المقدمات الممهدات

 [كتاب الرضاع]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم كتاب الرضاع قال الله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] الآية إلى قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة» ، فكان ذلك من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيانا لما في كتاب الله عز وجل وزيادة في معناه ودليلا على أن جميع القرابات المحرمات بالنسب محرمات في كتاب الله تعالى بالرضاع، وإن كان الله عز وجل لم ينص فيه إلا على الأم والأخت خاصة، فإنه نبه بذكر الأخت على أن حرمة الرضاع لا تختص بالمرأة المباشرة للرضاع وأنها تسري إلى سائر القرابات المحرمات بالنسب، إذ لا فرق في المعنى والقياس بين الأخت وبينهن في سريان ما حرمه الرضاع إلى جميعهن؛ ودليلا أيضا على أن اللبن يحرم من قبل المرضعة ومن قبل الفحل الذي ذر اللبن بمائه؛ إذ ذلك مفهوم من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة» ، وقائم أيضا من كتاب الله عز وجل. قال الله عز وجل: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} [البلد: 3] ومعلوم أن الأب لم يلد ولده بالحمل والوضع كما صنعت الأم، وإنما ولدهم بما كان من مائه المتولد عنه الحمل واللبن، فصار بذلك والدا كما صارت الأم بالحمل والوضع أما فإذا أرضعت بلبنه طفلا كانت أمه وكان هو أباه. وقد جاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك ما رفع الإشكال وأزال الاحتمال في الحديث الصحيح «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أم

(1/489)


المؤمنين أنها قالت: جاء عمي من الرضاعة يستأذن علي فأبيت أن آذن له حتى أسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: فجاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألته عن ذلك فقال: إنه عمك فأذني له. قالت: فقلت يا رسول الله: إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل، فقال: إنه عمك فليلج عليك، قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وذلك بعدما ضرب علينا الحجاب» . قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة.

فصل ولولا هذا الحديث «وقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فيه: يا رسول الله إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل» إذ ظنت أن اللبن إنما يحرم من قبل المرأة لا من قبل الرجل، وجواب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها بما فهمت عنه أن اللبن للفحل وأن التحريم يقع من قبله كما يقع من قبل المرأة، لاحتمل أن يقول من لا يرى أن لبن الفحل يحرم: إن التحريم لم يقع في عم عائشة أفلح من قبل الفحل؛ لأنه ممكن أنه يكون أفلح أخو أبي القعيس قد أرضعته وأبا بكر الصديق امرأة واحدة في حولي رضاعهما، فصار أفلح بذلك أخا أبيها وعمها من الرضاعة من قبل المرضعة لا من قبل الفحل، فأزال هذا الاحتمال قوله في الحديث: «إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل» وعلم أن المرأة التي أرضعتهما زوجة أبي القعيس، وصار أفلح أخو أبي القعيس من النسب عما لها من الرضاعة من قبل الفحل على ما ذكر في الحديث، والله أعلم.

[فصل في بيان سرية حرمة الرضاع]
فصل
في بيان سريان حرمة الرضاع فتسري حرمة الرضاع من قبل المرأة المرضعة إلى أمها وأبيها وإن علوا، وإلى ولدها وولد ولدها الذكران والإناث ما سفلوا، وإلى أعيان إخوتها وأخواتها وأعمامها وعماتها وأخوالها وخالاتها دون شيء من أولادهم. وإنما لم يسر التحريم

(1/490)


إلى ولد إخوتها وأخواتها؛ لأن إخوتها وأخواتها أخوال وخالات للمرضع، فليس أولادهم من ذوي محارمه. وتسري حرمة الرضاع أيضا من قبل الفحل الذي كان اللبن عنه إلى أبويه وإن علوا، وإلى ولده وولد ولده من الذكران والإناث ما سفلوا، وإلى أعيان إخوته وأخواته وأعمامه وعماته وأخواله وخالاته دون شيء من أولادهم. وإنما لم يسر التحريم أيضا إلى ولد إخوته وأخواته؛ لأن إخوته وأخواته أعمام وعمات للمرضع من قبله، وليس أولادهم من ذوي محارمه. ولا تسري حرمة الرضاع من قبل المرضع إلا إلى الابن والبنت ما سفلا. وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

فصل فإذا أرضعت المرأة صبيا حرمت عليه وعلى ولده وولد ولده من الذكران والإناث ما سفلوا هي وجميع ذوات محارمها ومحارم الفحل الذي كان لبنها منه، حاشا بنات إخوتها وأخواتها وبنات إخوة الفحل وأخواته؛ لأن إخوتها وأخواتها أخوال وخالات، وإخوته وأخواته أعمام وعمات للمرضع، فليس أولادهم من ذوي محارمه. وإن أرضعت صبية حرمت الصبية وبناتها وبنات بنيها ما سفلوا على زوجها الذي كان اللبن منه، وعلى جميع ذوي محارمه ومحارمها، حاشا بني إخوته وأخواته وإخوتها وأخواتها لما ذكرناه، فلا ينزل أحد من ذوي رحم المرضع منزلة المرضع في الحرمة حاشا ولده وولد ولده ما سفلوا. فهذا تحصيل هذا الباب وربطه. وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

فصل فإذا قلنا إن حرمة الرضاع لا تسري من قبل المرضع إلا إلى ولده وولد ولده من الذكران والإناث خاصة، فيجوز للرجل أن يتزوج أخت ابنه من الرضاعة وأم ابنه وإن علت من الرضاعة، وأم أخيه من الرضاعة، إذ لا حرمة بينه وبين واحدة منهن، بخلاف النسب لا يحل للرجل أن يتزوج أخت ابنه من النسب؛ لأنها ربيبته، ولا جدة ابنه من النسب؛ لأنها أم زوجته، ولا أم أخيه من النسب؛ لأنها زوجة أبيه أو أم ولده. وكذلك للمرأة أن تتزوج أخا ابنها من الرضاعة، وأبا ابنها من الرضاعة،

(1/491)


وأبا أخيها من الرضاعة، إذ لا حرمة بينها وبين واحد منهم، بخلاف النسب لا يجوز للمرأة أن تتزوج أخا ابنها من النسب؛ لأنه ربيبها ابن زوجها، ولا جد ابنها من النسب؛ لأنه والد زوجها، ولا أبا أخيها لأمها؛ لأنه زوج أمها. وأما نكاح الرجل أخت أخيه فذلك جائز في النسب والرضاع، إذ لا حرمة بينه وبينها. وكذلك نكاح الرجل أخت عمه جائز أيضا في الرضاع والنسب، إذ لا حرمة بينه وبينها.
والعم من الرضاع على ثلاثة وجوه: أحدها: أن يكون لأبيك من النسب أخ من الرضاعة بأن تكون أرضعتهما امرأة واحدة في حولي رضاعهما أو امرأتان بماء رجل واحد فيكون عمك من الرضاعة. والثاني: أن يكون لأبيك من الرضاع وهو الذي أرضعتك زوجته أو أمته بمائه أخ من النسب فيكون عمك من الرضاعة. الثالث: أن يكون لأبيك من الرضاع وهو الذي أرضعتك زوجته بمائه أخ من الرضاع بأن يكون أرضعتهما امرأة واحدة أو امرأتان بماء رجل واحد فيكون ذلك الأخ عما لك. وهذا كله بين والحمد لله.

[فصل في تحريم لبن الفحل]
فصل
في تحريم لبن الفحل وقد اختلفت العلماء في لبن الفحل فطائفة أنزلته منزلة الأم فأوجبت به التحريم، وهو قول مالك وجميع أصحابه والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما والثوري وأحمد بن حنبل وأكثر أهل العلم، وطائفة كرهته، منهم القاسم بن محمد وعروة بن الزبير ومجاهد والشعبي، وطائفة رخصت فيه وهم سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعطاء بن يسار والنخعي. وعلى تحريمه العمل. وإنما اختلفوا فيه، والله أعلم؛ لأنهم جعلوا مخالفة عائشة للحديث الذي روته في ذلك علة فيه. روي عنها أنها كانت لا ترى التحريم من قبل الفحل، فكان يدخل عليها من أرضعته بنات أخيها وبنات أختها، ولا يدخل عليها من أرضعته نساء إخوتها، وهي التي روت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التحريم بلبن الفحل وقالت به بعد أن أوقفت على ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت يا رسول الله: «إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل» . والحجة في السنة لا فيما خالفها، وإن خالفها الراوي لها. وقد قيل: إن مخالفته لها تبطل

(1/492)


العمل بها، إذ لا يمكن أن يروي الراوي الحديث ثم يترك العمل به إلا وقد علم النسخ فيه، إذ لو تركه وهو لا يعلم أنه منسوخ لكان ذلك جرحا فيه، وليس ذلك عندنا بصحيح، لاحتمال أن يكون تركه لتأويل تأوله فيه فلا يلزم غيره من العلماء اتباعه على ما تأوله باجتهاده. فلعل عائشة تأولت أن ذلك رخصة لها في شأن أفلح خاصة كما تأول سائر أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رضاعة سالم، فرجعت إلى ظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] ولهذا المعنى اختلف العلماء في التحريم بلبن الفحل على ما ذكرناه عنهم والله أعلم.

[فصل في رضاعة الكبير]
فصل
في رضاعة الكبير ولا تحرم رضاعة الكبير، وإنما يحرم منها ما كان في وقت الرضاعة كما قال سعيد بن المسيب: لا رضاعة إلا ما كان في المهد وإلا ما أنبت اللحم والدم، وذلك مروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وحد ذلك ما حده الله في كتابه حيث يقول: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] . وما قرب من الحولين فله حكمهما عند أكثر أصحابنا لوجود معنى تحريم الرضاعة فيه، وهو انتفاع الصبي به وكونه له غذاء، ومن طريق اختلاف الشهور بالزيادة والنقصان، وقد قال الله عز وجل: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] . واختلف في حد القرب ما هو، فقيل اليوم واليومان، وقيل الأيام اليسيرة، وقيل الشهر ونحوه، وقيل الشهر والشهران، وهو قوله في المدونة، وقيل الشهر والشهران والثلاثة، وهي رواية الوليد بن مسلم عن مالك. وهذا إذا لم يفصل قبل ذلك فصالا يستغني فيه عن الرضاع بالطعام والشراب، فإن فصل قبل ذلك واستغنى بالطعام والشراب عن الرضاع فما أرضع بعد ذلك فلا يكون رضاعا تقع به الحرمة على ظاهر قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا رضاع بعد فطام» وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك. وذهب مطرف

(1/493)


وابن الماجشون إلى أن الفصل لا يعتبر إلا بعد أمد الرضاع، وحملا حديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك.

فصل وذهب الليث بن سعد وطائفة من العلماء إلى أن الحرمة تقع برضاع الكبير. وحجتهم في ذلك حديث سالم مولى أبي حذيفة، ذكره مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في الموطأ عن ابن شهاب أنه سئل عن رضاعة الكبير فقال: أخبرني عروة بن الزبير ... الحديث بطوله. وهذا الحديث حمله مالك وأكثر أهل العلم على أنه خاص بسالم مولى أبي حذيفة، كما حمله أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما عدا عائشة. وممن قال " إن رضاعة الكبير ليست بشيء " عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وأبو هريرة وابن عباس وسائر أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غير عائشة، وجمهور التابعين وفقهاء الأمصار. وحجتهم قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الرضاعة من المجاعة ولا رضاع إلا ما أنبت اللحم والدم» وقال ابن حبيب: إن الاختلاف الواقع بين أهل العلم في رضاع الكبير إنما هو في الستر والحجاب، وأما النكاح فلم يختلفوا فيه أنه لا يحرم به، والصحيح أن الاختلاف داخل فيه. وقد كان أبو موسى الأشعري يفتي بأن التحريم يقع به في النكاح، ثم رجع إلى قول ابن مسعود وقال: لا تسألوني عن شيء ما كان هذا الحبر بين أظهركم. ولا يزال الناس بخير ما رجعوا إلى الصواب عند تبينه لهم.

[فصل فيما تقع الحرمة به من الرضاع]
ومذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه، وهو قول أكثر أهل العلم، أن قليل الرضاع وكثيره يحرم؛ لأنه ظاهر القرآن، وحديث المصة والمصتان والإملاجة والإملاجتان، خرجه النسائي وغيره من رواية أبي الفضل بألفاظ متقاربة، في بعضها «لا تحرم المصة والمصتان» وفي بعضها «لا تحرم الإملاجة والإملاجتان» وفي بعضها «المصة والمصتان والإملاجة والإملاجتان» . ورواه ابن وهب «تحرم

(1/494)


المصة والمصتان» على ما وقع في المدونة، فوجب أن تسقط لهذا الاختلاف، فلذلك لم يخرجه البخاري والله أعلم. وكذلك اضطرب ابن الزبير في رواية هذا الحديث، فرواه مرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومرة عن أبيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومرة عن عائشة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فرد أيضا من أجل هذا الاختلاف. وكذلك حديث عائشة: «كان مما أنزل فيما أنزل الله من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخ بخمس معلومات، فتوفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو مما يقرأ في القرآن» لا تصح به حجة؛ لأنها أحالت على القرآن في الخمس رضعات فلم توجد فيه. ولذلك قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وليس العمل على هذا. وقال من ذهب إلى الأخذ بالخمس رضعات: إن هذا مما نسخ خطه وبقي حكمه كآية الرجم. وهذا لا يصح؛ لأن نسخ القرآن لا يكون إلا بأمر الله تعالى، ولا يصح إلا في حياة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأما بعد موته فلا يجوز أن يذهب من صدور الناس حفظ شيء من القرآن؛ لأن الله تعالى قد أخبر أنه حفظ كتابه العزيز فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] وقد أخبرت هي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توفي والخمس رضعات تقرأ في القرآن، ولو كان ذلك لما سقط من القرآن، فلعلها أرادت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توفي وهو مما يقرأ في القرآن المنسوخ، أي يعلم أن ذلك كان قرآنا فنسخ خطه وبقي حكمه كآية الرجم وكسائر ما نسخ خطه وحكمه وذهب من الصدر حفظه. وهذا محتمل إذ لم تقل إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توفي وهو قرآن، وإنما قالت: إنه توفي وهو مما يقرأ في القرآن، فاحتمل أن يكون أرادت أنه كان يذكر في القرآن المنسوخ خطه والله أعلم.

فصل والرضاع يحرم بلبن المسلمات والمشركات الحرائر والإماء الأموات والأحياء من قبل الأم ومن قبل الفحل إن كان الوطء حلالا أو بوجه شبهة يلحق به الولد. واختلف إن كان الوطء حراما لا شبهة فيه كوطء الزنا، ومن تزوج من لا تحل له وهو عالم هل تقع الحرمة به من قبل الفحل أم لا على قولين. فكان مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -

(1/495)


يرى أن كل وطء لا يلحق به الولد فلا يحرم بلبنه، يريد من قبل فحله، ثم رجع إلى أنه يحرم. وإلى هذا ذهب سحنون وقال: ما علمت من قال من أصحابنا إنه لا يحرم إلا عبد الملك، وهو خطأ صراح. وقد «أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سودة أن تحتجب من ولد ألحقه بأبيها لما رأى من شبهه بعتبة» . قال ابن المواز: وإذا أرضعت بلبن الزنا صبيا فهو لها ابن ولا يكون ابنا للذي زنى بها. ولو كانت صبية فتزوجها الذي كان زنى بها لم أقض بفسخ نكاحه، وأحب إلي أن يتجنبه من غير تحريم. وأما ابنته من الزنا فلا يتزوجها وإن كان ابن الماجشون قد أجازه، ومكروهه بين «لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لسودة في الولد الذي ألحقه بأبيها: احتجبي منه لما رأى من شبهه بعتبة» فكيف يتزوجها عتبة لو كانت جارية؟.

فصل وتقع الحرمة بلبن البكر والعجوز التي لم تلد وإن كان من غير وطء إذا كان لبنا ولم يكن ماء أصفر لا يشبه اللبن. وأما الرجل فلا تقع الحرمة برضاعه وإن كان له لبن، وما أظنه يكون. فقد أنكر ذلك مالك فقال: وإنما يحدث بهذا قوم نفاق.

فصل ويستحب للأم أن ترضع ولدها، فإنه روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس لبن يرضع به الصبي أعظم بركة عليه من لبن أمه» . ولذلك كانت المطلقة أحق برضاع ولدها بما ترضعه غيرها. ويكره الظؤرة من اليهوديات والنصرانيات لما يخشى من أن تطعمهم الحرام وتسقيهم الخمر. وقال ابن حبيب عن مالك: فإذا أمن ذلك فلا بأس به. ويتقى رضاع الحمقاء وذوات الطباع المكروهة، لما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الرضاع يجر الطباع» . قال عبد الملك: ولذلك كانت العرب تسترضع أولادها في أهل بيت السخاء أو بيت الوفاء أو بيت الشجاعة أو ما أشبه ذلك من الأخلاق الكريمة. وبالله التوفيق وهو الهادي إلى أقوم طريق.

(1/496)