التنبيه على مبادئ التوجيه - قسم العبادات

كتاب الصيام
(تعريف الصوم وحكمه والدليل على ذلك)
والصوم في اللغة: الإمساك مطلقاً، وهو في الشرع: عبارة عن إمساك مخصوص في زمن مخصوص على وجه مخصوص. وصوم رمضان من معالم الشريعة وأركان الإسلام. ووجوبه معلوم من دين الأمة ضرورة، ومن يجحد الوجوب فهو كافر قطعًا (1)؛ فإن أقر بالوجوب وامتنع من الصوم فهل يكون كافراً؟ يجري على ما قدمناه من الخلاف في المُقر بوجوب الصلاة التارك لها. ويجبر على فعله عند القائلين بنفي التكفير، كما يجبر على فعل الصلاة.
والأصل في وجوبه الكتاب والسنَّة وإجماع الأمة؛ فأما الكتاب فقول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (2)، وفيه: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} (3)، وقد اختلف هل الإشارة بها إلى رمضان. وهو يسير بالنسبة إلى شهور السنة، فلهذا عبر عنه بأيام معدودات، أو إلى غيره. واختلف القائلون بذلك على ثلاث طرق: أحدها: أنها ثلاثة أيام من كل شهر غير معينة (4)، والثاني: أنها أيام
__________
(1) في (ر) مطلقاً.
(2) البقرة: 183.
(3) البقرة: 184.
(4) في (ر) من غير وخرم في (ت).

(2/696)


البيض (1)، والثالث: أنها يوم عاشوراء. وجمعت لأنها تتكرر في العدّ (2).
فمن قال: الإشارة بها إلى رمضان (3)، جعل ما بعدها من النص على أشهر بيانا [للإجمال (4) المتقدم] (5)، ومن قال الإشارة بها إلى غيره (6) جعل ما بعدها من تعيين الشهر ناسخاً.
واختلف في قوله تعالى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (7) هل هو منسوخ أم لا؟ وهؤلاء يرون أنه كان في أول الإسلام المكلف يُخيَّر بين أن يصوم أو يفطر ويطعم، ثم نسخ (8) بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (9). وهو غير منسوخ، ومعنى يطيقونه أي يلزمون به [ويكلفون به، وإن كان عليهم في الأداء مشقة. وقد قرئ يطوقونه (10) أي يلزمونه] (11). وسيأتي الخلاف في موضعه. والحامل والشيخ الكبير هل تلزمهما (12) الفدية أم لا؟ وهو جار على هذا.
وأما السنَّة فقد نقل وجوبه متوتراً، وتلقته الأمة بالقبول لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ" (13) فذكر فيها صوم رمضان.
__________
(1) وهي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، من كل شهر.
(2) في (ت) في العدد، وفي (ق) لجمعه لأنها.
(3) في (ت) إلى غير رمضان.
(4) في (ق) للاحتمال.
(5) ساقط من (ت)، وفي (م) جعل ما بعدها من النقص على المشهور فيها للاحتمال المتقدم.
(6) في (ق) وجعل.
(7) البقرة: 184.
(8) في (ت) نسخ التخيير.
(9) البقرة: 185.
(10) في (ق) و (ر) يطيقونه.
قرأ بذلك ابن عباس وعائشة وسعيد بن جبير وعطاء. انظر تفسير الطبري 2/ 137 - 138.
(11) ساقط من (م).
(12) في (م) و (ر) تلزمهم.
(13) أخرجه البخاري في الإيمان 8، ومسلم في الإيمان 16.

(2/697)


وأما الإجماع فهو ثابت قطعا. قال أبو المعالي: المقصود بالصوم في الشريعة وجهان: أحدهما: كسر الشهوتين؛ شهوة البطن والفرج، فإنهما إذا أرسلا على شهواتهما ولم تعود النفوس كسرها دعتا إلى الوقوع في المحظور. وإذا تعوَّد الإنسان إمساكهما عن المباح وأخذ نفسه بذلك قدر على إمساكهما عن الممنوع. فكأن الصوم في الشريعة إمساك عن مباح ليكون حمى للممنوع، وعليه نبه -صلى الله عليه وسلم-:"أَلاَ وَإِنَّ لِكُلَّ مَلِكِ حِمَى أَلاَ وَإِنَّ حِمَى الله مَحَارمُهُ" (1). والوجه الثاني: أن المقصود أيضًا كسر الشهوتين. لكن ليس للاعتياد، بل يحصل من نفس الكسر قمع النفس عن شهواتها ومنعها من الاسترسال على لذاتها. وإليه الإشارة بقوله-صلى الله عليه وسلم- "الصَّوْمُ جُنَّةٌ" (2).
وإذا ثبتت هذه المقدمة، قلنا بعد هذا: المقصود من الكتاب ينحصر في خمسة فصول: أحدها: شروط الصوم، والثاني: أركانه، والثالث: تفصيل ممنوعاته، والرابع: حكم ما يجب بارتكاب الممنوعات، والخامس: حكم مقتضيات الفطر. لكن شأننا في هذا الإملاء أن ننبه على الترتيب الواجب ثم نحاذي رتبة الكتاب فنقول [ما أمكن. ولنذكر هذه الفصول جملة فنأخذ على تفصيلها في ترتيب الكتاب فنقول:] (3).
...

أما (4) الفصل الأول: (شروط الصوم)
فإن للصوم شرطين: شرط وجوب، وشرط أداء؛ فأما شرط الوجوب فالبلوغ (5)، فلا يجب الصوم على غير البالغ. وهل يؤمر به المطيق قبل
__________
(1) البخاري في الإيمان 52، ومسلم في المساقاة 1699 واللفظ له.
(2) البخاري في التوحيد 7492، والترمذي في الصوم 764 واللفظ له.
(3) ساقط من (ر).
(4) في (م) في.
(5) في (ر) و (م) البلوغ.

(2/698)


البلوغ للتمرين (1)؟ في المذهب قولان (2)، وقد تقدما.
وهل العقل من شروط الوجوب أو الأداء؟ في المذهب قولان. وذلك أن من لم يبلغ مطبقاً (3) وقلت سنون جنونه وجب عليه القضاء بلا خلاف في المذهب، فإن بلغ مطبقاً أو كثرت (4) السنون ففي المذهب ثلاثة أقوال: القضاء مطلقاً وهو المشهور ونفيه مطلقاً مع كثرة السنين ومثَّلوها بالعشرة ونحوها، وإثباتها مع قلتها ومثلوها بالخمسة ونحوها. وكان من يوجب القضاء مطلقاً يرى أن القضاء واجب بالأمر الأول، والعقل شرط في الأداء لا في الوجوب. ومن يفرق بين أن يبلغ مطبقاً ويرى (5) أن المطبق لا يتعلق به الوجوب بوجه. وهذا يرى أن الوجوب إذا تعلق يوماً ما استرسل تعلقه، فيكون عنده العقل شرطاً في الوجوب. لكن إن وجد، تعلق الوجوب مطلقاً. وأما من يفرق بين كثرة السنين وقلتها يرى [رأي] (6) الأول لكنه أسقط القضاء مع التكرار للمشقة.
وهل الإسلام شرط في الوجوب أو في الأداء؟ يجري على اختلاف الأصوليين في الكفار هل هم مخاطبون بفروع الشريعة فيكون شرطاً في الأداء؟ أو غير مخاطبين بها فيكون شرطاً في الوجوب؟
وأما الصحة والإقامة والنقاء عن دم الحيض فقد اتفق الكل على وجوب القضاء في حق المفطر من هؤلاء. واختلف الأصوليون هل يقال إن
__________
(1) في (ت) للمتأخرين وغير واضح في (ق).
(2) في (ت) و (ق) تفصيل.
(3) الطبَقُ: غطاء كل شىء، وقد أَطْبَقَه وطَبَّقَه فانْطَبَقَ. وتَطَّبقَ: غَطَّاه وجعله مُطَبَّقاً .... قال الأصمعي: الطبقاء: الأحمق الفدم، وقال ابن الأعرابي: هو المطبق عليه حمقا. انظر لسان العرب 10/ 209 و214.
(4) في (ر) وكثرت.
(5) في (ق) و (ت) أو يرى.
(6) ساقط من (ر).

(2/699)


الواجب متعلق بهؤلاء أو غير متعلق، أو يتعلق بالمسافر خاصة، أو به وبالمريض المستطيع للصوم بكلفة، وتحقيق هذا محال على [فنه] (1).
...

فصل (أركان الصوم)
وأما أركان الصوم، فالنية (2). وهل يشترط تكرارها (3) على عدد الأيام أو يكتفى إن نوى في مبتدأ الصوم؟ في المذهب تفصيل وبيانه (4) في موضعه من (5) الكتاب.
والإمساك عن الإيلاج، ونعني به إدخال الطعام والشراب من الحلق إلى المعدة (6)، وإيلاج الحشفة في قبل أو دبر. وتفصيل ذلك يأتي في موضعه أيضًا. والإمساك عن الإخراج، ونعني به إخراج المني أو القيء. وتفصيله يأتي أيضًا.
...

فصل (ما يجب بارتكاب الممنوعات)
وأما التفصيل في ممنوعات الصوم، فنؤخر الكلام عليها. وهي على الجملة الإخلال بركن من أركان الصوم.
...
__________
(1) ساقط من (ر).
(2) في (ر) والنية عندنا واجبة وهل.
(3) في (ق) تكررها.
(4) في (ق) نحيل بيانه.
(5) في (ق) على.
(6) في (ر) إلى الحلق والمعدة.

(2/700)


[فصل] (1)
وأما ما يجب بارتكاب الممنوعات، فنأتي فيه بكلام جلي يكتفي به الذكي. ونحيل غيره على التفصيل. وذلك أن الصوم لا يخل من أن يكون واجبًا أو غير واجب، والواجب لا يخلو أن يكون واجبًا بإيجاب الله تعالى أو واجبًا بإيجاب المكلف على نفسه، والواجب بإيجاب الله تعالى لا يخلوا من أن يكون معينا وهو رمضان أو غير معيّن وهو ما يجب في الكفارة والواجب بإيجاب المكلف على نفسه لا يخلو أيضًا من أن يكون معيناً وهو أن ينذر أيامًا بأعيانها أو غير معيّن وهو أن ينذر أيامًا بغير أعيانها والواجب بإيجاب الله تعالى أو بإيجاب المكلف على نفسه لا يخلو من أن يكون متتابعاً أو غير متتابع.
ويتعلق بارتكاب الممنوعات ثلاثة أشياء: القضاء والكفارة وقطع التتابع، ولا يخلو المرتكب من أن يكون معذورا أو غير معذور؛ فإن كان معذورا بالنسيان أو بالغلط في التقدير وجب القضاء في جميع أقسام الصيام إلا في التطوع فلا يجب بلا خلاف على هذا. وهل يستحب؟ في المذهب قولان، وهكذا نقل. ولا ينبغي أن يختلف في استحبابه, لأنه فعل بر. لكن النظر هل هو قضاء أو ابتداء فعل خير (2)؟ وهل ينقطع التتابع؟ في المذهب قولان. وهل تجب الكفارة؟ أما غير رمضان فلا تتعلق به الكفارة، وأما رمضان فإن كان فطره ناسياً بأكل أو شرب فلا كفارة بلا خلاف. وإن كان بجماع فقولان: المشهور نفيها، والشاذ وجوبها. فإن كان غير معذور كالمتعمد، فالقضاء في الجميع، وقطع (3) التتابع فيما يجب تتابعه. ولا كفارة في الجميع إلا في رمضان فتجب الكفارة فيه على الإطلاق.
...
__________
(1) ساقط من (ق).
(2) في (ر) مخبر.
(3) كذا في جميع النسخ ولعل الصواب وعدم قطع التتابع.

(2/701)


فصل (مقتضيات الفطرة)
وأما مقتضيات الفطر فهي على الجملة ثلاثة: المرض وينخرط في سلكه الحامل والمرضع، والسفر، ووجود دم الحيض. وتفصيل ذلك يأتي في موضعه إن شاء الله.
...