التنبيه على مبادئ التوجيه - قسم العبادات

باب في أحكام صلاة الخوف
ولا خلاف أن للخوف تأثيراً في الصلاة على الجملة، وعندنا أنه يؤثر في الهيئة لا في العدد. والمسافر يصلي ركعتين، والحاضر على ما نبيّنه يصلي أربعاً. والخوف على قسمين:

(الخوف الذي يمنع من الجمع وأداء الصلاة على هيئتها)
قسم يمنع الجمع، ويعجز (2) عن إكمال الصلاة على هيئتها المعهودة. وذلك بأن يكون من وجب عليه إكمال الصلاة في حال المطاعنة والمضاربة وما في معناه، فهذا يمهل المكلف عندنا حتى إذا خاف فوات الوقت صلى بحسب ما أمكنه، ولا يشترط استقبال القبلة إن لم يمكنه الاستقبال للركوع والسجود، ولا القيام، ولا لزوم موضع واحد، ولا ترك فعل يحتاج إليه من الطعن والضرب والكر والفر، أو قول يفتقر إليه من التنبيه لغيره والتحذير لعدوه إن افتقر إلى ذلك بالجملة بقولِ أو فعلِ كل ما يضطر إليه. ويترك من أحكام الصلاة كل ما هو مضطر إلى تركه، وتجزيه صلاته.
والأصل في ذلك قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} (3) ,وما
__________
(1) في (ق) ثم.
(2) في (ق) يحصر وفي (م) و (ت) و (ر) يعجل، ولعل الصواب ما أثبته وهي في (ل).
(3) البقرة: 239.

(2/637)


روي عنه -صلى الله عليه وسلم -أنه أخَّر الصلاة في يوم الخندق حتى غربت الشمس (1)، فإنما ذلك قبل نزول حكم صلاة الخوف.
ويستوي في هذا حكم الحاضر والمسافر. [ولا أعلم بين المتأخرين] (2) خلافاً في حكم هذه الصلاة على الجملة، وأن الخوف الذي هو صفته مؤثر في الصلاة، وإن اختلفوا في التفاصيل.
فإذا افتتحت الصلاة على هذه الصفة لوجود الخوف، ثم ارتفع في أثنائها ولم يبق ما يخاف ولا ما يطلب، فإنهم يتمونها على حالة الكمال وتجزي. ويكون ذلك بمنزلة من افتتح صلاته جالساً (3) أو مضطجعاً ثم صحَّ في أثنائها.
وإن انهزم العدو في أثناء الصلاة فهل يباح إكمالها مع الاشتغال والطلب، أو يشتغل بإكمال الصلاة على هيئتها من غير خوف؟ في المذهب قولان. والظاهر أنها خلاف في حال لا في فقه؛ فإن علم انهزام العدو وأمنت عودته وكان إن ترك لا يخشى [مضرته (4) في أثناء حال الاشتغال بإكمال الصلاة (5) وإن لم تؤمن] (6) عودته أو خيف إن لم يستأصل عودته ومضرته جاز طلبه مع مخالفة هيئة الصلاة.

(الخوف الذي يتوقع فيه مضرة العدو)
والقسم الثاني خوف يتوقع فيه مضرة (7) العدو إن اشتغل (8) الكل
________
(1) أخرج البخاري في الجهاد 2931 واللفظ له، ومسلم في المساجد 627 عَنْ عَلِيِّ رَضِي الله عَنْه قَالَ لَمَّا كَانَ يَومُ الأَحْزَاب قَالَ رَسُولُ اللهِ:"مَلأ اللهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُوَرَهُمْ نَاراً شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ".
(2) ساقط من (ر).
(3) في (ق) بالإيماء جالساً.
(4) في (ق) عودته.
(5) لم أقف على جواب الشرط في كل النسخ.
(6) ساقط من (م) و (ق).
(7) في (ت) يتوقع فيه مع معرفة، وفي (ق) يتوقع فيسمعون.
(8) في (ت) و (ر) و (ق) وإن اشتغال.

(2/638)


بالصلاة، فإن أرادوا أن يصلوا أفذاذاً فذلك (1) لهم إذا كان الموضع مما [لا] (2) يشتمل عليه حكم الإمام. وهكذا لو أرادوا أن تصلي طائفة [بإمام وأخرى بإمام] (3) جاز كما قدمناه. وإن أراد الإمام أن يصلي بالكل جماعة يفرقهم لطائفتين؛ فإن كانوا في سفر، فجمهور العلماء على جواز ذلك على الجملة، والأصل في ذلك فعل الرسول عليه السلام وإقتداء الصحابة في بعده. وقد صلاَّها علي وغيره من الصحابة بطائفتين على ما سنذكره. وقوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} (4) الآية لا يقتضي عند الجمهور اختصاص الوصول عليه السلام بذلك، بل خوطب بهذه الآية الإمام, وكل من كان إمامًا بعده فإنه حالٌّ محله في هذا المعنى. قال ابن القصار: المروي عنه -صلى الله عليه وسلم - أنه صلاها في عشرة مواضع (5) والذي عوَّل
__________
(1) في (ر) أفذاذاً أو جماعة وينفرد البعض فيصلون وحدهم أفذاذاً بعدهم فذلك.
(2) ساقط من (ق) و (م).
(3) في (ر) بإمام واحد.
(4) النساء: 102.
(5) قال الشوكاني:"وقد اختلف في عدد الأنواع الواردة في صلاة الخوف فقال ابن القصار المالكي: أن النبي-صلى الله عليه وسلم-صلاها في عشرة مواطن. وقال النووي: أن يبلغ مجموع أنواع صلاة الخوف ستة عشر وجهاً كلها جائزة وقال الخطابي: صلاة الخوف أنواع صلاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أيام مختلفة وأشكال متباينة يتحرى في كلها ما هو أحوط للصلاة وأبلغ. في الحراسة فهي على اختلاف صورها متفقه المعنى. وسرد ابن المنذر في صفتها ثمانية أوجه وكذا ابن حبان وزاد تاسعاً وقال ابن حزم: صح فيها أربعة عشر وجهاً وبينها في جزء مفرد. وقال ابن العربي: جاء فيها روايات كثيرة أصحها ست عشرة رواية مختلفة ولم يبينها، وقد بينها العراقي في شرح الترمذي وزاد وجهًا آخر فصارت سبعة عشر وجهاً وقال في الهدى أصولها ست صفات وبلغها بعضهم أكثر وهؤلاء كما رأوا اختلاف الرواة في قصة جعلوا ذلك وجهًا فصارت سبعة عشر لكن يمكن أن تتداخل أفعال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنما هو من اختلاف الرواة. قال الحافظ: وهذا هو المعتمد، وقال ابن العربي إيضاً صلاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعاً وعشرين مرة. وقال أحمد ثبت في صلاة الخوف ستة أحاديث أو سبعة أيها فعل المرء جاز". نيل الأوطار: 4/ 3.

(2/639)


عليه العلماء وثبت عندهم ثلاثة مواضع: ذات الرقاع (1) وعسفان (2) وذات النخيل.
__________
(1) أخرج البخاري في المغازي 4130، ومسلم في المسافرين 842 واللفظ له عن يحيي بن يحيي قال: قرأت على مالك عن يزيد بن رومان عن صالح بن خوات عمن صلى مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف أن طائفة صفت معه وطائفة وجاه العدو فصلى بالذين معه ركعة ثم ثبت قائمًا وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت ثم ثبت جالسًا وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم.
وسبب تسميتها بذات الرقاع كما في صحيح مسلم في كتاب المغازي 1816 عن أبي موسى قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه قال فنقبت أقدامنا فنقبت قدماي وسقطت أظفاري فكنا نلف على أرجلنا الخرق فسميت غزوة ذات الرقاع لما كنا نعصب على أرجلنا من الخرق.
(2) قال ابن كثير:"لما أصيب خبيب وأصحابه خرج رسول الله طالباً بدمائهم ليصيب من بني لحيان غرة فسلك طريق الشام ليرى أنه لا يريد بني لحيان حتى نزل بأرضهم فوجدهم قد حذروا وتمنعوا في رؤوس الجبال فقال رسول الله: لو أنا هبطنا عسفان لرأت قريش أنا قد جئنا مكة فخرج في مائتي راكب حتى نزل عسفان ثم بعث فارسين حتى جاءا كراع الغميم ثم انصرفا فذكر أبو عياش الزرقي أن رسول الله صلى بعسفان صلاة الخوف وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق حدثنا الثوري عن منصور عن مجاهد عن ابن عياش قال: كنا مع رسول الله بعسفان فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة فصلى بنا رسول الله صلاة الظهر فقالوا قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم ثم قالوا تأتي الآن عليهم صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم قال فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة قال فحضرت فأمرهم رسول الله فأخذوا السلاح فصففنا خلفه صفين ثم ركع فركعنا جميعًا ثم رفع فرفعنا جميعًا ثم سجد بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم فلما سجدوا وقاموا جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء قال: ثم ركع فركعوا جميعًا ثم رفع فرفعوا جميعًا ثم سجد الصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم فلما جلسوا جلس الآخرون فسجدوا ثم سلم عليهم ثم انصرف قال فصلاها رسول الله مرتين مرة بأرض عسفان ومرة بأرض بني سليم ثم رواه أحمد عن غندر عن شعبة عن منصور به نحوه وقد رواه أبو داود عن سعيد بن منصور عن جرير بن عبد الحميد والنسائي عن الفلاس عن عبد العزيز بن عبد الصمد عن التعليق". البداية والنهاية: 4/ 81.

(2/640)


وهل يصليها إمام واحد بطائفتين في الحضر؟ في المذهب قولان: المشهور جوازه، والشاذ منعه.
وسبب الخلاف ما قدمناه من الخلاف في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} (1)؛ هل هو قصد عدد، أو قصد هيئة؟ فإن قلنا إنه قصد عدد جاء منه المشهور، وإن قلنا إنه قصد هيئة جاء منه اختصاص السفر بالصلاة والخوف كما في الشاذ. ويحتج هؤلاء بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يصليها كذلك يوم الخندق مع حاجته إلى صلاتها بطائفتين. وقد قدمنا ما قيل بأن ذلك كان قبل نزول صلاة الخوف.

(كيفية الجمع في الخوف)
وإذا تقرر ما قلناه وأوجب [الخوف] (2) منع الجمع إلا أن تكون طائفة مواجهة العدو، فكيف صورة أدائها؟ لا خلاف عندنا أن الإمام يقسم الجيش إلى قسمين فيصلي بالقسم الأول شطر الصلاة إن كانت ثنائية أو رباعية، وبالقسم الثاني شطرها. وإن كانت صلاة ثلاثية كصلاة المغرب صلىَّ الأول ركعتين وبالثاني (3) ركعة. وإذا صلى بالأول كما قلنا فهل يتمون لأنفسهم أم ينصرفون قبل الإتمام؟ (4) في المذهب قولان: المشهور أنهم يتمون لأنفسهم ثم ينصرفون وقد كملوا الصلاة. والقول الثاني أنهم ينصرفون قبل أن يكملوا فيكونوا مواجهة العدو وهم في حكم الصلاة.
وسبب الخلاف اختلاف الرواية في الحديث عن صلاته - صلى الله عليه وسلم -في ذات الرقاع، فروى ابن عمر أن الطائفة الأولى لم تكمل إلا بعد صلاة الإمام،
__________
(1) النساء:101.
(2) ساقط من (ر).
(3) في (ر) و (ت) الثانية.
(4) في (ق) و (ت) الإتمام.

(2/641)


كالقول (1) الشاذ. وروى القاسم بن محمد (2) ويزيد بن رومان (3) أنهم أكملوا. والآية محتملة للقولين، فقوله تعالى: {فَإِذَا سَجَدُوا} (4) يحتمل أن يريد: سجدوا مع الإمام، ويحتمل أن يريد: سجدوا لأنفسهم. والعبارة بالسجود هاهنا عن إكمال الركعة، وآخر ما يفعل منها السجود.
ومن جهة المعنى لأنه لا بدّ من الوقوع في أحد المكروهين؛ إما السلام قبل الإمام وأصول الشريعة تقتضي منعه، وإما العمل من المشي والحراسة والانتظار وأصول الشريعة تقتضي منعه، والنظر إلى التغليب هو مثار الخلاف.
وإذا قلنا إنهم يكملون لأنفسهم فإن كانت صلاة [حضر] (5) أو صلاة المغرب فهل يجلس الإمام حتى تأتي الطائفة الثانية بعد كمال هذه، أو يقوم فينتظرهم قائمًا؟ في المذهب قولان. وسببهما أيضًا تقابل مكروهين. ومنها زيادة جلوس مستغنى عنه أو وقوف كذلك.
وإذا قلنا إنه يقوم، فهل يقرأ أو يسبح أو يذكر الله تعالى؟ في المذهب قولان. وهما على ذلك الأصل أيضاً, لأن المشروع افتتاح الصلاة بالقراءة، ومتى فعل (6) ذلك، فاتت الطائفة الثانية القراءة، ولا بد من الوقوع في أحد
__________
(1) في (ر) الإمام انظر كالقول.
(2) هو: القاسم بن محمد أبو خليفة رسول الله-صلى الله عليه وسلم- أبي بكر الصديق .. الإمام القدوة الحافظ الحجة عالم وقته بالمدينة مع سالم وعكرمة أبو محمد وأبو عبد الرحمن القرشي التيمي البكري المدني ولد في خلافة الإمام علي، فروايته عن أبيه عن جده انقطاع على انقطاع فكل منهما لم يلحق أباه، وربي القاسم في حجر عمته أم المؤمنين عائشة وتفقه منها وأكثر عنها، حدث عنه خلق كثير قال ابن المديني: له مئتا حديث .. وكان ثقة عالماً رفيعاً فقيها إماماً ورعًا كثير الحديث. سير أعلام النبلاء 5/ 53 - 60.
(3) هو: أبو روح يزيد بن رومان القارئ مولى آل الزبير بن العوام المدني سمع ابن عباس وعروة بن الزبير رضي الله عنهم وروى القراءة عنه عرضًا نافع ابن أبي نعيم. توفي يزيد في سنة ثلائين ومائة. وفيات الأعيان: 6/ 277.
(4) النساء:102.
(5) ساقط من (ر).
(6) في (ق) فتح.

(2/642)


المكروهين. وإن كانت صلاة سفر (1) أو الصبح قام بلا خلاف.
ويختلف هل يقرأ أو يسبح (2) كما قدمنا؟ قال بعض الأشياخ: أما حيث لا تكون القراءة إلا بفاتحة الكتاب فينبغي أن يسبح، لأنه إن لم يفعل ذلك فاتت القراءة جملة. وأما حيث تكون القراءة بأم القرآن وسورة فيفتح بالقراءة, لأنهم يدركون بعضها.
وإذا قلنا إنهم لا يكملون، فمتى يكون قضاؤهم اختلف في التأويل عن (3) أشهب وهو القائل بأنهم لا يكملون فقيل: تقضي الطائفتين إذا أكمل الإمام بالطائفة الثانية ويكون الإمام وحده [مواجهة العدو] (4)، وقيل تقضي الطائفة الثانية ثم ينصرف فتأتي الأولى فتقضي. وهذا هو الصحيح، ولو لم يفعل ذلك واشتغلت الطائفتان بالقضاء، لخيف معرفة العدو ولم يكن للتفريق فائدة.
واختلف على القول بأن الطائفة الأولى تكمل الصلاة ثم تأتي الثانية فيصلي بهم هل يسلم عند انقضاء صلاته، أو ينتظرهم حتى إذا أكملوا سلم بهم؟
وسبب الخلاف اختلاف الروايتين رواية القاسم ورواية يزيد؛ ففي رواية القاسم أنه صلى الله عليه وسلم عند إكمال صلاته (5)، وفي رواية يزيد أنه
__________
(1) في (ر) ظهر.
(2) في (ق) أو يذكر.
(3) في (ق) على.
(4) ساقط من (ر) و (ق).
(5) في (ق) الصلاة.
والحديث هو ما رواه مالك عن يحيي بن سعيد عن القاسم بن محمد عن صالح بن خوات الأنصاري "أن سهل بن أبي خيثمة حدثه أن صلاة الخوف أن يقوم الإمام ومعه طائفة من أصحابه وطائفة مواجهة للعدو فيركع الإمام ركعة ويسجد بالذين معه ثم يقوم فإذا استوى قائماً وثبت وأتموا لأنفسهم الركعة الباقية ثم سلموا وانصرفوا والإمام قائم وكانوا وجاه العدو ثم يقبل الآخرون الذين لم يصلوا فيكبرون وراء الإمام يركع بهم ويسجد ثم يسلم فيقومون فيركعون لأنفسهم الركعة الباقية ويسلمون".التمهيد لابن عبد البر.

(2/643)


انتظرهم (1). والأصل السلام (2) عند الإكمال، وأما الانتظار فلِيَحْصُلَ لهم من الفضل بسلام الإمام ما حصل للأولين بالإحرام.

(كيف يسجد للسهو في صلاة الخوف)
ولو طرأ في هذه الصلاة سهو؛ فأما على القول إنهم لا يكملون فيكون سجود الجميع بعد السلام (3) إن كان السجود بعد السلام، فإن كان قبله فتتابعه الطائفة الثانية فيه، وتسجد الأولى إذا كملت لنفسها. وأما على القول بأنهم يكملون فتسجد الطائفة الأولى عند انقضاء صلاتها إن كان قبل، أو بعد السلام إن كان بعد. وأما الطائفة الثانية فعلى رواية القاسم يسجدون مع الإمام إن كان قبل [السلام] (4) عند انقضاء صلاته، وإن كان بعد، كان حكمهم حكم المسبوق، ويسجد الإمام ولا يسجدون معه إلا بعد أن يكملوا ويسلموا.
وأما على رواية يزيد فإن كان السجود بعد السلام فإذا سلم بهم سجدوا، وإن كان قبل فالمنصوص أنه يسجد (5) بهم عند إكماله. وأجراه أبو الحسن اللخمي على الخلاف في المسبوق المستخلف هل يسجد بهم عند انقضاء صلاة الإمام أو عند انقضاء صلاته؟ وهذا ليس من هذا الباب لأن الخلاف في مسألة المستخلف على تغليب حكم الإمام الأول وحكم الإمام الثاني، وهاهنا لا حكم إلا لإمام واحد، وإنما أخر السلام لتنال الطائفة الثانية فضل السلام معه، فكأنه إنما سلم بعد صلاته.

(بعض فروع هذا الباب)
هذا أصل الكلام في صلاة الخوف على المذهب وفاقاً وخلافاً. وينظر
__________
(1) سبق تخريجه قريبًا.
(2) في (ق) و (ت) سلامه.
(3) في (ر) الإمام.
(4) ساقط من (ر).
(5) في (ق) أنهم يسجدون عند إكمالهم.

(2/644)


بعده في فروع منها: لو خولفت (1) هذه الرواية (2) فصلى المغرب بثلاث طوائف، صلت معه كل طائفة بركعة. أو صلى في الحضر الصلاة الرباعية بأربع طوائف بكل طائفة ركعة.
فأما الطائفة الأولى في المغرب (3) والطائفة الثانية في الرباعية فصلاتهم باطلة باتفاق أهل المذهب. وهذا لأنهم وجب عليهم أن يأتوا بالركعة الأخرى مقتدين فأتوا بها أفذاذاً من غير عذر يطرأ على إمامهم، وذلك مما يبطل الصلاة.
وأما الإمام والطائفة الثانية في المغرب وفي الصلاة الرباعية والرابعة في الصلاة الرباعية ففي صحة صلاتهم قولان: أحدهما: أنها صحيحة, لأنهم كالمسبوقين في صلاة الخوف. والثاني: أنها باطلة، لمخالفتهم سنة الصلاة.
ومنها: لو اجتمع على بعض القضاء والبناء، بأيهما يبدأ؟ وقد قدمنا ذلك مستوفياً في باب الرعاف، وذكرنا ما فيه من الخلاف. لكن اختلف في مدرك الركعة الثانية من المغرب أو من (4) الصلاة الرباعية في الحضر هل يقوم للقضاء أو البناء (5) إذا تمت الطائفة الأولى؟ أو يمهل بالقضاء حتى يفرغ الإمام من سائر صلاته، إذ لا يمكن القضاء إلا بعد سلام الإمام؟ في ذلك قولان.
ومنها: لو صلى بالطائفة الأولى فأحدث (6) حتى افتقر إلى الاستخلاف، فإن كان قد كمل صلاة الطائفة الأولى فإنه لا يستخلف لأن حكم إمامته على (7) المقتدين به قد انقضى، وإنما [يجدد] (8) الإمام بالطائفة الثانية فلا
__________
(1) في (ر) اختلفت.
(2) في (ر) و (ق) الرتبة.
(3) في (ت) في المغرب والرباعية والطائفة الثالثة.
(4) في (ر) في المغرب عن الصلاة أو من.
(5) في (ر) و (ت) والبناء.
(6) في (ر) بالطائفة واحدة حتى.
(7) في (ر) إمامة المقتدين.
(8) ساقط من (ر).

(2/645)


يستخلف قبل حصول كونه إمامًا. وإن كان لم يكملا صلاته بالطائفة الأولى فإنه يستخلف لبقاء حكم الإمامة.
ومنها: لو صلى بالطائفه الأولى مع وجود الخوف فذهب الخوف؛ فهل للطائفة الثانية أن يدخلوا معه لو بقي الخوف؟ في المذهب قولان: أحدهما: صحة دخولهم معه، ويكونون كالمسبوقين. والثاني: [أنهم لا] (1) يدخلون معه, لأنهم إنما عوَّلوا على الاقتداء به ما دام الخوف باقياً، فإذا ذهب الخوف فهو خلاف ما عوَّلوا عليه أولاً، ويتم بالطائفة الأولى إن كانت لم تفعل لأنفسها شيئًا, فإن فعلت أمهلت حتى يصلي الإمام لنفسه ما عليه (2) ثم يقتدوا به إن كان بقي عليها (3) من صلاتها شيء.
ومنها: لو طرأ (4) الخوف ثم انكشف الغيب بعدمه فالمنصوص من المذهب صحة الصلاة وإسقاط الإعادة. واستحب ابن المواز الإعادة في الوقت؛ وقد يقال: يجري الخلاف في الإعادة بعد (5) الوقت على الخلاف في الاجتهاد هل يرفع الخطأ أم لا؟ ولعلَّ هذا لم يقل به أحد من أهل المذهب, لأنهم ما صلوا الخوف إلا وهم مجوزون بالخوف فلا يأمنون عودته وإن انكشف خلافه. وعكس هذا لو صلى بهم صلاة أمن فطرأ الخوف وهم في الصلاة، فالحكم أن تنقطع طائفة فتكون بوجهة العدو ويصلي الإمام بالذين معه، ثم يصلي على ترتيب صلاة الخوف. وهذا إذا كان لم يشرع في النصف الثاني من الصلاة, وأما إن شرع فيه حتى ركع أو سجد فلا بد من قطع طائفة، ويتم بالأولى وتصلي الطائفة الثانية لنفسها إما أفذاذاً وإما بإمام آخر.
...
__________
(1) ساقط من (ر).
(2) في (ق) و (ت) ما فعلته.
(3) في (ق) عليه.
(4) في (ر) ظهر.
(5) في (ر) في الوقت.

(2/646)


باب في صلاة الكسوف
(تعريف الكسوف)
وهي عبارة عن ظلمة أحد المنيرين (1)، الشمس والقمر، أو بعضهما (2). وقد اختلف في لفظ الكسوف والخسوف، فقيل: هما مترادفان على معنى واحد، وقيل: هما مختلفان. وأختلف على القول بالاختلاف فقيل: الخسوف يختص بالقمر والكسوف بالشمس، وقيل: الخسوف ظلمة جميع الشمس والقمر. والكسوف ظلمة البعض. والتحاكم في هذا إلى [أهل] (3) اللغة.

(حكم صلاة الكسوف)
ومقصودنا أحكام الصلاة المتعلقة بهذا الحادث. وقد ثبت عن رسول-صلى الله عليه وسلم-أنه صلى عند الكسوف فقال:"إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته. فإذا رأيتم ذلك بهما فافزعوا إلى الصلاة" (4)، وفي حديث آخر:"فصلوا وادعوا وتصدقوا" (5)، إلى ما في هذا المعنى. وقد قدمنا أن الصلاة عند كسوف الشمس سنة وعند خسوف القمر فضيلة. ولا خلاف في كسوف الشمس، وأما خسوف (6) القمر فأكثر
__________
(1) في (ر) البدرين، وفي (م) النيرين.
(2) في (ق) لا بعضهما.
(3) ساقط من (ر).
(4) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وقد أخرجه البخاري في الجمعة 1044، ومسلم في الكسوف واللفظ له 901 عَنْ عَائِشَةَ وفيه:"إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانْ مِنْ آيَاتِ اللهِ لاَ يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدِ وَلاَ لِحيَاتِهِ فَإذَا رَأَيتُمُوهَا فَافزَعُوا لِلصَّلاةِ".
(5) فقد ورد عند ابن خزيمهّ عن ابن عمر أن الشمس كسفت يوم مات إبراهيم ابن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فظن الناس أنها كسفت لموته فقام النبي-صلى الله عليه وسلم-فقال:"أيها الناس، إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فأفزعوا إلى الصلاة وإلى ذكر الله وأدعوا وتصدقوا". صحيح ابن خزيمة: 2/ 328.
(6) في (ر) كسوف.

(2/647)


أهل المذهب على ما قلناه. وقال أبو الحسن اللخمي إنه سنة (1). وقد قدمنا ما يؤخذ (2) منه سبب الخلاف إن ثبت هذا الخلاف. وقد قال بعض أهل العلم: إن الشريعة أرادت إلحاق صلاة الكسوف وصلاة العيدين بالصلاة الرباعية. لكن قد يؤدي كونها في صفة الرباعية إلى أن يعتقد فرضيتها، فأتت بما يشعر بإلحاقها إلى الرباعية ومخالفتها لها ليعلم أنها مقصرة عن الفروض. ولهذا شرعت صلاة الكسوف ركعتين وجعلت في كل ركعة ركوعين. وشرعت في صلاة العيدين من التكبير عدد ما يستوفي عدد تكبيرات الصلاة الرباعية.
وهذا الذي قاله وإن كان يروق فهو حكاية عن مقصود صاحب الشريعة بما لم ينص عليه، وقد يكون غير مقصود وإنما من محكاة الشريعة حتى تنقاد القلوب إلى العبودية بفعل [ما] (3) لم يعلم سببه [في صفة صلاة الكسوف] (4).

(صفة صلاة الكسوف)
وصفة صلاة الكسوف عندنا أن يجمع الإمام الناس. واختلف في موضع الجمع؛ فقيل المسجد، وقيل يبرز لها كالعيدين والاستسقاء. فالأول: التفات إلى الاحترام بالمسجد, لأنها آية كبيرة ولا يؤمن ما يكون عقيبها. والثاني: قياسًا لها على العيدين والاستسقاء، فيفتتح (5) بهم الصلاة.
واختلف هل يسر القراءة وهو المشهور، أو يجهر بها وهو الشاذ؟
وسبب الخلاف اختلاف الأحاديث؛ فثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه جهر في أكثر الطرق، وأنه أسر. واستدلَّ على ذلك بكون الرواة يقدرون مقدار قراءته. ولو جهر لصرحوا بما قرأ به. ولا خلاف في المذهب عندنا أن القراءة
__________
(1) التبصرة ص: 137.
(2) في (ق) متى يوجد منه.
(3) ساقط من (ر).
(4) ساقط من (ق).
(5) كذا في (ق) و (ر)، وفي (ت) فيفتح.

(2/648)


تكون أطول (1) منها في سائر الصلوات (2). والذي نص في المشهور أنه يقرأ في القيام الأول بسورة البقرة أو نحوها، ثم يرتب [قراءته] (3) على نحو ترتيب السور. والذي قاله القاضي أبو محمد يطيل طولا لا يضر بمن خلفه. وعدَّ هذا أبو الحسن اللخمي خلافا، (4) والظاهر أنه ليس بخلاف. ولا ينبغي، أن يطيل إذا أضر (5)، ولا يقصر إذا لم يضر (6). وعلى أي حال كانت القراءة فإنه يركع الركوع الأول ويكبر به ثم يطيل ويجعل طوله [دون] (7) طول قراءته ولا يقرأ في الركوع بل يسبح. وهل يدعو؟ يجري على ما قدمناه من الخلاف في جواز الدعاء في الركوع. ثم يرفع رأسه ويقول: سمع الله لمن حمده، كما يفعل في سائر الصلوات. ويقول المقتدون: ربنا ولك الحمد.
ثم اختلف هل يفتح القيام الثاني بقراءة الفاتحة، أو يتركها ويقرأ السورة؟ فالمشهور أنه يقرأ الفاتحة لأنه قيام بعد ركوع فأشبه القيام إلى الركعة الثانية، والشاذ أنه يقتصر على السورة. وهذا لأن هذا القيام متصل بالقيام الأول، وهو في حكم القيام الواحد. والدليل على ذلك اتفاق أهل المذهب على أن من أدرك القيام الثاني تصح له الركعة ولا قضاء عليه للركوع الأول. ويجعل قراءته في القيام الثاني دون قراءته في القيام الأول. وهكذا يرتب في سائر الصلوات، ويطيل الركوع الثاني، [وهو] (8) دون الركوع الأول. ثم إذا رفع من الركوع الثاني اعتدل كسائر الصلوات ولم يزد على ذلك ثم يخر للسجود.
واختلف هل يطيله كطول الركوع أو يسجد كسائر سجود النوافل؟ في
__________
(1) في (ر) أكثر بشيء منها.
(2) في (ق) النوافل.
(3) ساقط من (ر).
(4) التبصرة ص: 137.
(5) في (ق) أضر بمن خلفه.
(6) في (ر) يضر خلفه.
(7) ساقط من (ت).
(8) ساقط من (ر).

(2/649)


المذهب قولان: مذهب الكتاب أنه يطيل، (1) وفي مختصر ابن عبد الحكم لا يطيله.
وسبب الخلاف أن أكثر الأحاديث تقتضي عدم الطول في السجود، وفي بعضها أنه أطال. وقد ذكرنا الاختلاف في زيادة العدل هل يلزم العمل بها أم لا؟ ويفعل في الثانية كما فعله في الأولى، ولا يطيل الجلوس بين السجدتين بلا خلاف أعلمه.
وهذا (2) الذي قلناه من أنه يفعل في الركعة الثانية ما فعله في الأولى إن بقي الكسوف لم ينجل. فإن انجلى بعد أن كمل الركعة [الأولى] (3)، فهل يتم الثانية على سنة صلاة الكسوف، أم على سنة صلاة النوافل؟ [في المذهب قولان: أحدهما: أنه يتمها على سنة صلاة الخسوف [وفاقا لما دخل] (4) عليه، والثاني: أنه يتمها على سنة صلاة النوافل] (5)،لزوال سبب تغيرها عن حكم النوافل.
وهل يؤمر بهذه الصلاة كل مكلف لقوله-صلى الله عليه وسلم-"فَافْزَعُوا إِلَى الصَّلاَةِ" (6)، فعم. أولاً يؤمر بها إلا من تلزمه الجمعة, لأن المقصود بها الاجتماع هكذا ورد في الشريعة الجمع لها في المذهب قولان (7).
ومتى يجوز فعلها؟ في المذهب ثلاثة أقوال: أحدها: ما لم تزل الشمس، قياساً على الاستسقاء والعيدين. والثاني: ما لم تصل العصر, كسائر النوافل. والثالث: ما لم تصفر الشمس. وقد قدمنا الخلاف في السنن هل تفعل بعد العصر أم لا؟
...
__________
(1) المدونة: 1/ 163.
(2) في (ق) وهو.
(3) ساقط من (ر).
(4) لعلها كذلك وهي غير واضحة في سائر النسخ.
(5) ساقط من (ق).
(6) أخرجه البخاري في الجمعة 1046,وأبو داود في الصلاة 1177.
(7) كذا في سائر النسخ.

(2/650)


فصل (في صلاة الخسوف)
وأما خسوف القمر فالمذهب على أن الصلاة له كسائر النوافل من غير تغيير. وقال عبد العزيز بن أبي سلمة تغير على حسب صلاة كسوف الشمس. ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم التغيير من طريق صحيح، لكن جمَعهما في اللفظ، وقال: "فافزعوا إلى الصلاة" كما تقدم. وبين الأصوليين خلاف في الجمع هل يقتضي التشريك في الحكم أم لا.
واختلف هل يجمع لخسوف القمر أو ينهى عن الجمع؟ في المذهب قولان: المشهور أنه لا يجمع لاستمرار العمل عليه. والشاذ أنه يجمع قياساً على صلاة كسوف الشمس.
...

باب في صلاة الاستسقاء
ولا خلاف بين الأمة في جواز الاستسقاء بالدعاء إذا احتيج إليه، بل هو مشروع مأمور به. ويؤمر به في كل الأحوال إذا احتيج إليه. وقد استسقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-في خطبة الجمعة، واستصحى (1) في خطبة ثانية. وأما الاستسقاء بصلاة وخطبة فيختص به مذهبنا. ومذهب الشافعي أنه مشروع. وهو سنة على الجمله (2). ويكون عند الحاجة إلى الماء للمشقة (3)، أو يستسقى للثمار والزرع، ويطلب نزول الغيث [لملء العيون والأنهار] (4)، ويجوز تكراره إن احتيج إلى التكرار.
__________
(1) أي طلب الصحو وتوقف المطر.
(2) قال ابن المنذر: ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الاستسقاء وخطب وبه قال عوام أهل العلم إلا أبا حنيفة وخالفه أبو يوسف ومحمد بن الحسن فوافقا سائر العلماء والسنة يستغنى بها عن كل قول. المغني:2/ 149.
(3) في (ت) و (ق) لشقة.
(4) ساقط من (ر).

(2/651)


(صفة الاستسقاء)
ونحن نذكر صفة الاستسقاء من مبتدئه إلى مختتمه [خلافاً ووفاقاً] (1)، وذلك أن الناس إذا افتقروا إلى الماء بما قدمناه فيستحب للإمام أو لمن إليه الأمر أن يأمرهم بالتوبة والنزوع (2) عن الآثام.
وهل يقدم قبله صيام ثلاثة أيام؟ في المذهب قولان: المشهور أنه لا يقدم. واستحبه ابن حبيب. ولا شك أن الصوم من أجلِّ القرب، وإنما كرهه في المشهور على عادته في كراهية التحديد في المواضع التي لم يثبت التحديد بها لئلا يظن أنها فرض أو سنة. فإذا فعل الناس ما أمروا به برز من إليه الصلاة بالناس إلى موضع يجتمعون فيه فيكون في غير المسجد، وهي السنة. ويبرز الناس والإمام على حالة التورع (3) والسكينة والتضرع، لا مظهرين للزينة، بل بعكسها.
وهل يكبر الإمام في طريقه إلى الموضع الذي يصلي فيه؟ في المذهب قولان المشهور: أنه لا يكبر, لأن التكبير مشروع لإظهار شعار الإسلام، وذلك لائق بالعيدين لا بالاستسقاء. والشاذ أنه يكبر قياسًا على العيدين.
ولا خلاف في خروج من يكلف بالصلاة من الرجال. وأما الأطفال والنساء والبهائم فهل يؤمر بإخراجهم؟ قولان: المشهور أنهم لا يخرجون، إذ من سنتها الصلاة [وخروج غير المتجالة (4) من النساء عورة] (5) والشاذ الأمر بخروجهم توسلاً إلى الله تعالى بمن لا ذنب له، وهذا في غير النساء. وأما النساء فلا يختلف في منع خروج من يخاف الفتنة بخروجها.
__________
(1) ساقط من (ر).
(2) في (ق) التورع.
(3) في (ق) الخضوع.
(4) المتجالة هي: المرأة العجوز التي انقطع أرب الرجال منها.
(5) ساقط من (ت).

(2/652)


(حكم استسقاء أهل الكتاب)
وهل يباح الاستسقاء لأهل الكتاب؟ في المذهب قولان: أحدهما: أنه يباح، لافتقارهم إلى ما يفتقر إليه المسلمون، ولأن الله تعالى يدر (1) رزقه على المسلم والكافر. والثاني: أنه لا يباح خروجهم, لأنهم أعداء الله، ولا يتوسل إلى الله بهم. وإذا أجزنا خروجهم فهل ينفردون بيوم أو يخرجون مع الناس فيكونوا في ناحية؟ في المذهب قولان. وانفرادهم لما قدمناه من وجه خروجهم، ومنع انفرادهم لئلا يتفق [القدر بسقيهم فيفتتن ضعفاء المسلمين] (2).

(حكم التنفل بموضع الاستسقاء)
وإذا وصل الناس إلى موضع الاستسقاء فهل يتنفلون قبل الصلاة وبعدها؟ في المذهب قولان: المشهور جواز التنفل، إذ لا مانع منه لا بمحل ولا بوقت. والشاذ كراهيته قياسًا على العيدين.

(صفه هذه العبادة)
وهل يبتدئ الإمام بالصلاة قبل الخطبة أو بالعكس؟ في المذهب قولان: المشهور أنه يبتدئ بالصلاة توسلا إلى الله تعالى بها، وقد روي ذلك عن النبي-صلى الله عليه وسلم- (3). والشاذ الابتداء بالخطبة، وقد روي ذلك عن الرسول عليه السلام أيضًا (4)، وقياساً على صلاة الجمعة.
ومن صفة الخطبة؛ القيام والجلوس بين أثنائها كصفة الجمعة. وقد
__________
(1) في (ر) نزل.
(2) ساقط من (ر).
(3) ابن ماجه في الصلاة 1268، وأحمد في مسنده 2/ 326 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَاَلَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى بِنَا ركعْتَينِ بِلاَ أَذَانِ وَلا إقَامَةٍ ثُمَّ خَطَبَنَا وَدَعَا اللهَ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ رَافِعاً يَدَيْهِ ثُمَّ قَلَبَ رِدَاَءَهُ فَجَعَلَ الأيَمَنَ عَلَى الأيْسَرِ والأيْسّرَ عَلَى الأيْمَنِ.
(4) أخرج البخاري الجمعة 1025 عَنْ عبد الله بن زيد قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -يَوْمَ خَرَجَ يَستْسقِى قَاَلَ: فَحَوَّلَ إلَى النَّاسِ ظّهْرَهُ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ يَدْعُو ثُمَّ حَوَّل رِدَاءهُ ثُمَّ صَلَّى لَنَا رَكْعَتَيْنِ جَهَرَ فِيِهِمَا بِاْلِقَراءِة.

(2/653)


قدمنا الخلاف في الجلوس في ابتدائها. لكن يكثر في هذه الخطبة من الاستغفار والتضرع. والأصل في الاستغفار قوله تعالى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} (1)، وقوله تعالى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} (2)، فجعل السقي جزءًا من الاستغفار.
ولا يدعو في هذه الخطبة إلا بكشف ما نزل بهم، لا لأحد من المخلوقين. ويحول رداءه بعد أن يستقبل القبلة بوجهه. ومتى يفعل ذلك؟ في المذهب ثلاثة أقوال (3): أحدها: أنه بين الخطبتين لئلا يزيد خطبة ثالثة (4)، [والثاني: أنه في أثناء الخطبة الثانية لا بعد تمام الخطبة، والثالث] (5): أنه بعد إكمال الخطبتين لئلا يقطع خطبته بعمل ليس من جنسها.
ومن يحول رداءه؟ لا خلاف أن الإمام يفعل ذلك، والمشهور أن من وراءه من الرجال يفعلون ذلك. وقال الليث بن سعد (6): يكتفي بذلك الإمام، لما روي أن الرسول صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في تحويل ردائه (7).
ولا يحول النساء أرديتهن، إذ فيه كشف (8) لهن. وهذا التحويل تفاؤلاً
__________
(1) نوح:10.
(2) هود:52.
(3) في (ر) قولان.
(4) في (ت) ثانية.
(5) ساقط من (ر).
(6) هو: الليث بن سعد بن عبد الرحمن الإمام الحافظ شيخ الإسلام وعالم الديار المصرية أبو الحارث الفهمي .. مولده .. سنة أربع وتسعين .. سمع عطاء بن أبي رباح وابن أبي مليكة ونافعاً العمري وسعيد بن أبي سعيد المقبري وابن شهاب الزهري .. وخلقاً كثيرًا حتى إنه يروي عن تلامذته .. روى عنه خلق كثير. كان الليث رحمه الله فقيه مصر ومحدثها ورئيسها ومن يفتخر بوجوده الإقليم بحيث إن متولي مصر وقاضيها وناظرها من تحت أوامره ويرجعون إلى رأيه ومشورته ولقد أراده المنصور على أن ينوب له على الإقليم فاستعفى من ذلك". سير أعلام النبلاء 8/ 136 - 143.
(7) سبق تخريجه.
(8) في (ق) و (ت) كشفة.

(2/654)


بالانتقال من الجدب إلى الخصب. وصفة التحويل؛ يخفض (1) الحاشية التي على رأسه أو على كتفه ويود ما يلي جسده من ردائه إلى جهة السماء، وبالعكس ما يلي السماء. فإذا فعل ذلك فقد أكمل الاستسقاء.

(ماالعمل إذا اجتمع الخسوف والاستسقاء والعيد والجمعة)
وإن افتقر إلى إعادته أعيد لما تقدم. وقد نزل (2) أبو محمد عبد الحق حكم اجتماع الخسوف والاستسقاء والعيد وصلاة الجمعة. وهذا الذي ذكره في الخسوف تأباه العادة عند من تعلق بحساب المنجمين، لأن خسوف الشمس لا يكون على استمرار العادة إلا في يوم تسعة وعشرين من الشهر، وهذا واضح عند أهل الحساب العارفين بهذا الشأن وهذا الذي قاله نزل مثله الشافعي، واعتذر عنه أبو حامد الغزالي بوجهين: أحدهما: أنه تكلم على ما يقتضيه الشرع والعقل غير ملتفت إلى ما يقتضيه حساب المنجمين. والثاني: أنه عرف العادة في ذلك، لأنه تكلم على ما يقتضيه الفقه لو كان يتأتى الوقوع (3). وذكر أبو محمد عبد الحق في حكم الاجتماع الابتداء بصلاة الخسوف (4) لئلا تتجلى الشمس، ثم بالعيدين، ثم بالجمعة، ويترك الاستسقاء إلى الغد. لأن حكم العيدين والجمعة إظهار الزينة والمباهاة، وحكم الاستسقاء بالعكس، ولا يجمع بينهم.

(وقت الاستسقاء)
واختلف هل يجوز الاستسقاء بعد الزوال وبعد الغروب؟ والمشهور (5) من المذهب أنه لا يجوز قياساً على العيدين، والشاذ جوازه في كل وقت
__________
(1) في (ر) ألا يخفض.
(2) فىٍ (ق) ترك.
(3) في (ر) به إلى الوقوع.
(4) في (ق) الكسوف.
(5) في (ق) فالمشهور.

(2/655)


[تجوز فيه الصلاة؛ لأنه صلاة] (1) ودعاء فيجوز في كل وقت على ما ذكرناه

...