التوسط بين مالك وابن القاسم في المسائل التي اختلفا فيها من مسائل المدونة

ذكر خلافه له في كتاب المساقاة.
32 - مساقاة الجار جاره إذا غار ماؤه (1)
"قال ابن القاسم: سألت مالكا عن الرجل يكون له الحائط فيتغور (2) بئر (ها)، وله جار له بئر فيقول: أنا آخذ منك نخلك مساقاة على أن أسوق مائي إليها أسقيها به، فقال: لا بأس بذلك.
قال: وسألناه عنها غير مرة فأجازها على وجه الضرورة.
قال ابن القاسم: ولولا أن مالكا أجاز ذلك لكرهته". (3)
قال أبو عبيد: أصل المساقاة موضوع على الكفاية، فإ (ذ) ا (ك .. ا) (4) العامل رب الأصل ما عجز عنه من مؤنته جازت المساقاة فيه.
ولذلك قال مالك: في الحائط يغور ماؤه ثم يعجز عنه صاحبه ولجاره فضل ماء، فسأله أن يساقيه على أن يسوق ماءه إليه أنه لا بأس بذلك.
لأن الجار الذي له فضل الماء قد كان يلزمه أن يبيح له فضل مائه يسقي به حائطه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يمنع نقع بئر (5)،
_________
(1) هذا العنوان مني، وليس من المؤلف.
(2) في الأصل: فيتهور، والصواب ما ذكرته.
(3) المدونة (12/ 11).
(4) بتر في الأصل بمقدار كلمة.
(5) رواه مالك (1428) وعبد الرزاق (8/ 105) والبيهقي (6/ 152) عن أبي الرجال عن عمرة مرسلا.
وقال البيهقي: هذا هو المحفوظ مرسل.
وهو كما قال، وقد وصله آخرون فأخطأوا، فمن ذلك: وصله عبد الرحمن بن أبي الرجال عن أبيه عن عمرة عن عائشة، خرجه الحاكم (2/ 70) والبيهقي (6/ 152) وصححه الحاكم.
ووصله محمد بن إسحاق عن أبي الرجال به خرجه أحمد (6/ 139 - 268) وابن أبي شيبة (4/ 352) وابن حبان (4955). ومحمد بن إسحاق مدلس وقد عنعن.
ورواه صالح بن كيسان عن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة، خرجه الطبراني في الأوسط (266).
لكن شيخ الطبراني أحمد بن رشدين، وهو أحمد بن محمد بن الحجاج بن رشدين، كذبه أحمد بن صالح، كما في كامل (1/ 198)، ووثقه مسلمة كما في اللسان (1/ 257)، لكن مسلمة لا يعتمد لأنه متكلم فيه.

وشيخه روح بن صلاح ضعيف كما في اللسان.
ووصله سفيان الثوري عن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة، خرجه البيهقي (6/ 152) من طريق عبد الرزاق عن سفيان به.
وهذه الرواية خطأ في نظري، لأن الحديث في مصنف عبد الرزاق (8/ 105) عن الثوري عن أبي الرجال عن عمرة مرسلا، ومن طريق عبد الرزاق خرجه البيهقي، فلعل الوهم من شيخ البيهقي أو من فوقه.
ورواه أبو أويس ثنا أبو الرجال عن عمرة عن عائشة. خرجه أحمد (6/ 112).
وأبو أويس متكلم فيه.
وخرجه أحمد (6/ 252) ثنا عبد الملك ثنا خارجة بن عبد الله عن أبي الرجال به.
وخارجة مختلف فيه.
لكن يغني عن هذا الحديث الحديث الذي بعده في المنع من بيع فضل الماء.

(1/123)


وهو الرهو (1) " إنما توجه إلى كل مـ (ـن) (2) له فضل ماء يستغني عنه أنه (لا) (3) يجوز له أن يمنعه [ص37] ( ..... ) (4) إذ لا ضرر عليه فيه.
لأن طبع الماء النابع إذا استقي أن يعود لوقته غيره، وكذلك قوله عليه السلام: " لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ" (5).
_________
(1) سقط في المخطوط وزدتها من بعض طرق الحديث، انظر سنن البيهقي (6/ 152).
(2) ما بين القوسين به بتر، وأتممته لظهور معناه.
(3) بتر في الأصل، وأتممته اعتمادا على السياق.
(4) بتر بنحو 3 كلمات.
(5) رواه البخاري (2226 - 2227 - 6561) ومسلم (1566) والترمذي (1272) وابن ماجه (2/ 828) وأحمد (2/ 309 - 360 - 463 - 482 - 494) وابن الجارود (596) وابن حبان (4954) وأبو عوانة (5256 - 5258 - 5259) والبيهقي (6/ 151 - 152 - 155) وابن أبي شيبة (4/ 351) والحميدي (1124) وأبو يعلى (6257 - 6285) وعبد الرزاق (8/ 105) من طرق عن أبي هريرة.

(1/124)


إنما توجه إلى أهل آبار البوادي التي احتفرت للمواشي في أن لا يمنعوا فضل مائها بعد ريهم، لأن منعهم يؤدي إلى منع أهل المواشي رعي الكلأ.
فضرر من عاد ماؤه ويخشى ذهاب نخله أو ز (رعه) (1) أبلغ من هذا الضرر، فلما كان واجبا في الأصل قبل عقد السقيا أن يبيح له فضل مائه جاز له أن يساقيه على ذلك، لأن رب الحائط لم يشترط إلا ما هو لازم (له) (2) قبل عقد الشركة وبعده.
وإذا كان كذلك فالمساقاة على ما هذا وصفه جائزة، وبالله التوفيق.
وأما قول ابن القاسم: ولولا أن مالكا أجاز ذلك لكرهته، فإن كان إنما كرهه لأن الحق كان في خلافه عنده، فما وسعه أن يقلده فيه، كما لم يسعه ذلك في سائر ما خالفه فيه من مسائل هذا الكتاب، وإن كان إنما تمنى ذلك فليس بالأماني تعترض أقاويل العلماء (3)، والله الموفق للصواب.
_________
(1) ما بين القوسين به بتر، وأتممته لظهور المعنى فيه.
(2) ما بين القوسين به بتر، لكنه أصلح فوق البتر بخط مغاير.
(3) لله درك!!

(1/125)


ذكر خلافه له في كتاب الشركة
33 - حكم الشركة في الطعام (1) (2)
" قال ابن القاسم: سألت مالكا عن الشركة بالحنطة يخرج هذا عشرة أرادب (3) ويخرج هذا مثلها، ثم يشتركان والحنطتان في الجودة سواء فقال: لا أرى الشركة جائزة فيما بينهما.
قال ابن القاسم: وأنا أرى الشركة بالحنطة جائزة إذا اشتركا على الكيل، ولم يشتركا على القيمة وكانتا في الجودة سواء". (4)
قال أبو عبيد: هذه مسألة قد كفانا القاضي (5) إسماعيل (أبو) (6) إسحاق رحمه
_________
(1) قال ابن رشد في بداية المجتهد (2/ 190): المسألة الثالثة وأما الشركة بالطعام من صنف واحد، فأجازها ابن القاسم قياسا على إجماعهم على جوازها في الصنف الواحد من الذهب أو الفضة.
ومنعها مالك في أحد قوليه، وهو المشهور بعدم المناجزة الذي يدخل فيه، إذ رأى أن الأصل هو أن لا يقاس على موضع الرخصة بالإجماع.
وقد قيل إن وجه كراهية مالك لذلك أن الشركة تفتقر إلى الاستواء في القيمة، والبيع يفتقر إلى الاستواء في الكيل، فافتقرت الشركة بالطعامين من صنف واحد إلى استواء القيمة والكيل، وذلك لا يكاد يوجد. فكره مالك ذلك.
ونقل ابن المواق في التاج والإكليل (5/ 125) قول مالك وابن القاسم.
وانظر التمهيد (16/ 341 - 342) والكافي (391) ومواهب الجليل (4/ 487).
(2) هذا العنوان مني، وليس من المؤلف.
(3) قال في القاموس (1/ 167): مكيال ضخم بمصر، أو يضم أربعة وعشرين صاعا (أو ست ويبات)، وانظر الصحاح (1/ 205) واللسان (1/ 416).
(4) المدونة (12/ 58).
(5) هو القاضي إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل أبو إسحاق (ت282، أو 284).
انظر ترجمته في: ترتيب المدارك (4/ 276) والجرح والتعديل (2/ 158) وتاريخ بغداد (6/ 284) وتذكرة الحفاظ (2/ 665) وشجرة النور (65) وسير أعلام النبلاء (13/ 339) وغيرها كثير.
(6) ما بين القوسين به بتر، وأتممته لظهور المعنى فيه.

(1/126)


الله القول فيها، ونحن نورد كلامه في ذلك على نصه إن شاء الله.
قال إسماعيل في كتابه المبسوط: " إنما كره مالك رحمه الله [ص38] الشركة بالطعام وإن استويا في الكيل والجودة، ولم يصير ( ... ) (1) مثل الدنانير ولا مثل الدراهم، لأن الدنانير والدراهم الجملة فيها مستوية، لا فضل لشيء منها على شيء، إلا أن يكون شيء منها له فضيلة يختص بها على ما سواه. فذلك الذي لا يجوز به الشركة إذا ضم إلى ما ليس مثله.
فأما جملة الدنانير والدراهم فإنما هي على الاستواء عند الناس.
يدلك على ذلك: أن الرجل يشتري الحنطة وغيرها بالدنانير والدراهم، فيسمي سلعته (2) ولا يحتاج إلى أن يذكر صفتها، ولا أن تكون بأعيانها.
وليس الطعام بهذه المنزلة، لأنه لا يجوز أن يشتري طعاما فلا يبيعه إلا أن يكون طعاما (بعـ) ـينه (3) أو على صفة موصوفة، فلما كان الطعام بهذه المنزلة، وكانت الشركة لا تجوز إلا على الاستواء في القيمة، كان الطعام ليس مما يجوز بعضه ببعض في البيع إلا على الاستواء في الكيل.
وإن اختلفت قيمته وكانت الشركة لا تجوز إلا على الاستواء في القيمة، احتيج في الطعام إلى أن يستوي أمره في الشركة في الكيل والقيمة، وكان الاستواء في ذلك لا يكاد أن يجتمع فيه فكرهه.
قال إسماعيل القاضي: "فإن احتج محتج بأن الرجل إذا أتلف طعاما لرجل كان عليه مثل مكيلته، كما يكون عليه في الد (نانيـ) ـر (4) والدراهم إذا أتلفها.
قيل له: إن الشيء إذا تلف فقد فات، وصار التلف أمرا يستقبل، فلأن يشبه
_________
(1) ما بين القوسين به بتر، بمقدار 3 أحرف.
(2) لا تظهر الكلمة جيدا، وربما تقرأ كما ذكرت.
(3) سقط ما بين القوسين، وأصلح فوقه بخط مغاير.
(4) ما بين القوسين به بتر، وأتممته لظهور المعنى فيه.

(1/127)


بالبيوع المستقبلة أولى من أن يشبه بما قد فات".
قال أبو عبيد: وكان شيخنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن صالح الأبهري (1)
أيده الله يقول: " إن قول ابن القاسم في هذه المسألة أقيس" وكان يشبه الشركة بالبيع.
قال: " فكما جاز بيع الطعام بالطعام إذا استويا في الكيل، وإن اختلفا في القيمة، فكذلك تجوز الشركة فيـ (ـه) (2) [ص59] ( ... ) (3) إذا استوى كيل الطعامين.
وإذا اختلفا في القيمة يكون الكيل على المساواة والقيمة على التفاوت.
قال أبو عبيد: وتشبيهه الشركة بالبيع في هذا الموضع غلط.
لأن الشركة تقتضي لها المماثلة (مـ) ـن (4) جميع جهاتها، من جهة الوزن ومن جهة القيمة.
ألا ترى أن الشركة بالـ (ـذ) هبين (5) إذا كانت إحداهما أجود من صاحبتها أو أعلى قيمة، (لا) (6) تجوز، وإن كان اسم الذهب (7) واقعا عليهما ومعناه موجودا فيهما.
فكذلك الشركة بالطعامين لا تجوز وإن استويا في الكيل.
لأن المماثلة من جهة القيمة مفتقر إليها في الشركة.
_________
(1) وهو القاضي أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن صالح التميمي الأبهري (ت 375).

انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (16/ 332) وطبقات الفقهاء للشيرازي (168) والشذرات (2/ 8) والديباج (1/ 257) وتاريخ بغداد (5/ 462) وترتيب المدارك (4/ 466) وشجرة النور (91) وغيرها.
(2) ما بين القوسين به بتر، وأتممته لظهور المعنى فيه.
(3) بتر في الأصل بمقدار حرفين.
(4) ما بين القوسين به بتر، وأتممته لظهور معناه.
(5) ما بين القوسين به بتر، وأتممته لظهور معناه.
(6) ما بين القوسين به بتر، وأتممته اعتمادا على السياق.
(7) بهذه الكلمة بتر، لكن بقي ما يدل عليها.

(1/128)


والبيع فبخلاف ذلك، لأن بيع البر بالشعير وبالسلت جائز عند مالك وابن القاسم، والشركة بذلك عندهما لا تجوز.
فلولا أن القيمة معتبـ (ـرة) (1) في الأعيان المشترك فيها لكان لا فرق بين البر والسلت في تجويز الشركة بهما، كما لم يكن بينهما فرق في البيع.
فدل على فساد القول بتشبيه الشركة بالبيع، والله الموفق للصواب برحمته.
_________
(1) ما بين القوسين به بتر، وأتممته لظهور معناه.

(1/129)