلب إخراج دم هنا، وذلك دليل على أن دمه
غير نجس.
(حكم بول وروث الحيوان)
وأما البول والعذرة عند (3) مالك فهي نجسة من كل حيوان محرم الأكل، طاهرة
من كل حيوان غير محرم الأكل (4). فإذا كان الحيوان مكروه [الأكل] (5) ففي
المذهب قولان: أحدهما الحكم بنجاسة بوله وروثه، والثاني الحكم بكراهية ذلك
كاللحوم. والأصل في طهارة روث ما يؤكل لحمه وبوله أمر رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - العرنيين أن يشربوا من أبوال الإبل (6)، وطاف - صلى الله عليه
وسلم -
__________
(1) المائدة: 3.
(2) الأنعام: 145.
(3) في (ق) فهما عند.
(4) في (ص) مباح اللحم.
(5) "الأكل" ساقط من (ص).
(6) يشير إلى الحديث الصحيح: "عِنْ أَنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ نَاسًا
مِنْ عُرَيْنَةَ اجِتَوَوْا الْمَدِينَةَ فَرَخَّصَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ -
صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَأتُوا إِبِلَ الصَّدَقَةِ فَيَشْرَبُوا مِن
أَلْبَانِهَا وَأبْوَالِهَا" الحديث. أخرجه البخاري في الزكاة 1405 واللفظ
له، ومسلم في القسامة 3162.
(1/234)
على بعير، وموضع الطواف من المسجد (1)، ولا
يؤمن أن يكون من البعير في حين (2) الطواف بول أو روث.
هذا إذا لم يستعمل [الحيوان] (3) المأكول اللحم نجاسة، فإن أكل نجساً أو
شربه ففي بوله وروثه قولان: المشهور نجاستهما (4)، والشاذ طهارتهما. وهذا
جار في كل نجاسة انقلبت أعراضها، كعرق السكران، ورماد الميتة، وما يستخفي
(5) في أواني الخمر، في جميع ذلك قولان: التنجيس التفاتاً إلى الأصل،
والحكم بالطهارة التفاتاً إلى ما انتقلت إليه.
(طهارة المسك)
ولا خلاف في المذهب في طهارة المسك. وكان يقتضي هذا الأصل أن يُختلف فيه
لأنه خراج يتولد من (6) حيوان ثم يستحيل مسكاً، لكن حكموا بطهارته لأن أصل
النجاسات ما يستقذر، والمسك يُذهب الاستقذار فلم يختلف فيه.
(نجاسة المني)
والمني حكموا بنجاسته وهذا لأحد وجهين؛ إما لأنه يسير (7) على نجاسة البول،
وإما لأنه يستحيل إلى فساد. فإن عللنا بالأول كان مني ما
__________
(1) يشير إلى الحديث الصحيح: "عَنْ ابْنِ عَبَّاسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا
قَالَ: طَافَ النَبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ
عَلَى بَعِيرِ" الحديث. أخرجه البخاري في الحج 1504 واللفظ له، ومسلم في
الحجَ 2233.
(2) في (ص) في حال.
(3) ساقط من (ر).
(4) في (ر) نجاسته.
(5) في (ص) وما يستحجر، وفي (ر) يستخمر.
(6) في (ر) في.
(7) في (ص) يمر.
(1/235)
يؤكل لحمه (1) طاهراً، وإن عللنا بالثاني
كان مني ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل (2) نجساً. وهكذا قال المتأخرون من أهل
المذهب.
(حكم الألبان)
وأما ما يستحيل إلى صلاح كالألبان فهو على ثلاثة أقسام؛ قسم منها طاهر
بإجماع [الأمة] (3)، وهو لبن ما يؤكل لحمه، وما حرم لحمه لحرمته كبنات آدم،
وقسم نجس بإجماع كلبن الخنزير، وقسم مختلف فيه وهو ما عدا ما ذكرناه. وفي
المذهب فيه ثلاثة أقوال: أحدها أن لبنها طاهر لقوله تعالى: {مِنْ بَيْنِ
فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا} (4)، فأخبر أنه خالص عن الدم والفرث،
والدم نجس من كل الحيوان، وهذا طاهر مما (5) تقدم ذكر طهارته بإجماع، فدل
على أنه لا يراعى (6) أصله، وقد قال تعالى فيه: {خَالِصًا سَائِغًا
لِلشَّارِبِينَ} (7) فعمَّ كل لبن. والثاني أن لبنها تابع للحومها في
التحريم والكراهة لأنها فضلة الغذاء فأشبه اللحم. والثالث أنه مكروه، وهذا
مراعاة للخلاف.
(حكم البيض)
وأما البيض فلا شك في طهارته لأنه متولد من كل حيوان مأكول اللحم.
...
__________
(1) في (ص) و (ق) لحمه من الحيوان.
(2) في (ص) كان مني كل حيوان.
(3) ساقط من (ص).
(4) النحل: 66.
(5) في (ص) ممن تقدم وفي (م) فيها تقدم.
(6) في (ص) و (ق) و (م) لا تراعى أصوله.
(7) النحل: 66.
(1/236)
فصل (في أحكام أسآر
الحيوان)
وقد تقدم أن أسآر الحيوان طاهرة، وهذا إذا لم تستعمل النجاسة، فإن أكلت
نجاسة، أو شربتها، أو كانت من عادتها تستعمل النجاسة، فلا تخلو من قسمين؛
أحدهما: أن تدعو الضرورة إلى غشيانها الأواني، كالهرة والفأرة، فهذه يحكم
بطهارة سؤرها إلا أن تُعايَن (1) النجاسة فيه أو في أفواهها وقت الشرب، فإن
أبصر ذلك فيه فاليُتوق ما (2) حلته النجاسة. ويكون حكمه ما تقدم في الماء
إذا حلته نجاسة. وفي المدونة لا بأس بالخبز من سؤر الفأرة (3). ويروى بضم
الخاء وبفتحها، ومعنى الضم نفس الخبز إذا أكلت منه فإنه يؤكل، وهذا ما لم
ير فيه أثر النجاسة، فإن رأى ذلك طرح موضع النجاسة إن تميز، فإن لم يتميز
كان طعاماً حلته النجاسة، فإن كان يسيراً طرح، وإن كان كثيرًا فقولان:
أحدهما: أنه كالماء لا تفسده النجاسة اليسيرة، والثاني: أنه بخلاف الماء
لأن الماء يُذهب النجاسة بخلاف الطعام.
ومعنى الفتح في الخَبْز أنها إذا شربت من ماء فيجوز أن يعجن به، وصوب بعض
الأشياخ هذه الرواية معولاً على أن الفأرة إذا شربت من الماء فإن ما يلتقي
فمها من الماء يتنجس ثم تجتلبه بالشرب فيبقى ما بعده طاهرا، وإذا أكلت من
خبز فلا يزول (4) أثر فمها. فيفارق حكم الماء حكم الطعام.
وهذا مما لا يعول عليه، وإنما يلتفت إلى ما قدمناه والروايتان صحيحتان.
...
__________
(1) في (ق) تعاين آثار النجاسة.
(2) في (ر) و (ق) فهو ما.
(3) انظر المدونة 1/ 6.
(4) في (ر) يزال.
(1/237)
[فصل] (1) حكم ما يمكن الاحتراز منه)
والقسم الثاني: أن يكون الحيوان مما يمكن الاحتراز منه، فهذا لا يخلوا من
ثلاثة أحوال (2): أحدها: أن يتيقن سلامة فمه من النجاسة فلا يفسد ما أكل
منه أو شرب، والثاني: أن يتيقن نجاسة فمه فيكون ما أكل منه أو شرب على ما
تقدم مما تحله النجاسة.
والثالث: أن يشك (3) هل فيه نجاسة أم لا؟ فهذا في المذهب فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: الحكم بطهارته لأن أصل الحيوان الطهارة، ومتى وقع الشك فيه رجع إلى
الأصل، والثاني: الحكم بنجاسة فمه (4) نظراً إلى الغالب، والغالب استعماله
النجاسة، والثالث: التفرقة بين الماء والطعام، ينطرح الماء ليسارته ويستعمل
الطعام لحرمته، وهذا مذهب المدونة. ولكن حكم للماء الذي شربت منه الدجاج
المخلاة (5) أن يترك وينتقل إلى التيمم. ثم جعل المصلي به يعيد في الوقت
خاصة. وهذا كالمتنافض لأن الانتقال إلى التيمم يقتضي الحكم بنجاسته
والإعادة في الوقت تقتضي طهارته (6) على كراهية فيه. وقد أجيب (7) عن هذا
الاعتراض بثلاثة أوجه: أحدها: أن مراده بالتيمم لا يقتصر عليه دون أن
يتوضأ، وإنما تجوز في الكتاب بقوله يتيمم ويتركه. ومراده يجمع بينه وبين
التيمم، قاله القاضي أبو محمد عبد الوهاب. هذا وإن ساعده الفقه فهو بعيد عن
مقتضى اللفظ. والجواب الثاني: أنه حكم بنجاسته على أصله فقال يتيمم ويتركه
ثم إذا صلى به أحد وقعت صلاته جائزة عند من يقول بطهارته، وهو أحد قولي
__________
(1) ساقط من (ق).
(2) في (ص) و (م) و (ق) صور.
(3) في (ق) ويشك.
(4) في (م) محله.
(5) الدجاج المخلاة هو الذي يأكل النجاسة. انظر تحفة الفقهاء 3/ 65.
(6) في (م) الحكم بطهارته.
(7) في (ر) أجبت.
(1/238)
مالك. وجعل (1) فعل المكلف كحكم الحاكم
بصحته فيعيد في الوقت ليخرج من الخلاف. فإذا خرج الوقت فلا يعيد لنفوذ
الحكم بذلك وهذا جار على أصل المذهب في مراعاة الخلاف، والجواب الثالث: أن
الإعادة إنما هي (2) لأنه صلى بنجاسة، ولذلك (3) يترك الماء لأن فيه نجاسة
لا يدري موضعها. فإذا استعملت فقد حصلت تلك النجاسة على بعض جسده، فيكون
كالمصلي بنجاسة يعيد- إن لم يعلم- في الوقت. وهكذا (4) نقل البراذعي في
تهذيبه في هذا الموضع (5)، فقال: ومن صلى (6) ولم يعلم أعاد في الوقت.
واستدرك الأشياخ عليه زيادته (7): "ولم يعلم". وإنما عول في ذلك على ما في
كتاب الصلاة الأول من المدونة، وقد اشترط هناك عدم العلم، وسيأتي بيانه في
موضعه إن شاء الله. وهذا الجواب أشار إليه الباجي (8) وهو معترض، لأن
النجاسة إذا حلت بالماء تختلط بأجزائه فلا تبقى في مكان واحد، وأيضًا فإن
القائلين بتنجيسه يجعلون الجميع في حكم النجاسة.
...
__________
(1) في (ص) قصد.
(2) في (ر) ها هنا.
(3) في (ق) ولكن لذلك، وفي (ر) كذلك.
(4) في (م) و (ق) وهذا.
(5) في (ص) في المسألة.
(6) في (ص) ومن، و (ق) صلى به.
(7) في (ر) زيادة.
(8) هو: القاضي أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد التجيبي الأندلسي القرطبي
الباجي صاحب التصانيف، أصله من مدينة بطليوس. ارتحل سنة ست وعشرين فحج
وجاور ثلاثة أعوام ملازمًا للحافظ أبي ذر، ارتحل إلى دمشق، فسمع من أهلها
وارتحل إلى بغداد. ثم رجع إلى الأندلس بعد ثلاث عشرة سنة بعلم غزير حصله مع
الفقر والتقنع باليسير. وتفقه به أئمة واشتهر اسمه وصنف التصانيف النفيسة
.. ولما قدم من الرحلة إلى الأندلس وجد لكلام ابن حزم طلاوة، ولم يكن
بالأندلس من يشتغل بعلمه فقصرت ألسنة الفقهاء عن مجادلته وكلامه، فلما قدم
أبو الوليد كلموه في ذلك فدخل إلى ابن حزم وناظره، وله معه مجالس كثيرة.
سير أعلام النبلاء 18/ 535، 540، والديباج المذهب ص: 120.
(1/239)
فصل (حكم سؤر الكلب)
وقد انفرد سؤر الكلب بحكم أوجبه أمره - صلى الله عليه وسلم - بغسل الإناء
من ولوغه (1) سبعاً (2)، وقد اختلف المذهب هل الأمر بغسله على سبيل التوقي
منه (3) وترك مخالطته- على (4) ما تقدم- أو لنجاسة فيه؟ قولان؛ المشهور: أن
ذلك للتوقي لا للنجاسة، والشاذ: أنه للنجاسة، وهو قول سحنون. فإن قلنا إن
ذلك (5) للتوقي فهل يعد واجبًا أو ندباً؟ قولان. والذي في المدونة أنه ندب،
لقوله: "إن كان يغسل سبعاً ففي الماء وحده وكان يضعفه" (6). وقال بعض
الأشياخ: ويحتمل قوله "وكان يضعفه" ثلاثة أوجه: أحدهما: ضعف الحديث
لمعارضته ظاهر القرآن في إباحة أكل ما صاد ولم يشترط غسله، والثاني: ضعف
وجوب الغسل لأنه بمنزلة غيره من الحيوان، والثالث: ضعف الغسل الوارد في
الحديث لأنه مقدر، والتقدير خلاف الأصول. وسبب الخلاف أمره - صلى الله عليه
وسلم - بالغسل من ولوغه. فاختلف الأصوليون هل تحمل [أوامره - صلى الله عليه
وسلم -] (7) على الوجوب أو على الندب، وإذا أوجبنا أو قلنا بالندب فهل يختص
ذلك بالمنهي عن اتخاذه، أو يكون عاماً في سائر الكلاب؟ قولان. وسببهما: هل
العلة ورود النهي في المخالطة، أو لأن سؤر الكلب مما يستقذر غالباً؟ وهو
أيضاً مما لا يتوقَّ النجاسة غالباً، فيسري (8) ذلك في كل كلب.
__________
(1) في (ص) و (م) و (ق) من ولوغ الكلب.
(2) وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ في إِنَاءِ
أَحَدِكُمْ فَلْيُرِقْهُ ثُمَّ لِيَغْسِلْهُ سَبْعَ مِرَارٍ" أخرجه البخاري
في الوضوء 172، ومسلم في الطهارة 279 واللفظ له.
(3) في (م) منهم.
(4) في (ص) كما تقدم.
(5) في (ر): بذلك.
(6) الذي في المدونة 1/ 5 "إن كان يغسل ففي الماء وحده وكان يضعفه" دون
قوله "سبعاً".
(7) ساقط من (ر).
(8) (ص) فيستوي.
(1/240)
وهل يغسل الإناء إذا كان فيه طعام أو لا
يغسل إلا إذا كان فيه ماء؟ قولان: المشهور أنه لا يغسل إلا من الماء،
والقول الثاني أنه يغسل كان فيه ماء أو غيره. وسبب الخلاف: هل يخصص العموم
بالعادة- لأن العادة أن الكلاب لا تجد من أواني العرب الذين ورد فيهم الحكم
إلا ما فيها ماء، وأما أواني الطعام فإنهم يتحفظون عليها فلا يجدها الكلاب-
أو لا يخص العموم بالعادة فيكون ذلك جار في كل الأواني؟
ولو ولغت كلاب كثيرة في إناء واحد، فهل يغسل لجميعها سبعاً، أو يغسل لكل
واحد سبعاً؟ قولان. وسببهما هل الألف واللام في قوله - صلى الله عليه وسلم
-: "إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ" للجنس؟ فيكون مراده - صلى الله عليه وسلم -
إذا ولغ الكلاب غسل سبعاً، أو الألف واللام للعهد؟ فيكون المشار بها إلى
كلب واحد مفرد. وعلى هذا اختلف هل يؤمر سامع الأذان بحكايته وإن تكرر
الأذان أو لا يؤمر إلا بحكاية الأول خاصة؟ وكذلك الخلاف فيمن اشترى مصراة
(1) فوجب له ردها، هل يرد لجميعها إذا كانت كثيرة صاعاً أو لكل واحدة منها
صاعاً (2)؟ وهذا يتبين في موضعه إن شاء الله.
واختلف المذهب أيضاً إن ولغ الكلب في الإناء هل يجوز غسله بذلك الماء الذي
ولغ فيه أو يغسل بماء ثان؟
وسبب الخلاف هل الغسل للتعبد المحض، أو لما يمكن أن يكون ولغ فيه من
النجاسة ولأنه مما يستقذر (3)؟
(حكم سؤر الخنزير)
واختلف أيضاً في الخنزير هل يلحق بالكلب في هذا الحكم (4)، أم يكون حكمه
حكم سائر الحيوانات على التفصيل المتقدم؟
__________
(1) قال صاحب النهاية في غريب الحديث 3/ 27: المُصَرَّاة: الناقَةُ أو
البقَرةُ أو الشَّاةُ يُصَرَّى اللَّبنُ في ضَرْعها، أي يُجْمع ويُحْبَس.
(2) قال في مختار الصحاح 1/ 156: الصاعُ الذي يُكال به، وهو أربعة أمداد،
والجمع أصْوُعٌ.
(3) في (ر) مما يستقذر وانظر متى يؤمر بغسله هل عند إرادة استعماله أو عند
ولوغه واختلف المذهب فيه أيضًا على قولين.
(4) في (ق) و (م) في هذه الأواني.
(1/241)
والخلاف على ما ذكرناه (1) من أنه إن جعل
غسل الأواني للتعبد المحض، لم يلحق به الخنزير، وإن جعل للاستقذار والنهي
عن مخالطته لحق بذلك الخنزير.
...
فصل في آداب الأحداث
وهي على ثلاثة أقسام: قسم سابق، وقسم مقارن، وقسم متأخر.
(حكم استقبال القبلة للبول والغائط)
ولنقصد إلى ما ذكره (2) في الكتاب دون غيره، وهو أن لا يستقبل القبلة لبول
ولا لغائط. وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك (3)، وثبت
أن ابن عمر أشرف على بيت حفصة فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - على
لبنتين مستقبلاً (4) لبيت المقدس ومستدبراً للكعبة (5).
وقد بني مالك هذين الحديثين، فرأى أن المنع على صفة، والجواز على صفة
ثانية. وما هي الصفة؟ لا يخلو إما أن يكون الموضع لا مراحيض
__________
(1) في (م) على ما قدمناه.
(2) في (ق) و (م) ولنقصد ما ذكرناه.
(3) في (ق) النهي عن ذلك ألا يستقبل القبلة وألا يستدبرها.
ومنه ما أخرجه مسلم في الطهارة (388) عَنْ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّ النَّبِيَّ
- صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِذَا أَتَيْتُمْ الغَائِطَ فَلَا
تَسْتَقبلُوا الْقِبلَةَ وَلاَ تَسْتَدْبِرُوهَا بِبَوْلِ وَلاَ غَائِطِ
وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرَّبُوا"، قَال أَبوِ أَيُّوبَ: فَقَدِمنَا
الشَّامَ فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ قَدْ بُنِيَتْ قِبَلَ الْقِبْلَةِ
فَنَنْحَرِفُ عَنْهَا وَنَسْتَغْفِرُ اللهَ. الحديث.
(4) في (ر): مستقبلاً القبلة.
(5) أخرج البخاري في الوضوء (144) واللفظ له ومسلم في الطهارة (391) عَنْ
عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: ارْتَقَيْتُ فَوْقَ ظَهْرِ بَيتِ حَفْصَةَ
لِبَعْضِ حَاجَتِي فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -
يَقْضِي حَاجَتَة مُسْتدْبِرَ الْقبْلَةِ مُسْتَقْبِلَ الشَّامِ.
(1/242)
فيه ولا ساتر (1) [فلا يجوز الاستقبال فيه
ولا الاستدبار، أو تكون المراحيض والساتر] (2) فيجلس بحسب ما تقتضيه
المراحيض، أو يكون ذا مراحيض ولا ساتر، فيجلس أيضاً بحسب ما تقتضيه
المراحيض للضرورة، أو يكون ذا ساتر ولا مراحيض فيه ففي المذهب قولان:
أحدهما: جواز الاستقبال أو الاستدبار، والثاني: أنه لا يستقبل ولا يستدبر.
وسبب الخلاف هل العلة في المنع لحرمة القبلة فلا يجوز على (3) هذا
الاستقبال ولا الاستدبار، أو العلة (4) المصلون إلى القبلة، فإذا وجد
الساتر بينه وبينهم جاز الاستقبال والاستدبار [على الإطلاق] (5).
(حكم استقبال القبلة أثناء المجامعة)
واختلف أيضاً في المجامعة (6) هل يجوز فيها الاستقبال والاستدبار على
الإطلاق؟ أو يكون فيها من التفصيل ما قدمنا في الحدث؟
وسبب الخلاف هل العلة في الحدث نفس العورة فتكون المجامعة بمنزلته، أو
العلة ما يخرج من الحدث فتكون المجامعة بخلاف ذلك؟
وفي المدونة ما يؤخذ منه الجواز في المجامعة على الإطلاق؛ لأنه لما سأله عن
المجامعة قال لا بأس بذلك (7). لكنه عقيب (8) قوله، شبهه بالحدث. وقد تعلق
باللفظ الأول بعض الأشياخ فأجازوه على الإطلاق، وتعلق آخرون بالتشبيه
فألحقوه بالحدث.
...
__________
(1) في (ق) و (م) ستائر.
(2) ساقط من (ق) و (م).
(3) في (ص) ها هنا.
(4) في (ص) حرمة المصلين.
(5) ساقط في (ص) و (م) و (ق).
(6) في (ص) الجماع.
(7) المدونة 1/ 7.
(8) في (ص) عقب.
(1/243)
فصل (في إزالة
الأذى)
ومن آداب الإحداث المتأخرة إزالته. والأَوْلى في ذلك الجمع بين الحجارة (1)
والماء، يبدأ بالحجارة لإزالة العين ثم بالماء لإزالة الأثر، وذلك أبلغ في
سرعة الإزالة وأذهب للرائحة. فإن أراد [مريد] (2) الاقتصار، فالأَوْلى
الاقتصار على الماء، لأنه يذهب العين والأثر. وإن أراد الاقتصار على
الأحجار، فإن فقد الماء جاز له ذلك، وإن وجده فقولان: المشهور جواز
الاقتصار، والشاذ منعه وهو مذهب ابن حبيب (3). وقد ثبت أنهم كانوا يقتصرون
في العصر (4) الأول على الأحجار. وهل ذلك لأن الماء كان يعوز عليهم، أو
لأنهم كانوا يُبعدون- بخلاف أهل الوقت- أو ذلك رخصة لأن هذه الأحداث (5)
كثيرًا ما تطرأ على الإنسان في الطرقات وحيث لا ماء؟ فرخص في ذلك لإزالة
عين هذه الأحداث بالأحجار. واستمر (6) العمل حيث يوجد الماء ويفقد، وهذا
الذي يظهر من فعل الأولين.
وإذا جاز له الاقتصار على الأحجار فهل يقوم في ذلك غيرها مقامها؟
قولان: المشهور أنه يقوم مقامها كل شيء (7) طاهر ليس بمطعوم ولا ذي حرمة
[ولا يتعلق به حق الغير] (8)، والشاذ أنه لا يكفي إلا الأحجار. والوارد في
الأحاديث [الأحجار] (9) لكنه رخصة.
__________
(1) في (ص) و (م) الأحجار.
(2) ساقط من (ص).
(3) الذي في النوادر والزيادات عن ابن حبيب: أن من فعل ذالك قد أساء ولا
شيء عليه. 1/ 24.
(4) في (ق) الصدر.
(5) في (م) الحاجات.
(6) في (م) ويستمر العمل وفي (ص) واستمر ذلك.
(7) في (ص) كل منق.
(8) ساقط من (ص) و (م) و (ق).
(9) ساقط من (ق).
(1/244)
وقد اختلف الأصوليون هل يقاس على الرخص أو
يقتصر عليها وعلى ما وردت؛ فمن قال بالقياس ألحق بذلك غير الأحجار، ومن
قصرها على ما ورد قال لا يكفي إلا الأحجار. وإذا قلنا بالقصر فهل يطلب في
ذلك عدد؟ قولان: أحدهما: أنه لا يكفي دون الثلاث (1)، فإن لم يحصل الإنقاء
بثلاثة طلب الزائد وإن حصل بأقل من ذلك طلب الثلاثة، وقيل يجزي إن حصل
الإنقاء بواحد. والمشهور في الأحاديث طلب الثلاث لكن في بعضها أن رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - أمر من معه أن يأتي بثلاثة أحجار فأتاه بحجرين
وروثة فأخذ الحجرين ورمى بالروثة وقال إنها رجس (2) ولم يذكر في الحديث أنه
طلب ثالثة (3). وخرج أبو داود (4) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"مَن اسْتَجْمَرَ فَلْيُوترْ مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لاَ فَلَا
حَرَجَ" (5). وهذا يقتضي إباحة الاقتصار، وما قدمناه يقتضي طلب الثلاثة وهو
مقتضى (6) التعبد. وإذا أوجبنا الثلاثة فهل ينوب في دلك حجر ذو ثلاث شعب
(7)؟ قولان: أحدهما: الاكتفاء به لأنه
__________
(1) في (م) و (ص) الثلاثة الأحجار.
(2) في (ق) نجس.
(3) لم أقف على هذا الحديث بهذا اللفظ فيما توفر عندي من مصادر لكن بألفاظ
قريبة، منها ما أخرجه البخاري في الوضوء (156) عن عَبْدَ اللهِ بن مسعود
قال: "أتى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْغَائِطَ فَأَمَرَنِي أَنْ
آتِيَهُ بِثَلاَثَةِ أَحْجَارِ فَوَجَدْتُ حَجَرَينِ وَالْتَمَسْتُ
الثَّالِثَ فَلَمْ أَجِدْهُ، فَأَخَذْتُ رَوْثَةً فَأتيْتُهُ بِهَا
فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ وَقَالَ: هَذَا رِكْسٌ".
في (ر): الثلاثة.
(4) هو: سليمان بن الأشعث .. الإمام أبو داود الأزدي السجستاني محدّث
البصرة. صنّف كتابه السنن وعرضه على أحمد بن حنبل فاستجاده واستحسنه ..
وقال أبو بكر بن داسه: سمعت أبا داود يقول: كتبت عن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - خمس مئه ألف حديث انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب - يعني كتاب
السنن - جمعت فيه أربعه آلاف حديث وثماني مئة حديث ذكرت الصحيح وما يشبهه
ويقاربه .. سير أعلام النبلاء 13/ 203، 217.
(5) أبو داود في الطهارة 32، وابن ماجه في الطهارة 332، وأحمد في مسنده 2/
463، والدارمي في الطهارة 660 كلهم عن أبي هريرة، واللفظ لابن ماجه
والدارمي.
(6) في (م) يقتضي.
(7) في (ص) و (ق) رؤوس.
(1/245)
يحصل به ما يحصل بالثلاثة (1)، والثاني:
أنه لا يكتفى به جموداً على ما ورد من طلب الثلاثة.
وهل يكتفي للمخرجين بثلاثة أو يطلب لكل واحد ثلاثة؟ قولان. وهو خلاف في
شهادة، هل يتلطخ الحجر بأحدهما فلا يكفي في الآخر (2)، أو يمكن أن يحصل
الانقاء في الموضعين بثلاثة.
وكذلك اختلف في صورة الفعل؛ فقيل يمسح بكل حجر جميع الموضع (3)، وقيل بل
يمسح بأحدهما وسط (4) الموضع، وبالاثنين الجانبين. وهذا ينبغي أن يحال فيه
على ما هو الإنقاء والأذهب للعين فيفعل.
ولا يجب الاستنجاء من الريح لأنه ليس بذي جسم تطلب إزالته.
وإن تعدى الخارج المخرجين إلى وسط (5) الجسم وانتشر كثيراً فلا يزال إلا
بالماء، [وإن قل انتشاره فقولان: قيل هو كالموضع فيزال بالأحجار، وقيل
كالمنتشر كثيراً فلا يزال إلا بالماء (6). وهذا على الخلاف في ما قارب
الشيء هل يعطى حكمه أم لا؟
وفي الكتاب في من استجمر بالحجارة ولم يغسل ما هنالك بالماء حتى صلى أن
صلاته مجزية، ويغسل ما هنالك لما يستقبل (7). وهذا إنما يصح إذا كان يمكنه
أن يغسل ولا يمس الذكر، والثاني: إن افتقر إلى مسه فإنه يعيد الوضوء على
مذهب من أوجب الوضوء من مسه.
...
__________
(1) في (ص) و (ق) بالثلاثة الأحجار.
(2) في (ق) فلا يكتفي في الإجزاء.
(3) في (م) الموضعين.
(4) في (ق) بأحدهما بكل حجر جميع.
(5) في (ر) وإن تعدى المخرجين الخارج إلى سطح.
(6) ساقط من (ق) و (م).
(7) المدونة 1/ 8.
(1/246)
|