المقدمات الممهدات

 [كتاب العقيقة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب العقيقة العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم سابعه. وقد اختلف في وجه تسميتها عقيقة، فحكى أبو عبيد عن الأصمعي وغيره أن العقيقة الشعر الذي يكون على رأس المولود، وإنما سميت الشاة التي تذبح عنه عقيقة؛ لأنه يحلق رأسه عند ذبحها، وهو الأذى الذي جاء الحديث بإماطته عنه. ويشهد لقوله بيت امرئ القيس:
أيا هند لا تنكحي بوهة ... عليه عقيقته أحسبا
فالعقيقة والعقة الشعر الذي يولد به الطفل. وقيل في معنى البيت أي أنه لم يعق عنه في صغره حتى كبر، عابه بذلك. وقال أحمد بن حنبل: إنما العقيقة الذبح نفسه، وهو قطع الأوداج والحلقوم، ومنه قيل للقاطع رحمه في أبيه وأمه عاق، وهو كلام غير محصل. والتحقيق فيه على ما ذهب إليه أن العقيقة الذبيحة نفسها؛ لأنها هي التي تقطع أوداجها وحلقومها فهي فعيلة من العق الذي هو القطع بمعنى مفعولة، مثل قتيلة ورهينة وما أشبه ذلك.

فصل والعقيقة من الأشياء التي كانت في الجاهلية فأقرت في الإسلام. روي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه أنه قال: كنا في الجاهلية إذا ولد لنا غلام ذبحنا عنه شاة ولطخنا رأسه بدمها، ثم كنا في الإسلام إذا ولد لنا غلام ذبحنا عنه شاة ولطخنا رأسه بالزعفران. فهي سنة من سنن الإسلام وشرع من شرائعه، إلا أنها ليست

(1/447)


بواجبة عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وجميع أصحابه، وهي عندهم من السنن التي الأخذ بها فضيلة وتركها غير خطيئة. والدليل على ذلك «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن العقيقة فقال: لا أحب العقوق» وكأنه إنما كره الاسم، وقال: «من ولد له ولد فأحب أن ينسك على ولده فليفعل» . وما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الغلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويحلق رأسه ويسمى» يدل على وجوبها. وتأويل ذلك عندنا على أن ذلك كان في أول الإسلام ثم نسخ ذلك بعد بقوله: «من أحب أن ينسك على ولده فليفعل» فسقط الوجوب. ومن أهل العلم من تعلق بما يدل عليه الحديث المذكور وغيره من الوجوب فأوجب العقيقة وقال: إن من لم يعق عنه وهو صغير يلزمه أن يعق عن نفسه وهو كبير على ما روي «أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عق عن نفسه بعد ما جاءته النبوة» ولم يصح ذلك عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فأنكره وقال: أرأيت أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذين لم يعق عنهم في الجاهلية أعقوا عن أنفسهم في الإسلام؟ هذه الأباطيل. وأما ما تضمنه الحديث من تسمية المولود يوم سابعه فإليه ذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، والأمر في ذلك واسع. «روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال حين ولد له ابنه إبراهيم: "ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبى إبراهيم» «وأنه أتي بعبد الله بن أبي طلحة صبيحة الليلة التي ولد فيها فحنكه بتمر عجوة ودعا له وسماه عبد الله» في حديث طويل.

فصل فالمشهور عند مالك أنه لا يعق عن المولود إلا يوم سابعه. وقد روى أشهب عنه في الذي لا يتهيأ له ما يعق به عنه يوم سابعه أنه لا يعق عنه بعده إلا أن يكون قريبا. وروى ابن وهب عنه أنه إن لم يعق عنه يوم سابعه عق عنه يوم السابع الثاني، فإن لم يفعل عق عنه في الثالث، فإن جاوز ذلك فقد فات موضع العقيقة،

(1/448)


فقيل: يحسب السابع من غروب الشمس وقيل من طلوع الفجر وقيل من زوال الشمس. وقيل يحسب ذلك النهار إن بقيت منه بقية قبل الغروب على ما سنذكره بعد هذا إن شاء الله.

فصل وحكم العقيقة حكم الضحايا؛ لأنها نسك فلا يباع جلدها ولا لحمها ولا يعطى الجزار على جزارتها شيئا من لحمها، ويتقى فيها من العيوب ما يتقى في الضحايا، ويؤكل منها ويتصدق وتكسر عظامها ولا يمس الصبي بشيء من دمها؛ لأن ترك كسر عظامها وأن يلطخ الصبي بشيء من دمها من أفعال الجاهلية. وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «في الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دما وأميطوا عنه الأذى» ، فقيل: إن إماطة الأذى عنه المأمور به في الحديث بترك ما كان أهل الجاهلية يفعلونه من لطخ رأسه بدمها. وقيل بل ذلك حلق شعر رأسه، وهو الأظهر. قال الله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] فأوجب الفدية على المحرم لإماطة الأذى عن نفسه بحلق شعر رأسه، فكان العقيقة فيها أيضا مع [النسك معنى] الفدية عن المولود لإماطة الأذى عنه بحلق شعر رأسه. ولهذا المعنى والله أعلم قال عطاء: يبدأ بالحلق قبل الذبح.

فصل وسننها أن تذبح ضحوة إلى زوال الشمس، ويكره أن تذبح بالعشي بعد زوال الشمس أو بالسحر قبل طلوع الشمس. وأما إن ذبحها بالليل فلا يجتزأ بها.

فصل وأفضل ما يعق به الضأن ثم المعز ثم البقر ثم الإبل. وقد روي عن مالك أنه لا يعق إلا بالغنم.

(1/449)


فصل والعقيقة عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عن الجارية والغلام سواء، شاة عن كل واحد منهما. وقد «روي عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال من أحب أن ينسك عن ولده فلينسك، عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة» . والمكافئتان المتماثلتان المشتبهتان. وذهب إلى هذا جماعة من أهل العلم، منهم ابن عمر وعائشة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فمن أخذ به فما أخطأ ولقد أصاب.

فصل وقد اختلف في أي وقت يحسب سابع المولود إذا ولد على أربعة أقوال: أحدها: أن يحسب له سبعة أيام بلياليها من غروب الشمس، ويلغى ما قبل ذلك إن ولد في النهار أو في الليل بعد الغروب، ويعق عنه في ضحى اليوم السابع، وهو قول ابن الماجشون في ديوانه.
والثاني: أنه إن ولد في النهار بعد الفجر ألغي ذلك اليوم وحسب له سبعة أيام من اليوم الذي بعده. وإن ولد قبل الفجر وإن كان ذلك في الليل حسب له ذلك اليوم، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك.
والثالث: أنه إن ولد في شباب النهار قبل الزوال حسب له ذلك اليوم، وإن لم يولد إلا بعد الزوال ألغي ذلك اليوم. وهذا القول حكى ابن الماجشون أنه كان قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أولا ثم رجع عنه.
والرابع: أنه يحسب ذلك اليوم وإن ولد في بقية منه قبل الغروب، وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة. واختار أصبغ أن يلغى ذلك اليوم. فإن حسب سبعة أيام من تلك الساعة التي ولد فيها اجتزى بذلك وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

(1/450)