المقدمات الممهدات

 [كتاب النكاح] [فصل في بيان حكم النكاح في الشرع هل هو واجب أو مندوب إليه أو مباح]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد وآله وسلم عونك اللهم لا شريك لك
كتاب النكاح فصل
في بيان حكم النكاح في الشرع هل هو
واجب أو مندوب إليه أو مباح قال الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54] وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] الآية وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1] وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} [الأعراف: 189] الآية.

فصل
فالنكاح الذي هو الغشيان جبل الله الخلق عليه بما ركب فيهم من الشهوات

(1/451)


ليكون بهم النسل حتى يكمل ما قدره من الخلق. وأباحه في الشرع على وجهين: [أحدهما: عقد النكاح، والثاني: ملك اليمين، فلا يحل استباحة الفرج بما عدا هذين الوجهين] . قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] فأما النكاح فإنه في الجملة مرغب فيه ومندوب إليه، خلافا لأهل الظاهر في قولهم إنه واجب. والدليل على ذلك من كتاب الله عز وجل؛ لأنه خير فيه بين النكاح وملك اليمين فقال: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] . وملك اليمين ليس بواجب بإجماع، ولا يصح التخيير بين واجب وما ليس بواجب؛ لأن ذلك مخرج للواجب عن الوجوب وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] ، فدل ذلك من قوله على أن النكاح غير واجب؛ لأن من حفظ فرجه عن الزنا بملك يمينه أو باستغنائه عن النكاح توجهت المدحة إليه من الله عز وجل.

فصل فإذا ثبت بهذه الأدلة أن النكاح غير واجب علم أن الأوامر الواردة في القرآن بالنكاح في قوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] ، وقوله: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] وليست على الوجوب. [وإذا لم تكن على الوجوب] فهي على الندب لا على الإباحة. والدليل على ذلك حض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على النكاح ونهيه عن التبتل وهو ترك النكاح. قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:

(1/452)


«تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة» وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحب فطرتي فليستن بسنتي» وقال: «من تزوج فقد استكمل نصف الدين فليتق الله في النصف الثاني» ومعنى ذلك والله أعلم أن النكاح يعف المرء عن الزنا، والعفاف إحدى الخطتين اللتين ضمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليهما الجنة فقال: «من وقاه الله شر اثنتين له الجنة ما بين لحييه وما بين رجليه» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أحل الله شيئا أحب إلي من نكاح» . وقال: «عليكم بالباءة فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يكن له طول فعليه بالصوم فإنه له وجاء» وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مسكين مسكين رجل لا زوجة له، ومسكينة مسكينة امرأة لا زوج لها قيل وإن كان ذا مال يا رسول الله، قال وإن كان ذا مال» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا رهبانية في الإسلام ولعن الله المتبتلين والمتبتلات» ومعناه التاركين للنكاح استسنانا وتشرعا.

فصل فالنكاح من القادر عليه إذا لم تكن له حاجة إليه مستحب عند أهل العلم.
روي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يقول: إني لأتزوج المرأة وما لي فيها حاجة وأطأها وما أشتهيها، قيل له: وما يحملك على ذلك، قال: حبي في أن يخرج الله مني من يكاثر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النبيين يوم القيامة، فإني سمعته يقول: «عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواها وأحسن أخلاقا وأنتق أرحاما وإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة» يعني بقوله أنتق أرحاما أقبل للولد، فإن كان حصورا أو عنينا أو عقيما يعلم من نفسه أنه لا يولد له فالنكاح له مباح وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

(1/453)


فصل وأما من احتاج إلى النكاح ولم يقدر علي الصبر دون النساء ولا كان عنده مال يتسرى به وخشي على نفسه العنت إن لم يتزوج فالنكاح عليه واجب. ومن لم يحتج إليه وخشي أن لا يقوم بما أوجب الله عليه فيه فهو له مكروه. فمن الناس من يجب عليه النكاح، ومنهم من يستحب له، ومنهم من هو جائز له ومباح من غير استحباب، ومنهم من يكره له على ما بيناه. فالقول: إنه واجب على الإطلاق أو مندوب إليه على الإطلاق ليس بصحيح. وكذلك المرأة قد يكون عليها النكاح واجبا، وقد يكون لها مستحبا، وقد يكون لها مباحا جائزا، وقد يكون لها مكروها. وأما الوطء بملك اليمين فإنما هو من قبيل المباح، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

[فصل في بيان ما يحرم نكاحه من النساء]
، وقوله عز وجل: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] ليس على عمومه، وكذلك قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] وهن اللواتي لا أزواج لهن أبكارا كن أو ثيبا ليس على عمومه أيضا؛ لأن الله تعالى خص من ذلك من حرمه من النساء، وذلك سبع عشرة امرأة، وهي الأم، والابنة، والأخت، والعمة، والخالة، وبنت الأخ، وبنت الأخت، والأم والأخت من الرضاعة، وأم الزوجة، وبنت الزوجة وهي الربيبة، وزوجة الابن، وزوجة الأب، والجمع بين الأختين، والمحصنات وهن ذوات الأزواج، والمجوسيات، والإماء الكتابيات. سبع بالنسب، واثنتان بالرضاع، وست بالصهر، واثنتان بالدين، فقال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} [النساء: 23] فهؤلاء المحرمات بالنسب، وقال تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] فهاتان المحرمتان بالرضاعة وقال: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23]

(1/454)


وقال: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] وقال: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] فهؤلاء المحرمات بالصهر وقال: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] وقال: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] فتمت السبع عشرة امرأة، وما سواهن فنكاحهن حلال. قال الله تعالى لما نص على هؤلاء المحرمات: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24] إلا ما خصص من ذلك أيضا بالسنة المبينة للقرآن على ما سنذكره إن شاء الله تعالى وبالله التوفيق.

فصل ويدخل في قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] أمهات الأمهات والجدات من قبل الآباء والأمهات كن يرثن أو لا يرثن. وتلخيص ذلك أن كل من لها عليك ولادة فهي عليك حرام؛ لأنها داخلة تحت قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] .
ويدخل في قوله: {وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] البنات وبنات البنات وبنات البنين وإن سفلوا كل من لك عليها ولادة فهي عليك حرام؛ لأنها داخلة تحت قول الله عز وجل: {وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] .
ويدخل في قوله: {وَأَخَوَاتُكُمْ} [النساء: 23] جميع الأخوات للأب والأم وللأب دون الأم وللأم دون الأب.

(1/455)


ويدخل في قوله: {وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ} [النساء: 23] العمات والخالات للأب والأم وللأب دون الأم وللأم دون الأب وعمات الآباء وخالاتهم وعمات الأمهات وخالاتهن. وتلخيص ذلك أن كل من ولده جدك أو جدتك وإن علوا من قبل الآباء كانا أو من قبل الأم فهي عليك حرام. ولا يدخل في ذلك شيء من بناتهن أولئك حلال نكاحهن. قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} [الأحزاب: 50] .
ويدخل في قوله: {وَبَنَاتُ الأَخِ} [النساء: 23] بنات بنات الأخ وبنات بنيه وإن سفلن، كل من لأخيك عليه ولادة فهي عليك حرام، كان الأخ للأب والأم أو للأب دون الأم أو للأم دون الأب.
ويدخل في قوله: {وَبَنَاتُ الأُخْتِ} [النساء: 23] بنات بناتها وبنات بنيها وإن سفلن، كل من لأختك عليها ولادة فهي عليك حرام، كانت الأخت للأب والأم أو للأب دون الأم أو للأم دون الأب.
ويدخل في قوله: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] أمهاتهن وإن علون وبناتهن وبنات بناتهن وبنات بنيهن وإن سفلن، وأخواتهن وعماتهن وخالاتهن من قبل الأب والأم ومن قبل الأب دون الأم ومن قبل الأم دون الأب. ولا يدخل في ذلك شيء من بنات أخواتهن ولا من بنات عماتهن ولا من بنات خالاتهن.
ويدخل في قوله: {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] الأخوات للأب والأم وللأب دون الأم وللأم دون الأب؛ لأن اللبن يحرم من قبل المرضعة ومن قبل زوجها لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللبن للفحل.
ويدخل في قوله: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] أمهات الأمهات ومن فوقهن من الجدات، وليس يدخل فيه بنات الأمهات ولا أخواتهن ولا عماتهن ولا خالاتهن،

(1/456)


أولئك حل نكاحهن بعد موتهن أو فراقهن؛ لأنهن ذوات محارم فإنما يحرم الجمع بينهن.
ويدخل في قوله: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] ، بنات البنات وبنات البنين وإن سفلن. ولا تحرم الربيبة ولا شيء من بناتها أو بنات بنيها إلا بالدخول بالأم أو التلذذ بشيء منها بسبب الشرط الذي فيها. وأما الأم فإنها تحرم بالعقد على الابنة؛ لأنها مبهمة لا شرط فيها.
ويدخل في قوله: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23] أبناء الأبناء وأبناء البنات وإن سفلوا كانوا من نسبة أو رضاع. وإنما قيد الله تعالى تحريم حلائل الأبناء بقوله تعالى {مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23] تحليلا لحلائل الأبناء الأدعياء لا تحليلا لحلائل الأبناء من الرضاعة؛ لأنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب بنص الكتاب والسنة. ولذلك تزوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زينب بنت جحش التي كانت زوجة زيد بن حارثة الذي كان تبناه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال الله عز وجل: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37] وقال: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] وقال: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4] {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5] وذلك أن اليهود والمنافقين قالوا لما تزوجها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج حليلة ابنه وقد كان ينهى عن ذلك، فأنزل الله عز وجل في ذلك ما أنزل تكذيبا لهم وردا لقولهم وتجويزا لما فعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ويدخل في قوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] الجمع بين ذوات المحارم كلهن، من ذلك الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، التي ورد النهي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجمع بينهما بيانا لما في القرآن من ذلك، إذ لا

(1/457)


جائز أن يقول قائل إن تحريم الجمع بينهما إنما هو بالسنة لا بالقرآن، فالله يقول في كتابه بعد أن ذكر المحرمات: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24] .
ويدخل في قوله: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] آباء الآباء ومن فوقهم من الأجداد من النسب ومن الرضاع.

فصل فإذا تزوج الرجل امرأة وابنتها في عقدة واحدة، فإن عثر على ذلك قبل أن يدخل بواحدة منهما فرق بينه وبينهما بغير طلاق ولم يكن لواحدة منهما شيء من الصداق وكان له أن يتزوج من شاء منهما. وقيل: إنه لا يتزوج الأم للشبهة التي في البنت، وإن مات الزوج لم يكن لواحدة منهما ميراث ولا لزمتها عدة. وأما إن لم يعثر على ذلك حتى دخل بهما فيفرق بينهم أيضا بغير طلاق، ويجب لكل واحدة منهما ما سمى من الصداق، وتستبرئ نفسها بثلاث حيض ولا تحل له واحدة منهما أبدا. وإن مات أيضا لم يكن لواحدة منهما ميراث. وأما إن عثر على ذلك بعد أن دخل بواحدة منهما معروفة فيفرق بينه وبينها ويكون للتي دخل بها صداقها المسمى، ويجب عليها الاستبراء بثلاث حيض، وتحرم على الزوج التي لم يدخل بها منهما أبدا، وتحل له التي دخل بها منهما إن كانت الابنة بلا خلاف، وإن كانت الأم على الاختلاف. وإن مات لم يكن أيضا لواحدة منهما ميراث. وأما إن عثر على ذلك بعد أن دخل بواحدة منهما غير معروفة فادعت كل واحدة منهما أنها هي التي دخل بها، فالقول قول الزوج مع يمينه في تعيين التي يقر أنه دخل بها ويغرم لها صداقها، ويجب على كل واحدة منهما الاستبراء بثلاث حيض. وإن مات أخذ من ماله الأقل من الصداقين فكان بين الزوجتين بعد إيمانهما. وكذلك الحكم في الذي يتزوج الأختين في عقد واحد، إلا أنه يتزوج من شاء منهما بعد الاستبراء بثلاث حيض إن كان قد دخل بهما وبالله التوفيق.

فصل وأما إن تزوج الأم والابنة واحدة بعد واحدة فلا يخلو ذلك من ستة أوجه:

(1/458)


أحدها: أن يعثر على ذلك قبل أن يدخل بواحدة منهما، والثاني: أن لا يعثر على ذلك إلا بعد أن يدخل بهما، والثالث: أن يعثر على ذلك بعد أن دخل بالأولى، والرابع: أن يعثر على ذلك بعد أن دخل بالثانية، والخامس: أن يعثر على ذلك بعد أن دخل بواحدة منهما معروفة ولا يعلم إن كانت هي الأولى أو الثانية، والسادس: أن يعثر على ذلك بعد أن دخل بواحدة منهما مجهولة.
فأما الوجه الأول وهو أن يعثر على ذلك قبل أن يدخل بواحدة منهما فالحكم فيه أن يفرق بينه وبين الثانية، ويبقى مع الأولى إن كانت البنت بلا خلاف، وإن كانت الأم فعلى اختلاف. فإن لم تعلم الأولى منهما فرق بينه وبينهما، ويتزوج البنت إن شاء وتكون عنده على طلقتين، ويكون لكل واحدة منهما نصف صداقها، وقيل: ربع صداقها. والقياس أن يكون لكل واحدة منهما ربع الأقل من الصداقين، وذلك إذا لم تدع كل واحدة منهما أنها هي الأولى ولا ادعت عليه معرفة ذلك. وإن ادعت كل واحدة منهما عليه أنه علم أنها هي الأولى قيل له احلف أنك ما تعلم أنها هي الأولى، فإن حلف على ذلك وحلفت كل واحدة منهما أنها هي الأولى كان لهما نصف الأكثر من الصداقين فاقتسمتاه بينهما على قدر صداق كل واحدة منهما، وإن نكلتا عن اليمين بعد حلفه كان لهما نصف الأقل من الصداقين واقتسمتاه أيضا على قدر صداق كل واحدة منهما. وإن نكلت إحداهما وحلفت الأخرى بعد حلفه كان للتي حلفت نصف صداقها. وإن نكل هو عن اليمين وحلفتاهما جميعا كان لكل واحدة منهما نصف صداقها. وإن حلفت إحداهما ونكلت الثانية بعد نكوله كان للحالفة نصف صداقها ولم يكن للناكلة شيء. وإن نكلتا جميعا بعد نكوله لم يكن لهما إلا نصف الأقل من الصداقين بينهما على قدر صداق كل واحدة منهما. وإن أقر لإحداهما أنها هي الأولى حلف على ذلك وأعطاها نصف صداقها ولم يكن للثانية شيء. ولو نكل هو عن اليمين وحلفتا جميعا غرم لكل واحدة منهما نصف صداقها، وإن حلفت الواحدة ونكلت الأخرى بعد نكوله كان للتي حلفت نصف صداقها ولم يكن للتي نكلت شيء؛ لأن الحالفة قد استحقت نصف الصداق بيمينها.

(1/459)


فصل وأما إن مات الزوج ولم يعلم أيتهما هي الأولى فالميراث بينهما بعد أيمانهما. قال ابن القاسم: ولكل واحدة منهما نصف صداقها اتفق أو اختلف. والقياس أن يكون الأقل من الصداقين بينهما على قدر مهورهما بعد أيمانهما، وتعتد كل واحدة منهما بأربعة أشهر وعشر للشك في أيتهما هي الأولى.
وأما الوجه الثاني وهو أن لا يعثر على ذلك حتى يدخل بهما جميعا فيفرق بينه وبينهما ويكون لكل واحدة منهما صداقها بالمسيس، ويكون عليهما الاستبراء بثلاث حيض، ولا تحل له واحدة منهما أبدا، ولا يكون لواحدة منهما ميراث إن مات.
وأما الوجه الثالث وهو أن لا يعلم بذلك حتى يدخل بالأولى فالحكم فيه أن يفرق بينه وبين الثانية ولا تحل له أبدا، ويقر مع الأولى إن كانت البنت باتفاق وإن كانت الأم على اختلاف.
وأما الوجه الرابع وهو أن لا يعثر على ذلك حتى يدخل بالثانية فالحكم فيه أن يفرق بينه وبينهما جميعا ويكون للتي دخل بها صداقها، ويكون له أن يتزوجها بعد الاستبراء من الماء الفاسد بثلاث حيض إن كانت البنت، وإن كانت الأم لم تحل له واحدة منهما أبدا، ولا يكون لواحدة منهما ميراث إذا مات.
وأما الوجه الخامس وهو أن لا يعثر على ذلك حتى يدخل بواحدة منهما معروفة ولم يعلم إن كانت هي الأولى أو الثانية فالحكم فيه إن كانت الأم هي المدخول بها منهما أن يفرق بينه وبينهما ولا تحل له واحدة منهما أبدا، وإن كانت الابنة هي المدخول بها منهما فرق بينهما ثم يتزوج الابنة إن شاء بعد الاستبراء بثلاث حيض، ويكون للتي دخل بها منهما صداقها بالمسيس، وإن مات الزوج فيكون على المدخول بها منهما من العدة أقصر الأجلين ويكون لها جميع صداقها. قال ابن حبيب ونصف الميراث، وقال ابن المواز لا شيء لها من الميراث وهو الصواب. وأما التي لم يدخل بها منهما فلا عدة عليهما ولا شيء لها من صداق ولا ميراث.

(1/460)


وأما الوجه السادس: ٍوهو أن لا يعثر على ذلك حتى يدخل بواحدة منهما غير معروفة فالحكم فيه أن يفرق بينهما ولا تحل له واحدة منهما أبدأ، ويكون القول قوله مع يمينه في التي يقر أنه دخل بها منهما ويعطيها صداقها ولا يكون للأخرى شيء. فإن نكل عن اليمين حلفت كل واحدة منهما أنها هي التي دخل بها واستحقت عليه جميع صداقها. وإن حلفت إحداهما ونكلت الأخرى عن اليمين استحقت الحالفة صداقها ولم يكن للناكلة شيء.

فصل [وإن مات الزوج فقال سحنون: لكل واحدة منهما نصف صداقها] ، والقياس أن يكون الأقل من الصداقين بينهما على قدر مهورهما بعد أيمانهما، وتعتد كل واحدة منهما أقصى الأجلين، ويكون نصف الميراث بينهما على مذهب ابن حبيب. وأما على ما ذهب إليه محمد بن المواز فلا شيء إنما من الميراث، وهو الصحيح؛ لأن المدخول بها إن كانت هي الآخرة لم يكن لواحدة منهما ميراث، ولا يجب ميراث إلا بيقين. وبالله التوفيق.

فصل ومما يضارع هذه المسألة مسألة الرجل يتزوج خمس نسوة، أو المجوسي يسلم وعنده عشر نسوة، أو الرجل يتزوج أربع نسوة مراضع فترضعهن امرأة واحدة بعد واحدة. فأما إن تزوج خمس نسوة واحدة بعد واحدة فمات عنهن ولا تعلم الآخرة منهن فالميراث بينهن أخماسا دخل بهن أو لم يدخل بهن. وأما الصداق فإن كان دخل بهن فلكل واحدة منهن جميع صداقها، وإن لم يدخل بواحدة منهن فلكل واحدة منهن نصف صداق إن اتفقت الأصدقة، أو نصف صداقها الذي سمي لها إن اختلفت الأصدقة، إلا أن تختلف الأصدقة، فيعلم مقاديرها ولا يعلم ما لكل واحدة منهن منها فيكون لكل واحدة منهن نصف خمس الجميع، وهذا على مذهب ابن حبيب. ووجه قوله أن كل واحدة منهن على انفرادها لا يدرى هي

(1/461)


الخامسة فلا شيء لها أو غير الخامسة فلها جميع الصداق، فلما وجب لها جميع الصداق في حال وسقط في حال أعطيت نصفه. وقيل: بل يكون لكل واحدة منهن أربعة أخماس صداقها الذي سمي لها أو أربعة أخماس صداق إن اتفقت الصدقات أو أربعة أخماس خمس جميعها إن اختلفت ولم يعلم ما لكل واحدة منهن من ذلك، وهذا مذهب سحنون وابن المواز. ووجهه أنا قد تحققنا أن الواجب على الميت أربع- صدقات فيؤخذ ذلك من تركته وتقتسمه الزوجات الخمس بينهن أخماسا فيجب لكل واحدة منهن أربعة أخماس صداق. وأما إن كان دخل ببعضهن فلكل واحدة ممن دخل بها منهن جميع صداقها، وفي التي لم يدخل بها منهن ثلاثة أحوال: أحدها: أنه يكون لكل من لم يدخل بها منهن نصف صداقها، وهو قول ابن حبيب، والثاني: أن يكون لكل من لم يدخل بها منهن أربعة أخماس صداقها، والثالث: أنه إن كانت التي لم يدخل بها واحدة فلها نصف صداقها، وإن كانت اثنتين فلهما صداق ونصف ثلاثة أرباع صداق لكل واحدة منهما. وإن كن اللواتي لم يدخل بهن ثلاثا فلهن صداقان ونصف خمسة أسداس صداق لكل واحدة منهن. وإن كن اللواتي لم يدخل بهن أربعا فلهن ثلاث صدقات ونصف سبعة أثمان صداق لكل واحدة منهن، وهو قول سحنون، وإليه ذهب ابن لبابة. ووجهه أنا لم نعلم إن كانت الخامسة ممن بقي لم يدخل بها فلا يجب لها شيء أو ممن قد دخل بها فيجب للبواقي صداق أسقطنا نصف الصداق لثبوته في حال وسقوطه في حال، وقسمنا الباقي على البواقي بينهن على السواء، ويكون على من دخل بها من العدة أقصى الأجلين، وعلى من لم يدخل بها أربعة أشهر وعشر.

فصل وأما إن عثر على ذلك في حياته فيفرق بينه وبينهن، فإن كان قد دخل بهن كان لكل واحدة منهن جميع صداقها، وكان عليها أن تعتد بثلاث حيض، وإن كان لم يدخل بواحدة منهن فعلى قول ابن حبيب يكون لكل واحدة منهم ربع صداقها، وعلى قول سحنون وابن المواز يكون لكل واحدة منهن خمسا صداقها ولا عدة على واحدة منهن، وإن كان قد دخل ببعضهن جرى الاختلاف في ذلك على قياس

(1/462)


ما تقدم في الموت؛ لأن حكم نصف الصداق في الطلاق كحكم جميعه في الموت، فيكون للتي دخل بها منهن جميع صداقها ويكون عليها العدة بثلاث حيض، وينظر في التي لم يدخل بها منهن، فإن كانت واحدة كان لها ربع صداقها على قول ابن حبيب وسحنون، وخمسا صداقها على قول ابن المواز، وإن كانت أكثر من واحدة فعلى قول ابن حبيب يكون لكل واحدة منهن ربع صداقها، وعلى قول ابن المواز يكون لكل واحدة منهن خمسا صداقها، وعلى قول سحنون إن كانت اللتان لم يدخل بهما اثنتين كان لهما أرباع صداق بينهما، وإن كن ثلاثا كان لهن صداق وربع صداق بينهن، وإن كن أربعا كان لهن صداق وثلاثة أرباع صداق بينهن على السواء.

فصل وأما إن كان تزوجهن في عقد واحد فيفرق بينه وبينهن ولا يكون لواحدة منهن ميراث ولا صداق ولا عليها عدة، إلا أن يدخل بواحدة منهن فيكون لمن دخل بها منهن صداقها ويكون عليها العدة بثلاث حيض.
وأما المجوسي يسلم وعنده عشر نسوة فيسلمن كلهن فله أن يختار منهن أربعا ويفارق سائرهن، قيل بطلاق وقيل بغير طلاق. فإن كان قد دخل بهن كان لكل واحدة منهن صداقها. وأما إن كان لم يدخل بواحدة منهن فعلى القول بأنه يفارق سائر الأربع بغير طلاق لا يكون لمن فارق منهن صداق. وهو معنى ما في المدونة، وعلى القول بأنه يفارقهن بطلاق يكون لكل واحدة منهن نصف صداقها؛ لأنه كان مخيرا فيها بين أن يمسكها أو يفارقها، وهو اختيار ابن حبيب. وقيل: إن لكل واحدة منهن خمس صداقها، [وهو اختيار ابن المواز، فإن فارقهن جميعا كان لكل واحدة منهن خمس صداقها] وكانت مفارقته إياهن بطلاق قولا واحدا. وكذلك إن دخل ببعضهن فلا صداق لمن فارق ممن لم يدخل بها على معنى ما في المدونة إذا حبس أربعا، ولها نصف صداقها على ما ذهب إليه ابن حبيب، وخمس صداقها على ما ذهب إليه ابن المواز.

(1/463)


وأما الرجل يتزوج أربع مراضع فترضعهن امرأة واحدة بعد واحدة فله أن يختار منهن واحدة ويفارق سائرهن، قيل بطلاق وقيل بغير طلاق. فأما على القول بأنه يفارقهن بغير طلاق فلا شيء لهن من صداقهن، وأما على القول بأنه يفارقهن بطلاق، فقيل: إنه يكون عليه لكل من فارق منهن نصف صداقها، وإلى هذا ذهب ابن حبيب، وقيل بل يكون عليه لكل واحدة ثمن صداقها، وإلى هذا ذهب ابن المواز. ولو فارقهن جميعا كان لكل واحدة منهن ثمن صداقها قولا واحدا وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

فصل في تفسير قوله تعالى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] .
وقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ} [النساء: 24] هن ذوات الأزواج، وقوله: {إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] من السبايا ذوات الأزواج أحلهن الله لنا بملك اليمين إذا سبين دون أزواجهن أو معهم على مذهب من يرى أن السبي يهدم النكاح. وقد اختلف في ذلك على أربعة أقوال: أحدها قول ابن القاسم وأشهب في المدونة أن السبي يهدم نكاح الزوجين سبيا معا أو متفرقين. وكذلك على مذهبهما إذا سبي أحدهما قبل صاحبه ثم أتى الآخر بأمان. وأما إذا أتى أحدهما أولا بأمان ثم سبي الثاني فلا ينهدم النكاح، وتخير إن كان هو الذي سبي بعد أن قدمت هي بأمان من أجل الرق الذي أصابه بالسباء، ويعرض عليها الإسلام إن كانت هي التي سبيت بعد أن قدم هو بأمان فأسلم إلا أن تعتق، إذ لا يجوز أن تكون زوجة لمسلم وهي امرأة كافرة. والثاني: أن السبي يبيح فسخ نكاحهما سبيا معا أو متفرقين، إلا أن يقدم أحدهما قبل صاحبه بأمان، وإلى هذا ذهب ابن حبيب في الواضحة،؛ لأنه قال ينفسخ النكاح بالسبي إلا أن يسلما أو يسلم أحدهما أو يقرا على نكاحهما، وعليه تأتي

(1/464)


رواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب التجارة إلى أرض الحرب في الإمام يبيع السبي على أن هذا زوج هذه وهذه امرأة هذا أنه ليس للمشتري أن يفرق بينهما والثالث قول ابن المواز أن السبي لا يهدم نكاحهما ولا يبيحه، سبيا معا أو متفرقين. وإن سبيت الأمة على مذهبه ثم سبي زوجها أو قدم بأمان قبل أن توطأ بالملك فهو أحق بها. والرابع الفرق بين أن تسبى هي قبله أو يسبى هو قبلها أو معها فيستحيى، وهو قول ابن بكير في الأحكام. وقد قال جماعة من المفسرين: إن المحصنات في هذه الآية جميع النساء، فهن حرام لا يحللن إلا بالتزويج أو بملك اليمين. وإلى هذا ذهب سعيد بن المسيب في قوله. ويرجع ذلك إلى أن الله حرم الزنا. وقد قيل: إن قوله في الآية: {إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] هن الإماء ذوات الأزواج من أهل الحرب وغيرهن فيحللن بملك اليمين بالسبي وبالشراء في غير السبي، قال بذلك من ذهب إلى أن بيع الأمة طلاقها وأنها تحل لمشتريها بملك يمينه.

فصل ويحرم الوطء بملك اليمين والتلذذ به ما يحرم الوطء بالنكاح، ويحرم من وطء المملوكات بالقرابة ما يحرم نكاحه من الحرائر بالقرابة والرضاعة. وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

فصل ولا يحل وطء المجوسيات بنكاح ولا ملك يمين لقول الله عز وجل: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] ، ولا نكاح الأمة من أهل الكتاب لقول الله عز وجل: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] ، وإنما يحل نكاح الحرائر منهن لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] ، ويحل وطء

(1/465)


الإماء من أهل الكتاب بملك اليمين لقوله عز وجل: {إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] ، وبالله التوفيق.

[فصل في نكاح الحر الأمة المسلمة]
فصل
في نكاح الحر الأمة المسلمة
وأما الأمة المسلمة فالمشهور عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الحر لا يجوز له نكاحها إلا مع عدم الطول وخوف العنت. وقد روي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أن ذلك جائر مع وجود الطول والأمن من العنت، وهو المشهور عن ابن القاسم. وهذا الاختلاف جار على الاختلاف في القول بدليل الخطاب، فمن رأى القول بدليل الخطاب لم يبح نكاح الأمة للحر إلا بالشرطين، ومن لم ير القول به أباح ذلك دون الشرطين. والعلة في المنع من ذلك إلا بالشرطين عند من رأى القول بدليل الخطاب الكراهة للمرء أن ينكح نكاحا يرق فيه ولده. فعلى هذا إذا تزوج الحر أمة من يعتق عليه ولده منها أو كان ممن لا يولد له كالحصور وشبهه جاز نكاحه مع عدم الشرطين لعدم علة المنع من ذلك قولا واحدا كالعبد والله أعلم.

فصل -
فعلى القول بأن الحر يتزوج الأمة وإن كان واجدا للطول آمنا من العنت لا كلام للحرة إن تزوج الأمة عليها أو تزوجها على الأمة؛ لأن الأمة على هذا القول من نسائه كالعبد، وهذا الذي تدل عليه ألفاظ المدونة. وقد تأول أبو إسحاق التونسي أن الحق للحرة في ذلك على كلا القولين جميعا سواء، وهذا إنما يصح على قول ابن الماجشون الذي يرى الخيار للمرأة إذا تزوج العبد عليها أمة أو تزوجها على الأمة وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

فصل وقد اختلف على القول بالمنع إلا مع عدم الطول في الطول ما هو، فقيل هو

(1/466)


أن يجد صداق الحرة ويقدر على نفقتها، وقيل: بل هو أن يجد صداقا لها وإن عجز عن نفقتها، والأول أصح. واختلف أيضا في الحرة تكون تحته هل هي طول تمنعه من نكاح أمة أم لا على قولين وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

فصل واختلف أيضا على هذا القول إذا عدم الطول فتزوج أمة ثم وجد طولا، فقيل: إنه يفارق الأمة ويتزوج حرة، وقيل: يبقى معها إلا أن يتزوج حرة فيفارقها، وقيل: يبقى معها وإن تزوج حرة؛ لأنه قد تقدم تزويجه إياها بوجه جائز. وأما إن ذهب عنه خوف العنت بتزوج الأمة فليس عليه مفارقتها قولا واحدا.

فصل فإذا تزوج الرجل الحر الأمة على الحرة أو الحرة على الأمة فأما على القول بإطلاق تزويج الأمة دون الشرطين فلا كلام للحرة في ذلك إلا على ما ذكرناه عن أبي إسحاق التونسي. وأما علي القول بأن ذلك لا يجوز إلا على الشرطين اللذين ذكرهما الله في كتابه ففي ذلك خمسة أقوال: أحدها: أن الحرة بالخيار في نفسها كانت هي المتزوجة على الأمة أو كانت الأمة هي المتزوجة عليها. والثاني: أنها إن كانت هي المتزوجة على الأمة كانت بالخيار في نفسها، وإن كانت الأمة هي المتزوجة عليها كانت بالخيار في الأمة. والثالث: أنه إن كانت الأمة هي الداخلة عليها فلها الخيار في نفسها، وإن كانت هي الداخلة على الأمة فلا خيار لها؛ لأنها تركت النظر لنفسها والتثبت في أمرها. والرابع: أنه إن كانت الأمة هي الداخلة عليها فسخ نكاحها ولم يجز، وإن كانت هي الداخلة على الأمة فسخ نكاح الأمة، وهو على القول! بأن الحرة طول يمنع من نكاح الأمة. والخامس: أنه إن كانت هي الداخلة على الحرة فسخ نكاح الأمة، وإن كانت الحرة هي الداخلة عليها لم يفسخ نكاح الأمة المتقدم؛ لأنه وقع بأمر جائز.

(1/467)


[فصل في أن النكاح لا يكون إلا بصداق]
فصل
في أن النكاح لا يكون إلا بصداق ولا يكون النكاح إلا بصداق. قال الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب: 50] ، وقال تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء: 24] ، وقال: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20] ، وقال: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34] ، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نكاح إلا بولي وصداق وشاهدي عدل» ، فالزوج لا يستبيح الفرج إلا بصداق. وقال الله تعالى فيه إنه نحلة والنحلة ما لم يعتض عليه، فهي نحلة من الله تعالى فرضها للزوجات على أزواجهن لا عن عوض الاستمتاع بها؛ لأنها تستمتع به كما يستمتع بها ويلحقها من ذلك مثل الذي يلحقه؛ لأن المباضعة فيما بينها وبين زوجها واحدة. ولهذا المعنى لم يفتقر عقد النكاح إلى تسمية صداق، ولو كان الصداق ثمنا للبضع حقيقة لما صح النكاح دون تسمية الصداق كالبيع الذي لا ينعقد إلا بتسمية الثمن وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

[فصل في حد الصداق في النكاح]
فصل
في حد الصداق في النكاح ولما لم يبح الله تعالى النكاح إلا بصداق ولم يرد فيه حد في القرآن ولا في السنة، وقام الدليل على أنه لا بد فيه من حد يصار إليه إذ لم يجز النكاح بالشيء

(1/468)


اليسير الذي لا قدر له ولا بال لقيمته، لكونه في معنى الموهوبة التي خص الله بها نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دون المؤمنين فقال: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] ، وجب أن يعتبر الحد فيه برده إلى بعض الأصول التي ورد التوقيت بها وإن لم تكن في معناه، فجعل حد أقل الصداق ثلاثة دراهم اعتبارا بأقل ما تقطع فيه يد السارق، وهذا اعتبار صحيح؛ لأن الله تعالى أوجب قطع يد السارق مطلقا دون تقييد بمقدار كما أوجب الصداق في النكاح مطلقا دون تقييد بمقدار، وقام الدليل على أنه لا يستباح قطع يد السارق إذا سرق الشيء اليسير الذي لا بال له ولا قدر لقيمته كالخيط وشبهه، كما قام الدليل على أنه لا يستباح الفرج بمثل ذلك من النزر الحقير. فلما وجد ما يقطع فيه يد السارق مقيدا في السنة بمقدار وجب أن يحمل النكاح المطلق عليه.

فصل وذهب أهل العراق إلى أنه لا يجوز النكاح بأقل من عشرة دراهم اعتبارا بما يجب فيه القطع في مذهبهم، والسنة ثابتة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخلاف ذلك. ثبت في الحديث «أن عبد الرحمن بن عوف جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبه أثر صفرة، فسأله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره أنه تزوج، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كم سقت إليها، قال زنة نواة من ذهب، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أولم ولو بشاة» ، وزنة النواة خمسة دراهم ولم تكن من ذهب، وإنما كانوا يسمون الخمسة زنة نواة من ذهب، فهذا يرد مذهبهم ويبطله.

فصل وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه يجوز النكاح بالدرهم والدرهمين وبالشيء اليسير، منهم ابن وهب من أصحابنا. والصحيح ما ذهب إليه مالك رحمه

(1/469)


الله وجمهور أصحابه ومن قال بقولهم. وقد استدل بعض المالكيين على أن النكاح لا يجوز بأقل من ثلاثة دراهم بأن قال: إن الله تعالى لما شرط عدم الطول في نكاح الإماء وأباحه لمن لم يجد طولا علم أن الطول لا يجده كل الناس، ولو كان الفلس والدانق والقبضة من الشعير لما عدمه أحد. ومعلوم أن الطول هو المال في هذه الآية، ولا يقع اسم مال على أقل من ثلاثة دراهم، فوجب أن يمنع من استباحة الفرج بما لا يكون طولا، وليس هذا بينا، وما قدمته أولى، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

فصل وأما أكثر الصداق فلا حد له، وإنما ذلك على ما يتراضى عليه الأزواج والزوجات، وعلى الأقدار والحالات. قال الله عز وجل: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] ، والقنطار ألف دينار ومائتا دينار، إلا أن المياسرة في الصداق عند أهل العلم أحب إليهم من المغالاة فيه. روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال تياسروا في الصداق» وكانت صدقات أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عظم مرتبته وعلو قدره وأقدارهن اثنتي عشرة أوقية ونشا، والأوقية أربعون درهما، والنش عشرون درهما، فذلك خمسمائة درهم. وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يزوج بناته على مثل ذلك مع عظم مراتبهن وعلو أقدارهن لمياسرته في صدقاتهن. «وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سأل رجلا من الأنصار عن امرأة تزوجها فقال كم أصدقتها، قال مائتي درهم فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لو كنتم تغرفون من البطحاء ما زدتم..» وروي «أن عبد الله بن أبي حدرد تزوج امرأة بأربع أواق فأخبر بذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: لو كنتم تنحتون من جبل ما زدتم» . وقال عمر بن الخطاب: لا تغالوا في مهور النساء فإن ذلك لو كان مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله عز وجل كان أولاكم بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أصدق امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية، ألا وإن أحدكم ليغلي صداق امرأته حتى يبقى لها عداوة في نفسه فيقول لها لقد كلفت لك حتى علق القربة.

(1/470)


وروي عنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أراد أن يرد صدقات النساء إلى قدر ما لا يزدن عليه، فقالت له امرأة؛ إن الله يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20] ، فقال: كل الناس أفقه منك يا عمر حتى امرأة. وروى الشعبي عنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: لا تغالوا في صدقات النساء فإنه لا يبلغني عن أحد ساق أكثر من شيء ساقه نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو سيق إليه إلا جعلت فضل ذلك في بيت المال، ثم نزل فعرضت له امرأة من قريش فقالت: يا أمير المؤمنين كتاب الله أحق أن يتبع أو قولك؟ قال: بلى، كتاب الله، لم ذلك؟ قالت: إنك نهيت الناس أن يتغالوا في صداق النساء والله يقول في كتابه: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] ، فقال عمر: كل أحد أفقه من عمر مرتين أو ثلاثا، ثم رجع إلى المنبر، فقال للناس: إني كنت نهيتكم أن تغالوا في صدقات النساء، فليفعل رجل في ماله ما شاء. فرجع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عما كان رآه فيها اجتهادا نظرا للناس إلى ما قامت به عليه الحجة، فأباحه للناس واستعمله في نفسه، فأصدق أم كلثوم ابنة علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أربعين ألفا. ومما يدل على إباحة قليل الأصدقة وكثيرها «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصدق عنه النجاشي أم حبيبة لما زوجه إياها أربعة آلاف وجهزها من عنده وبعث بها إليه مع شرحبيل بن حبيبة» فلم ينكر ذلك من فعله ولا أعطاها هو شيئا من عنده على ما روي والله أعلم. وزوج سعيد بن المسيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ابنته بدرهمين، وقيل بثلاثة دراهم، وقيل بأربعة دراهم، من عبد الله بن وداعة، وقصته في إنكاحه إياها مشهورة. ولو شاء أن يزوجها من أهل اليسار والشرف بأربعة آلاف وأضعافها مرات لفعل لتنافس الناس فيها وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

[فصل في أن النكاح لا يصح إلا بولي]
فصل
في أن النكاح لا يصح إلا بولي ولا ينكح المرأة إلا وليها. قال الله عز وجل: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] ، وقال: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221] ، وهذا الخطاب

(1/471)


متوجه إلى الأولياء. فلما كان الخطاب متوجها في إنكاحهن إلى غيرهن ولم يكن إليهن بأن يقول: ولينكح الأيامى منكم، وأن يقول: ولا ينكحوا المشركين حتى يؤمنوا، دل على أنه ليس لأحد من المخاطب فيهن أن يزوج نفسه. وقال تبارك وتعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] ، والعضل إنما يصح ممن إليه عقد النكاح. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الأيم أحق بنفسها من وليها» فدل على أن له معها حقا. وقال: «لا نكاح إلا بولي وصداق وشهيدي عدل» وقال عمر بن الخطاب: لا تنكح المرأة إلا بإذن وليها أو ذوي الرأي من أهلها أو السلطان. وبالله سبحانه تعالى التوفيق.

فصل فعقد النكاح يفتقر إلى ولي ورضى المزوجة إلا أن تكون بكرا ذات أب، أو أمة لسيدها إكراهها على النكاح، لا يصح عقد النكاح إلا بهذين الوجهين وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

فصل والولاية في نكاح الحرائر تنقسم على قسمين: خاصة، وعامة. فأما العامة فهي ولاية الإسلام، قال الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] ، وأما الخاصة فإنها تنقسم على خمسة أقسام: أحدها ولاية نسب، وهي على مراتب، أعلاها الأب وأدناها الرجل من العشيرة على مذهب ابن القاسم، فيدخل فيه المولى الأسفل، وقيل الرجل من البطن، وقيل الرجل من العصبة، فلا يدخل فيه على هذين القولين المولى الأسفل ويكون من الولاية العامة. والثاني ولاية تقديم، وهي على وجهين: تقديم من قبل أب، وتقديم من قبل سلطان. والثالث ولاية عتاقة وهي على وجهين: مولى أعلى ومولى أسفل.

(1/472)


والرابع ولاية سلطان. والخامس ولاية حضانة. فإذا زوج على مذهب ابن القاسم الولي من الولاية الخاصة فيما عدا الأب في ابنته البكر والوصي في يتيمته البكر أيضا وثم أولى منه حاضر نفذ النكاح ولم يرد. وقيل: إن للأبعد أن يزوج ابتداء مع حضور الأقرب على مذهبه في المدونة وإن زوج الولي من الولاية العامة مع عدم الولاية الخاصة أو وجودها جاز في الدنية ورد في العلية إن شاء الولي إلا أن يطول بعد الدخول فيمضي على مذهب ابن القاسم مراعاة للاختلاف، إذ لم يخرج العقد من أن يكون وليه ولي على اختلاف تأويل بعض هذه الوجوه في المدونة وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

فصل وللولي ثمانية شروط، ستة منها متفق على اشتراطها في صحة الولاية، وهي البلوغ، والعقل، والحرية، والإسلام، والذكورية، وأن يكون مالكا أمر نفسه، واثنان مختلف فيهما، وهما الدالة والرشد. وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

فصل ولا يجوز للولي أن يزوج وليته إلا بعد أن تأذن له في ذلك، فإذا أذنت له أن يزوجها فزوجها ولم يسم لها الزوج كان لها أن ترد أو تجيز ما لم يطل الأمر، وقيل يلزمها النكاح. وعلى هذا القول تأتي مسألة المرأة تأذن لولييها أن يزوجاها فزوجها كل واحد من رجل ولا يعلم الأول منهما إذ لم يقل إن لها أن تجيز أي النكاحين شاءت وترد الآخر على قياس القول الأول. ويحتمل أن تتأول المسألة على أن كل واحد من الوليين قد سمى لها الرجل الذي وكلته على تزويجها منه، فصح الجواب على كلا القولين. ولا تخلو المسألة حينئذ من أن يعثر على الأمر قبل الدخول أو بعده، فإن عثر عليه قبل الدخول وعلم الأول فالنكاح له ويفسخ الثاني بغير طلاق، وإن جهل الأول منهما فسخ النكاحان جميعا بطلاق. فإن تزوجها أحدهما بعد زوج كانت عنده على طلقتين، وإن تزوجها أحدهما قبل زوج كانت عنده على ثلاث تطليقات؛ لأنه إن كان هو الأول فإنما تزويجه إياها تجديد لنكاحه الأول وذلك لا يوجب عليه طلاقا، وإن كان الآخر فلم يلزمه طلاق إذ لم ينعقد له نكاح. ويقع

(1/473)


على الذي لم يتزوجها بتزويج الذي تزوجها منهما طلقة، فمتى تزوجها كانت عنده على طلقتين. واختلف هل تصدق المرأة أو الوليان في أن أحدهما هو الأول على قولين: أحدهما قوله في المدونة إنه لا يصدق، والثاني قول أشهب في الواضحة إنه يصدق. وإذا كان أقر أحد الوليين أنه زوج وقد علم بتزويج الآخر قبله هل يصح له النكاح ولا يفرق بينهما أم لا؟ وكذلك إن لم يعثر على الأمر حتى دخلا جميعا يفسخ النكاحان جميعا، ويدخل الخلاف المذكور في تصديق الزوجة أو الوليين على الأول منهما، إلا أنه يكون على كل واحد منهما صداقها المسمى بالمسيس. وأما إن عثر على الأمر بعد أن دخل أحدهما، فإن لم يعلم الأول منهما ثبت نكاح الذي دخل. واختلف إن علم أن الثاني هو الذي دخل، ففي المدونة أنه يثبت نكاحه، وقال المغيرة وابن عبد الحكم: يفسخ نكاحه وترد إلى الأول بعد الاستبراء. والخلاف في هذا جار على اختلافهم في الوكالة هل تنفسخ بنفس الفسخ أو لا تنفسخ إلا بوصول العلم، فمن رأى أنها لا تنفسخ إلا بوصول العلم قال: إن النكاح لا يفسخ بشبهة العقد، وهو الذي في المدونة، ومن رأى أنها تنفسخ بنفس الفسخ وهو هاهنا تزويج الأول قال: إن النكاح يفسخ؛ لأن الغيب كشف أنه لا نكاح له؛ لأنه زوجها بعد فسخ الوكالة. ولو أقر الوكيل أنه زوجه وهو يعلم بتزويج الآخر قبله لم يصدق وثبت النكاح على مذهب ابن القاسم، إلا أن تقوم بينة أته علم بذلك قبل التزويج فيفسخ بغير طلاق. ولو أقر هو على نفسه بالعلم لفسخ نكاحه بغير طلاق وكان عليه جميع الصداق. وقال محمد: يفسخ بطلاق، وهو الصحيح؛ لأنه يتهم على فسخ نكاحه بغير طلاق.

فصل فإن عثر على ذلك بعد دخول أحدهما وعلم أنه الثاني وقد كان الأول مات أو طلق فلا يخلو من أن يكون عقد ودخل قبل موت الأول أو طلاقه. أو يكون عقد ودخل بعد موت الأول أو طلاقه، أو أن يكون عقد قبل موته أو طلاقه ودخل بعد موته أو طلاقه، فأما إن كان عقد ودخل قبل موت الأول أو طلاقه فينفذ نكاحه

(1/474)


بمنزلة أن لو لم يمت ولا طفق على مذهب ابن القاسم. وأما إذا عقد ودخل بعد موت الأول أو طلاقه فهو في الموت متزوج في عدة ينفسخ نكاحه وترث زوجها الأول، وفي الطلاق نكاحه صحيح؛ لأنه في غير عدة. وقال ابن الماجشون إن كان الذي زوجها منه آخرا بعد طلاق الأول هو الأب فلا يفسخ نكاحه وإن لم يدخل، وإن كان الوكيل هو الذي زوجها فسخ نكاحه إلا أن يدخل. ووجه قوله: أن الأب مطلق على النكاح، والوكيل تنفسخ وكالته بتزويج الأب قبله. وأما إن عقد قبل الموت والطلاق ودخل بعد ذلك فحكى محمد بن المواز أن ذلك بمنزلة ما إذا عقد ودخل قبل الموت أو الطلاق يقر على نكاحه معها ولا ميراث لها من الأول ولا عدة عليها منه. والصواب أنه في الوفاة متزوج في عدة بمنزلة امرأة المفقود تتزوج بعد ضرب الأجل وانقضاء العدة، ويدخل بها زوجها فينكشف أنها تزوجت قبل وفاة المفقود ودخلت بعد وفاته في العدة أنه يكون متزوجا في عدة، ولا فرق بين المسألتين، وبالله التوفيق.

فصل والحرائر من النساء في النكاح على ضربين: أبكار وثيب. فأما البكر فلا تخلو من أن تكون ذات أب أو ذات وصي أو مهملة ذات ولي. فأما ذات الأب فللأب أن يزوجها بغير أمرها صغيرة كانت أو كبيرة ما لم تعنس بأقل من صداق مثلها، وأن يراضي زوجها على أقل من صداق مثلها إذا أنكحها إنكاح تفويض فيجوز ذلك عليها ويلزمها ويكون ذلك صداقها. فإن فرض لها الزوج صداق مثلها فأكثر وأبى الوالد أن يرضى بذلك حكم له عليه السلطان بذلك وكان هو صداقها الذي يجب لها نصفه بالطلاق وجميعه بالموت أو الدخول. واختلف إذا عنست فقيل لا يعتبر تعنيسها، وقيل: إنها تخرج بالتعنيس من ولاية أبيها. فعلى هذا القول لا يزوجها إلا برضاها، ويكون الرضا بقليل الصداق وكثيره إليها دون أبيها، ويكون إذنها صماتها في النكاح خاصة بمنزلة إذا رشدها. وأما ذات الوصي فلا يجوز للوصي أن يزوجها قبل بلوغها بحال، ولا بعد بلوغها بأقل من صداق مثلها وإن رضيت، وله أن يزوجها إذا بلغت عنست أو لم تعنس برضاها، ويكون إذنها

(1/475)


صماتها بما رضي به من صداق مثلها فأكثر وإن لم ترض، إذ ليس لها مع الوصي من الرضا بالمهر شيء، وله أن يراضي الزوج في نكاح التفويض عن صداق مثلها فأكثر فيجوز ذلك عليها ويلزمها، ويكون هو صداقها الذي يجب لها نصفه بالطلاق وجميعه بالموت أو الدخول رضيت أو لم ترض. فإن لم يرض هو بذلك ورضيت هي به لم يكن ذلك صداقها إلا بحكم السلطان، وليس له أن يراضي الزوج على أقل من صداق مثلها عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - خلاف مذهب ابن القاسم في أن ذلك جائز له على وجه النظر إلا أنه شرط رضاها، وفي ذلك من قوله نظر، وبالله التوفيق.

فصل فإن دخل الزوج بها قبل التراضي على صداق وجب لها صداق مثلها بالدخول، وكذلك البكر ذات الأب، ولم يكن للأب ولا للوصي على مذهب مالك وأصحابه الرضا بأقل من ذلك، وهو نص قول غير ابن القاسم، في باب نكاح التفويض. وقد وقع لمالك في الباب المذكور ما ظاهره أن للأب بعد الدخول الرضا بأقل من صداق المثل، وهو خلاف المعلوم من مذهبه.
وأما المهملة ذات الولي فليس للولي أن يزوجها إذا بلغت بأقل من صداق مثلها أيضا. واختلف في صداق مثلها فأكثر فقيل الرضى بتزويجها بذلك إليه دونها، وهو قول ابن حبيب في الواضحة. وقيل: بل ذلك إليها دونه، حكى هذا القول فضل عن عيسى بن دينار ونسبه إلى المستخرجة ولم يقع ذلك له عندنا فيها. والقياس إذا اختلفا في ذلك أن لا يثبت ما رضي به أحدهما صداقا إلا بعد نظر السلطان. وما ثبوت ما اجتمعا على الرضا به صداقا دون نظر السلطان إلا استحسانا وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

فصل وأما الثيب فلا تخلو من أن تكون مالكة لأمر نفسها أو غير مالكة لأمر نفسها في ولاية أب أو وصي. فأما المالكة لأمر نفسها فلا يملك الولي عليها إلا ولاية

(1/476)


العقد خاصة. وقد اختلف في المالكة لأمر نفسها مع الوصي الذي لا ولاية له عليها، فذهب ابن حبيب إلى أنه أحق من الولي بتزويجها، وقال أصبغ: الولي أحق بذلك منه، وقال سحنون: ليس بولي لها، وذلك إذا قال الموصي فلان وصي ولم يزد. وأما التي هي غير مالكة لأمر نفسها في ولاية أب أو وصي فحكمها حكم البكر ذات الوصي، حاشا أن إذنها يكون بالنطق دون الصمت، إلا أن تكون تأيمت من زوج بنكاح فاسد أو صحيح قبل البلوغ وبعد الدخول فاختلف فيها على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الأب يجبرها على النكاح ما لم تبلغ. والثاني: أنه يجبرها عليه وإن بلغت. والثالث: أنه لا يجبرها وإن لم تبلغ. حكى هذا القول النخعي عن أبي تمام، فإن كانت يتيمة ذات وصي فلا يزوجها الوصي قبل البلوغ، ويزوجها بعد البلوغ، ويكون إذنها صماتها على قول من رأى أن الأب يجبرها على النكاح، وهو قول سحنون.

فصل واختلف إذا زنت أو غصبت فقيل: حكمها حكم البكر في جميع أحوالها، وقيل حكمها حكم الثيب في جميع أحوالها، وقيل: حكمها حكم الثيب في أنها لا تزوج إلا برضاها، وحكم البكر في أن إذنها صماتها.

فصل ومن إليه الرضا بالمهر من الزوجة أو الولي هو الذي يحلف إذا اختلفا مع الزوجة في النكاح المنعقد على صداق أو في الصداق المسمى بعد عقد النكاح في نوعه أو قلته وكثرته. وإنما وجب أن يحلف الولي دون الزوجة التي إلى نظره بكرا كانت أو ثيبا؛ لأنه فيما ولي من أمرها مضيع بترك الإشهاد، فإن لم يحلف ونكل عن اليمين فاستحق الزوج ما حلف عليه بيمينه لزمه ضمان ما أتلف بنكوله إذا ضيع بترك الإشهاد. وأما ما لم يله لها وادعته هي على زوجها فهي التي تحلف إن كان لها شاهد على دعواها أو نكل هو عن اليمين، وإلى هذا ذهب محمد بن

(1/477)


المواز. وقد روي عن ابن القاسم في هذا روايات مجملة دون تفصيل، فحملها الفضل على أن ذلك اختلاف في قوله، وأنه رأى مرة أن يحلف الأب وإن لم تكن له في ذلك ولاية، ومرة أن تحلف البكر وإن كان الأب هو الذي ولي ذلك. ففي المسألة على هذا ثلاثة أقاويل، أصحها في النظر ما ذهب إليه ابن المواز، وليس في يمين البكر فيما وليه الأب من مالها نص جلي، وهو بعيد في النظر. فأما يمين الأب عنها فيما لم يله من مالها فقد روي ذلك عن ابن كنانة وابن نافع، وأنكره ابن القاسم ونفى أن يكون مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قاله قط، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

فصل وأما تسمية الصداق فليس من شروط صحة عقد النكاح؛ لأن الله أباح نكاح التفويض، وهو النكاح بغير تسمية صداق فقال تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] ، وإنما تجب تسمية الصداق عند الدخول. فلا اختلاف بين أهل العلم فيما علمت أن نكاح التفويض جائز، وإنما اختلفوا في نكاح التحكيم على ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك جائز قياسا على نكاح التفويض. والثاني: أن ذلك لا يجوز ويفسخ قبل الدخول ويثبت بعده ويكون فيه صداق المثل. والثالث: أن ذلك جائز إن كان الزوج هو المحكم، [ولا يجوز إن كان المحكم غير الزوج كانت الزوجة أو غيرها، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

فصل فإذا قلنا أن النكاح جائز فإن كان الزوج هو المحكم] ، فلا اختلاف أن الحكم في ذلك حكم نكاح التفويض، إن فرض الزوج فيه للزوجة صداق المثل لزمها النكاح، وإن أبى من ذلك فرق بينهما إلا أن يدخل بها فيجب عليه لها صداق المثل. وأما إن كانت الزوجة هي المحكمة وحدها أو مع سواها أو الزوج مع غيره

(1/478)


فاختلف في ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الحكم في ذلك حكم نكاح التفويض إن فرض الزوج لها صداق مثلها لزمها النكاح ولم يكن للمحكم من كان في ذلك كلام، وإن رضي المحكم بصداق المثل أو أقل لم يلزم ذلك الزوج إلا أن يشاء. وهذا يأتي على ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن ابن القاسم وابن عبد الحكم وأصبغ. والثاني: أن النكاح لا يلزم إلا بتراضي الزوج والمحكم، كانت الزوجة أو غيرها، على الفريضة إن فرض الزوج صداق المثل فأكثر فلم ترض بذلك الزوجة إن كانت هي المحكمة أو المحكم إن كان غيرها لم يلزمها النكاح بذلك إلا أن تشاء. وإن فرضت هي إن كانت المحكمة أو المحكم إن كان غيرها صداق المثل فأقل برضاها لم يلزم ذلك الزوج إلا أن يشاء، وهو الذي يأتي على ما في المدونة. والثالث: أن الحكم في التحكيم عكس الحكم في التفويض ينزل المحكم في التحكيم منزلة الزوج في التفويض إن فرضت الزوجة صداق المثل فأقل إن كانت هي المحكمة أو فرض ذلك المحكم برضاها لزم ذلك الزوج ولم يكن له في ذلك كلام، فإن فرض الزوج صداق المثل فأكثر لم يلزم ذلك الزوجة إلا أن ترضى به، كانت هي المحكمة أو غيرها. وهذا القول ذهب إليه أبو الحسن القابسي، قاله تأويلا على ما في المدونة، وهو تأويل بعيد. وإنما ظاهر المدونة ما ذكرنا، وإليه ذهب أبو محمد بن أبي زيد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

فصل وكذلك الإشهاد إنما يجب عند الدخول وليس من شروط صحة العقد، فإن تزوج ولم يشهد فنكاحه صحيح، ويشهدان فيما يستقبلان إلا أن يكونا قصدا إلى الاستسرار بالعقد فلا يصح أن يثبتا عليه، «لنهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن نكاح السر» ويؤمر أن يطلقها طلقة، ثم يستأنف العقد معها. فإن دخل في الوجهين جميعا فرق بينهما وإن طال الزمان بطلقة لإقرارهما بالنكاح، وحدا إن أقرا بالوطء إلا أن يكون الدخول فاشيا أو يكون على العقد شاهد واحد فيدرأ الحد بالشبهة. واختلف إذا

(1/479)


أشهد على النكاح شاهدين وأمر بالكتمان، فقيل ذلك من نكاح السر، ويفسخ قبل الدخول وبعده إلا أن يطول بعد الدخول فلا يفسخ ويكون فيه الصداق المسمى، وهو المشهور في المذهب. وقيل: النكاح صحيح لا فساد فيه، ويثبت قبل الدخول وبعده، ويؤمر الشهود بإعلان النكاح وينهوا عن كتمانه. وإلى هذا ذهب يحيى بن يحيى وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

فصل والنكاح من العقود اللازمة التي تلزم بالعقد، ولا خيار لأحد المتناكحين في حله بعد العقد بمنزلة البيع وما أشبهه من العقود اللازمة، إلا أن النكاح طريقه المكارمة فيجوز فيه من المجهول ما لا يجوز في البيع. من ذلك النكاح على عبد غير موصوف وعلى شوار بيت وما أشبه ذلك مما لا يجوز في البيع ويجوز في النكاح. ولهذا المعنى جاز التفويض فيه. ألا ترى أن هبة الثواب لما كانت على سبيل المكارمة وطريق المعروف ولم تكن على وجه المكايسة جازت من غير تسمية العوض. وقد تقدم لجواز التفويض في النكاح معنى صحيح غير هذا لم أره لأحد ممن تقدم قبلي. وقد قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أشبه شيء بالبيوع النكاح، فهو يشبهه في بعض الوجوه ويفارقه في أكثر الحالات، فهو في باب الصداق أوسع من البيوع، وفي باب العقد أضيق من البيع. ألا ترى أن هزله جد في المشهور من المذهب. وقد روي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن هزله هزل ولا يلزم إلا بالجد، وهي رواية أبي زيد عن ابن القاسم، وأن من قال لرجل زوجتي وليتك بكذا وكذا فقال قد فعلت فقال الخاطب لا أرضى أن النكاح يلزمه قولا واحدا بلا خلاف، خلاف البيوع؛ وأن الخيار لا يجوز فيه كما يجوز في البيوع وما أشبه ذلك كثير.

فصل والنكاح ينعقد بلفظ النكاح ولفظ التزويج، ولا ينعقد بما سوى ذلك من العقود حاشا الهبة فإنه قد اختلف: هل ينعقد النكاح بها أم لا على قولين: أحدهما

(1/480)


أنه لا ينعقد بها، وهو قول الشافعي. والثاني: أنه ينعقد بها وهو مذهب أبي حنيفة، ويلزم ويكون فيه صداق المثل كنكاح التفويض سواء. وقد روي عن ابن حبيب نحوه. وأما مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فاضطرب في ذلك قوله للاختلاف الحاصل فيه بين أهل العلم قبله وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

فصل
فيما يستحب في النكاح ويكره فيه. ويستحب إعلان النكاح وإشهاره وإطعام الطعام عليه. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعبد الرحمن بن عوف: «أولم ولو بشاة» . ويجب على من دعي إليه أن يجيب. قال أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ومن لم يأت الدعوة فقد عصى الله ورسوله» وذلك إذا كان الداعي يدعو على صواب. ومن فارق الصواب في وليمته فلا دعوة له ولا معصية في ترك إجابته، وقد قال أبو هريرة: شر الطعام طعام الوليمة يدعى ... الحديث. وإنما يستحب الطعام في الوليمة لإثبات النكاح وإظهاره ومعرفته؛ لأن الشهود يهلكون، قال ذلك ربيعة وغيره. ولهذا المعنى أجيز فيه بعض اللهو مثل الدف والكبر وشبهه.
ويستحب إخفاء خطبة النكاح، وأن يبدأ الخاطب قبل الخطبة بالحمد لله تعالى والصلاة والسلام على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويجيبه المخطوب إليه بمثل ذلك قبل الإجابة، وأن يهنأ الناكح عند نكاحه ويدعى له بالبركة فيه. ويكره أن يخطب الرجل المرأة على خطبة أخيه للنهي الوارد في ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذلك إذا ركنا وتقاربا وإن لم يتفقا على صداق مسمى. وقيل: ذلك جائز ما لم يسميا الصداق. والأول أصح وأكثر؛ لأن النكاح ينعقد ويتم دون تسمية صداق، فإن فعل لم يفسخ نكاحه ووجب عليه أن يستغفر الله تعالى ويتحلل صاحبه فيما فعل، فإن لم يحله فليخل سبيلها إذ كان أفسدها عليه بعد أن كانت رضيت به فإن تزوجها الأول وإلا راجعها

(1/481)


هو إن شاء وبدا له بنكاح جديد، وليس يقضى عليه بذلك وإنما هو على وجه التنزه والبر والخوف لله تعالى. وقيل: إن النكاح يفسخ قبل الدخول وبعده إذا علم ذلك وثبت، وهو قول ابن نافع وروايته عن مالك.
وأما قبل أن يركنا ويتقارب الأمر بينهما فلا بأس بالخطبة، ولا بأس أن يجتمع الاثنان والثلاثة والأكثر على خطبة المرأة. وقد روي أن جرير بن عبد الله البجلي سأل عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يخطب عليه امرأة من دوس، ثم سأله مروان بن الحكم بعد ذلك أن يخطبها عليه، ثم سأله بعد ذلك ابنه عبد الله أن يخطبها عليه، فدخل على أهلها والمرأة جالسة في قبتها عليها سترها، فسلم عمر فردوا السلام وهشوا له وأجلسوه، فحمد الله تعالى وأثنى عليه وصلى على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم قال: إن جرير بن عبد الله البجلي يخطب فلانة، وهو سيد أهل المشرق، ومروان بن الحكم يخطبها، وهو سيد شباب قريش، وعبد الله بن عمر يخطبها، وهو من قد علمتم، وعمر بن الخطاب يخطبها، فكشفت المرأة عن سترها وقالت أجاد أمير المؤمنين؟ قال نعم. قالت: قد زوجت يا أمير المؤمنين زوجوه، فزوجوه إياها فولدت له ولدين وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

فصل ومما يستحب في النكاح الهضيمة في الصداق ولا يكون فيه أجل، روي «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يستحب النكاح في رمضان رجاء البركة فيه» وفيه تزوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. وكان جماعة من أهل العلم يستحسنون النكاح في يوم الجمعة وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

[فصل في حكم الشروط في النكاح]
فصل
في حكم الشروط في النكاح وتكره الشروط في النكاح، وقد قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أشرت على قاض منذ دهر أن ينهى الناس أن يتزوجوا على الشروط وأن لا يتزوجوا إلا على دين الرجل وأمانته، وأنه كان كتب بذلك كتابا وصيح به في الأسواق وعابها عيبا شديدا.

(1/482)


وهي تنقسم على وجهين: شروط تفسد النكاح ولا حد لها، وشروط لا تفسده وهي تنقسم على ثلاثة أقسام: شروط مقيدة بتمليك أو طلاق، وشروط مقيدة بوضع بعض الصداق، وشروط مطلقة غير مقيدة بشيء. فأما الشروط المقيدة بتمليك أو طلاق فإنها لازمة عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وجميع أصحابه لا اختلاف بينهم في ذلك. وأما الشروط المقيدة بوضع بعض الصداق فلا يخلو أن يكون الموضوع للشرط في العقد أو بعد العقد، فإن كان في العقد فلا يخلو من أن يكون من صداق المثل أو زائدا على صداق المثل. فأما إن كان الموضوع منه في العقد زائدا على صداق المثل فلا اختلاف في أن الوضيعة للزوجة لازمة لا رجوع لها فيها وأن الشروط عن الزوج ساقطة لا يلزمه الوفاء بها وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. والثاني: أن ذلك لازم لهما جميعا، فإن وفى الزوج بالشرط صحت له الوضيعة، وإن لم يف بها لم تصح له، وهو قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في رواية ابن نافع وأشهب وعلي بن زياد عنه. والثالث: أن ذلك لا يجوز ولا يلزم واحدا منهما؛ لأنها معاوضة فاسدة، فإذا لم يلزم الزوج الشروط لم يلزم المرأة الوضيعة، وهو قول ابن كنانة وروايته عن مالك، ومثله في مختصر ما ليس في المختصر لابن شعبان، وبالله سبحانه التوفيق.

فصل وأما إن كانت الوضيعة بعد العقد فسواء كانت من صداق المثل أو مما زاد على صداق المثل ففي ذلك قولان: أحدهما أن ذلك لازم لهما إن وفى الزوج بالشروط صحت له الوضيعة وإلا فلا. وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في المدونة. والثاني: أن ذلك لا يجوز ولا يلزم واحدا منهما، وهو قول ابن كنانة وروايته عن مالك.

فصل وأما الشروط المطلقة فمن أهل العلم من أوجبها ورأى القضاء بها، روي عن ابن شهاب أنه قال: كان من أدركت من العلماء يقضون بها لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:

(1/483)


«أحق الشروط أن توفوا بها ما استحللتم بها الفروج» وهو ظاهر ما في رسم حلف من سماع ابن القاسم في كتاب النكاح من العتبية. والمعلوم المعروف في المذهب أنها لا تلزم لكنها يستحب الوفاء بها إلا أنها تنقسم على قسمين: أحدهما: أن تكون مشترطة في العقد دون تسمية الصداق، مثل أن يقول الرجل أزوجك ابنتي على أن لا تتزوج عليها أو على أن لا تخرجها من البلد وما أشبه ذلك. والثاني: أن تكون مشترطة في الصداق الذي يسمى في العقد أو في التسمية بعد العقد. فأما إذا كانت مشترطة في العقد دون تسميته فلا يلزم، وذلك مثل أن تقول أتزوجك على أن لا تتزوج علي أو على أن لا تخرجني من البلد وما أشبه ذلك. وأما إن كانت مشترطة في التسمية التي مع العقد، وذلك أن تقول أتزوجك بكذا وكذا على أن لا تفعل كذا وكذا فلا يلزمه الشرط عند مالك على هذا الوجه. والقياس على مذهبه أن يفسخ النكاح قبل الدخول ويثبت بعده، ويكون فيه الأكثر من صداق المثل أو المسمى؛ لأنها لم ترض أن تتزوجه بما سمت من الصداق إلا على الشروط، فإذا لم تلزمه الشروط لم يلزمها ما رضيت به من الصداق. وأما إن كانت مشترطة في التسمية فلا تلزم أيضا وينظر، فإن كانت التسمية أقل من صداق مثلها كان لها تمام صداق مثلها وصح النكاح ولم يفسخ لتقدم عقده دون شرطه وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

[فصل في حكم الأنكحة الفاسدة]
فصل
في حكم الأنكحة الفاسدة والنكاح ينقسم على قسمين: صحيح، وفاسد. فالصحيح ما جوزته السنة والقرآن، والفاسد ينقسم على ثلاثة أقسام: نكاح فسد لعقده، ونكاح فسد لصداقه، ونكاح فسد لشروط فاسدة اقترنت به. فأما ما فسد لعقده فينقسم على قسمين: قسم متفق على فساده، وقسم مختلف فيه. فالمتفق على فساده مثل نكاح من لا يحل له نكاحها من ذوات المحارم من نسب أو رضاع، ومثل نكاح المرأة في

(1/484)


عدتها أو على ابنتها أو على أمها أو على أختها وما أشبه ذلك ممن لا يجوز له الجمع بينهما، أو نكاح المجوسية أو الأمة النصرانية وما أشبه ذلك فهذا القسم يفسخ النكاح فيه قبل الدخول وبعده ويكون فيه الصداق المسمى. والمختلف في فساده مثل نكاح الشغار، ونكاح المحرم، والنكاح والإمام يخطب يوم الجمعة، ونكاح من نكح على خطبة أخيه وما أشبه ذلك. وأما ما فسد لصداقه مثل أن يتزوج الرجل المرأة بحرام مثل الخمرة والخنزير، أو بغرر مثل التمر الذي لم يبد صلاحه والعبد الآبق والبعير الشارد، أو الصداق إلى أجل مجهول أو ما أشبه ذلك، فهذا القسم يفسخ فيه النكاح قبل الدخول ويصح بعده بصداق المثل. وقد روي عن مالك أنه يفسخ قبل الدخول وبعده. ومن أهل العلم من لا يرى فسخه ويصححه بصداق المثل قبل الدخول وبعده، وهو مذهب الليث بن سعد وأبي حنيفة وأصحابه. وأما ما فسد للشروط الفاسدة المقترنة به وهي كثيرة لا تحصر بعدد، فمنها ما يفسخ النكاح به قبل الدخول وبعده، ومنها ما يفسخ به النكاح قبل الدخول ويثبت بعده، ومن ذلك ما يمضي بالصداق المسمى، ومنه ما يرد إلى صداق المثل، ومنه ما يتفق على وجه الحكم فيه، ومنه ما يختلف فيه على ما يأتي كل في موضعه إن شاء الله وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

فصل واختلف في لزوم الطلاق وكون الميراث في الأنكحة الفاسدة على ثلاثة أقوال في المذهب، وهي ثابتة في المدونة: أحدها: أن كل نكاح كانا مغلوبين على فسخه فلا طلاق فيه ولا ميراث، مثل نكاح الشغار، ونكاح المحرم، وما كان صداقه فاسدا فأدرك قبل الدخول. والثاني: أن كل نكاح يفسخ قبل الدخول ويثبت بعده ففيه الطلاق والميراث قبل الدخول وبعده، [وما كان يفسخ قبل الدخول وبعده] وإن كان مختلفا فيه فلا طلاق فيه ولا ميراث. [قبل الدخول وبعده. والقول الثالث: أن كل نكاح اتفق على تحريمه فلا طلاق فيه ولا ميراث] وكل

(1/485)


نكاح اختلف في تحريمه وإن غلبا على الفسخ فيه قبل الدخول وبعده ففيه الطلاق والميراث قبل الدخول وبعده وهو الذي قاله ابن القاسم لرواية بلغته.
وأما الخلع فإنه على مذهب ابن القاسم تابع للطلاق وجار على الاختلاف فيه حيثما لزم الطلاق لزم فيه الخلع، وحيث ما لم يلزم الطلاق سقط الخلع ووجب على المرأة الرجوع على الزوج بما دفعت إليه فيه: وعلى مذهب ابن الماجشون يثبت في كل نكاح صحيح لا خيار للمرأة فيه وإن كان الخيار فيه للزوج أو لغيرهما. وإن كان النكاح ما لا يقر على حال أو مما للمرأة فيه الخيار سقط الخلع ووجب للمرأة الرجوع على الزوج بما دفعت إليه فيه. وذهب محمد بن المواز إلى أن الخلع يثبت في كل نكاح يكون لأحد الزوجين فيه الخيار، يريد أو لغيرهما. فعلى قوله: لا يسقط الخلع إلا في كل نكاح لا يقر على حال ويغلب الزوجان فيه على الفرقة. فاحفظ إنها ثلاثة أقوال في المسألة وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

فصل والمشهور في المذهب أن الحرمة تقع بكل نكاح لم يتفق على تحريمه. وقد أجرى ابن حبيب الحرمة مجرى الطلاق والميراث، وروى مثل ذلك عن ابن القاسم، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

[فصل في اشتقاق لفظ الشغار]
فصل
في اشتقاق لفظ الشغار والشغار مأخوذ من شغر الكلب إذا رفع إحدى رجليه ليبول؛ لأن ذلك لا يكون - زعموا - إلا عند مفارقة حال الصغر إلى حال يمكنه فيها طلب الوثوب على الأنثى للنسل، وهو عندهم علامة على إرادته لذلك " فقيل منه للمرأة: شغرت المرأة تشغر شغرا إذا رفعت رجليها للنكاح، فلذلك قيل نكاح الشغار؛ لأن كل واحد من المتناكحين يشغر إذا نكح، وكان الرجل في الجاهلية يقول للرجل شاغرني أي زوجني ابنتك على أن أزوجك أختي بلا مهر لهذا المعنى. وقيل: إنما قيل له شغار؛ لأن كل واحد منهما رفع الصداق عن صاحبه. وأصل الشغر للكلب،

(1/486)


وهو أن يرفع إحدى رجليه ليبول فكني بهذا عن النكاح إذا كان على هذا الوجه وجعل له علما، كما قيل للزنا سفاح؛ لأن الزانيين يتسافحان يسفح هذا الماء أي يصبه، وتسفح هي النطفة. وأما الماء الذي يغتسلان به فكني بذلك عن الزنا وجعل له علما. وكان الرجل يلقى المرأة في الجاهلية فيقول لها سافحيني، ويرى ذلك أحسن من أن يقول زانيني. وقيل الشغار إخلاء النكاح من الصداق، أخذ ذلك من قولهم: بلد شاغر، أي: خال من الناس. وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

(1/487)