التنبيه على مبادئ التوجيه - قسم العبادات

باب الجمع للأعذار
وهي أربعة: المطر والمرض والسفر والخوف. وقد قدمنا أحكام الأوقات وأوقات الفضيلة منها، وإلى أي زمن يمتد وقت الاختيار. فمن شاء الجمع بأن (1) يؤخر أحد الصلاتين المشتركتي الوقت كالظهر والعصر، والمغرب والعشاء. فيؤدي الظهر في آخر وقتها، والعصر في أول وقتها جاز ذلك له. وإن كان تاركا للفضيلة في أداء الظهر في أول الوقت المستحب. وأما المغرب فهل له أن يؤخرها؟ يجري على الخلاف هل يمتد وقتها فيجوز التأخير، أو لا يمتد فلا يجوز؟ وأما الجمع بتقديم الصلاة الثانية إلى وقت الأولى، وتأخير الأولى إلى وقت الثانية، فهذا لا يجوز إلا مع الأعذار على ما نبينه.
واجتمعت الأمة أنه لا يجوز الجمع بين الصلاتين المتباينتين؛ كالصبح والظهر، والعصر والمغرب، والعشاء والصبح.
...

فصل (الجمع للمطر)
وإذا تقرر ما قلناه، فهل يجمع للمطر أم لا؟ المشهور جواز الجمع على الجملة، والشاذ أنه لا يجمع إلا في مسجد الرسول عليه السلام حيث ورد الجمع. والتفت في المشهور إلى علة الجمع وهو المطر، وذلك مما تتساوى فيه البقاع والأوقات. والتفت في الشاذ إلى أن الجمع لتحصيل فضيلة الجماعة في بقعة مخصوصة يختص بمزيد فضيلة لا توجد في غيرها، فقصر الجمع عليها.

(هل يجمع بين الظهر والعصر أم لا؟)
وإذا قلنا بالجمع فهل يجمع بين الظهر والعصر كما يجمع بين المغرب
__________
(1) في (ق) أن، وفي (ر) أو، وخرم في (ت).

(2/528)


والعشاء؟ المنصوص في المذهب أنه لا يجمع بين الظهر والعصر. وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء في غير خوف ولا سفر (1). قال مالك رحمه الله: أراه كان في المطر. وقد أخذ من هذا أبو القاسم (2) ابن الكاتب وأبو الوليد الباجي جواز الجمع بين الظهر والعصر لعلة المطر. وهو مقتضى تأويل مالك رحمه الله. وفرق في نصوص المذهب لأن المغرب والعشاء يختص بوقت يقل التصرف فيه إلا لإدراك الجماعة فجاز مع وجود العذر تحصيلها في وقت يخف التصرف فيه ولا تدرك به مشقة. والظهر والعصر [لا تختص بذلك] (3). وأيضاً فإن تقديم العشاء فيه فائدة الانصراف في الضوء. وهذا حاصل في وقتي الظهر والعصر، إذا لم يقدم أحدهما إلى الآخر. أو راعى في القول المُخَرَّج مشقة التصرف إلى المسجد، وهي تحصل بالتكرار إلى محل الصلاة.

...

فصل (في وقت الجمع)
وإذا تقرر حكم الجمع فالنظر فيه في ثلاثة فصول: أحدها: وقته، والثاني: صفته، والثالث: سببه.
فأما وقته في المغرب والعشاء فاختلف المذهب فيه على ثلاثة أقوال: أحدها: أداء المغرب في أول وقتها ثم العشاء بعدها من غير تأخير. والثاني: تأخير المغرب يسيراً ثم أداء العشاء بعدها. والثالث: تأخير المغرب إلى آخر وقتها وأداء العشاء حينئذ.
__________
(1) أخرجه مسلم في المسافرين 705 واللفظ له، والنسائي في المواقيت 601 عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ صَلَّى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعاً وَالْمَغْرِبَ وَالعِشَاءَ جَمِيعاً فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلاَ سَفَرٍ.
(2) في (ر) وقد أخر أبو القاسم.
(3) ساقط من (ق).

(2/529)


وقال المتأخرون: الصواب القول الأول، ولا معنى لتأخير المغرب يسيراً [ثم أداء العشاء بعدها] (1)؛ إذ في ذلك خروج الصلاتين عن وقتهما. أما (2) المغرب ففي (3) وقتها المستحب، وأما العشاء ففي وقتها الواجب [لولا الضرورة المجيزة للجمع حيث ينصرف الناس بعد الفراغ من غير حرج ولا ظلام يشق عليهم] (4)، ولا معنى لتأخيرها إلى آخر وقتها أيضاً؛ لأن في ذلك تركاً لوقتها المستحب مع عدم الفائدة في الجمع؛ لأنهم متى فعلوا ذلك أدى إلى انصرافهم في الظلمة من غير أداء المغرب في وقتها المستحب.
...

فصل: في صفة الجمع
وأما صفة الجمع فقد قدمنا الخلاف في الأذان لصلاتين جميعاً، فإن المذهب فيه على ثلاثة أقوال. فإذا قلنا بالآذان في العشاء فأين محله؟ في المذهب قولان: أحدهما: أنه داخل المسجد إذ لا يقصد به الإعلام في خارجه. والثاني: أنه خارجه مع خفض الصوت يسيراً لأن المشروع في الأذان أن لا يكون داخل المسجد.
وهل يجوز التنفل فيما بين المغرب والعشاء إذا اتسع ما بينهما لذلك؟ في المذهب قولان: المشهور ترك التنفل إذ كذلك ورد، وأيضاً فقد يؤدي التنفل إلى مخالفة الإمام بأن يتنفل وهو يصلي العشاء. وأجازه ابن حبيب لأنه وقت النافلة إذا اتسع ولم يؤد إلى مخالفة الإمام، فلا معنى لمنع النفل.
__________
(1) ساقط من (ق).
(2) في (ر) و (ت) وأما.
(3) في (ر) فعن.
(4) ساقط من (ق).

(2/530)


وهل يجوز الجمع وإن [لم] (1) يقصد قبل أداء المغرب؟ في المذهب قولان:
أحدهما: جوازه؛ لأنه جائز لعلة الضرورة، فإذا وجدت جاز. والضرورة هاهنا إنما هي في تقديم العشاء، وإلا فالمغرب على حالها. والثاني: منعه؛ لأن الجمع يشعر بجمع الصلاتين وإلحاق أحدهما بالآخر. فإذا لم يقصد من الأول فلا يجوز، فتظهر ثمرة الخلاف في فرعين: أحدهما: لو صليت المغرب ثم وجد سبباً يقتضي الجمع، فعلى القول الأول يجوز تقديم العشاء. وعلى القول الثاني لا يجوز.
والثاني: لو دخل المسجد من صلى في بيته المغرب فوجدهم في صلاة العشاء، هل له أن يجمع أم لا؟ يجري على القولين. ويجمع كل من لزمه حكم المسجد، ولهذا يجمع المعتكف.
وهل يجوز للمرأة والشيخ الكبير أن يصليا في بيوتهما الجمْعَ بالمسمع (2)؟ للمتأخرين قولان: أحدهما: جوازه لإدراك الصلاة في جماعة. والثاني: منعه لأن الجمع ورد لمشقة الخروج إلى المسجد فهاهنا منتفية.

...

فصل (سبب الجمع)
وأما سبب الجمع ففي (3) ثلاثة أشياء: مطر، وطين، وظلمة. فإذا اجتمعت أو اثنان منها جاز الجمع بلا خلاف على رأي من حكم بالجمع. وأن انفرد واحد منهما؛ فأما المطر بانفراده [فيبيح الجمع بلا خلاف، وأما الظلمة بانفرادها فلا تبيح الجمع بإجماع، وأما الطين بانفراده] (4)؛ فإن كان
__________
(1) ساقط من (ق).
(2) في (ت) بالمستمع.
(3) في (ق) فهي.
(4) ساقط من (ق) و (ت).

(2/531)


معه وحل جاز الجمع، وإن لم يكن فقولان. وهما على خلاف في شهادة هل يكون مع انفراد الطين مشقة التصرف في وقت العشاء الآخرة أو لا؟ وذلك يختلف باختلاف الأماكن والبقاع.
...

فصل (هل يتنفل في المسجد بعد الجمع)
ولا يتنفل في المسجد بعد أداء الصلاتين من جمع (1) بينهما ولا يوتر، بل يؤخر التنفل والوتر (2) إلى محله في غير الجامع (3). ولو (4) جاز الجمع لعذر المطر فلما صليت المغرب ارتفع. وقال المتأخرون: يجوز (5) التمادي على الجمع؛ لأنه لا يؤمن عودته. وهذا إحالة على شهادة. فينبغي أن ينظر هل تؤمن عودته أم لا؟
...

فصل (جواز الجمع للمريض)
ويجوز الجمع للمريض باتفاق أهل المذهب؛ لأن المشقة تلحقه (6) بأداء الصلاتين في وقتهما، وهي أشد من مشقة المطر والسفر. ومتى وقع (7) الجمع لا يخلو أن يكون الجمع أرفق به، ولا يخاف أن يغلب على عقله، أو يخاف أن يغلب على عقله. فإن كان الجمع أرفق به خاصة فقولان:
__________
(1) في (ت) في جمع.
(2) في (ق) أو الوتر.
(3) في (ق) الجمع.
(4) في (ت) فلو.
(5) في (ق) و (ر) ويجوز.
(6) في (ق) و (ت) تلحقه فيه.
(7) في (ر) و (ت) وقت.

(2/532)


المشهور أنه يجمع بينهما بتأخير الظهر وتقديم العصر على وقتها. والشاذ أنه يجمع بينهما أول الوقت كالمغلوب على عقله. وهذا قياس على جمع الصلاتين بعرفة، وهو مما شرع للرفق. والأول مبني على أن صلاة عرفة مختصة بما ورد فيه إلا أن تدرك (1) الضرورة التي يخاف معها من الغلبة على الصلاة الثانية، أو على وقتها.
وإذا قلنا بتأخير الظهر، فإلى أي وقت تؤخر؟ في المذهب قولان: في المدونة أنها تؤخر إلى وسط وقتها، وأمر سحنون بطرحه [من المدونة] (2) وأثبت في موضعه أنها تؤخر إلى آخر وقتها (3). وكذلك عند ابن حبيب (4).
واختلف المتأخرون في مراده في المدونة ب "وسط الوقت" فقيل ربع القامة، وقيل نصفها. وهذا على ما قدمناه من الخلاف في تقدير ظهور الظل. وقد تقدم في أول كتاب الصلاة الأول. والظاهر قول سحنون وابن حبيب لأنه يكون (5) حينئذ قد أدى (6) كل صلاة في وقتها المختار. ويمكن أن يكون وجه ما في المدونة أنه أبقى الصلاة الأولى على وقت الفضيلة منه، وأمر بتقديم العصر إلى ذلك الوقت لا سيما على قول من قال: وسط الوقت ربع القامة، ولكنه لم يقل في المغرب والعشاء ذلك، بل قال تؤخر المغرب إلى مغيب الشفق، فيجمع حينئذ. وهذا يشهد بصحة قول سحنون وابن حبيب. إلا أن يقال إنما جاز تقديم العصر قياساً على ما ورد من تقديم العصر يوم عرفة، ولم ير ذلك في العشاء بوجه.
__________
(1) في (م) ترد.
(2) ساقط من (ق).
(3) المدونة: 1/ 117.
(4) النوادر والزيادات 1/ 260.
(5) في (ق) لا يكون.
(6) في (ر) ودى.

(2/533)


وإن كان المريض يخاف أن يغلب على عقله فقولان: أحدهما: تقديم العصر، فيؤدي الصلاتين وقت الزوال، وتقديم العشاء ويؤدي الصلاتين عند مغيب الشمس. والثاني: أنه يؤخر فيجمع في آخر وقت الأولى وأول وقت الثانية. وفي المذهب قول ثالث أنه يؤدي كل صلاة لوقتها، فإن فقد عقله عند وقت الثانية سقطت عنه. فرأى في القول الأول أن أداء الصلاتين في أول الوقت أولى حِذَاراً من تعذر أداء الثانية. ورأى في القول الثاني أنه يجوز له التأخير مع الصحة، فأحرى مع المرض. ورأى في القول الثالث أن الأولى أداء كل صلاة في وقتها، فإن غُلب على الثانية فهو غير مكلف بها.
...

فصل (متي يجوز الجمع للسفر)
ويجوز الجمع للسفر. وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه جمع لذلك (1). وعند ابن شعبان من أهل المذهب جوازه للنساء وكراهيته للرجال. والصحيح جوازه لما قدمناه من ثبوته في الآثار.
ومتى يجوز؟ لا يخلو المسافر من أن يكون له وقت يرتحل فيه لا ينزل بعده إلى وقت ثان وينزل فيه نزولا كلياً، أو تتساوى أوقاته. فإن كان له وقت يرتحل فيه ووقت ينزل فيه؛ فإن ارتحل قبل الزوال وكان ينزل قبل الاصفرار، أخر الظهر وجمع بينها وبين العصر في وقت نزوله. فإن كان ارتحاله في وقت الزوال وهو لا ينزل إلا بعد الاصفرار أدى الصلاتين عند ارتحاله. هذا هو المشهور من المذهب. وقيل بل يؤدي كل صلاة في وقتها، فإن كان ارتحاله بعد الزوال ونزوله قبل الاصفرار أدى كل صلاة في وقتها. وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا ارتحل بعد الزوال جمع بين الصلاتين،
__________
(1) أخرج البخاري في الجمعة 1092 واللفظ له، ومسلم في صلاة المسافرين 703 عن عَبْدِ اللهِ بن عمر قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ فِي السَّفَرِ يُؤَخَّرُ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ.

(2/534)


وإذا ارتحل قبله أخر الأولى إلى وقت الثانية (1). وهذا حجة المشهور (2). وما روي عنه أنه كان يؤدي كل صلاة لوقتها (3)، فلعله كان يخف عليه النزول بعد الارتحال، إذ لا ضرورة في تلك السفرة تُلجيء إلى دوام السير.
وهل يجري حكم المغرب والعشاء على حكم الظهر والعصر؟ قال ابن القاسم في المدونة: "لم يذكر في المغرب والعشاء مثل ما ذكر في الظهر والعصر عند الرحيل من المنهل" (4). وقال سحنون: الحكم متساو. واختلف الأشياخ هل قول سحنون رحمه الله تفسير أو خلاف (5). والفرق أن العادة الارتحال عند الزوال لا عند مغيب الشمس، وهذا محال على شهادة بعادة.
فإن تساوت أوقات المسافر فإنه يجمع بين الصلاتين بتأخير الأولى إلى آخر وقتها وتعجيل الثانية في أول وقتها، فيدرك (6) الوقت المختار للصلاتين.
وبأي عذر يجوز له الجمع؟ أما إن جَد به السير وخاف فوات حاجته جاز له أن يجمع [بلا خلاف في المذهب] (7)، وإن جدبه السير ولم يخف ذوات حاجته في المذهب قولان: أحدهما: جواز الجمع، والثاني: منعه. وهذا قد يرجع إلى خلاف في شهادة هل يجد [به] (8) السير لعذر،
__________
(1) أخرج البخاري في الجمعة 1111 واللفظ له، ومسلم في المسافرين 704 عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي الله عَنْه قَالَ كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ ثُمَّ يَجْمَعُ بَينَهُمَا وَإِذَا زَاغَتْ صَلَّى الظَّهْرَ ثُمُّ رَكِبَ.
(2) في (ت) للمشهور.
(3) أخرج عبد الرزاق في مصنفه 2/ 547، عن نافع أن ابن عمر كان يصلي في السفر كل صلاة لوقتها، إلا صلاة أخبر بوجع امرأته فإنه جمع بين المغرب والعشاء فقيل له فقال: هكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل إذا جد به المسير جمع بين المغرب والعشاء.
(4) انظر المدونة 1/ 117."والمَنْهَلُ المَوْرِد، وهو عين ماء ترِده الإبل في المراعي. وتُسمى المنازِل التي في المفاوِز على طُرُق السُّفار مَنَاهِلَ لأن فيها ماء." انظر مختار الصحاح 284.
(5) في (ق) و (ر) تفسيراً أو خلافاً.
(6) في (ق) فيترك.
(7) ساقط من (ق) و (ت).
(8) ساقط من (ر).

(2/535)


فيكون مبيحاً للجمع. أو يتفق من غير عذر، فلا يكون مبيحاً.

...

فصل (جواز الجمع للخوف)
ويجوز الجمع للخوف. قال ابن القاسم: لو أخذ (1) به أحد لكان مذهباً. وهو جواب متردد؛ لأنه لم يرد. وقد اختلف في القياس على الرخص. وإذا قلنا يجوز الجمع، فمتى يكون وقته؟ وقد يجري على حكم المريض والمسافر، فينظر هل يتصل به الخوف أو لا يتصل فيتفرع على ما قدمناه في حكم الجمع في العذر بين المتقدمين.

...

باب في أحكام القصر في السفر (2).
والأصل فيه الكتاب والسنَّة وإجماع الأمة. أما الكتاب فقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} (3). وقد اختلف الصحابة ومن بعدهم في القصر المشار إليه هاهنا، هل القصر في العدد للسفر (4) وإن لم يكن خوف، أو القصر في الهيئة مع الخوف؟ والجمهور على أن المراد به قصر العدد. وقيده تعالى بالخوف. وقد قال بعضهم: إن الآية نزلت أولاً من غير ذكر الخوف، ثم بعد حين نزلت فقيدت بالخوف. وهذا إن (5) صح، فإنه لا يفيد إطراح الشرط، بل قد يقتضي تأكيده. لكن بين الأصوليين خلاف في دليل الخطاب؛ هل يعول عليه أم لا؟ فإن قلنا
__________
(1) في (ق) و (ت) لو أحدثه.
(2) في (ق) و (ر) الصلاة.
(3) النساء:101.
(4) في (ق) في السفر.
(5) في (ر) و (ت) وإن.

(2/536)


بالتعويل (1) عليه، فرأى هاهنا أن المقصود قصر الهيئة للخوف. وإن قلنا بعدم التعويل (2) عليه فرأى هاهنا قصر العدد. وقد يترك القول بدليل الخطاب إذا كان خارجاً عن المعتاد غالباً. والغالب في زمن الرسول عليه السلام خوفهم في الأسفار من فتنة المشركين. فيكون اللفظ وارداً على الموجود غالباً. فلا يكون فيه دليل على أن ما عداه يخالفه.
وأما السنَّة فمنها ما أخرجه أهل الحديث الصحيح (3) عن عائشة رضي الله عنها قالت: "فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت الصلاة في السفر وزيد في الحضر (4) "، وهذا نص. لكن أنكره أبو المعالي رحمه الله، وقال: لو ثبت هذا لنقل متواتراً؛ لأن الصلاة من أشرف معالم الدين، وأعدادها من أهم ما يعتنى به. وقد نقل الناس نقلاً متواتراً ما نسخ من الأحكام التي ليست لها مقدار الصلاة. وكيف ينفرد الآحاد بنقل ما نسخ من أعداد الصلاة بالزيادة والاقتصار؟ ويمكن أن يعتذر عن هذا بأن الأعداد نقلت بالفعل لا بالقول، فاكتفوا بنقلها بالفعل عن نقلها [بالقول] (5) كيف كانت في الأصل، وانتقالها إلى الزيادة. ومما ردّ (6) به حديث عائشة رضي الله عنها هذا أنها كانت تتم في السفر (7). وكيف تفعل ذلك مع روايتها أن الصلاة فرضت ركعتين فأقرت صلاة السفر. والظاهر من هذا الحديث كون القصر فرضاً، واعتذر عن هذا بأن قولها: أقرت صلاة السفر،
__________
(1) في (ق) التعليل.
(2) في (ت) التعول و (ق) التعليل.
(3) في (ق) الصحيحة.
(4) أخرج البخاري في الصلاة 350 واللفظ له، ومسلم في المسافرين 685 عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ قَالَتْ: فَرَضَ اللهُ الصَّلاَةَ حِينَ فَرَضَهَا رَكْعَتَينِ رَكْعَتَينِ في الْحَضَر وَالسَّفَر فَأُقِرَّتْ صَلاَةُ السَّفَرِ وَزِيدَ فِي صَلاَةِ الْحَضَرِ.
(5) ساقط من (ق).
(6) في (ق) وما ورد به.
(7) مسلم في المسافرين 685 عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ الصَّلاَةَ أَوَّلَ مَا فُرِضَتْ رَكعَتَين فَأُقِرَّتْ صَلاَةُ السَّفَرِ وَأتِمَّتْ صَلاَةُ الْحَضَرِ قَالَ الزُّهرِيُّ: فَقُلْتُ لِعُروَةَ: مَا بَالُ عَائشة تُتُمُّ في السَّفَرِ؟ قَالَ: إِنَهَا تَأَوَّلَتْ كَمَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ.

(2/537)


أي: أقرت على جواز الاقتصار على ركعتين للمسافر، بخلاف الحاضر فإنه لا يجوز له الاقتصار.
وقد اعتذر عن إتمامها باعتذارات:
فمنها أنها كانت تعتقد كونها أم المؤمنين، فلا تحل إلا بوطن لها. ومن لم يحل إلا في وطنه فلا يقصر. وهذا ليس بشيء؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقصر وهو أمير كل بلد حلَّ فيه ومالكه. هكذا قيل في الاعتراض على هذا التأويل. ولا يلزم؛ لأن الوطنية بالأمومية آكد منها بالإمارة. فيمكن أن تتناول عائشة رضي الله عنها ما قلناه وترى أنها مخالفة في ذلك للرسول عليه السلام في حكم الوطنية.
ومنها أنها كانت تعتقد التخيير بين القصر والإتمام فالتزمت أحدهما، وهو جائز في حق من يعتقد التخيير، وسنبين الخلاف في ذلك.
ومنها: أنها كانت تخاف أن يراها الجاهل فيعتقد أن الصلاة في كل موطن ركعتان، إذ (1) كان ذلك الزمن فيه الأعاجم وأجلاف الأعراب وهم قريبوا العهد بالإسلام، ولم تستقر الشرائع عندهم، فأتمت خيفة أن يقتدي الجاهل بها.
ومثل هذه التأويلات تأول على عثمان (2) رضي الله عنه في إتمامه بمنى وعرفة، فزيد إلى ما تقدم أنه كان متما متى كان له أهل بمنى. وكان يعتقد أن السفر من مكة إلى عرفة لا تقصر فيه الصلاة لقصره. وسيأتي [سبب جواز القصر في] (3) مثل هذا في المسافة التي بين مكة وعرفة أو منى في كتاب الحج إن شاء الله تعالى.
وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قصر الصلاة في السفر ثبوتا لا ريب فيه ولا إشكال، بل هو متواتر في المعنى.
__________
(1) في (ق) إذا.
(2) في (ت) ومثل هذا التأويلات على عثمان، وفي (ق) ومثل هذا التأولات تأول عثمان، وفي (م) ومثل ذلك التأويلات على عثمان.
(3) ساقط من (ر).

(2/538)


وأما الإجماع، فقد اجتمعت الأمة على قصر الصلاة في السفر على الجملة وإن اختلفوا في التفاضل (1).

(حكم القصر في الصلاة)
وإذا تقرر ما قلناه فقد اختلف المذهب في حكم القصر في السفر، هل هو سنة أو فرض أو مستحب أو مباح؛ في المذهب أربعة أقوال.
وسبب الخلاف [اختلاف] (2) الآثار. واحتج من قال بالفرضية (3) بحديث عائشة رضي الله عنها المتقدم. وقد قدمنا ما فيه. واحتج من قال بأنه سنة بما ثبت من دوام (4) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مظهراً له في الجماعة. وبهذا تتبين السنن. واحتج من قال بالاستحباب بما قاله عمر وابنه رضي الله عنهما وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم من أن القصر رخصة. والرخص لا تلحق بالسنن.
واحتج من قال بالتخيير بقول أنس بن مالك رضي الله عنه أنهم كانوا يسافرون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنهم المقصرون، ومنهم المتممون ولا يعيب بعضهم على بعض (5). وهذا يقتضي التخيير. وقد قدمنا ما يعترض به على هذا القول في حكم السجودة هل الطمأنينة (6) فيه فرض أو مندوب إليه. وذكرنا الانفصال.
__________
(1) في (ر) و (ت) التفاصل.
(2) ساقط من (ر).
(3) في (ق) بالفريضة.
(4) في (ر) سنة بدوام.
(5) أخرجه البيهقي في سننه الكبرى 3/ 145عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إنا معاشر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنا نسافر فمنا الصائم ومنا المفطر ومنا المتم ومنا المقصر فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم ولا المقصر على المتم ولا المتم على المقصر.
(6) في (ق) في حكم السجود هل السجود على الطمأنينة.

(2/539)


(حكم من أتم في السفر)
وإذا تقررت هذه الأقوال فما حكم من أتم؟ أما على القول بالتخيير وعلى القول بأن القصر مستحب فلا إعادة عليه، وأما على القول بأن القصر فرض فتجب الإعادة وإن ذهب الوقت إلا أن يراعى الخلاف، وأما على القول بأن القصر سنة فلا تجب الإعادة إلا في الوقت. لكن يتخرج على الخلاف فيمن ترك السنن متعمداً إذا أتم (1) [هذا] (2) متعمداً.

(هل يقتد المقصر بإمام متم؟)
وهل لمن حكمه القصر أن يقتدي (3) بإمام حكمه الإتمام؟ أما على القول بالتخيير فجائز، بل (4) الأولى إذا لم يجد غير الاقتداء به؛ لأنه تساوى على هذا القول القصر والإتمام، فيقتدي به متطلباً فضل الجماعة.
وأما على القول بأن القصر مستحب فيقتدي به أيضاً؛ لأن الجماعة سنة وهي آكد من استحباب القصر على هذا القول.
وأما على القول بأن القصر سنة ففي جواز الإقتداء به (5) ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يقتدي به، والثاني: أنه لا يقتدي به، والثالث: إن كانت الجماعة كثيرة والإمام فاضل جاز الإقتداء وإلا فلا. وهذا الخلاف ترجيح بين مزيد (6) الفضل. ورجح في القول الثالث بمزيد (7) الجماعة، وفضل الإمام. وهو رأي ابن حبيب أن الجماعة يختلف حكمها بالفضل في القلة
__________
(1) في (م) ثم، وفي (ت) أثم.
(2) ساقط من (ر).
(3) في (م) يبتدي.
(4) في (ر) وهل.
(5) في (ق) الافتداء بالمتمم.
(6) في (ق) مرتبتي.
(7) في (ق) بمزية.

(2/540)


والكثرة. وأما على القول بأن القصر واجب فلا ينبغي أن يقتدي بالإمام، وإن اقتدى به فهل يقتصر على الركعتين ويجلس حتى يسلم الإمام (1) ويسلم معه أو يتم معه؟ فقولان. وسببهما ترجيح واجبين: إما الإتمام لئلا يخالف الإمام، وإما الجلوس لأنه كمن زاد في صلاته ركعتين.
...

فصل (إذا اقتدى مقصر بمتم هل يلزمه الالتفات إلى عدد الركعات في ابتداء صلاته أم لا؟)
وقد قدمنا حكم الالتفات إلى عدد الركعات في ابتداء الصلاة هل يلزم أم لا؟ ويجري على ذلك ما نحن بسبيله أن المسافر إذا قلنا إنه مخير بين القصر والإتمام، أو يستحب له القصر، فابتدأ بنية القصر فأتم، أو بنية الإتمام فقصر؛ فلا يخلو أن يكون فعل هذا عمداً، أو سهواً، أو جهلاً.
فإن فعل عمداً ففيه قولان: أحدهما: أن صلاته باطلة؛ وهذا على القول بأن عليه القصد إلى عدد الركعات. والثاني: أن صلاته صحيحة؛ وهذا على القول بأنه لا يلزمه القصد إلى عدد الركعات، وإن قصد عدداً فله أن (2) ينتقل عنه.
وإن فعله سهواً فعلى القول بأنه تجزي العامدة فإنه يجزي هذا (3) بلا شك. وعلى القول بأن العامد لا يجزيه؛ فإن كان هذا افتتح على الإتمام فقصر صار كأنه نقص من صلاته ركعتين، فإن كان قريبًا أتى بما نقص وسجد لسهوه، وإن بعد فإن لم يراع الخلاف ابتدأ الصلاة وإن ذكر في الوقت أو بعد الوقت، وإن راعى الخلاف فلا يعيد إلا في الوقت. وإن كان
__________
(1) في (ق) الإمام أيتم مع هؤلاء قولان.
(2) في (ق) وإن قصر إلى عدد فله أن، وفي (ت) وإن قصر عدد قله أن.
(3) في (ق): يجزي في العامد فإنه لا يلزمه فيجزيه هذا.

(2/541)


ابتدأ على القصر فأتم فيصير هاهنا كأنه زاد في صلاته مثلها. وفي المذهب قولان فيمن زاد في صلاته؛ هل تبطل إذا كانت الزيادة مثل نصف الصلاة وكانت سهواً؟ أحدهما: تبطل، والثاني: أنها تجبر بالسجود، لكن هناك خلاف في الزيادة المتفق على منعها، وهذه زيادة مختلف فيها. وهكذا وقع في بعض الأقوال في هذه المسألة أن الصلاة تصح، وعلل بأنها زيادة غير مجمع عليها. فيكون الخلاف في مسألة المسافر أشهر منه في مسألة من زاد في صلاته مثلها.
وإن كان فعل ذلك جهلاً فقد يظن هاهنا أنه يجري على الخلاف في الجاهل هل حكمه حكم العامد أم حكم الناسي؟ وليس كذلك؛ لأن الجاهل هاهنا يعذر فلا يختلف أن حكمه حكم الناسي. فإن كان فاعل ذلك إماماً وخلفه المسافرون فزاد على الركعتين فهاهنا قولان: أحدهما: أنهم يتبعونه، وهذا بناء على أن زيادته لا تبطل الصلاة. والثاني: أنهم لا يتبعونه، وهذا بناء على أن زيادته تبطل الصلاة. وإذا قلنا إنهم لا يتبعونه فإنهم يسبحون له ليرجع إليهم، فإن لم يرجع سلموا وتركوه.
وعلى القول بأنهم يتبعونه هل يعيدون الصلاة في الوقت؟ في المذهب قولان: أحدهما: نفي الإعادة، وهو بناء على ما قدمناه من أن [تلك] (1) الزيادة لا تبطل الصلاة. والثاني: الأمر بالإعادة في الوقت، هذا إما مراعاة للخلاف، وإما على قول من أمر بالإعادة في الوقت. وفي المذهب [قولان] (2) فيمن أتم الصلاة من المسافرين هل يعيد في الوقت؟ وهو على القول بأن القصر سنة، أو لا يعيد؟ وهو على القول بأن القصر مخير فيه أو مستحب. وقد تقدم ذلك.
...
__________
(1) ساقط من (ق) و (ت).
(2) ساقط من (ر).

(2/542)


فصل (تفصيل الكلام في أحكام القصر)
وجميع ما ذكرناه في حكم توطئة الباب والمقدمة (1)، وها نحن نأخذ في تفصيله، فنقول: النظر في القصر في ثلاثة أركان؛ أحدها: سببه، والثاني: محله، والثالث: شرطه.

(سبب القصر)
أما سبب القصر فهو السفر، وينظر في السفر في ثلاثة فصول: أحدها: في صفته. والثاني: في مبدئه. والثالث: في منتهاه.

(صفة القصر)
فأما صفة السفر من الجواز وغيره، فإنه ينقسم إلى انقسام أحكام الشريعة من الوجوب والندب والتحريم والكراهية والإباحة. ويقصر عندنا في ثلاثة أقسام من هذه بلا خلاف؛ وهي السفر الواجب كحج الفريضة والغزو المتعين، والمندوب إليه كالجهاد إذا لم يتعين وغير الفريضة من الحج والعمرة، والمباح كالسفر لطلب الأرباح. وأما السفر المحرم كالسفر لإيذاء المسلمين أو ما في معناه، فهل يباح فيه القصر أو لا؟ المشهور أنه لا يقصر فيه. وكذلك الحكم في جميع الرخص التي تتعلق بالسفر كالفطر [وأكل الميتة] (2) وما في معناه مما تقدم تنبيهنا عليه. وهذا لأن هذه الرخص جعلت معونة على السفر، فلا يستعين بها العاصي في سفره. والشاذ أنه يقصر كالمطيع، وهذا بناء على أن السفر لا يكتسب صفة من الطاعة والعصيان، وإنما يكفي في جواز الرخص وجود السفر فقد وجد.
__________
(1) في (ق) وقد تقدم جميع ما وردناه في حكم التوطئة للباب في المقدمة، وفي (م) وجميع ما قدمنا في حكم التوطئة للباب والمقدمة.
(2) ساقط من (ق).

(2/543)


وأما السفر المكروه كالصيد للهو، ففي جواز القصر فيه قولان أيضاً. وفي المدونة أنه لا يقصر (1). ولم يجب في المدونة على حكم السعاة في أخذ (2) الزكاة وصرفها (3)، فرآه سفرا منهيا عنه (4). ولعل سكوته عن الجواب (5) محاذرة من ولاة وقته.
ولو ابتدأ السفر غير عاص به ثم عرضت له نية المعصية به لامتنع عن الرخص على المشهور من وقت قَصَدَ (6) بسفره المعصية.
...

فصل (مسافة القصر)
وأما صفة السفر من الطول أو القِصر؛ فالمشهور من مذهب العلماء
أنه لا يقصر في كل سفر بل في سفر يختص بالطول. وما حده؟ في
المذهب خمس روايات: أحدها: أنه يقصر في مسيرة اليومين، والثانية (7):
[في] (8) مسيرة اليوم والليلة، والثالثة (9) [في] (10) مسيرة أربعة برد (11) وهي
__________
(1) المدونة: 1/ 119.
(2) في (ق) أن حكم السعاة في القمر أنهم يبعثون في أخذ.
(3) في (ر) و (ت) وسوقها.
(4) المصدر السابق.
(5) في (ت) الجواز.
(6) في (ر) كمن قصد، وفي (ت) في من قصد.
(7) في (ر) والثاني.
(8) ساقط من (ق) و (ر).
(9) في (ق) و (ر) والثالث.
(10) ساقط من (ق) و (ر).
(11) البريد لغة بمعنى الرسول، يقال برد بريداً أي أرسل رسولاً، وإبراده إرساله، وهو المسافة المعلومة بين المنزلتين، والبريد كمقياس طول ثابت المقدار في الشريعة حدد باثني عشر ميلاً أي بما يعادل بحساب الذراع الشرعية 22176 متراً. انظر كتاب الإيضاح والتبيان في معرفة المكيال والميزان ص: 77.

(2/544)


ثمانية وأربعون ميلا (1)، [والرابعة رواية أشهب يقصر في خمس] (2) وأربعين ميلاً، [والخامسةً رواية أبي قرة (3) عن مالك يقصر في اثنين وأربعين] (4) ميلاً.
فأما الروايات الثلاث الأولى فجمهور العلماء أنها ترجع إلى قول واحد. وأنه إنما قدر السير للقوافل بالمعتاد، وهو في اليوم أربعة وعشرون ميلاً. ثم رأى أن تحديد سيره باليوم والليلة أقرب إلى الحصر؛ لأن اليومين قد يطولان وقد يقصران. وإذا حد باليوم والليلة كان طول أحدهما في قصر الآخر، ثم رأى أن الحصر بالأميال أولى لاختلاف مسير الرفاق، فحد بالثمانية والأربعين ميلاً.
وأما الروايتان الباقيتان فلا شك أنهما خلاف للثمانية والأربعين. ولعل وجهها التفاتاً للعوائد في مسير (5) الرفاق في اليوم والليلة فرآه مرة ثمانية وأربعين ميلاً، ومرة خمسة وأربعين ميلاً، ومرة أربعين.
واختلف قوله لما اختلفت العوائد [عنده] (6) في مشي الرفاق. فليس
__________
(1) الميل: هو مسافة مد البصر، وسميت الأعلام التي توضع في الطريق أميالاً لأنها ترضع على مقادير مد البصر وهو في الشريعة يعادل ألف باع والباع أربعة أظرع شرعية والظراع يعادل 46.2 سنتيماً فتكون مسافته 4 × 1000 × 46.2 = 184800 سنتيماً = 1,848 كيلو متر انظر المصدر السابق بتصرف.
(2) في (ت) والرابعة في مسيرة خمسة، وفي (ر) والرابع في مسيرة خمسة.
(3) هو: موسى ابن طارق السكسكي أبو محمد، وأبو قرة لقب له الجندي منسوب إلى الجند ناحية باليمن، وقيل هو من أهل زبيد من أهل الحصيب قاض لهم، روي عن مالك ما لا يحصى حديثاً ومسائل وروي عنه الموطأ وله كتابه الكبير وكتابه المبسوط وسماع معروف في الفقه عن مالك، وذكره أبو عمرو المقرئ في القراء، روي عنه علي بن زياد الحجبي وابن حنبل وابن راهوية وأثنى عليه ابن حنبل خيراً ولم يذكر وفاته. انظر الديباج المذهب ص: 342 وسير أعلام النبلاء 90346.
(4) في (ر) والخامسة في مسيرة أربعين، وفي (ت) والرواية الخامسة يقصر إذا عزم على مسافة أربعين.
(5) في (ق) و (ت) في مشي.
(6) ساقط من (ر) و (ت).

(2/545)


هذا التحديد راجعاً (1) إلى دليل ظاهر، وإنما عول فيه مالك رحمه الله على آثار ابن عمر وغيره. واحتج أهل المذهب لهذا التحديد بقوله (2) - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل لامرأة تؤمن باللهِ واليوم الآخر أن تسافر يوماً وليلة مع غير ذي محرم منها" (3). قالوا فتحديده باليوم والليلة يدل على أن ما دون ذلك في حكم الحضر، لا في حكم السفر.
وهذا إذا كان السفر في البر. فإن كان في البحر؛ ففي أكثر الروايات أن حكمه حكم البر. وفي المبسوط لمالك رحمه الله أنه يقصر في مسيرة اليوم والليلة لأن الأميال (4) لا تعرف فيه. وهذا عند الأشياخ ليس بخلاف. وأنما ينظر؛ فإن [كان مع السواحل بحيث يميز مقداره بالأميال فهو كالبر، وإن] (5) كان في وسط البحر بحيث لا يميز الأميال فكما قال في المبسوط.
فإن جمع السفر بين المسير في البر والبحر لفقهما. وكيف صورة التلفيق؟ فأما إن كانت البداية لسفر البحر فيقدر منه المقدار الذي قدمنا تحديده، وأما إن كانت البداية في البر؛ فإن كان إذا وصل إلى البحر سار بالريح وبغيره، فإنه يقصر في الأول، وإن كان ليس في سفر البر مقدار سفر القصر؛ فإن كان لا يسير إلا بالريح فقال ابن المواز: لا يقصر حتى يكون في سفر البر مقدار سفر القصر؛ لأنه رأى أن سفره بالريح قد (6) يتعذر ولا يجد سبيلاً (7) إليه، أو لا تطول إقامته فيكون غير عازم على سفر تقصر فيه الصلاة.
__________
(1) في جميع النسخ: "راجع".
(2) في (ق) و (ر) و (ت) لقوله.
(3) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وقد أخرجه البخاري في الجمعة 1088 بلفظ قريب عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةَ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ أنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْم ولَيْلَةٍ لَيْسَ مَعَهَا حُرْمَةٌ".
(4) في (ق) اليوم التام لأن الأميال.
(5) ساقط من (ت).
(6) في (ر) فقد.
(7) في (ق) ولا يحد عليه وفي (ت) ولا يجد الريح.

(2/546)


وإذا سافر أقل مما حددناه فقصر، هل تبطل صلاته أم لا؟ أما أن قصر في دون ستة وثلاثين ميلاً؛ فإنه يعيد وإن ذهب الوقت. قال في الراويات لأنه لم يختلف فيما دون ذلك، وإنما يعني (1) في أقوال أهل العلم المشهورين. وقال أبو الحسن اللخمي: يعني لم يختلف المذهب (2). وليس كما قال، بل ما من أحد من أهل (3) العلم يقول إنه يقصر فيما دون الأربعين ميلًا (4). فإن قصر في الستة والثلاثين ميلاً، ففي وجوب الإعادة وإن خرج الوقت قولان: أحدهما أنه لا يعيد، والثاني؛ أنه يعيد. وهذا على الخلاف في مراعاة الخلاف.
...

فصل (بعض أحكام مسافة القصر)
ويشترط فيما قدمناه من المقدار أن يتعلق القصد بنهاية ويكون قصده
__________
(1) في (ق) فإنما ينبغي.
(2) التبصرة ص: 104.
(3) في (ق) كما قال بل آخرون من أهل، وفي (م) كما قال بل لا أحد من أهل.
(4) هذا سبق قلم من الشيخ رحمه الله، فالصواب ما قاله أبو الحسن اللخمي؛ فقد روى عن جماعة من السلف رحمة الله عليهم ما يدل على جواز القصر في أقل من ستة وثلاثين ميلاً فالأوزاعي يرى جواز القصر في مسيرة يوم، وهي حوالي أربعة وعشرين ميلاً. وكان أنس يقصر فيما بينه وبين خممسة فراسخ؛ وهي حوالي خمسة عشر ميلاً. وروى عن علي رضي الله عنه أنه خرج من قصره بالكوفة حتى أتى النخيلة فصلى بها الظهرّ والعصر ركعتين ثم رجع من يومه فقال: أردت أن أعلمكم سنتكم. وعن جبير بن نفير قال خرجت مع شرحبيل بن السمط إلى قرية على رأس سبعة عشر ميلاً، أو ثمانية عشر ميلاً فصلى ركعتين فقلت له فقال: رأيت عمر بن الخطاب يصلي بالخليفة ركعتين، وقال: إنما فعلت كما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل رواه مسلم. وعن أبي سعيد الخدري قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سافر فرسخا -أي ثلاثة أميال- قصر الصلاة وقال أنس كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين. شعبة الشاك رواه مسلم وأبو داود. فهذه النصوص وغيرها كثير يدل على أن هناك من يرى جواز القصر في أقل من ستة وثلاثين ميلاً. انظر تفصيل ذلك في المغني لابن قدامة: 2/ 48.

(2/547)


جزماً (1) لا تردد فيه، ولا يحتسب بالرجوع من ذلك السفر وإن لم يُقِم بعد وصوله إلا دون ما تحصل به الإقامة. بل يحسب تماديه على مسيرة واحدة إلى نهاية يقصدها. وإن كان في ذلك ما حددناه من الطول قصر وإلا فلا. فإن تخلل سفره إقامة؛ فلا يخلو أن يكون (2) دون ما يوجب الإتمام، أو مقدار ما يوجب الإتمام. فإن كان دون ما يوجب الإتمام كاليوم واليومين والثلاثة، فلا خلاف أنه يحاسب بالمسير ويطرح الإقامة، فإن كان في جملة مسيره مقدار ما تقصر الصلاة فيه قصر وإلا فلا.
وإن كانت الإقامة مما يوجب الإتمام كالأربعة الأيام وما فوق، فهل يطرح تلفيق المسير؟ في المذهب قولان: أحدهما: إطراحه وتلفيق المسير، لأنه يحصل منه مقدار يقصر فيه الصلاة وإن لم يتم إلا بنية العزيمة على السفر. والثاني: نفي التلفيق، لأن السفر الأول تعلق بنهاية لا تقصر فيه الصلاة، والعزيمة على السفر بعد الإقامة عزيمة ثانية، فيعطى لكل سفر حكمه.
وهذا إذا لم تكن الإقامة في وطن، فإن كانت في وطن فلا يختلف في اطراح التلفيق ومراعاة الإقامة. ولو كان الأمر بالعكس؛ وهو أن يخلل إقامته سفر فهل يلفق الإقامتين (3) أم لا؟ في المذهب قولان. ومثاله مسألة المدونة في الذي أوطن مكة ثم بدا له أن يتنقل عنها فيذهب إلى الجحفة (4) ويعتمر منها ويعود إلى مكة ثم يخرج منها. فإنه لا شك بأنه يقصر في خروجه إلى الجحفة ورجوعه منها إذ ذلك مقدار تقصر فيه الصلاة.
__________
(1) في (ق) حتما.
(2) في (ق) وأن ارتحاله في سفر فلا يخلو أن يكون، وفي (ر) كان ارتحاله سفره إقامة فلا يخلو أن يكون.
(3) في (ق) الأميال.
(4) قال ياقوت الحموي: "الجحفة بالضم ثم السكون كانت قرية كبيرة ذات منبار على طريق المدينة من مكة على أربع مراحل وهي ميقات أهل مصر والشام إن لم يمروا على المدينة فإن مروا بالمدينة فميقاتهم ذو الحليفة وكان اسمها مهيعة وإنما سميت الجحفة لأن السيل اجتحفها وحمل أهلها في بعض الأعوام".

(2/548)


وهل يتم في الأيام التي يقيم فيها بمكة بعد العودة إليها معتمراً؟ (1) في المدونة قولان (2). وهما على ما قدمنا من الخلاف في تلفيق الإقامة.
ومنه أيضاً من سافر في البحر من موضع، ثم ردته الريح [إلى الموضع الذي سافر منه] (3) فهل يقصر فيه أو يتم؟ أما إن كان وطنه فلا خلاف أنه يتم، وإن كان غير وطنه ولم ينو فيه دوام الإقامة فهل يقصر؟ قولان، هما على ما قدمناه من الخلاف في تلفيق الإقامة.
ولو خرج المسافر بنية أن يبلغ موضعاً لا تقصر في مثله الصلاة ينتظر أصحابه فيه. فلا يخلو من أن يكون عازماً على السفر من ذلك الموضع، سافر أصحابه أم لا؟ فهذا لا خلاف بأنه يقصر وإن لم ينو الإقامة في ذلك الموضع مدة توجب الإتمام، أو يكون لا يسير إلا يسير أصحابه. فإن لم يسر ورجع، فلا خلاف أنه لا يقصر إلا بعد انفصاله من موضعهم (4)، ويكون مقدار سفره من ذلك الموضع مدة تقصر فيه الصلاة. أو يكون متردداً هل يسافر أم لا؟ فهذا يحكي الأشياخ فيه قولين: أحدهما: الالتفات إلى العزيمة الأولى، وهو عليها حتى يتيقن بالعودة. والثاني: الالتفات إلى أن الأصل الإقامة، فلا ينتقل عن حكمها إلا بيقين التمادي على السفر.

...

فصل [في مبدأ السفر] (5).
وإذا بدأ (6) السفر بحضرة الصلاة فمن أين يقصر؟ فلا يخلو إما أن
__________
(1) في (ق) متعمداً.
(2) المدونة 1/ 120.
(3) ساقط من (ر).
(4) في (ق) موضعه.
(5) ساقط من (ق) و (ر).
(6) في (ت) أبدى وفي (ق) ابتدأ.

(2/549)


يكون سفره من مصر من الأمصار، أو من قرية، أو من بيوت العمود (1). فإن كان سفره من مصر من الأمصار ولا بناء حول المصر ولا بساتين، فهل يقصر الصلاة لمفارقته [السور] (2)، أم لا حتى يجاوز ثلاثة أميال وهو المقدار الذي يجب منه إتيان الجمعة؟ في المطب قولان: المشهور أنه يقصر بالمفارقة (3) لأنه قد خرج عن حكم الحضر، وقال ابن الماجشون: "لا يقصر حتى يجاوز البلد بثلاثة أميال". ورأى أن هذا المقدار لما وجبت الجمعة على من فيه كان في حكم البلد. ولم يلتفت إلى ذلك في المشهور؛ لأن الجمعة إنما وجبت علي من (4) كان في مثل هذا المقدار، لأن النداء أبلغ إليه.
وإن كان حول المصر بناء معمورة وبساتين؛ فإن اتصلت به وكان في حكمه فلا يقصر حتى يجاوزها [بثلاثة أميال] (5)، وإن لم تتصل به وكانت قائمة بأنفسها قصر وإن لم يجاوزها.
فإن كان الموضع [الذي سافر منه] (6) قرية لا تقام فيها الجمعة ولا بناء متصل بها ولا بساتين، [قصر إذا فارق بيوت القرية بلا خلاف، وإن كان متصلاً بها بنيان (7) أو بساتين] (8) فكما قدمناه في المصر.
وإن كان السفر من بيوت العمود، فإذا فارق البيوت التي سافر عنها قصر بلا خلاف في المذهب.
...
__________
(1) يقصد بيوت الرحل التي تكون غالباً عبارة عن خيام.
(2) ساقط من (ق) و (ر).
(3) في (ق) و (ت) بالمفازة.
(4) في (ر) في من.
(5) ساقط من (ر) و (ت).
(6) ساقط من (ق).
(7) في (ت) و (ر) بنياناً.
(8) ساقط من (ق).

(2/550)


فصل (في منتهى السفر)
وأما منتهى السفر فهو العودة منه. ففي كل موضع يجوز له القصر بمفارقته فيجوز له القصر إذا عاد إليه. ويختلف إذا كان بينه وبين المصر ثلاثة أميال على الخلاف الذي قدمناه.

...

فصل (في محل القصر)
وأما الركن الثاني: فهو محل القصر. [ومحل القصر] (1) في الصلاة الرباعية، فلا تقصر المغرب ولا الصبح بإجماع الأمة.

(شروط القصر)
وأما الركن الثالث: وهو شرط القصر، فإن السفر إذا حصل على الصفات التي قدمناها جاز القصر، كان متكلِّفاً للمشقة بسفره أو مترفِّهاً. وقد قال مالك رحمه الله في النواتية (2) يسافرون [في البحر] (3) معهم الأهل والولد أنهم يقصرون (4). وكذلك لو سافر في البر (5) بأهله وولده فكان على غاية الرفاهية والتنعم لجاز له القصر. فإن وصل إلى موضع إقامة؛ فإن كان وطناً له أتم به ولو لم يقم فيه إلا مقدار صلاة واحدة.
وبأي شيء يحصل الوطن؟ أما إن كان بموضع فيه زوجته أو سريته فهو وطنه. وإن كان ولده وخدمه وما في معناهم فلا يكون وطناً بمجرد
__________
(1) ساقط من (ق).
(2) هم الملاحون.
(3) ساقط من (ر) و (ت).
(4) انظر المدونة 1/ 119.
(5) في (ت) البحر.

(2/551)


ذلك حتى يتخذه موضع الاستيطان. وكذلك لو لم يكن له بالموضع أحد واستوطنه لكان حكمه حكم الوطن.
وإن كان الموضع ليس بوطن له فلا يزال يقصر (1) وإن طالت إقامته به إذا لم يعول على إقامة أربعة أيام، وإن عول على إقامتها فلا خلاف عندنا أنه يتم. وهذا لأنه - صلى الله عليه وسلم - نهى المهاجرين عن الإقامة بمكة واستبدالها بالمدينة، فأجاز لهم إقامة ثلاثة أيام (2). فأخذ أصحابنا من هذا أن ثلاثة أيام في حكم السفر، ولا يحصل به الاستيطان. وأن ما زاد على ذلك في حكم الإقامة الموجبة للإتمام. وهل (3) يراعى مقدار صلاة الأربعة أيام، أو يراعى كمالها؟ في المذهب قولان: أحدهما: مراعاة الصلاة وهو المعول عليه، والحكم متعلق بها. والثاني: أن المراعى كمال الأيام لأنها المنصوص عليها في الحديث الذي جعلناه أصلاً. ومثال هذا أن يدخل في يوم وقد صلى الصبح والظهر مثلاً وينوي الخروج في اليوم الرابع بعد أن يصلي الصبح والظهر فهاهنا قولان: أحدهما: الإتمام، والثاني: القصر.
وتحصل الإقامة بالنية لأنه الأصل، بخلاف السفر فإنه لا يحصل إلا بالنية والفعل؛ لأن الأصل الإقامة والسفر طارئ، فلا يكفي فيه مجرد النية. وهذا كما قالوا في السلع (4) إنما تعود إلى القنية بمجرد النية ولا تعود (5) إلى التجارة بمجرد النية. لأن الأصل في السلع (6) القنية لا التجارة (7).
__________
(1) في (ق) فلا يزول تقصيره حتى وإن طالت إقامته.
(2) أخرج البخاري في المناقب 3933، ومسلم في الحج 1352 عن الْعَلَاء بن الحَضرَمِيَّ قال: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "لِلمُهَاجِرِ إقَامَةُ ثَلاَث بَعْدَ الصَّدَرِ بِمَكةَ".
(3) في (ق) و (ت) و (ر) فهل.
(4) في (م) السلم.
(5) في (م) وهل تعود.
(6) في (م) السلم.
(7) في (ق) القنية للتجارة.

(2/552)


فإذا نوى المسافر الإقامة فإن كان في غير صلاة أتم من وقت نيته، وإن كان في صلاة افتتحها على اثنتين. فهل له إتمامها أربعاً؟ في المذهب قولان. وهما جاريان على ما قدمناه من الالتفات إلى عدد الركعات في ابتداء الصلوات. فإذا قلنا لا يتمها، فهل تجزي الركعتان لأنه افتتحها بوجه جائز؟ في ذلك قولان. وإذا قلنا لا تجزيه، فهل يقطع ويبتدئ الصلاة أو يتمها بنية النافلة؟ فيه قولان.
وسبب الخلاف أنه هاهنا لا بدّ من القطع. إما في الفعل أو في النية، فأيهما يغلب؟ هذا موضع الخلاف [للمتقدمين من الأصحاب] (1). فإذا قلنا إنه يقطع ويبتدئ؛ فإن كان إماماً استخلف من يتم بالقوم. قال في الرواية: "ويرجع هو وراء المستخلف فيقتدي به بعد أن يقطع الأول، وإذا قلنا بأنه يتمها أربعاً فهل يجتزي بها أو يعيد؟ في ذلك قولان. والإعادة لمراعاة الخلاف.
...

فصل (علة قصر الحاج إذا خرج من مكة للوقوف بعرفة)
وقد قدمنا من كان في نهاية سفره دون ما تقصر فيه الصلاة، فإنه لا يقصر. وإن عول على العودة من غير إقامة فلا يضيف إلى ذلك مسافة العودة. والمذهب بلا خلاف أن المكي إذا خرج للوقوف بعرفة وأفعال الحج قصر، وليس بينه وبين عرفة من المسافة ما تقصر فيه الصلاة. وقد قيل في علة قصر هذا (2) ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه يتردد في أفعال الحج تردداً لازماً لا يجوز له قطعه. ومسافة تردده أكثر مما تقصر فيه الصلاة. وهذا يحسب تردده [من مكة إلى عرفة، ومن عرفة إلى مزدلفة، ومن مزدلفة إلى منى، ومن منى إلى مكة.
__________
(1) ساقط من (ق) و (م) وخرم في (ت).
(2) في (م) قصره هذا، وفي (ر) قصر هذه.

(2/553)


وهذا تردد] (1) لازم (2) له شرعاً، بخلاف غيره من الأسفار التي يجوز قطعها متى شاء.
والثاني: لا يصل إلى عرفة إلا بعد اليوم والليلة، واليوم والليلة مما تقصر فيه الصلاة، وإقامته أيضاً في السفر هذه المدة إقامة لازمة في هذا السفر، فكان كالقطع للطريق (3) في ذلك.
والثالث: أن العودة هاهنا لازمة شرعاً فاحتسب بها، بخلاف ما لا يلزمه فيه (4) العودة.
والفرق بين هذا وبين الوجه الأول، أن الأول راعى فيه تصرفاته في المسير، وهذا راعى فيه المسير والعودة. على أن الأوجه الثلاثة تتداخل على الحقيقة. وقد اختلف المذهب في المدني والمكي يصليان في المحصب (5)، هل يقصران هناك أم لا؟ وخرج أبو الوليد الباجي هذا على الخلاف في التحصيب؛ وهو النزول بالمحصب، هل هو مشروع فيقصران للزوم الصلاة فيه، أو غير مشروع فلا يقصران؟
...

فصل (في المسافر يحضر وفي ذمته الظهر والعصر وقد ضاق الوقت)
وقد قدمنا أن المراعى في الخطاب بالصلاة بقاء الوقتين الاختياري والضروري. وعلى هذا من حضر من المسافرين وقد بقي في الوقت للظهر
__________
(1) ساقط من (ق).
(2) في (ق) للزوم.
(3) في (ق) في الطريق.
(4) في (ق) فيها.
(5) المحصب موضع بين مكة ومنى. ويطلق كذلك على موضع رمي الجمار. انظر لسان العرب 1/ 319.

(2/554)


والعصر مقدار خمس ركعات، فإنه يصليهما حضريتين. وإن كان مقدار أربع [ركعات] (1) فأقل صلى الأولى سفرية وإذا وقتها فات فيقضيها على نحو ما وجبت. والثانية حضرية.
فلو بقي للثانية مقدار الركوع خاصة فهل يكون مدركاً لها؟ يجري على القولين اللذين قدمناهما في الحائض تطهر. ولو خرج لراعى في وقتي الصلاتين كما يراعيه إذا دخل، لكن الخارج يحسب كل (2) صلاة ركعتين.
وأما المغرب والعشاء فقد قدمنا الخلاف هل يجعل الوقت لآخر الصلاتين أو لأولهما، فيفرع على ما هناك.
ولو صلى المسافر مثلاً العصر ناسياً للظهر ودخل، وقد بقي من الوقت مقدار صلاة واحدة، فهل يصلي (3) التي في ذمته (4) سفرية أو حضرية؟ فيه قولان. وهما على الخلاف في الاشتراك، هل هو من الزوال، أو من بعد مضي مقدار الصلاة الأولى؟ وقد استوفينا هذا في حكم أصحاب الضرورات. وهكذا لو دخل ولم يبق إلا مقدار إحدى الصلاتين، فإنه يختلف هل يبتدئ بالأولى لحق الترتيب -وهو المشهرر- أو بالثانية لحق الوقت. ويلحق أيضاً هذا الخلاف في الاشتراك متى يقع.
ويختلف عليه هل يصلي الأولى إذا بدأ بها سفرية أو حضرية؟ فإن بدأ بالثانية صلى الأولى سفرية بلا خلاف؛ لأنها قد استقرت في ذمته. ولنقبض (5) عنان البيان عن هذا المكان، وقد خرجنا في هذا الباب عن مقصود الكتاب.

...
__________
(1) ساقط من (ر) و (ق).
(2) في (ق) و (ت) لكل.
(3) في (ق) فهل يصلي الظهر.
(4) في (ت) وقتها.
(5) في (ق) لنقتصر.

(2/555)


فصل (جواز ركوب البحر)
وركوب البحر للأسفار مباح على الجملة، ما لم يعرض عارض ما، يمنع من الركوب. ومن الأعراض الإخلال بالصلاة بالميد (1)، فمن يعلم من حاله أنه يميد حتى تفوته الصلاة في أوقاتها، أو لا يقدر على أدائها جملة، فإن المنصوص من المذهب أنه لا ينبغي له ركوبه إلا إلى حج أو جهاد. وهذا لأنه يطلب فرضاً فيعطل فروضاً آكد منه. وإن كان لا يقدر على الأداء إلا بإخلال فرض من الفروض والانتقال منه إلى بدل، كمن يعلم أنه لا يصلي قائما، فهذا إن وجد عنه مندوحة لم يركب، وإن لم يجد فقد يختلف فيه على الخلاف في القياس على الرخص؛ فمن قال بالقياس أجاز الركوب، كما له أن ينتقل عن طهارة الماء إلى طهارة التراب في السفر في المفازات والقفار، وإن حمله على ذلك طلب الدنيا. ومن لم يقل بالقياس عليها منع الركوب إذا كان يؤدي إلى إخلال ببعض الفرائض (2).
وإن شك في أمره هل يسلم من الميد أم لا؟ فقد قالوا: يكره له الركوب ولا يمنع؛ لأن الأصل السلامة والقدرة على الأداء. وقد قدمنا حكم الصلاة في السفينة الواحدة والسفن في الجمع. وإذا فرقت الريح السفن فهاهنا في الكتاب في قوم يكونون في السفينة إن صلوا جمعوا وحنوا (3) رؤوسهم، وإن صلوا على ظهرها لم يمكنهم الجمع، إن الصلاة على ظهرها أفذاذاً أولى (4). وهذا محمول على أن الانحناء كثير، وأما لو كان يسيراً لكان الجمع أولى. وإن أمكن من مكان في السفينة الخروج إلى الشاطئ خرج إليه وإن أدى الصلاة في السفينة على الكمال؛ لأن الصلاة على الشاطئ أقرب إلى الخشوع والأمن من طريان المفسدات. فإن صلى
__________
(1) يقال ماد به البحر يميد به ميداً، والمائد الذي يركب البحر فتغثى نفسه من نتن ماء البحر حتى يدار به ويكاد يغشى عليه. انظر لسان العرب 3/ 412.
(2) في (ت) إلى الخلال ببعض الفروض، وفي (ق) و (ر) خلال بنص الفروض.
(3) في (ر) حطوا.
(4) انظر المدونة 1/ 123.

(2/556)


في السفينة [وكمل] (1) أجزته صلاته. وإن أخل بفروض مع قدرته على الخروج بطلت صلاته، وإن لم يقدر صحت. وقد قدمنا حكم صلاة النافلة في السفينة هل يلزم فيه التوجه إلى القبلة أم لا؟
...

فصل (في حكم ركعتي الفجر)
وقد قدمنا كثيراً من أحكام ركعتي الفجر منها؛ هل هي سنة أم لا؟ وحكم من صلاها أو لم يصلها ثم أتى المسجد. ولا خلاف أن وقت ركعتي الفجر بعد طلوع الفجر وإن صلاهما قبله عامداً (2) أو ناسياً لأعادهما، وإن تحرى فأخطأ الوقت هل يعيد؟ قولان: المشهور: أنه يعيدهما، والثاني: الاجتزاء بهما. فقاسهما في الأول على الفرائض، وعده في الثاني بالخطأ في الاجتهاد؛ لأنه مأذون له في التحري.
وبأي شيء يقرأ فيهما؟ استحب مالك رحمه الله في المشهور الاقتصار على أم القرآن في كل ركعة، لما روي عن عائشة رضي الله عنها من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخففهما حتى أقول هل قرأ فيهما بأم القرآن أم لا؟ (3) وفي مختصر ابن شعبان: يقرأ فيهما بأم القرآن وسورة في كل ركعة من قصار المفصل. وهذا لما روي عنه - صلى الله عليه وسلم -: أنه قرأ في الأولى بقل يا أيها الكافرون (4)، والثانية بقل هو الله أحد (5). وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قرأ في الأولى:
__________
(1) ساقط من (ق).
(2) في (ر) قاصداً.
(3) أخرج البخاري في الجمعة 1165، ومسلم في المسافرين 724 واللفظ له عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلَّي رَكعَتَيِ الْفَجرِ فَيُخَفِّفُ حَتَّى إِنِّي أَقُولُ: هَلْ قَرَأَ فِيهِمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ.
(4) في (ق) بأم القرآن وقيل يا أيها.
(5) أخرج مسلم في المسافرين 726 واللفظ له، والنسائي في الافتتاح 945 عَنْ أَبي هُريرَةَ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَرَأَ فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ وَقُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ.

(2/557)


{آمَنَّا بِاللَّهِ} الآية (1)، وفي الثانية: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ} الآية (2)، وهذا يدل على أن جميع هذا جائز. ولا شك أن القراءة إذا لم تتعين في الفرائض فلا تتعين في النوافل، يعني القراءة الزائدة على أم القرآن. وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يضطجع ضجعة خفيفة بين ركعتي الفجر وصلاة الصبح (3). واختلف هل هي مشروعة أم لا؟ المشهور أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما فعلها على جهة الراحة لا للتقرب فتكون [غير] (4) مشروعة. وبين الأصوليين خلاف في أفعاله كلها هل يقتدى به فيها أو يختص الأمر بالاقتداء بما يظهر منه قصد القربة؟ فهذا مذهب جمهورهم وهو موافق للمشهور في هذه المسألة.

...