الكافي في فقه أهل المدينة المالكي

بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم
كتاب الصلح
الصلح جائز بين المسلمين الا صلحا احل حراما او حرم حلالا ويجوز الصلح عند مالك بين المتطلبين على الاقرار وعلى الانكار إذا كان طوعا من كل واحد منهما لا يدخله اكراه والصلح كالبيع فما جاز في البيع جاز في الصلح وما امتنع في البيع امتنع في الصلح واذا كان بين الشريكين دراهم ودنانير وفلوس وعروض فيتصالحا على دنانير يعطيها احدهما صاحبه عن نصيبه في ذلك كله لم يجز الا ان يكون ليس فيما بين أيديهما من الدنانير غير ما أعطاه وتكون الدراهم أقل من صرف دينار ولم يكن بينهما دين والا لم يجز ولا بأس أن يصالح الرجل غريمه من ذهب له عليه على ورق يأخذها منه ومن ورق على ذهب اذا كان دينه حالا وأخذ منه العوض في الوقت قبل أن يفارقه

(2/878)


ولا يجوز أن يصالح على دعوى الذهب بورق آجلة وعلى دعوى الورق بذهب آجلة وان طالبه بدنانير جاز ان يصالحه منها على دنانير وكذلك من الدراهم على الدراهم لأن من حط وأخذ فقد أحسن وليس ههنا بيع ولا صرف ولو كان عليه مثقال ذرة وعشرون درهما أو زائدا من الدراهم جاز أن يصالحه من ذلك على دنانير لانه أخذ ديناره وأخذ دينارا آخر مكان الدراهم وترك الفضل فإن أخر الدينارين أو احدهما لم يجز ومن استهلك لرجل درهما مضروبا جاز له أن يصالحه على وزنه فضة غير مضروبة اذا كانت في الجودة مثل فضة درهمه فإن كانت أجود أو دون لم يجز ولو كان الدرهم غير مضروب لم تبال كانت الفضة اجود او ادنى لانه تبر بتبر وزنا بوزن ولو مات رجل وتخلف دنانير او دراهم وعروضا وديونا وصالحت امرأته سائر ورثته على دنانير يدفعونها اليها لم يكن بذلك بأس اذا كانت الدنانير من مال الميت فإن كانت أموالهم لم يجز الصلح بينهم إلا ان يكون مقدار حصتها منها وقد قيل ان كانت الدنانير او الدراهم التي صالحها الوارث عليها من غير التركة لم يجز قلت أو كثرت وإن كانت من التركة نظر فإن كانت قدر مورثها او أقل جاز وان كانت أكبر لم يجز فإن أرادوا عقد الصلح معها احتاجوا ان يذكوا جميع ما يجب لها من تركة الميت ثم يبتاعون جميع حقها من التركة بعروض لا دنانير فيها ولا دراهم وتكون العروض مخالفة للعروض التي على الغرماء ان كانت

(2/879)


الديون عروضا وان كانت للميت ديون فصالحها الورثة على دنانير يدفعونها اليها ويأخذون الدين لأنفسهم لم يكن ذلك جائزا الا ان يكون جميع التركة دنانير دينا فجعل لها من ذلك حظها منها في مثل السكة والعين ولو ان لرجل على رجل كذا من طعام وعشرة دراهم فصالحه من ذلك على احد عشر درهما جاز ذلك ان كان الطعام قرضا وان كان بيعا لم يجز ولا يجوز لمن له طعام من بيع او سلم على رجل ان يصالحه من طعام على دراهم يؤخرها او يعجلها لأن ذلك بيع الطعام قبل يستوفي ولو كان لرجل على رجل دين لم يجز لانه يكون دينا بدين فإن صالحه من الدين على شيء حال جاز وكذلك لو صالحه من مال حال على دين جاز ولو شرط لغريمه أنه إن جاءه بدينه لوقت يسميه أخذ منه بعضه وحط عنه سائره وإلا فالدين بحاله كان شرطا جائزا ومن باب بالدين لرجل ان يصالح من دينه على ثياب موصوفة في الذمة أو على أنه بالخيار في الثياب يوما أو أياما او على سكنى دار أو خدمة عبد او ثمرة لم تجذ أو زرع لم يحصد كل هذا لا يجوز ان يصالح فيه على دين أو من دين وأجاز أشهب من هذا الباب كل ما شرط في قبضه سكنى دار او غيرها أو جذاذ ثمرة بعد بدو صلاحها وإن لم يقبض جميعه ومن ابتاع سلعة فظهر منها على عيب جاز ان يصالح عنه بما شاء ولو كانت السلعة عبدا آخر جاز ومن كان له على رجل مال حال فصالحه على

(2/880)


اسقاط بعضه واخذ بعضه او تأخير بعضه جاز ولو كان آجلا فصالحه على تعجيل بعضه وإسقاط بعضه او على اسقاط بعضه وتأخير بعضه لم يجز فإن كان اسقاط وتأخير الى اجل بعينه جاز ولا يجوز أن يصالحه من مائة آجلة على خمسين عاجلة لأنه وضع تعجيل وكذلك لو تكفل رجل عن رجل بألف درهم فأعطاه منها قبل محل الأجل دون الأف لم يجز لأنه وضع وتعجيل ولو كان محل الاجل جاز ورجع على من ضمن عنه بما أعطى وكذلك لو صالحه على سلعة رجع بقيمة السلعة الا ان تكون قيمتها أكثر من الالف فلا يكون له على كفيل اكثر منه ولا بأس ان يصالح الرجل على ابنته البكر في ميراثها من زوجها اذا لم يكن الميراث عينا ناضة فإن كان عينا ناضة لم يجز أن يصالحه على بعضها ومن ادعى حقا في دار أو أرض في يد رجل فصالحه منه فإن جهلاه جميعا جاز ذلك وان عرفه المدعي وحده لم يجز حتى يسميه وقد قيل انه لا يجوز شيء من ذلك كما لا يجوز في البيوع الا ان يصالحه على فداء يمينه في تلك الدعوى وجائز التأخير في قيم العروض المستهلكات كلها في الصلح ولا تجوز النظرة ان يصالح عن العروض بعرض مثله في صفته ولو غصبه عبدا فأبق من الغاضب فللمغضوب ان يصالحه منه على دنانير او دراهم معجلة او مؤجلة أو عرض معجل ومن حط عن رجل بعض حقه وأبقى بعضه عليه صلحا ثم اراد الرجوع فيما وضع عنه وأسقطه لم يكن ذلك ويلزمه ما فعل

(2/881)


كتاب الاستحقاق
معنى الاستحقاق أن يقضي للرجل ببينة بالشيء يدعيه في يد غيره بعد ان يحلف انه ما باع الشيء ولا وكل على بيعه ولا وهبه ولا تصدق به وان ملكه ثابت عليه الى وقته ذلك واذا حلف مع بينته التي شهدت له بملكه رجع الذي استحق على من باعه منه او على من شركه في ميراثه فقاسمه وان وهب له لم يرجع على الواهب بشيء وان كان اخذه من دين كان له رجع بدينه ومن ابتاع شيئا فاستحق من يده رجع على البائع منه بالثمن لا بقيمه الشيء المستحق ومن استحق من يد امرأة شيئا اخذته في صداقها رجعت بقيمته ولم ترجع بصداق المثل وكذلك لو كان المستحق عن فدان كان بين الزوجين أو استحق بدلا من شفعة والاستحقاق فيما اقتسم بمنزلة العيب يوجد في السلعة قليلا كان او كثيرا ومن باع عرضا بعرض وتقابضا ثم استحق احد العرضين بيد احدهما كان له الرجوع في عرضه الذي دفعه يأخذه ان وجده وإلا رجع بمثله ان كان له مثل وكان مكيلا

(2/882)


او موزونا والا رجع بقيمة العرض المستحق كالرد بالعيب سواء وهذا الحكم كله فيما ابتعته بعينه من طعام أو غيره وسائر العروض كلها وأما في المضمون فإنه يرجع بمثله في صفته والفوت في العرض الذي يكال أو يوزن أن لا يوجد أو يتغير عينه ويحول سوقه وليس حوالة الاسواق فيما يكال او يوزن فوتا ومن ابتاع طعاما بعينه على الكيل فهلك قبل الكيل بطل البيع فيه فإن هلك بعضه بطل البيع فيما هلك وصح فيما بقي ان كان الباقي جل الصفقة وان كان اقلها لم يلزم ذلك المشتري الا ان يشاء التماسك به بحصته من الثمن وما استحق من دار مبيع فإن كان كثيرا وهو الثلث فما فوقه كان للمشتري رد جميعا وان كان دون الثلث رد ما يخص المستحق خاصة وقال اشهب هذا في كبار الدور التي لايضر مبتاعها ما استحق منها ان كان جزء صغيرا فأما صغارها وما لاتصلح فيه القسمة فله رد الجميع وما استحق من عبد مبيع او ثوب يسيرا كان او كثيرا كان المبتاع مخيرا في النظرين إن شاء رد الجميع ورجع بالثمن كله وإن شاء رد المستحق منه خاصة ورجع بحصته من الثمن ومن اكترى دارا فاستحق جزء منها كان ذلك كالشراء ان كانت الشهور كلها سواء واذا نكحت امرأة على ارض او أمة أو دار أو عبد بعينه فاستحق شيء من ذلك رجعت بقيمته بخلاف البيع فإن استحق بعض ذلك فإن كان من

(2/883)


الارض النصف او شيء له بال ردت الجميع كالبيوع واخذت قيمته وان كان يسيرا رجعت بحصته من قيمته وكذلك العروض المنقسمه كلها وأما العبد أو الامة فإنه ما استحق في واحد منهما من قليل الاجزاء أو كثيرها فلها رده وأخذ جميع قيمته لضرر الشركة فيه وسواء كان ذلك كله قبل البناء او بعد ومن عمر أرضا بشبهة ينتفي عنه بها الغصب مثل أن يظنها مواتا ولا يظنها لاحد وبنى فيها ثم أتى من يستحقها كان له أخذها معمورة على ان يعطي العامر قيمة عمارته فيها وبنيانه فإن لم يقدر او أبى عن ذلك قيل للعامر او الباني أعطه قيمة أرضه غير معمورة ولا مبنية فإن لم يقدر أو ابى كانا شريكين في الارض والبناء والعمارة على قدر قيمة الارض بغير عمارة او بناء او قيمة العمارة والبناء بغير أرض ومن بنى في ارض قوم بغير اذنهم ثم استحقوها لم يكن لهم اخذها منه الا ان يعطوه قيمة بنيانه منقوضا في الارض فإن شاؤا ذلك وإلا خلطوا بينه وبين نقضه يأخذه ولا يكون له اخذ ما لا منفعه له فيه وليس له أن يردم البئر وله أن يأخذ طيها على ان يضمن ما افسد ومن اشترى دارا ثم استحقت وقد استغلها أو سكنها فليس عليه رد ما استغل منها ولا كراء في سكناها وهذا معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخراج والغلة بالضمان" ومن زرع أرضا فاستحقت

(2/884)


فالزرع للمزارع وللمستحق كراء الارض فإن كان زرعها ظلما قلع زرعه ان كان في ابان الزراعة وان كان غرسها قلع غرسه ولهما ان يصطلحا فيه وان كان في غير ابان الزراعة فله الكراء وقد قيل انه يقلع زرعه أبدا كل ذلك قد قاله مالك وتحصيل مذهبه ان كل ما زرع بشبهة لم يقلع وفيه الكراء وما كان مغصوبا لا شبهة فيه فيقلع ما زرع وما غرس أبدا ومن اشترى أمة فأولدها ثم استحقها سيدها ففيها عن مالك روايتان احداهما ان السيد يأخذ الأمة وقيمة ولدها من واطئها يوم القضاء بالاستحقاق والرواية الاخرى أنه يأخذ قيمة من واطئها يوم فاتت بالحمل وتكون ام ولد له ولا شيء للسيد من ولدها وقيل يأخذ قيمتها فقط يوم وطئها والاول اصوب وقد قيل انه يأخذ قيمتها اذا استحقها وقيمة ولدها جميعا وهو قول ثالث والاول اصحها واشهرها عند الفقهاء والحكم في الأمة تغر من نفسها بالحرية فيتزوجها رجل على انها حرة ويولدها ثم يستحقها سيدها على حسب ما تقدم في المسألة قبلها على الروايتين جميعا

(2/885)