التنبيه على مبادئ التوجيه - قسم العبادات

باب في أحكام النوافل
(صفة النوافل)
والنظر في هذا الباب في فصلين: أحدهما: في صفة النوافل، والثاني: أوقاتها. وأما صفاتها فمنها العدد.

(عدد النوافل)
والنوافل عندنا ركعتان ولا مزيد عليها في ليل ولا نهار، فإن زاد ثالثة في نهار فلا خلاف في المذهب نعرفه أنه يؤمر بإكمال الرابعة. وهذا إذا انعقدت له الثالثة على اختلاف في عقدها هل هو وضع اليدين على الركبتين أو رفع الرأس من الركوع؟ وإذا أكمل فإنه يسجد لسهوه إذا زاد سهواً. ومتى يكون السجود؟ ففيه قولان: أحدهما: أن يكون قبل السلام لنقصه التسليم بعد الاثنين. والثاني: أنه بعد السلام لزيادة ركعتين (1)، وسيأتي بيانه في باب السهو.
وإن كانت الزيادة في ليل فهل يكمل الرابعة؟ قولان: المشهور (2) أنه يكملها مراعاة للخلاف، إذ من المخالفين من يقول إن النافلة أربع ركعات في الليل والنهار، وهو قول مشهور. والشاذ أنه لا يكملها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى" (3). وهذا القول يقتضي كون الشاذ في الدليل لا يراعي القول المشهور في نفسه وهو في مقابلة الحديث فالتفت هذا إلى الحديث لا إلى شهرة (4) القول.
ولو زاد على أربع ركعات ركعة أخرى أو أكثر من ذلك؛ فإنه يرجع
__________
(1) في (ر) بزيادة الركعتين.
(2) في (ق) أحدهما.
(3) أخرجه البخاري في الجمعة 991، ومسلم في المسافرين 749.
(4) في (ت) مشهور.

(1/492)


متى ذكر ثم يجلس ثم يسلم ويسجد بعد السلام للزيادة. وهذا ترك مراعاة قول من يقول إن النافلة أكثر من أربع ركعات.

(حكم الجهر والإسرار بالنافلة)
ومن صفاتها الجهر بالقراءة والسر. والجهر غير مكروه فيها بالليل بلا خلاف. واختلف في كراهية الجهر بالنهار على قولين، والقول بالكراهة قياساً على الفريضة. ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صَلاَةُ النّهَارِ عَجْمَاء" (1). وهذا عموم يتناول النافلة والفرض. ومن قال بالجواز يقصر عنده الحديث على الفريضة، وقياساً على جوازه في الليل. وهذا ما لم تعرض له حالة تمنع من الجهر، وهي فساد النية معه. ولا خلاف في جواز السر ليلاً ونهاراً. وقد كان الصديق رضي الله عنه يسر في تنفله بالليل، وكان الفاروق يجهر فسألهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن موجب فعلهما، فقال الصديق رضي الله عنه: أُسمع من أناجي، وقال الفاروق رضي الله عنه: أوقظ الوسنان (2) وأطرد الشيطان (3). فاستحسن رسول الله فعلهما. ومتى كان فعل المتنفل وقصده يناسب هذا المقصود جاز له السر والجهر بالليل والنهار.
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 2/ 493 من قول الحسن ومجاهد وأبي عبيدة. قال الزيلعي في نصب الراية 2/ 1: "وقال النووي في الخلاصة حديث صلاة النهار عجماء باطل لا أصل له"، وقال أبو عبيد بن سلام في الغريب 1/ 282 "صلاة النهار عجماء، يقال: لا تُسمع فيها قراءةٌ".
(2) الوسن: أول النوم، والوسنان النائم الذي ليس بمستغرق في نومه. انظر النهاية في غريب الحديث: 5/ 185.
(3) أخرجه بألفاظ متقاربة الترمذي في الصلاة 447، وأبو داود في الصلاة 1329، والحاكم في المستدرك على الصحيحين 1/ 454. ولفظ الحديث كما أخرجه أبو داود عنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ لَيْلَةً فَإِذَا هُوَ بأبِي بَكْر رَضِي الله عَنْه يُصَلِّي يَخْفِضُ مِنْ صَوْتِهِ قَالَ وَمَرَّ بعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَهُوَ يُصَلِّي رَافِعاً صَوْتَهُ قَالَ: فَلَمَّا اجتَمَعَا عِنْدَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "يَا أَبا بَكْر مَرَرْتُ بِكَ وَأَنْتَ تُصَلِّي تَخْفِضُ صَوْتَكَ" قَالَ: قَدْ أَسْمَعْتُ مَنْ نَاجَيْتُ يَا رَسُولَ الله، قَالَ: وَقَالَ لِعُمَرَ: "مَرَرُتُ بِكَ وَأنْتَ تُصَلِّي رَافعًا صَوْتَكَ" قال فقال: يَا رَسُولَ الله، أُوقِظُ الْوَسْنَانَ وَأَطرُدُ الشَّيْطَانَ" قال الترمذي:"هذا حديث غريب". وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه" وقد ورد تحسين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفعلهما في حديث أبي هريرة الذي أخرجه أبو داود في الصلاة 1329.

(1/493)


(حكم الجماعة للنافلة)
ومن صفاتها الانفراد والجماعة، ولا خلاف في جواز الانفراد مطلقاً. وأما الجمع فلا خلاف في جوازه في نافلة رمضان، لكن الانفراد عند مالك رحمه الله أفضل. وأما غير ذلك من النوافل فإن كان الجمع في الموضع الخفي والجماعة يسيرة جاز. وقد تنفل (1) - صلى الله عليه وسلم - في بيته واقتدى به ابن عباس (2). وصلى عليه السلام في بيت (3) من بيوت أصحابه واقتدى به الصبي والرجل والمرأة (4). وإن كان الموضع مشهوراً والجماعة كثيرة فكرهه عبد الملك بن حبيب وهو مقتضى المذهب. ومنه ما يفعل في بعض البلاد من الجمع ليلة نصف شعبان وليلة عاشوراء. ولا يختلف المذهب في كراهيته. وينبغي للأئمة [والفقهاء] (5) أن يتقدموا في النهي عنه ولا يرخصوا فيه لأحد من الناس فإن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في نافلة البيوت إنما كان ليتبرك به (6) في صلاته ولا يعتقد المعتقد أنه يفعل ذلك في المساجد أو عند كثرة الجماعة في البيوت فإن ذلك بدعة (7).
...
__________
(1) في (ت) وقام.
(2) أخرج البخاري في الأذان 698واللفظ له، ومسلم في المسافرين 763 عَنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِي الله عَنهمَا قالَ نِمْتُ عِنْدَ مَيْمُونَةَ (خالته) وَالنَبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَهَا تِلْكَ الليْلَةَ فَتَوَضَأَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي فَقُمْتُ عَلَى يَسَارِهِ فَأَخَذَنِي فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ فصلى ثَلاَثَ عَشرَةَ رَكعَةً" الحديث.
(3) في (ق) في غير بيته.
(4) لعله يقصد الحديث الذي أخرجه البخاري في الصلاة 380 واللفظ له، ومسلم في المساجد 658 عَنْ أَنَس بْنِ مَالِكِ أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لِطَعَام صَنَعَتْهُ لَهُ فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ: قُومُوا فَلِأُصَلِّ لَكُمْ قَالَ أَنَسٌ: فَقُمْتُ إِلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدِ اسْوَد مِنْ طُولِ مَا لُبسَ فنَضَحْتُهُ بِمَاءِ فَقَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَصَفَفْتُ وَالْيَتِيمَ وَرَاءَهُ وَالْعَجُوزُ مِن وَرَائِنَا فَصَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَكْعَتَينِ ثُمَّ انْصَرَفَ.
(5) ساقط من (ق) و (ر).
(6) في (ت) ليتبرك به وبصلاته.
(7) في (ت) بدعة والله أعلم.

(1/494)


فصل (أوقات النوافل)
وأما أوقات النوافل فإنه يحرم أداؤها عند طلوع الشمس وعند الغروب بإجماع. واختلف الناس فيما عدا ذلك، ولسنا للاختلاف، ولكن نذكر ما في المذهب فنقول: النافلة تمنع لثلاثة أشياء:
أحدها: مخالفة (1) الإمام، فمتى كان الإمام في جماعة وأقيمت (2) الصلاة امتنعت النافلة حيث (3) الإمام. وقد قدمنا حكم من افتتح النافلة ثم أقيمت عليه الصلاة.
والثاني: المحاذرة من ذوات وقت الفضيلة في المغرب والصبح، فلا يجوز عندنا التنفل قبل صلاة المغرب وإن غربت الشمس ولا بعد طلوع الفجر، لكن أجاز مالك رحمه الله أن يتلافى [من فاته] (4) حزبه من ليل فيصلي في هذا الوقت إن كان مغلوباً على الفوات.

[حكم تحية المسجد بعد طلوع الفجر]
واختلف المذهب في الداخل في المسجد قبل صلاة الصبح وبعد (5) طلوع الفجر هل يؤمر بالتحية للمسجد قبل ركعتي الفجر، أولاً (6) يفعل إلا ركعتي الفجر خاصة؟ وجمهور أهل المذهب أن لا يؤمر بذلك لما روي عن النبي عليه السلام من قوله: "إما طلع الفجر فلا ركوع إلا ركعتي الفجر" (7)، وانفرد القابسي رحمه الله بتحية المسجد، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -:" إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ
__________
(1) في (ت) لمخالفة.
(2) في (ر): أو أقيمت.
(3) في (ر) و (ت) بحيث وفي (م) بجنب.
(4) ساقط من (ر).
(5) في (ر) عند.
(6) في (ق) أم لا يفعل وفي (ر) ولا يفعل.
(7) لم أقف عليه بهذا اللفظ.

(1/495)


المَسْجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَينِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ" (1).
وإن ركع في بيته للفجر ثم أتى المسجد فهاهنا قولان مشهوران: أحدهما: أنه يركع في المسجد ركعتين للأمر بالتحية. والثاني: أنه لا يركع للحديث المتقدم في نفي الركوع بعد الفجر. وإذا قلنا بأنه يركع فهل ينوي بركوعه النافلة، أو إعادة ركعتي الفجر؟ فيه قولان للمتأخرين. ونية النافلة تعويلاً على الأمر بتحية المسجد، ولأن ركعتي الفجر قد أديتا فلا معنى لإعادتهما. ونية الإعادة بناء على القول بصحة الرفض، وقدمنا القول في صحته.
والثالث: المحاذرة من تمادي الركوع حتى يقع في الوقت المنهي عنه بإجماع، ولهذا يمنع من النافلة بعد صلاة الصبح إلى الطلوع وبعد صلاة العصر إلى الغروب. وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن ذلك (2).

(حكم النافلة عند الزوال)
وهل تكره النافلة عند الزوال (3)؟ قولان: المشهور جوازها قياساً على اتصال العمل بالتنفل في هذا الوقت يوم الجمعة. وروي عن مالك كراهية ذلك لما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أن الشمس تطلع على قرني الشيطان، وقال في الحديث: "فَإِذَا اسْتَوَتْ قَارَنَهَا" (4)، ونهى عن الصلاة حينئذ. ولكن هذا
__________
(1) أخرج البخاري في الصلاة 444، ومسلم في المسافرين 714، والترمذي في الصلاة 316 واللفظ له عَنْ أَبِي قَتَادَةَ مرفوعاً. وقال الترمذي؛ وَحَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
(2) أخرج البخاري في المواقيت 588عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صلاَتَينِ بَعْدَ الفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ العَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ.
(3) في (ت) زوال الشمس.
(4) أخرج النسائي في المواقيت 559 واللفظ له وابن ماجه في إقامة الصلاة 1253 عَنْ عَبْدِ اللهِ الصُّنَابِحِىِّ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "الشَّمْسُ تَطْلُعُ وَمَعَهَا قَرْنُ الشَّيْطَانِ فَإِذَا ارْتَفَعَتْ فَارَقَهَا فَإذَا اسْتَوَتْ قَارَنَهَا فَإذَا زَالَتْ فَارَقَهَا فَإذَا دَنَتْ لِلْغُرُوبِ قَارَنَهَا فَإذَا غَرَبَتْ فَارَقَهَا" وَنَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الصَّلاَةِ فِي تِلْكَ السَّاعَاتِ.

(1/496)


الحديث في بعض (1) طرقه لم يذكر الاستواء وذكره في بعضها. وبين الأصوليين خلاف في انفراد العدل بزيادة هل تقبل أم لا؟

(حكم النافلة عقب صلاة الجمعة)
ومما يلحق بهذا القسم كراهية التنفل عقيب صلاة الجمعة فهو للأئمة أشد كراهية. فلم يكن - صلى الله عليه وسلم - يتنفل بعدها. وعللت الكراهية بالمحاذرة من التطرق إلى إظهار صلاة الجمعة وقصد (2) صلاة الظهر، وهذا يقصده أهل البدع إذا صلوا مع أئمة الحق ويقصده (3) الإمام إن كان مبتدعاً.

(حكم الصلاة عقب الوتر)
ومنه أيضاً [كراهية] (4) الصلاة عقيب الوتر، والمستحب أن يكون الوتر آخر صلاة الليل لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح فليصل ركعة توتر له ما قد صلى" (5).
واختلف المذهب فيمن تنفل بالليل بعد أن أوتر؛ المشهور أنه لا يعيد الوتر؛ لأنه متى أعاده صار شفعاً. وقال ابن نافع: يعيده، وهو مقتضى ظاهر الحديث. وبالله التوفيق.
...

باب في حكم الأفعال [والأقوال] (6) الواقعة في الصلاة من غير جنس أقوالها وأفعالها
ومن فعل فعلاً في الصلاة- فإن كثر- أفسدها، عمداً كان أو سهواً أو
__________
(1) في (ق) أكثر.
(2) في (ق) وقصر.
(3) في (ق) ويقدمن أجل الإمام.
(4) ساقط من (ت) و (ر).
(5) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وهو عند البخاري في الجمعة 991 عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَ رَجلاً سَأَلَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صَلَاةِ اللَيْلِ فَقَالَ رَسُولُ الله عَلَيهِ السلاَم: "صَلاَةُ اللَّيلِ مثنى مثنَى فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَة تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى".
(6) ساقط من (ق).

(1/497)


جهلاً. وإن قل جداً ولم تدع إليه ضرورة وليس من مصلحتها كره، ولا يفسدها. وإن دعت إليه الضرورة كقتل ما يحاذر منه أو إنقاذ نفس أو مال فلا يكره، وتصح الصلاة. وإن لم يكن يسيراً جداً كالمشي اليسير إلى ذلك والمدافعة اليسيرة إن احتاج (1) إليها. وإن كان من مصلحة الصلاة كمشي المسبوق إلى ما يستتر به بعد سلام إمامه؛ فإنه لا يكره أيضاً إذا كان لا يفسد نظام الصلاة.
...

فصل (تفصيل في الكلام يقع في الصلاة)
(حكم الكلام إذا كان قرآناً أو ذكراً)
وأما الكلام يقع في الصلاة؛ فإن كان قرآناً أو ذكراً ولم يقصد به إفهام مخلوق، بل قصد به الواجب أو المندوب إليه في الصلاة فهو مشروع فيها، وإن قصد به إفهام مخلوق كمن يسبح أو يتلو قرآناً ليفهم عنه الغير حاجته (2)، ففي جوازه قولان. ومنه فتح المصلي على من ليس معه في الصلاة.

(حكم الكلام من غير القرآن والذكر)
وإن كان الكلام غير القرآن والذكر فلا يخلو وقوعه في الصلاة من أربعة أقسام: إما أن يقع عمداً لغير إصلاح الصلاة، أو عمداً لإصلاحها، أو سهواً، أو جهلاً؛ فإن وقع عمداً لغير إصلاح الصلاة، فلا خلاف في بطلانها. وإن وقع عمداً لإصلاحها، ففي المذهب ثلاثة أقوال، وسيأتي بيانها في باب السهو إن شاء الله. فإن وقع سهواً فكثر جداً أبطل الصلاة،
__________
(1) في (ر) احتج.
(2) في (ق) ليفهم غيره حاجته وفي (ر) عنه صاحبه.

(1/498)


وإن قل صحت الصلاة وأجزأ عنه سجود السهو [بعد السلام] (1)، وإن كان جهلاً أجزأ على القولين في الجاهل هل حكمه حكم العامد أو حكم الناسي.
وهل يتنزل التنحنح بمنزلة الكلام. أما إن كان بغلبة فلا خلاف في صحة الصلاة، وأما إن كان بغير غلبة، ففي المذهب قولان: أحدهما: أنه بمنزلة الكلام، ينظر (2) في السهو والعمد إلى ما قدمناه. والثاني: أنه ليس بمنزلته، وهو خلاف في شهادة تصوره (3) هل تتركب منه حروف كما تتركب (4) من الكلام، أم لا يتركب ذلك؟ وهكذا اختلفوا في النفخ هل يتنزل منزلة الكلام، وهو على ما قدمناه.

(حكم الضحك في الصلاة)
وأما الضحك فإن كان قهقهة فلا خلاف في بطلان الصلاة بعمده. واختلفوا في سهوه وغلبته؛ فقيل: هما بمنزلة الكلام، وقيل: تبطل الصلاة بالقهقهة على الإطلاق وردها إلى الكلام لأن أعلى مراتبها أن يتركب منها حروف تشبه (5) الكلام. والبطلان به مطلقاً؛ لأنها تناقض مقصود الصلاة وهو الخشوع.
وإن كان تبسماً فلا يبطل الصلاة، وإن كان تعمداً فهل يسجد لسهوه؟ قولان: أحدهما: نفي السجود إذ ليس بزيادة قول ولا فعل. وقيل: بإثبات السجود. واختلف هؤلاء متى يكون محله؟ فقيل: قبل السلام لأنه نقص خشوع (6)، وقيل: بعد لأنه زيادة حركات وإن قلت.
__________
(1) ساقط من (ق) و (ت).
(2) في (ت) و (ر) يفصل وفي (م) ينفصل.
(3) في (ق) وصورته.
(4) في (ت) يتركب منه حرفاً كما يتركب، وفي (ر) يتركب منه الحروف كما يتركب.
(5) في (ر) فأشبه.
(6) في (ر) و (ت) خشوعاً.

(1/499)


(حكم الإشارة في الصلاة)
واختلف في الإشارة في الصلاة بالسلام وغيره؛ فالمشهور جوازها، والشاذ النهي عنها، إذ يحصل (1) بها ما يحصل بالكلام وهو الإفهام.
...

فصل (التسبيح للرجال والتصفيق للنساء)
وإذا اضطر المصلي إلى تنبيه الإمام أو غيره؛ فإن كان رجلاً يسبح، وإن كانت امرأة فقولان: أحدهما: أنها تسبح كالرجل، والثاني: أنها تنبه بالتصفيق. وفي الحديث لما صفق الرجال فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "إِنما التَّصْفِيقُ لِلنسَاءِ" (2). وتؤول على وجهين، أحدهما: أن معناه إنما التصفيق من شأن النساء، أي في غير الصلاة. والثاني: أن معناه هو المشروع (3) للنساء في الصلاة، إذ أصواتهن عورة. وقد قدمنا الخلاف في القهقهة هل تتنزل منزلة الكلام أو تبطل الصلاة بكل حال، وإن قلنا بالإبطال؛ فإن كان المصلي فذاً قطع، وإن كان مأموماً فقولان: قيل يقطع، وقيل لا يقطع ويتمادى ويعيد مراعاة للخلاف. وإن كان إماماً فالقولان أيضاً في التمادي والقطع. وإذا أجزنا القطع فهل يستخلف أو يبطل ما تقدم من الصلاة؟ قولان: الاستخلاف لأنه مغلوب عند القائل به كغلبة الحدث، والبطلان لمناقضتها لمقصود الصلاة كما قدمناه. إذا قلنا بالتمادي فلا شك في إعادة من خلفه. وإذا تثاوب المصلي فقد قال في الكتاب: لا أدري ما فعله في الصلاة بعد أن كان حكى أنه رأى مالكاً رحمه الله يضع يده على فمه، وينفث في غير الصلاة (4). وفي غير المدونة أنه يضع يده على فيه في الصلاة أيضاً، وإن احتاج إلى النفث في الصلاة ففي طرف ثوبه.
__________
(1) في (ت) إذ لا يحصل.
(2) أخرجه البخاري في الجمعة 1234 عن سهل بن سعد الساعدي.
(3) في (ق) إنما التسفيق هو المشروع وفي (ر) وهو المشروع.
(4) المدونة: 1/ 100.

(1/500)


فصل (حكم من اضطر للبصاق في المسجد)
ويجب تنزيه المسجد عن كل ما يستقذر، ومنه البصاق. فإن اضطر الإنسان إلى البصاق وهو في المسجد؛ فإن كان في صلاة فالأولى أن يبصق في طرف ثوبه، فإن لم يفعل وكان المسجد محصباً بحيث يمكنه دفنه فلا يبصق أمامه، والأولى أن يبصق على يساره، وله أن يبصق على يمينه ثم يدفنه. وإن لم يكن المسجد محصباً فلا ينبغي أن يبصق فيه بحال وإن دلكه؛ لأن تدليكه لا يذهب أثره.
...

فصل (أمر الصبيان بالصلاة لسبع)
ويؤمر الصبيان بالصلاة لسبع سنين على جهة التمرين للصلاة؛ لأن الصلاة متكررة. فإن لم يعودوها في الصغر شق عليهم في الكبر ملازمتها. وهذا السن فيه مبادئ التميز (1) غالباً. وإذا بلغ عشر سنين تأكد أمرهم بها وعوقبوا على تركها معاقبة ناجزة بالضرب كما ورد في الحديث (2). ويؤمرون بالتزام شروطها من الطهارة وستر العورة كما يؤمر بها البالغون. فإن صلوا بغير ذلك أمروا بالإعادة. وهل يعيدون أبداً كالبالغين؟ أو ما لم تطل الأيام؟ قولان: الإعادة أبداً إلحاقاً لهم بحكم الكبار البالغين، والقول الثاني أن الأمر بالصلاة ليس عليهم لأنهم مكلفون، بل للتمرين (3). فإذا طالت الأيام فإنما يفتقرون إلى أداء صلاة الوقت لا قضاء ما فات.
__________
(1) في (ت) مبتدأ تمييزهم.
(2) أخرج أبو داود في الصلاة 495 واللفظ له، وأحمد في مسنده 2/ 187 عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مرُوا أولاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبوهُمْ علَيْهَا وَهُم أَبنَاءُ عَشْرٍ وَفَرِّقوا بَيْنَهُمْ فِي المَضَاجِعِ".
(3) في (ر) متكلفين للتمرين.

(1/501)


وهل يؤمرون على التمرين بالصيام ويتعودونه قبل البلوغ؟ قولان: المشهور أنهم لا يؤمرون بذلك لأنه ليس بمتكرر، وإنما يأتي مرة في العام، بخلاف الصلاة. والشاذ أنهم يؤمرون بذلك قياساً على الصلاة.
ومتى يفرق بينهم في المضاجع هل السبع أو العشر؟ قولان. وسبب الخلاف قوله- صلى الله عليه وسلم -: "مروا الصبيان بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع". وبين الأصوليين خلاف في المستثنى (1) والإحالة والضمائر. وهذه الجملة (2) التي هي: "وَفَرَّقُوا بَينَهُم فِي المَضَاجِعِ"، ولم يذكر حد ذلك. وقد تقدم حدان (3) وهل يعود على أقرب المذكورات أو على أبعدها (4)، وبالله التوفيق.
...

فصل (حكم قتل البرغوث والقمل في المسجد)
وقد قدمنا أن ما لا نفس له سائلة لا ينجس [بالموت] (5) عندنا، والبرغوث من هذا القبيل. هذا إذا لم يجلب دماً فإن اجتلبه فقولان: فقيل هو طاهر نظراً إلى أصله، وقيل نجس نظراً إلى الدم الحاصل معه. وعلى هذا يجري حكم قتل البرغوث في المسجد. وأما طرحه فيه [حياً] (6) فجائز؛ لأنه مما يعيش في التراب، فليس في إلقائه تعذيب له، ولا هو يثبت في مكان واحد فيتأذى به الغير. ولا يخاف موته فيكون نجاسة ألقيت في المسجد. وهو غير نجس كما قلناه بخلاف القملة؛ فإنها لا تقتل في المسجد إذ هي ميتة وهي نجسة. ولا تلقى فيه إذ في إلقائها تعذيب لها.
__________
(1) خرم في (ت) وفي (ر) و (م) الاستثناءات.
(2) في (ر) للجملة، وفي (م) جملة.
(3) في (ر) جملتان.
(4) في (ر) جميعها.
(5) ساقط من (ر).
(6) ساقط من (ر).

(1/502)


وما وقع له في بعض الروايات من جواز طرحها في المسجد فقد يكون لظن دوام حياتها، أو يكون صاحب هذا القول حكم لها بأنها لا تنجس بالموت. وقد بقيت علة أخرى وهي تقذير المسجد، إذ لو جوزنا ذلك لأدى إلى أن كل من يأتي إلى المسجد يلقي قملة وذلك يضر بالناس.
...

فصل (حكم القنوت في الصلاة)
وقد قدمنا أن القنوت من فضائل الصلاة، هذا هو المعروف من المذهب. وقال يحيى بن يحيى: إنه ليس بمشروع كما قاله أبو حنيفة.
وسبب الخلاف أنه شرع دعاء (1) على قبائل الكفار. وبين الأصوليين خلاف في العلة هل إذا ارتفعت هل يرتفع حكمها أم لا؟ فمن قال بالارتفاع جاء منه الشاذ، ومن قال بعدم الارتفاع جاء منه المشهور. وإذا قلنا إنه مشروع فليس فيه دعاء مؤقت (2)، لكن يستحب الابتداء بالدعاء المشهور فيه. فإن أبدله أو أضاف إليه غيره، فلا بأس. وإن تركه جملة هل يسجد أم لا؟ قولان: المشهور لا يسجد له بناء على أنه فضيلة. وقال سحنون: يسجد له، وهذا بناء على أنه سنة. وقال علي بن زياد: تبطل (3) صلاة من تركه متعمداً. وهذا بناء على أحد القولين في تارك السنن متعمداً.
وقد قنت الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل الركوع وبعده (4)، والمصلي مخير في
__________
(1) في (م) شرع الدعاء.
(2) في (ت) و (ر) مؤقتاً.
(3) في (ق) تفسد.
(4) من الأحاديث الدالة على قنوت الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد الركوع ما أخرجه البخاري في الجمعة 1001عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ "سُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكِ أقَنَتَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الصُّبحِ قَالَ: نَعَمْ فَقِيلَ لَهُ: أَوَقَنَتَ قَبْلَ الرُكُوعِ؟ قَالَ: بَعْدَ الرُّكُوعِ يَسِيراً".
ومن الأحاديث الدالة على قنوته - صلى الله عليه وسلم - قبل الركوع ما أخرجه البخاري في الجمعة 1002 =

(1/503)


ذلك. ولكن استحبه مالك رحمه الله قبل الركوع ليدرك المسبوق.
وهل يقنت في الوتر في النصف الآخر من رمضان؟ قولان: المشهور أنه لا يقنت؛ لأنه لم يكن معمولاً به في زمن الرسول عليه السلام، والشاذ أنه يقنت، لما ورد عن السلف أنهم كانوا يلعنون الكفار في النصف الآخر من رمضان.
...

فصل (حكم من انصرف بسبب رعاف أو حدث)
ومن ظن بطلان تماديه برعاف (1) أو حدث فانصرف ثم تبين له بطلان ظنه؛ فأما في الرعاف إذا لم يتكلم ولم يمش على نجاسة فإنه ينظر، فإن كان بحيث يميز (2) صحة ما في ظنه أو بطلانه (3) قبل انصرافه فانصرف قبل التمييز بطلت صلاته بلا خلاف. وإن كان بحيث لا يمكنه التمييز؛ لأنه في ليل مظلم، واجتهد فأخطأ ففي بنائه قولان: أحدهما: أنه لا يبني، وهو المشهور. والثاني: أنه يبني، وهو الشاذ. وهما على ما قدمناه في المجتهد هل يعد (4) باجتهاده أم لا؟ وأما في الحدث فإن لم يطل فعله بعد الظن كان كالرعاف، وإن طال فعله أو تكلم عامداً بطلت صلاته؛ لأن هذا انصرف (5) على أن صلاته باطلة، والراعف انصرف على أنه يغسل الدم ثم يبني.

...
__________
= عن عاصم قَالَ: سَأَلْتُ أَنَس بْنَ مَالِكٍ عَنِ الْقُنُوتِ، فَقَالَ: قَدْ كَانَ القُنُوتُ، قُلْتُ: قَبْلَ الرُّكُرعِ أَوْ بَعدَهُ قَالَ: قَبلَه" الحديث.
(1) في (ق) لرعاف.
(2) في (ق) يتمكن تمييز، وفي (ت) يتميز.
(3) في (ق) أو بطلان صلاته.
(4) في (ر) يعده، وهو ساقط من (ق).
(5) في (ق) و (ر) انصراف.

(1/504)


فصل (ما يلزم المصلي حين يعقد النية)
واختلف المذهب هل يلزم المصلي في حين عقد النية التعرض (1) لعدد الركعات أم لا يلزمه ذلك؟ وعليه الخلاف فيمن افتتح ينوي القصر فأتم أو بالعكس، هل تجزيه الصلاة أم لا؟ وعليه أيضاً الخلاف فيمن أحرم للجمعة فلم تصح له شروط الجمعة، هل يتم عليها ظهراً أربعاً؟ وقد قدمنا الخلاف في ذلك. وذكرنا أن هذا يلتفت فيه إلى أصل ثان [وهو] (2) هل الجمعة صلاة قائمة بنفسها؟ أو هي ظهراً مقصورة؟ وعلى هذين الأصلين يجري الخلاف فيمن دخل مع الإمام والإمام يصلي الجمعة فظنها الداخل الظهر، أو كان الإمام في الظهر فظنه الداخل الجمعة. في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: إنها لا تجزيه فيهما. والثاني: إنها تجزيه فيهما. والثالث: إنها تجزيه إن كان الإمام في الظهر فظن الداخل الجمعة ولا تجزيه إذا كان الأمر بالعكس. والقولان الأولان على ما قدمناه من الخلاف والتفرقة، لأن الجمعة تفتقر إلى شروط لا يفتقر إليها الظهر. وتجزيه إذا قصد الأكمل عن الأنقص ولا تجزيه بالعكس.
وأصل مذهب مالك رحمه الله تعلق صلاة المأموم بصلاة الإمام، ولهذا لا يجزي أن يقتدي المفترض بالمتنفل ولا من يصلي الظهر مثلاً بمن يصلي العصر. وقد قدمنا ما في تعليق صلاة المأموم بصلاة الإمام، وأن بعض الأشياخ كالباجي وأبي الحسن اللخمي يحكي الخلاف في ذلك في المذهب (3). فعلى هذا يختلف في صلاة المفترض بالمتنفل، وفي الاقتداء بمن هو في صلاة غير ما ينويه المأموم.
وإذا بنينا على المشهور، فذكر اثنان صلاتي ظهر مثلاً من يومين مختلفين، فهل لأحدهما أن يقتدي بالآخر؟ ذكر البغداديون قولين: أحدهما: على الخلاف،
__________
(1) في (ت) التعريض.
(2) ساقط من (ر).
(3) التبصرة ص: 76.

(1/505)


هل يلزم التعريض في النية [لتعيين] (1) اليوم الذي ترك (2) فيه الصلاة، فيقصد أحدهما: الأحد ويقصد الآخر مثلاً الخميس (3) أو غيره من الأيام (4).

...

فصل (حكم المصلي يقرأ ما كتب بين يديه)
وإذا نظر المصلي إلى مكتوب بين يديه [فقرأه] (5)؛ فإن كان المكتوب قرآناً لم تبطل صلاته، وسواء نطق بالقراءة أو قرأها في قلبه. وإن كان غير قرآن فقرأ في قلبه ولم ينطق به (6) لم تبطل صلاته، إلا أن (7) يطول جداً فتبطل صلاته لاشتغاله عن الصلاة بالقراءة (8). فإن نطق بلسانه كان كالمتكلم. فإن تعمد بطلت صلاته، وإن كان ناسياً لم تبطل إلا أن يطول ذلك كما قدمنا في الكلام. ويسجد بعد السلام. وحكم المنصرف من الركعتين يأتي في باب السهو مستوفياً (9).
...

فصل (الأمر بتسوية الصفوف)
والتراص في الصفوف والاستواء مأمور به، ولا يجوز التقدم في
__________
(1) ساقط من (ر).
(2) في (ت) تؤدي.
(3) في (ر): فيصد الأحد مثلاً الخميس، وفي (ت) فيقصد أحدهما الآخر مثلاً ويقصد الآخر الخميس.
(4) لم يرد القول الثاني للبغداديين في أي من النسخ التي بين يدي.
(5) ساقط من (ر).
(6) في (ق) و (ت) ولم ينطق بلسانه.
(7) في (ر) ذلك إلا أن.
(8) في (ر) لا للقراءة.
(9) في (ت) مستوعباً.

(1/506)


الصف ولا التأخر عنه. وقد كانت الصحابة رضوان الله عليهم تتقايس (1) في الصفوف بالمناكب والأقدام. واختلف في معنى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)} (2)؛ فقيل: المراد صفوف الصلاة. وقيل: المراد صفوف الجهاد. ويحتمل أن يتناولهم اللفظ؛ لأن الكل جهاد إما الكفار وإما للشياطين من الجن والإنس. لكن من صلى وحده وترك الصف أجزأته صلاته عندنا، لأن التسوي (3) في الصف مندوب إليه وليس بواجب. ولو لم يجد فرجة فإنه لا يجر إليه أحداً إذ الصلاة تجزيه وليس له التعدي بإخراج المستوي في الصف.

(حكم الصلاة بين الأساطين)
والصلاة بين الأساطين مكروهة إلا أن يضيق المسجد. واختلف في علة الكراهية فقيل: أنها محل الشياطين والنجاسات إذ كانوا يلقون هناك نعالهم، وقيل إنما كرهت لتقطيع الصفوف ولا تفسد الصلاة على هذا التعليل. وإن عللنا بنجاسة الموضع تفسد (4) الصلاة.

(حكم تقدم الرجال أو النساء على الإمام)
ولا تفسد الصلاة عندنا مخالفة الترتيب في مقامات الإمام مع المأمومين. وقد قدمنا ذلك. ولو خالفت امرأة بأن صلت أمام الإمام أو بين الصفوف لم تفسد صلاتها (5) عندنا، ولا صلاة من هي بين يديه إلا أن ثُمِرَ (6) صلاتها هناك تذكر من (7) هي بين يديه حتى يؤديه تذكره إلى نقض طهارته. وكذلك حكم الجماعة من النساء.
__________
(1) في (ت) يتناسق.
(2) الصف:4.
(3) في (ق) و (ت) لأن الصلاة.
(4) في (ت) غالباً تفسد.
(5) في (ر) صلاته.
(6) في (ر) إلا أن يتضمن.
(7) في (ر) تذكرا ممن، وفي (ت) تذكرا من.

(1/507)


فصل (لا يمنع النساء من حضور الجماعات إلا لسبب)
ولا يمنع النساء من حضور الجماعات إلا أن يغلب (1) عليهن الفساد فيجب منعهن. فأما السنن (2) كالعيدين والاستسقاء فلا تمنع منهما المتجالة (3) التي لا حظ فيها للرجال.

(حكم الاستماع للمخبر في الصلاة)
ومن استمع لمخبر في الصلاة فإن طال جداً بطلت صلاته لأنه كالمشتغل عن الصلاة بالكلية، وإن خف جداً فلا بأس به. وإن كان بين ذلك أمرناه بالسجود بعد السلام لأنه أطال لغير مصلحة الصلاة.

(حكم زخرفة المساجد)
وقد قدمنا أنه يجب تنزيه المساجد عن كل ما يستقذر. وقد قال الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} (4) الآية. فقيل: معناها يرفع مقدارها عن المستقذرات. وقيل: ترفع بالبنيان والتشييد. وليس من هذا تزويقها بما يلهي المصلي ولا منفعة فيه. وفي ذلك أيضاً تشبيه بالكنائس والبِيَع وهو منهي عنه. وتجب صيانة المسجد عن كل من لم يعرف حقه (5) وحرمته كالصغير والمجنون. وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "جَنَّبُوا مَسَاجِدَكُم صِبيَانَكُم" (6)، ولكنه يعارضه ما ثبت عنه مدوناً في الصحاح أنه حمل أمامة بنت ابنته وهو في الصلاة (7)، فقيل: كانت صلاة فرض، وقيل: كانت نافلة.
__________
(1) في (ق) و (ت) يخاف.
(2) في (ق) و (ت) وأما حضور السنن.
(3) في (ر) منهن المتجالات.
(4) النور: 36.
(5) في (ر) منه.
(6) ابن ماجه في المساجد 750. قال ابن حجر في فتح الباري 1/ 549 وتعقب بأن الحديث ضعيف.
(7) في (ت) الصلاة في المسجد. =

(1/508)


وفي الكتاب في الصبي يأتي أباه وهو صغير في الصلاة المكتوبة إنه ينحيه عنه، ولا بأس بتركه في (1) النافلة. وهذا يقتضي تأويله للحديث على أن ذلك كان في النافلة. ولو اضطر الإنسان إلى حمل طفل وهو في الصلاة (2) لحمله. وعلى الاضطرار تأول ما ورد (3) في الحديث من حمل أمامة في الفريضة (4).

...

فصل (متى يفتح على الإمام؟)
وقد قدمنا أنه لا يفتح على من ليس معه في صلاة، وإن طلب منه الفتح، فإن فتح عليه فهل تبطل صلاة الفاتح؟ قولان. وهما على ما قدمناه في الخلاف في القرآن يقصد به إفهام الغير. وهل يفتح على من معه في صلاته؟ أما إن أخطأ الإمام في غير أم القرآن فإنه لا يفتح عليه إلا أن يغير المعنى أو يطلب منه الفتح. وإن أخطأ في أم القرآن فإنه يفتح عليه لأن الصلاة لا تجزي إلا بها. ولو ترك الإنسان آية من أم القرآن فحكى إسماعيل القاضي قولين: أحدهما: أنه يسجد لسهوه، والثاني: لا سجود عليه. وهذا لأنه رأى أن الأقل تبع للأكثر على مراعاة الإتباع في أنفسها أن تبطل صلاته.

...
__________
= والحديث أخرجه البخاري في الصلاة 516 واللفظ له، ومسلم في المساجد 543 عَنْ أَبِي قَتَادةَ الْأَنْصَارِي أَنَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِل أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلِأَبِي الْعَاصِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْس فَإذَا سَجَدَ وَضَعَهَا وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا.
(1) في (ر) ولا بأس به في.
(2) في (ر) في الفريضة.
(3) في (ر) أن يكون ما ورد.
(4) في (ق) و (ت) من حمله على الفريضة.

(1/509)


فصل (حكم الالتفات في الصلاة)
وقد قدمنا وجوب استقبال القبلة وحكم من صلى إلى غيرها. والنظر هاهنا في الالتفات في الصلاة، وهو (1) يفسد الصلاة إن خرج المصلي عن الاستقبال، ولا يفسدها إن لم يخرج عنه. ولو كان الالتفات بسائر الجسد لكان يكره جملة إذ هو كالتارك لأدب الوقوف بين يدي ملك الملوك.

(حكم الصفد في الصلاة)
وقد روي في بعض الأحاديث النهي عن الصفد (2) في الصلاة وهو أن يصلي قارنا قدميه معتمداً عليهما. وقد عابه مالك رحمه الله في المدونة واستحبه في غيرها. وعاب الوقوف على الرجل الواحدة (3) معتمداً عليها. ولعله قال: هذا لما لم يثبت عنده الحديث، فكره التحديد بالاعتماد على الرجل الواحدة كعادته في الكراهة.

...

فصل (حكم تحبيس المساجد وغيرها)
واجتمعت الأمة على جواز تحبيس السقايات والمساجد؛ فمن بني مسجداً فلا يخرج عن ملكه بنفس البناء إلا أن يظهر منه قول أو فعل يدل على أنه قصد إخراجه عن ملكه وتحبيسه. ومن الفعل أن يخلي بين الناس وبينه.
وسقف المسجد لاَحِقٌ به (4) في تحبيسه. ولهذا لا يحل أن يملك ما فوقه، ويجوز ملك ما تحته إذ الأسفل لا يسري إليه حكم التحبيس.
__________
(1) في (ت) هل.
(2) في (ق) الصفرد.
(3) في (ر) الواحد.
(4) في (ر) و (ت) لاحق له.

(1/510)


(حكم سجود الشكر)
وهل يجوز السجود عند البشرى بما يسر (1) به الإنسان. في المذهب قولان: المشهور كراهيتها، وهذا لأنه لم يثبت أن السجود مشروع (2). والشاذ جوازه. وقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه فعله (3). وروى ذلك عن جملة من الصحابة رضوان الله عليهم (4).
__________
(1) في (ت) بما يبشر به.
(2) قال الشوكاني في نيل الأوطار3/ 129 بعدما ذكر الأدلة على شرعية سجود الشكر، وإنكار أبي حنيفة ومالك له قال: "وإنكار ورود سجود الشكر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مثل هذين الإمامين مع وروده عنه صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الطرق التي ذكرها المصنف وذكرناها من الغرائب. ومما يؤيد ثبوت سجود الشكر قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتقدم في سجود ص هي لنا شكر ولداود توبة".
(3) أخرج أبو داود في الجهاد 2774 واللفظ له، وابن ماجه في إقامة الصلاة 1394 عَنْ أبِي بَكْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ كَانَ إِذَا جَاءَهُ أَمْرُ سُرُورٍ أوْ بُشِّرَ بِهِ خَرَّ سَاجِداً شَاكِراً لِلهِ.
(4) ابن ماجه في إقامة الصلاة 1393 عَنْ عَبْدِ الرَحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا تَابَ اللَهُ عَلَيْهِ خَرَّ سَاجِداً.

(1/511)