التوسط بين مالك وابن القاسم في المسائل التي اختلفا فيها من مسائل المدونة

ذكر خلافه له في كتاب الحج:
8 - هل يفتدي المحرم إذا حلق رأس الحلال (1) (2)
(قال) (3) ابن القا (سـ) ـم (4): قال مالك في المحرم يحلق رأس الحلال عليه أن يفتدي.
قال ابن القاسم: وأرى عليه أن يتصدق بشيء من طعامه من أجل الدواب التي [ص58] في الرأس. (5)
فقال أبو عبيد: أما قول مالك في الفدية التي ألزمها المحرم بحلق رأس الحلال، فمراده بها: الفدية التي نص الله عليها في قوله تعالى "ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه (فـ) ـفدية (6) من صيام أو صدقة أو نسك".
وإنما ألزمه ذلك، والله أعلم، لأن أصل الفدية إنما هي في حلق الشعر، فلما كان المحرم منهيا عن حلق شعره وشعر غيره، وجب عليه إذا فعل شيئا من ذلك الفدية المنصوصة، لأنه في معنى المحكوم بها.
_________
(1) قال ابن عبد البر في الكافي (152): ولا بأس أن يأخذ من شارب الحلال وأظفاره، وأما أن يحلق شعر حلال أو محرم فلا، لما يخاف عليه من قتل الدواب. ومن أيقن من المحرمين أنه سلم عند حلق رأس الحلال من قتل الدواب فلا شيء عليه.
وقال ابن قدامة المقدسي في المغني (3/ 260): إذا حلق المحرم رأس حلال أو قلم أظفاره فلا فدية عليه، وبذلك قال عطاء ومجاهد وعمرو بن دينار والشافعي وإسحاق وأبو ثور ... الخ
وقال النووي في المجموع (7/ 223): ولو حلق المحرم رأس الحلال جاز ولا فدية.
وانظر مواهب الجليل (3/ 162) وحاشية الدسوقي (2/ 64).
(2) هذا العنوان مني، وليس من المؤلف.
(3) بتر في الأصل، وأتممته اعتمادا على السياق.
(4) ما بين القوسين به بتر، وأتممته لظهور معناه.
(5) المدونة (2/ 428).
(6) ما بين القوسين به بتر، وأتممته لظهور معناه.

(1/49)


وأما قول ابن القاسم: في إيجاب الإطعام دون الفدية فلأن المحرم إذا حلق رأس غيره فلم يمط بذلك أذى عن نفسـ (ـه) (1)، إذ الفدية إنما هي معلقة بإماطة الأذى والترفيه به.
فلما عري من ذلك كان في معنى من ألقى عن غيره قملا وعرضها للتلف، فوجب عليه الإطعام به لا مما ألقاه، لأنه في حكم اليسير الذي لو ألقاه عن نفسه لم يكن عليه فيه سوى ذلك، وكلا القولين له وجه في النظر (2)، والله ولي التوفيق.

9 - حكم نذر هدي ما لايهدى مثله كالثوب ونحوه (3) (4)
"قال ابن القاسم: قال مالك فيمن نذر هدي ثوب أنه يبيعه ويشتري بثمنه هديا فيهديه، فإن لم يكن في ثمنه هدي (يبعث) (5) بثمنه إلى خزان مكة لينفقوه على الكعبة.
وقال ابن القاسم: أحبَّ إلي أن يتصدق بثمنه حيث شاء.
ألا ترى أن ابن عمر رحمه الله كان يكسو جلال بدنه الكعبة، فلما كسيت الكعبة هذه الكسوة تصدق بها (6). (7)
_________
(1) ما بين القوسين به بتر، وأتممته لظهور معناه.
(2) حكى ابن المواق في التاج والإكليل (3/ 163) خلاف مالك وابن القاسم، وقال: ابن يونس: قول ابن القاسم أبين، ويحتمل أن يكون وفاقا.
(3) قال الحطاب في مواهب الجليل (3/ 325): فإن كان ما نذره هديا مما لا يهدى مثل الثوب والعبد والدابة باعه وعوض بثمنه هديا، فإن لم يبعه وبعثه كره له ذلك وباعه وأهدي به.
وقال ابن عبد البر في الكافي (204): وكذلك إذا نذر هدي ما لا يهدى مثله، باعه واشترى هديا بثمنه.
(4) هذا العنوان مني، وليس من المؤلف.
(5) بتر في الأصل بمقدار كلمة، وأتممته اعتمادا على المدونة.
(6) رواه مالك (849) عن نافع أن ابن عمر كان يجلل بدنه القباطي والأنماط والحلل، ثم يبعث بها إلى الكعبة فيكسوها إياها.
وروى مالك عن عبد الله بن دينار أنه سأل: ما كان عبد الله بن عمر يصنع بجلال بدنه حين كسيت الكعبة هذه الكسوة، قال: كان يتصدق بها.
(7) المدونة (2/ 445).

(1/50)


قال أبو عبيد: أما قوله: في الثوب الذي نذر هديه أنه يباع ويشتري بثمنه ما يجوز هديه فيهدي ذلك بدلا منه، فلأن الهدايا التي سن هديها إلى الكعبة لا يكون إلا مـ (ـن) بهيمة (ا) لأنعام (دون) (1) ما سواها من الحيوان والعروض، وإذا نذر شيئا مما عدا (ها) (2) فلا سبيل ( ... ) [ص17] ( ... ) (3) هدي عينه ولا إلى هدي ثمنه إلا أن يقصر (ثـ) ـمنه (4) عن هدي يعتاض به منه، فإن قصر عن ذلك أهدى ثمنه إلى الكعبة ليستعمل في (مـ) ـصالحها (5)، لأنه لما لم يف ثمنه بما يجوز هديه، وأمكن تصريفه فيما يقرب إلى الله عز وجل من مصالح الكعبة، وجب أن يصرفه في ذلك.
لأن الذي نذر ثوبه هديا إنما أراد الهبة إلى الله عز وجل من نحر الهدايا، فكان استعماله فيما هو أشبه بمعنى الهدي واسمه وأقرب إلى غرض صاحب النذر أولى، والله أعلم.
وأما استحباب ابن القاسم أن يتصدق بثمنه حيث شاء، واحتجاجه في ذلك بفعل ابن عمر في جلال (6) بدنه فمعناه، والله أعلم: أن الكعبة لما كانت في غنى عن المال، وقد تكلف مصالحها من جميع جهاتها رأى التقرب إلى الله عز وجل بصدقة ثمن الثوب إذا قصر عن الثمن ما يجوز هديه أفضل (7).
واستدل على ذلك بفعل ابن عمر رحمه الله في جلال بدنه.
وهذا الذي استدل به لا دليل له فيه، لأن ابن عمر رحمه الله لم يكن نذر كسوة الكعبة بجلال بدنه، وإنما كان يفعل ذلك تطوعا، فلما كسيت الكعبة صرف
_________
(1) بتر في الأصل بمقدار 3 أحرف، وأتممته اعتمادا على السياق.
(2) ما بين القوسين به بتر، وأتممته لظهور معناه.
(3) بياض في الأصل بسبب الرطوبة بمقدار حرفين.
(4) ما بين القوسين به بتر، وأتممته لظهور معناه.
(5) ما بين القوسين به بتر، وأتممته لظهور معناه.
(6) هي ما تغطى به البدن، كما في اللسان (11/ 119).
(7) يظهر لي أن هذه الجملة ينقصها شيء.

(1/51)


تطوعه إلى نوع (آخر من) (1) البر.
والذي نذر ثوبه قد أوجب ذلك على نفسه، ولزمه أن يفي بنذره فيما أمكن، ومن تعذر من ذلك صرفه في أشبه القرب بنذره أولى وأفضل، وبالله التوفيق.
_________
(1) بتر في الأصل، وأتممته اعتمادا على السياق.

(1/52)


ذكر خلافه له في كتاب الجهاد
10 - حكم انتفاع الغازي بما يجده في أرض العدو (1) (2).
" روى ابن وهب (3)
وعلي بن زياد (4) عن مالك في الغازي يجد الدابة والسلاح
_________
(1) قال ابن أبي زيد القيرواني في الرسالة: ولا بأس أن يؤكل من الغنيمة قبل أن يقسم الطعام والعلف لمن احتاج إلى ذلك.
قال ابن ناجي في شرحه على الرسالة (2/ 8): اعلم أنه في المدونة عبر بلا بأس كعبارة الشيخ، وزاد فيها: بلا إذن الإمام، وهي هاهنا، والله أعلم، كصريح الإباحة على ظاهر كلام أهل المذهب، وهو الظاهر من فعل السلف الصالح ... واختلف المذهب في أخذ الأنعام الحية في الذبح، ففي المدونة وغيرها جوازذلك، وقيل: إنه لا يجوز، ذكره ابن بشير. قال ابن عبد السلام: ولا أعرفه الآن لمن ينسبه من أهل المذهب، وهو مذهب الشافعي، ونحوه قول خليل: لا أعرفه معزوا. واختلف في أخذ السلاح بنية الرد ... ثم ساق الخلاف في ذلك.
وقال ابن قدامة المقدسي في المغني (9/ 224): ولا يجوز لبس الثياب ولا ركوب دابة من المغنم، لما روى رويفع بن ثابت الأنصاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس ثوبا من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه. رواه سعيد.
وقال أيضا في المغني (9/ 228): وجملة ذلك أن المغانم إذا جمعت وفيها طعام أو علف لم يجز لأحد أخذه إلا لضرورة، لأننا إنما أبحنا أخذه قبل جمعه، لأنه لم يثبت فيه ملك المسلمين بعد، فأشبه المباحات من الحطب والحشيش، فإذا حيزت المغانم ثبت ملك المسلمين فيها، فخرجت عن حيز المباحات، وصارت كسائر أملاكهم، فلم يجز الأكل منها، إلا لضرورة، وهو أن لا يجدوا ما يأكلونه، فحينئذ يجوز، لأن حفظ نفوسهم ودوابهم أهم وسواء حيزت في دار الحرب أو في دار الإسلام.
وانظر المنتقى للباجي (3/ 203).
(2) هذا العنوان مني، وليس من المؤلف.
(3) هو عبد الله بن وهب بن مسلم أبو محمد الفهري المصري (ت 197).

ترجمته في سير أعلام النبلاء (9/ 223) والجرح والتعديل (5/ 189) والتاريخ الكبير (5/ 218) وترتيب المدارك (3/ 228) وتهذيب الكمال (16/ 277) وتهذيب تهذيب (6/ 65) وطبقات الحفاظ (132) وشجرة النور (58) وغيرها كثير.
(4) هو أبو الحسن علي بن زياد التونسي (ت 183)، له ترجمة في طبقات الفقهاء للشيرازي (156) وترتيب المدارك (3/ 80) وشجرة النور (60) والديباج المذهب (192).

(1/53)


أو الثياب في أرض العدو لا ينتفع بشيء من ذلك.
وقال ابن القاسم: لا أرى بأسا أن يلبس الثوب حتى يقدم موضع الإسلام، فإذا قدم رده، وهو بمنزلة الـ (ـبرا) ذين (1). (2)
قال أبو عبيد رحمه الله: معنى قول مالك في منع الغازي (من) (3) (الانتـ) ـفاع (4) بركوب الدابة ولباس الثوب وما جرى مجراهما إذا [ص18] كان غنيا عن ذلك ولم يكن به افتقار إليه، لأن أهل (الـ) ـجيش شر (كاء) (5) في الغنيمة، فلا يجوز لواحد منهم أن يستبد منها بمنفعة تؤدي استدامتها إلى اهتضام قيمة المنتفع به، دون من يشركه فيها.
فأما إذا افتقر إلى ركوب دابة من الغنيمة لمرض نزل به، أو إلى لباس ثوب منها، لافتقار منه إليه، فهو في حكم ما عفي عنه من الطعام والعلف لحاجة الناس إلى ذلك.
وأما ترخيص ابن القاسم في الاستمتاع بركوب الدابة ولباس الثوب فمعناه عندي: والله أعلم إذا كان المستمتع بهما مفتقرا إلى ذلك، من علة نزلت به، ولا يجد (مـ) ـا (6) يتحمل عليه، ولا ما يكنه (7) من حر أو برد، فإذا كان كذلك فجائز أن يستمتع بهما وبما كان في معناهما.
وقد يحتمل أن يكون الركوب واللباس اللذان يرخص فيهما مما لا ينهك المركوب ولا الملبوس ولا ينقص قيمتهما، والله الموفق للصواب.
_________
(1) ما بين القوسين به بتر، وأتممته لظهور معناه، واعتمادا على ما في المدونة.
(2) المدونة (3/ 37).
(3) بتر في الأصل، وأتممته اعتمادا على السياق.
(4) ما بين القوسين به بتر، وأتممته لظهور معناه.
(5) ما بين القوسين أكلت الأرضة أعلاه.
(6) ما بين القوسين به بتر، وأتممته لظهور معناه.
(7) أي يستره.

(1/54)