التنبيه على مبادئ التوجيه - قسم العبادات

كتاب الجنائز
قال الإمام الفقيه الجليل أبو الطاهر إبراهيم بن عبد الصمد بن بشير مؤلفه رحمة الله عليه (1):
وقد كانت الرتبة أن يبتدأ بما يفعل في حق الميت من حين احتضاره إلى حين إكمال مواراته، لكن نترك ذلك لمحاذاة مسائل الكتاب ما أمكن.

(حكم توجيه الميت إلى القبلة وتلقينه الشهادة والقراءة عليه)
وقد اختلف المذهب في توجيه الميت إلى القبله عند الاحتضار؛ فأستحب، وكره. ولا معنى لكراهية ذلك إلا خوف (2) التحديد خوفاً أن يظن أنه من الفروض أو من السنن. وإذا قلنا بالتوجيه فهل يوجه على ظهره أو على جنبه الأيمن؟ قولان كما قدمناه [فى صلاة المضطجع المريض. ويستحب تلقينه الشهادة لقوله - صلى الله عليه وسلم -:لقنوا موتاكم شهادة ألا إله إلا الله" (3)، ولقوله: "مَن كَانَ آخِرُ كلاَمِهِ لاَ إِلهَ إلاَّ اللهُ دَخَل الْجَنَّةَ" (4). وهل يستحب
__________
(1) في (ر) الجليل الحافظ مؤلفه، وفي (ق) الجليل أبو الطاهر إبراهيم بن عبد الصمد بن بشير مؤلفه رضي الله عنه.
(2) في (ق) لكراهيته إلا إنكار التحديد.
(3) لم أقف عليه بهذا اللفظ، ولفظ مسلم في الجنائز 916 عن أبي سَعِيدِ الْخدرِيَّ قال: قَال رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقنُوا مَوْتَاكُمْ لا إله إلا اللهُ".
(4) اخرجه أبو داود في الجنائز 3116 واللفظ له، وأحمد في مسنده 5/ 233.

(2/662)


أن يقرأ عند (1) المحتضر شيئاً من القرآن كسورة (يس)، أو ما في معناها؟ قولان أيضًا: الجواز، والكراهة لما قدمناه من] (2) كراهية التحديد.
وإنما بدأنا بهذا لما كان غير مذكور في الكتاب. ولنأخذ في أحكام الصلاة على الميت، وهي تنحصر في مقدمة وثلاثة فصول.

(حكم الصلاة على الميت)
أما المقدمة؛ فقد اختلف المذهب في الصلاة على الميت هل هي فرض كفاية أو سنة؟ وسبب الخلاف أمره -صلى الله عليه وسلم - بالصلاة وفعله (3). وقد اختلف الأصوليون هل يحملان على الوجوب أو على الندب. واحتج محمد بن عبد الحكم لوجوب الصلاة بقوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} (4). وإذا حرمت الصلاة على غير المؤمنين وجب ضدها، وهو الصلاة على المؤمنين, لأن النهي عن الشيء أمر بضده. وتعقب هذا أبو الحسن اللخمي بأن النهي عن الشيء أمر بضده (5) إذا كان له ضد واحد، وإلا متى كانت له أضداد فلا يكون النهي أمر بالضد. قال: وترك الصلاة على غير المؤمنين لها أضداد. وعدَّ من أضدادها إباحة الصلاة على المؤمنين، والندب إلى ذلك، والوجوب. وإذا ثبت النهي في حق غير المؤمنين أمكن أن يكون محمولاً على أحد أضداده في حق المؤمنين. إما الندب أو الإباحة أو الوجوب (6). فهذه غلطة فاحشة لأن الضد في (7)
__________
(1) في (ق) على.
(2) ساقط من (ر).
(3) أخرج البخاري في الجنائز 1320 واللفظ له، ومسلم في الجنائز 952 عن جابر بن عبدالله قال: قَالَ النَّبِيُّ-صلى الله عليه وسلم-:"قد تُوُفيَ اليَوَم رَجل صَالح مِنَ الْحَبَشِ فَهَلُمَّ فَصَلُّوا عَلَيْهِ" قَالَ فصففنا فَصَلَّى النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَيهِ وَنَحْنُ مَعَه صُفُوفٌ.
(4) التوبة: 84.
(5) في (ق) و (ت): إنما يكون أمر بضده.
(6) التبصرة ص: 145.
(7) في (ق) و (ت) على.

(2/663)


الحقيقة إنما هو الأمر، فإن كان النهي مقتضيًا للتحريمِ كان الأمر مقتضياً لضده، وضد التحريم الوجوب (1). وإن كان النهي مقتضياً للكراهة كان الأمر مقتضيًا للندب. ولو قال إن النهي [عن الصلاة] (2) على غير المؤمنين ضدها الأمر في حقهم لكان مصيباً. على أن الصحيح عند أبي المعالي رحمه الله ومن حقق تحقيقه، أن الأمر بالشيء لا يكون نهيًا عن ضده، ولا بالعكس. وتحقيق هذا محال على [فن الأصول] (3).
واحتج من قال بإسقاط الوجوب يكون الصلاة على الجنازة جزءًا من أجزاء الصلاة، فلم يكن واجبًا قياسًا على سجود السهو والتلاوة. وهذا قياس شبه، وبين الأصوليين في قبوله خلاف.
وإذا تقررت هذه المقدمة قلنا بعدها: النظر في الصلاة على الموتى ينحصر في ثلاثة فصول: أحدها: من يصلى عليه، والثاني: صفة الصلاة، والثالث: من أحق بها.

فصل (من يصلى عليه ومن لا يصلى عليه)
فأما من يصلى عليه؟ فإن الآدمي على الجملة تشرع الصلاة عليه، إلا أن يمنع منها مانع. والمانع قسمان: كمال، ونقص.

(تفصيل في الصلاة على الشهداء)
فأما الكمال فهو الشهادة في حرب الكفار. وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يصل على شهداء أحد (4). وقيل في علة ذلك: إن الله تعالى أخبر أن
__________
(1) في (ق) وهو الوجوب.
(2) ساقط من (ر).
(3) هكذا في (ق) وفي (ت) فنه في كتب أبنية الأصول، أما (ر) ففيها بياض.
(4) أخرج البخاري في المغازي 4080 عن جابر أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُليْنِ من قَتْلَى أحُدِ في ثوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَقُولُ: أَيهُمْ أكْثَرُ أَخذاً للِقُرآَنِ فإذا أشِيرَ لَهُ إِلَى أَحدٍ قَدَّمَهُ في اللَّحْدِ" وَقَال: أنا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلاَءِ يَومَ الْقِيَامَةِ وَأَمَرَ بِدَفنهم بِدِمَائِهم ولم يُصَلْ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُغَسَّلُوا.

(2/664)


الشهيد حي يرزق. فترك الصلاة عليه تحقيق لكونه حيًا، إذ لا يصلى على الحي. هذا إذا كان المسلمون هم الفائزون. وأما إن غزا المشركون بلاد (1) المسلمين واستشهد بعض المسلمين، فهل يصلى عليهم؟ في المذهب قولان: المشهور (2) أنهم كالأولين لا يصلى عليهم لتساويهم في معنى الشهادة. والشاذ أنه يصلى عليهم. ووجهه أن هؤلاء يدافعون عن أنفسهم، فلم يلحقوا في الفضيلة بمن غزا الكفار مختاراً. فإن احتج على هذا القول بأن غزوة أحد كان المشركون هم الغازون لهم، فالجواب أن الرسول- صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المسلمين لم يقيموا في أوطانهم، بل خرجوا منها إلى ملاقاة العدو. وقيل: إن قاتلوا فقتلوا حكم لهم (3) بالشهادة، وإن وجدهم الكفار نياماً فقتلوهم لم يحكم لهم بالشهادة.
وهذا إذا مات القتيل في المعترك فلم تكن له حياة بعده، فإن حيي بعده حياة متيقنة ولم تنفذ مقاتله كان كحكم من يصلى عليه من غير الشهداء، وإن أنفذت مقاتله فلم يحي حياة متيقنة كان كالشهداء في المعترك، وإن أشكل أمره ففيه قولان: أحدهما: أنه يصلى عليه, لأن الأصل الأمر بالصلاة، إلا أن يثبت الموت من الشهادة، وهذا مشكوك في حكمه. والثاني: أنه لا يصلى عليه, لأن الظاهر موته من الطارئ عليه في المعترك حتى يثبت خلافه. وفي المذهب قول ثالث أنه لا تترك الصلاة عليه، إلا أن يموت في المعترك. وأما إن بقيت به حياة بعده فإنه يلحق بسائر الموتى. ويمكن أن يرى هذا أن الحديث إنما جاء فيمن مات في المعترك خاصة، أو يرى أنه لا يقطع بالموت من الشهادة إلا لمن مات في المعترك دون غيره. فيرجع إلى التقسيم الأول، وهذا إذا لم يكن جنبا.
فإن كان جنباً فهل يغسل؟ في المذهب قولان: أحدهما: أنه لا
__________
(1) في (ر) في بلاد.
(2) في (ر) أحدها.
(3) في (ر) إن قاتلوا حكم بالشهادة.

(2/665)


يغسل، لقوله صلى الله عليه وسلم:"زَمّلُوهُمْ فِي ثيَابِهِمْ" (1)، والثاني: أنه يغسل لإخباره - صلى الله عليه وسلم - عن حنظله بن أسيد (2) أن الملائكة غسلته، وكان يعرف بنوه ببني غسيل (3) الملائكة. وسئل عن علة غسله فقيل: إنه كان جنبًا (4).

(تحريم الصلاة على الكفار وتفصيل القول في أبنائهم)
وأما النقص المانع من الصلاة فهو على أربعة أقسام أحدها: ما يرجع إلى الاعتقاد. ولا يصلي على الكفار بالإجماع. وأما أولاد الكفار، فإن كان معهم أباؤهم ألحقوا بهم، [فإن لم يكن معهم الآباء حكم لولدهم الذين لم يعقلوا دينهم (5) بالإسلام] (6).وإن أسلم الأب حكم لولده الذي لم يعقل دينه بالإسلام. وأما إن أسلمت الأم فهل يحكم لهم بالإسلام؟ في المذهب قولان: المشهور أنه لا يحكم لهم بذلك لأن الدين معناه التعصيب، ولا تعصيب للأم. والشاذ أنه يحكم لهم بالإسلام، لأنها أحد الأبوين، فأشبهت الأب, وقياساً على الحرية والرق.
فإن لم يكن معهم آباؤهم وولدوا في ملك أهل الإسلام، فهل يحكم بإسلامهم؟ قولان: أحدهما: أنه يحكم بإسلامهم لقوله - صلى الله عليه وسلم - "كُلُّ مَوْلُودِ
__________
(1) لم أقف عليه بهذا اللفظ, وقد أخرجه أحمد في مسنده 5/ 431 بلفظ"زَمَّلُوهُمْ في ثِيَابِهِمْ"
(2) هو: حنظلة بن أبي عامر بن صيفي بن مالك الأنصاري الأوسي المعروف بغسيل الملائكة وكان أبوه في الجاهلية يعرف بالراهب، وكان يذكر البعث ودين الحنيفية فلما بعث النبي عانده وحسده وخرج عن المدينة وشهد مع قريش وقعة أحد ثم رجع مع قريش إلى مكة ثم خرج إلى الروم فمات بها، وأسلم ابنه حنظلة فحسن إسلامه واستشهد بأحد، فقال النبي إن صاحبكم تغسله الملائكة فاسألوا صحابته فقالت خرج وهو جنب لما سمع الهيعة فقال النبي-صلى الله عليه وسلم- لذلك تغسله الملائكة. الإصابة/ 137.
(3) في (ق) يعرف قبره بغسيل.
(4) أخرج البيهقي في سننه 4/ 15 عن عاصم بن عمر بن قتادة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-قال: إن صاحبكم تغسله الملائكة يعني حنظلة فاسألوا أهله ما شأنه فسئلت صاحبته فقالت خرج وهو جنب حين سمع الهائعة فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-لذلك غسلته الملائكة.
(5) في (ر) دينه ولعل الصواب دينهم.
(6) ساقط من (ق) و (ت).

(2/666)


يُولَدُ عَلَى الْفِطرَةِ فأَبوَاهُ يهَودانِهِ أَوْ يُنَصَّرَانِه" (1)، وقيل: لا يحكم بإسلامهم. والفطرة في الحديث معناها السلامة (2) من دين من الأديان [الرديئة] (3). ويكون معنى الحديث على هذا أن كل مولود فهو مهيأ لقبول كل دين. وعلى القول الأول المراد بالفطرة الملة الحنيفية.
فإن ولد بين أبويه فاشتراه مسلم، فهل يحكم له بالإسلام بملك المسلم له؟ في المذهب قولان: المشهور: أنه لا يحكم له بذلك حتى تظهر منه علامة تدل على قبوله الإسلام، والشاذ رواية معن (4) بن عيسى (5) في بعض رواية المدونة: يحكم له بالإسلام. فالأول نظر إلى أنه [غير] (6) متدين بدين، فلم يحكم بإسلامه (7)، وهو غير مسلم قطعًا. والثاني: نظر إلى مالكه (8) , لأنه إذا لم يعقل دينه فمعلوم بالعادة تدينه بالإسلام. وهكذا يحكم في كبار المجوس من الأعاجم الذين يعلم بالعادة تدينهم بدين ملاكهم.
وعكس هذا لو ارتد أحد من أولاد المسلمين قبل البلوغ، ففي الحكم له بما ارتد إليه قولان: أحدهما: أنه لا يحكم له بذلك, لأنه يجبر على الرجوع إلى الإسلام بمآله إليه، والثاني: أنه يحكم له بذلك نظرًا إلى
__________
(1) أخرجه البخاري في الجنائز 1385 واللفظ له، ومسلم في القدر 2658.
(2) (ر) الإسلام.
(3) ساقط من (ر) و (ق).
(4) في (ر) معمر.
(5) هو: معن بن عيسى القزاز .. أشجع أبو يحيي روي عن مالك وجماعة وروى عنه ابن المديني وابن معين والحميدي وسحنون وكان ربيب وهو الذي قرأ عليه الموطأ للرشيد وابنيه الأمين والمأمون وخلف مالكًا في الفقه بالمدينة وله سماع من مالك معروف وهو من كبار أصحاب مالك وكان أشد الناس ملازمة له .. خرّج عنه البخاري ومسلم. مات معن سنة ثمان وتسعين ومائة في شوال منها بالمدينة" الديباج المذهب ص:374 - 348 ترجمته في طبقات الفقهاء ج:1 ص: 154.
(6) ساقط من (ق).
(7) في (ق) فلا يحكم له بالإسلام.
(8) في (ت) و (ر) مآله.

(2/667)


الحال. وقد يلتفت إلى هذا على خلاف الأصوليين في الصبي قبل البلوغ فهل يحكم له بالعقل أم لا؟
ولو أسلم بعض أولاد الكفار قبل بلوغهم وهم بين أبويهم، ففي قبول إسلامهم قولان، وهما عكس ما قدمناه. وكل من حكمنا بإسلامه أجريناه على حكم المسلمين في الصلاة عليه، وأكل ذبيحته [ووطء الأمة] (1) إلى غير ذلك من أحكام الإسلام.
وأما الخوارج، فقد قدمنا خلاف المذهب في كفرهم أو فسقهم. فإن حكمنا لهم بالكفر لم يصل عليهم وجروا على حكم الكفار، وإن حكمنا بفسقهم أمرنا بالامتناع من الصلاة عليهم تأديباً لهم. فإن خيف أن يضيعوا صلي عليهم وفعل بهم ما يفعل بالمسلم.

(الصلاة على العصاة ومن قتل حدّاً)
والقسم الثاني ما يرجع من النقص إلى الجوارح وهي المعاصي، فينبغي لأهل الفضل أن يجتنبوا الصلاة على مظهري الكبائر ليرتدع بذلك أمثالهم. وأما من قتله الإمام في حدّ فإن كان حده دون القتل لكنه مات منه جازت الصلاة عليه، ولا يجتنب إلا أن يكون مظهراً للكبائر فيرجع إلى ما قدمناه. وإن كان حده القتل فهل يجوز للإمام المتولي حده الصلاة عليه؟ في المذهب قولان: المشهور أنه لا يصلي عليه. وقال محمد بن عبد الحكم يصلي عليه. واحتج بأن الرسول عليه السلام صلى على ماعز والغامدية وقد قتلهما في حد الزنا (2). وعلل المشهور بأن الصلاة عليهم للإمام مناقضة للحكم بقتله [ويشفع فيه] (3).

(حكم الصلاة على السقط)
والقسم الثالث ما يرجع إلى عدم الحياة وهو السقط، فلا يصلى عليه
__________
(1) ساقط من (ر).
(2) انظر مسلم في الحدود 1695.
(3) ساقط من (ق) و (ت).

(2/668)


إذا لم تعلم حياته بعد خروجه، فإن علمت صلي عليه. وهذا لأنه إذا لم تعلم حياته [لا يحكم له بالموت، ونحن إنما نصلي على الموتى.
وبأي شيء تعلم حياته؟] (1) أما الصراخ فيحكم بحياة من وجد منه. وأما الحركة؛ فإن قلت فكانت كالاختلاج فلا يحكم بالحياة لمن وجدت منه، وإن كثرت فظاهر المذهب على قولين. وكذلك اختلف في العطاس والرضاع. وأصل هذا أن كل حالة يقطع بها أنها لا تكون إلا من حي، فلا يختلف فيها. وكذلك كل حالة قد تكون من غير الحي، فلا يحكم بحياة من وجدت منه. ومع الإشكال فالأصل عدم الحياة. والخلاف فيما قدمناه خلاف في حال؛ هل يوجد بعضه من غير حي، أو لا يوجد إلا من حي؟

(حكم الصلاة على بعض أجزاء الميت)
القسم الرابع نقص الجسد بأن يوجد بعضه؟ فإن وجد جله صلي عليه بلا خلاف، إلا عند ابن حبيب أنه قال لو كان مقطعاً فإنه لا يصلي عليه. وعلَّل بأن الصلاة لا تكون إلا بعد الغسل، وهذا لا يمكن غسله.
وإن كان أقله [أو بعضه] (2). ففي المذهب قولان: أحدهما: أنه يصلى عليه وينوى بها الجميع. والثاني: لا يصلى عليه, لأنه قد يوجد الباقي فيؤدي إلى تكرار الصلاة عليه. وقد اعترض بعض الأشياخ ترك الصلاة على الشطر, لأنه يؤدي إلى ترك الصلاة جملة. وينخرط في هذا السلك الصلاة على الغريق ومن أكلته السباع ومن في معناه. وفي المذهب قولان: أحدهما: لا يصلى عليهم, لأن الصلاة إنما شرعت في حق الحاضرين الأبدان (3). والثاني: يصلى عليهم، لئلا يتركوا بلا صلاة. وإنما يصلى على الحاضر مع القدرة.
__________
(1) ساقط من (ر).
(2) في (ق) و (ت) أو نصفه مثلاً.
(3) في (ق) بين الأيدي.

(2/669)


(حكم الصلاة على الغائب)
وإذا فقد (1) جازت الصلاة وإن كان غائبا، كما فعله -صلى الله عليه وسلم- في صلاته على النجاشي (2). وفي المذهب في الصلاة على الغائب قولان أيضًا. واعتذر القائلون بنفي الصلاة بأن النبي-صلى الله عليه وسلم- زويت له الأرض حتى كان مشاهداً له وإن كان غائباً عن موضعه. ومن هذا المعنى [تكرار] (3) الصلاة على القبر (4). والمشهور من المذهب أنه لا يصلى عليه، إذ لو جاز ذلك لكررت (5) الصلاة على النبي-صلى الله عليه وسلم- والشاذ أنه يصلى عليه قياسًا على صلاة النبي-صلى الله عليه وسلم-على قبر السوداء (6). هذا إذا صلي عليه قبل الدفن.
فإن دفن بغير صلاة أو بصلاة ناقصة فهل يصلى عليه؟ قولان. وإذا قلنا لا يصلى عليه فهل يخرج؟ ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يخرج إلا أن يخاف تغيره. والثاني: أنه لا يخرج. والثالث: أنه إن طال لم يخرج، وإن لم يطل أخرج. ويلحق بهذا حكم من دفن معه ما يعز ثمنه أو تمس الحاجة إليه.
وقد اختلف فيه هذا الاختلاف؛ فإجازة الصلاة ابتداء مراعاة للخلاف، ولأنه أهون من إخراجه. ومنعها لئلا يتطرق بها إلى الصلاة على القبر. وأما
__________
(1) في (ق) و (ت) فقدت.
(2) أخرج البخاري في الجنائز 1320 واللفظ له، ومسلم في الجنائز 952 عن جابر بن عبد الله قال: قَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم- قَدْ تُوُفِّيَ الْيوْمَ رَجُل صَالِحٌ مِنَ الْحَبَشِ:" فَهَلُم فَصلُّوا علَيْةِ" قَالَ: فَصَفَفْنا فَصَلَّى النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهِ وَنَحْنُ مَعَهُ صُفُوفٌ.
(3) ساقط من (ق) و (ت).
(4) في (ر) و (ت) القبور.
(5) في (ر) تكررت.
(6) أخرج البخاري في الصلاة 460، ومسلم في الجنائز 956، وابن ماجه في الجنائز 1527 واللفظ له عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ أَن امْرَأَة سَوْدَاَءَ كَاَنَتْ تَقُمُّ المسجدِ فَفَقَدَهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلَ عَنْها بَعْد أيام فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا مَاتَتْ قَال:"فَهَلا آذنتموني فآتى قَبْرَهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا".

(2/670)


الخلاف في إخراجه؛ فمن منع فللخوف أن يطلع من حاله على أمر يسوء من يخلفه فيغتمون (1) به. وقد حكي ذلك عن جماعة أنهم أُخرِجوا فوجدوا على حالات من أنواع العذاب. ومن لم يصحح هذا ورأى أن الغالب عدمه نظر إلى تغيره وعدم تغيره. وكأن القول بالنظر إلى الطول (2) يرجع إلى مراعاة التغيير.
...

فصل (صفة الصلاة على الميت)
وأما صفة الصلاة فتبتدئ بالتكبير. وهن عندنا أربع، لما ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم - من أنه صلى على النجاشي وكبر عليه أربعاً (3). فإذا زاد الإمام تكبيرة فهل ينتظر حتى يسلم أو يسلم المأموم؟ في المذهب قولان: أحدهما: أنه ينتظر، لأنه زاد ما اختلف الناس في ثبوت زيادته. والتكبير لا يبطل الصلاة على الجملة. والثاني: أنه لا ينتظر, لأن هذه التكبيرات صارت شعاراً لأهل الشيعة، فيجب أن تحمى الذرائع في موافقتهم.
وإن سلم من ثلاثة؛ فإن لم يَطل كبر الرابعة وسلم، وإن طال أعاد الصلاة ما لم يدفن. فإن دفن جرى على الخلاف؛ هل يصلى عليه، أو يخرج، أو يترك. وأحرى هاهنا [بالاتفاق] (4) أن تترك الصلاة لقول من قال بالاكتفاء بالثلاث.
وهل يرفع يديه في تكبيره في الصلاة على الجنازة؟ ثلاثة أقوال:
__________
(1) في (ر) فينتقصون به.
(2) في (ت) وكان القول بالطول، وفي (ق) وكان النظر إلى الطول.
(3) أخرج البخاري في المناقب 3879، ومسلم في الجنائز 952 عَنْ جَابِر بْنِ عَبْدِ الله رَضِي الله عَنْهما أَنَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم-صَلَّى عَلَى أَصحَمَةَ النَّجَاشِيِّ فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعاً.
(4) ساقط من (ر).

(2/671)


أحدها: ترك الرفع في الجميع، وهو شاذ، ذكره ابن شعبان في مختصره. والرفع في الجميع. والرفع في الأول خاصة. هذان القولان في المدونة (1). وقد قدمنا الخلاف في رفع اليدين في تكبيرة الصلاة. وينخرط في هذا السلك إذا أتى المسبوق في جنازة فوجد الإمام يكبر دخل معه بلا خلاف. وإن وجده في الدعاء بين التكبيرتين؛ فهل يدخل حينئذ، أو ينتظر حتى يكبر؟ يجري على الخلاف في التكبيرة هل هو كالركعات فلا يدخل، أو كتكبير الصلاة فيدخل؟ وهذا فيه نظر, لأن المشروع دخوله مع الإمام وإن كان في أثناء الركعة. فلعل من قال لا يدخل هاهنا رأى أن الدعاء لا يستقل الاقتداء به (2) إلا بعد انعقاد التكبير مع الإمام، أو عقيبه. ولا خلاف أن المقصود الأول من صلاة الجنازة الدعاء.
وهل يستحب أن يفتتح بتحميد ثم بالصلاة على الرسول عليه السلام؟ في المذهب قولان: أحدهما: استحبابه، لما ورد في بعض الطرق من إثباته، ولأنه أمر ذو بال. وفي الحديث أن كل أمر ذي بال لم يفتتح بحمد الله فهو أبتر (3). والثاني: الاقتصار على الدعاء خاصة, لأنه الثابت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وهل يدعو بعد التكبيرة الرابعة أو يسلم عقبها من غير دعاء؟ في المذهب قولان. والدعاء قياسًا على سائر التكبيرات، ونفيه لأن التكبيرات جعلت في هذه الصلاة كالركعات [من غيرها] (4). فلو دعا بعد الرابعة لافتقر إلى تكبيرة يختم بها بعد الدعاء.
ولا خلاف أنه لا يستحب دعاء معين. وقد ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه
__________
(1) المدونة:1/ 176.
(2) في (ق) و (ت) فيه.
(3) أخرجه أحمد في باقي مسند المكثرين 8495، بلفظ "كُل كَلاَم أَوْ أمْرِ ذِي بَال لاَ يُفْتَحُ بِذِكرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ أَبتَرُ أَوْ قَالَ: أقْطَعُ". وأخرجه بلفظ قريب منه النسائي في عمل اليوم والليلة 346.
(4) ساقط من (ق) و (ت).

(2/672)


صلى على جنازة فدعا بدعاء مخصوص، فجمعه أهل العلم، واستوفاه أبو محمد بن أبي زيد في رسالته، ورتبة (1) فلا نطول بذكره.
وهل يقرأ قبل الدعاء بأم القرآن؟ في المذهب قولان: المشهور أنه لا يقرأ, لأن المقصود الدعاء، ولأن هذا جزء من الصلاة المفروضة، فلا يقرأ فيها بأم القرآن قياسًا على سجود التلاوة. وقال أشهب: يقرأ فيها بأم القرآن، وهذا لعموم قوله-صلى الله عليه وسلم-: "كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج" (2)، ولأن ابن عباس رضي الله عنه صلى على جنازة فقرأ بأم القرآن فقال: "إنما فعلته لتعلموا أنها سنة" (3). وبين الأصوليين خلاف في الصحابي إذا قال: من السنَّة كذا، هل يضاف إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويكون سنته؟ أو يكون كقول الصحابي يختلف فيه هل يكون حجة أم لا؟
وقد قدمنا الخلاف في صفة السلام من الصلاة على الجنازة هل يجهر به أو يسر؟ [وإذا قلنا إنه يسر] (4)، فيعلم المقتدون كمال الصلاة بانصراف الإمام.
ومن صفة الصلاة حكم وضع الجنائز. والفضل عندنا في القرب إلى الإمام. فإن كانت الجنائز من جنس واحد كالرجال أو النساء (5) فالإمام بالخيار بأن يجعل صفا واحدا ويلي الإمام أفضلهم، أو يقوم وسط الصف ويجعل قيامه عند أفضلهم، ويجعل الذي يلي الإمام من يليه في الأفضل،
__________
(1) في (ق) وأثبته.
(2) لم أقف عليه بهذا اللفظ. وقد أخرجه مسلم في الصلاة 395 بلفظ "مَنْ صَلْى صَلاَة لَمْ يَقرَأ فِيهَا بِأمِّ القُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ" الحديث.
(3) أخرجه البَيهقي في سننه 4/ 39، والشافعي في مسنده 359 عن سعيد بن أبي سعيد قال: سمعت ابن عباس يجهر بفاتحة الكتاب على الجنازة ويقول: إنما فعلت لتعلموا أنها سنة. وأخرجه الحاكم بلفظ آخر في المستدرك 1/ 510 عن سعيد بن أبي سعيد يقول: صلى ابن عباس على جنازة فجهر بالحمد لله ثم قال: "إنما جهرت لتعلموا أنها سنة" هذا حديث صحيح على شرط مسلم.
(4) ساقط من (ر).
(5) في (ر) والنساء.

(2/673)


ويرتبهم ويجعل الأفضل يليه ومن بعده قدامه إلى القبلة، هكذا ترتيب الفضل.
فإن كانوا ذكوراً وإناثاً وأحراراً وعبيداً بالغين وغير بالغين، قدم الذكور الأحرار البالغين، ثم الصغار [الأحرار] (1)، ثم الأرقاء، ثم أحرار النساء، ثم الصغار من النساء الأحرار من بعده على الترتيب الأول. والأصل تقريب الأفضل إلى الإمام، والأفضل في هؤلاء على ما رتبناه. فإن كان فيهم خنثى مشكل جعل بين الذكور والإناث.
وإن أفردت جنازة واحدة فإن كان ذكرًا قام عند وسط الجنازة، وإن كانت أنثى فقولان: قيل كالرجال، وفيه ستر لها ممن يليه. وقيل عند منكبيها، هذا حذار من تذكر ما يقدح في الصلاة. وقد تقدم الخلاف في الصلاة على الجنائز بعد الصبح وبعد العصر.
...

فصل (من أحق بالصلاة على الميت؟)
ولا خلاف عندنا أن وصي الميت أولى بالصلاة عليه إذا قصد الميت الترغيب في الصلاح والخير، فإن قصد مراغمة (2) الولي لم يلتفت إلى وصيته. والولي أولى في الأصل، وإنما تنفذ وصية الميت متى قصد ما ينتفع به من جهة الآخرة، فإن قصد غير ذلك رجع إلى الأصل.
وإذا اجتمع الولي والوالي، فالوالي أولى إذا كان الذي تؤدى إليه الطاعة، فإن كان ممن دونه كالمولى على الصلاة والقاضي ومن في معناهم فثلاثة أقوال: أحدها: أن الولي أولى [وغيره من الولاة، من حيث إنه يعصبه، وقد يجتهد له بالدعاء أكثر من غيره] (3). والثاني: أن صاحب الصلاة [والقاضي أولى، من
__________
(1) ساقط من (ر).
(2) في (ت) عمة.
(3) ساقط من (ر) و (ق).

(2/674)


جهة أنه جعله الحاكم لمثل هذه.] (1) والثالث: أن الولي أولى، إلا أن يكون صاحب الصلاة هو القاضي. وهو على الخلاف فيمن استحق أمراً من [باب] (2) الولاية فنقله إلى غيره؛ هل ملكه ذلك كملك المال يتصرف فيه بالنقل، أو لا يكون له التصرف فيه بالنقل لأنه إنما ملك لمعنى فيه، فإذا نقله إلى من ليس فيه ذلك المعنى بطل نقله؟ ومن تؤدى إليه الطاعة هو المالك للصلاة لحق الولاية. وقد نقلها هنا إلى من جعل إليه الصلاة.
وأما التفرقة بين القاضي وغيره، فلأن القاضي مستحق النظر في الشريعه، فهو كالوالي الذي تؤدى إليه الطاعة.
وعلى هذا الخلاف اختلف في الوالي إذا قدم غيره ممن له ولاية، لكن في الحضور (3) من هو أولى من المقدم؛ هل يكون الأقرب أولى أو المقدم؟ وعلى هذا الأسلوب الخلاف في التي تستحق الحضانة إذا سلمتها لغيرها، وثم من هو أقرب من المسلم إليه. وعليه الخلاف أيضًا في الوصي (4) هل يكون أولى بالنكاح من الولي لأوليائه (5)، أو يكون هو والولي سيان؟ في المذهب ثلاثة أقوال.
وإذا اجتمع الأولياء فأولاهم أقعدهم (6) بالتعصيب. فالابن وابنه أولى من الأب، والأب أولى من الأخ، [والأخ أولى من ابن الأخ] (7) وابن الأخ أولى من الجد، والجد أولى من العم، والأقرب من كل هؤلاء أولى ممن بعده. فإن تساووا في القعدد فأولاهم أهل الفضل. ومعرفة الفضل مما قدمنا، لا في استحقاق الإمامة. هذا نص في المذهب. وولاية النكاح
__________
(1) ساقط من (ر) و (ق).
(2) ساقط من (ر).
(3) في (ق) حضور.
(4) في (ر) الموضع.
(5) في (ت): من الوالي أوليائه. وفي (ق) من الولي أو لا ولاية له.
(6) أقعدهم: أي أقربهم. قال في لسان العرب 3/ 362: فلان أَقْعَد من فلان أَي أَقرب منه إِلى جده الأَكبر ... ورجل قُعْدُدٌ: قريب من الجَدِّ الأكبر. والقُعْدَد كذلكُ: أَملك القرابة في النسب. والقُعْدُدُ: القُرْبَى. والمِيراث القُعدُدُ: هو أقربُ القَرابَةِ إِلى الميت ...
(7) ساقط من (ر)، وفي (ق) والأخ.

(2/675)


تستحق عندنا بالتعصيب. وقد اختلف في المذهب هل ابن الابن مقدم على الأب، أو بالعكس؟ وهل الجد مقدم على الأخ أو بالعكس؟ المشهور هناك تقدمة الابن والأخ. والشاذ تقدمة الأب والجد. ولا يبعد أن يجري الخلاف هاهنا على الخلاف في ولاية النكاح.
وإذا اجتمعت جنائز ولها أولياء؛ فإن كانت الجنائز جنسا واحدا قدم الأفضل، فإن تساووا في الفضل فلهم الاقتراع. وكذلك إن كان للميت الواحد أولياء يتساوون في القعدد والفضل. فإن كان أحد الجنازتين ذكرا والآخر أنثى؛ فهل ينظر إلى الفضل في الأولياء ويقدم ولي الذكر وإن كان ولي الأنثى أفضل منه؟ في المذهب قولان. وتقدمة ولي الرجل نظرًا إلى الفضل من جهة الميت, لأنه بسببه يستحق الصلاة. وتقدمة الأفضل نظراً إلى جهة الأولياء ولهم الولاية، فينظر (1) إلى الأفضل منهم.
وقد قدمنا الخلاف في نجاسة الميت وطهارته، وعليه ينبني القولان في الصلاة عليه في المسجد.
...