التنبيه على مبادئ التوجيه - قسم العبادات

باب ما يجب منه الوضوء (1)
الوضوء يجب من شيئين: أحداث، وأسباب أحداث. فالأحداث ما يخرج من القبل والدبر. والخارج من القبل ثلاثة وهو: البول، والودي (2) والمذي (3). والخارج من الدبر ثلاثة: الغائط، والصوت، والريح.
وأسباب الأحداث ثلاثة وهي: مس الذكر، ولمس النساء، والنوم، وفي معناه فقدان العقل بالجنون والسكر والإغماء.
واختلف في الردة هل تقتضي نقض الوضوء إذا عاد إلى الإسلام؟
وكذلك اختلفوا في رفض الوضوء هل يؤثر أو لا؟

(حكم مس الذكر)
ونؤخر الردة والرفض إلى استفاء أحكام الأحداث وأسبابها، ونجري على ترتيب الكتاب. وقد ابتدأ بأسباب الأحداث وقدم حكم مس الذكر، وقد ورد فيه حديثان: أحدهما: حديث بسرة (4)، وهو يقتضي نقض الوضوء بمسه. والثاني: حديث طلق بن علي (5)، وهو يقتضي عدم النقض بمسه،
__________
(1) في (ق) و (ر) فصل:.
(2) الوَدْيُ: البلل اللزج الذي يخرج من الذكر بعد البول. انظر لسان العرب 15/ 385.
(3) في (ص) البول والمني والودي.
والمَذْيُ: ما يخرج من ذكر الرجل عند النظر. انظر لسان العرب 15/ 275.
(4) عن بُسْرَة بنْت صَفْوَانَ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "إِذَا مَسَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضأ" أخَرجه النسائي في الطهارة 163 واللفظ له، وأبو داود في الطهارة 181، وابن ماجه في الطهارة 479، وأحمد في مسنده 2/ 223، ومالك في الموطأ الطهارة 91، وابن خزيمة في صحيحه 1/ 22، وابن حبان في صحيحه 3/ 396، والحاكم في المستدرك على الصحيحين 1/ 231.
(5) هو طلق بن علي بن المنذر بن قيس الحنفي السحيمي اليماني. وَفَدَ على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعمل معه في بناء المسجد. تهذيب التهذيب 5/ 29.

(1/247)


لأنه ذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن مس الذكر هل يوجب الوضوء؟ فقال: "وهل هو إلا بَضعَةٌ منك" (1).
وقد بني المالكية الحديثين فرأوا أنه ينقض بمسه الوضوء على صفة دون صفة. وما هي الصفة؟ فلهم أربعة أقوال؛ أحدهما: اعتبار اللذة، فإن وجد اللذة بمسه انتقض، وهو رأي البغداديين (2) من أهل المذهب. والثاني: مراعات العمد، فإن مسه عامداً انتقض وضوءه، وإن كان ناسياً (3) لم ينتقض، وهو مذهب مالك في أحد أقواله وسحنون (4). والثالث: مراعاة باطن الكف، فان مسه بغيره لم ينتقض وهو مذهب أشهب، والرابع: مراعاة باطن الكف وباطن الأصابع، فإن مسَّه بغيرهما لم ينتقض، وهو مذهب الكتاب (5). وكأن الجميع يراعون اللذة. فراعى البغداديون وجودها وعدمها. وراعى من فرق بين العمد والنسيان أن اللذة توجد غالباً مع العمد بخلاف النسيان. وراعى أشهب باطن الكف لأن فيه من لطافة الحس (6) ما ليس في سائر الأعضاء. والغالب وجود اللذة به بخلاف غيره من الأعضاء. وراعى (7) في الكتاب أن باطن الأصابع بمنزلة باطن الكف، إذ فيها من لطافة الحس ما فيها. وقد استدل هؤلاء بما ورد في بعض الطرق: "من
__________
(1) عن طلق بن علي قال: "قَدِمْنَا عَلَى نَبِيِّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَاءَ رَجُلٌ كَأَنَّهُ بَدَوِيٌّ فَقَالَ: يَا نَبِيِّ اللهِ، مَا تَرَي في مَسِّ الرّجُلِ ذَكَرَهُ بَعْدَ مَا يَتَوَضَّاُ؟ فَقَالَ: "هَل هُوَ إلاَّ مُضغَةٌ مِنْهُ" أَوْ قَالَ: "بَضْعَةٌ مِنْهُ" أخرجه الترمذي في الطهارة 85، وأبو داود في الطهارة 182 واللفظ له، والنسائي في الطهارة 165، وابن ماجه في الطهارة 483، وابن حبان في صحيحه 3/ 402، قَالَ الترمذي: وَقَد رُوِيَ عَنْ غَيْرِ واحِدٍ مِنْ أَصْحَاب النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَبَعْضِ التَّابِعِينَ أَنَّهُمْ لَمّ يَرَوُا الْوُضُوءَ مِنْ مَسِّ الذَّكَر، وَهُوَ قَوْلُ أَهْل اَلْكُوفَةِ وَابْن الْمُبَارَكِ.
(2) يقصد بالبغداديين: أتباع الإمام مالك في العراق، وهم القاضي إسماعيل وابن القصار وابن الجلاب والقاضي عبدالوهاب وأبي الفرج والأبهري ونظائرهم.
(3) في (ق) وإن مسه غير متعمد.
(4) انظر النوادر والزيادات 1/ 54.
(5) المدونة 1/ 8.
(6) في (ق) الجسم.
(7) في (ر) و (ص): ورأى.

(1/248)


أفضى بيده إلى فرجه فعليه الوضوء" (1)، والإفضاء إنما يكون بباطن الكف، وفي معناه الأصابع.

(حكم مس الدبر وسائر البدن)
ولا يجب الوضوء بمس شئ من البدن ولا من الدبر على المشهور. وذكر حمديس (2) أنه يلزم على قول من أوجب الوضوء على المرأة إن مست فرجها أن يقول يلزم الوضوء من مس الدبر. وهذا الذي قاله غير صحيح لأن الفرج ينطلق (3) عليه تسميته. وقد ورد في بعض الطرق: "ومن مس فرجه توضأ" (4)، وأيضاً فإنه مما (5) يمكن اللذة بمسه بخلاف الدبر.
وقد اختلف في مس المرأة فرجها، فقيل: يجب عليها الوضوء، وقيل: لا يجب عليها، وقيل: إن ألطفت وجب عليها وإن لم تلطف لم يجب عليها. واختلف المتأخرون هل (6) المذهب على ثلاثة أقوال كما ذكرناها أو يرجع الجميع إلى (7) قول واحد؟ فمعنى قول من منع (8) الوجوب: إذا لم تُلْطِفْ، ومن أثبته: إذا ألطفت. فكأن طريقه من بني الأمر في اللمس على وجود اللذة وعدمها؛ هذا إن مسه من غير حائل، فإن مسه
__________
(1) أخرج أحمد في مسنده 2/ 333 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ أَفْضَى بِيَدِهِ إِلَى ذَكَرِهِ لَيْسَ دُونَهُ سِتْرٌ فَقَدْ وَجَب عَلَيْهِ الْوُضُوءُ".
(2) في (م) حمديس بن إبراهيم.
وهو: حمديس بن إبراهيم بن أبي محرز اللخمي، من أهل قفصة، نزل مصر وبها توفي، فقيه ثقة سمع من ابن عبدوس ومحمد بن عبد الحكم ويونس الصدفي، وله في الفقه كتاب مشهور في اختصار المدونة. توفي سنة تسع وتسعين ومائتين. الديباج المذهب ج: 1/ 108، وشجرة النور ص: 71 (86).
(3) في (ق) و (ص) يطلق.
(4) أخرج النسائي في الغسل والتيمم (444) واللفظ له، وابن ماجه في الطهارة (481) عَنْ بُسْرَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ مَسَّ فَرْجَة فَلْيَتَوَضَّأْ".
(5) في (ق) ما.
(6) في (ق) من أصل.
(7) في (ق) على.
(8) في (ص) و (ق) و (م) نفى.

(1/249)


دون حائل؛ فإن وَجَدَ اللَّذة توضأ، وإن فقدها- والحائل يمنع وصول شيء من اليد إلى الذكر- لم يجب عليه الوضوء.
فإن مسه ثم صلى قبل أن يتوضأ فأربعة أقوال؛ أحدها: أنه لا إعادة عليه، والثاني: أنه يعيد في الوقت، والثالث: أنه يعيد وإن خرج الوقت، والرابع: أنه يعيد بعد اليومين والثلاثة، فإن طال لم يعد.
والإعادة على ترك مراعاة الخلاف، وإسقاط الإعادة على مراعاته، وكذلك الإعادة في الوقت. وأما من قال يعيد بعد اليومين والثلاثة دون أن يطول فهو أضعف الأقوال، لكنه رأى مراعاة الخلاف إلا أن تطول الأيام، فيكون كحكم استقر ومرَّ عليه دهر فلا ينتقض.
...

فصل (في حكم النوم)
وأما النوم فالمشهور من المذهب أنه سبب للحديث وليس بحدث في نفسه، والشاذ أنه حدث، وهو قول ابن القاسم (1) في كتاب ابن القصار (2) ورواية (3) أبي الفرج عن مالك. ويعتمد قائل ذلك على أحد التفسيرين في قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} (4) أن المراد بذلك إذا قمتم من النوم. وعمومه يقتضي النوم الكثير واليسير، ووقع في بعض الأحاديث أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر
__________
(1) هو: عبد الرحمن بن القاسم أبو عبد الله العتقي مولاهم المصري صاحب مالك الإمام عالم الديار المصرية ومفتيها. روى عن مالك وعبد الرحمن بن شريح ونافع بن أبي نعيم المقرئ وبكر بن مضر وطائفة قليلة وعنه أصبغ والحارث بن مسكين وسحنون وعيسى بن مثرود ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم وآخرون .. وقيل إن مالكاً سئل عنه وعن ابن وهب فقال: "ابن وهب رجل عالم وابن القاسم فقيه" سير أعلام النبلاء 9/ 120 - 122 وطبقات الفقهاء ص: 155، وشجرة النور ص: 58 (24).
(2) في (م) و (ق) رواية.
(3) في (م) و (ق) رواية.
(4) المائدة: 6.

(1/250)


موجبات الوضوء فعدَّ البول والغائط والنوم (1). وعطف النوم على هذين يقتضي على هذا كونه حدثاً بمنزلتهما.
لكن اختلف الأصوليون في العطف هل يفيد التشريك في المعنى كما يفيده في الإعراب أم لا يفيده؟ وإنما تكون فيه حجة متى قلنا بأنه يفيده. على أن الحديث لم يثبت. ومعتمد (2) المشهور من المذهب على أن النوم يذهب التمييز، ويمكن معه خروج الريح من غير أن يعلم، فإذا أمكن ذلك وجب (3) الوضوء، وإليه الإشارة بما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - من قوله: "العينان وكاء السَّهِ فإذا نامت العينان استطلق الوكاء" (4).
وهذا الحديث وإن لم يخرجه أهل الصحاح فقد اشتهر وهو منبّه على العلة، فإذا ثبت ذلك فيكون النوم ينقض على صفة دون صفة. وما هي الصفة؟ وقع التحديد في المذهب بطريقتين؛ إحداهما: [أنه] (5) لا يخلو من أن يكون طويلاً ثقيلاً فينقض الوضوء من غير خلاف، أو قصيراً خفيفاً فلا ينقضه، أو قصيراً ثقيلاً ففيه قولان، أو طويلاً خفيفاً ففيه قولان أيضاً. وحكى أبو الحسن اللخمي في هذه الصورة استحباب الوضوء، (6) والقولان فيهما كما ذكرناه (7).
__________
(1) لعله يشير إلى حديث صفوان بن عسال قال: "كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَأَمُرُنَا إِذَا كُنَّا سَفَراً أَنْ لاَ نَنْزعَ خِفَافَنَا ثَلاَثَةَ أَيَّام وَلَيَاليهِنَّ إِلاَّ مِنْ جَنَابَةٍ وَلَكِنْ من غَائِطِ وَبَوْلِ وَنَوْم" أخرجه الترمذي في الطهارة (96) واللفظ له، والنسائي في الطهارة (127) وقال الترمذي: هَذَا حَدِيثْ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
(2) في (ر) و (ق) ويعتمد.
(3) في (ص) وجب ذلك.
(4) لم أقف على هذا الحديث بهذا اللفظ إلا عند الدارمي بلفظ أقرب عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إنَّمَا الْعَيْنَانِ وِكَاءُ السَّهِ فَإذَا نَامَتْ الْعَيْنُ اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ". وأخرجه بألفاظ قريبة أبو داود في الطهارة 175، وابن ماجه في الطهارة 470، وأحمد في مسنده 4/ 96.
(5) ساقط من (ر) و (ص).
(6) التبصرة: 17.
(7) في (ق) و (م) والقولان فيما ذكرنا.

(1/251)


وسبب الخلاف في الصورتين البناء على من أيقن بالوضوء وشك في الحدث، وفيه خلاف في المذهب؛ فمن أوجب الوضوء بالشك أوجبه في هاتين الصورتين لأن القصير (1) يقتضي عدم خروج الحدث إلا أن يشعر به والثقيل يقتضي خروجه، فقد اجتمع هاهنا [الأمران] (2)؛ موجب ومسقط. فكانا يتحرى إن شكا (3)، وكذلك في الصورة الثانية. ومن أسقط الوضوء عن الشاك أسقطه في الصورتين.
والطريقة الثانية الالتفات إلى الهيئات فإن كانت هيئة النائم تقتضي خروج الحدث والطول- كالساجد- وجب (4) الوضوء، وإن كانت لا تقتضي ذلك كالقائم والمحتبي (5) غير مستند لم يجب [الوضوء] (6)، وإن كانت تقتضي (7) خروج الحدث ولا تقتضي (8) الطول كالراكع ففيه قولان: وإن كانت تقتضي الطول دون خروج الحدث كالجالس المستند (9) ففيه قولان، وهذا كالأول. ولكن (10) هذه الطريقة أوفق بمقتضى (11) الروايات.

(وجوب الوضوء بالجنون والسكر والإغماء)
وأما فقدان العقل بالجنون والسكر والإغماء فيوجب الوضوء على أي حالة كان، لأنه يقتضي عدم العلم بخروج (12) الحدث. وأراد أبو الحسن
__________
(1) في (ر) و (ص) القصر.
(2) ساقط من (ق).
(3) في (ر) فكان يتم إن شكا وفي (م) و (ص) غير مقروء.
(4) في (م) وجوب.
(5) في (ص) لم تجب كالقائم والمحتبي.
(6) ساقط من (م) و (ق).
(7) في (ق) يقتضي.
(8) في (ق) يقتضي.
(9) في (م) مستند.
(10) في (م) لكن.
(11) في (ر) لمقتضاء.
(12) في (م) لأنه يقتضي خروج.

(1/252)


اللخمي أن يجعل فيه خلافاً إذا لم يطل، وعول في ذلك على كلام القاضي أبي محمد (1) أن ذلك سبب حدث (2). وهذا الذي قاله ليس بشيء، لأن القاضي لما قال إنه سبب للحديث [ساوى بين قليله وكثيره في نقض الوضوء، وفرق في النوم. وإنما أراد به] (3) [أنه سبب حدث] (4) لكنه سبب يقتضيه ولا بد (5)، وذلك حقيقة السببية (6).

(هل تنقض الطهارة الكبرى بفقدان العقل؟)
وهل يقتضي فقدان العقل نقض الطهارة الكبرى؟ المشهور أنه لا يقتضيه. ورأى ابن حبيب أنه يقتضيه في حق المصروع، لأنه رأى أن الغالب خروج المني من أهل هذه العلة متى صرعوا. وهذا إنما يعول فيه (7) على وجدان المني بعد الإفاقة وعدم وجدانه. والمشهور أيضاً من المذهب أن المني متى عري (8) عن اللذة لم يوجب غسلاً على ما نفصله [بعد] (9).

...

فصل (حكم لمس المرأة)
ويلحق اللمس بسبب الأحداث، وإن أخره في الكتاب. وهو (10) يوجب عند مالك رحمه الله - إذا كان غير عار من اللذة- نقض الوضوء.
__________
(1) في (ص) القاضي أبي محمد عبد الرهاب.
(2) التبصرة: 17.
(3) ساقط من (م) و (ق) و (ص).
(4) ساقط من (ص).
(5) في (ق) و (ر) و (م) فلا بد.
(6) في (ق) التشبيه (م) الشبيه.
(7) في (ص) إنما يعدل فيه إلى وجدان.
(8) في (ص) ما عرى.
(9) ساقط من (م).
(10) في (ر) وهل.

(1/253)


والمعتمد في ذلك قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (1). وتفصيل المذهب (2) أن اللمس لا يخلو من أربع صور؛ إحداها: أن يقصد به اللذة وتوجد، فيجب الوضوء بلا خلاف. والثانية: أن يجد ولا يقصد، فكذلك أيضًا (3) يجب الوضوء. والثالثة: ألا يقصد ولا يجد، فلا يجب الوضوء. والرابعة: أن يقصد ولا يجد فيها، هنا مقتضى الروايات وجوب الوضوء. والأشياخ يحكون عن المذهب قولين: الإيجاب والإسقاط، وإنما يعولون في ذلك على الخلاف في الوضوء هل يرفض (4) بالنية، وفي المذهب في ذلك قولان. وهذا الذي يعولون عليه (5) ليس بشيء، لأن اللمس هاهنا قد وجد منه فعلاً (6) بخلاف الرفض بمجرد النية من غير فعل.
وهذا التفصيل المتقدم في حق اللامس، وأما الملموس فلا تفصيل فيه، وإنما يقال إن وجد اللذة توضأ وإن لم يجد فلا وضوء عليه.

(حكم القبلة)
وكذلك أيضاً لا تفصيل أيضاً في القبلة على الفم على المشهور من المذهب، بل توجب الوضوء إذا كانت فيمن توجد اللذة بقبلته على الإطلاق. وهذا لأن الغالب وجود اللذة بها، فإن شذت نادرة فلا يلتفت إليها. وقيل: هي بمنزلة اللمس؛ فإن فقدت اللذة والقصد إليها لم ينتقض الوضوء، وهذا على الخلاف هل تراعى الصور النادرة أو يعطي الحكم للغالب. ومتى كان اللمس دون حائل فإنما يراعى فيه وجود اللذة [فيجب الوضوء] (7)، أو (8) فقدانها فلا يجب.
__________
(1) المائدة: 6.
(2) ساقط من (ق) و (م).
(3) في (م) فكذلك يوجب الوضوء أيضًا.
(4) في (م) و (ق) هل يرتفض.
(5) في (ق) و (م) عليه مطلوب لأن اللمس وفي (ص) عليه غير مطلوب.
(6) في (ق) و (ر) فعل.
(7) ساقط من (ق).
(8) في (ق) و.

(1/254)


(حكم الإنعاظ)
وأما الإنعاظ (1) من غير مس ففيه قولان: أحدهما: إيجاب الوضوء، والثاني: إسقاطه. قال الأشياخ: وإنما ينبغي أن ينظر الإنسان إلى حاله، فإن اعتاد وجود المذي متى كان منه ذلك توضأ، وإن اعتاد فقده لم يتوضأ.

(حكم اللذة من غير مس)
وأما اللَّذة من غير لمس كمن يتذكر (2) فيتلذذ أو (3) ينظر فيتلذذ، فإن كان عن ذلك مذي وجب الوضوء، وإن لم يكن مذي ولا إنعاظ لم يجب الوضوء على المشهور والمعروف من المذهب. وأوجبه أبو العباس الإبياني (4) وابن بكير (5). وهذا لا أصل له وهو يؤدي إلى الحرج الذي تسقطه الشريعة السمحة.
...
__________
(1) الإنعاظ من النعظ. يقال نَعَظَ الذكَرُ يَنْعَظُ نَعْظاً ونعَظاً ونُعُوظاً وأَنْعَظَ إذا قامَ وانْتَشَر، وأنعظ الرجل إذا اشتهى الجماع. والإنعاظ الشبق، وهو تشهي الجماع. انظر لسان العرب 7/ 464، والنهاية في غريب الحديث 5/ 81.
(2) في (ر) تذكر.
(3) في (ر): و.
(4) هو: عبد الله أبو العباس بن أحمد بن إبراهيم بن إسحاق التونسي المعروف بالإبياني بكسر الهمزة وتشديد الباء ويقال صوابه تخفيفها التميمي، كان عالم إفريقية من غير مدافع من شيوخ أهل العلم وحفاظ مذهب مالك يميل إلى مذهب الشافعي كان أبو محمد بن أبي زيد إذا نزلت به نازلة مشكلة كتب بها إليه يبينها إليه وكان قليل الفتوى .. توفي سنة اثنين وخمسين وثلاثمائة وقيل: سنة إحدى وستين وهو ابن مائة سنة غير أربعة أشهر الديباج المذهب: 136.
(5) هو: محمد بن أحمد بن عبد الله بن بكير البغدادي التميمي أبو بكير هو المشهور في اسمه ونسبه، وقيل: اسمه أحمد بن محمد بن بغدادي تفقه بإسماعيل القاضي كان فقيهاً جدلياً ولي القضاء. له كتاب في أحكام القرآن وكتاب الرضاع وكتاب مسائل الخلاف. توفي سنة خمس وثلاثمائة وسنه خمسون سنة، الديباج المذهب ص: 243، الشجرة: 78 (133).

(1/255)


فصل (في حكم من يعتريه المذي)
وأما الأحداث التي قدمنا تَعدادها فإن خرجت على وجه العادة أوجبت (1) الوضوء بإجماع، وإن خرجت على غير العادة كالمستنكح، فلا يخلو من كانت به تلك العلة من أن يقدر على رفعها كمن يعتريه المذي لطول عزبة (2) وهو قادر على إزالة العزبة بالتزويج أو التسري [أو لا يقدر على رفعها كمن لا يمكنه التزويج أو التسري] (3)، وكمن يعتريه ذلك لإبرَدة (4) أو يعتريه شيء من الأحداث ويلازمه، فإن قدر على إزالة (5) ذلك بالتداوي كما قلنا ففيه قولان: المشهور إيجاب الوضوء، لأن قدرته على الرفع تلحق ذلك بالمعتاد، والشاذ إسقاط الوضوء لأنه خارج على غير العادة فأشبه من لا يقدر. وقد يقال هاهنا أن هذا على الخلاف فيمن ملك أن يملك هل يعد مالكاً أم لا؟ وإن كان لا يقدر على الرفع فلا يخلو من أن يلازمه ذلك ولا يفارقه، أو يفارقه في بعض الأوقات (6) ويلازمه في بعضها؛ فإن لازم ولم يفارق فلا يجب الوضوء منه ولا يستحب، لأنه لا معنى للوضوء وهو يسيل (7) معه بعد (8) فراغه، وإن كان يلازم ويفارق فلا يخلو من ثلاث صور؛ إحداها: أن تكون ملازمته أكثر، فهذا يستحب منه الوضوء ولا يجب. والثانية: أن تكون مفارقته أكثر، فهذا فيه قولان: المشهور إيجاب الوضوء، والشاذ -وهو رأي جماعة من البغداديين- إسقاطه، وهو خلاف في حصول الحرج بذلك. فمن رآه حاصلا أسقطه، ومن رآه غير حاصل لم يسقط (9) بذلك الوجوب.
__________
(1) في (ق) أوجب و (م) وجب.
(2) جاء في لسان العرب 1/ 595 امرأَة عَزَبةٌ وعَزَبٌ: لا زَوْجَ لها.
(3) ساقط من (ق) و (م).
(4) الإِبْرِدَةُ: بَرْدٌ في الجوف. انظر لسان العرب 3/ 83.
(5) في (ص) رفع.
(6) في (ص) و (ق) و (م) أحيان.
(7) في (ق) و (ص) إذ هو يسيل، وفي (م) إذ هو يسير.
(8) في (ر): وبعد.
(9) في (ر) يسقطه.

(1/256)


والثالثة: أن تكون ملازمته ومفارقته سيان (1)، فهاهنا قولان؛ أحدهما: الإيجاب (2)، وهو (3) شهادة [بأن الحرج غير (4) حاصل، والثاني: الإسقاط وهو شهادة] (5) بحصول الحرج. والبغداديون يرون أن هذه الأحداث إنما توجب متى خرجت على العادة، فإن خرجت على غير العادة (6) وصارت علة فلا يتعلق عليها حكم على كل الأحوال.
واختلف في إسقاط (7) الوضوء هل يكون ذلك رخصة للإنسان في نفسه لا يتعداه، أو سقوط (8) ذلك يجعل الخارج كالعدم؟ فيه قولان، وعليه يختلف هل يجوز له الإمامة لغيره وكذلك الحكم في من كانت تنفصل (9) عنه النجاسة لا يقدر على الاحتراز منها، كمن به قروح؛ ففيه قولان (10): هل تجوز له الإمامة أو لا؟ وقد أخبر عمر رضي الله عنه أنه يجد ذلك في الصلاة فلا ينصرف حتى يقضي صلاته، وهذا يشعر بكونه مستنكحاً. وقد كان إماماً، ولم يذكر أنه ترك الإمامة بسبب ذلك. وهذا يشهد لأحد القولين. وفي المدونة عنه هذا وعنه الأمر بغسله والوضوء منه (11) وتأول بعض الأشياخ على أن إخباره [عنه] (12) على حالتين مختلفتين، وهذا لا يفتقر إليه لأنه إنما أخبر في أحد الأثرين عن حالته (13)، وأمر في الأثر الثاني غيره. فتكلم على حكم نفسه في الاستنكاح وعلى حكم غيره إذا لم
__________
(1) في (م) سنين.
(2) في (ق) الوجوب.
(3) في (ق) وهي.
(4) ساقط من (ص).
(5) ساقط من (م) و (ق).
(6) في (ص) و (م) فإن خالفت العادة.
(7) في (ص) إذا سقط.
(8) في (ص) أو بسقوط.
(9) في (م) في من كانت عادته تنفصل:.
(10) في (م) و (ق) أحدهما.
(11) المدونة 1/ 11.
(12) ساقط من (ص) و (م).
(13) في (م) حاله.

(1/257)


يكن مستنكحًا. وقد تقدم القولان في الردة هل تنقض الوضوء أم لا؟
وسبب الخلاف اختلاف آيتين؛ قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (1)، وهذا يقتضي الإحباط [بنفس الارتداد] (2)، وقال تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} (3)، فقد اشترط الوفاة على الارتداد. وهذا يقتضي أنه لا يكون الإحباط (4) بنفس الردة. ويعتذر هؤلاء عن الآية الأخرى (5) بأن المخاطب بها الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ولما كانت معرفته أكثر طرقًا (6) كانت عقوبته لو تصورت الردة أشدّ. واعتذر الأولون عن هذا بأن المخاطب الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمراد غيره، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا تصح عليه الردة. وهكذا اختلف في حكم المرتد (7) إذا عاد إلى الإسلام هل يعود كأنه لم يزل مسلماً، أو يكون كمبتدئ الإسلام الآن؟
وأما الاختلاف في الرفض فسببه أن النية فرض في الوضوء على المشهور من المذهب، لكن هل المقصود بها تصحيح الفعل (8) وقد حصل (9) ذلك، أو تكون كجزء من أجزاء الوضوء يجب استصحاب حكمها ما دام وضوؤه (10) باقيًا؟ فإذا أتى بما يناقضها (11) كان ذلك كبطلان جزء من أجزاء الوضوء، وبطلان جزء منه كبطلان جميعه.
...
__________
(1) الزمر: 65.
(2) ساقط من (ص) و (ق) و (م).
(3) البقرة: 217.
(4) في (ق) و (م) و (ص) الحبوط.
(5) في (م) الآخرة.
(6) كذا في (ر) و (ق) و (ص)، وفي (م) طرفاً.
(7) في (ر) أحكام الردة.
(8) في (م) و (ق) العقل.
(9) في (ق) يحصل.
(10) في (م) و (ق) فرضه.
(11) في (ص) ينقضها.

(1/258)


([فصل] (1) هل يكون المذي بمنزلة البول والودي؟)
وقد اختلف في المذي هل يكون بمنزلة البول والودي، أو يختص بأحكام ينفرد بها؟ وإذا قلنا إنه بمنزلتهما فلا تفريع، وإذا قلنا إنه يخالفهما ففي أي شيء تقع المخالفة؟ المشهور أنه لا يجوز (2) فيه الاستجمار بالحجارة، لأنه في الغالب إنما يأتي مستجلبًا بخلاف البول والغائط فإنهما (3) يخرجان بطبع (4) الغذاء. والمشهور أيضًا من مذهب المغاربة (5) من المالكية أنه يغسل منه جميع الذكر، ومذهب البغداديين أنه يجزي منه غسل موضع الأذى.
وسبب الخلاف [ما ورد] (6) في الحديث من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اغْسِلْ ذَكَرَكَ" (7)، والذكر له أول وآخر. وبين الأصوليين خلاف في الأسماء هل تحمل على الأوائل أو على الأواخر؟ فمن حملها على الأوائل قال يُقصر الغسل على مخرج الأذى، ومن حملها على الأواخر قال بغسل جميعه.

(حكم من صلى وقد غسل ذكره بلا نية)
واختلف القائلون بغسل جميعه هل يفتقر إلى نية أم لا؟ وسبب الخلاف هل غسل جميعه تعبد، أو هي عبادة تعدت محل سببها فأشبهت (8)
__________
(1) ساقط من (ق).
(2) في (ر) لا يجتزي.
(3) في (ر) فإنما.
(4) في (ص) بسبب.
(5) يقصد بالمغاربة، علماء المدرسة المالكية بالغرب الإسلامي كابن أبي زيد القيرواني والقابسي وابن الباد والباجي واللخمي وابن محرز وابن عبد البر وابن رشد وغيرهم. انظر شرح الخرشي على خليل 1/ 48 ومواهب الجليل 1/ 40.
(6) ساقط من (م).
(7) أخرجه البخاري في الغسل (290)، ومسلم في الحيض (306).
(8) في (ر) عبادة محضة تحل سببها فأشبهت. وفي (ق) عبادة محضة فأشبه.

(1/259)


الوضوء والغسل في افتقارهما إلى النية؟ أو غسله لتنقطع مادة المذي فلا يفتقر إلى نية؟
واختلف القائلون بالافتقار إلى النية لو صلى وقد غسله بلا نية؛ هل يعيد الصلاة أم لا؟ ومقتضى إيجاب النية أن يعيد الصلاة، وترك الإعادة مراعاة الخلاف. واستقرأ بعض المتأخرين من المدونة أنه يغسل الذكر من المذي عند إرادة الوضوء، فإن غسله قبل ذلك لم يجزه وعوَّل في ذلك على قوله في المدونة: ولا يلزم غسل الأنثيين عند الوضوء، إلا أن يخشى أن يكون أصابهما شيء، وإنما عليه غسل ذكره (1). فعوَّل على هذا الكلام ظانًا أن مراده إنما عليه غسل ذكره إذا أراد الوضوء. وهذا الاستقراء فيه بُعْدٌ، لأن مراده أنه لا يغسل الأنثيين وإنما يغسل الذكر خاصة. وقوله: إلا أن يخشى أن يكون أصابهما شيء، يقتضي أنهما مع الشك هل أصاب الجسد نجاسة (2) فيغسله، بخلاف الثوب فإن الثوب يجزي فيه النضح. وفي الجسد قولان: أحدهما: إجزاء النضح، والثاني: وجوب الغسل.
ونقل بعض المتأخرين (3) ما في المدونة على تحقيق الإصابة فقال إلا أن يصيبهما (4) شيء.
والمذي ماء إلى الصفرة أميل بين الدقة (5) والثخانة يخرج عند اللذة الصغرى كالقبلة والمباشرة.
والودي ماء إلى البياض أميل وفيه ثخانة يخرج عقيب (6) البول، فقد يعتريه من كثرة البردة (7)، أو من حصار (8) عن النكاح.
__________
(1) المدونة 1/ 12.
(2) في (ق) نجاسة أم لا يغسله، وفي (ر) نجاسة أم لا فيغسله.
(3) في (ر) المختصرين.
(4) في (ق) و (م) يصيبها.
(5) في (ق) الرقة.
(6) في (ص) عقب.
(7) في (ص) ويعتري من إبردة.
(8) بياض في (ق) و (ر)، وفي (ص) حمام. ولعل الصواب "حصار" كما أثبته في المتن.

(1/260)


والمني الموجب للغسل ثخين أبيض في الغالب يخرج عند اللذة الكبرى ورائحته كرائحة الطلع وكرائحة العجين.
...

فصل (في حكم الشاك في الوضوء)
والشاك في الوضوء لا يخلو شكه من أن يكون في جملة الوضوء أو في بعضه، ولا يخلو من أن يكون سالم الخاطر أو مُوَسْوَسًا (1)؛ فإن شك في الجملة وهو سالم الخاطر فلا يخلو [شكه] (2) من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يوقن بالحدث ويشك هل توضأ بعده فيجب عليه الوضوء بإجماع. والثاني: أن يوقن بالوضوء ويشك في الحدث، فهذا فيه قولان: أحدهما: الإيجاب للوضوء، والثاني: استحبابه. [والقسم الثالث أن يشك في الحدث والوضوء جميعًا، فهذا يطرح ما شك فيه ويبني على ما كان حاله قبل الشك؛ فإن كان محدثًا لزمه الوضوء، وإن (3) كان متوضئًا كان كالقسم الثاني] (4). وحكى أبو الحسن اللخمي عن المذهب خمسة أقوال فيمن أيقن بالوضوء وشكَّ في الحدث: أحدها: وجوب الوضوء، والثاني: إسقاطه. والثالث: استحبابه، والرابع: وجوبه إلا أن يكون في صلاة، والخامس التفرقة بين أن يستند شكه إلى سبب متقدم أو سبب في الحال؛ فإن استند شكه إلى سبب متقدم [كمن شك هل كان أحدث قبل وقته فيجب عليه الوضوء، وإن استند إلى سبب في الوقت] (5) كمن شك هل خرج منه ريح أم لا فإنه يعتبر هل سمع صوتاً أو وجد ريحاً، فإن لم ير أثراً من ذلك فلا وضوء عليه.
وهذا لا يوجد في المذهب على ما حكاه أبو الحسن اللخمي من
__________
(1) في (ق) مشوشًا.
(2) ساقط من (ق) و (م).
(3) التبصرة: 20.
(4) ساقط من (ق) و (م).
(5) ساقط من (ص).

(1/261)


الخمسة الأقوال. وإنما في المدونة القولان (1) خاصة، ومن قال بإسقاط الوضوء لا شك أنه يستحبه، ومن يفرق بين الصلاة وغيرها فإنما يبني على أنه مستحب فلا يقطع الصلاة بسببه.
وسبب القولين استصحاب حالتين: أحدهما: وجوب الصلاة في ذمته فلا يخرج عنها إلا بوضوء متيقن، والثاني: وجود الوضوء فلا ينتقض إلا بتيقن الزوال وإن شك في البعض. والأصل أنه لم يقع فلا يبرأ (2) إلا بكماله، فتجب عليه الإعادة، وهذا كله إذا لم يكن مُوَسْوَساً (3). فإن كان مُوَسْوَساً فانه يبني على أول خاطره، فإن سبق إلى نفسه أنه أكمل فلا يعيد، وإن سبق إلى نفسه أنه لم يكمل أعاد، لأنه في الخاطر الأول مشابه للعقلاء (4)، وفي الثاني مفارق لهم.
...

فصل (في طهارة سؤر الحائض والجنب)
وقد تقدم أن كل حي (5) طاهر، فسؤر الحائض والجنب طاهر. وقد تقدم حكم من عادته يستعمل النجاسة، والنصراني من ذلك القبيل.
...

فصل (في حكم ترتيب الوضوء)
وقد تقدم أن ترتيب الوضوء سنة وهو المشهور، وفي المذهب قولان آخران: أحدهما: أنه فرض، والثاني: أنه يجب مع الذكر ويسقط مع
__________
(1) في (ق) و (ر) في المذهب قولان.
(2) في (ق) و (م) فلا يبرأ منه.
(3) في (م) مشوشًا.
(4) في (ص) مشابه العقلاء و (م) و (ر) مشابهًا للعقلاء.
(5) في (ص) حيوان.

(1/262)


النسيان. فإن قلنا بالفرضية فمن نكس بطل وضوءه ولا تجزيه الصلاة بالوضوء المنكس، وإن فرقنا بين العمد والنسيان أجزأه مع النسيان دون العمد، وإن بنينا على المشهور من المذهب فإن صلى أجزأته صلاته. وهل (1) يعيد الوضوء؟ إن كان عامداً (2) أعاده من أوله ليأتي بالسنة على وجهها، وإن كان ناسياً فلا يخلو أن يكون بحضرة الماء أو بعد أن تباعد عنه؛ فإن كان بحضرة (3) الماء أعاد ما نكس وما يليه، وإن تباعد وكان مثلا (4) غسل يديه [قبل وجهه] (5) ثم مسح برأسه وغسل رجليه فمذهب ابن القاسم أنه يعيد غسل يديه خاصة، ومذهب ابن حبيب أنه يعيد اليدين وما بعدهما (6). وقد اعترض بعض الأشياخ قول ابن القاسم ورأوا أنه لا يحصل بذلك الترتيب بل يبقى على فساده (7)؛ لأنه إذا أعاد اليدين خاصة صارتا واقعتين بين الرأس والرجلين وذلك فساد للترتيب.
وإنما أوتي على هؤلاء من قبل أنهم ظنوا إعادة اليدين للترتيب [الذي] (8) بينهما وبين سائر الأعضاء، وإعادتهما هاهنا إنما هي لتقع بعد الوجه، وإلا فقد حصل الترتيب بينهما وبين الرأس والرجلين بالغسل (9) الأول، وإنما فساد الترتيب بينهما وبين الوجه كما قلناه، فإذا أعادهما (10) ذهب ذلك الفساد.

...
__________
(1) في (ق) وهو.
(2) في (ر) عمداً.
(3) في (ص) و (ق) و (م) يقرب.
(4) في (ق) تباعد كان مثل من غسل قبل وجهه.
(5) ساقط من (ر).
(6) انظر النوادر والزيادات 1/ 32.
(7) في (ر): فساد.
(8) ساقط من (ص) و (م) و (ق).
(9) في (ق) لا للغسل وفي (م) للغسل.
(10) في (ق) و (م) أعدناه و (ص) أعيد.

(1/263)


فصل (في حكم المضمضة والاستنشاق)
وقد قدمنا أن المضمضة والاستنشاق سنتان، فمن تركهما لم يبطل وضوؤه ولا صلاته؛ هذا إذا تركهما ناسيًا، فإن تركهما متعمدًا فينبغي أن يختلف في (1) ذلك على الخلاف فيمن ترك السنن متعمدا. ولا خلاف أنه لا يعيد (2) الصلاة بعد الوقت. وإنما وقع الخلاف في المذهب في الإعادة (3) في الوقت. ويمكن أن يقال ليس يلزم إذا قيل في سنة تجب الإعادة بعد الوقت أن يلزم (4) ذلك في كل سنة، لأن السنن متباينة الترتيب في التأكيد. وحقيقة ما يعاد من السنن المتروكة في الوضوء وما لا يعاد أن كل سنة متى تركت ولم يؤت [بها] (5) في محلها بعوض فإنها تعاد (6)؛ وهذا كالمضمضة (7) ومسح داخل الأذنين، والترتيب. وكل سنة عوضت (8) في محلها كغسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء وكمسح الرأس عائدًا من المؤخر إلى المقدم فلا يعاد، لأن محله قد حصل فيه الغسل والمسح. وتَكرار (9) المضمضة والاستنشاق على ما قدمناه في تكرار المغسول. وله أن يجمعهما في غرفة واحدة أو يفرقهما فيأتي بكل واحد منهما بغرفة.

(حكم ترك مسح داخل الأذنين)
وأما داخل الأذنين فلا خلاف أنهما سنتان؛ فمن ترك مسحهما لم تبطل طهارته (10) على ما قدمناه في المضمضة والاستنشاق، ويعيدهما لما
__________
(1) في (ق) و (م) فيه.
(2) في (ص) أنه يعيد.
(3) في (ق) و (م) الاعاد.
(4) في (ص) إذ يلزم، و (ق) و (م) يلزم.
(5) ساقط من (ر).
(6) في (ق) فإنها لا تعاد وفي (م) فإنه تعاد.
(7) في (ص) كالمضمضة والاستنشاق.
(8) في (ر): عرضت.
(9) في (م) وتكون.
(10) في (ص) صلاته.

(1/264)


يستقبل. وأما خارج الأذنين ففيهما قولان: أحدهما: أن مسحهما فرض، والثاني: أنه سنة. وفي الحديث: "الأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ" (1)، ويحتمل أن يريد بذلك أنهما تمسحان كمسحه أو هما مفروضتان كفرضيته (2). والمعول على كونهما سنة على قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (3).
والأذنان لا تنطلق عليهما التسمية حقيقة، وأما هذا الحديث فلم يثبت. وإذا قلنا إنهما فرض؛ فإن تركا فالمشهور صحة الصلاة لأنهما ممسوحتان من الرأس، والممسوح مبني على التخفيف وليسارتهما، وقال ابن الجلاب: القياس يوجب الإعادة. وكأنه يوجب تعميم الرأس بالمسح، وإن تركهما كان كتارك [مسح] (4) بعض رأسه. ويجدد لهما الماء، فإن لم يجدِّد فلا يعيد كما قدمناه. وفي المذهب قول أنه لا يجدد.
...

فصل (في حكم ترك مسح بعض الرأس)
وفي تارك مسح بعض رأسه أربعة أقوال: المشهور: أنه لا يجزيه، والثاني: أنه يجزيه إن مسح الثلثين، قاله محمد ابن مسلمة (5)، والثالث: أنه
__________
(1) أخرجه الترمذي في الطهارة (37)، وأبو داود في الطهارة (134)، وابن ماجه في الطهارة (343) وقَالَ الترمذي: قَالَ قُتَيْبَةُ: قَالَ حَمَّادٌ: لاَ أَدْرِي هَذَا من قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ مِنْ قَوْلِ أَبِي أُمَامَةَ، وقال أبو داود: قَالَ حَمَّادٌ: لاَ أَدْرِي هُذَا مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أو مِنْ أبِي أُمَامَةَ يَعْني قِصةَ الأُذُنَيْنِ، وصححه الألباني في السلسلة 36.
(2) في (ص) كفرضه وفي (ق) كفريضته.
(3) المائدة: 6.
(4) ساقط من (ر) و (ق).
(5) هو: محمد بن مسلمة بن محمد بن هشام بن إسماعيل أبو هشام [وهشام هذا هو أمير المدينة الذي نسب إليه مد هشام] روى محمد هذا عن مالك وتفقه عنده وكان أحد فقهاء المدينة ومن أفقه أصحاب مالك، له كتب فقه أخذت عنه. وهو ثقة مأمون حجة، جمع العلم والورع. توفي سنة ست ومائتين. الديباج المذهب ص: 227 وشجرة النور ص: 56 (10) وفيها سلمة وهو خطأ.

(1/265)


يجزيه إن مسح الثلث، قاله أبو الفرج، والرابع: أنه يجزيه إن مسح مقدم رأسه خاصة، ولا يجزيه في غيره، رواه أشهب عن مالك. وكان وجوب مسح الجميع [يقتضي] (1) ألا يجزيه البعض، وهو مقتضى قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (2) إذا قلنا ليس المراد (3) بذلك البعض بل الجميع، وإن قلنا المراد البعض فينبغي أن تجزي الشعرة الواحدة كما قال الشافعي. لكن هذه (4) الأقوال التي في المذهب بناءً على أن مبنى المسح على التخفيف فأكثره يجزي عن أقله. وفي المذهب (5) قولان في الثلث هل هو في حد الكثير أو في حدِّ القليل (6). وأما رواية أشهب فلما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "مَسَحَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ" (7)، فقصره (8) على ما ورد.
...

فصل (حكم الموالاة)
وقد قدمنا أن الموالاة فرض مع الذكر. والموالاة أن يفعل الوضوء كله في فور واحد من غير تفريق، وفي المذهب في ذلك خمسة أقوال: أحدها: وجوب الموالاة على الإطلاق، والثاني: إسقاطها على الإطلاق،
__________
(1) ساقط من (ر) و (ص).
(2) المائدة: 6.
(3) في (ق) أن المراد.
(4) في (ق) و (م) لأن هذه وفي (ص) لكنه ذهب.
(5) في (م) المدونة.
(6) في (م) اليسير.
(7) أخرجه أبو داود في الطهارة (147)، وابن ماجه في الطهارة (5649، والحاكم في المستدرك (1/ 275) كلهم بلفظ قريب. ولفظه عند أبي داود: "عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكِ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَضَّأُ وَعَلَيهِ عِمَامَةْ قِطرِيَّةٌ فَأدْخَلَ يَدَهُ مِنْ تَحْتِ الْعِمَامَةِ فَمَسَحَ مُقَدَّمَ رَأسِهِ وَلَمْ يَنْقُضِ الْعِمَامَةَ"، وقال الحاكم: هذا الحديث وإن لم يكن إسناده من شرط الكتاب فإن فيه لفظة غريبة وهي أنه مسح على بعض الرأس ولم يمسح على عمامته.
(8) في (ص) مسح على الناصية فقضى.

(1/266)


والثالث: التفرقة بين أن يتركها لعذر أو لغير عذر (1)، والرابع: أنها تؤثر (2) بين المغسولات دون الممسوحات من غير مراعاة الممسوح ما كان، والخامس: أنها تؤثر بين المغسولات والممسوحات إذا كانت الممسوحات بدلاً كمسح الخفين والمسح في التيمم، ولا تؤثر إذا كان الممسوح أصلاً كالرأس، وإنما يجري على قانون الأصول.
وأما القول بوجوب الموالاة وبإسقاطها، بالتفرقة (3) بين العذر وغيره.
وسبب الخلاف بين الوجوب والسقوط مبني على خلاف الأصوليين في الأمر هل يقتضي الفور أو للمكلف (4) التراخي؛ فإن قلنا إنه يقتضي الفور وجبت الموالاة، وإن قلنا إنه يقتضي التراخي لم تجب. وكذلك أيضًا وضوؤه (5) - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" (6) وقد والى؛ فإن كانت الإشارة إلى الفعل وصفته وجبت الموالاة، وإن كانت الإشارة إلى مجرد الفعل لم تجب. وعلى هذا أيضاً يجري الخلاف في الترتيب لأنه - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة ثم قال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به". وأما الالتفات إلى جهة المعنى فإن غلبنا على الوضوء حكم النظافة لم تجب الموالاة، وإن غلبنا عليه حكم العبادات أوجبنا الموالاة كالصلاة. وأما
__________
(1) في (ق) لعمد أو لعذر.
(2) في (ر) تؤثر التفرقة.
(3) في (م) "أو إسقاطها أو بالتفرقة"، وفي (ص) "أو بإسقاطها وبالتفرقة". والمعنى لم يتضح لي من هذا.
(4) في (م) فيه.
(5) في (م) و (ق) وصفه.
(6) أخرجه ابن ماجه في الطهارة (419) بلفظ قريب، ونصه عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: "تَوَضَّأَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَاحِدَةً وَاحِدَةً فَقَالَ: "هَذَا وُضُوءُ مَن لاَ يَقْبَلُ الله مِنْهُ صَلَاة اِلاَّ بِهِ" ثُمَّ تَوَضَّأَ ثِنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ فَقَالَ: "هَذَا وُضُوءُ الْقَدْرِ مِن الْوُضُوءِ"، وَتَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلاَثاً وَقَالَ: "هَذَا أَسْبَغُ الْوُضُوءِ وَهُوَ وُضُوئِي وَوُضُوءُ خَلِيلِ اللهِ إبْرَاهِيمَ، وَمَنْ تَوَضَّأَ هَكَذَا ثُمَّ قالَ عِنْدَ فَرَاغِهِ أَشهَدُ أن لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَأَشهَدُ أَن مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسولُهُ فُتِحَ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَدْخُلُ من أَيِّهّا شَاءَ".

(1/267)


التفرقة بين العذر وغيره فلأنه يرى أن باب الموالاة [من] (1) باب المنهيات، والمنهيات يُتَفَرَّقُ (2) بين عمدها ونسيانها قياساً على الكلام في الصلاة فإنه يفرق بين عمده وسهوه. وأما التفرقة بين الممسوح والمغسول فلأن الممسوح مبناه على التخفيف وقياس هذا يقتضي أنه لا يفسد بترك الموالاة. ومن فرق بين أن يكون الممسوح أصلاً أو الممسوح بدلاً، فلأن الممسوح إذا كان بدلاً يعطى (3) حكم أصله وهو المغسول.
وإذا فرقنا بين العذر وغيره فما هو العذر؟ لا يخلو أن يكون نسياناً أو عجز ماء؛ فأما النسيان فلا خلاف (4) في المذهب المشهور أنه يعذر به، وأما عجز الماء فإن ابتدأ بما ظن أنه كفايته فعجز عنه ففيه قولان: أحدهما: أنه يعذر بذلك، والآخر: أنه لا يعذر به. وهذا على الخلاف في الاجتهاد هل يرفع الخطأ أم لا؟ فإن ابتدأ بماء كاف بلا شك فغصب (5) أو أهريق له، فالصحيح أن يعذر به. وفي المذهب قول لبعض المتأخرين أنه لا يعذر به. وهذا أولى بالعذر من الناسي لأن الناسي معه بعض تفريط وهذا غير مفرط.

(حكم مسح الرأس وعليه حائل)
ولا يجزي من مسح رأسه على (6) حائل كالمرأة تمسح على خمارها أو على حناء، أو رجل مسح على عمامته. فإن وقع ذلك ثم صلى بذلك الوضوء لم تصح الصلاة.
وهل يُبطل الوضوء؟ إن (7) فعل ذلك عمداً [أبطل الوضوء] (8) على
__________
(1) في (م) وساقط من (ر).
(2) في (ق) و (م) و (ص) يفترق.
(3) في (م) (ق) لا يعطي.
(4) في (ص) فالخلاف.
(5) في (ص) و (ر) فغصبه.
(6) في (ر) و (ق) و (ص) دون.
(7) في (ر) ذلك إن.
(8) ساقط من (ر).

(1/268)


المشهور من المذهب (1)، [وإن فعل ذلك سهواً لم يبطل الوضوء] (2)، وإن فعل ذلك جهلاً ففي المذهب قولان في الجاهل؛ هل حكمه حكم المتعمد أو حكم الناسي؟
وقد قال مالك في الكتاب في الماسحة على خمارها أنها تعيد الوضوء والصلاة (3). قالوا وإنما أعادت الوضوء لأنها جاهلة، وهذا أحد القولين اللذين ذكرناهما. وفي المدونة في من صلى وذكر في الصلاة أنه نسي مسح رأسه فلا يجزيه أن يمسح رأسه بما في لحيته من بلل (4). وهذا لا شك (5) أنه يقطع الصلاة لأنه صلي بوضوء ناقص، وإذا قطع فإن كان ليس في لحيته من الماء (6) ما يكفي لمسح رأسه فلا شك أنه يطلب الماء لذلك، وإن كان فيها من البلل ما يكفي لمسحه فهل يمسح بذلك أم لا؟ أما إن كان بحضرة ماء فإنه لا يمسح بذلك. وأما إن بعد عن الماء فيجري على الخلاف في الوضوء بالماء المستعمل، وقد تقدم.
وإن طال (7) طلب هذا الماء فهل تبطل طهارته (8) أم لا؟ للمتأخرين قولان: أحدهما: الإبطال، والثاني: أنها لا تبطل. وهو على ما قدمناه من الخلاف فيمن غصب ماؤه أو أهريق (9).

...
__________
(1) في (ر) المذهب إن فعل ذلك عمداً بطل الوضوء.
(2) ساقط من (ر).
(3) المدونة 1/ 16.
(4) انظر المدونة 1/ 17.
(5) في (م) لا إشكال.
(6) في (ص) من البلل.
(7) في (م) كان.
(8) في (ص) صلاته.
(9) في (م) أسرق.

(1/269)


[فصل] (1)
وإذا قلنا إن من عجز ماؤه لا يبني، وإنه إن طال طلبه للماء ابتدء، وإن قرب بني.
وما حد القرب؟ فيه قولان: قيل: هو أن لا يجف وضوؤه في زمان معتدل، وقيل: ما يعد طولاً، وهذا هو الأصل. والحد بعدم الجفاف رفع للنزاع.

(حكم المسح بالمنديل بعد الوضوء)
وقال في المدونة لا بأس بالمسح بالمنديل بعد الوضوء (2). وإنما نبه على خلاف الشافعي، لأنه كره في أحد قوليه أن يمسح بالمنديل لأنه أثر عبادة فلا يزال كدم الشهيد.

(حكم تقليم الأظافر وحلق الرأس بعد الوضوء)
وفي المدونة في من قلم أظفاره أو حلق رأسه أنه ليس عليه أن يمسح (3) إذا كان قد توضأ أولاً (4). وقال عبد العزيز: هذا من لحن الفقه (5). ويروى بفتح الحاء، والمراد به الصواب (6)، ويحتمل أن يريد من صواب الفقه قول من قال بالإعادة، أو من صواب الفقه قول مالك لأنه قال لا يعيد. ويروى بإسكان الحاء وهو ينطلق على الصواب والخطإ؛ فإن حمل على الصواب كان كالأول، وإن حمل على خطإ
__________
(1) ساقط من (ق).
(2) انظر المدونة 1/ 17.
(3) في (م) يمسح عليه.
(4) المدونة 1/ 17.
(5) المصدر السابق.
(6) قال في مواهب الجليل 1/ 215: اللحن بفتح الحاء المهملة معناه الصواب وأصله الفطنة وبسكونها معناه الخطأ.

(1/270)


احتمل أن يريد من خطإ الفقه قول مالك أنه لا يعيد، أو من خطئه قول من قال يعيد.
والذي يحكي أرباب مسائل الخلاف عن عبد العزيز أنه يقول بالإعادة، وفي المدونة في باب جامع الوضوء: وسمعت مالكاً يذكر قول الناسي في الوضوء حتى يقطر أو يسيل، قال: فسمعته يقول قطر قطر! استنكاراً لذلك (1). وتقدم [له] (2) نحو هذا الكلام في باب سلس البول والمذي. وقد اختلف الأشياخ هل كلامه في الناسي (3) بيّن محمول على أنه ليس من شرط وجوب الوضوء من المذي أن يقطر أو يسيل؟ [أو على أنه في الناسي محمول على أنه ليس من شرط كمال الوضوء أن يقطر أو يسيل بل من شرطه الإصباغ؟ ولهذا قال في باب المذي: هل حد لكم مالك في هذا أنه لا يجزي ما لم يقطر أو يسيل] (4).
وقوله يجزي يدل على أن مراده ما يجزي من الماء في الوضوء. وقيل كل كلام محمول على ما يليق ببابه؛ فالأول: المراد به المذي، والثاني: المراد به ما يجزي من الماء. ولهذا عقبه بأن قال وقد كان بعض من مضى (5) يتوضأ بثلث المد. قالوا: يريد به مد هشام (6)، ولم يرد به مدّ النبي - صلى الله عليه وسلم -.

(حد ما يجزي من الماء)
ولا حدّ لكثير ما يجزي من الماء. وأما قليله ففيه قولان: أحدهما:
__________
(1) المدونة 1/ 17.
(2) ساقط في (ص).
(3) في (ر): الماء وفي (ل) الباني.
(4) ساقط من (ر) و (ص) و (ق).
(5) في (ص) يقتدى.
(6) هو: هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد المخزومي كان عامل عبد الملك بن مروان على المدينة. وهو الذي ضرب سعيد بن المسيب. وهو أول من أحدث دراسة القرآن بجامع دمشق. توفي بها سنة ثمان وثمانين هـ. البداية والنهاية 9/ 76.

(1/271)


أنه محدود بالمدّ (1) في الوضوء، والصاع (2) في الغسل. والثاني: وهو المشهور أنه غير محدود.
ووجه الخلاف أنه - صلى الله عليه وسلم - "كَانَ يَتَوَضَّاُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ" (3). ويحتمل أن يكون فعل ذلك تنبيهاً على أقل ما يجزي أو لأن أقل ما يجزي ذلك المقدار.
وقد تقدم الكلام على حكم الشعور النابتة على الوجه. وفي الكتاب ها هنا تحريك اللحية من غير تخليل (4)، قالوا وإنما حركت لئلا ينبو (5) الماء عن الشعر.

...

فصل (حكم القلس والقيء)
والقلس هو ما يخرج عند الامتلاء إذا برد المزاج، وقد يكون فيه طعام غير متغير فهو ليس بنجس. لكنه إن خرج في الصلاة وكثر قطع. ليس لنجاسته بل لأنه مشغل (6) عن الصلاة، وإن قل لم يقطع.
وأما القيء المتغير عن حال الطعام فهو نجس. وقال أبو الحسن
__________
(1) المد بالضم وجمعه أمداد ومداد ومدد؛ ضرب من المكاييل التي كانت شائعة في المدينة قبل الإسلام وبعده. وهو جزء من الصاع يشكل ربعه. وقُدّر بملئ كفي الإنسان المعتدل. انظر هامش الإيضاح والتبيان في معرفة المكيال والميزان ص 56.
(2) الصاع والصواع مكيال لأهل المدينة قبل الإسلام وبعده يقدر بأربعة أمداد.
(3) أخرجه البخاري في الوضوء 201، ومسلم في الحيض 325، والترمذي في الطهارة 56 واللفظ له. كلهم عن أنس إلا الترمذي فعن سفينة. وقال الترمذي: حَدِيثُ سَفِينَةَ حَدِيثٌ حَسَن صَحِيحُ.
(4) المدونة 1/ 17.
(5) في (م) يبقى.
(6) في (م) و (ق) مشتغل.

(1/272)


اللخمي: إذا شابه أحد أوصاف العذرة (1). وهذا غير صحيح لأنه إذا شابه ذلك عاد من جنس الرجيع. ولا يكون ذلك إلا لعلة ويخرج عن حدّ القيء. وقد اختلف المتأخرون هل يوجب إذا شابه الرجيع نقض الطهارة، وهو على خلاف في الصور النادرة هل تراعى أم لا؟

(مشروعية غسل موضع المحاجم)
وقد قال مالك في موضع المحاجم (2) أنه يغسله، ولا يجزيه أن يمسحه. فإن مسحه وصلى أعاد في الوقت، وقيل: لا إعادة عليه. وهو دم يسير في مواضع كثيرة؛ فمن التفت إلى يسارته أسقط الإعادة، ومن التفت إلى كثرة مواضعه أوجبه. واختلف الأشياخ هل يعيد في الوقت وإن كان عامداً ليسارته، أو يكون بمنزلة من صلى بنجاسة؟ فإن كان متعمدًا أعاد أبدًا، وإن كان ناسيًا أعاد في الوقت.

...

فصل (في أحكام النجاسة)
أحكام النجاسة في المذهب على أربعة أقسام:
قسم يزال عينه دون أثره إن شاء المكلف وهو ما على المخرجين وقد تقدم حكمه.
وقسم يزال الكثير منه واليسير، لكنه إن صلى بيسيره لم يعد كالدم. واختلف في المذهب في المقدار اليسير منه؛ فأما ما فوق الدرهم منه فهو
__________
(1) التبصرة: 22.
(2) المحاجم: جمع محجم بالكسر، وهو: الآلة التي يجمع فيها دم الحِجامة عند المصّ، والمِحْجَمُ أَيضًا مِشْرَطُ الحَجَّام؛ ومنه الحديث: "لَعْقَةُ عَسلٍ أو شَرْطة مِحْجَمٍ"، وحِرفَتُه وفعلُه الحِجامةُ. والحَجْمُ: فعل الحاجم وهو الحَجَّامُ. واحْتَجَمَ: طلب الحِجامة، وهو مَحْجُومٌ، وقد احْتَجَمْتُ من الدم. انظر لسان العرب 12/ 117.

(1/273)


كثير بلا خلاف، وأما مقدار الخنصر فهو يسير، وما بين الخنصر إلى الدرهم ففيه قولان: قيل يسير قياساً على المخرجين، وقيل هو كثير لأن الضرورة إنما تدعو غالباً إلى مقدار الخنصر. وقسم لا يؤمر بإزالته إلا على طريق الاستحباب وهو كل ما تدعو الضرورة إليه، ولا يمكن الإنفكاك عنه، وهو الجرح يمصل (1) والدمل (2) يسيل وسلس الأحداث. وألحقوا بذلك المرأة ترضع ولدها.
وقسم يزال قليله وكثيره وعينه وأثره، ومتى صلى باليسير منه أعاد الصلاة على ما نفصله. وهذا ككل نجاسة غير داخلة في الأقسام التي ذكرنا أولاً.
واختلف المذهب في الخف يطأ به (3) على روث الدواب وأبوالها، هل يؤمر بغسله أم يكفي فيه المسح؟ فإن وطئ به على دم أو عذرة فالروايات متفقة على وجوب الغسل. واختلف في علة الفرق بين الدم والعذرة [(4) وبين ما تقدم فيه الخلاف؛ فقيل لأن الدم والعذرة نجاسة بإجماع، وأرواث الدواب وأبوالها مختلف فيها هل هو نجس أو مكروه؟ وقيل لأن الطرقات تخلو من الدم والعذرة ولا تخلو من أرواث الدواب وأبوالها. وعلى هذا التعليل لو اتفق أن يكون موضع كثير الدم والعذرة حتى لا ينفك عنه يجري على الخلاف في أرواث الدواب وأبوالها. واختلف على القول بجواز المسح هل يكون النعل في ذلك بمنزلة الخف لأنه تدعو الضرورة إلى المشي به، أو يجب غسله على كل حال وإزالته، لأن الخف يشق نزعه بخلاف النعل. وخرج المتأخرون على هذا الخلاف في الرجل هل يجزي مسحها أو يجب غسلها. وهذا في من تدعوه الضرورة إلى الخف (5).
__________
(1) في (م) يحصل.
جاء في لسان العرب 11/ 624 مَصَل الشيءُ يَمْصُل مصْلاً ومُصولاً قطَر.
(2) قال في مختار الصحاح (88): الدُّمَّلُ واحد دمَامِيلُ القروح.
(3) في (ق): الخف الذي يطأ على.
(4) بداية الساقط من (ص)، والساقط فصول كثيرة.
(5) في (ر) الخفاف.

(1/274)


وفي المدونة لا بأس بطين المطر وإن كان فيه الدم أو العذرة (1). وقال أبو محمد ابن أبي زيد: ما لم تكن غالبة أو عينًا قائمة. وهذا يمكن أن يكون تفسيرًا ويمكن (2) أن يبقى ما في الكتاب على ظاهره وإن كان غالباً أو عينًا قائمة إذا تساوت الطرقات في وجود ذلك فيها، وكان لا يمكن الإنفكاك عنه.
واختلف المذهب في المرأة تطيل ذيلها للستر في السير فتمر به على المكان القذر إذا كان رطبًا هل يطهره [ما بعده؟ ولا خلاف فيما إذا كان يابساً أنه يطهره ما بعده. وقد] (3) ثبت أن الرسول عليه السلام سئل عن درع المرأة (4) تمر به على الموضع القذر، فقال: "يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ" (5)؛ فمن حمله على عمومه ساوى بين الرطب واليابس، ومن لم يقل بالعموم فرق بين الرطب واليابس، لأن الرطب لا يزيله إلا الماء واليابس ينثر ما يتعلق به إذا مر به بعد ذلك على موضع جاف طاهر.

...

فصل (حكم إزالة النجاسة)
واضطرب المتأخرون في النقل عن المذهب في إزالة النجاسة هل هي سنة أو فرض؟ فحكى القاضي أبو محمد في إشرافه أنها فرض بلا خلاف في المذهب، وإنما الخلاف في الإعادة، على الخلاف هل هي شرط في صحة الصلاة أو ليس بشرط. وإلى هذا مال ابن القصار وحكى القاضي أبو
__________
(1) انظر المدونة 1/ 20.
(2) في (ق) و (م) أو يحتمل.
(3) ساقط من (م).
(4) جاء في البحر الرائق 2/ 190: قال في المغرب درع المرأة ما تلبسه فوق القميص.
(5) أخرجه الترمذي في الطهارة 143، وأبو داود في الطهارة 383، وابن ماجه في الطهارة 531، وأحمد في مسنده 1/ 50، ي. مالك في الطهارة 74، والدارمي في الطهارة 742.

(1/275)


محمد أيضاً في شرح الرسالة أن المذهب كله على أنها سنة، وإنما الخلاف في الإعادة فيمن ترك السنن متعمدًا. وأما أبو الحسن اللخمي فحكى أن المذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: إزالة النجاسة فرض، وهو مذهب ابن وهب (1) القائل أن من صلى بها يعيد في الوقت وبعده عامدًا كان أو ناسيًا. والقول الثاني: أن إزالتها سنة، وهو مذهب أشهب القائل إن من صلى بها لا يعيد إلا في الوقت وإن كان متعمدًا. والقول الثالث: إن إزالتها سنة مع النسيان فرض مع الذكر (2)، وهو مذهب المدونة لأنه يقول: من صلى بها عامدًا أعاد وإن خرج الوقت، وإن كان ناسياً أعاد في الوقت، (3) وهذا الذي قاله أبو الحسن اللخمي يشهد بصحته (4) هذه الرواية.
فإذا ثبت ذلك فلا يخلو أن يرى النجاسة قبل الدخول في الصلاة أو بعد الدخول فيها أو بعد كمالها؛ فإن رأى ذلك قبل الدخول في الصلاة أمر بغسلها على ما قدمناه، وإن رأى ذلك بعد الدخول في الصلاة- فإن كان [دماً] (5) يسيراً- تمادى ولا يقطع ولا ينزع الثوب إن كانت فيه، إلا أن يشاء، ويخف (6) نزعه. وإن كان دماً كثيرًا أو يسيراً (7) أو غيره من النجاسات، أو كثيرها فهل يقطع الصلاة أو يتمادى؟
__________
(1) هو: أبو محمد عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي مولاهم مولى يزيد بن ريحانة ويقال مولى بني فهر .. روى عن أربعمائة عالم منهم مالك والليث وابن أبي ذئب ونحو أربعمائة شيخ من المصريين والحجازيين والعراقيين. قال أحمد بن حنبل: ابن وهب عالم صالح فقيه كثير العلم صحيح الحديث ثقة صدوق .. وقال محمد بن عبد الحكم: هو أثبت الناس في مالك وهو أفقه من ابن القاسم إلا أنه كان يمنعه الورع من الفتيا توفي سنة: سبع وتسعين ومائة. الديباج المذهب ص: 132 - 134، وشجرة النور ص:58 (25).
(2) التبصرة: 23.
(3) المدونة 1/ 34.
(4) في (م) بصحة، وخرم في (ق).
(5) ساقط من (م).
(6) في (ق) لا ينزع الثوب إن كان فيها إلا أن يخف.
(7) كذا في (ق) و (ر) وفي (م) أو يسيل من غيره من النجاسة.

(1/276)


في المذهب ثلاثة أقوال: أولها وجوب القطع، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة. والثاني: أنه يتمادى ويعيد. والثالث: أنه إن خف نزعه (1) نزعه، وإن لم يمكن ذلك أو كان في الجسد، قَطَعَ.
وسبب الخلاف هل يقال إن كل جزء من الصلاة عبادة قائمة بنفسها، أو يقال صحة أوائلها موقوفة على صحة أواخرها؟ فإن قلنا إن كل جزء منها قائم بنفسه فها هنا لا يجب أن يقطع إذا أمكنه النزع، وإن قلنا إن الأوائل موقوفة على الأواخر قطع. ومن قال بالتمادي والإعادة فإنما راعى الخلاف لإشكال الأمر عليه.
ومما اعترض به (2) مذهب ابن القاسم أنه يقول من صلى به ناسيًا فإنه يعيد في الوقت.
وإذا ذكر في الصلاة قطع. وكيف يوجب القطع وهو فيما مر من الصلاة (3) ناسيًا؟ والجواب أنه في الحالة التي أبصر النجاسة صار مصليًا بها مع الذكر فبطل ذلك الجزء من الصلاة، وإذا بطل جزء منها بطلت كلها.
وإن رأى النجاسة بعد كمال الصلاة؛ فأما الدم اليسير فلا يعيد منه كما قررناه، وهذا في سائر الدماء إلا دم الميتة والحيض فقيل إنهما كهذه الدماء (4)، وهو المشهور. وقيل بخلافه لعموم تحريم الميتة ولأن دم الحيض يلاقي مخرج البول، وأيضاً فهذان (5) لا تدعو الضرورة إليهما بخلاف غيرهما من الدماء التي تنفصل من الأجسام الحية. وأما غير ذلك من النجاسات فقد قدمنا الثلاثة الأقوال متى (6) تكون الإعادة.
__________
(1) ساقط من (م).
(2) في (ق) و (م) ربما اعترض بهذا مذهب ابن القاسم.
(3) في (ق) و (م) فيما مر بالصلاة.
(4) في (ق) إنه كعادة الدماء، وفي (ر) إنه غيره من الدماء [صعوبة التحقيق].
(5) في (ق) فهذا و (م) فهذه.
(6) في (م) منها.

(1/277)


وإن بنينا على المشهور أن الناسي يعيد في الوقت والعامد يعيد وإن خرج الوقت فما الوقت؟
أما الظهر والعصر فيعيدهما ما لم تصفر الشمس، وإن اصفرت فقولان: مذهب المدونة أنه لا يعيدهما (1) بعد ذلك، ومذهب ابن وهب أنه يعيدها.
وسبب الخلاف تقابل المكروهين لأن الصلاة بالنجاسة مكروهة والإعادة بعد الاصفرار مكروهة، فأيهما يغلب؟ فهذا محل الخلاف. وعلى القول بأن الصلاة [بعد الاصفرار يحرم تأخيرها إليه لا يعيدها.
واختلف في المغرب والعشاء هل المذهب كله على أنهما تعادان ما لم يطلع الفجر، أو يختلف فيهما بعد مضي نصف الليل كما اختلف فيما بعد الاصفرار] (2) في الظهر والعصر؟ للمتأخرين في ذلك قولان.
وكذلك اختلف في الصبح هل يعيد ما لم تطلع الشمس، أو يختلف فيما بعد الإسفار كما اختلف فيما بعد الاصفرار؟ والصحيح أن المغرب (3) والعشاء تعادان ما لم يطلع الفجر (4)، والصبح (5) ما لم تطلع الشمس لأنه لم يقل أحد من أهل المذهب إن التأخير إلى ذلك الوقت محرم.
ولا خلاف أن الماء تحصل به إزالة النجاسة. ولا خلاف بين جمهور العلماء أنه متعين لطهارة الحدث ولا ينوب غيره منابه إلا نبيذ التمر عند أبي حنيفة.
وهل تزال النجاسة بالمائعات القلاعة كالخل وما في معناه؟ قولان في المذهب: المشهور تعيين الماء قياسًا على طهارة الحدث، والشاذ صحة
__________
(1) في (م) و (ق) ألا يعيدهما.
انظر المدونة 1/ 33.
(2) ساقط من (م).
(3) في (م) في المغرب.
(4) في (م) ما لم يطلع الفجر محرم تأخيرهما إليه.
(5) في (ق) والصبح الصحيح.

(1/278)


الإزالة بكل مائع قلاع، لأن المطلوب زوال النجاسة، فبأي شيء حصل الزوال (1) حصل المطلوب.

...

فصل (في مشروعية النضح في الثوب)
وإذا تحقق إزالة النجاسة فالمأمور به ما قلناه (2) من الغسل. فإن شك في الجسد (3) هل أصابته نجاسة أم لا فقد قدمنا القولين. وإن شك في الثوب فلا خلاف في إجزاء النضح.
ولا يخلو الناضح من ثلاثة أقسام: إما أن يوقن بأن شيئًا أصابه ولا يدري هل هو نجس أم لا؟ فهذا فيه قولان: أحدهما: أنه يلزم النضح، والثاني: أنه لا يلزم.
والقسم الثاني: أن يشك هل أصابه أم لا؟ ويشك هل الذي أصابه نجس أم لا؟ فهاهنا لا يلزمه النضح لضعف الشك.
والثالث: أن يوقن بالنجاسة ويشك هل أصابته أم لا؟ فهذا يلزمه النضح فيه بلا خلاف في المذهب. والنضح كان على خلاف القياس لأن فيه تكثير النجاسة من غير إزالة لها، وفي الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بنضح الحصير الذي اسود من طول ما لبس (4). وقد رأى المالكية أن النضح خيفة (5) أن
__________
(1) في (م) الزوال من المغسول وغير مقروء في (ر).
(2) في (ق) فالمأمور بما قلنا.
(3) في (ر) من الغسل وإن شك فأما الجسد إذا شك.
(4) أخرج البخاري في الصلاة (380) واللفظ له، ومسلم في المساجد (658) عَنْ أَنَس بْنِ مَالِكِ أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ لَهُ فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ: "قومُوا فَلأُصَلِّ لَكُمْ"، قَالَ أَنَسٌ: فَقُمْتُ إِلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدِ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ فَنَضَحْتُهُ بِمَاء فَقَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَصَفَفْتُ وَالْيَتِيمَ وَرَاءَهُ وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا فَصَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَكعَتَينِ ثُمَّ انصَرَفَ.
(5) في (ق) حقيقة.

(1/279)


يكون أصابته نجاسة من تصرف اليتيم الذي كان في الموضع عليه، وكأن مالكاً استند (1) في النضح فيما شك فيه إلى العمل فقال: هو الشأن وهو طهور لكل ما شك فيه (2).
ولا خلاف في المذهب أن إزالة النجاسة لا تفتقر إلى نية. وهل يفتقر النضح إلى نية؟ للمتأخرين قولان: أحدهما: وجوب النية لأنه تعبد، والثاني: إسقاطها. قال ابن محرز: (3) لأنه لا يخلو أن يكون أصابه شيء أم لا؟ فإن أصابه فلا يفتقر إلى نية، وإن لم يصبه فلا شيء عليه. وهذا الذي قاله هو القياس لولا أن النضح تعبد (4) والتعبد (5) يفتقر إلى نية.
...

فصل: في المسح على الجبائر
[وقد أجمعت الأمة على وجوب إمساس الماء بالأعضاء إلا أن يمنع من ذلك مانع] (6). ومن أصاب عضواً من أعضاء طهارته ما يمنعه أن يلاقيه بالماء فلا يخلو من أن يثبت (7) عليه ساتر يمكن ملاقاة الساتر بالماء، أو لا يثبت عليه ذلك؛ فإذا ثبت عليه مسح الساتر وناب ذلك عن غسله. ولا يفتقر في موضع (8) الساتر عليه أن يكون على طهارة كما يفتقر إلى ذلك في المسح على الخفين، لأن هذا قد يطرأ على الإنسان من غير اختياره. والخفان إنما يلبسهما مختارًا. وإن افتقر إلى شد العصائب على الساتر مسح
__________
(1) في (ق) اشتد وفي (م) استثنى وفي (ر) إستند أو اشتد.
(2) المدونة 1/ 22.
(3) هو: حمديس وقد تقدمت ترجمته.
(4) في (ق) و (م) تعد.
(5) في (ر) لتعبد.
(6) ساقط من (ق) و (م).
(7) في (ر) يلبث.
(8) في (ر): وضع.

(1/280)


على العصائب. وإن وقع الرباط على غير الموضع المألوم. وهكذا حكم العضد إذا لم يمكنه مباشرة الموضع بالماء وافتقر إلى شده بعصائب فستر شيئاً من ذراعه، فإنه يمسح على تلك العصائب ويجزيه (1). وإن كان الموضع المألوم لا يمكن أن يجعل عليه ساترًا فإن جعل ذلك لم يمكنه مباشرة ذلك الساتر بالماء ولم يمكنه أن يعصب عليه، فهذا لا يخلو أن يكون في أعضاء (2) التيمم كالوجه واليدين، أو في غير أعضاء التيمم؛ فإن كان في أعضاء التيمم فيغسل ما صح ويترك ما لم يصح، لأنه لو انتقل إلى التيمم لصلى بطهارة ناقصة (3). وإذا كان لا بدّ من النقص فنقص طهارة الماء أولى من نقص طهارة التيمم (4). فإن كان الألم (5) في غير أعضاء التيمم كالرأس والرجلين فها هنا اختلف المتأخرون على ثلاثة طرق: أحدها: أن يتوضأ ويترك الموضع المألوم، والثاني: أنه ينتقل إلى التيمم، والثالث: أنه إن كان الموضع المألوم يسيرًا توضأ وتركه، وإن كان كثيراً انتقل إلى التيمم. وهذا لتقابل (6) المكروهين؛ أحدهما: الانتقال إلى التيمم مع (7) وجود الماء. وطهارة الماء أولى من طهارة التراب، والمكروه الثاني: ترك جزء من موضع الطهارة غير مغسول ولا ممسوح، وذلك غير مشروع. فاختلف طرق هؤلاء، أي المكروهين أخف يرتكب (8)؟ ومن فرق بين اليسير والكثير رأى أن الأقل تابع للأكثر، فإذا كان المتروك يسيراً كان في حكم العدم.

...
__________
(1) في (م) فيجزي به.
(2) في (م) من أعضاء.
(3) في (ر): ناقضة.
(4) في (م) النقض، فنقض طهارة الماء أولى من التيمم.
(5) في (م) المألوم.
(6) في (م) وهذا تقابل.
(7) في (ق) في وجود.
(8) في (ق) يركب.
كذا في جميع النسخ والعبارة لم تتضح لي.

(1/281)


فصل
(حكم من سقطت جبيرته في الصلاة)
وإذا مسح على الجبيرة ثم دخل في الصلاة فسقطت الجبيرة عن موضعها قطع الصلاة، لأنه صار كالمصلي بطهارة ناقصة، إذ يجب عليه إعادة الجبيرة ومسحها. وكذلك لو صح ما تحت الجبيرة لوجب (1) عليه إزالتها وغسل ما تحتها. ولو صح في الصلاة لقطع الصلاة كما قلناه.

(حكم الشجة إذا صح صاحبها)
و [فرق] (2) في الكتاب فيمن أصابته شجة وكان ينكب عنها الماء في غسله من الجنابة أنه إذا صح غَسَلَهَا. فإن لم يغسلها حتى صلى صلوات كثيرة ناسيًا لغسلها، فإن كانت تلك الشجة في مواضع الوضوء فإنه تجزيه الصلاة، وإن كانت في غير مواضع الوضوء كالظهر فإنه يغسل مواضع الشجة ويعيد ما صلى من يوم صح (3).
قال الأشياخ: وهذا إذا كانت الشجة في الموضع المغسول من أعضاء الوضوء، وأما لو كانت في عضو ممسوح لم تجز فيه الطهارة الصغرى عن الكبرى، لأن الواجب فيه في الكبرى الغسل كالرأس، والواجب فيه في الصغرى المسح ولا يجزي المسح عن الغسل. ومما ألزم (4) الأشياخ على مذهب التناقض بين هذه المسألة وبين مسألة باب التيمم لأنه قال في هذه المسألة: يجزي الغسل للطهارة الصغرى عن الغسل للطهارة الكبرى، وقال [هناك] (5): من تيمم للصلاة ناسيًا الجنابة لا يجزيه. وقياس ما قال في
__________
(1) في (ق) و (م) أوجب.
(2) ساقط من (ق) و (م).
(3) المدونة 1/ 23.
(4) في (ر): إلتزم.
(5) ساقط من (ق) و (م).

(1/282)


مسألة الجبيرة أن يجزيه، وقياس ما قال في مسألة التيمم ألا يجزي في الجبيرة.
وقد فرق بين المسألتين بوجهين: أحدهما: أن الفعل وإن اتحد في مسألة (1) التيمم واتحد في مسألة الجبيرة فإن النية تختلف في التيمم لأن التيمم بدل عن الغسل. وإذا قصد به البدل عن الوضوء فلا يجزي لأن الوضوء في أربعة أعضاء والغسل في الجسد كله، وعليه في التيمم أن يقصد المبدل (2) منه. وأما مسألة الجبيرة فلا بدل منه يجب عليه (3) قصده، وإنما عليه غسل ذلك الموضع. فإذا غسله في الوضوء (4) أجزأه عن الطهارة الكبرى.
والوجه الثاني: أن التيمم إنما يستبيح (5) به الصلاة فعليه أن ينوي ما ترتب [عليه] (6) من طهارة كبرى أو طهارة صغرى ليكون التيمم مؤثرا في الاستباحة مما (7) ترتب في ذمته.
وهذان الفرقان إنما يفتقر إليهما لئلا يكون ما في المدونة اختلاف قول، وإلا ففي مسألة التيمم خلاف نذكره في موضعه إن شاء الله.
...

فصل (في حكم اليدين)
وقد تقدم أن غسل اليدين من الفروض والنظر في حكم اليدين في ثلاثة أوجه (8):
__________
(1) في (م) مسح.
(2) في (م) المبذول.
(3) في (ق) فلا بدل يجب عليه وفي (م) فلا بدل عليه يجب عليه.
(4) في (م) للوضوء.
(5) في (م) و (ق) تستباح.
(6) ساقط من (ق) و (م).
(7) في (م) وهل.
(8) في (م) مواضع.

(1/283)


(حكم المرفقين)
أحدها: هل يجب إدخال المرفقين في الغسل أم لا؟ في المذهب ثلاثة أقوال: أحدها: وجوب إدخالهما وهو المشهوو، لقوله في المدونة في قطع المرفقين: إنه لا يغسل ما بقي إلا أن تعرف (1) العرب والناس أنه بقي شيء من المرفق فيغسل (2)، والقول الثاني: أنه لا يجب غسل المرفقين، والقول الثالث: أنه يجب عليه غسلهما ليس لفرضيتهما بل لأنه لا يتوصل إلى غسل جميع الفرض إلا بغسلهما. وهذا هو القول بإسقاط فرضيتها لكن أوجبها لغيرها.
وسبب الخلاف في فرضيتهما هل (إلى) في قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (3) لانتهاء (4) الغاية أو للجمع؟ قال سيبويه: (5) إن (إلى) إن تقدم قبلها (من) كانت لبيان الغاية وخرج ما بعدها عن (6) حكم ما قبلها، وإن لم يتقدم (من) احتملت الغاية واحتملت الجمع. ومن الجمع قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} (7)، وقوله تعالى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} (8) معناه مع أموالكم، ومع الله. (وإلى) في الآية لم يتقدمها ذكر (من) فهي تحتمل التحديد والجمع. وإذا احتملت أمكن أن يقال الذمم على
__________
(1) في (م) تعلم.
(2) في (م) و (ق) فيغسل ذلك.
انظر المدونة 1/ 24.
(3) المائدة: 6.
(4) في (ق) أنها للبيان.
(5) هو: إمام النحو حجة العرب أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر الفارسي ثم البصري، طلب الفقه والحديث مدة ثم أقبل على العربية فبرع وساد أهل العصر وألف فيها كتابه الكبير، المعروف بالكتاب. توفي سنة ثمانين ومائة. سير أعلام النبلاء 8/ 351.
(6) في (ر) و (ق) على.
(7) النساء:2.
وفي (ق) {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ}.
(8) الصف: 14.

(1/284)


البراءة فلا تعمر إلا بدليل. أو يقال الموضع موضع عبادة فيؤخذ فيه بالأحوط حتى يقوم دليل على الإسقاط.
واحتج المشهور من المذهب بقول المبرد أن ما بعد (إلى) إذا كان من جنس ما قبلها وجب دخولها في حكم ما قبلها، وإن كان من غير جنسه لم يجب ذلك.
والمرفقان من الساعدين على أنه قد تردد بعض أهل اللغة في اسم المرفق على ما ينطلق؛ فقيل على طرف الساعد، وقيل على مجمع الساعد والعضد. فإن قلنا إنه على طرف الساعد كان في قول المبرد حجة. وأشار ابن القاسم بقوله: إلا أن تعرف الناس والعرب، إلى ما قلنا (1) من التردد.

(حكم تخليل الأصابع)
والوجه الثاني: من النظر في اليدين حكم (2) تخليل الأصابع، وفيه قولان: الوجوب، والإسقاط. وعلة الوجوب ليحصل (3) الدلك، وعلة الإسقاط إنما بناء على أن التدلك غير واجب، أو لأن الأصابع تضطرب في حين الغسل، فيحصل التدلك (4) وإن لم يقصد.

(هل تجب إزالة الخاتم؟)
والوجه الثالث: الخاتم يكون في الأصابع هل تجب إحالته؟ ثلاثة أقوال: أحدها: وجوب الإحالة، والثاني: إسقاطها، والثالث: التفرقة.
فإن كان واسعًا لم تجب الإحالة، وإن كان ضيقاً وجبت، وإيجابها لطلب التدلك، وإسقاطها لأن الماء لطيف الجوهر فهو يحصل تحت الخاتم وإن لم يحل.
وهذا لا يكفي في طلب التدلك وإنما ينبغي أن يقال هذا إما لأن
__________
(1) في (ق) من رواية التردد.
(2) من هنا تبدأ نسخة "تازة" وقد أشرت إليها بـ "ت".
(3) في (ق) لتحصيل.
(4) في (م) فيحصل الغسل حين التدلك.

(1/285)


المكان يسيرٌ فيعفى عن تدلكه مراعاة للخلاف، وإما لأنه ملبوس مستدام فأجزأ إصابة ظاهره بالماء قياساً على الخف.
والقياس على الخف ينبني على اختلاف الأصوليين في الرخص هل يقاس عليها أم لا؟
ووقع لمحمد بن عبد الحكم (1) أنه يزيل الخاتم في وضوءه وهذا إما على طريق الاستحباب ليكون ذلك أبلغ في إصابة الموضع بالماء والتدلك، وإما لأنه يحتمل أن الإحالة لا تؤثر في ذلك.
...

فصل (في حكم الرجلين)
وأما الرجلان فالنظر فيهما من وجهين:

(حكم الكعبين)
أحدهما: حكم الكعبين في وجوب غسلهما، والنظر في ذلك كالنظر في المرفقين. لكن اختلفوا في الكعبين ما هما على قولين؟ المشهور أنهما الناتئان في الساقين، وحكى القاضي أبو محمد (2) عن مالك أنهما اللذان عند معقد الشراك. والكعب عند العرب كل ناتئ ومنه سميت الكعبة، والمرأة كاعباً وهي التي برز ثديها عند الإدراك. وكل موضع مما قيل ها هنا فيه
__________
(1) هو: محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أبو عبد الله سمع من أبيه وابن وهب وأشهب وابن القاسم وغيرهم من أصحاب مالك، وصحب الشافعي وأخذ عنه وكتب كتبه وإليه انتهت الرياسة بمصر، ورسخ في مذهب الشافعي وربما تخير قوله عند ظهور الحجة، وكان أفقه أهل زمانه .. وله تآليف كثيرة في فنون العلم والرد على المخالفين كالرد على الشافعي فيما خالف فيه الكتاب والسنَّة وكتاب الرد على أهل العراق. وذكر أنه ضرب في المحنة بالقرآن .. توفي سنة ثمان وستين ومائتين وقيل: سنة تسع. الديباج المذهب ص: 331 - 232 وطبقات الفقهاء 1/ 111.
(2) في (م) القاضي أبو محمد عبد الوهاب.

(1/286)


بروز، لكن بروز اللذين في الساق أكبر، فلهذا كان وقوع التسمية عليهما أشهر (1). وفي المدونة: يغسل أقطع الرجلين الكعبين وما بقي من القطع، لأن (2) القطع تحتهما (3). وهذا على أنهما اللذان في الساقين. وأما على القول الثاني فلا يغسل لأن القطع يأتي عليهما.

(حكم تخليل أصابع الرجلين)
والوجه الثاني: تخليل الأصابع وظاهر المذهب (4) على ثلاثة أقوال: أحدهما: استحبابه، والثاني: إنكاره، والثالث: وجوبه. فأما الوجوب فلطلب (5) التدلك، وأما الإنكار فلأنه رأى أن ما بين أصابع الرجلين في حكم الباطن، فغسله (6) من الغلو الذي تنهى عن مثله الشريعة. وأما الاستحباب فلكونه في حكم الباطن. وقد ورد في الحديث التخليل (7) فيحمل على الاستحباب لأنه أبلغ في النظافة.

...

فصل (في حكم بول الصغير الذي لم يأكل الطعام)
وقد تقدم أن بول الآدمي وروثه نجسان، وهذا في من لم يكن
__________
(1) في (م) أسهل.
(2) في (ق) وإن كان.
(3) انظر المدونة 1/ 23.
(4) في (م) المدونة.
(5) في (ق) فيطلب.
(6) في (ق) فغسل، وفي (م) في غسلهما.
(7) من ذلك ما أخرجه الترمذي في الطهارة (38) واللفظ له، والنسائي في الطهارة (114) وأبو داود في الطهارة (142) وابن ماجه في الطهارة (448) والدارمي في الطهارة (705)، والحاكم في المستدرك 1/ 247 عَنْ عَاصِم بْنِ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا تَوَضَّأتَ فَخَلُلِ الأَصَابِعَ". وقَالَ الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وقال الحاكم: حديث صحيح ولم يخرجاه.

(1/287)


صغيراً لم يأكل الطعام. وأما الصغير الذي على هذه الصفة، ففي نجاسة بوله ثلاثة أقوال: أحدها: الحكم بنجاسته قياساً على الكبير. والثاني: الحكم بطهارته، لما ورد في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أوتي بصبي لم يأكل الطعام فبال على ثوبه فنضحه، وفي بعض الطرق: ولم يغسله (1). والثالث: التفرقة بين بول الصبي وبول الصبية فيحكم بطهارة بول الذكر (2) للحديث، ويقصره على ما ورد خاصة، ويحكم بنجاسة بول الأنثى طرداً (3) للأصل. ولم يرد فيها حديث (4). وقد علل هذا المذهب بأن الذكر خلق من تراب والأنثى من ضلع، فإذا لم يأكلا الطعام رُدَّا إلى أصلهما، فالتراب طاهر والضلع (5) نجس. وهذا ليس بشيء لأنه يقتضي الحكم بطهارة الرجيع وأجمعت الأمة على نجاسته. وإنما الخلاف في البول. وأيضاً فإن المخلوق [من تراب ومن ضلع هما أصل الخلقة، آدم وحواء. وأما من بعدهما فهو مخلوق من نطفة وهو] (6) يتغذى (7) في الرحم بدم الحيض، فلا يقال فيه يرجع إلى الأصل.

...
__________
(1) بياض في (ت) و (ق).
والحديث متفق عليه فقد أخرجه البخاري في الوضوء (223) واللفظ له، ومسلم في الطهارة (287) عَن أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنِ أَنَّهَا أَتَتْ بِابُنِ لَهَا صَغِيرِ لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ إِلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَأجْلسَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في حَجْرِهِ فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ فدَعَا بِمَاءِ فَنَضَحَهُ وَلَمْ يَغْسِلْهُ.
(2) في (م) الصبي وفي (ق) الذكور.
(3) في (ق) رداً على، وفي (م) كردها.
(4) بل ورد حديث أخرجه الترمذي في الجمعة (610) واللفظ له وأبو داود في الطهارة (377)، وابن ماجه في الطهارة (525) عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِب رَضِي الله عَنْه أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ في بَوْلِ الْغُلاَمِ الرَّضِيع: "يُنْضَحُ بَوْلُ الغُلاَم وَيُغْسَلُ بَوْلُ الْجَارِيَةِ". قَالَ قَتَادَةُ: وَهَذَا مَا لَمْ يَطْعَمَا فَإِذا طَعِمَاَ غُسِلَا جَمِيعاً. وقَالَ الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
(5) في (ر) العظم.
(6) ساقط من (م).
(7) بياض في (ت) وفي (ق) ومتغذي.

(1/288)


فصل (في النهي عن البول قائمًا)
ونذكر (1) هاهنا من آداب الأحداث البول قائما. وقال الأشياخ: لا يخلو الموضع المقصود بالبول من أربعة أقسام: أحدها: أن يكون طاهراً رخواً، أو صلبًا نجساً، أو صلباً طاهراً، أو رخواً نجسًا؛ فإن كان طاهراً رخواً فالأولى أن يجلس للبول لأنه أقرب إلى الستر، ولا يحرم عليه القيام. وإن كان الموضع صلبًا نجساً فينبغي أن يُترك ويُقصد غيره، لأنه إن قام خاف أن يتطاير عليه وإن جلس خاف أن يتلطخ بنجاسة الموضع، فإن كان صلباً طاهراً فليس إلا الجلوس لأنه يأمن التلطخ بالنجاسة [إن جلس] (2) ولا يأمن منها (3) إن قام، لأنه يتطاير عليه. وإن كان الموضع رخواً نجساً فهاهنا ليس إلا القيام، لأنه يأمن التطاير وإن جلس خاف التلطخ. ومحصول هذا أنه يجتنب النجاسة ويفعل ما هو أقرب للستر. واجتناب النجاسات آكد من الستر إذا كان بموضع لا يرى فيه. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه بال قائماً (4). وقالت عائشة رضي الله عنها: "من حدثكم أن النبي عليه السلام بال قائماً فلا تصدقوه" (5). وإنما حكت عن أكثر أحواله أو ما لم تر غيره (6). وأما بوله قائماً ففي الحديث ما يدل على أن ذلك كان لعلة وهي كون الموضع نجساً لأنه قال: أتى سباطة (7) قوم فبال قائماً، والسباطة هي المزبلة والغالب كونها رخوة نجسة.
...
__________
(1) في (م) وقد ذكرنا وفي (ر) ذكر.
(2) ساقط من (ت).
(3) في (ت) ولا يأمنها وفي (ق) ولا يأمن.
(4) أخرج البخاري في الوضوء (224) واللفظ له، ومسلم في الطهارة (273) عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ أتَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - سُبَاطَةَ قَوْم فَبَالَ قَائِمًا ثُمَّ دَعَا بِمَاءِ فَجِئْتُهُ بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ.
(5) أخرجه الترمذي في الطهارة (12) واللفظ له، والنسائي في الطهارة (29)، وابن ماجه في الطهارة (307) عَنْ عَائِشَةَ قَالَت: "مَنْ حَدَّثَكُمْ أَنَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَبُولُ قَائِمًا فَلَا تُصَدِّقُوهُ، مَا كَانَ يَبُولُ إِلاَّ قَاعِدًا" قَالَ الترمذي: حَدِيثُ عَائِشَةَ أَحْسَنُ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَصَحُّ.
(6) في (ق) وما لم ترى غيره وفي (م) أو ما بعده من غيره.
(7) في (ت) إننا بسباطة قوم.

(1/289)


فصل (في أحكام المياه الجارية والراكدة)
وقد مرَّ الكلام على حكم المياه ولم نفصل (1) هناك حكم الجاري والراكد، وهذا موضع تفصيله لنحاذي به الكتاب. وذلك أن الماء لا يخلو من أن يكون جاريًا أو راكداً؛ فإن كان راكداً فلا يخلو من أن تكون له مادة أو لا مادة له، فإن كان جاريًا (2) فإن حكمه فيما تحل فيه النجاسة حكم الماء الكثير، فيجتنب المتغير منه دون غير المتغير، لأن هذا الماء غير ثابت والنجاسة غير ثابتة فيه في موضع متعين (3)، فينظر إلى محل أثرها، فإن أثرت اجتنب موضع التأثير دون غيره.
فإن كان راكداً ولا مادة له فهو راجع إلى الأصل الذي قدمناه (4)، فإذا حلته النجاسة وهو يسير كان فيه ما قدمناه من الخلاف إذا (5) لم يتغير. وإن كان كثيراً فإن تغير فهو نجس وإن لم يتغير (6) فهو طاهر. غير أنهم (7) قد فرقوا بين وقوع النجاسة فيه وبين موت الحيوان الذي له نفس سائلة؛ فرأوا أن لموت هذا الحيوان تأثير البلة [التي] (8) تنفصل منه عند خروج نفسه. ولهذا أمر بأن يراق منه مقدار من الماء لأن تلك البلة دهنية تصعد على وجه الماء فتزال بما يراق منه. وما وقع في بعض الروايات من تحديد القدر المراق بالأربعين لا أصل له، إلا لئلا يُكثر العامي الموسوس إراقة الماء ويُقله المتساهل. ولهذا نقل عن ابن الماجشون أنه كان متى استفتاه أحد في مثل هذا قال له أرق منه أربعين دلواً أو خمسين أو ستين [أو سبعين] (9).
__________
(1) في (ق) و (م) ولم نقصد.
(2) في (ف) و (م) فإن كان الماء جاريًا.
(3) في (م) في الموضع المعين.
(4) في (ت) إلى ما قدمناه.
(5) في (ر) في إذا.
(6) نهاية الساقط من (ص).
(7) في (ر) و (ف) على أنهم.
(8) ساقط من (ر) و (ق) و (ص).
(9) ساقط من (ص)، وسقط من (ر) أو.

(1/290)


وإنما كان يقول ذلك لئلا يُفهم من التحديد أنه قانون شرعي لا يتعدى، وذلك يختلف بكثرة الماء وقلته وصغر الدابة الميتة وعظمها (1). فإن كان الماء له مادة كماء الآبار فإنه يرجع إلى ما قدمناه (2)، فإن كان كثيرًا ولم (3) يتغير حكمنا بالطهارة، وإن كان يسيراً فعلى الخلاف المتقدم. وإذا حكمنا بالنجاسة على أحد الأقوال أو تغير الماء فإنا نأمره (4) بإزالة جميع الماء المتغير النجس (5) حتى يخلفه غيره. ولو تغير الماء بنجاسة ثم زال التغيير ففيه قولان: قيل حكم النجاسة باق، وقيل إذا زال تغييره زال حكم النجاسة، إذ زوال التغيير يشعر بغلبة الماء وقهره للنجاسة.
...

فصل (في حكم الطعام تحله النجاسة)
وأما حكم الطعام تحله النجاسة، فإن كثرت النجاسة وقل الطعام وتخللت (6) جميع أجزائه فلا خلاف في الحكم بنجاسته.
وإن قلت النجاسة وكثر الطعام ففي المذهب قولان: أحدهما: الحكم بنجاسته، لأنه لا يدفع عن نفسه ولا جزء منه إلا ويمكن أن تحله النجاسة. فلا يجوز الإقدام على استعمال شيء منه لإمكان أن تكون النجاسة حلته.
والقول الثاني: الحكم بطهارته ليسارة النجاسة وكثرة الطعام، فهي كالمستهلكة (7)، وهي كما نقول فيمن اختلط ذات محرم له مع نساء العالم وجهل عينها (8) فإنه يسوغ له الزواج بلا خلاف. وإن أمكن أن يتزوج ذات محرم منه.
__________
(1) في (ق) و (م) وكبرها.
(2) في (ق) قدمناه بالنجاسة.
(3) في (ص) لم يتغير.
(4) في (ق) إن لم يتغير الماء فإنا نأمر.
(5) في (ص) المتغير والنجس.
(6) في (ص) و (ق) و (ت) تحللت.
(7) في (ص) كالمشكوك.
(8) في (ر) و (ت) العالم وحصل العلم عينها.

(1/291)


وإذا راعينا حكم النجاسة في الطعام فإنه لا يخلو أن يكون مما تسري النجاسة في جملته كالذائبات من الأدهان وغيرها، أو لا تسري في جملته كالجامدات؛ فإن كان مما تسري في جملته حكمنا بنجاسته جميعه، وإن كان مما لا تسري في جملته حكمنا بنجاسة ما سرت فيه دون غيره، وهذا كالعسل يكون (1) جامداً فتقع فيه فيحكم بنجاسة ما سرت فيه دون غيره. ولو كان مما تسري فيه مع طول المكث نظرنا إلى طول المكث وقصره (2)، وهذا كالسمن الجامد.

(حكم بيع واستعمال الطعام النجس)
وإذا حكمنا بنجاسة الطعام فهل يباح استعماله وبيعه؟ أما استعماله ففيه قولان مشهوران: أحدهما: أنه يستعمل ويتوقى من نجاسته كما قالوا في الزيت تموت فيه الفأرة، فإنه يستصبح به في غير المساجد. وقالوا في العسل تموت فيه الفأرة أيضاً تعلف به النحل. والثاني: أنه لا يستعمل أصلاً، وهذا لما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال عام الفتح وهو بمكة إن الله [ورسوله] (3) حرم بيع الخمر والخنزير والميتة والأصنام فقيل له: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها، فقال: "لا هو حرام"، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -[عند ذلك] (4): "قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم الشحوم أجملوها ثم باعوها وأكلوا ثمنها" (5).
__________
(1) في (ن) كالعسل الجامد.
(2) في (ص) و (م) لفرقنا بين طول مكثها وقصره.
(3) ساقط من (ر) و (ت).
(4) ساقط من (ص) و (م).
(5) أخرجه البخاري في البيوع (2236)، ومسلم في المساقات (1581) بلفظ قريب من هذا. ولفظ البخاري: "عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِي الله عَنْهمَا أَنَّهُ سَمِع رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ عَامَ الْفَتحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ: "إن اللهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَصْنَامِ" فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهَا يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ: "لاَ هُوَ حَرَامٌ" ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ ذَلِكَ: "قَاتَلَ الله الْيَهُودَ إِنَّ الله لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ".

(1/292)


وقد تعلق بهذا الحديث كل واحد من الفريقين وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - حرم البيع أولاً ثم سئل عن الاستعمال فقال: لا. فيحتمل أن يريد بذلك تحريم الاستعمال وهو أقرب المذكورات، ويحتمل أن يريد تحريم البيع، وعنه جاوب بقوله: "لا" لأنه ذكر (1) فعل اليهود في إجمال الشحوم وبيعها وأكل ثمنها، فما ابتدأ به الحديث وختمه يقتضي تحريم البيع خاصة، وقوله "لا" لما سئل عن الاستعمال يقتضي تحريم الاستعمال وتحريم البيع. فإذا أجزنا الاستعمال فهل نجيزه للمكلفين كالاستصباح بالزيت [النجس] (2) وما في معنى ذلك؟ أو إنما نجيزه لغير المكلفين كإطعام الطعام النجس للدواب؟ في ذلك قولان. وفي كتاب مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بما عجن من الخبز من ماء آبار (3) ثمود أن يعلف به الإبل (4). وهذا يحتج به من يقول إن الاستعمال إنما يجوز لغير المكلفين.
ويعتذر الآخرون عن هذا بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما أمر بذلك عقوبة، لأنه نهى عن الاستقاء (5) من تلك الآبار ولم يكن ذلك لنجاستها.
وفي تمكين اليهود والنصارى من ذلك قولان: أحدهما: جوازه، والثاني: منعه. وهذا على الخلاف هل هم مخاطبون بفروع الشريعة أم لا؟

...
__________
(1) في (ص) لأن المذكور.
(2) ساقط من (ر).
(3) هكذا في (ص) وفي (ر) أمر بما عجن من آبار.
(4) أخرج البخاري في أحاديث الأنبياء (3379) واللفظ له، ومسلم في الزهد (2981) عَنْ نَافِع أَنَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أخبَرَهُ أَنَّ النَّاسَ نَزَلُوِا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَرْضَ ثَمُودَ الْحِجْرَ فَاسْتَقَوْا مِنْ بِئْرِهَا وَاعْتَجَنوا بهِ فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَن يُهَرِيقُوا مَا اسْتَقَوْا مِنْ بِئْرِهَا وَأَنْ يَعْلِفُوا الإِبِلَ العَجِينَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا مِنْ الْبِئرِ الَّتِي كَانَتْ تَرِدُهَا النَّاقَةُ.
(5) في (ق) و (م) الاستعمال.

(1/293)


فصل (في حكم ما كانت نجاسته أصلية)
فكل ما تقدم من الخلاف جار في كل نجس كانت نجاسته غير أصلية، بل كان طاهراً ثم تنجس بما حل (1) فيه كالزيت وسائر الأدهان والخبز يعجن بالماء النجس.
وأما ما كانت نجاسته أصلية كالعذرة وشحم الميتة فالمعروف من المذهب أنه لا يستعمل بوجه. والكلام عليه (2) محال على كتاب البيوع الفاسدة.
وهل يطهر الزيت وسائر الأدهان بعد تنجيسها بماء يقع فيها؟ في المذهب قولان: المشهور أنه لا يطهر، والشاذ أنه يطهر وهو خلاف في شهادة ترجع إلى الحس، وذلك أن الأدهان لا تمتزج بها النجاسة امتزاجاً لا يمكن انفصالها عنها، بخلاف امتزاج سائر الأطعمة. وإذا تقرر ذلك فهل يمكن أن يبلغ إذا غسل منها مبلغا يذهب النجاسة (3) ويبقى الدهن على أصله؟ هذا محل الخلاف وهو محال على شهادة.
وينخرط في هذا السلك قولان في اللحم (4) يطبخ بماء نجس هل يطهر بالغسل؟ وسبب الخلاف في هذا هل يبلغ الماء الطاهر منه مبلغاً يذهب بالنجاسة التي داخلته أم لا؟ ومنه أيضاً الزيتون يملح بماء نجس هل يطهر بعرضه على الماء الطاهر؟ ومنه أواني الفخار تستعمل في الأشياء النجسة الغواصة (5) كالخمر، هل تطهر بعرضها على الماء؟ في جملة ذلك قولان. وهذا كله خلاف في شهادة ترجع إلى الحس. ويلاحظ هذا المعنى (6) في البيض الطاهر يسلق مع النجس، هل ينجس بذلك الطاهر أم لا؟ وهو خلاف يرجع إلى الحس من وجه آخر هل يمكن أن ينفصل من
__________
(1) في (م) بما دخل.
(2) في (ق) و (م) فيه.
(3) في (م) يبلغ الماء مبلغاً يذهب بالنجاسة.
(4) في (م) و (ن) ويجري في هذه المسألة اللحم.
(5) في (ر) مواصة وفي (ق) و (م) العارضة.
(6) في (ر) و (ق) المعنى خلاف.

(1/294)


النجس شيء يدخل في أجسام (1) الطاهر فينجسه أم لا؟
...

فصل (في حكم المبيت في الثوب النجس)
والمبيت في الثوب النجس لا يمنع لنفسه وإنما يمنع خوفًا من تحلل النجاسة فتصيب الجسد فينجس. فإن كان الوقت مما يمكن أن يعرق (2) فيه فينبغي ألا يرقد فيه (3) لئلا يتعرض للتلطخ بالنجاسة. وإذا نام فيه مع نجاسته (4) وقطع على سلامته من التلطخ بذلك فلا شيء عليه، وإن قطع على تلطخه غسل النجاسة من موضعها إن كان معينا، فإن لم يكن معينا غسل سائر الجسد، فإن شك نضح. وكذلك حكم الثوب الذي تصاب فيه النجاسة (5) فإنه يغسل ما يتيقن من نجاسته وينضح ما ترك فيه. وقد قدمنا حكم النضح فإن صلى (6) قبل النضح فهل يعيد أم لا؟ فيه قولان: قيل لا إعادة عليه لأن النضح استحباب، وقيل يعيد لأنه مأمور به (7) كما هو مأمور بغسل النجاسة.
...

باب في حكم الطهارة الكبرى (8)
وهي ثلاثة أقسام: واجب وسنة وفضيلة؛ فتجب عند خمسة مواضع: أحدها: إنزال الماء الدافق للذة في يقظة أو منام، وهذا مجمع عليه.
__________
(1) في (ص) مسام.
(2) في (م) يعرف.
(3) في (م) و (ق) في الثوب.
(4) في (ت) و (ص) نجاسة وفي (ق) النجاسة.
(5) في (ر) الجنابة.
(6) في (ص) فإن غسل.
(7) في (ق) و (م) لأنه مؤمر بغسل النجاسة.
(8) في (ر) و (ت) وما يتعلق بها.

(1/295)


والثاني: مغيب الحشفة وإن لم يكن أنزل، وهذا يختص باليقظة دون المنام، فمن رأى أنه يجامع ثم لم (1) ينزل فلا غسل عليه [وأما إن جامع ولم ينزل] (2) فعلى وجوب الغسل فقهاء الأمصار. والثالث: انقطاع دم النفاس. والرابع: انقطاع دم الحيض. والغسل في هذين الموضعين مجمع على وجوبه. ولو خرج الولد ولم يصحبه دم ولا كان بعده ففي وجوب الغسل بخروجه قولان. والخامس: الإسلام، وهذا فيه قولان في المذهب: المشهور من المذهب إيجاب الغسل، والشاذ (3) استحبابه.
...

فصل (في مشروعية الغسل للجمعة والعيدين والحج)
ويسن الغسل للجمعة. واختلف في العيدين؛ فقيل الغسل فيهما سنة، وقيل فضيلة. والمشهور من المذهب أن ما بعد ذلك من الاغتسال لا يلحق مرتبة السنن؛ وهي على ثلاثة: الغسل للإحرام، والغسل لدخول مكة، والغسل للوقوف بعرفة. وعدها بعض أهل المذهب من السنن. ولا شك أن هذه الاغتسالات متفاوتة (4) المراتب في الشريعة؛ فآكدها غسل الجمعة، وقد أوجبه جماعة من أهل الظاهر (5)، ويلحق بذلك غسل العيدين. والظاهر أنه لم يوجبه أحد. ويلحق بذلك الغسل للإحرام وهو آكد (6) ما في الحج. وأما الغسل لدخول مكة والوقوف بعرفة فرتبتهما متساوية. وإذا عرضت هذه الاغتسالات (7) على ما قدمناه في الفرق بين السنَّة والفضيلة علمت (8) أن
__________
(1) في (ص) ثم فلم.
(2) ساقط من (م) و (ص) و (ق).
(3) في (ص) والثاني.
(4) في (ق) متفارقة.
(5) في (ص) المذهب.
(6) في (ر) أكثر.
(7) في (ر) الاغتسال.
(8) في (ص) على.

(1/296)


غسل الجمعة والعيدين يمكن تسميتهما سنة لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - داوم على فعلهما غير مستتر لذلك بل مظهر له. وأما غسل الحج فلم يتكرر منه تَكراراً (1) يقتضي له (2) أن يلحق برتبة السنن، بل لم يتكرر أصلاً.
وإذا حقق الإنسان ما قدمناه علم معنى تسمية السنة (3) والفضيلة والنافلة، وأن اغتسال الحج يكاد (4) أن لا يلحق بالفضائل، بل هو في رتبة النوافل. وإنما اتفقوا على غسل الجمعة واختلفوا في العيدين لما ورد في غسل الجمعة من الألفاظ التي تقتضي تأكيده حتى ظن منها أهل الظاهر الوجوب (5).
...

فصل
والغسل الواجب يشتمل على ثلاثة أقسام: فروض وسنن وفضائل، كما اشتملت عليها الطهارة الصغرى. ويشارك [الغسل] (6) الطهارة الصغرى في النية والماء الطاهر والموالاة. وأما الطهارة الكبرى فتنفرد بفريضة عموم سائر الجسد بالماء.

(حكم إمرار اليد على سائر الجسد)
وهل يجب إمرار اليد على سائر الجسد بالماء؟ المشهور من المذهب وجوبه، والشاذ إسقاطه. ووقع لأبي الفرج أنه يجب لا لنفسه؛ بل ليوصل الماء إلى سائر الجسد، إذ يمكن أن ينبو الماء عن بعضه لولا إمرار اليد.
__________
(1) في (ص) فلم يتكرر تكرارًا و (م) و (ق) فلم يتكرر.
(2) في (ق) و (ص) لها.
(3) في (ر) السنن.
(4) في (ص) تأكد.
(5) أخرج البخاري في الأذان (858) واللفظ له، ومسلم في الجمعة (846) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ".
(6) ساقط من (م) و (ق) و (ص).

(1/297)


وسبب هذا الخلاف التحاكم إلى اللغة (1) هل يسمى صب الماء من غير تدلك غسلاً أو لا يسمى بذلك إلا إذا قارنه التدلك؟ ويحتج من يسميه غسلاً بقولهم غسلت الأمطار ما تمر عليه، وهو صب الماء من غير زيادة. ويحتج الآخرون بتفريقهم بين الانغماس والاغتسال، ولا فرق إلا إمرار اليد وعدم إمرارها. ويعتذر آخرون عن هذا أن التفرقة ترجع إلى (2) غير إمرار اليد؛ وذلك أن المغتسل قد عم جميع جسده والمنغمس قد يعم جميع [جسده] (3)، وقد لا يعم. والثابت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يفيض الماء على جسده ولم يثبت عنه التدلك. وقد روي عنه أيضاً (4) - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بالتدلك وقد لا يثبت (5) ذلك. واحتج من أوجب التدلك [أيضاً] (6) بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ... أَنْقُوا الْبَشَرَ" (7). وهذا لا دليل فيه، والمطلوب منه إيصال الماء إلى جميع أجزاء الجسد. هذا (8) ما يتعلق بالمسألة من جهة اللغة، وأما الالتفات إلى المعنى فلا شك أن المطلوب من الغسل النظافة وإزالة الأوساخ وإنقاء البدن. وهل يحصل ذلك من غير تدلك أم لا؟ فمن أوجب التدلك رأى أنه لا يحصل [الإنقاء إلا به ومن لم يوجبه رأى أن ذلك يحصل] (9) بمجرد صب الماء.
وأما التحاكم إلى اللغة في تسمية الغسل فلا شك في حصوله وإن لم
__________
(1) في (ق) إلى أهل اللغة.
(2) في (م) على.
(3) بياض في (ر) وساقط من (م) و (ص).
(4) (ت) عن رسول الله.
(5) في (م) ولا يثبت.
(6) ساقط من (ت).
(7) ولفظ الحديث كاملاً: "تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ فَاغْسِلُوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَ" أخرجه الترمذي في الطهارة (106) واللفظ له، وأبو داود في الطهارة (248)، وابن ماجه في الطهارة (597)، وقال الترمذي في راوي الحديث الحارث بن وجيه: "حَدِيثُ الْحَارِثِ بْنِ وَجِيهٍ حَديثٌ غَرِيبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إلاَّ مِنْ حَدِيثِهِ وهُوَ شَيْخٌ لَيْسَ بِذَاكَ"، وقال فيه أبو داود: "الْحَارِثُ ابْنُ وَجِيهٍ حَدِيثُهُ مُنْكَرٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ".
(8) في (ر): وهذا.
(9) ساقط من (ت).

(1/298)


يوجد التدلك (1). وهل يجزي التدلك على القول بايجابه (2) وإن لم يكن مقارنا لصب الماء بل كان عقيبه؟ للأشياخ قولان: أحدهما: أنه لا بدّ من مقارنة التدلك بصب الماء، فلو انغمس المتطهر في ماء ثم تدلك عقيب ذلك من غير تأخير (3) لم يجز عند هؤلاء. والثاني: أنه يجزيه إمرار اليد والتدلك إذا (4) كان عقيب صب الماء أو الانغماس. وهذا خلاف في التسمية هل يحصل التدلك عقيب صب الماء أو لا يحصل إلا بأن يقارن صب الماء. [والصحيح أنه يجزئ التدلك عقيب صب الماء وتكليف غير ذلك من الحرج الذي تسقطه الشريعة] (5).
وإذا أوجبنا التدلك فكان (6) في الجسد موضع لا يصيبه ذلك لقصر في اليد أو لعلة مانعة منه، وإن لم يقدر الإنسان على أن يستنيب من يدلك له [ذلك] (7) الموضع، ولم يقدر على أن يمسح ذلك بحائط أو ما في معنى ذلك فلا خلاف في سقوط التدلك في الموضع الذي لا يقدر على تدلكه.
وإن كان يقدر على الاستنابة (8) أو على مسحه كما قلناه فهاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يستنيب، والثاني: أنه لا يلزمه (9) الاستنابة، والثالث: [أنه] (10) إن كان يسيراً لم يلزمه ذلك وإن كان كثيراً لزمه. والقولان الأولان مبنيان على شهادة هل يحصل بطلب الاستنابة الحرج [فيسقط ذلك أم لا يحصل به حرج فلا يسقط] (11).
__________
(1) في (ت): تدلك.
(2) في (ت): بوجوبه.
(3) في (ت) تراخ.
(4) في (ت):إن.
(5) ساقط من (ق).
(6) في (ت): وكان.
(7) ساقط من (ت).
(8) في (ت): استنابة
(9) في (م) لا يلزمه بسبب الحرج.
(10) ساقط من (ت).
(11) ساقط من (م).

(1/299)


وأما التفرقة بين اليسير والكثير فبناء على أن القليل معفو عنه لا سيما إذا قارنه ما قد يعد حرجاً.
...

فصل (في حكم الشعور الكثيفة)
واختلف في تخليل الشعور الكثيفة في الغسل، هل يجب ذلك؟ فالمشهور إيجابه في الغسل بخلاف الوضوء، والشاذ إسقاطه. ويستوي في هذا شعر اللحية وشعر الرأس- إن كانت وفرة- وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يخلل في الغسل من الجنابة أصول شعر رأسه (1). وقد اختلف الأصوليون هل تحمل أفعاله التي قصد بها القربة على الوجوب أو على الندب؟
وأجاز في المدونة للمرأة أن تغتسل ولا تنقض ضفرها (2) ولكن تضغثه بيديها (3). ومعناه تخلله بأصابعها وتعركه (4) حتى يصل الماء إلى أصوله، وهذا إذا لم يكن عليه حائل يمنع وصول الماء إلى أصوله؛ فإن كان هناك حائل أزيل وإن أدى إلى نقض الضفر.
وكذلك يجري الحكم في مسح الرأس في الوضوء. فإنه أجاز في المدونة أن تمسح على ضفرها (5). وهذا إذا لم يكن عليه حائل يمنع من وصول الماء إليه؛ فإن كان هناك حائل جرى نقضه [وعدم نقضه على الخلاف في وجوب إيعاب جميع الرأس فقد تقدم.
...
__________
(1) أخرج البخاري في الغسل (248)، عن عائشة "أَنَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ بَدَأَ فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثُمّ يَتَوَضأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلاَةِ ثُمَّ يُدْخَلُ أَصَابِعَهُ فِي الْمَاءِ فَيُخَلِّلُ بهَا أُصُولَ شَعَرِهِ ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى رَأسِهِ ثَلاَثَ غُرَفِ بيَدَيْهِ ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى جِلْدِهِ كُلِّهِ".
(2) في (ص) شعرها.
(3) المدونة 1/ 28.
(4) قال في مختار الصحاح 1/ 180: عَرَكَ الشيء: دلكه.
(5) المدونة 1/ 16.

(1/300)


فصل (ما يفعل من بيده نجاسة وليس معه ما يغرف به الماء)
وأما سنن الطهارة الكبرى؛ فمنها غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء وذلك مما تشترك فيه الطهارتان الصغرى والكبرى] (1) وقد قدمنا صفة الغسل.
ولو أتى الجنب إلى بئر قليلة الماء [أو ما في معناها] (2) وبيده نجاسة وليس معه ما يغرف به [الماء] (3). قال في المدونة: [يحتال حتى يغتسل أو يغرف] (4) ولم يذكر كيف يحتال. وفي غير المدونة أنه يتوصل إلى غسل يديه بأن يرمي في الموضع ما يقبض به الماء إن أمكن ذلك؛ فإن لم يمكن أنزل [في] (5) الماء خرقة طاهرة إن كانت معه ويغسل يديه بما يعتصر (6) من الخرقة، فإن لم يمكنه ذلك وأمكنه أن يأخذ بفيه ماء ففيه قولان: [أحدهما:] (7) أن له ذلك (8) بفيه فيصب على يديه. والثاني: أنه لا يجزيه ذلك. فإذا أجزنا غسل النجاسة بغير الماء من المائعات (9) فلا شك في جواز ذلك. فإن اقتصرنا على الماء فيختلف في هذه المسألة.
وسبب الخلاف [في] (10) شهادة بأن [الماء] (11) المنفصل عن الفم هل
__________
(1) ساقط من (م).
(2) ساقط من (ق).
(3) ساقط من (ر) و (ت).
(4) في (ق) حتى يغتسل أو يغرق. والذي في المدونة 1/ 27: (يحتال لذلك حتى يغسل يده ثم يغرف منها فيغتسل).
(5) ساقط من (م).
(6) في (ق) و (م) بما يفيض.
(7) ساقط من (ق) و (م)
(8) في (ق) أن له أن يأخذ بقيا.
(9) ساقط من (ق) وفي (ص) بالماء من المائعات، وفي (م) بغير المائعات.
(10) ساقط من (ص) و (ق).
(11) ساقط من (م) وطمس في (ص).

(1/301)


يخالطه من الريق ما يضيف الماء (1) أو لا يخالطه قدر ذلك.
فإن لم يقدر على تناول الماء بوجه من الوجوه إلا بأن يدخل يده فيه؛ فإن كان في يده من النجاسة مقدار ما يغير الماء فإنه يتيمم ويتركه، وإن كان الماء لا يتغير بذلك والماء يسير فيجري على الخلاف المتقدم في الماء اليسير تحله النجاسة ولا تغيره. وقد تقدم الثلاثة الأقوال: أحدها: أنه طاهر [مطهر] (2) فيستعمله هذا. والثاني: أنه نجس فيتركه هذا، وينتقل إلى التيمم. والثالث: أنه مشكوك في حكمه (3) فيختلف هل يتيمم ويصلي [صلاة واحدة على ما قدمناه] (4) ثم يغتسل به ويصلي صلاة ثانية؟ أو يغتسل به ويتيمم ويصلي صلاة واحدة على ما قدمناه؟
وأما المضمضة والاستنشاق فهما عندنا (5) سنتان في الغسل كما هما
في الوضوء. وكذلك مسح داخل الأذنين. وأما خارجهما فلا خلاف في
فرضيتهما في الغسل. والداخل هاهنا الصماخ (6).

...

فصل
وأما فضائل الغسل فهي الابتداء بالوضوء قبله.

(حكم الرجلين في الغسل)
وهل يكمل أعضاء الوضوء أو يبقي الرجلين حتى يغسلهما في آخر غسله؟ في المذهب في ذلك قولان. وقد روت عائشة رضي الله عنها
__________
(1) ساقط من (ت). كذا في سائر النسخ.
(2) ساقط من (ر).
(3) في (م) و (ق) فيه.
(4) ساقط من (ر).
(5) في (ر) و (ت) عندي.
(6) قال في مختار الصحاح 1/ 155: الصِّماخُ بالكسر: خرق الأذن.

(1/302)


عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يكمل وضوءه (1). وروت عنه ميمونة (2) رضي الله عنها أنه كان يبقي غسل رجليه إلى آخر غسله (3). والحديثان ثابتان عنهما ولا تاريخ يوجب النسخ (4)؛ فيحمل فعله على جواز الأمرين. وقد قيل: إن ذلك يختلف فإن كان بموضع لا أوساخ فيه فيقدم غسل الرجلين، وإن كان في موضع فيه أوساخ فيؤخر ذلك؛ لأن تقديم غسلهما غير مفيد إذ يتلطخان بالأوساخ. وإنما ابتدأ بأعضاء الوضوء تشريفاً لها. فمن رأى أن حقيقة التشريف أن يكمل، رأى أن يكمل وضوءه. ومن رأى أن حقيقة التشريف أن يبدأ بها ويختم بها قال يؤخر غسل رجليه إلى آخر غسله. وهكذا قيل في هذا. وقد قدمنا أن الحديثين يقتضيان التخيير.
وهل يعيد غسل أعضاء الوضوء إذا بدأ بها؟ أما إذا نوى به الفضيلة؛ فيعيد غسلها، وإن نوى الفرض فلا تلزمه الإعادة. وإن قلنا إنه يؤخر غسل رجليه [إلى آخر غسله،] (5) فإنه إذا غسل وجهه وغسل ذراعيه أفاض الماء على رأسه ولم يمسح.
وإن قلنا يكمل وضوءه فإنه يمسحه، ولا شك أنه لا يجزيه المسح عن الغسل، فيعيد غسله على كل الأحوال (6).
__________
(1) أخرج البخاري في الغسل (248) عن عائشة زَوْج النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - "أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الجَنَابَةِ بَدَأ فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلاَةِ ثُمَّ يُدْخِلُ أَصَابِعَهُ في الْمَاءِ فَيُخَلِّلُ بِهَا أُصُولَ شَعَرِهِ ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى رَأسِهِ ثَلاَثَ غُرَفٍ بِيَدَيْهِ ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى جِلْدِهِ كُلِّهِ".
(2) هي: أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث بن حزن الهلالية، تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت فراغه من عمرة القضاء، كان اسمها برة فسماها النبي - صلى الله عليه وسلم - ميمونة توفيت سنة 61 وقيل: سنة 51.
السير 4/ 514.
(3) أخرج البخاري في الغِسل (274) واللفظ له، ومسلم في الحيض (317) "عَنْ مَيْمُونَةَ قَالَتْ وَضَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَضُوءًا لِجَنَابَةٍ فَأَكْفَأَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا ثُمَّ غَسَلَ فَرْجَهُ ثُمَّ ضَرَبَ يَدَهُ بالْأَرْضِ أَوِ الْحَائِطِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَذرَاعَيهِ ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى رَأسِهِ الْمَاءَ ثُمَّ غَسَلَ جَسَدَهُ ثُمّ تَنَحَّى فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ قَالَت: فَأَتيتُهُ بِخِرْقَةٍ فَلَمْ يُرِدْهَا فَجَعَلَ يَنْفُضُ بيَدِهِ".
(4) في (ت) ولا تراجع موجوب النسخ.
(5) ساقط من (ر).
(6) في (ق) الأقوال.

(1/303)


فصل (في أن الغسل يجزي عن الوضوء)
والغسل يجزي عن الوضوء؛ فلو اغتسل ولم يبدأ بالوضوء ولا ختم به (1) أجزأه غسله عن الوضوء لاشتماله عليه. هذا إن لم يحدث بعد غسل شيء من أعضاء الوضوء. وأما إن أحدث فلا يخلو من ثلاث صور: أحدها: أن يحدث قبل غسل شيء من أعضاء الوضوء؛ فهذا الذي قلنا فيه يجزيه الغسل عن الوضوء. والثانية: أن يحدث بعد كمال غسله (2) فهو كالمحدث يلزمه أن يجدد وضوءه. والثالثة: أن يحدث في أثناء غسله، فهذا إن لم يرجع فيغسل ما غسله من أعضاء الوضوء قبل حدثه فإنه لا يجزيه.
وهل يفتقر هذا في غسل ما تقدم من أعضاء الوضوء إلى نية أم تجزيه نية الغسل عن ذلك؟ فيه قولان للمتأخرين. وقال أبو محمد بن أبي زيد إنه يفتقر إلى نية. ورأى (3) أبو الحسن بن القابسي أنه لا يفتقر إلى ذلك. وهذا على الخلاف هل يرتفع الحدث عن كل عضو بإكماله؛ فيكون هذا إذا غسل بعض الأعضاء قبل حدثه (4) ثم أحدث فقد ارتفع الحدث عن الأعضاء المغسولة، وما طرأ من الحدث يوجب استئناف غسلها فيفتقر فيه إلى نية، أولاً يرتفع الحدث إلا بإكمال الطهارة فيكون هذا إذا أحدث بعد أن غسل بعض الأعضاء، عدَّ ذلك الغسل كالعدم، فإذا عاد انسحبت نية غسل الجنابة عليه. وهذا جار في كل الأحداث من مس الذكر وغيره (5).

...
__________
(1) في (ق) ولا يتم به.
(2) في (ت) بعد كمال وضوئه غسله.
(3) في (ق) و (ت) وروى.
(4) خرم في (ت).
(5) في (م) و (ق) ونحوه.

(1/304)


فصل (في فضيلة الابتداء بما بدأ به النبي - صلى الله عليه وسلم -)
ومن فضائل الغسل الابتداء بما بدأ به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو أن يغسل الأعلى من جسده فالأعلى والأيمن فالأيمن، وهذا لا أعلم خلافاً (1) في أنه لا يعد من الفروض. وقد قدمنا حكم الموالاة في الوضوء. وذلك بعينه جار (2) في الغسل.
...

فصل (حكم النية في الطهارة الكبرى والصغرى)
وقد قدمنا أن النية من فروض الوضوء، وأن الغسل يشاركه في ذلك. وهذا هو المشهور من المذهب. وحكى ابن المنذر (3) عن مالك في كتابه "الوسيط" (4) أن النية غير واجبة في الوضوء، وكذلك يكون [على هذا حكمها في الغسل] (5).
وسبب الخلاف في هذا أن الطهارة الكبرى والصغرى (6) فيهما شوب (7) من العبادة والنظافة؛ فمن غلب عليهما شوب العبادة أوجب النية
__________
(1) في (ر) فيه خلافاً.
(2) في (ق) و (م) جاز.
(3) في (ص) أبو المنذر على هذا.
وهو: محمد بن إبراهيم بن المنذر أبو بكر النيسابوري الفقيه نزيل مكة، أحد الأئمة الأعلام، كان مجتهدًا لا يقلد أحداً، وإن كان معدودًا من أصحاب الشافعي. سمع محمد بن عبد الحكم والربيع بن سليمان .. قيل: توفي سنة: 309 أو 310 هـ، وقال الذهبي: إنه ليس شيء. وحدث ابن القطان نقل وفاته سنة 318 هـ، طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 2/ 98 - 99 (44). وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي 3/ 103.
(4) في (ص) و (م) و (ق) الأوسط.
(5) ساقط من (ص).
(6) في (ق) و (م) أو الصغرى.
(7) في (ر) شوائب.

(1/305)


كالصلاة، ومن غلب عليهما حكم (1) النظافة لم يوجب [النية] (2) كغسل النجاسة (3).
وإذا أوجبنا النية فما محلها؟ أما محلها من المكلف القلب، والنية هي القصد، ومحل القصد (4) القلب. وأما محلها من العبادات فأولها هذا فيما يبدأ منه بالفروض كالصلوات، وهاهنا يبدأ بالسنة (5) كغسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء والمضمضة والاستنشاق.
واختلف هل يبدأ بالنية في مبادئ الوضوء لأنه فعل متصل؟ أو تكون البداية بها (6) عند الآخر في الفروض لأن النية إنما تفرض للفرض (7) فلا يبدأ بها عند النوافل؟ والجمع بين القولين أن يبدأ بها في أول الوضوء، ثم يداوم ذكرها إلى غسل الوجه. ولا يضر بعد الابتداء بها في محلها أن تختلس (8) بعد ذلك. هذا إذا قصد بنيته جملة الطهارة.
وهل للمكلف أن يفرق النية على أعضاء الوضوء؟ في ذلك قولان: أحدهما: أنه لا يجوز كالصلاة؛ فإنه لا يجوز أن يفرق النية على أجزائها، بل عليه أن ينوي جملتها. والثاني: أنه يجوز بخلاف الصلاة، لأن كل عضو قائم بنفسه. وهذا يلتفت إلى ما قدمناه من الخلاف في الأعضاء هل يرتفع عن كل عضو منها الحدث بكماله أو لا يرتفع إلا بكمال جميعها. وفي المدونة فيمن أبقى (9) غسل رجليه من طهارته فخاض بهما نهرا
__________
(1) في (ق) و (م) شوب.
(2) ساقط من (ص).
(3) في (ق) الجمعة.
(4) في (ق) القصود.
(5) في (ت) التسمية.
(6) في (ص) هنا.
(7) في (ر) في الفروض.
(8) في (ر) تختلسه، وخرم في (ص) و (م).
(9) في (ص) نسي، وفي (م) و (ق) بقي، وفي (ت) خرم.

(1/306)


فدلكهما فيه ولم ينو غسلهما للطهارة (1) أنه لا يجزيه حتى ينوي بهما الطهارة (2). وأخذ القاضي أبو محمد [عبد الوهاب] (3) من هذا جواز تفرقة النية على أعضاء الطهارة. ولولا (4) أن هذا الذي أبقى (5) غسل رجليه فرق نيته [على] (6) الأعضاء لانسحبت (7) النية الأولى على الرجلين لكان لا يفتقر في غسلهما إلى تجديد نية. وقد اعتذر عن هذا بأن النية إنما تنسحب (8) ما لم تحصل التفرقة. وأما إذا حصلت التفرقة بطل (9) حكم الانسحاب.
وإذا قلنا بأن محل النية أول الطهارة؛ فإن قارنت فلا شك في الإجزاء، وإن تأخرت فلا شك في الإبطال، لأن ما تقدم من الوضوء خال عن النية، وإن تقدمت فلا يخلو من قسمين: أحدهما: أن تتقدم بالزمان الطويل أو بالزمان القصير. فإن طال الزمان لم تجز، وإن قصر فقولان: أحدهما: الإجزاء، وهذا بناء على أن ما قارب الشيء حكمه حكماً لشيء، أو مراعاة لقول من [لم] (10) يوجب النية. والثاني: عدم الإجزاء، لأن النية عَرَض لا تبقى وقتين (11). فإذا لم يستدم ذكرها حتى تقارن الفعل فهي في حكم العدم. ولا خلاف في صحة الصوم وإن لم تقارن النية أول جزء منه. والمنصوص في [الصلاة] (12) وجوب مقارنة النية لأولها. وكأن الوضوء فرع بين هذين؛ فمن رده إلى الصوم فلا خلاف في عدم لزوم مقارنة النية فيه (13)
__________
(1) في (ص) للجنابة.
(2) المدونة 1/ 32.
(3) ساقط من (ت) و (ص) و (م).
(4) في (ت) الطهارة قال ولولا.
(5) في (ص) نسي.
(6) ساقط من (ر).
(7) في (ت) ولا تسحب.
(8) في (ص) تصحب.
(9) في (ت) وإلا إذا حصلت التفرقة بطل، وفي (م) وإلا أبدًا حصلت التفرقة بطل.
(10) ساقط من (ر) و (ص).
(11) في (ت) و (ق) زمانين.
(12) ساقط من (ص) وفي (م) و (ت) المدونة.
(13) في (ت) و (ص) فمن رده إلى الصوم فلا خلاف في لزوم النية فيه.

(1/307)


أو جاز أن تتقدم النية، ومن رده إلى الصلاة فلا. لأن الصوم يشق محاذاة أوله بالنية، والوضوء لا يشق فيه ذلك، ولذلك أوجبت المقارنة.

...

فصل (في المطلوب من النية في الطهارة)
والمطلوب من النية في الطهارة أن ينوي أحد ثلاثة أشياء: إما رفع الحدث، أو استباحة الصلاة، أو امتثال (1) الأمر. وهذه متى حضر (2) ذكر جميعها فلا يمكن أن يقصد (3) أحدها دون الآخر بل هي متلازمة، وإن حضر بباله بعضها أجزأ عن جميعها كما قدمناه. ولو خطر بباله جميعها وقصد بطهارته بعضها ناوياً عدم حصول الإجزاء فالطهارة أيضاً باطلة. لأن النية غير حاصلة، ومثاله أن يقول أرفع الحدث ولا أستبيح الصلاة، أو [أستبيح الصلاة] (4) ولا أرفع الحدث، أو أمتثل أمر الله في الإيجاب ولا أستبيح ولا أرفع، فهذا أتى بنية متضادة شرعاً [وحكماً] (5) فتتنافى (6) النية وتكون كالعدم.
ولو توضأ أو اغتسل قاصداً بالاستباحة صلاة (7) دون غيرها فإن لم يحضر الغير (8) بباله استباح كل صلاة، ولو حضر بباله وقصد أنه لا يتطهر له ومثاله أن يقول: أتطهر للظهر دون العصر؛ ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يجزيه ويصلي به سائر الصلوات، والثاني: أنه لا يجزيه ولا
__________
(1) في (ت) و (ق) وامتثال.
(2) في (ت) خطر.
(3) في (ص) أن يقد أحدهما وفي (ت) و (ق) أن يقصد ذكر أحدهما.
(4) ساقط من (ر).
(5) ساقط من (ت) و (ق) و (ص).
(6) غير مقروء في (ت).
(7) في (ت) الصلاة.
(8) في (م) فإن لم يخطر الغسل.

(1/308)


يصلي به ظهراً (1) ولا غيره. والثالث: أنه يصلي به ما نوى دون غيره. وهذا بناه الأشياخ في الرفض للطهارة على الخلاف هل يؤثر أم لا؟ لأنه إذا قصد الظهر (2) مثلاً دون العصر فكأنه يقول (3) أستبيح الظهر فبعد (4) استباحتها أرفض وضوئي، ولكنه أتى بالاستباحة والرفض في حالة واحدة. فمن التفت إلى سبق الإباحة غلب حكمها وقال: تجزي لكل صلاة. وما قصده من الرفض مخالف لحكم الشرع فيبطل. ومن التفت إلى وقوع القصدين [المتضادين] (5) في حالة واحدة حكم بالتنافي كما قلناه فيمن نوى رفع الحدث دون استباحة الصلاة. ومن صحح الرفض ورأى أن للاستباحة رتبة السبق (6) حكم بإجزاء الصلاة الأولى دون الثانية (7).
...

فصل (هل تجزي النية لغير الصلاة للصلاة؟)
وإذا حكمنا بأن النية لصلاة (8) واحدة من غير خطور (9) غيرها بالبال تجزي عن سائر الصلوات، فهل يحل غير الصلاة (10) في محلها في ذلك (11)؟
__________
(1) في (ص) صلاة.
(2) في (ت) الطهارة الظهر.
(3) في (ت) و (ق) يقول مثلا.
(4) في (ق) بعد.
(5) ساقط من (ص).
(6) في (ق) السنن.
(7) في (م) النية.
(8) في (ت) و (ق) و (ص) للصلاة.
(9) في (ق) و (ص) و (م) حضور.
(10) في (ص) فهل غير الطهارة.
(11) في (م) في ذلك أم لا.

(1/309)


(حكم ما تشترط له الطهارة)
الأفعال على ثلاثة أقسام: قسم لا يصح إلا بالطهارة، كالصلاة على اختلاف أنواعها من فرض وسنة وفضيلة ونافلة وصلاة جنازة وسجود القرآن، وكذلك مس المصحف والطواف بالكعبة ودخول المسجد في حق الجنب والحائض. فهذا كله إن قصد إلى استباحة بعضه استباح بذلك سائر ما تشترط فيه الطهارة.

(ما لا تشترط له الطهارة ولا تستحب)
وقسم لا تشترط فيه الطهارة ولا تستحب (1) كالمشي إلى السوق والأكل والشرب، فهذا لا يجزي القصد إلى استباحته. ومتى قصد إلى ذلك بطهارته لم يستبح بذلك شيئًا من الأفعال التي تشترط فيها الطهارة.

(ما تستحب له الطهارة)
وقسم ثالث تستحب (2) فيه الطهارة؛ كمن توضأ مجدداً أو اغتسل للجمعة ناسياً للجنابة أو توضأ لقراءة القرآن طاهراً أو توضأ للدخول على السلطان، ولا يقصد (3) غير ما ذكرناه؛ ففيه قولان: أحدهما: أنه يستبيح كل ما الطهارة شرط فيه، والثاني: ألا يستبيح به شيئاً مما تفرض الطهارة له.
وسبب الخلاف الالتفات إلى أن الطهارة غير واجبة لهذا القبيل ولا يجزي القصد إلى طهارة غير واجبة عن القصد إلى طهارة واجبة. والثاني: الالتفات إلى أنه قصد أن يكون على طهر، بل قصد إلى أن يكون على أكمل حال من الإجزاء. وقد تضمنت نيته الإجزاء زيادة فتجزي.
...
__________
(1) في (م) و (ت) تستباح.
(2) في (ر) و (ق) لا تجب.
(3) في (م) و (ق) ولا يقصد ما ذكرناه.

(1/310)


فصل (حكم تعدد المقاصد في رفع الحدث)
ومتى قصد إلى رفع الحدث، فإن اتحد [الحدث] (1) فلا تفريع. وإن تعدد القصد فلا يخلو من أن يكون من جنس واحد أو من جنسين؛ فإن كان من جنس واحد فإن نوى رفع واحد منها ارتفع جميعها، هذا إذا لم يخطر بباله إلا ما نوى. فإن خطر غيره [بباله] (2) وقصد رفع البعض دون البعض جرى على ما قدمناه إذا قصد استباحة الصلاة دون رفع الحدث، وإن كان جنس الحدث مختلفاً. فأما ما يوجب الطهارة الصغرى؛ فالمختلف منه كالمتفق لأن حكم الواجب منه (3) متحد وهو الوضوء، وما يمنعه متحد وهو كل ما يشترط فيه الوضوء. وأما ما يوجب الطهارة الكبرى إذا اختلف جنسه كالحيض والجنابة فإن وقعت النية لهما أجزأت، وإن نويت إحداهما دون الأخرى فثلاثة أقوال: أحدها: الإجزاء لأن الواجب عنهما متحد وهو غسل جميع الجسد، والثاني: عدم الإجزاء لأن الحيض يختص بمنع الجماع والطلاق، والجنابة تختص بمنع قراءة القرآن ظاهرًا (4) على المشهور. والثالث: أن القصد إلى الحيض يجزي دون القصد إلى الجنابة، وهذا لأن الحيض يمنع مما قلناه بلا خلاف، والجنابة قد قيل إن الحيض يشاركها في المنع من قراءة القرآن ظاهرًا.
ومن كان عليه غسل جنابة وجمعة؛ فإن قصد الاغتسال للجنابة (5) ناسيًا للجمعة ففي ذلك قولان: أحدهما: الإجزاء؛ لأنه قصد الآكد. والثاني: عدم الإجزاء، لأنه قصد واجباً. والغسل للجمعة سنة ولا يحصل إلا بحصول الواجب فهو أكمل ولا يحصل الأكمل إلا بالقصد إليه.
وأما إن قصد الجمعة دون الجنابة فقد تقدم القولان. فإن قصدهما
__________
(1) ساقط من (ر).
(2) ساقط من (ق) و (ت) و (ص).
(3) في (ق) عنده، وساقط من (ر) وخرم في (ت).
(4) في (ق) و (ت) طاهرًا.
(5) في (ص) قصد بالاغتسال إلى الجنابة.

(1/311)


جميعاً ففي المذهب قولان: أحدهما: الأجزاء، وهو المشهور، لأنه قد نوى كل واحد منهما والغسل متحد ونية الأجزاء والكمال لا تتنافى. والثاني: أنه لا يجزي، وهذا يرى تنافي النية هاهنا لأن الفرض واجب تحصيله والسنة غير واجب تحصيلها. فكأنه يقول في الغسل أغتسل لواجب غير واجب (1) في حالة واحدة وذلك متناف (2). وما الذي يفعله على هذا القول؟ ينبغي أن يقصد الجنابة ويعتقد أنه نائب (3) عن الجمعة.

...

فصل (حكم الغسل إذا فقدت اللذة المعتادة)
وقد تقدم أن الغسل يجب بإنزال الماء الدافق للذة مقارنة، فإن فقدت اللذة المعتادة وغير المعتادة ولم تكن مقارنة ولا سابقة (4) فهاهنا قولان: المشهور أن الغسل غير واجب والشاذ إيجابه. وهذه صورة نادرة فهل يعلق الحكم عليها؟ بين الأصوليين خلاف في ذلك؛ فمن علق الحكم على الصورة النادرة رأى إسقاط الوجوب هاهنا، لأن اللذة متى فقدت جملة لحق بسلس الأحداث (5)، وأيضاً فإن هذا إذا خلا ما يخرج منه عن اللذة جملة فهو كالودي صورة ومعنى، فلا يوجب (6) غسلاً. ومن رأى إجراء الحكم على الغالب طرداً للقاعدة (7) الكلية أوجب الغسل، لأن الشريعة علقت وجوب الغسل على المني والغالب حصوله بلذة، فإن حصل بغيرها فذلك نادر. وقد تكون اللذة متقدمة لسبب فلم يَعْرَ من لذة.
__________
(1) في (ت) و (م) واجبة.
(2) في (ق) استئناف.
(3) في (ت) غائب.
(4) في (ق) متابعة.
(5) في (ص) البول.
(6) في (ص) فلا يجب.
(7) في (ر) لقاعدة.

(1/312)


فإن قارن مادة غير معتادة كمن يسابق فيمني أو ينزل حوض الحمام (1) أو تلدغه عقرب فيكون منه ذلك، فهذا فيه قولان: إيجاب الغسل بحصول (2) اللذة، وإسقاطه. لأن وجود المني عن ذلك نادر، فيلحق بالصور النادرة. فإن كانت اللذة معتادة لكنها سابقة، كمن يجامع فيجد اللذة (3) ولا يكون منه ماء، أو يتلذذ بغير الجماع ولا يكون منه ذلك، ثم بعد ذهاب تلك اللذة جملة يكون منه الماء؛ ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: وجوب الغسل التفاتاً (4) إلى اللذة المتقدمة، ولأنها (5) قد أثرت انفصال الماء عن موضعه، وإنما عجزت الطباع عن إبرازه (6) في الحال. والقول الثاني: إسقاط الغسل لأن الماء لا حكم له ما لم يبرز، فإذا برز عاريا من اللذة لحق بما (7) فقدت فيه اللذة جملة. والقول الثالث: أنه إن كان عن جماع ثم اغتسل له قبل بروز الماء ثم برز فلا يعيد الغسل، وإن كان عن غير جماع فلم يغتسل له فإنه (8) يغتسل عند بروزه وهذا لأنه (9) يوجب الغسل له لكنه لا يكون غسلان لحدث واحد.
وإذا أسقطنا الغسل فهل بجب منه الوضوء؟ في المذهب قولان: أحدهما: إيجابه، لأن أدنى مراتبه أن يكون كالودي (10). والثاني: إسقاطه لأنه كسلس المذي (11).
__________
(1) في (م) لحوض.
(2) في (ت) و (ق) و (ص) لحصول.
(3) في (ق) اللذة جملة.
(4) في (ت) اتفاقا.
(5) في (م) أو.
(6) في (ص) إنزاله.
(7) في (ص) فيما.
(8) في (م) و (ق) لأنه.
(9) في (ق) وهذا لا لأنه.
(10) في (ت) و (م) كالمدي.
(11) في (ت) البول المدي.

(1/313)


وإذا صلى بعد وجود اللذة ثم برز (1) الماء، فهل يعيد تلك الصلاة؟ في المذهب قولان: أحدهما: الإعادة، وهو بناء على أن لانفصاله من موضعه حكما كما تقدم. والثاني: أنه لا يعيد تلك الصلاة وهو بناء على أن المراعى وقت بروزه.
...

فصل (مشروعية الوضوء للجنب قبل النوم)
ولا خلاف أن الجنب مأمور بالوضوء قبل النوم، وهل الأمر بذلك وجوب أو ندب؟ (2) المذهب قولان: وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر الجنب بالوضوء قبل النوم (3). وبين الأصوليين خلاف في أمره هل يحمل على الوجوب أو على الندب؟ واختلف في علة أمره بالوضوء قبل النوم؛ فقيل: لينشط للغسل. وعلى هذا لو فقد الماء لم يؤمر بالتيمم. وقيل: ليبيت على إحدى الطهارتين لأن النوم موت أصغر فشرعت فيه الطهارة الصغرى كما شرعت في الموت الطهارة الكبرى. فعلى هذا فإن فقد الماء تيمم.

...

فصل (هل يجبر المسلم زوجته الكتابية على الغسل؟)
ولا يجبر المسلم زوجته الكتابية على الغسل من الجنابة. وهل يجبرها
على الغسل من الحيضة؟ في المذهب قولان: أحدهما: أنه يجبرها لأنها
__________
(1) في (م) ينزل.
(2) في (ت) و (م) واجباً أو ندبًا.
(3) أخرج البخاري في الغسل (290)، ومسلم في الحيض (306) عن عمر أنه ذكر لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ تُصِيبُهُ الْجَنَابَةُ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "تَوَضَّأْ وَاغْسِلْ ذَكَرَكَ ثُمَّ نَمْ".

(1/314)


بتزويجه كالملتزمة للأحكام الواجبة (1) فيما بينها وبين زوجها. واعترض المتأخرون قول من (2) أوجب عليها الغسل بأن غسلها يفتقر إلى النية وهي ممن لا يصح منها القصد إلى الغسل. والجواب عن هذا أن كل غسل يتعلق بالمغتسل (3) يفتقر إلى نية، وما يتعلق بغيره فلا يفتقر إلى ذلك كغسل الإناء من ولوغ الكلب وغسل الميت.

...

فصل (حكم من استيقظ فوجد ماء في ثوبه)
ومن انتبه فوجد ماء فإن أيقن أنه مني اغتسل. وإن أيقن أنه مذي توضأ. وإن شك جرى على الخلاف فيمن أيقن بالوضوء وشك في الحدث، فإن قلنا بإيجاب الوضوء هناك وجب الغسل على هذا، وإن قلنا باستحبابه هناك استحب الغسل لهذا (4). ولو وجد منياً في ثوبه الذي ينام فيه ولا يدري من أي نوم كان؟ ففيه قولان أيضاً: أحدهما: إيجاب إعادة ما صلى من أول زمن نام. والثاني: إيجاب إعادة ما صلى من آخر نومة (5) نام فيه. وهو على الخلاف فيمن أيقن بالوضوء وشك في الحدث، لأن هذا على يقين من طهارته المتقدمة، وشك هل كان المني في أول نوم نامه في الثوب أو آخر نوم. ووقع (6) في بعض الروايات أنه إذا كان ينزع الثوب في النهار فإنه يعيد (7) من آخر نومه (8)، وإن كان لا ينزع فمن أول نوم (9).
__________
(1) في (ر) الواجبة على الغسل من الحيضة.
(2) في (ت) قول ابن القاسم.
(3) في (ق) و (م) بالمغسول.
(4) في (ر) الغسل المدي.
(5) في (ص) و (م) و (ق) نوم.
(6) في (م) و (ق) وقد وقع.
(7) فإنه يعتبر.
(8) في (ص) نوم نام فيه.
(9) في (ق) يومه.

(1/315)


وهذا بناء على وجوب الغسل بالشك. وإنما رأى أنه متى كان ينزعه ولم ير فيه جنابة دل ذلك على أن الموجود فيه من آخر نوم.
...

فصل (حكم وطء المسافر زوجته مع فقد الماء)
ومنع في الكتاب المسافر من أن يطأ أهله إلا أن يكون معه من الماء ما يكفيه، ولم يجز له الوطء والانتقال إلى (1) التيمم، وأجاز ذلك لمن به شجة وهو ينتقل عن غسل موضعها إلى المسح، وكذلك لو كان ينتقل إلى التيمم. وفرق بطول أمر صاحب الشجة وحاجته إلى وطء أهله (2). قال الأشياخ: ولو علم أنه يطول سفره وفقد الماء (3) لكان بمنزلة صاحب الشجة. وفي الكتاب في المسألة الأولى أنه لا يطأ زوجته ولا جاريته كانا على وضوء أو على (4) غير وضوء (5). ثم قال: وكل ذلك سواء. وللأشياخ هاهنا قولان: هل تعود تسويته (6) على المتوضئ والمحدث، أو على الزوجة والجارية (7)، لأن الزوجة لها حق في الوطء والجارية لا حق لها في ذلك. ولا شك أن مراده (8) التسوية في الجميع.

...
__________
(1) في (ت) من التيمم.
(2) المدونة 1/ 31.
(3) في (ق) و (م) وفقده وفي (ت) وفقره.
(4) في (ص) وعلى.
(5) المدونة 1/ 31.
(6) في (ص) أحدهما هل تعود تسميته.
(7) في (ت) على الزوجة أو الجارية.
(8) في (ر) مراد.

(1/316)


فصل (حكم قراءة القرآن ظاهرًا للجنب والحائض)
واختلف في الجنابة والحيض؛ هل يمنعان قراءة (1) القرآن ظاهرا؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أنهما يمنعان من ذلك. والثاني: أنهما لا يمنعان. والثالث: أن الجنابة تمنع بخلاف الحيض. وقد تقرر أنهمِ كانوا في العصر الأول يمتنعون (2) من قراءة ما كثر من القرآن إذا كانوا جنبًا. وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في الجنب: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ لاَ يَنْجُسُ" (3)، وهذا يقتضي الإباحة. لكن ما ورد من فعلهم لا يتطرق إليه التأويل، وهذا إنما خرج على سبب وذلك أن أبا هريرة كان يماشي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (4) فانسل (5) عنه فسأله عن سبب ذلك فقال: كرهت أن أماشيك جنباً فقال - صلى الله عليه وسلم -: "سُبحَانَ اللهِ إِنَّ الْمُؤْمِنَ لاَ يَنْجُسُ" (6). وهذا عموم ورد على سبب. وبين الأصوليين خلاف في تعديته أو قصره على سببه.
وأما التفرقة فلأن الجنب يقدر على رفع جنابته والحائض لا تقدر على ذلك، فلو منعت القراءة (7) لأدى. إلى تضييع أجور تريد حصولها وقد يؤدي إلى نسيانها.

(هل يباح للجنب دخول المسجد؟)
وهل يباح للجنب دخول المسجد عابري سبيل؟ فيه قولان: المشهور منعه، والشاذ جوازه. وقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا أحل المسجد لجنب
__________
(1) في (ت) و (ص) و (ق) من قراءة.
(2) في (ر) و (ت) يمنعون.
(3) البخاري في الغسل 285، ومسلم في الحيض واللفظ له 371.
(4) في (ق) أن أبا هريرة أنه يباشر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخدمة.
(5) في (ص) انخلس.
(6) سبق تخريجه.
(7) في (ص) القرآن.

(1/317)


ولا لحائض" (1)، وهذا نص. ولكن يعارضه ما قدمناه من قوله: "إِن الْمُؤمِنَ لاَ يَنْجُسُ"، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} (2) الآية. واختلف المفسرون هل المراد نفس الصلاة، أي لا تقربوا الصلاة بجنابة إلا [أن تكونوا] (3) عابري سبيل، أي مسافرين فتيمموا وصلوا. وقيل: المراد موضع الصلاة فيكون على هذا دليلاً على جواز دخول الجنب للمسجد (4) عابري سبيل.
...

فصل (حكم من أم الناس جنبا)
والمعروف من المذهب أن صلاة المأموم متعلقة (5) بصلاة الإمام. والشاذ عدم الارتباط، وهو مذهب الشافعي. ولهذا لا يجوز عندنا أن يأتمّ المفترض بالمتنفل.
واختلف في إمام صلى بالناس جنباً؛ فقيل: إن كان عامدًا بطلت الصلاة، وإن كان ناسيًا لم تبطل الصلاة، هذا في حقهم. وأما صلاته فباطلة بإجماع. وقيل صلاتهم صحيحة. وقيل باطلة. والقول بالصحة يقتضي أن
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في الطهارة (645) بلفظ: "إنَّ الْمَسْجِدَ لاَ يَحِلُّ لِجُنُبٍ وَلاَ لِحَائِض"، وأبو داود في الطهارة (232)، وابن خزيمة في صحيحه (2/ 284) بلفظ: "لاً أُحِلُّ الْمَسْجَدَ لِحَائِضٍ وَلاَ جُنُب" وقال صاحب تهذيب التهذيب 1/ 320: قال الخطابي في شرح السنن: ضعّفوا هذا الحديث وقالوا: أفلت- راوي حديث أبي داود- راوية مجهول، وقال ابن حزم أفلت غير مشهور ولا معروف بالثقة وحديثه هذا باطل، وقال البغوي في شرح السنَّة ضعف أحمد هذا الحديث لأن راويه أفلت وهو مجهول. قلت: قد أخرج حديثه ابن خزيمة في صحيحه وقد روى عنه ثقات ووثقه من تقدم وذكره ابن حبان في الثقات أيضًا وحسنه ابن القطان.
(2) النساء: 43.
(3) ساقط من (ق).
(4) في (ر) و (ق) و (م) و (ت) دخول المسجد.
(5) في (م) و (ت) متصلة وفي (ق) مرتبطة.

(1/318)


كل مصل صلى (1) لنفسه كما يقول الشافعي. والقول بالإبطال يقتضي تعلق الصلاتين.
والتفرقة بين العمد والنسيان لم يظهر للشيخ أبي القاسم السيوري وجهها فقال: هما قولان [جميعاً] (2) في التأليف، وإنما قال مالك بالإبطال (3) لما سئل عن صلاة العامد في وقت لو سئل فيه عن صلاة [الناسي لقال تبطل، وقال بالصحة لما سئل عن الناسي في وقت لو سئل فيه عن صلاة] (4) العامد لقال بالصحة.
وهذا تأويل بعيد وتجهيل لمؤلف المدونة، فإنه فصل بين العامد والناسي وتفصيله فلا بدّ يقتضي اختلاف الحكم عنده. وقد اعتذر القاضي (5) أبو محمد عن الفرق بأن الناسي غير عاص والعامد فاسق (6) لعمده فتبطل الصلاة بناء على بطلان إقامة الفاسق. وهذا الاعتذار إذا أدير عليه التقسيم فإنه لا يخلو من أن يقال بتعلق الصلاتين أو بعدم تعلقهما؛ فإن تعلقتا وجب البطلان، وإن لم تتعلقا (7) وجبت الصحة، وإن كان فاسقا.
وخير ما اعتذر به أن الناسي، قاصد (8) إلى الصلاة فتساوى القصدان، وإن كان باطلاً عند الله فلا يضر ذلك مع تساوي القصدين. فإذا كان عامداً (9) ولم يقصد الصلاة فاختلف القصدان. ومتى اختلفت بطلت الصلاة عندنا.
__________
(1) في (ص) يصلي وفي (ق) مصل.
(2) ساقط من (ر).
(3) في (ص) مالك في التأليف بالإبطال.
(4) ساقط من (ص).
(5) في (م) و (ت) القروي.
(6) هكذا في (ر) وفي (ق) فاسق عاصٍ في يغذره.
(7) في (ص) وإن لم يتعلقا لما وجبت أصحت.
(8) في (ق) قصدًا وفي (ت) و (م) قصد.
(9) في (ت) و (ق) و (م) العامد.

(1/319)


(حكم الإمام يذكر جنابه في الصلاة)
ولو ذكر الإمام جنابة في أثناء الصلاة فعلى القول (1) ببطلان صلاة المأمومين مع النسيان يقطع. وعلى القول بصحتها يستخلف كما قال في الكتاب. فإن لم يفعل وتمادى بطلت الصلاة. ولو علم أحد ممن خلفه بجنابته لبطلت صلاة العالم بذلك. قالوا ولو طرأ لأحد من المأمومين العلم في الصلاة أوجب على من طرأ له ذلك أن يعلم الإمام حتى يستخلف. وتبطل صلاة هذا لأنه في وقت العلم صار مقتدياً بمن لا يصح الاقتداء به.

...

فصل (حكم من صلى بثوب نجس أو حرير)
وقد قدمنا حكم المصلي بنجاسة ومتى يعيد؛ فإن كان إنما صلى بذلك عجزاً عن القدرة على غسل النجاسة (2)، أو عجز عن ثوب طاهر يستر به فهاهنا قولان: أحدهما: أنه كالناسي يعيد في الوقت الذي يعيد فيه الناسي. والثاني: أن هذا يعيد الظهر والعصر أجمع (3) بخلاف الناسي، لأن هذا معه عقله الذي يتلقى به التكليف. وبين الأصوليين خلاف في تكليف غير المستطيع. من قيل إن الناسي غير مكلف.
والصلاة بالحرير المحض لا تجوز للرجل ولا لباسه في كل الأحوال إلا أن تدعو لذلك الضرورة، كحكة تمنع ملاقاة الجسم بغير الحرير. ففي المذهب قولان: أحدهما: الإجازة (4) لأنها ضرورة. والثاني: المنع. وأصل مبنى هذا شهادة على (5) أن الضرورة لا تتصور حتى تمنع أن يلاقي الجسم
__________
(1) في (ق) القولين.
(2) في (ص) و (م) الجنابة.
(3) في (ر) والعصر النهار كله، وفي (ص) والعصر نهاره أجمع.
(4) في (ق) و (م) الإجزاء.
(5) في (ق) وعلى هذا الأصل مبني على، وفي (ص) وأن هذا مبني على، وفي (م) وعلى هذا شهادة أعلى، وخرم في (ت).

(1/320)


بغير الحرير. وكذلك القولان في لباسه في الجهاد؛ الجواز لأنه موضع ترهيب وإظهار قوة، والمنع أخذا بعموم ما ورد في الحديث من النهي (1).
فمن لم يجد إلا ثوب حرير [طاهر] (2) وثوب نجس فبأيهما يصلي؟ قولان: أحدهما: أنه يصلي بالحرير من جهة أنه طاهر، ثم يعيد إذا قدر على غيره في الوقت. والثاني: أنه يصلي بالنجس، ثم يعيد إذا قدر على غيره أو على غسل النجاسة في الوقت أيضاً. وهذا خلاف (3) في المكروهين إذا تقابلا أيهما يرتكب. والنجاسة تختص بالمنع في الصلاة دون غيرها فلها تأكيد بالاختصاص (4). والحرير يحرم لباسه في كل الأوقات، فلهذا (5) تأكد بعموم (6) الأوقات. وهذا يتعلق بمسألة أصولية وهي الصلاة في الدار المغصوبة هل تصح أم لا؟ وذلك ينبني على الخلاف في النهي هل يدل على فساد المنهي عنه أم لا؟
وإذا صلى بالحرير مع القدرة على غيره من الثياب الطاهرة فهل تبطل صلاته أم لا؟ ثلاثة أقوال: أحدها: البطلان، والثاني: الصحة مع العصيان، والثالث: إن كان عليه ما يستره من غير الحرير صحت الصلاة، وإن لم يكن عليه ما يستره بطلت.
فالصحة والبطلان مبنيان على الخلاف في النهي هل يدل على فساد المنهي عنه أم لا؟ وأما التفرقة بين أن يكون عليه ما يستره أم لا، فإنه متى صار (7) عريانا عن غيره صار كالمكشوف العورة شرعاً، ومتى كان مستور
__________
(1) من ذلك ما أخرجه الترمذي في اللباس (1720) واللفظ له، والنسائي في الزينة (5148) عَنْ أَبي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "حُرِّمَ لِبَاسُ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي وَأُحِلَّ لِإنَاثِهِمْ" قَالَ الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
(2) ساقط من (ر) و (ق) و (ص).
(3) في (ص) على خلاف.
(4) في (ق) فلهذا أكد بالاختصاص، وفي (ر) كالتأكد في الاختصاص.
(5) في (ر) فلها.
(6) في (ق) و (م) عموم.
(7) في (ق) و (م) و (ت) و (ص) كان.

(1/321)


العورة بغيره كان (1) مرتكباً للنهي فاعلاً لما يلزمه في الصلاة من ستر العورة.
...

فصل (حكم الصلاة أثناء مدافعة الخبث)
ولا يجوز أن يصلي وهو يدافع خروج الحدث؛ فإن فعل ففي الكتاب يعيد بعد الوقت (2). قال الأشياخ: وهذا على ثلاثة أقسام (3): أحدها: (4) أن يمنع الحدث إتمام الفروض، وهذا يعيد في الوقت وبعده. والثاني: أن يمنعه من إتمام السنن، فهذا يعيد في الوقت لا بعده (5). وينبغي أن يختلف في هذا على الخلاف في تارك السنن [متعمداً] (6) هل يعيد بعد الوقت؟ والثالث: أن يمنعه من إتمام الفضائل، فهذا لا إعادة عليه. وسيأتي بيان الفروض والسنن والفضائل في أول كتاب الصلاة إن شاء الله.

...

فصل (في مشروعية أداء صلوات متعددة بوضوء واحد)
ولا قائل اليوم (7) بوجوب الوضوء لكل صلاة، وإنما يحكى ذلك عن علي رضي الله عنه، والعلماء غيره (8) متفقون على أن في الآية إضماراً.
__________
(1) في (ر) وكان.
(2) في (ق) يعيد في الوقت.
وجاء في المدونة 1/ 34 إذا شغله فأحب إلى أن يعيد. قلت له: في الوقت وبعد الوقت؟ قال إذا كان عليه الإعادة فهو كذلك.
(3) في (ت) و (م) و (ق) أوجه.
(4) في (ق) و (ت) و (م) أحدهما إما أن يمنعه.
(5) في (ق) في الوقت وبعده.
(6) ساقط من (ق) و (م).
(7) في (ق) ولا قائل يقول اليوم.
(8) في (ق) و (ص) بعده.

(1/322)


واختلفوا في المضمر (1) ما هو؟ فقيل: إذا قمتم إلى الصلاة محدثين (2) ليكون ذلك إجمالاً لجميع الأحداث، ثم جاء التفصيل بعده. وقيل: إذا قمتم إلى الصلاة من المضاجع، أي من النوم، لأن الأحداث قد ذكرت في الآية ولم يذكر النوم. وإن قلنا إنه المحذوف اشتملت (3) على جميع الأحداث. وإنما اضطر العلماء إلى هذا لما ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يصلون بالوضوء الواحد صلوات، ما لم يحدثوا. وقد فعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة، وسأله عمر رضي الله عنه عن ذلك فقال: "عَمْداً صَنَعْتُهُ يَا عُمَرُ" (4). وأراد أن يقتدى به في ذلك. وتجديد الوضوء مستحب بلا خلاف.
...

فصل (حكم ثياب أهل الذمة)
وقد قدمنا الخلاف في صور من عادته يستعمل النجاسة إذا شك هل معه نجاسة أم لا؟ فإن الخلاف في ذلك على الخلاف في الرجوع إلى الأصل والغالب. وقد حكموا (5) في ثياب أهل الذمة إذا أخذها المسلم أنه لا يصلي بها، هذا فيما لبسوه. وأما ما نسجوه فأجازوا الصلاة بها. وإن أمكن أن يلاقوه بالنجاسة ولا يوجد فرق إلا أحد (6) وجهين؛ إما لأن السلف كانوا يلبسون ما نسجه أهل الذمة من غير غسل، وهذا لمشقة غسل الجديد. وأما لأن الغالب فيما لبسوه التنجيس والغالب فيما نسجوه الطهارة، فإن شذت صورة فالحكم للأغلب.

...
__________
(1) في (ت) المضمور.
(2) في (ق) محدثين له.
(3) في (ر) واشتملت.
(4) أخرجه مسلم في الطهارة 277، وأحمد في مسنده 5/ 31.
(5) في (ص) حكوا.
(6) في (ق) و (ت) و (ص) إلا أحد و (ر) لأحد.

(1/323)


فصل (حكم الغسل لمن أسلم من الكفار)
وقد قدمنا الخلاف في وجوب الغسل على من أسلم من الكفار، والمشهور وجوبه، واستحبه إسماعيل القاضي. ثم اختلف القائلون بالوجوب هل ذلك لنفس الإسلام أو لأن الكافر جنب لا يغتسل فإذا أسلم وجب عليه غسل جنابته؟ وعلى هذا اختلف فيمن أسلم وقد علم بأنه لم تصبه جنابة؛ فعلى (1) جعل التعليل بوجوب الغسل للإسلام لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (2) والنجس لا يقرب الصلاة إلا بعد غسل نجاسته فيجب الغسل على الكافر وإن لم تتقدمه (3) جنابة. وعلى التعليل بالجنابة لا يجب على مثل هذا غسل. ويعتذر هؤلاء عن قوله جل ذكره: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}، أي إنهم نجس لشركهم. فإذا زال الشرك طهروا بالإسلام.
ومعول إسماعيل القاضي على أن الإسلام يجُبُّ ما قبله. وقد ألزمه الأشياخ أن يسقط الوضوء عن من أسلم حتى يحدث بعد إسلامه. واعتذر عن هذا بأن الوضوء يجب للصلاة، فعلى كل قائم إليها أن يتوضأ إلا أن يتقدم له وضوء، والغسل إنما يجب للجنابة، وهذا قد سقط عنه حكم الجنابة بالإسلام. وهذا الذي قيل في الوضوء يضمحل (4). وإذا قدرنا في الآية محذوفًا وهو إما محدثين (5) أو من المضاجع. ويقال هاهنا هذا غير محدث لأن الإسلام يجُبُّ ما قبله.
وفي الكتاب فيمن أجمع على الإسلام ثم اغتسل أنه يجزيه ذلك الغسل لإسلامه (6). ومعنى أجمع هنا أي اعتقد الإسلام بقلبه. ولا شك أنه متى أوجبنا الغسل وفقد الماء فإنه يتيمم. [وما الذي ينوي بتيممه؟ فيه من
__________
(1) في (ر) فمن.
(2) التو بة: 28.
(3) في (ق) و (م) و (ت) وإن لم تتقدم له.
(4) في (ر) يطمحل.
(5) في (ق) إذا قمتم محدثين.
(6) المدونة 1/ 36.

(1/324)


الخلاف ما تقدم؛ منهم من يقول: ينوي الطهارة الكبرى فإن نوى الطهارة الصغرى لم يجزه، ومنهم من يقول: ينوي الوضوء بتيممه. والله أعلم بالمطلوب] (1).

...

فصل (حكم من صلى على النجاسة)
وقد تقدم حكم من صلى بالنجاسة. وهكذا يكون حكم من صلى عليها إذا كانت النجاسة في موضع يلاقيه بعضو من أعضائه عند القيام أو عند الجلوس أو عند السجود. اهذا إذا كان مصلياً على ما هو ثابت كالأرض. وأما لو صلى على حصير متصل بطرفه نجاسة؛ فبين الأشياخ خلاف، هل تكون أفعاله تقتضي أنه كالمصلي على نجاسة (2) أو لا يكون كذلك لسلامة موضعه.

(حكم ثياب من يشرب الخمر أو لا يصلي)
وعلى ذكر ثياب أهل الذمة فقد قال الأشياخ فيما معناه فيمن يشرب الخمر من المسلمين فيغسل جميع ما لبسه من الثياب. وأما من لا يشرب الخمر ولا يصلي فجميع ثيابه نجس إلا ما يكون برأسه. فالغالب عدم النجاسة فيه. فإن كان ممن يصلي فلا يغسل ما اشترى من ثيابه إلا ما يحاذي المخرجين (3) منه، لأن الغالب منه عدم المعرفة بالاستبراء من البول، وكذلك ما ينام فيه، لأن الغالب وجود النجاسة في مثل ذلك.
...
__________
(1) ساقط من (ص) و (ق) و (م).
(2) في (ر) بنجاسة.
(3) في (ص) إلا ما يحادي موضع الأذى منه.

(1/325)