التنبيه على مبادئ التوجيه - قسم العبادات

كتاب الصلاة الثاني
(حكم سجود التلاوة)
وقد بدأ فيه بأحكام سجود التلاوة (1)، وأجمعت الأمة على أنها مشروعة (2). واختلفوا هل هي واجبة أو مندوب إليها؟ ومذهب مالك رحمه الله إسقاط الوجوب معولاً على قول عمر رضي الله عنه: "إِنَّ اللهَ لَمْ يَكتُبهَا عَلَينَا إِلاَّ أَنْ نَشَاءَ" (3). وقد ترك السجود بحضرة الصحابة، وقال ما حكيناه عنه وهو على المنبر، ولم ينكر عليه أحد. وقد اختلف الأصوليون هل يعد قوله هذا إجماعاً لترك الإنكار أم لا يعد؟
وإذا تقرر أن المذهب إسقاط وجوبها فهل تلحق بالسنن، أو تنزل عنها إلى الفضائل؟ للمتأخرين قولان:
أحدهما: عدها فضيلة، قاله القاضي أبو محمد. وهذا طريق أبي القاسم ابن الكاتب. واحتج بقول مالك رحمه الله تعالى في المدونة: يستحب له إن قرأها في أثناء الصلاة ألا (4) يدع سجودها (5) فأطلق عليها في الكتاب لفظة الاستحباب. وهذا يدل على أنها فضيلة.
__________
(1) لعل المؤلف يقصد صاحب المدونة. هذا إذا لم يكن من كلام الناسخ.
(2) في (ت) مشروعة على الجملة.
(3) أخرجه مالك في النداء 482، والبيهقي في سننه 3/ 213.
(4) في (ر) أن يقرأها في إبان الصلاة ولا يدع.
(5) المدونة: 1/ 111.

(2/512)


والقول الثاني: أنها سنة، قاله أبو القاسم ابن محرز (1). واحتج بما في المدونة من أنه يسجد لها بعد الصبح ما لم يسفر، وبعد العصر ما لم تصفر الشمس. وشبهها بالجنائز. وهذا التشبيه يقتضي أنها سنة كالجنائز. ولا يسلم هذا الذي قاله من الاعتراض لأنه يمكن أن يحمل التشبيه على جواز السجدة (2). والأمر به في هذا الوقت، لا على أنها تشبه الجنائز في كل الأحكام. وقد قدمنا سبب الخلاف فيما يلحق بالسنن أو يعد من الفضائل، وهو ما يدوم من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكن في غير الجماعات. وسجود التلاوة (3) من هذا القبيل. وإذا تقرر هذا قلنا: أحكام السجود تنحصر في أربعة فصول: أحدها: أعداده. والثاني: مواضعه من الآي. والثالث: شروطه وصفاته ومن يؤمر به. والرابع: أوقاته.

(أعداده)
فأما أعداده فقد اختلف المتقدمون من أهل المذهب في ذلك على ثلاثة أقوال: فالمشهور: أن أعداده إحدى عشرة [سجدة] (4) ليس في المفصل منها شيء، أولها آخر الأعراف، وآخرها حم تنزيل (5). والقول الثاني: أن أعداده خمس عشرة يضاف إلى ما سميناه سجود آخر الحج، وثلاثة في المفصل: آخر النجم، وآخر العلق (6)، وسجدة في الانشقاق. ونذكر الخلاف في مواضعها بعده.
__________
(1) هو: أبو القاسم بن محرز المقري القيرواني تفقه بأبي بكر بن عبد الرحمن وأبي عمران وأبي حفص تفقه به عبد الحميد الصائغ وأبو الحسن اللخمي كان فقيهاً نظاراً نبيلاً وابتلي بالجذام في آخر عمره وله تصانيف حسنة منها تعليق على المدونة سماه التبصرة وكتابه الكبير المسمى بالمقصد والإيجاز توفي في نحو الخمسين وأربعمائة رحمه الله تعالى ترجمته في شجرة ص: 110 والديباج المذهب ص: 226.
(2) في (ت) و (ق) السجود.
(3) في (ت) من فعل الرسول عليه السلام له ولم يظهره في الجماعة وسجود التلاوة، وفي (ر) لكن له في غير الجماعات وسجود التلاوة.
(4) ساقط من (ر).
(5) أي سورة فصلت.
(6) في سائر النسخ التي وقفت عليها القلم، ولعل الصواب ما أثبته لأن القلم ليست سجدة بالاتفاق.

(2/513)


والقول الثالث: أن أعداده أربعة عشر موضعاً فأسقط مما ذكرناه سجدة آخر الحج (1). وجمهور متأخري أهل المذهب يرون أن هذا خلاف، وأن المشهور ترك السجود فيما عدا الأحد عشر موضعاً. والقاضي (2) أبو محمد يرى أن السجود مأمور به في جميع الخمسة عشر، لكنه في الأحد عشر آكد منه في الباقي. وعليه يتأول المشهور. ويحتج بقول مالك في موطئه:"عَزَائِمُ سُجُودِ القُراَنِ إِحدَى عَشرَةَ سَجدة" (3). وهذا يدل على أن في القرآن سجودَ [غيرِها] (4)، لكنه ليس من العزائمِ. فيصير المذهب عنده على أن السجود مشروع في الأحد عشر موضعاً متأكداً، وفي غيره من الأربعة مواضع غير متأكد. وهو غير مشروع في غير هذه المواضع.
وسبب الخلاف على ما قاله الجمهور اختلاف آثار؛ فحكى زيد بن ثابت وابن عباس وغيرهما أن الرسول عليه السلام لم يسجد بعد الهجرة في المفصل (5). وحكى أبو هريرة وغيره أنهم سجدوا في المفصل خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (6) وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل هل في الحج سجدتان؟ فقال: نعم ومن لم يسجدهما فلا يقرأ (7). وهذا يقتضي تأكيد السجود وثبوته في
__________
(1) في (ق) آخر النجم.
(2) في (ق) و (ت) وهي ما تقدم والقاضي.
(3) مالك في النداء للصلاة.
(4) ساقط من (ق) و (م).
(5) أخرج البخاري في الجمعة 1073 عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ "قَرَأْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَالنَّجْم فَلَمْ يَسْجُد فِيهَا"، وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه 1/ 377 عن ابن عباس وذكروا سجود الَقرآن فقال: "الأعراف والرعد والنحل وبنو إسرائيل ومريم والحج سجدة واحدة والنمل والفرقان وألم التنزيل وحم السجدة وص وليس في المفصل سجود". وأخرج البيهقي في سننه 2/ 313 قال ابن عباس: "ليس في المفصل سجدة"، وأخرج عبد الرزاق في مصنفه 3/ 343 عمن سمع عكرمة يحدث قال: "سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - في المفصل إذ كان بمكة يقول ثم لم يسجد بعد".
(6) أخرج مسلم في المساجد 578 واللفظ له، والترمذي في الجمعة 573 عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ "سَجَدْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي إِذاَ السَّمَاءُ انْشَقَّتْ وَاقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ".
(7) لم أقف عليه بهذا اللفظ إلا بلفظ قريب أخرجه أبو داود في الصلاة 1402، والترمذي في الجمعة 578 عن عُقْبَةَ بْن عَامِرِ قَالَ قُلْتُ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أَفِي سُورَةِ الْحَجِّ سَجْدَتَانِ؟ قَالَ "نَعَمْ وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا فَلَا يَقْرَأْهُمَا". واللفظ لأبي داود.

(2/514)


آخر الحج. لكن هذا الحديث لم تثبت فيه شروط الصحة. والذي صوبه المحققون من المتأخرين ومن لقيته من الأشياخ ثبوث السجود في المفصل. لأن من حكى نفي حكم السجود إنما ذكر ما رأى، ومن أثبت أولى ممن نفى، ولا سيما وقد يترك (1) السجود ليبين أنه ليس بواجب ويسجد (2) ليبين أنه مشروع. فإذا أمكن صرف الترك إلى هذا المعنى لم يكن فيه دليل على انحصار السجود في الأحد عشر موضعا.
...

فصل (مواضعه من الآي)
وأما مواضع السجود من الآي فاختلف فيه في ثلاثة مواضع: أحدها: سجدة ص، فقيل يسجد عند قوله جل ذكره {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)} (3)، وقيل: يسجد عند قوله {وَحُسْنَ مَآبٍ (29)} (4). والثاني: سجدة {حم (1) [تَنزِيلُ]} (5)، فقيل: يسجد عند قوله: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)} (6)، وقيل: عند قوله عز وجل: {وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)} (7). والثالث: سجدة الانشقاق، فقيل: يسجد في آخر السورة، وقيل: عند قوله: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21)} (8).
وسبب الخلاف هل النظر إلى سبب السجود فيسجد عند كمال الآية
__________
(1) في (ر) ترك.
(2) في (ر) سجد.
(3) ص: 24.
(4) ص:25.
(5) ساقط من (ر) و (ق).
(6) فصلت: 37.
(7) فصلت: 38.
(8) الانشقاق: 21.

(2/515)


بعد ذكر السجود، أو النظر إلى كمال الثناء على المطيع (1) والذم للعاصي، فيسجد عند كمال ذلك؟
ولم يختلف في محل السجود في غير ما ذكرناه، فيسجد في الأعراف عند ختمها. وإذا سجد وكان في الصلاة ثم قام فهو غير إن شاء أن يركع (2) من غير أن يقرأ شيئاً من غيرها، وإن شاء قرأ ثم ركع.
والسجدة في الرعد عند قوله تعالى: {وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} (3)، وفي النحل: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (4)، وفي سبحان: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (5)، وفي مريم: {وَبُكِيًّا} (6)، وفي الحج: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (7). وإن أثبتنا السجدة في آخرها فعند قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (8). وفي الفرقان: {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} (9)، وفي النمل: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (10)، وفي ألم السجدة: {وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} (11)، وفي النجم آخرها. وهو مخير بعد الرفع كما ذكرناه بين أن يركع أو يقرأ من غيرها. وكذلك في سورة القلم. وخيره ابن حبيب بين السجود والركوع فينوب له ذلك عن ركوع الصلاة وعن سجود التلاوة. وهذا كأنه ترك السجود.
...
__________
(1) في (ت) و (ق) للمطيع.
(2) في (ت) يترك.
(3) الرعد: 115.
(4) النحل:50.
(5) الاسراء: 109.
(6) مريم: 58.
(7) الحج: 18.
(8) الحج: 77.
(9) الفرقان: 60.
(10) النمل: 26.
(11) السجدة: 15.

(2/516)


فصل (شروط السجود)
وأما شرط (1) السجود فهو جزء من الصلاة، فيشترط فيه عندنا جميع ما يشترط في الصلاة؛ من طهارة الحدث والخبث، وستر العورة، واستقبال القبلة. وهل يُحرِم له ويسلم منه؟ أما الإحرام الزائد على التكبير للهَوْيِ (2) فلا يشترط عندنا. وكذلك لا يشترط السلام إذ لم يثبت، وإنما هو مجرد سجود. وهل يكبر له عند الإهواء والرفع منه؟ أما إن كان في صلاة فيكبر، وإن كان في غير صلاة ففيه ثلاثة أقوال: في الكتاب الأمر بالتكبير، وكراهيتها، (3) وخيره ابن القاسم.
وسبب الخلاف القياس على سجود الصلاة وسجود التلاوة إذا كان في صلاة، فعلى هذا يكبر، والقياس (4) على الإحرام والتسليم، فلا يكبر. وأيضاً فإن التكبير مشروع في الصلاة الكاملة، وهذا ليس منها. والتخيير لتعارض ما قلناه.

(من يؤمر بالسجود)
ويؤمر به كل تال للقرآن في غير صلاة فريضة إذا مر بإحدى الآي التي قدمناها (5). وهذا إذا كان في وقت يجوز فعله فيه على ما نبينه، وهو على الصفات التي قدمناها في شروط الصلاة.
وهل يؤمر به مستمع القراءة؟ أما إن لم يقصد الاستماع فلا يؤمر، وإن قصد وكان الثاني ممن لا تصح إمامته فلا يؤمر، وإن كان ممن تصح إمامته وسجد الثاني أمر به، وإن لم يسجد فقولان: المشهور أن يؤمر به
__________
(1) في (ق) و (ت) شروط.
(2) في (ت) للإهواء للسجود. والهوى والإهواء كلاهما صحيحتان. انظر لسان العرب 15/ 372 - 374.
(3) المدونة: 1/ 111.
(4) في (ت) فعلى هذا يكبر والقول الثاني بالقياس.
(5) في (ت) قدمناه، وفي (م) قدمنا.

(2/517)


لأن الاستماع كالتلاوة، وأصلها اكتفاء المأموم بقراءة الإمام (1). والقول الثاني أنه لا يؤمر، لما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - "أنه قرأ رجل عنده آية من القرآن فيها سجدة فسجد الرجل وسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - معه، ثم قرأ آية أخرى فيها سجدة وهو عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فانتظره النبي (2) أن يسجد فلم يسجد فقال له في ذلك فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: كنت إمامنا ولو سجدت لسجدت معك" (3). وقال بعض الشافعية: إنما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السجود لينبه القارئ أنه أخطأ بتركه إياه، وإنما كان القارئ هو المأمور به أولاً والمستمع في حكم التبع. وهو غير واجب فلا يبعد تركه لقصد البيان.

(كراهيه قراءة آية السجدة وحدها لأجل السجود)
وقد كره في المدونة أن يقرأ الرجل السجدة وحدها ليسجد لها (4). واختلف الأشياخ هل يريد لفظ السجدة خاصة وموضع السجود منها أو كل الآية؟ فلهم في ذلك قولان: أحدهما: أنه إذا قرأ الآية جميعها جاز، وجاز السجود لأنه حصل تالياً لذلك. والثاني: أنه لا يجوز له ذلك؛ لأن حكم التلاوة لم يحصل له، وإنما حصل لمن استمر على قراءة السورة (5).

(حكم قراءة السورة التي فيها السجدة في الصلاة)
وهل تجوز قراءة السورة التي فيها السجدة في الصلاة؟ أما في صلاة النافلة فلم يختلف المذهب في جواز ذلك. وهذا إذا كان فرداً أو كان في
__________
(1) في (ق) قراءة الإمام القرآن.
(2) في (ر) الرجل.
(3) لم أقف عليه بهذا اللفظ إلا بلفظ قريب أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 1/ 379 عن زيد بن أسلم أن غلاما قرأ عند النبي - صلى الله عليه وسلم - السجدة فانتظر الغلام النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسجد فلما لم يسجد قال: يا رسول الله، أليس في هذه السورة سجدة قال: بلى ولكنك كنت أمامنا فيها فلو سجدت لسجدنا. وقال ابن حجر في الفتح 2/ 556: رجاله ثقات إلا أنه مرسل.
(4) في (ق) ليسجدها.
(5) المدونة: 1/ 111.

(2/518)


جماعة يأمن التخليط فيها فظاهر، وإن كان في جماعة لا يأمن ذلك فيها، فالمنصوص أيضاً جوازه لما ثبت من فعل الأولين في صلاة النفل في رمضان وهم مجتمعون فيمرون بالسجدة فيسجدون.
وأما في الفريضة فإن كانت صلاة سر أو جهر وخاف أن يخلط على من خلفه، فلا يجوز له ذلك. لأنه قد يؤدي إلى بطلان الصلاة، وكل ما أدى إلى بطلانها فممنوع. وأما إن أمن التخليط وكانت صلاة جهر، أو كان فرداً ففيه قولان: المشهور النهي عنه، والشاذ جوازه. وقد علل المشهور بأنه إذا قرأ السجدة وسجد بها، كان زائداً في أعداد الفريضة، وذلك لا يجوز. والصحيح جوازه (1) لما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من أنه كان يداوم على قراءة ألم تنزيل السجدة في الركعة الأولى من صلاة الصبح (2). وعلى هذا كان يواظب الأخيار من أشياخي وأشياخهم.
وإذا منعناه أن يقرأ بالسجدة في صلاة السر فإنه إذا قرأ ووصل إلى السجدة فينبغي له أن يجهر إذا عول على السجود لها ليعلم من خلفه أنه إنما سجد للتلاوة. وإن لم يجهر وسجد فهل يتبع في السجود؟ للمتأخرين قولان: أحدهما: أنه يتبع فيه للزوم متابعة الإمام، والثاني: أنه لا يتبع لجواز أن يكون سجد ساهيا ولم يقرأ آية السجدة.

(حكم من نسي سجود التلاوة في الصلاة)
وإذا أبحنا له أن يقرأ في النافلة بما فيه السجدة فقرأ ثم نسي أن يسجد في موضع السجود فلا يخلو من أن يذكر ذلك قبل التطاول (3) أو بعده، وقبل أن ينحني للركوع أو بعد ما انحنى للركوع ولم يرفع رأسه، أو بعد ما رفع رأسه. فإن ذكر قبل أن يتطاول سجد عند ذكره ولم يؤمر بإعادة
__________
(1) في (ق) على تلاوة الآية الكثير.
(2) في (ت) جوازه في الفريضة والنافلة.
(3) أخرجه البخاري في الجمعة 891، ومسلم في الجمعة880 وهو مقيد بصلاة صبح يوم الجمعة.

(2/519)


آية السجدة (1). وإن ذكره بعد التطاول أمر بإعادة قراءة الآية التي فيها ذكر السجود [وسجد] (2). وإن ذكر بعد أن خر للركوع فهل يتمادى على ركوعه ويترك السجدة، أو يخر إلى السجدة؟ فيه قولان. وهما على الخلاف في عقد الركعة ما هو؟ هل هو وضع اليدين على الركبتين؟ أو رفع الرأس منها؟ فإن قلنا عقد الركعة وضع اليدين على الركبتين، تمادى على ركوعه. وإن قلنا عقدها رفع الرأس منها، خر للسجود ساجدا. وعكس هذا أن يريد السجود فيركع فهل يجزيه هذا الانحطاط على الانحطاط إلى الركوع فيه قولان (3). وهما على الخلاف في الحركة إلى الأركان هل هي مقصودة فلا يجزيه، أو غير مقصودة فيجزيه.
وإن ذكر السجدة وقد رفع رأسه من الركوع فلا يسجدها في الحال، لكن إن كانت هذه الركعة هي الأولى من النافلة قرأها في الركعة الثانية ويسجد لها. ومتى يقرأها هل قبل أم القرآن أو بعدها؟ للمتأخرين قولان: أحدهما: أنه يقرأها قبل أم القرآن؛ لأنها قضاء عن الركعة (4). وإنما يكره أن يقدم على أم القرآن غيرها إذ لم يكن له سبب مثل هذا، وإذا ظهر له السبب جاز له التقدم. والثاني: لا يقرأها إلا بعد أم القرآن، إذ أصل المذهب (5) أن المشروع أنه يأتي بها عقيب التكبير من غير فاصل. فإن كانت الركعة هي الثانية من النافلة، فإن كان يركع بعدها نافلة أخرى قرأ بها وسجد، وإلا فقد فات موضع السجود.

...

فصل (أوقاته)
وأما أوقات السجود؛ فإنه يجوز في كل وقت يجوز فيه أداء النوافل. ويجوز بعد طلوع الفجر، وقبل صلاة الصبح، وبعد مغيب الشمس قبل
__________
(1) في (ق) التطويل. والمقصود طول زمان النسيان.
(2) في (ر) التلاوة.
(3) ساقط من (ر).
(4) في (ق) انحطاطه للسجود قولان.
(5) في (ق) الركعة الأولى.

(2/520)


صلاة المغرب. وهل يجوز بعد صلاة الصبح إذا لم يسفر، وبعد صلاة العصر إذا لم تصفر الشمس؟ في المذهب ثلاثة أقوال: أحدهما: أنه لا يجوز، قاله في الموطأ. والثاني: جوازه، وهو مذهب الكتاب (1). والثالث: التفرقة، فيجوز بعد الصبح ولا يجوز بعد العصر، قاله ابن حبيب. وقد قدمنا ما قاله أبو القاسم ابن محرز من [أن] (2) السجود بعد الصبح وبعد العصر يقتضي كونه سنة، ولهذا شبهت بصلاة الجنائز. وعلى هذا يكون النهي في السجود في هاذين الوقتين يقتضي كونه فضيلة. وأما تفرقة ابن حبيب فلأن النهي عن الصلاة بعد العصر أشد من النهي عنها بعد الصبح. إذ (3) اختلف المذهب هل تأخير الفريضة إلى الاصفرار محرم أو مكروه. وتأخيرها إلى الإسفار لم يختلف أنه غير محرم. وإنما اختلف هل هو جائز أو مكروه.
...

فصل (وجوب الوضوء عند لمس القرآن)
ولا خلاف في الأمر بالوضوء لمن أراد مس القرآن. وهل ذلك الأمر واجب؟ المشهور من مذاهب العلماء وجوبه. وروى مالك رحمه الله في موطئه أن في الكتاب الذي كتبه الرسول عليه السلام لعمرو بن حزم (4) أن لا يلمس القرآن إلا طاهر (5). واختلف في معنى قوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا
__________
(1) في (ر) إذا صلا به المذهب.
المدونة: 1/ 111.
(2) ساقط من (ر).
(3) في (ر) و (ق) و (ت) إذا.
(4) في (ق) و (ت) بن جزم.
(5) أخرج مالك في النداء 468 واللفظ له، والدارمي في الطلاق 2266 عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ أَبِي بَكْرِ بنِ حَزْم أَن في الكِتَابِ الّذِي كَتبَهُ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِعَمرِو بنِ حَزْمٍ أَنْ لاَ يَمسَّ القُرآن إلا طَاهِرٌ.

(2/521)


الْمُطَهَّرُونَ (79)} (1)؛ فقيل: هو على ظاهره من الخبر، والمراد بالمطهرين الملائكة، وهو رأي مالك رحمه الله في موطئه. وأكثر أهل المذهب على حمل الآية على الأمر، وإن كان ظاهرها الخبر. ويكون موافقاً للحديث المتقدم. فإذا أوجبنا الوضوء (2) لمس المصحف، فهل ذلك في حق كل مريد لمسه؟
أما غير المتعلم والمعلم فذلك واجب في حقه بلا خلاف، إلا أن يمسكه مع أشياء كثيرة ولم يقصد إلى حمله. وإنما قصد حمل ما معه كالرحل يكون فيه المصحف. فإن قصد إلى حمل المصحف منع إلا بطهارة.
وأما المتعلم فلا خلاف في المذهب في جواز مسه للمصحف بغير طهارة، لأنه مضطر إلى مسه ويشق عليه تكرار الوضوء. وأما المعلم ففيه قولان: أحدهما: أنه كالمتعلم. والثاني: أنه لا ضرورة به إلى ذلك كسائر الناس. وهذا ينبغي أن يكون خلاف في حال. فإن كان حافظاً يستغني عن مطالعة المصحف فهو كغير (3) المتعلم. وإن كان مفتقراً إلى مطالعته لقلة حفظه وهو يحتاج إلى العلم لأَجَلٍ (4) معجل أو مؤجل، فهو كالمتعلم.
وإذا منعنا غير المتوضئ من مس المصحف فأحرى أن يمنع من على غير الإسلام من مسّه. وقد قدمنا الكلام على قراءة [الجنب] (5) القرآن طاهراً، ومن يجوز له ومن لا يجوز له.
...

باب في أحكام السترة في الصلاة
وأجمعت الأمة على وجوب السترة في حق المصلي على الجملة.
__________
(1) الواقعة: 79.
(2) في (ق) وإذا ثبت وجوب الوضوء.
(3) في (ت) كسائر الناس.
(4) في (ر) لأجر.
(5) ساقط من (ق) و (م).

(2/522)


وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه متى صلى في غير الجدار ركزت له الحربة [أو العنزة] (1) فيصلي إليها. وكان يصلي إلى بعيره (2). ونهى عن المرور بين يدي المصلي، وقال: "لَوْ يَعلَمُ المار بَينَ يَدَي المُصَلِّي مَاذَا عَلَيهِ لَكَانَ أن يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْراً لَه" (3). وشك الراوي هلَ أراد أربعين سنة، أو أربعين يوماً، أو أربعين شهراً. فأمر بدفع من يمر بين يدي المصلي، وقال: "فَإِنْ أَبَى فَليُقَاتِلهُ فَإنمَّا هُوَ شَيطَان" (4). واختلف في معنى المقاتلة هاهنا فقيل: هي على ظاهرها، والمراد أوائلها وهو الدفع بعنف ما لم يؤد إلى العمل الكثير في الصلاة. وقيل: معناه اللعنة، وهو المراد بقوله تعالى: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (5). أي يلعنهم الله.
فإذا ثبت ذلك فالنظر في السترة ينحصر في أربعة فصول: أحدها: من يؤمر بها؟ وما المقدار المجزي عنها؟ وكيف صورة الاستتار فيها؟ وحكم المصلي والمار في الإثم والدفع [عن المرور] (6).

(من يُؤمر بها؟)
وأما من يؤمر بها فكل مصل في موضع لا يأمن المرور بين يديه إذا كان فذاً أو إماماً، فإن أمن المرور ففي المذهب قولان: المشهور أنه لا يؤمر بالسترة إلا أن يشاء، والشاذ أمره بها.
وسبب الخلاف هل جعلت السترة حريما للمصلي حتى يقف عندها
__________
(1) ساقط من (ر).
والعَنَزَةُ- بفتحتين- أطول من العصا وأقصر من الرمح، وفيها زُجٌّ كزج الرمح. انظر مختار الصحاح 192.
(2) أخرج البخاري في الصلاة 430 عَنْ نَافِع قَالَ؛ رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يُصَلِّي إِلَى بَعِيرِهِ وَقالَ: رَأَيْتُ النَبِى - صلى الله عليه وسلم - يَفعَلُهُ.
(3) أخرجه البخاري في الصلاة 510، ومسلم في الصلاة 507.
(4) أخرجه البخاري في بدء الخلق 3275، ومسلم في الصلاة 505.
(5) المنافقون: 4.
(6) ساقط من (ر).

(2/523)


البصر فلا يتعداها؟ أو جداراً من مرور مار، فيشتغل به عن صلاته. فإن قلنا إنها جعلت حريماً للصلاة وجبت السترة وإن أمن المرور، وإن قلنا إنها جعلت جدارا من الانشغال بالمار لم يجب مع الأمن.
فإن صلى في موضع مرتفع- على القول بأنها [لا] (1) تجب مع الأمن - فإن كان من يمر لا يظهر من أشخاصهم شيء للمصلي لم تجب السترة، وإن كان يظهر منها شيء وجبت السترة.
ولا يؤمر بها المأموم بلا خلاف. وقد ثبت عن ابن عباس أنه مر بين يدي الصفوف راكباً حماره أتاناً، فلم ينكر عليه أحد، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إماماً والمقتدون الصحابة (2).
واختلفت ألفاظ أهل المذهب في علة سقوط السترة عن المقتدين؛ فقال بعضهم: لأن سترة الإمام سترة لهم، وقال بعضهم: لأن الإمام سترة لهم. واختلف المتأخرون هل العبارتان بمعنى واحد، أو يختلف معناهما. فيكون معنى أولى أن السترة التي جعلها الإمام بين يديه هي سترة للمأموم، وإذا سقطت صار حينئذٍ مصلياً إلى غير سترة. ومعنى الثانية أن الإمام هو الساتر للمأموم. فإذا سقطت سترته كان المأموم باقياً على حكم الاستتار، وإن ذهبت سترة الإمام.

...

فصل (ما المقدار المجزئ فيها؟)
وأما المقدار المجزي من السترة فأقله مقدار عظم الذراع في غلظ الرمح إذا كان يثبت ولا يقع. وكره مالك رحمه الله السوط؛ لأنه لا يثبت.
__________
(1) ساقط من (ر) و (ت).
(2) أخرج البخاري في الصلاة 493 واللفظ له، ومسلم في الصلاة 504 عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسِ أَنهُ قالَ: "أَقْبَلْتُ رَاكِباً عَلَى حِمَارِ أَتَانٍ وَأَنَا يَوْمَئِذِ قَدْ نَاهَزْتُ الاِحتِلاَمَ وَرَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُصَلي بِالنَاسِ بِمِنَى إِلَى غَيرِ جِدَارِ فَمَرَرتُ بَينَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفَّ فَنَزَلْتُ وَأَرْسَلْتُ الأَتَانَ تَرْتَعُ وَدَخَلتُ فِي الصَّفَّ فَلَم يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ".

(2/524)


ولا تنفع السترة بالخط. وفي الحديث الخط باطل (1). وتجوز السترة بكل ظاهر ثابت غير متنقل لا يخاف منه مضرة ولا يؤدي إلى بطلان الصلاة. وهذه التحرزات من الاستتار بالنجاسة كقصبة (2) المرحاض وما في معناها، أو الصلاة إلى حلقة المتحدثين المستقبل وجوهَهم، أو المرأة غير ذات المحرم.
وهل تجوز الصلاة إلى الحلقة الدائرة؟ في المذهب قولان: الجواز، لأنه يستقبل ظهر الجالس. والكراهة؛ لأنه يستقبل وجه المقابل (3) للجالس. ومن ذلك الصلاة للنائم والمجنون. وبالجملة غير المميز لأنه لا يُؤمَن ما يحدُث من هؤلاء من ريح ونحوه. [وكذلك الصبي الجميل الصورة والمخنث، فإنهما يلحقان بالمرأة] (4).
وبالجملة كل من لا يؤمن معه التذكر فيما يفسد الصلاة، فإنه لا يجوز الاستتار به. وقد أجازوا الصلاة إلى الطائفين (5) لأنهم في حكم المصلين.
...
__________
(1) لم أقف على هذا الحديث، بل هو من كلام الإمام مالك في المدونة 1/ 113 والحديث المشهور في هذه المسألة هو ما أخرج أبو داود في الصلاة 689 واللفظ له، وأحمد في مسنده 2/ 187 وابن حبان 2/ 13، وابن حبان 6/ 138عن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُم فَلْيَجعَلْ تِلقَاءَ وَجهِهِ شَيْئاً فَإِن لَمْ يَجِدْ فَلْيَنْصِبْ عَصاً فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ عَصاً فَلْيَخْطُطْ خَطّاً ثُمَّ لاَ يَضُرُّهُ مَا مَرَّ أَمَامَهُ".
قال صاحب عون المعبود 2/ 271: "واعلم أن حديث الخط المذكور أخرجه أيضاً ابن حبان وصححه والبيهقي وصححه أحمد وابن المديني فيما نقله ابن عبد البر في الاستذكار. قاله الشوكاني: وأخذ به أحمد وغيره فجعلوا الخط عند العجز عن السترة سترة، وأما الأئمة الثلاثة والجمهور فلم يعملوا به، وقالوا: هذا الحديث في سنده اضطراب فاحش كما ذكره العراقي في ألفيته. وقال الحافظ ابن حجر: وأورده ابن الصلاح مثالاً للمضطرب ونوزع في ذلك".
(2) في (ق) كقضية.
(3) في (ت) المحادي.
(4) في (ق) ومن المرأة وألحقوا بها المأبون في دبره.
(5) في (ق) و (ت) الطائفتين.

(2/525)


فصل (صورة الاستتار بالسترة)
وأما صورة الاستتار فإن كانت السترة شيئاً منفردًا كحجر أو عود، فينبغي أن يجعل على اليمين. ولا يصلي منتصباً إليه، محاذرة من التشبه بالأصنام. وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى إلى شيء من هذا النحو جعله عن يمينه أو عن يساره ولا يصمد له صمداً (1)، ويؤمر المصلي بالدنو من (2) سترته. وقد اختلفت الأحاديث في المقدار الذي كان بينه - صلى الله عليه وسلم - وبين سترته فروى بلال ثلاثة أذرع (3)، وروى سهل بن سعد ممر الشاة (4). واختلف في الجمع بين الحديثين؛ فقال أكثر الأشياخ: معنى الحديث الأول أنه كان بينه وبين سترته مقدار ثلاثة أذرع عند القيام. فإذا سجد كان بين رأسه وبين سترته قدر ممر الشاة. وروى أبو الطيب بن خلدون أن معنى الحديثين أنه كان عليه السلام إذا قام دنا من سترته حتى يكون بينه وبينها ممر الشاة. فإذا أراد الركوع بعد عنها حتى يكون بينه وبينها مقدار ثلاثة أذرع. وكان أبو الطيب هذا المذكور يفعل ذلك ويرى أنه عمل يسير من مصلحة الصلاة، لأن الدنو من السترة أحفظ للبصر (5) وأجمع للقلب.
__________
(1) أخرج أبو داود فيِ الصلاة 693 واللفظ له، وأحمد في مسنده 6/ 4 عَن الْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ قَالَ مَا رَأَيْتُ رَسُوِلَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي إِلَى عُودٍ وَلاَ عَمُودٍ وَلاَ شَجَرَةٍ إلَّا جَعَلَهُ عَلَى حَاجِبِهِ الْأَيْمَنِ أَوِ الأَيْسَرِ وَلاَ يَصْمُدُ لَهُ صَمْداً. قال الشوكاني في نيل الأوطار3/ 5 "في إسناده أبو عبيدة الوليد بن كامل البجلي الشامي. قال المنذري وفيه مقال. وقال في التقريب لين الحديث".
(2) أخرج النسائي في القبلة 748، وأبو داود في الصلاة 695 عَنْ سَهْلِ ابْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَالَ قالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى سُتْرَة فَلْيَدْنُ مِنْهَا لاَ يَقْطَعَ الشَيْطَانُ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ.
(3) أخرج البخاري في الصلاة 506، وأحمد في مسنده 2/ 138 واللفظ له عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ سَأَلْتُ بِلَالاً أَيْنَ صَلَّى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ دَخَلَ الْكَعبَةَ قَالَ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِدَارِ ثَلَاثَةُ أَدْرُعٍ.
(4) أخرج البخاري في الصلاة 496، ومسلم في الصلاة 508 عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ كَانَ بَيْنَ مصلَّى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَبَينَ الْجِدَارِ مَمَرُّ الشَّاةِ
(5) في (ق) للصلاة.

(2/526)


فصل (حكم من ترك السترة ومن مر بين يديه)
فأما حكم تعلق الإثم بمن صلى إلى غير السترة، وبالمار بين يدي المصلي؛ فإن صلى إلى غير سترة بحيث لا يؤمن المرور، وللمار مندوحة عن مروره، فقد أثما جميعا. وإن كان بحيث يأمن المرور وليس للمار مندوحة عن مروره فمر لم يأثما (1). وإن كان بحيث لا يأمن المرور وليس للمار مندوحة أثم المصلي. وإن كان بالعكس أثم المار. ومن المرور بين يدي المصلي مناولة الشيء من بين يديه وأخذ ما هو هناك. ومنه تحدُّث من على (2) جانبه.
وينبغي للمصلي أن يمنع المار بين يديه بالإشارة، فإن فعل وإلا دفعه إن كان قريباً، دفعاً لطيفاً. وإن كان بعيداً اكتفى بالإشارة، ولا يفرط في دفعه. وقد روي أنه رفع إلى عثمان رضي الله عنه إنسان دفع ماراً وهو في الصلاة فكسر أنفه. فقال: لو تركته لكان أهون من هذا (3)، ولم يذكر في الآثار أنه ألزمه الدية. وقال أهل المذهب: لو دفعه فسقط فمات لكان كقتل الخطأ، وتكون ديته على العاقلة. وأجراه أبو محمد عبد الحق على الخلاف في من عض إنساناً، فأخرج المعضوض يده فكسر سن العاض؛ ففيه قولان: هل يكون على الكاسر ديته أم لا؟ وهذا أصل مختلف فيه في المذهب. وهو في كل من أُذِنَ له إذن خاص في فعل يفعله فأدى إلى الإتلاف؛ ففيه قولان: هل يرفع الإذن ما كان عنه من الإتلاف (4).

...
__________
(1) في (ق) لم يأثم واحد منهما.
(2) في (ر) من هو.
(3) أخرْج عبد الرزاق في مصنفه 2/ 34 عن مالك قال: "بلغني أن رجلاً أتى عثمان ابن عفان برجل كسر أنفه فقال له مَرَّ بين يدي في الصلاة وأنا أصلي وقد بلغني ما سمعته في المار بين يدي الصلي، فقال له عثمان: فما صنعت شر يا ابن أخي ضيعت الصلاة وكسرت أنفه". وانظره في المحلى لابن حزم عن مالك 3/ 88.
وقال ابن عبد البر في التمهيد: وقد بلغني أن عمر بن عبد العزيز في أكثر ظني ضمن رجلاً دفع آخر من بين يديه وهو يصلي فكسر أنفه دية ما جنى على أنفه 4/ 189.
(4) كذا في (ر) و (ق) و (م) وخرم في (ت). والكلام غير تام.

(2/527)