المقدمات
الممهدات [كتاب الأشربة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كتاب الأشربة قال الله تعالى عز وجل:
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ
وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل: 10] أي تريحون وقال: {وَإِنَّ
لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ
بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل:
66] {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ
سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67] واختلف في السكر فقيل: إنه اسم من
أسماء الخمر وإنه يقع على كل مسكر من التمر والعنب وغيرهما، قال ذلك من ذهب
إلى أن الخمر اسم لكل مسكر. وقيل: إن السكر ما أسكر من التمر، والخمر ما
أسكر من العنب. وقيل: إن السكر هو الطعم يقال قد جعلت هذا لك سكرا أي طعما،
وهذا له سكر أي طعم. وقيل: إن السكر ما سد الجوع. فمن ذهب إلى أن السكر
الطعم أو ما سد الجوع فالآية على مذهبه بينة في المعنى مفتقرة إلى تأويل
وتفسير. وأما الذين ذهبوا إلى أن السكر ما أسكر من كل شيء أو مما عدا العنب
فإنهم اختلفوا في معناها، فمنهم من ذهب إلى أنها إخبار عما يصنعون ويتخذون
من ذلك تقتضي الإباحة وأن الله قد نسخ ذلك بما أنزل من تحريم الخمر في
المائدة وغيرها. ومنهم من ذهب إلى أن الآية لا تقتضي الإباحة؛ لأن الله لم
يأمر فيها باتخاذ السكر ولا أباحه، وإنما أخبر فيها بما يتخذون من الخمر
المحرمة عليهم في سورة المائدة وغيرها. والأول أظهر؛ لأن الله إنما ذكر ذلك
تعديدا لنعمه على عباده وتنبيها على
(1/439)
الاعتبار بآياته، فيبعد أن يمتن الله على
عباده بما حرم عليهم وأمرهم باجتنابه في غير ما آية من كتابه. وأيضا فإن
سورة النحل مكية وتحريم الخمر إنما أنزل بالمدينة في سورة المائدة.
فصل وأجمعت الأمة على أن الخمر محرمة في كتاب الله تعالى، إلا أنهم اختلفوا
إن كانت محرمة في الكتاب بنص أو بدليل. والصحيح أنها محرمة فيه بالنص؛ لأن
المحرم هو المنهي عنه الذي توعد الله عباده على استباحته. وقد نهى الله عن
الخمر في كتابه وأمر باجتنابها وتوعد على استباحتها فقال: {إِنَّمَا
الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] وقال:
{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ
اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] وهذا
بلاغ في الوعيد. وهاتان الآيتان ناسختان لآية البقرة قوله: {يَسْأَلُونَكَ
عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ
لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] ولآية النساء قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا
مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] ؛ لأن آية البقرة إنما تقتضي الذم دون
التحريم، فكانوا يشربونها لما فيها من المنافع. وأما آية النساء فقيل: إنها
تقتضي الإباحة؛ لأنهم أمروا فيها بتأخير الصلاة حتى يذهب السكر قبل أن تحرم
الخمر، فكان منادي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا
أقيمت الصلاة ينادي لا يقربن الصلاة سكران، ثم نسخ ذلك فحرمت الخمرة وأمروا
بالصلاة على كل حال. وقيل: إنها تقتضي تحريم السكر في وقت الصلاة؛ لأن ذلك
مفهوم النهي عن أن يقرب الصلاة في حال السكر؛ لأنهم كانوا يشربون الخمر
بالليل حين نزلت هذه الآية حتى نزل تحريم الخمر في سورة المائدة.
(1/440)
فصل وإن طالب متعسف جاهل بوجود لفظ التحريم
لها في القرآن فإنه موجود في غير ما موضع، وذلك أن الله سماها رجسا فقال:
{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ
عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:
90] ثم نص على تحريم الرجس فقال: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ
مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ
دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا
أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145] وسماها أيضا في موضع آخر
فقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ
كَبِيرٌ} [البقرة: 219] ثم نص على تحريم الإثم فقال: {قُلْ إِنَّمَا
حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ}
[الأعراف: 33] ولو لم يرد في القرآن في الخمر إلا مجرد النهي لكانت السنن
الواردة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتحريم الخمر
مبينة لمعنى نهي الله عنها وأن مراده به التحريم لا الكراهة؛ لأنه إنما
بعثه ليبين للناس ما نزل إليهم. وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إن الله حرمها، وأجمعت الأمة على تحريمها، وتحريمها معلوم من
دين النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ضرورة. فمن قال: إن الخمر
ليست بحرام فهو كافر بإجماع يستتاب كما يستتاب المرتد فإن تاب وإلا قتل.
«روي أن ناسا من أهل اليمن قدموا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فعلمهم الصلاة والسنن والفرائض ثم قالوا: يا رسول الله إن لنا
شرابا نصنعه من القمح والشعير، فقال: أيتغير؟ فقالوا: نعم، فقال: لا
تطعموه، ثم سألوه عنه بعد يومين فقال: لا تطعموه، ثم لما أرادوا أن ينطلقوا
سألوه عنه فقال: لا تطعموه، قالوا: فإنهم لا يدعونه، قال: من لم يدعه
فاضربوا عنقه» يريد مكذبا بتحريمه، والله أعلم. ومن شربها وهو مقر بتحريمها
جلد الحد ثمانين.
فصل وشرب الخمر من أكبر الكبائر، والآثار الواردة بالتشدد في شرب الخمر
كثيرة قد أكثر الناس من ذكرها فلا معنى لجلبها.
(1/441)
فصل والخمر ما أسكر وخامر العقل. قال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل مسكر خمر وكل خمر حرام
فما أسكر من جميع الأشربة فقليله وكثيرة حرام» ، هذا قول مالك - رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى - وجمهور أهل العلم، وخالف في ذلك أهل العراق. فمنهم من
ذهب إلى أن الخمر المحرمة العين هي الخمر التي من عصير العنب إذا نش وألقى
الزبد أو نش وإن لم يلق الزبد على اختلاف بين هؤلاء في ذلك، وما سوى ذلك
عندهم من الأشربة والأنبذة المسكرة النيئة أو المطبوخة فالسكر منها حرام،
وما دونه حلال على ما روي عن عبد الله بن عباس أنه قال: حرمت الخمر بعينها
والسكر من كل شراب، وهذا لا حجة فيه؛ لأن بعض الرواة يقول فيه والمسكر من
كل شراب. ومنهم من ذهب إلى أن الخمر المحرمة العين خمر العنب والتمر خاصة
على ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال:
«الخمر من الكرمة والنخلة» . ومنهم من ذهب إلى أن الخمر المحرمة العين هي
الخمر التي من عصير العنب، وأن نقيع التمر والزبيب المخمر عن غير طبخ
بمنزلة الخمر في تحريم العين بخلاف سائر الأشربة والأنبذة؛ لقول رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الخمر من الكرمة والنخلة» ، وهذا
قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى.
فصل فكل مسكر مطرب من أي نوع كان من الأنبذة والأشربة محرم العين نجس
الذات؛ لأن الله تعالى سمى الخمر رجسا كما سمى النجاسات من الميتة والدم
المسفوح ولحم الخنزير رجسا فقال تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ
إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً
أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام:
145] وليس معنى قولنا إن الخمر نجسة الذات أن ذاتها نجسة، إذ لو كانت ذاتها
التي هي جسمها نجسة لما انتقلت بتبدل صفاتها إلى الطهارة، وإنما معنى قولنا
إنها نجسة
(1/442)
الذات أن ذاتها نجست بحلول صفات الخمر فيها
كما حرمت بذلك. ألا ترى أنها قد كانت طاهرة حلالا حين كونها عصيرا قبل حلول
صفات الخمر فيها، فلما حلت فيها صفات الخمر نجست بذلك وحرمت به. فلما كان
حلول صفات الخمر في العصير علة في تحريمه وتنجيسه وجب إذا ارتفعت منها تلك
الصفات التي هي العلة في التحريم والتنجيس أن يزول الحكم بزوال العلة، وهذا
ما لا خلاف فيه بين أحد من القايسين أن الحكم الواجب لعلة شرعية يزول بزوال
العلة ما لم تخلفه علة أخرى موجبة لمثل حكمها. فلا خلاف بين أحد من
المسلمين أعلمه في أن الخمرة نجسة ولا في أنها إذا تخللت من ذاتها تطهر
فتحل إلا ما ذهب إليه ابن لبابة في أن نجاستها مختلف فيه وأن قول مالك -
رَحِمَهُ اللَّهُ - فيها أن أكلها حلال إذا تخللت أو عالجها رجل حتى تخللت
يدل أنها عنده ليست بنجسة وإن حرم شربها، إذ ليس كل حرام نجسا. من ذلك
الحرير والذهب للرجل وما لا يؤكل لحمه وغير ذلك، وأن كراهيته للخمر التي
تعالج بالحيتان حتى تصير مريا خلاف ذلك، وأنه على القول بأنها نجسة تنجس ما
حلت فيه من الماء والطعام كسائر النجاسات.
وقوله خطأ صراح، بل لا اختلاف في أنها نجسة تنجس الثياب والماء والطعام،
ولا اختلاف في أنها إذا تخللت من ذاتها تحل وتطهر. وإنما اختلفوا إذا خللت
هل تؤكل أم لا على اختلافهم في وجه المنع من تخليلها، إذ قد قيل: إن المنع
من تخليلها عبادة لا لعلة، وقيل بل منع من ذلك لعلة وهي التعدي والعصيان في
اقتنائها. وقيل: بل العلة في ذلك التهمة لمقتنيها في أن لا يخللها إذا غاب
عليها فيحكم عليه بإراقتها لذلك ولا يمكن من تخليلها. فعلى القول بأن المنع
من تخليلها عبادة لا علة لا يجوز تخليلها في موضع من المواضع. ويتخرج جواز
أكلها إذا خللت على قولين جاريين على اختلافهم في النهي، هل يقتضي فساد
المنهي عنه أم لا يقتضيه. وعلى القول بأن المنع من تخليلها لعلة يجوز
تخليلها إذا ارتفعت العلة. فمن رأى أن العلة في ذلك التعدي والعصيان في
اقتنائها أجاز لمن تخمر له عصير لم يرد به الخمر أن يخلله، وقال: إنه إن
خلل ما عصى في اقتنائه لم يأكله عقوبة. ومن رأى العلة في ذلك التهمة
لمقتنيها في أن لا يخللها إذا غاب
(1/443)
عليها أجاز للرجل في خاصة نفسه أن يخلل ما
عنده من الخمر على أي وجه كان ويأكله، وإن كان الاختيار له أن لا يفعل وأن
يبادر إلى إراقتها كما فعل الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في حديث
أنس. فيتحصل في جواز تخليل الخمر ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك لا يجوز دون
تفصيل. والثاني: أن ذلك جائز دون تفصيل على كراهية. والثالث: الفرق بين أن
يقتني الخمر أو يتخمر عنده عصير لم يرد به الخمر.
وفي جواز أكلها إن خللها على مذهب من لا يجيز له تخليلها في حال ثلاثة
أقوال: الجواز، والمنع، والفرق بين أن يخلل من الخمر ما اقتنى أو ما تخمر
عنده مما لم يرد به الخمر. وهذا قول سحنون، والقولان الأولان لمالك. وقد
علل بعض البغداديين وهو عبد الوهاب المنع من أكلها إذا خللت على مذهب
الشافعي ببقائها على النجاسة، وهو تعليل فاسد، إذ لو بقيت على النجاسة إذا
خللت لكان أحرى أن تبقى عليها إذا تخللت، إلا أن يريد ببقائها على النجاسة
بقاءها على حكم النجاسة في المنع من الأكل مع زوال النجاسة فيكون لذلك وجه،
وهو أنه جعل ارتفاع صفات الخمر من الخمر بالتخليل كارتفاع النجاسة عن الثوب
بالغسل بما سوى الماء من المائعات، فتكون الخمر إذا خللت طاهرة إن وقع شيء
منها بعد التخليل في ماء أو ثوب لم تنجسه، كما يكون الثوب النجس إذا غسل
بما سوى الماء من المائعات حتى زالت النجاسة عنه طاهرا إن حل في ماء طاهر
لم ينجسه، ويكون حكم نجاسة الخمر إذا خللت باقيا على الخل في المنع من
الأكل كما يكون حكم نجاسة الثوب إذا غسل بما سوى الماء من المائعات باقيا
على الثوب في المنع من الصلاة فيه. وهذا كله بين والحمد لله. فإن قال قائل:
إن كانت الخمر نجسة فكيف تطهر إذا تخللت عند مالك ومن قوله أن المنجوسات لا
يطهرها من النجاسات إلا الماء الطاهر؟ قيل له: الفرق بينهما أن النجاسات
أعيان قائمة بأنفسها لا يستحيل بقاؤها، فإذا خالطت الأجسام الطاهرة لم
تنفصل عنها عند مالك إلا بالماء لقول الله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] وطهور
(1/444)
من أبنية التكثير، فوجب أن يختص بالماء
التطهير دون ما سواه من المائعات. وأما صفات الخمر فليست بأعيان قائمة
بأنفسها؛ لأن الله خلقها خلقا لا تبقى فلا تتصف بطهارة ولا نجاسة، ومحلها
يتصف بالنجاسة بها من جهة الشرع، فإذا زالت عنه لم يتصف بالنجاسة ولا حكم
له بحكمها، وحكم له بحكم ما انتقل إليه من المائعات الطاهرة، وبالله سبحانه
وتعالى التوفيق.
(1/445)
|