التوسط بين مالك وابن القاسم في المسائل التي اختلفا فيها من مسائل المدونة

ذكر خلافه له في كتاب الزكاة.
5 - حكم زكاة الإبل إذا زادت على مائة وإحدى وعشرين (1) (2).
قال ابن القاسم: قال مالك في الإبل إذا زادت واحدة على عشرين ومائة أن الساعي بالخيار: إن شاء أخذ منها ثلاث بنات لبون وإن شاء أخذ حقتين.
وقال ابن القاسم: كان ابن شهاب (3) يقول: إذا زادت الإبل على عشرين ومائة
_________
(1) قال ابن عبد البر في التمهيد (20/ 138): فإذا كانت إحدى وعشرين ومائة فهذا موضع اختلاف بين العلماء. وكل ما قدمت لك إجماع لا خلاف فيه.
وأما اختلافهم في هذا الموضع: فإن مالكا قال: إذا زادت الإبل على عشرين ومائة واحدة فالمصدق بالخيار: إن شاء أخذ ثلاث بنات لبون، وإن شاء أخذ حقتين.
قال ابن القاسم: وقال ابن شهاب: إذا زادت واحدة على عشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون إلى أن تبلغ ثلاثين ومائة فيكون فيها حقة وابنتا لبون.
قال ابن القاسم: يتفق ابن شهاب ومالك في هذا، ويختلفان فيما بين واحد وعشرين ومائة إلى تسع وعشرين ومائة.
قال ابن القاسم: ورأيي على قول ابن شهاب.
وذكر ابن حبيب أن عبد العزيز بن أبي سلمة وعبد العزيز بن أبي حازم وابن دينار يقولون بقول مالك: إن الساعي مخير إذا زادت الإبل على عشرين ومائة في حقتين أو ثلاث بنات لبون كما قال مالك.

وذكر أن المغيرة المخزومي كان يقول: إذا زادت الإبل على عشرين ومائة ففيها حقتان لا غير إلى ثلاثين ومائة وليس الساعي في ذلك مخيرا.
قال: وأخذ عبد الملك بن الماجشون بقول المغيرة في ذلك. انتهى.
وراجع: الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (1/ 434) وشرح الزرقاني على الموطأ (2/ 153) ومواهب الجليل (2/ 259) وحاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني (1/ 501).
(2) هذا العنوان مني، وليس من المؤلف.
(3) هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري (ت 124).
انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (5/ 326) والجرح والتعديل (8/ 71) والتاريخ الكبير (1/ 220) وتذكرة الحفاظ (1/ 108) وتهذيب الكمال (26/ 419) وتهذيب التهذيب (9/ 395).

(1/40)


واحدة، ففيها ثلاث بنات لبون إلى أن تبلغ ثلاثين ومائة.
قال ابن القاسم: ورأيي على قول ابن شهاب. (1)
قال أبو عبيد رحمه الله: أما وجه قول مالك في جعل الساعي بالخيار بين حقتين وثلاث بنات لبون إذا زادت الإبل واحدة على عشرين ومائة، فلأن النبي عليه السلام لما قال: "إذا زادت الإبل على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة" (2)، احتمل أن يكون أراد زيادة الواحدة وهي أقل ما يقع عليه الاسم، واحتمل أن يكون أراد الزيادة التي تغير حكم الزكاة وتنقلها من حال إلى حال.
فلما كان هذا الاحتمال سائغا، جعل الخيار إلى الساعي في أخذ ما يؤد (ي) (3) ا (جـ) ـتهاده (4) إليه.
فإن أداه اجتهاده إلى أخذ الحقتين، جاز له أخذهما، وكذلك إن أداه إلى الثلاث بنات لبون.
وإنما سوغه الاجتهاد في ذلك، لأن النص يحتمل التأويل، وكل نص محتمل التأويل فالاجتهاد فيه سائغ، فاعلم ذلك، وبالله التوفيق.
وأما وجه قول ابن شهاب الذي اختاره ابن القاسم، فلأن أصل العبادات لما كانت مبنية على الاحتياط، وكان اسم الزيادة يقع على الواحد، كان من الاحتياط للزكاة أن يتغير الحكم في العشرين ومائة، إذا زادت واحدة لحصول الزيادة فيها
_________
(1) المدونة (2/ 307).
(2) رواه البخاري (1386) وأبو داود (1567) والنسائي (5/ 18) وأحمد (1/ 11) وابن الجارود (94) وابن خزيمة (2261) وابن حبان (3266) والحاكم (1441) والبيهقي (4/ 85 - 86) والطحاوي (4/ 374) والبزار (40) عن ثمامة بن عبد الله عن أنس.
ورواه الدارمي (1626) وابن أبي شيبة (2/ 358) عن ابن عمر.
(3) ما بين القوسين به بتر، وأتممته لظهور معناه.
(4) ما بين القوسين به بتر، وأتممته لظهور معناه.

(1/41)


فتنتقل من حكم الحقتين إلى الثلاث بنات لبون.
وهذا القول أحوط، وقول مالك (أقيـ) س (1).
لأن الـ (ـو) احد من الإبل لا يغير حكم الزكاة في الأموال (2) التي تقع زكا (تهـ) ـا (3) منها، [ص15] وإنما هو ( ... ) (4) يغير حكمها وينقلها من حال إلى حال، لوجب أن تؤخذ الزكاة من الواحد الزائد، كما تؤخذ من العشرين ومائة، فيكون في كل أربعين ومـ (ـائة) (5) بنت لبون.
وألا يؤخذ من ستين ومائة أربع بنات لبون، لأنها لا تبلغ أربعين وثلثا وخمسين وثلثا.
فلما كان لا يجوز اتفاقا، دل على أن قوله عليه السلام: "فما زاد على عشرين ومائة ففي كل أربعين ابنة لبون وفي كل خمسين حقة"، إنما أراد الزيادة التي تجمع بحلولها في المال الحقة وبنات اللبون لا ما سواها، والله أعلم بالصواب.
_________
(1) ما بين القوسين به بتر، وأتممته لظهور معناه.
(2) في الأصل: الاخذال، وما ذكرته أولى.
(3) ما بين القوسين به بتر، وأتممته لظهور معناه.
(4) في الأصل طمس هنا.
(5) ما بين القوسين به بتر، وأتممته لظهور معناه.

(1/42)


6 - حكم زكاة المال المغصوب (1) (2).
قال ابن القاسم: قال مالك فيمن غصب ماشية، أو ظلمها، ثم ردت عليه بعد أعوام، أنه ليس عليه إلا زكاة عام واحد.
وقال ابن القاسم: عليه أن يزكيها لما مضى من السنين على ما يجدها إذا لم يأخذ السعاة منها شيئا". (3)
قال أبو عبيد: أما وجه قول مالك رحمه الله لا زكاة عليه إلا لعام واحد، (4) فلأن
_________
(1) قال ابن عبد البر في الكافي (94): وأما المال الثاوي، وهو المجحود المغصوب والمدفون في صحراء والضائع في مفازة أو غيرها ونحو ذلك مما قد كان يئس منه صاحبه ثم وجده بعد سنين، فإنه يزكيه لكل سنة.
وقد قيل: لا زكاة عليه فيه لما مضى، وإن زكاه لعام واحد فحسن، كل ذلك صحيح عن مالك.
وقد روي عن ابن القاسم وأشهب وسحنون أنه يزكيه لما مضى من السنين، إلا أنهم يفرقون بين المضمون في ذلك وغير المضمون، فيوجبون الزكاة في الغصوبات إذا رجعت لعام واحد والأمانات، وما ليس بمضمون على أحد يزكي لما مضى من السنين.
وهذا أعدل أقاويل المذهب. انتهى.

وقال ابن قدامة في المغني (2/ 346): والكلام في المغصوب والمسروق والمجحود والضال واحد، وفي جميعه روايتان: إحداهما: لا زكاة فيه، نقلها الأثرم والميموني. ومتى عاد صار كالمستفاد يستقبل به حولا، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي في قديم قوليه ... والثانية: عليه زكاته، لأن ملكه عليه تام فلزمته زكاته.
وحكى النووي في المجموع (5/ 305) عن الشافعي قولين: في القديم لا يجب، وفي الحديث يجب.
وانظر: التاج والإكليل (2/ 296) وحاشية الدسوقي (1/ 456).
(2) هذا العنوان مني، وليس من المؤلف.
(3) المدونة (2/ 338).
(4) وعلل ابن قدامة في المغني (2/ 346) قول مالك، فقال: لأنه كان في ابتداء الحول في يده، ثم حصل بعد ذلك في يده، فوجب أن لا تسقط الزكاة عن حول واحد.
وليس هذا بصحيح لأن المانع من وجوب الزكاة إذا وجد بعض الحول يمنع كنقص النصاب. انتهى.

(1/43)


الغاصب عند مالك وابن القاسم ضامن لرد عين، وما اغتصبه مع بقائها على حالها أو لقيمتها (إن) (1) تغيرت عن حالها.
فلما كان هذا الحياز في الأغلب لا يبقى على حال واحدة، ومتى بقي فإنما هو نادر، والحكم أبدا معلق بالأغلب من حال المحكوم فيه، دل على أن الماشية (2) في ضمان الغاصب إذا تغيرت عن حالها، أو مضى لها من الزمان ما يتغير جسمها في مثله، وإن الواجب عليه للمغصوب قيمتها يوم اغتصبها، إلا أن يختار أخذها على أي حال وجدها.
فإن اختار ذلك لم يجب عليه سوى زكاة عام واحد، لأنه لو شاء أن يمتنع من أخذها، ويلزم الغاصب قيمتها لكان ذلك له، فدل على أن ملكـ (ـه) (3) قد زال عنها بنفس تغييرها في ذاتها وبمضي الزمان الذي يتغير جسـ (مهـ) ا (4) في مثله، بشريطة اختيار المغصوب منه ذلك.
وإذا كان ملكه قد زال عنـ (ـها) (5)، فلا زكاة عليه إلا لعام واحد، وهو العام الذي يقبضها فيه [ص16] بشريطة مجيء الساعي وكـ (ـمال) (6) النصاب (7)، والله أعلم.
وأما وجه قول ابن القاسم، إنه يزكيها لما مضى من السنين، فلأن العين المغصوبة إذا اختار ربها أخذها على أي حال وجدها كان له ذلك، ولم يكن للغاصب أن يمنعه منه، فدل (به على) (8) أن ملكه لم يزل عنها.
_________
(1) ما بين القوسين به بتر، وأتممته لظهور معناه.
(2) أكلت الأرضة بعض هذه الكلمة، وبقيت معالمها ظاهرة.
(3) ما بين القوسين به بتر، وأتممته لظهور معناه.
(4) ما بين القوسين به بتر، وأتممته لظهور معناه.
(5) ما بين القوسين به بتر، وأتممته لظهور معناه.
(6) ما بين القوسين به بتر، بمقدار حرفين أو ثلاثة.
(7) في الأصل نصابا.
(8) بياض في الأصل، وأتممته اعتمادا على ما بقي من الحروف.

(1/44)


وإذا كانت على ملكه فعليه أن يزكيها إذا قبضها لما مضى من السنين على ما هي عليه يوم القبض.
لأنه لم يكن له صنع في الفرار منها إلا أن يكون السعاة قد أخذوا زكاتها في حال كونها عند الغاصب فيجزيه ذلك، ولا شيء عليه.
وقد كان لهذا القول وجه سائغ في النظر، لولا أن من مذهب قائله أن بنفس تغير العين المغصوبة يكون المغصوب منه بالخيار بين أخذها متغيرة، وبين تضمين الغاصب قيمتها يوم اغتصبها، فكيف يعد مالكا لعين من لا يستقر ملكه عليها إلا بمشيئة، ألا ترى أنه بالخيار بين أن يملكها وبين أن يأخذ قيمتها.
وإذا كان ذلك كذلك دل على أنه إنما يصح ملكه لها باختياره، والله أعلم.

(1/45)


ذكر خلافه له في كتاب الصوم
7 - حكم من لم يصم رمضان حتى دخل عليه رمضان آخر (1) (2).
" قال ابن القاسم: قال مالك فيمن كان عليه صيام شهر رمضان، فلم يصمه حتى دخل عليه رمضان آخر، أنه لا يجوز له أن يصوم للداخل وينوي به قضاء الذي عليه.
قال ابن القاسم: وأرى إن فعل ذلك أن يجزئ عنه للشهر الذي حضره، وعليه أن يأتي بصيام الفرض المتقدم له، لأن مالكا قال، فيمن كان عليه مشي وهو صرورة (3) فمشى في حجة ينوي بها قضاء نذره وحجة الإسلام أن ذلك يجزيه لنذره، وعليه أن يحج لفرضه. (4)
قال أبو عبيد: القياس على قول مالك خلاف ما رأى ابن القاسم، لأن الشهر الحاضر مستحق زمانه للصوم المفـ (ـرو) ض (5) فيه دون ما سواه، ولا يجوز مع ذلك
_________
(1) قال ابن عبد البر في الكافي (121): ومن كان عليه قضاء رمضان فلم يقضه حتى دخل رمضان آخر فصام هذا عن ذلك، ففيها لمالك ثلاثة أقوال:
أحدهما: أنه يجزئه عن هذا، وعليه قضاء ذلك.
والآخر: أنه عن ذلك، وعليه قضاء هذا.
والثالث: أنه لا يجزئه عن واحد منهما، وعليه على كل حال أن يطعم عن الأول إن كان مفرطا.
وقد قيل إنه يكفر بإطعام ستين مسكينا، لأنه كالمفطر عامدا، قال ذلك بعض أصحاب مالك، وهو قول لا وجه له ولا سلف لقائله. انتهى.
وانظر: شرح الزرقاني على الموطأ (2/ 257) والمنتقى للباجي (2/ 41).
(2) هذا العنوان مني، وليس من المؤلف.
(3) يقال: رجل صرور وصرورة: إذا لم يحج قط. انظر اللسان (4/ 453).
(4) المدونة (1/ 221).
(5) ما بين القوسين به بتر، وأتممته لظهور معناه.

(1/46)


أن يصام إلا بنية تقارنه فا ( ... ـض) (1) [ص57] ( .. ) صائم النية له ( ... ) (2) صومه واستحال أن ينوب له عن الفرض الذي نواه فيه، لأن زمانه مستحق للصوم الذي يختص به، فإذا صامه بنية غيره كان في معنى من رفض النية فيه.
وإذا كان كذلك، فلا جائز أن ينوب له عن الفرض الحاضر الذي يختص به، لأنه لم ينوه ولا عن الفرض الماضي، لأن ( ... ) (3) مستحق لغيره.
وأما تشبيه ابن القاسم لذلك بما رواه عن مالك في الصرورة يمشي لنذره ولفرضه، ( ... ) (4) لأن النذر لا ينتقضه مقارنة نية الفرض، كما ينتقض فرض الحج مقارنة نية النذر له.
لأن حج الفريضة أوكد في الوجوب من النذر فإذا شرك بينهما في النية والعمل، حسن أن تـ (ـنـ) ـوب (5) نية الحج (عن النذر) (6)، ولم يجز أن تنوب (نـ) ـية (7) النذر عن فريضة الحج.
لأن الأقوى ينوب عن الأضعف أبدا، هذا موجود في الأصول، على أن هذه الرواية التي شبه ابن القاسم الصوم بها قد روى عبد الملك (بـ) ـن الماجشون عن مالك خلافها.
قال عبد الملك: "كان مالك يقول في الصرورة يمشي لنذره وحجته أحب إلي أن يعود لهما جميعا، لأن ذلك انتقاص من كل أحد منهما لصاحبه"
وهذه الرواية أمضى على أصوله من رواية ابن القاسم عنه.
_________
(1) بتر في الأصل.
(2) ما بين القوسين لا يظهر جيدا، وهو بمقدار 3 أحرف، وكأنها: بمن، أو: فمن.
(3) بتر في الأصل لا تظهر بسببه الكلمة.
(4) لم أتمكن من قراءة هذه الكلمة.
(5) ما بين القوسين به بتر، وأتممته لظهور معناه.
(6) بتر في الأصل بمقدار كلمة، وأتممه اعتمادا على السياق.
(7) ما بين القوسين به بتر، وأتممته لظهور معناه.

(1/47)


وأما وجه اختيار ابن القاسم أنه يجزيه عن الفرض الحاضر (دو) ن (1) الماضي، فلأن زمان الشهر الحاضر مستحق للصوم المفترض فيه دونما سواه، فإذا نوى فيه غيره لم تعمل النية في إحالته عن موضعه، كما لا تعمل (نـ) ـية (2) الصوم في الليل، وفي زمان العيدين في إحالتهما عن موضعهما، وإن اقترن إلى ذلك إمساك عن الطعام.
وكلا القولين له وجه في النظر، غير أن قول مالك عندي أولى بالصواب، والله أعلم بالصواب.
_________
(1) ما بين القوسين به بتر، وأتممته لظهور معناه.
(2) ما بين القوسين به بتر، وأتممته لظهور معناه.

(1/48)