التنبيه على مبادئ التوجيه - قسم العبادات

باب في حكم الحيض والنفاس
وينفصل من الفرج دمان: أحدهما: لا يوجب حكماً، وهو دم علة وفساد، ويعبر عنه بالاستحاضة. وإنما يستحب منه الوضوء عندنا لكل صلاة. والثاني: دم الحيض والنفاس، وهما يمنعان من ثمانية أشياء، واختلف في تاسع: يمنع من وجوب الصلاة وأدائها، وأداء الصوم، والطواف، والاعتكاف، ومس المصحف، ودخول المسجد، والجماع، والطلاق.
واختلف هل للحائض أن تقرأ القرآن ظاهرا؟ والمشهور من المذهب جوازه لأنها مضطرة وتخاف النسيان. وهل يمنع الجماع في الفرج وغيره؟ أما الفرج فلا خلاف في منعه. وأما ما فوق الإزار فلا خلاف في جوازه، أما تحت الإزار مما دون الفرج ففي المذهب فيه قولان: المشهور منعه، والشاذ جوازه.
وسبب الخلاف قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} (4) الآية. واختلف هل المراد به موضع الحيض أو زمانه؟ فإن قلنا المراد به موضعه اختص الفرج بالتحريم، وإن قلنا المراد زمانه اقتضى تحريم الجملة، لكن خص ما فوق الإزار بالحديث.
__________
= الكثير الماء والشجر، خَضْخَضْتُ الأَرضَ إِذا قلَبْتَها حتى يصير موضعها مُثاراٌ رَخْواٌ إِذا وصل الماءُ إِليها أَنْبَتَتْ. والخَضِيضُ: المكانُ المُتَتَرِّبُ تَبُلُّه الأَمطارُ. والخَضْخَضَةُ: أَصلُها من خاضَ يَخُوضُ لا مِنْ خَضَّ يَخُضُّ.
(1) المدونة 1/ 46.
(2) في (ص) لتيسر.
(3) في (ص) و (ت) يعلق.
(4) البقرة: 222.

(1/357)


فإن انقطع دم الحائض ولم تغتسل بالماء ففي تحريم وطئها قولان: المشهور تحريمه تعويلاٌ على قراءة من قرأ (يَطَّهَّرْنَ) بالتشديد، وعلى قوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ}. والشاذ أنه لا يحرم. قاله ابن بكير تعويلاٌ على قراءة من قرأ {يَطْهُرْنَ} بالتخفيف، لكنه كرهه مراعاة للخلاف.
...

فصل (في حد الطهر والحيض)
ولا حد لكثير الطهر بإجماع. وكذلك لا حد عندنا ليسير الحيض فيما يرجع إلى العبادات. وأما ما يرجع إلى العادة (1)؛ فيسيره محدود بما بيانه (2) محال على موضعه.
وأما كثير الحيض فهو محدود. والمشهور حده إما بالرجوع إلى العادة وإما بخمسة عشر يوما. وقال ابن نافع (3): تستظهر (4) على الخمسة عشر يوماً بثلاثة أيام. وهذا يدل على أن أكثره ثمانية عشر يوماً. والصحيح هو المشهور. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أن (5) النساء يتركن الصلاة شطر عمرهن (6) "، وقد
__________
(1) في (م) و (ت) العادات، وفي (ر) و (ص) العدد. وهو غير مستقيم.
(2) في (ص) بيناه.
(3) هو: عبد الله بن نافع ولي بني مخزوم المعروف بالصائغ، كنيته أبو محمد روى عن مالك ونظرائه، كان صاحب رأي مالك ومفتي المدينة بعده، ولم يكن صاحب حديث وكان أصماً أمياً لا يكتب، وإنما كان حافظاً. سمع منه سحنون وكبار أتباع أصحاب مالك. توفي بالمدينة سنة ست وثمانين ومائة. الديباج المذهب ص: 131، 132، وشجرة النور 55 (4).
(4) أي تحتاط لنفسها.
(5) في (ص) و (ت) و (ق) "في".
(6) لم أقف عليه بهذا اللفظ وقد أخرج البخاري في كتاب الصوم (298) حديثاً قريباً منه عن أبي سعيد الخدري قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أضحى أو فطر إلى المصلى فمر على النساء فقال: "يا معشر النساء تصدقن فأني أريتكن أكثر أهل النار"، فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: "تكثرن اللعن وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين =

(1/358)


خرج مخرج الذم، فيكون منبئاً على أكثر الحيض وأقل الطهر.
وفي أقل الطهر قولان: أحدهما: حده بما يثبت بالعادات، والثاني: حده (1) بالأيام. وإذا حددناه بالأيام فما عددها؟ أربعة أقوال: أحدها: خمسة أيام، قاله ابن الماجشون. والثاني: ثمانية أيام، قاله سحنون واستقرأه أبو محمد بن أبي زيد من المدونة. والثالث: عشرة أيام، قاله ابن حبيب. والرابع خمسة عشر يوما، قاله محمد بن مسلمة. وهذه الأقوال لا أصل لها إلا الرجوع إلى العادة، وكذلك جميع ما اتفق فيه من مسائل الحيض والاستحاضة، وجميع ما اختلف فيه. فإنما يرجع الاتفاق إلى اتفاقهم في العادة، والاختلاف إلى اختلافهم فيها؛ لأن دم الحيض فضلات الغذاء يجمع في الرحم ثم ينفصل بعد الاجتماع. وذلك على عادة أجراها الله تعالى في النساء.
ومتى استمرت على العادة فهو دم الحيض، ومتى خرجت عن العادة فهو دم الاستحاضة. وإنما يعول في ذلك على العوائد نفيًا وإثباتًا؛ فمرة يرد مالك الأمر إلى العادة من غير جزم، ومرة يجزم هو أو أحد أصحابه بحسب ما ثبت عندهم. فإن ثبتت عادة فلا إشكال فيما (2) اتفقوا. وإن اختلفت شهد كل واحد بما ثبت عنده من العادة. وقد احتج لمذهب ابن مسلمة بأن الله سبحانه جعل عدة من تحيض ثلاثة قروء واليائسة ثلاثة أشهر، وهي بدل من (3) القرء. والتقسيم يؤدي (4) إلى أن الشهر يقوم مقام (5) أكثر الحيض وأقل الطهر. وأيضاً فالحديث المتقدم يشهد لذلك.
...
__________
= أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن" قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: "أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل" قلن: بلى قال: فذلك نقصان من عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ " قلن: بلى قال: "فذلك من نقصان دينها".
(1) في (ر) و (ت) حده.
(2) في (ر) فيها.
(3) في (ت) و (ق) عن.
(4) في (ت) يومئ.
(5) في (ص) أقيم.

(1/359)


فصل (في حكم الدم الخارج ممن لا تحيض أو ممن تحيض)
وإذا رأت المرأة دماً فلا يخلو من ثلاثة أقسام: إما أن تكون ممن لا تحيض لصغر، وإما أن تكون ممن لا تحيض لكبر، وإما أن يكون سنها من من تحيض (1)؛ فالأولى لا حكم لدمها لأنه دم علة [وفساد] (2)، والثانية فيها قولان فيما يرجع إلى العبادة (3) لا إلى العِدَدِ: أحدها: أنه كدم الحيض. رواه ابن المواز عن مالك (4) لأن ترك العبادة تنزيه عن (5) قربها مع وجود دم، والكبيرة (6) أولى بذلك. والثاني: أنه كدم العلة، قاله في كتاب العدة من المدونة، وبه قال ابن حبيب (7). وهذا قياس على الصغيرة وعلى حكم العدة (8).
وهل تغتسل على هذا القول لانقطاعه؟ قال ابن القاسم: لا غسل عليها، وهذا هو الأصل. وقال ابن حبيب: عليها الغسل وهذا احتياط.
وكم سن اليائسة؟ قال ابن شعبان (9): خمسون سنة. محتجاٌ بقول عمر: بنت خمسين عجوزاً في الغابرين. وقالت عائشة: قل من تُجَاوِزُ الخمسين فتحيض إلا أن تكون فارهة (10) والثالثة: هي التي في سن من تحيض، فيحمل (11) ما تراه من الدم على الحيض بإجماع، إلا أن يعرض ما
__________
(1) في (ق) من لا تحيض.
(2) ساقط من (ت).
(3) في (ق) العادة.
(4) انظر النوادر والزيادات 1/ 129.
(5) في (ت) ترفه من.
(6) في (ق) تنبيهاً على قوتها مع وجود دم الحيض والكثير.
(7) انظر المصدر السابق.
(8) في (ص) العلة.
(9) في (ت) ابن حبيب شعبا.
(10) في (ر) و (ت) و (ص) قرشية
(11) في (ت) يحمل و (ص) تحمل.

(1/360)


ينقله عن ذلك على ما نفصله. وإن حكمنا بكونه حيضاً (1)،وانقطع اغتسلت وصلت وكانت طاهراً.
وكيف يعلم انقطاعه؟ لانقطاعه علامتان: الجفوف وهو أن تدخل الخرقة فتخرجها جافة. والقَصَّة البيضاء وهي أن الدم يكون في أول الحيض أسوداً غليظاً ثخيناً، لا يزال يدق ويصفر حتى يكون في آخره كالقصة (2) وهو الجير. وإن كانت المرأة معتادة لأحدهما فرأت عادتها حكمت بانقطاعه. وإن رأت غير عادتها فقولان: أحدهما: أن القصة أبلغ من الجفوف؛ فمن اعتادت بالجفوف طهرت بالقصة البيضاء، ومن اعتادت بالقصة لم تطهر بالجفوف، قاله ابن القاسم. والثاني: عكس هذا وهو أن الجفوف أبلغ، قاله ابن عبد الحكم. [وإن كانت غير معتادة فلا تطهر إلا بالجفوف، قاله ابن القاسم وابن الماجشون. وقال الباجي: وهو نزوع (3) إلى قول ابن عبد الحكم] (4). وكل هذا مبني على عوائد النساء كما قدمناه، ولكن إن رأت غير عادتها وقلنا لا تطهر بذلك فإنما معناه أن تنتظر الثاني، ما لم تخف فوات وقت الصلاة.
وما هو الوقت؟ حكى أبو محمد عبد الحق عن أشياخه قولين: أحدهما: أنه الوقت المختار، والثاني: الضروري. وهذان وجههما (5) كون أحد الأمرين يسد مسد الآخر. لكن طلب المعتاد (6) من باب الأولى والأسَدِّ (7) وعند الضرورة وخوف الفوات الكلي.
...
__________
(1) في (ق) بكونها حائضاً.
(2) في (ر) كماء القصة.
(3) في (ت) الرجوع.
(4) ساقط من (ق).
(5) في (ص) حكمهما.
(6) في (ص) العادة.
(7) في (ق) الأشد.

(1/361)


فصل (حكم الدم المتمادي)
وإن تمادى الدم فلم ينقطع فلا يخلو من أن تكون مبتدئة أو معتادة؛ فإن كانت مبتدأة ففي الكتاب أنها تمكث خمسة عشر يوماً ثم هي مستحاضة (1). وروى علي بن زياد وابن وهب عن مالك أنها تمكث أيام عادتها وهي أترابها (2). وإذا قلنا بهذا فهل تستظهر وإن كانت معتادة؟ في الكتاب قولان: أحدهما: أنها تقيم خمسة عشر يوماً، والثاني: أنها تمكث أكثر عادتها. وهل تستظهر على ذلك؟ روايتان كما قلنا في المبتدئة. وهل تكون فيما بين أيام العادة (3) وبين الخمسة عشر يوماً كالطاهر (4) على الإطلاق أم لا؟ روايتان عن مالك رحمه الله: أحداهما: أنها طاهر مطلقاً، وهو مقتضى المدونة على ما سنذكره. والثاني: أنها تحتاط، تصوم وتقضي، وتصلي ولا تقضي، وتُمنع من وطء الزوج (5).
وإذا قلنا إنها تجلس أيام عادتها وتستظهر، فإن الاستظهار بثلاثة (6) أيام ما لم تزد على خمسة عشر يوماً على المعروف من المذهب. وقد قدمنا قول ابن نافع.
فإن انقطع عنها الدم عند الخمسة عشر يوماً فهل تعيد الغسل؟ أما (7) على القول بأنها تحتاط فلا شك في وجوب الغسل، وأما على القول بأنها طاهر على الإطلاق فلا يلزم الغسل إلا مراعاة للخلاف.
وقد اختلف (8) في دم الاستحاضة ينقطع. وفي الكتاب قولان (9):
__________
(1) المدونة 1/ 49.
(2) فى (ص) وهن ذوات أسنانها.
(3) فى (ق) المعتدة وفي (م) العدة.
(4) فى (ق) كالطهر.
(5) فى (ص) وتمنع الزوج من الوطء وفي (ق) تمتنع من الوطء.
(6) فى (ر) ثلاثة.
(7) فى (ق) و (ص) أم لا.
(8) فى (ر) للخلاف في الوجوب.
(9) المدونة 1/ 52.

(1/362)


إسقاط الغسل وهو الأصل؛ لأنه دم علة وفساد لا يوجب (1) غسلاً. والثاني: استحباب الغسل مراعاة للخلاف.
وكل هذا الخلاف راجع إلى عوائد كما قدمناه مع (2) الرجوع إلى أحد ثلاثة أصول (3): إما إلى الاحتياط في لزوم العبادة (4)، فلا تسقط مع الشك، وإما النظر إلى الأصل والأصل (5) فقد دم الحيض. فمتى وقع الشك رجعنا إلى أصل الحقيقة (6). وأما استصحاب وجود دم الحيض فلا يحكم بزواله إلا مع تيقن الزوال. فتصرف هذه الأقوال إلى هذه الأصول.
...

فصل (حكم الدم الذي ينقطع ثم يعود)
وإذا انقطع الدم ثم عاد نظرنا؛ فإن كان بين انقطاعه وعودته مقدار أقل الطهر على ما قدمناه من الخلاف حكمنا بأن الثاني حيض مستأنف. وإن كان ما بينهما أقل من ذلك (7) حكمنا بأن الثاني مضاف إلى الأول. لكن إن كمل من الأول أكثر من [مدة] (8) الحيض على ما قدمناه فالثاني استحاضة، وإن لم يكمل فالثاني تكميل للحيض الأول.
فإن كانت المرأة ممن ترى الدم يوماً أو يومين والطهر يوماً أو يومين، فإن كانت أيام الدم أكثر من أيام الطهر فلا خلاف أنها مستحاضة لأن المرأة
__________
(1) في (ر) يوجب.
(2) في (ر) مع الالتفات إلى الرجوع.
(3) في (ق) أوجه.
(4) في (ق) العادة.
(5) في (ر) النظر إلى الماضي الأصل وفي (ت) وأما النظر إلى أصل.
(6) في (ق) الحلقة.
(7) في (ت) الثاني مضاف إلى حيض مستأنف وإن لم يكن بينهما أقل الطهر، وفي (ق) الثاني مضاف إلى حيض مستأنف وإن لم يكن بينهما الطهر.
(8) ساقط من (ر) و (ق) و (ت).

(1/363)


لا تحيض أكثر من زمان طهرها. وإن كانت أيام الطهر كأيام الحيض أو أكثر، فهاهنا قولان: المشهور أنها مستحاضة، ومذهب محمد بن مسلمة أنها طاهرة حقيقة في أيام انقطاع الدم، وحائض حقيقية في أيام وجوده. وهذا راجع إلى عادة كما قدمناه.
...

فصل (مدة الاستحاضة)
وإذا حكمنا بالاستحاضة فإن حكمها مستصحب ما لم يتغير الدم. وإن تغير بعد زمن بينه وبين الحيض السابق أقل من الطهر لم يُلتفت إلى تغييره، وإن كان زمان مقدار الطهر فأكثر فالثاني حيض مبتدأ. وإذا حكمنا بأن الدم المتغير حيض وتمادى فعلى القول الأول بأن من تمادى بها الدم تجلس خمسة عشر يوماً فلا تستظهر (1) إلا على ما قاله ابن نافع. وعلى القول بأنها تجلس أيام عادتها فهل تستظهر؟ قولان: أحدهما: أنها لا تستظهر، قاله محمد بن مسلمة. والثاني: أنها تستظهر، قاله ابن عبد الحكم. وأشار الباجي إلى أن هذا الخلاف على القول بأن من لم يحكم [لها] (2) بالاستحاضة تستظهر. وهذا لأن تلك إنما تستظهر لعل الدم زاد زيادة يسيرة فتستظهر رجاء أن ينقطع الدم، وإذا حكمنا باستحاضتها فالرجاء في ذلك ضعيف.
...

فصل (حكم الدم المنفصل من الحامل)
والذي تقدم حكم الحائل. وأما الحامل فالدم المنفصل من فرجها عندنا على حكم الحيض، فإن انقطع فكما قلناه في الحائل، وإن تمادى فلا تخلو إما أن تتغير عادتها بالحمل أو لا تتغير؛ فإن لم تتغير فحكمها حكم
__________
(1) في (ق) فلا تستبري.
(2) ساقط من (ق).

(1/364)


الحائل، وإن تغيرت فهاهنا قولان: مذهب أشهب أنها بحكم الحائل لكون الحمل عندنا (1) يذهب الدم. ولهذا شبهه بالرضاع والمرض. ورواية ابن حبيب عن مالك وهو مذهب ابن القاسم وابن وهب أنه ليس كذلك، وإنما يجتمع الدم ثم يندفع وليس أول الحمل كآخره.
وكم مقدار ما تجلس؟ ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تجلس بعد الشهرين والثلاثة الأشهر خمسة عشر يوماً ونحوها. وإذا جاوزت الستة الأشهر فرأته فإنها تترك الصلاة ما بين العشرين أو نحو ذلك، قاله ابن القاسم.
والثاني: إن رأته في أول شهور الحمل جلست قدر أيامها والاستظهار. وإن رأته في الثاني فمثلي ذلك ولا تستظهر. وإن رأته في الثالث فثلاثة أمثال ذلك. وفي الرابع أربعة (2) أمثاله حتى تبلغ ستين يوماً فلا يُزاد عليها. قاله مالك عند ابن حبيب.
والثالث: أنها في آخر الحمل تضعف أيام حيضتها ثم تغتسل لأن دمها أكثر من [دم]، (3) الحيض. وكأن قول ابن القاسم وابن وهب مبنيان على أن الدم وإن اجتمع فهو ينقص باغتذاء الولد منه. وقول مالك عند ابن حبيب مبني على أن الدم يجتمع ثم يندفع. ولمالك قول رابع في المبسوط (4) ينفي التحديد، لكن تجلس ما لم تسترب من طوله، ويرى أنه سقم حدث، وليس مما يعرض للنساء في الحمل، فإذا رأت (5) ذلك حكمت بالاستحاضة. وهذا جواب من لم يثبت عنده عادة مستقرة (6) فأحال على حال من اعتادت ذلك وما يظهر من أمره.
__________
(1) فى (ت) لأن الحمل عنده.
(2) فى (ص) ثلاثة.
(3) ساقط من (ق).
(4) هو للقاضي إسماعيل، ويعد الكتاب ضمن الدواوين السبع؛ التي هي: المدونة، والمستخرجة، والموازية، والواضحة، والمختلطة، والمجموعة، والمبسوط. انظر مسائل لا يعذر فيها بالجهل ص 7.
(5) في (ق) فإذا زاد ذلك.
(6) فى (ق) مقدر وفي (ص) مقدورة وفي (ت) مقدرة.

(1/365)


فصل
(حكم دم النفاس المنقطع والمتمادي)
وقد تقدم أن دم النفاس كدم الحيض وهو متى انقطع كان حكمه كحكم انقطاع دم الحيض (1)، فإن تمادى ففي المذهب قولان: أحدهما: أن أقصاه ستون يوما، فإن زاد على ذلك كان دم علة وفساد. وهذا لتقرر العادة عنده بذلك. والثاني: الإحالة على الرجوع إلى أهل المعرفة بالعوائد من النساء وغيرهن. وهو جواب من لم يتقرر عنده عادة [يجري عليها الحكم] (2). وإذا عاد الدم بعد إنقطاع دم النفاس؛ فإن كان بين الانقطاع والعودة مقدار أقل الطهر على الأقوال المتقدمة عد الثاني حيضاً مؤقتاً، وإن كان بينهما أقل من ذلك [فإن] (3) كمل دم النفاس بما قدمناه من الأجل فالثاني استحاضة، وإن لم يكمل أكملته من الثاني (4). فإن انقطع عند الكمال فهو دم النفاس وإن زاد فهو دم استحاضة. وقد قدمنا القولين في خروج الولد نقياٌ عن دم.

(حكم من ولدت وبقي في بطنها آخر)
وما حكم من ولدت ولدا وبقي في بطنها آخر والدم ينبعث؟ في المدونة قولان: أحدهما: أن حكمها حكم الحامل تحيض لأن الحمل باق. والثاني: أن حكمها حكم النفساء (5) لانفصال الولد (6).
...
__________
(1) في (ت) حكم الحيض.
(2) ساقط من (ر) و (ق) و (ص).
(3) ساقط من (ق).
(4) في (ق) استحالة وإن لم يكن أكملته من الثانية.
(5) في (ر) النفاس.
(6) المدونة 1/ 54.

(1/366)


تنبيهات
منها: اختلاف الأشياخ في مقتضى مذهب المدونة في حكم الأيام التي بين أيام الاستظهار والخمسة عشر؛ أما ابن وهب فلا شك أن مقتضى روايته الأخذ بالاحتياط، لقوله: تصلي (1) وليست عليها أحب إلى من أن تترك الصلاة وهي عليها. وأما رواية ابن القاسم في كتاب الطهارة فلا تدل تصريحاً على أحد أمرين (2)، لكن في كتاب الحج إذا حاضت المرأة قبل الطواف حبس عليها كَرْيُهَا (3) قدر أيامها والاستظهار. وأخذ أبو موسى ابن قناس من هذا كونها طاهراً مطلقاً؛ لأنها إذا طافت بعد أيام الاستظهار فأجزأها فهي لا شك طاهر مطلقاً. وذكر أبو محمد عبد الحق مخالفة غيره من الأشياخ لهذا التأويل. وقال: معنى حبس الكري (4) هذه المدة لعل الدم ينقطع فإذا لم ينقطع فسخ الكري لأنه ضرر بالكري.
ومنها: قوله في الكتاب في امرأة رأت الدم خمسة عشر يوماً ثم رأت الطهر خمسة أيام ثم رأت الدم أيامها (5) ثم رأت الطهر (6) سبعة أيام. قال: هذه مستحاضة (7). فاستقرأ أبو محمد بن أبي زيد من هذا أنها لو رأت الطهر ثمانية أيام لم تكن مستحاضة. وإن أقل الطهر ثمانية أيام لاقتصاره على سبعة. وأنكر أبو عمران وغيره من الأشياخ هذا الاستقراء لأن ذكر السبعة [إنما] (8) جرى في السؤال ولم يقصد به التحديد. وإنما يؤخذ من ذلك أن السبعة الأيام لا تكون طهراً.
__________
(1) في (ص) لا تصلي وفي (ت) لقوله رأيت أن تصلي.
(2) في (ص) الأمرين.
(3) الكري الأجير والذي يكريك دابته. المعجم الوسيط 2/ 785.
(4) في (ق) هذه المرأة.
(5) في (ر) أياماً.
(6) في (ق) الدم.
(7) المدونة 1/ 52.
(8) ساقط من (ق).

(1/367)


واختلف المتأخرون أيضاً في قوله: هذه مستحاضة هل في الأيام التي أتاها فيها الدم بعد الخمسة؟ أو فيما بعد السبعة؟ ولا شك أنها مستحاضة في الجميع.
ومنها: حكمه في الكتاب فيمن اختلط عليها الطهر والحيض لأنها مستحاضة، واختلف الأشياخ لو طلقها الزوج في أيام انقطاع الدم هل يكون طلاقه مباحاً ولا يجبر على الرجعة قاله غير واحد من الشيوخ الصقليين، أو يكون طلاقه محرماً (1) فيجبر على الرجعة؟ قاله غير واحد من القرويين. وهذا على (2) الخلاف في تحريم الطلاق في الحيض هل ذلك خيفة تطويل العدة فيكون [على] (3) هذا محرماً، أو شرع غير معلل فيكون هذا مباحاً. وعلى هذا اختلف متقدموا أهل المذهب (4) في طلاق التي لم يدخل بها هل يجوز في الحيض إذ لا عدة يخاف تطويلها أو يحرم لأن ذلك غير (5) معلل؟
ومنها: قول أشهب في الحامل لا تستظهر إلا أن تكون استرابت. وروي بإسقاط "لا" (6). وأكثر الأشياخ على أن إثبات"لا" هو الصواب ولا معنى لإسقاطها. وحكى أبو محمد عبد الحق عن بعض القرويين أنه التمس لإسقاطها وجها فقال: معنى استرابتها أنها شكت في كون دمها دم حيض أو دم [نفاس] (7) سقط. ومتى استرابت هذه الريبة فإنها تقيم أيامها وتستظهر عليها ولا تجلس أكثر من ذلك وإن كانت قد شكت. وتبقى على جلوس الحائض دون جلوس النفساء. وهذا بعيد عن مقصد أشهب. والصحيح إثبات "لا" لأنها متى لم تسترب كانت كالحائل كما قدمناه فتستظهر بناء على أحد القولين.
__________
(1) في (ت) مباحاً.
(2) في (ق) وهذا بناء على.
(3) ساقط من (ص) و (ق) و (ت).
(4) في (ت) و (ص) أصل المذهب.
(5) في (ص) فرع غير.
(6) في (ر) والأول أبين إلا أن يكون، وفي (ق) أن تكون، وفي (ص) من إلا يكون.
(7) ساقط من (ق) و (ص) و (م).

(1/368)


ومنها: قوله في الكتاب (وإذا جاوزت الستة أشهر من حملها. ثم رأته تركت الصلاة ما بين العشرين يوماً أو نحو ذلك) (1) فاختلف الأشياخ في حكم الستة الأشهر هل تكون كحكم ما بعدها؛ لأن الوضع (2) قد يكون فيها، ولأن أفعال من بلغتها في الثلث كفعل من جاوزتها. وقيل: حكم الستة كحكم ما قبلها لأنه قيد في الكتاب مجاوزة (3) الستة. والأول: مذهب ابن التبان (4) وغيره من الصقليين. والثاني: مذهب ابن أبي زيد تم كتاب الطهارة بحمد الله وحسن عونه.
__________
(1) المدونة 1/ 55.
(2) في (ق) و (ص) الموضع.
(3) في (ص) و (ت) و (ق) بمجاوزته.
(4) هو: أبو محمد عبد الله بن إسحاق المعروف بابن التبان الفقيه الإمام كان من العلماء الراسخين والفقهاء المبرزين، مستجاب الدعوة، يميل إلى الرقة وحكايات الصالحين، عالماً باللغة والنحو والحساب والنجوم .. من أشد الناس عداوة لبني عبيد. توفي سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة. الديباج المذهب ص: 138، وشجرة النور 95 (225).

(1/369)