التنبيه على مبادئ التوجيه - قسم العبادات

باب في النظر في زمن الصوم
وهو قسمان: عام وخاص.

(اليوم زمن الصوم العام)
فأما العام، فهو في اليوم، ولا يصام الليل بالإجماع. والنهار على الجملة محل للصوم. وأما مبدؤه فاجتمعت الأمة على أن الفجر الأول المستطيل (1) الذي سمته العرب ذنب السرحان لا يتعلق به الصوم ولا الصلاة. وعلى أن الفجر الثاني المعترض (2) في الأفق هو الموجب للإمساك ولصلاة الصبح. لكن حكي عن بعض السلف خلاف في الفجر الثاني، وقد انعقد الإجماع بعده (3).
ولا يخلو مريد الصوم أن يكون بحيث ينظر الدلائل على الفجر، أو بحيث لا يبصر؛ فإن كان بحيث يبصر فلا يخلو حاله من ثلاثة أقسام: إما أن يتيقن بطلوع الفجر [فيجب عليه الإمساك، وإما أن يتيقن بعدم الطلوع فيباح له الأكل] (4).
__________
(1) في (ت) الأول غير المستطيل، وفي (ق) الأول المستطيل في الأفق، وخرم في (م).
(2) في (ت) المستطيل.
(3) في (ت) بعده على ما قلناه.
(4) ساقط من (ر).

(2/702)


(حكم الشك في طلوع الفجر)
وأما إن شك فهاهنا قولان: كراهية الأكل، وتحريمه. ورأى ابن حبيب أن القياس الإباحة.
وسبب الخلاف استصحاب حالين: أحدهما: إباحة الأكل، والثاني: وجوب الصوم؛ فمن نظر إلى استصحاب زمن الليل أجاز الأكل أو كرهه (1) مراعاة للخلاف، ومن نظر إلى وجوب استصحاب الصوم منع إلا أن يتيقن بالجواز.
فإن أكل ثم علم أن الفجر لم يطلع فلا شك في نفي القضاء، وإن علم بطلوعه فلا شك في إثباته، وإن أشكل عليه جرى وجوب القضاء واستحبابه على الخلاف المتقدم.

(حكم من طلع له الفجر وهو يأكل)
فإن طلع له الفجر وهو آكل أو شارب فالمنصوص أنه يلقي ما في فيه ولا قضاء عليه. وفي المذهب قولان: هل يجب إمساك جزء من الليل؛ لأنه لا يتوصل إلى إمساك جميع أجزاء النهار إلا به، أو لا يجب. فإن نفينا الوجوب فلا شك في نفي القضاء، وإن أثبتناه فيمكن أن يقال إنه واجب لغيره. فإذا لم يحصل تعلق الإثم ولا قضاء. ويمكن أن يقال وجب القضاء لانسحاب الوجوب عليه. وقد تعلق من أباح الأكل أو كرهه مع الشك بقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} (2)، ومع البيان لا شك. وظاهر الآية جواز الأكل إلى أن يستيقن (3). واعتذر عن (4) هذا بأن المقصود في الآية جواز الأكل وما ذكر معه في جميع أجزاء الليل, لأنها ناسخة لما كان في
__________
(1) في (ر) كرهه.
(2) البقرة: 187.
(3) في (م) و (ق) و (ت) يتبين.
(4) في (م) غير.

(2/703)


أول الإسلام من أن الإنسان إذا نام وجب عليه الإمساك وإن قام في آخر الليل، وتعلق أيضًا بقوله-صلى الله عليه وسلم -"كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُم مَكْتُوم", وفي الحديث:"كَانَ رَجُلاً أَعْمَى لاَ يُنادى حَتَّى يُقَالَ أَصْبَحْتَ" (1). فهذا دليل على جواز الأكل مع الشك والإشكال حتى يصبح (2) الصباح. واعتذر عن هذا بأن معناه قاربت الصبح (3). ونحن مضطرون إلى هذا التأويل؛ إذ لو بقي على ظاهره لكان مقتضياً بجواز الأكل بعد اليقين بوجود الصباح، وهذا لا يختلف فيه.
وإذا منعنا الأكل وما في معناه مع الشك، فإذا تعدى المكلف هذا المنع فهل تلزمه الكفارة أم لا؟ وأما إن تأول فلا، وإن قصد إلى انتهاك حرمة الصوم (4) مع تعويله على التحريم فقد يختلف فيه على الخلاف في مراعاة الخلاف.
ولا يختلف في طرف النهار الآخر، وهو آخره إذا شك [هل غابت الشمس أو لا]؟ (5) إذ المستصحب هاهنا بكل وجه منع الأكل.
لكن اختلفوا هل يلزم إمساك جزء من الليل (6) كما اختلفوا في الطرف الثاني؟ وعلى هذا الذي قلناه لو أكل في آخر النهار [مجتهدا] (7) ثم تبين له الخطأ أو الصواب بني على ما تبين له من الخطأ أو الصواب؛ فإن أشكل وجب القضاء.
...
__________
(1) أخرجه البخاري في الأذان 617، ومالك في النداء164كلاهما بلفظ قريب.
(2) في (ت) يتضح.
(3) في (ق) الصباح.
(4) في (ق) و (ت) اليوم.
(5) ساقط من (ر) و (ق).
(6) في (ر) النهار.
(7) ساقط من (ر) و (ق).

(2/704)


فصل (حكم من لا دليل له على الفجر)
وإذا كان بحيث لا دليل له على الفجر فله أن يقتدي بالمستدِل (1). وفيه ورد الحديث:"إنَّ بلالاً يُنَادِي بلَيْل" الحديث كما ورد (2). فإن لم يكن له من يسمعه الأذان] (3) فَله التحريَ ويأخذ بالأحوط. ومتى شك أو أشكل عليه، فإن كان بحيث يمكنه التوصل إلى المعرفة وجب عليه إذا أراد أن يستبيح الأكل وما في معناه، وإن كان بحيث لا يمكنه التوصل إلى المعرفة فقد يقال إن هذا مثل الأسير إذا وقع في مهواة، وسيأتي بيان حكمه.

(حكم من طلع عليه الفجر وهو يجامع)
وقد بيَّنا حكم من طلع عليه الفجر وهو آكل أو شارب، فإن طلع عليه وهو يجامع؛ فإن استدام كان كالمتعمد في أجزاء النهار، وإن نزع فلا كفارة على المشهور. وهل عليه القضاء؟ قولان: أحدهما: نفيه لأنه معذور وقد فعل أقصى ما في وسعه (4)، وأيضاً فإن النزع ليس بوطء. والثاني: وجوب القضاء، وهذا لأنه يعدّ النزع وطئاً. وهل تجب على هذا الثاني الكفارة؟ يجري على الخلاف في المعذور، وسنبّين ذلك مفصلاً وإن أجملنا أولاً.
...

فصل (حكم البياض الذي قبل الفجر والذي بعد العمرة بالليل)
وفي الكتاب: قال مالك رحمه الله: "وإنه ليقع في قلبي وما هو إلا شيء فكرت فيه منذ قريب، أن الفجر يكون قبله (5) بياض ساطع، فذلك لا يمنع الصائم من الأكل. [فكما لا يمنع الصائم ذلك البياض من الأكل
__________
(1) في (ت) بالعدل.
(2) أخرجه البخاري في الأذان 620 واللفظ له، ومسلم في الصيام 1093.
(3) ساقط من (ر) و (ق).
(4) في (ق) أقصى ما يقدر عليه، وفي (ر) أيضًا بما بموسوعه، وفي (م) أيضًا ما في وسعه.
(5) في (ر) قبل.

(2/705)


حتى] (1) يتبيَّن الفجر المعترض في الأفق، فكذلك البياض الذي يبقى بعد الحمرة لا يمنع مصل أن يصلي العشاء" (2). وغرضه بهذا، الرد على أهل العراق في قولهم: إن الشفق هو البياض. وقد قدمنا ذلك في كتاب الصلاة الأول وذكرنا ما في المذهب (3). ولم يسلم أبو الحسن اللخمي هذا القياس، بل رأى أن الطوالع أربعة: البياض الأول وهو ذنب السرحان والفجر الصادق، والحمرة [لا يتعلق بها حكم] (4) والشمس. والغوارب كذلك [أربعة] (5):الشمس، والحمرة، والبياض الباقي بعدها، والبياض المشرق وراء (6) ذنب السرحان.
وبالجملة، فإن الذي استعمله مالك رحمه الله قياس الشبه. وبين الأصوليين خلاف في التعويل عليه. وقد ظن من لا تحقيق عنده أنه قياس عكس، وسبب ظنهم (7) أن الطوالع ضد الغوارب، وإنما [شبه] (8) طالعاً بالغوارب. وإنما قياس العكس ما قاله المغيرة في المدونة في كتاب الزكاة في مسألة من له عشرة دنانير أنفق خمسة واشترى سلعة بخمسة فباعها بخمسة عشرة، وبيانها يأتي في موضعه.
...

[فصل] (9) (رمضان زمن الصوم الخاص)
وأما الزمان الخاص فهو رمضان. والنظر أيضًا في أوله وآخره. والطريق إلى معرفة الأول بالرؤية والعدد.
__________
(1) ساقط من (ر).
(2) المدونة 1/ 172.
(3) في (ر) وذكرنا حكمه.
(4) ساقط من (ر) و (ق).
(5) ساقط من (ت).
(6) في (ت) المستدق وهو وزان ذنب، وفي (ق): التشارق وهو: وزان الذنب السرحان.
(7) في (ر) خلافهم.
(8) ساقط من (م).
(9) ساقط من (ر) و (ت).

(2/706)


(ما تثبت به رؤية الهلال)
أما الرؤّية، فتحصل بالخبر المشتهر (1) وهو الكمال فيها ولا يفتقر في ذلك إلى شهادة، وأما الشهادة فلا يخلو أن يكون الموضع به من يلتفت إلى أحكام الشريعة ومواقيت العبادة، أو ليس به ذلك. فإن كان به من يلتفت إلى ذلك فلا خلاف منصوص في المذهب أن حكم ثبوت الأهلَّة راجع إلى حكم الشهادة لا إلى حكم الإخبار، وإن لم يكن به من يلتفت إلى هذا فظاهر المذهب [على] (2) قولين: أحدهما: أن الحكم كالأول، والثاني: التعويل على الشهادة إن أمكنت، وإن لم تمكن عوّل على الخبر، هذا في حكم ما يثبت به حكم (3) الهلال.
فإن ثبت عند الحاكم أو في بلد من البلدان فنُقِل، فظاهر المذهب أيضًا على قولين: أحدهما: أنه يفتقر نقله إلى ما تفتقر إليه الشهادة، والثاني: أنه لا يفتقر إلى ذلك، هذا تحقيق نقل المذهب. ولما كان القياس عند المتأخرين من أهل المذهب ردّ ثبوت الهلال إلى باب الأخبار [رأوا أن] (4) الفرق بين [باب] (5) الأخبار وبين باب الشهادة أن كل ما خصّ المشهود عليه فبابه باب الشهادة، وكل ما عمَّ ولزم القائل به (6) ما يلزم (7) المقول [له] (8) فبابه باب الأخبار، فأرادوا (9) أن يجعلوا في المذهب قولة بقبول [خبر] (10) الواحد في الهلال ولا يجدوه إلا في النقل
__________
(1) في (ر) المنتشر.
(2) ساقط من (ر).
(3) في (ت) حق من يثبت له حكم ...
(4) في (ت) وليس من باب الأخبار الشهادة ولأن.
(5) ساقط من (ر).
(6) في (م) و (ت) و (ق) منه.
(7) في (م) ما لزم.
(8) ساقط من (م).
(9) في (م) وأرادوا.
(10) ساقط من (ر).

(2/707)


عمًّا (1) ثبت (2) عند الإمام فينقل (3) إلى أهله أو إلى (4) غيرهم. ولعل هذا لما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:"إذا شهد شاهدان فافطروا وصوموا" (5) الحديث. ولا يستقل الحكم إلا بثبوته بالشهادة.
ثم ما بعد ذلك من فروع الباب يختلف فيها هل تعطى حكم (6) أصولها فيكون بابها (7) باب الشهادة، أو تنقل إلى باب الأخبار للاضطرار. إذ لو كلف كل أحد أن يسمع من الإمام أو من شاهدين لأدَّى ذلك إلى الحرج، أو لم يمكن (8). فنقل ذلك الخبر عن الواحد.

(إذا ثبتت الرؤية في بلد هل تلزم سائر البلاد؟)
وإذا ثبتت رؤية الهلال في بلد، فهل يلزم سائر البلاد إذا بلغهم؟ أما إن كان ذلك برؤية مشهورة فلا خلاف عندنا أنه يلزم [سائر] (9) البلاد. أما إن كان بشهادة وحكم؛ فإن ثبت عند الخليفة الذي يلزم [سائر الناس طاعته، أو عند قاضيه، أو حاكمه، لزم الكل بلا خلاف عندنا. وإن ثبت عند من لا يلزم] (10) الكل طاعته ففيه قولان: المشهور اللزوم؛ إذ هذا حكم [ثابت بالشهود فيلزم تعميمه قياسًا على سائر الأحكام] (11)، وليس مما
__________
(1) في (ق) لما.
(2) في (م) يثبت.
(3) في (ت) و (م) و (ق) فنقل.
(4) في (ق) وإلى.
(5) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وقد أخرج النسائي في الصيام 2116، وأحمد في مسنده. ولفظ النسائي: "صُوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وأنسكوا لها فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا".
(6) في (ت) يعطى حكم فيكون.
(7) في (ت) و (ر) و (م) بابه.
(8) في (ت) يكن.
(9) في (ق) لنقل ذلك فقيل الخبر.
(10) ساقط من (ر).
(11) ساقط من (ر).

(2/708)


يفتقر فيه إلى كون المحكوم عليه في عمالة الحاكم. والشاذ إلحاقه بسائر الأحكام، ولا يلزم إلا المُوَّلى عليه خاصة.
وإذا ثبت أن ثبوت الهلال لا يحصل إلا بالشهادة فيشترط في الشهود ما يشترط في سائر الشهادات. وتفصيل ذلك محال (1) على موضعه.

(حكم الشاهدين في المصر الكبير)
لكن اختلف المذهب في قبول الشاهدين في المصر (2) [الكبير والسماء مصحيَّة؛ فالمشهور قبولهما، وقيل لا يقبلان. وهذا خلاف في حال (3). فإن نظروا إلى صوب واحد وانفرد برؤيته اثنان فذلك ريبة تردّ شهادتهما، وإن انفردا بالنظر إلى موضع قبلت شهادتهما.

(حكم الشاهد الواحد)
وإذا رآه الإنسان المنفرد، وجب عليه أن يرفع [شهادته] (4) إن كان عدلاً، وكذلك إن كان مستوراً يرجو قبول شهادته، ولا يكتم لانفراده، لأنه قد يكون غيره يراه وهو منفرد أيضًا. فإن كان مكشوف الحال في عدم العدالة فهل يؤمر بالرفع؟ قولان: أحدهما: أنه لا يرفع خوفًا من كشف نفسه، والثاني: يرفع رجاء أن يقتدى به [مع] (5) غيره، ولعل ذلك يكثر فيؤدي إلى الانتشار الذي لا تطلب فيه (6) العدالة.
وإذا انفرد ولم يقبل قوله لانفراده، أو لأنه غير عدل، يجب عليه الإمساك. فإن لم يمسك، فلا يخلو أن يكون عامدًا غير متأول أو متأولاً.
__________
(1) في (ر) و (ت) يأتي.
(2) بداية السقط من (م).
(3) في (ر) في ذلك.
(4) ساقط من (ر).
(5) ساقط من (ق) و (ت).
(6) في (ق) معه.

(2/709)


فإن لم يتأول كان عليه القضاء والكفارة، وإن تأول فقولان: أحدهما: وجوب الكفارة، والثاني: نفيها. وهو على الخلاف في الجاهل هل حكمه حكم العامد أم لا؟
وإن انفرد بهلال شوَّال ولم يثبت به فإن لم يَخْفَ له الفطر فلا يفطر بلا خلاف، وإن كان مسافراً أو له عذر في الإفطار فمقتضى المذهب أنه يفطر، وإن لم يكن له عذر وخفي له الفطر وأمن من الاطلاع عليه، فالمشهور [من المذهب] (1) أنه لا يفطر، وهذا حماية للذريعة لئلا يطلع عليه غيره فيفطر على التهاون فيدعي الرؤية. والشاذ أنه يفطر لوجوب الفطر عليه.

(رؤيه الهلال على غير عادته في الطلوع)
وإذا رؤي الهلال مخالفًا لعادته في الطلوع؛ فإن كان بعد الزوال فلا يختلف المذهب بأنه من الليلة القابلة، وإن كان قبل الزوال ففي المذهب قولان: المشهور: أنه كالأول، والثاني: أنه لليلة الماضية. وكأن هذا ركون إلى أن السماء [كروية] (2) وهذا [على] (3) التعويل على رأي المنجمين، والأول نظراً إلى تجويز خلقته (4) كبيراً أو صغيراً من غير أن يلتفت إلى العادة في وقت طلوعه؛ لأنّ هذه العادة قد لا تثبت.
ولو شهد اثنان بالهلال فقبلا، ثم عدَّ الناس ثلاثين يوماً فلم يبصروا، والسماء مصحية، فذلك دليل على ريبة الشهادة. وفيها قال (5) مالك رحمه الله: هما شاهدا سوء.
ولو شهد شاهد على الهلال أول الشهر وشهد [آخر] (6) على هلال
__________
(1) ساقط من (ر).
(2) ساقط من (ت).
(3) ساقط من (ر) و (ق).
(4) في (ق) خلقه.
(5) في (ق) قول.
(6) ساقط من (ق) و (ت).

(2/710)


آخره، فإن كانت شهادة الثاني بعد تسعة وعشرين يومًا من شهادة الأول لم تلفق لأنهما لم يجتمعا على شيء واحد، وإن كانت بعد ثلاثين يومًا جرى تلفيقهما على الخلاف في تلفيق الشهادة على الأفعال.
...

فصل (في عدم الالتفات إلى كلام المنجمين)
وأما العدد فهو إكمال الشهر ثلاثين يومًا، وذلك يرجع إليه عند تعذر الرؤية. وإن اتفقت شهور كثيرة [في عدم الرؤية] (1) والسماء مصحيَّة [أو متغيّمة] (2) استمر الناس على إكمال العدد ثلاثين. ولا يلتفت [عند تعذر الرؤية] (3) في ذلك إلى أحكام المنجمين بالمفارقة وشهادتهم بإمكان الرؤية وتعددها، فإن أحكام المنجمين مذمومة [على تبيين الشرع] (4). وإلى نفي التعويل على أقوالهم أشار- صلى الله عليه وسلم -بقوله: "نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب الشهر هكذا وهكذا" (5). وأشار بيده منشورة (6) الأصابع ثم قال هكذا وهكذا [وهكذا] (7) وقبض في الآخرة أصبعاً من الأصابع، ليعلم أن التعويل على ما يشترك الكل في معرفته لا ما ينفرد به بعض الناس (8).
__________
(1) ساقط من (ق) و (ر).
(2) ساقط من (ت) و (ق).
(3) ساقط من (ق) و (ت).
(4) ساقط من (ق) و (ر).
(5) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وقد أخرج البخاري في الصوم 1913، ومسلم في الصيام 1080 ولفظ البخاري عن ابن عُمَرَ رَضِي الله عنهمًا عَنِ النبِي - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قَالَ "أنا أُمة أُمية لاَ نَكتُبُ وَلاَ نَحسُبُ الشهرُ هَكَذا وَهَكَذا يَعنِي مرة تسعَة وَعشرِينَ وَمَرة ثَلَاِثينَ".
(6) في (ق) مشيرة.
(7) ساقط من (ر) و (ق).
(8) الأمية ليست صفة لازمة للأمة، والرسول - صلى الله عليه وسلم -إنما تحدث عن الأمة في زمانه. ولعل=

(2/711)


(نفي التعويل على الحساب)
ونفي (1) التعويل على الحساب إما لأنه مما ينفرد به الآحاد، وإما لأنه مسامحة لقبول أحكام المنجمين في مبادئ قد ينصرفون (2) منها إلى أواخر تصادم الشرع، وجمهور الأمة إلى منع الالتفات إلى حسابهم في هذا الشأن فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "فَإن غُم عَلَيكُم فأكمِلُوا العِدةَ ثَلاَثِينَ" (3)، وما وقع في بعض الطرق: "فَإن غم عَليكُم فَاقدُرُوا لَهُ" (4) معناه إكمال العدة كما ورد في هذا الحديث، خَلافاً لمن فسره بالرجوع إلى التقدير والحساب (5). والدليل على بطلان [هذا] (6) ما قدمناه. وهذا دليل قطعي في هذا الشأن. وما ذكرناه من إكمال ثلاثين فهو معبر للحديث الآخر. وقد ركن بعض أصحابنا البغداديين إلى أن الإنسان إذا تحقق عنده بالحساب رجع إليه مع الغيم. وهذا باطل بما قدمناه (7).

(تبييت نية الصوم في يوم الشك)
وإذا التمس الناس فلم يروا الهلال والسماء مصحيَّة فلا شك، وإن كانت متغيمة فالشك (8) حاصل. وينبغي تبييت الإمساك ليستبين ما يأتي به النهار من أخبار السُّفَّار، فإن ثبت نفي الرؤية عول عليه، وإن ثبت إثباتها استديم الإمساك ولا يجزي ذلك اليوم. والفرق بين ما يجب فيه الإمساك
__________
= علم التنجيم الذي رفض الفقهاء الاستدلال به هو علم النجوم المرتبط بالكهانة والسحر والخرافة والشعوذة، أما علم التنجيم القائم على المسائل العلمية فلا مانع من الاستدلال به.
(1) في (ق) بقي.
(2) في (ت) و (ق) يتطرقون.
(3) أخرجه البخاري في الصوم 1907 واللفظ له، ومسلم في الصيام 1081
(4) أخرجه البخاري في الصوم 1900، ومسلم في الصيام 1080.
(5) في (ق) بالحساب.
(6) ساقط من (ر).
(7) من الذين قالوا بجواز الاعتماد على الحساب ابن سريج من الشافعية وقد نقل عنه ذلك النوويّ في المجموع 6/ 279 وقال بجواز ذلك أيضًا السبكي في فتاويه 1/ 219.
(8) في (ر) والشك.

(2/712)


وما يجوز فيه استدامة الفطر أن كل من عول على الفطر بإباحة الشرع مع العلم بأن اليوم من رمضان، فإنه يستديم الفطر، كالحائض تطهر والصبي يحتلم والمجنون يفيق والمسافر يقدم. وفي الكافر يسلم قولان: قيل يجب عليه الإمساك بقية النهار إن أسلم فيه، وقيل لا يجب عليه. وهما على الخلاف في مخاطبتهم بفروع الشريعة.
ومن عول على الفطر جهلًا بأن اليوم ليس من رمضان، ثم ثبت أنه منه وجب عليه الإمساك. فإن أفطر وقد علم بوجوب الإمساك عليه؛ فإن تأول فلا كفارة عليه، وإن لم يتأول فقولان: أحدهما: وجوب الكفارة لوجوب الإمساك، والثاني: نفيها لأنّ اليوم لم تنعقد حرمته في حقه.
...

فصل (حكم صوم يوم الشك)
ويصوم يوم الشك مَن نَذره، أو من (1) استدام الصوم. وهل يصومه للتطوع (2) أم لا؟ قولان: الكراهية (3) محاذرة من موافقة أهل البدع في صومهم، والجواز لأنه محل الصوم على الجملة. وإنما يصومه أهل البدع لاعتقادهم أنه من رمضان. ونصوص المذهب على النهي عن (4) صومه على التحري. واستقرأ أبو الحسن اللخمي وجوب (5) صومه من أحد الأقوال في وجوب الإمساك على من شك في طلوع الفجر وعدم طلوعه. وهذا الاستقراء غير صحيح، لأنّ إمساك هذا الجزء لا محاذرة فيه من موافقة بدعي بخلاف يوم الشك. واستقرأه أيضًا من مسألة هي أشبه (6) من الأولى،
__________
(1) في (ق) ومن.
(2) في (ق) و (ت) المتطوع.
(3) في (ق) و (ت) الكراهة.
(4) في (ر) من.
(5) في (ق) جواز.
(6) في (ق) أشد.

(2/713)


وهي إحدى الأقوال في الحائض يتمادى بها الدم حتى يتجاوز عادتها ولا تبلغ الخمسة عشرة يوماً أنها تصوم وتصلي. والجامع (1) أن (2) صوم الحائض محرّم وصوم يوم الشك منهي عنه محاذرة (3) من موافقة المعولين على التنجيم (4). وقد أمر مالك رحمه الله الحائض بالاستظهار [وبالصوم] (5) خوفاً من أن يكون واجباً عليها، ثم أمرها بالقضاء لئلا تكون حائضاً. وكذلك نأمره (6) بأن يصوم يوم الشك خوفاً من أن يكون من رمضان، ويمكن أن يفرق بينهما بأن محاذرة الموافقة لأهل الحساب (7) أشد من محاذرة الوقوع في الإمساك مع الحيض، لأنّ موافقة أولئك تعم [ضرورة] (8)، وضرورة الحائض لا تعم. وأيضاً فنحن متعبدون بأن لا نصوم إلا مع (9) كمال العدة أو الرؤية، وهاهنا لا واحد من هاذين. والحائض إذا تمادى [بها] (10) الدم وقد تيقنت أن الزمان يجب صومه على الجملة وهي تشك (11) هل وجب عليها في نفسها أم لا؟ فتأخذ بالاحتياط (12)، فإن صام المكلف يوم الشك احتياطًا فالمنصوص لا يجزيه (13). قال (14) أشهب: بمنزلة من بادر فصلى
__________
(1) في (ت) تصوم وتقضي وتجامع وفي (ق) تصوم وتصلي وتجامع، وفي (ر) تصوم وتجامع.
(2) في (ت) و (ر) وإن كان.
(3) في (ر) من محاذرة، وفي (ق) للمحاذرة.
(4) في (ت) التحريم.
(5) ساقط من (ر) و (ق).
(6) في (ر) يأمره.
(7) في (ر) محاذرة الموافقة في الحساب، وفي (ق) المحاذرة من موافقة الحساب، وفي (ت) محاذرة الموافقة لأهل البدع.
(8) ساقط من (ق) و (ت).
(9) في (ق) بعد.
(10) ساقط من (ق).
(11) في (ق) ومتى شكت.
(12) في (ر) الاحتياط.
(13) في (ق) و (ت) ألا يجزيه.
(14) في (ت) و (ر) وقال.

(2/714)


الظهر مع الشك هل دخل الوقت [أم لا] (1) فإنها لا تجزيه، وإن تبيّن أنه صلى في الوقت. وأنكر أبو الحسن اللخمي هذا التشبيه لأنّ المأمور بالصلاة عنده لا ينبغي له المبادرة مع الشك، وصائم يوم الشك مأمور (2) بالمبادرة. ورأى (3) أن المشبه ليوم الشك مسألة من تطهير أو توضأ لما شك هل وجب عليه، أو صلى لما (4) ظن أنه وجب عليه.
وفي المذهب قولان: إن تيقن بالوجوب فهل (5) يكتفي بما قدمه (6) مع الشك أم لا؟ وهذا الذي قاله غير صحيح. وتشبيه أشهب واقع؛ لأنّ صوم يوم الشك منهي عنه، وهو أبلغ في النهي من الشاك هل دخل وقت الصلاة (7) أم لا؟ وما ذكره من المسائل لا خلاف أنه مأمور بتحصيل ما شك فيه. وإنما الخلاف في وجوب أمره أو ندبه، وعليه يبنى الإجزاء.
وقد ألحقنا حكم يوم الشك بهذا الباب لما استوفينا فيه النظر في زمان الصوم العام والخاص.
وقد احتج مالك رحمه الله على الشافعي المجيز لشهادة الواحد في الصوم دون الفطر، بأنه إذا قبل في الصوم ثم عدَّ الناس ثلاثين يومًا فلم يروه، فهل يفطرون فيصير الإفطار بواحد والمخالف ينكره، أم (8) يصومون فيصير الصوم إحدى وثلاثين يومًا؟ وذلك مما تنكره الشريعة.
وللشافعية في هذه المسألة (9) قولان: أحدهما: الفطر بعد الثلاثين بشهادة الأول؛ لأنه حكم قد استقل بالواحد فيمضي على ما هو به.
__________
(1) ساقط من (ر).
(2) في (ر) مأمور به وفي (ت) مأمور له.
(3) في (ق) فرأي.
(4) في (ق) بما.
(5) في (ر) و (ت) هل.
(6) في (ر) قدمناه، وفي (ت) قدم.
(7) في (ر) و (ت) الظهر.
(8) في (ق) ثم.
(9) في (ر) الصورة.

(2/715)


والثاني: يصومون إحدى وثلاثين يوماً لئلا يفطروا بشهادة الواحد. ويكون المعوَّل على أن الحكم في تفصيل كل (1) نازلة بما يوجبه الشرع. وعندنا ما يشير إلى هذا الخلاف، وهو قبول الشاهد واليمين وشهادة النساء في كل موضع تقع الشهادة على غير مال، والحاصل عنها مال أو بالعكس. وبيانه يأتي في موضعه إن شاء الله.
...