المقدمات
الممهدات [كتاب طلاق السنة] [فصل
في اشتقاق لفظ الطلاق]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد وآله وسلم
كتاب طلاق السنة فصل
في اشتقاق لفظ الطلاق الطلاق مأخوذ من قولك أطلقت الناقة فطلقت إذا أرسلتها
من عقال وقيد، فكأن ذات الزوج موثقة عند زوجها فإذا فارقها أطلقها من وثاق.
ويدلك على ذلك قول الناس هي في حبالك إذا كانت تحتك، يراد أنها مرتبطة عندك
كارتباط الناقة في حبالها. ثم فرقوا بين الحركات من فعل الناقة وفعل المرأة
والأصل واحد وقالوا طلقت الناقة بفتح اللام وقالوا طلقت المرأة بضم اللام،
وقالوا أطلقت الناقة وطلقت المرأة.
فصل والطلاق حل العصمة المنعقدة بين الزوجين، وهو أمر جعله الله بأيدي
الأزواج وملكهم إياه دون الزوجات فقال: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ
فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ
أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] وقال: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ
قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ
مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
(1/497)
فصل وهو يلزم باللفظ مع النية في الحكم
الظاهر والباطن؛ لأن الطلاق يفتقر إلى لفظ ونية. وقد اختلف إذا انفرد
أحدهما دون الآخر. فأما إذا انفردت النية دون اللفظ فالصحيح أن الطلاق يلزم
بذلك؛ لأن اللفظ بالطلاق عبارة عما في النفس منه، فإذا أجمع الرجل في نفسه
على أنه قد طلق امرأته لزمه الطلاق فيما بينه وبين الله، وهو نص قول مالك -
رَحِمَهُ اللَّهُ - في سماع أشهب من كتاب الأيمان بالطلاق. وإن أظهر بلفظه
ما أجمع عليه من الطلاق في نفسه حكم عليه به. وقد قيل: إن الطلاق لا يلزم
بالنية حتى يلفظ به، وهو ظاهر قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في
رواية أشهب عنه في كتاب التخيير والتمليك ليس يطلق الرجل بقلبه ولا ينكح
بقلبه. وأما إذا انفرد اللفظ دون النية فالصحيح أن الطلاق لا يلزم بذلك إلا
في الحكم الظاهر، إذ لا يصدق إذا لفظ بالطلاق أنه لم يرده ولا نواه. وقد
وقع في كتاب التخيير والتمليك من المدونة ما ظاهره أن الطلاق يلزم باللفظ
دون النية، وهو خلاف المنصوص فيه وفي غيره وبعيد في المعنى، لقول النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات» وبالله
سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل وهو على وجهين: مباح، ومحظور. فالمباح منه ما كان على الصفة التي أمر
الله بها، والمحظور منه ما وقع بخلافها. والصفة التي أمر الله بها هي ما
ذكر في كتابه حيث يقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ
النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ
وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا
يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ
اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا
تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ
فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] وقرأ ابن عمر " فطلقوهن لقبل عدتهن
" معناه: في موضع يعتددن فيه، وهو أن يطلقها في طهر لم يمس فيه كما قال
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في «حديث عبد الله بن عمر
إذ طلق امرأته
(1/498)
وهي حائض فأخبر عمر بن الخطاب - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - بذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فقال: "مره فليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق
قبل أن يمس". فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء» والله سبحانه
وتعالى أعلم.
فصل فطلاق السنة الذي أمر الله به وعلمه عباده هو أن يطلق الرجل امرأته
طاهرا من غير جماع طلقة واحدة ثم لا يتبعها طلاقا، فيكون أحق برجعتها شاءت
أو أبت ما لم تنقض عدتها، لقول الله عز وجل: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2]
وبلوغ الأجل في هذه الآية المقاربة لا البلوغ حقيقة، بخلاف الآية التي في
سورة البقرة قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:
234] البلوغ في هذه الآية على وجهه، وأما في الآية التي قدمنا ذكرها
فالمراد بذكر البلوغ فيها المقاربة، بدليل إجماعهم على أنها تبين من زوجها
بانقضاء عدتها ولا يكون له إليها سبيل. وذلك كثير موجود في القرآن ولسان
العرب أن يسمى الشيء باسم ما قرب منه، قال الله عز وجل: {فَإِذَا قَرَأْتَ
الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:
98] معناه: إذا أردت قراءة القرآن. وقال: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ
فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12] وقال
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا جاء أحدكم الجمعة
فليغتسل» . وفي الحديث «صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت من الليل» فسمي المطر بالسماء لما كان
نزوله منها. ومنه قوله عز وجل: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ
الْغَائِطِ} [النساء: 43] فكني بالمجيء
(1/499)
من الغائط عن الحدث، ثم كثر استعمال ذلك
حتى سمي الحدث بعينه غائطا لقرب ما بينهما.
فصل وإنما نهي المطلق أن يطلق في الحيض؛ لأنه إذا طلق فيه طول عليها العدة
وأضر بها؛ لأن ما بقي من تلك الحيضة لا يعتد به في أقرائها فتكون في تلك
المدة كالمعلقة لا معتدة ولا ذات زوج ولا فارغة من زوج. وقد نهى الله عن
إضرار المرأة بتطويل العدة عليها بقوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ
فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ
ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا}
[البقرة: 231] وذلك أن الرجل في الجاهلية كان يطلق المرأة ثم يمهلها فإذا
شارفت انقضاء عدتها راجعها ولا حاجة له بها ثم طلقها ثم أمهلها حتى إذا
شارفت انقضاء عدتها راجعها لتطول العدة عليها، فنهى الله عن ذلك بهذه
الآية.
فصل وإنما نهي المطلق أن يطلق في طهر قد مسها فيه؛ لأنه إذا فعل ذلك لبس
عليها العدة فلم تدر بما تعتد إن كانت تعتد بالوضع أو بالأقراء، لاحتمال أن
تكون قد حملت من ذلك الوطء، فكره له أن يدخل عليها اللبس في العدة، وأمر أن
لا يطلقها إلا في موضع تعرف عدتها ما هي لتستقبلها. فقول الله عز وجل:
{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أي لقبل عدتهن. وقيل: إنما
نهي عن ذلك لتكون مستبرأة فيكون على يقين من نفي الحمل إن أتت بولد وأراد
أن ينفيه، كما كره له أن يبيع الأمة إذا وطئها قبل الاستبراء وإن كانت
رفيعة تواضع لهذه العلة، وهذا أظهر والله أعلم.
فصل وإنما منع من طلق امرأته حائضا فارتجعها أن يطلقها في الطهر الأول من
(1/500)
أجل أن ذلك يطول عليها العدة، وقد نهى الله
عن ذلك بقوله: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231]
فلا يجوز له أن يراجع ليطلق، وإنما يجوز له أن يراجع ليطأ أو يمسك. فإذا
وطئ في ذلك الطهر لم يصح له أن يطلق فيه. فالطهر الأول مقصوده الوطء فلا
يصح فيه الطلاق، والطهر الثاني هو مخير فيه بين الوطء والطلاق. وقد قيل:
إنه منع من الطلاق في الطهر الأول عقوبة لا لعلة موجودة، لما أوقع الطلاق
في موضع لا يجوز له، منع منه في موضع يجوز له. والأول هو الصحيح؛ لأن العلة
في ذلك موجودة، على ما بيناه وبالله التوفيق.
فصل ولا يجوز عند مالك أن يطلق عند كل طهر طلقة؛ لأنه عنده طلاق بدعة على
غير السنة؛ لأن الطلقة الثانية والثالثة لا عدة لهما، ولم يبح الله تعالى
الطلاق إلا للعدة فقال: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] .
وأجاز ذلك أشهب على ما روي عن ابن مسعود ما لم يرتجعها في خلال ذلك وهو
يريد أن يطلقها ثانية فلا يسعه ذلك؛ لأنه يطول عليها العدة ويضر بها. وقد
نهى الله تبارك وتعالى عن ذلك فقال: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا
لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] ، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة. والصواب ما ذهب
إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وهو الصحيح عن ابن مسعود أن طلاق
السنة أن يطلق طلقة في أول الطهر إلى انقضاء العدة. وقد أنكر أحمد بن خالد
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على سحنون إدخال الحديث الذي أدخل عن ابن
مسعود في المدونة، وقال: ما خلق الله أشنع من هذا يدخل خلاف مذهبه، وما قد
أنكره مالك، وقال: إنه لم يدرك أحدا يقتدى به من أهل بلده يرى ذلك. والحسن
بن عمارة رجل مطعون فيه.
فصل وكذلك لا يجوز عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أن يطلقها ثلاثا
في كلمة واحدة، فإن فعل لزمه ذلك بدليل قول الله عز وجل: {وَتِلْكَ حُدُودُ
اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا
تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] وهي
(1/501)
الرجعة فجعلها بائنة بإيقاع الثلاث في كلمة
واحدة، إذ لو لم يقع ولم تلزمه لم تفته الزوجة ولا كان ظالما لنفسه. ولما
ألزم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد الله بن عمر
الطلقة التي طلقها في الحيض فقال: مره فليراجعها، دل ذلك أيضا على أن
الطلاق لسنته ولغير سنته، وهو مذهب جميع الفقهاء وعامة العلماء لا يشذ في
ذلك عنهم إلا من لا يعتد بخلافه منهم.
فصل وقد أجاز الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يطلق الرجل امرأته ثلاثا في
كلمة واحدة، واحتج لذلك بتطليق الملاعن زوجته بعد اللعان ثلاثا بحضرة رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: كذبت عليها يا رسول الله
إن أمسكتها، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال: فلو كان ذلك منكرا لأنكره رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وهذا لا حجة فيه؛ لأنه إنما طلق أجنبية قد
حرمت عليه باللعان، ولعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنكر
ذلك كما لزمه أن ينكر طلاق الأجنبية، وليس كل شيء كان نقل. واحتج أيضا
بأشياء لا تقوم له بها حجة، منها طلاق عبد الرحمن بن عوف زوجته تماضر ثلاثا
في مرضه، وطلاق أبي عمرو بن حفص زوجته فاطمة بنت قيس ثلاثا. ولا حجة له في
شيء من ذلك؛ لأنهما لم يطلقا ثلاثا في كلمة واحدة، وإنما طلقا واحدة وكانت
آخر ما بقي لهما من الثلاث. ومن حجته أيضا عموم «قول رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث ابن عمر: مره فليراجعها ثم ليمسكها
حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسكها وإن شاء طلقها، من غير أن يخص
واحدة من ثلاث» . ولا يكون هو أعلم بمراد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله هذا من المخاطبين به وهما عمر بن الخطاب وابنه
عبد الله بن عمر، فقد قالا جميعا: من طلق ثلاثا فقد عصى الله ورسوله. ومن
حجته أن الزوج ترك إيقاع ما إليه إيقاعه في الطلاق الرجعي وأوقع طلاقا إليه
إيقاعه، فيلزمه على هذا أن يجيز طلاق المرأة حائضا إذا أباحت له امرأته
ذلك؛ لأنه إنما منع لئلا تطول عليها العدة، وهذا ما لا يقوله أحد. فمن طلق
ثلاثا في كلمة واحدة فقد عصى ربه وتعدى حدوده وظلم نفسه وأطاع الشيطان فلم
يجعل له مخرجا. وقد روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- أخبر عن رجل طلق امرأته ثلاثا جميعا فقام غضبانا، قال: أيلعب بكتاب الله
وأنا بين
(1/502)
أظهركم» . وكان علي بن أبي طالب وعمر بن
الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يعاتبان الذي يطلق امرأته ثلاثا في
كلمة واحدة، وهو قول مالك.
فصل وكذلك طلاق المباراة الذي يجري عندنا ويطلق الناس به نساءهم طلاق بدعة،
ولا ينبغي لأحد أن يفعله، وإنما يجوز منه ما كان على وجه الخلع بشيء تعطيه
من مالها أو تتركه له من حقها أو تلتزمه من مؤنة حمل أو رضاع أو ما أشبه
ذلك مما تجوز المخالعة به في الموضع الذي أجازه الله تبارك وتعالى فيه، وهو
إذا كان النشوز من قبل المرأة ولم يكن منه في ذلك ضرر إليها. قال الله عز
وجل: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ
عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] ، وقال: {فَإِنْ طِبْنَ
لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:
4] فلا يجوز للرجل إن نشزت عليه امرأته أو أحدثت حدثا من الزنا أو غيره أن
يضارها حتى تفتدي منه، ولا تعلق له في جواز ذلك بقول الله عز وجل: {وَلا
تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ
يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] ؛ لأن الاستثناء فيها
منفصل غير متصل. ومعنى الآية: ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن لكن إن
أتين بفاحشة حل لكم أن تقبلوا منهن في الفداء ما طابت به أنفسهن. والفاحشة
البينة هاهنا أن تشتم عرضه أو تبذأ عليه بلسانها أو تخالف أمره؛ لأن كل
فاحشة نعتت في القرآن ببينة فهي من باب النطق، وكل فاحشة أتت فيه مطلقة لم
تنعت ببينة فالمراد بها الزنا. ومن أهل العلم من رأى الاستثناء متصلا فأباح
للرجل إذا نشزت عليه امرأته أن يضيق عليها حتى تفتدي منه. ومنهم من حمل
الفاحشة البينة هاهنا على الزنا وجعل الاستثناء متصلا، فأباح للرجل إذا
اطلع على زوجته بزنا أن يمسكها ويضيق عليها حتى تفتدي منه لقول الله عز
وجل: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا
أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] .
(1/503)
فصل وكذلك الحلف بالطلاق مكروه. روي عن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا تحلفوا بالطلاق
ولا بالعتاق فإنهما من أيمان الفساق» ، وقال: «من كان حالفا فليحلف بالله
أو ليصمت» . وروى زياد عن مالك أنه يؤدب من حلف بالطلاق. وقال مطرف وابن
الماجشون: من اعتاد الحلف بالطلاق فذلك جرحة فيه وإن لم يعلم له حنث فيه.
ومكروهه لوجهين: أحدهما: نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
عن الحلف به وعن الحلف بغير الله. والثاني: أنه قد يقع حنثه في حال الحيض
أو دم النفاس أو في طهر قد مس فيه، وهذه أحوال لا يجوز إيقاع الطلاق فيها.
فإن كانت الزوجة ممن لا تحيض أو يائسة من المحيض كره لمخالفته السنة خاصة.
فصل ومن حلف بالطلاق فحنث في يمينه وامرأته حائض أو نفساء في دم نفاسها
فإنه يجبر على رجعتها كما يجبر المطلق في الحيض على الرجعة ما لم تنقض
العدة في مذهب مالك وأصحابه، حاشا أشهب فإنه يرى أن يجبر على الرجعة ما لم
تطهر ثم تحيض ثم تطهر إلى الموضع الذي أبيح له فيه الطلاق. ومن أهل العلم
من يرى أنه إنما يجبر على الرجعة ما لم تطهر من حيضتها التي طلقها فيها،
وليس ذلك في المذهب. فإن أبى الارتجاع هدد، فإن أبى سجن، فإن أبى ضرب،
ويكون ذلك كله قريبا في موضع واحد؛ لأنه على معصية. فإن تمادى ألزم الرجعة
وكانت له زوجة. حكى ذلك ابن المواز عن ابن القاسم وأشهب. وقال أصبغ عن ابن
القاسم في العتبية: إنه إذا أبى حكم عليه بالرجعة وألزم إياها ولم يذكر
سجنا ولا ضربا. وذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أنه يؤمر بالرجعة ولا يضرب
عليها. والصحيح ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لأن
الأوامر محمولة على الوجوب حتى يقترن بها ما يدل على أنها على الندب، وهذا
قول المحققين من أهل العلم.
(1/504)
فصل واختلف إذا أجبر على الرجعة وألزم
إياها ولم ينو ذلك ولا كانت له نية في مراجعتها هل له الوطء أم لا على
قولين: أحدهما: أن ذلك له وهو الصحيح؛ لأنها ترجع إلى عصمته بالحكم شاء أو
أبى، فيجوز له الوطء كالذي يجبر على النكاح ممن له الجبر عليه من أب أو وصي
أو سيد، فيجوز له الوطء وإن كان النكاح قد غلب عليه بغير رضاه. وإلى هذا
ذهب أبو عمران الفاسي واحتج لذلك بمن نكح هازلا فألزم النكاح بالحكم أن
الوطء يجوز له. وقال بعض البغداديين: ليس له الاستمتاع بها إلا أن ينوي
رجعتها إذا أجبر على ذلك. والصحيح ما تقدم.
فصل وهذا في التي دخل بها، وأما التي لم يدخل بها طلاقها جائز وإن كانت
حائضا أو نفساء. وكره ذلك أشهب، وليس لكراهته وجه؛ لأن العلة في منع إيقاع
الطلاق في الحيض تطويل العدة على المرأة؛ لأن الحيضة التي طلقها فيها لا
يعتد بها من أقرائها، والله تعالى يقول: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}
[الطلاق: 1] ، والتي لم يدخل بها لا عدة عليها ويطلقها متى شاء.
فصل واختلف في الحامل إذا حاضت على حملها هل يجوز للزوج أن يطلقها في ذلك
الحيض أم لا. وذكر عن أبي عمران الفاسي أن طلاقها فيه جائز؛ لأن الطلاق في
الحيض إنما كره من أجل أنها لا تعتد بتلك الحيضة فتطول عليها العدة، وعدة
هذه وضع الحمل فارتفعت العلة. وجرى لابن القصار في كتاب عيون الأدلة لما
عورض بقول المخالف: لو كانت الحامل تحيض لحرم الطلاق فيه فقال: فكذلك نقول:
إن الطلاق فيه حرام. ووجه هذا القول أنه طلاق وقع في حال نهي عن إيقاعه فلم
يجز وإن لم يوجد فيه علة الإضرار بالتطويل، أصله إذا أباحت له المرأة ذلك.
(1/505)
فقد توجه قول أشهب في كراهته لطلاق التي لم
يدخل بها في الحيض بهذا وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل وإنما يجبر على الرجعة من طلق طلاقا رجعيا. وأما من طلق طلاقا بائنا
بخلع أو بغير خلع فلا يجبر على الارتجاع. وكان أبو المطرف بن جريج يفتي
بالإجبار على الرجعة في طلاق المباراة، وكان غيره من شيوخ وقته مخالفا له
في ذلك ويخطئونه فيه. وقوله يخرج على قول مطرف ورواية ابن وهب عن مالك فيمن
خالع وأعطي أنها طلقة رجعية.
فصل وطلاق المدخول بها وإن كان بائنا بخلع أو غيره فإنه لا يصح إيقاعه في
الحيض ولا في دم النفاس للعلة التي قدمناها وهي التطويل في العدة وبالله
التوفيق.
فصل ولا يطلق السلطان على من به جنون أو جذام أو برص أو عنة أو عجز عن
النفقة أو ما أشبه ذلك مما يحكم فيه بالفراق في الحيض ولا في دم النفاس،
وكذلك لا يلاعن بين الزوجين في الحيض ولا في دم النفاس، فإن فعل ذلك فقد
أخطأ لا يجبر في شيء من ذلك على الرجعة؛ لأنه طلاق بائن إلا في الذي يطلق
عليه بعدم الإنفاق فإنه يجبر على الرجعة إن أيسر في العدة. هذا الذي يلزم
على أصولهم ولا أعرف فيها رواية.
وأما المولي فاختلف فيه قول مالك: هل يطلق عليه في الحيض أم لا على قولين،
فإذا طلق عليه في الحيض على أحد قوليه فإنه يجبر على الرجعة، تطلق
(1/506)
عليه بالقرآن ويجبر على الرجعة بالسنة.
وذهب أبو إسحاق التونسي إلى أن تطليق الإمام على المجنون والمجذوم والمبروص
إنما هي طلقة رجعية، وأن الموارثة بينهما قائمة ما دامت العدة لم تنقض، ولو
صحوا في العدة من أدوائهم لكانت لهم الرجعة، وهو خلاف المعلوم من المذهب أن
كل طلاق يحكم به الإمام فهو بائن إلا المولي والمطلق عليه لعدم الإنفاق.
فعلى قوله: لو أخطأ الإمام فطلق على واحد منهم في الحيض يجبر على الرجعة إن
صح فيها من دائه. وأما العنين فلا اختلاف أن تطليق الإمام عليه تطليقة
بائنة؛ لأنه طلاق قبل الدخول لتقاررهما على عدم المسيس.
فصل وأما كل نكاح يفسخ بعد البناء لفساده وإن فسخ بطلاق فإنه يفسخ متى عثر
عليه وإن كان ذلك في الحيض أو دم النفاس، بخلاف ما كان في فسخه وإجازته
خيار لأحد. وكذلك الأمة تعتق تحت العبد لا تختار في الحيض، فإن فعلت لم
يجبر على الرجعة؛ لأنها طلقة بائنة. وقد روى عيسى عن ابن القاسم في
المستخرجة ما يدل على أنها طلقة رجعية، وهي رواية ابن نافع عن مالك. فعلى
هذا يجبر على الرجعة إن أعتق في العدة ولا يملك أحد زوجته في الحيض، فإن
فعل فلا تختار فيه، وذلك بيدها حتى تطهر من حيضتها وإن انقضى الأجل. ولا
يدخل في ذلك اختلاف قول مالك في مراعاة المجلس. وإن سبقت إلى الخيار في
الحيض أجبر زوجها على الرجعة فيما دون الثلاث.
[فصل في العدة التي أوجبها الله وأمر بها]
فصل والعدة أوجبها الله وأمر بها حفظا للأنساب، وهي تنقسم على قسمين: عدة
وفاة، وعدة طلاق. فإن كانت المرأة حاملا فعدتها وضع الحمل في الوفاة
والطلاق جميعا لا اختلاف في ذلك بين أحد من أهل العلم، لقول الله عز وجل:
(1/507)
{وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ، عموما إلا ما يروى عن بعض السلف أن
المتوفى عنها زوجها وهي حامل تعتد أقصر الأجلين. فإن لم تكن حاملا فهاهنا
تفترق عدة الوفاة من عدة الطلاق. فأما عدة الوفاة فأربعة أشهر وعشر، وهي
لازمة في المدخول بها والتي لم يدخل بها لعموم قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] ، فقيل:
إنها في التي لم يدخل بها عبادة لا لعلة، وقيل: إنها لعلة، والعلة في ذلك
الاحتياط للزوج إذ قد درج وانطوى بحجته، فلعله لو كان حيا لبين أنه قد دخل
بها. ونظير ذلك أن من أثبت دينا على ميت لا يحكم له إلا بعد اليمين وإن لم
يدع الورثة عليه أنه قد قبض أو وهب، بل لو أقر له الورثة بالدين ولم يريدوا
أن يدفعوه إلا بحكم لم يحكم له القاضي به إلا بعد اليمين مخافة أن يطرأ
وارث أو يطرأ عليه دين. هذه علة صحيحة في التي يوطؤ مثلها. ولما لم يكن في
قدر ذلك حد يرجع إليه في الكتاب والسنة حمل الباب محملا واحدا وأوجب عليها
العدة وإن كانت ممهورة.
فصل ولم يختلف في التي قد دخل بها أنها لعلة وهي حفظ الأنساب، لكن تحديد
الأربعة أشهر وعشر دون الاقتصار على ما يحصل به الاستبراء أو يعلم به براءة
الرحم عبادة. والدليل على ذلك اختلاف قول مالك في الكتابية إذا مات عنها
زوجها المسلم هل تعتد بأربعة أشهر وعشر أو ثلاث حيض؛ لأنه مبني على
الاختلاف في الكفار هل هم مخاطبون بشرائع الإسلام أم لا. فإذا قلنا إنها
غير مخاطبة بشرائع الإسلام فإنما عليها الاستبراء بثلاث حيض، هذا أيضا على
مذهب من رأى أن الثلاث حيض كلها استبراء. وأما من ذهب إلى أن الحيضة
الواحدة استبراء والاثنتان عبادة فلا يوجب عليها في الوفاة ولا في الطلاق
إلا الاستبراء بحيضة واحدة إن كانت مدخولا بها، وإن لم تكن مدخولا بها فلا
شيء عليها في الوفاة ولا في الطلاق. فأما إسقاط العدة عنها في الوفاة إذا
لم يدخل بها فقد حكى
(1/508)
الرواية عن مالك ابن الجلاب. وأما
استبراؤها بحيضة واحدة في الطلاق من المسلم فلا أعرف في ذلك نص رواية إلا
أن مالكا قد قاله في الطلاق من الذمي، ولا فرق بين الموضعين.
فصل وإن كان المتوفى عنها زوجها لم يدخل بها زوجها أو كانت في سن من لا
تحيض من صغر أو كبر ويؤمن الحمل منها حلت بتمام الأربعة الأشهر والعشرة.
وأما إن كانت قد دخل بها وهي من ذوات الأقراء فحاضت فيها حلت بتمامها. وأما
إن لم تحض فيها فلا يخلو الأمر من وجهين: أحدهما: أن يكون مر بها فيها -
أعني في العدة - وقت حيضتها فارتفعت عنها من غير عذر. والثاني: أن لا يمر
بها فيها وقت حيضتها مثل أن تكون لا تحيض إلا من خمسة أشهر إلى مثلها أو من
سنة إلى مثلها أو كان ارتفاعها من عذر. فأما إن لم تحض فيها ولم يكن
لارتفاع حيضتها عذر فقول مالك وأكثر أصحابه ابن القاسم وغيره: إنها ريبة
فلا تحل حتى تحيض أو يمر بها تسعة أشهر أمد الحمل في الأغلب. فإذا مر بها
تسعة أشهر حلت إلا أن تكون بها ريبة تحس في البطن فتقيم حتى تذهب الريبة
وتبلغ أقصى أمد الحمل. وقال أشهب وابن الماجشون وسحنون: إنها تحل بانقضاء
العدة وإن لم تحض إذا لم يكن بها من الريبة أكثر من ارتفاع الحيض. وكذلك
المستحاضة تجري في هذا المجرى. وقد روي عن مالك أن عدة المستحاضة في الوفاة
أربعة أشهر وعشر للحرة، وثلاثة أشهر للأمة. وفي المسألة على هذا ثلاثة
أقوال: أحدها: أن المرتابة والمستحاضة في الوفاة تتربص إلى تمام تسعة أشهر،
والثاني: أنهما تحلان بتمام أربعة أشهر وعشر، والثالث: التفرقة بين
المرتابة والمستحاضة، فتحل المستحاضة بتمام أربعة أشهر وعشر، وتتربص
المرتابة إلى تمام تسعة أشهر. وأما إن لم يمر بها فيها وقت حيضتها أو كان
لارتفاعها عذر فذهب مالك وأصحابه إلى أنها تحل بانقضاء العدة إذا لم يظهر
بها حمل. وروى ابن كنانة عن مالك في سماع أشهب أنها لا تحل حتى تحيض أو تمر
بها تسعة أشهر. وحكى ابن المواز أن مالكا رجع عن هذا القول.
(1/509)
فصل والعذر الذي لا يكون ارتفاع الحيض معه
ريبة الرضاع باتفاق، والمرض باختلاف. قال أشهب: إن المرض كالرضاع لا يكون
ارتفاع الحيض معه ريبة لا في الوفاة ولا في الطلاق، فتحل في الوفاة بأربعة
أشهر وعشر، وتعتد في الطلاق بالأقراء وإن تباعدت. وروى ابن القاسم عن مالك،
وقال به ابن القاسم وابن عبد الحكم وأصبغ، أن ارتفاع الحيض مع المرض ريبة
كالصحيحة خلاف المرضع فتتربص في الوفاة إلى تسعة أشهر، وفي الطلاق سنة؛
تسعة أشهر استبراء، وثلاثة عدة. والفرق بين المرض والرضاع عندهم أن الرضاع
تقدر على إزالته بدفع الولد عنها والمرض لا صنع لها فيه. وأيضا فإن الرضاع
له أمد معلوم وحد محدود، والمرض لا حد له قد يطول الأعوام الكثيرة التي لا
يلحق في مثلها الولد، فإذا جعلت عدتها الأقراء فإن تباعدت قد تكون عدتها
أكثر مما يلحق به الولد، وذلك فاسد.
فصل وأما عدة الطلاق فلا تجب قبل الدخول. قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ
عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] الآية. وأما إن
كان قد دخل بها اعتدت بثلاثة قروء إن كانت ممن تحيض، أو بثلاثة أشهر إن
كانت في سن من لا تحيض من صغر أو كبر. قال الله عز وجل: {وَالْمُطَلَّقَاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] ، وقال:
{وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ
فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] [واختلف في معنى قول الله
عز وجل: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} [الطلاق: 4]] ، ما هذه الريبة، فروى أشهب عن
مالك أنها ريبة ماضية في الحكم ليس في معاودة الحيض لهن. وذلك أن الله
(1/510)
تعالى لما بين عدة ذوات الأقراء وذوات
الحمل وبقيت اليائسة عن المحيض والتي لم تحض ارتاب أصحاب النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حكمها فأنزل الله: {وَاللائِي يَئِسْنَ
مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ
ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] ، وذهب ابن بكير
وإسماعيل القاضي إلى أن المعنى في قَوْله تَعَالَى: إن ارتبتم في معاودة
الحيض لهن وأنها ريبة مستقبلة، واحتجا لذلك بحجج يطول جلبها. من ذلك أن
اليائس في كلام العرب إنما هو فيما لم ينقطع فيه الرجاء. ألا ترى أنك تقول
يئست من المريض لشدة مرضه، ومن الغائب لبعد غيبته، ولا يصح أن تقول يئست من
الميت الذي قد انقطع الرجاء منه، وأنه لو كان بمعنى اليائسة التي ذكر الله
في كتابه وأوجب عليها في العدة ثلاثة أشهر هي التي لا ترتاب في معاودة
الحيض لوجب إذا ارتفع عن المرأة الحيض وهي في سن من يشبه أن تحيض أن تعتد
بالأقراء حتى تبلغ سن من لا يشبه أن تحيض وإن بقيت عشرين عاما. وإلى هذا
ذهب الشافعي، وهو خطأ لا يصح من وجهين: أحدهما: أنها إن جاءت بولد لما لا
تحمل له النساء من المدة وإن كانت العدة لم تنقض لم يلحق به الولد، فمحال
أن تعتد من الزوج في مدة لا يلحق فيها به الولد. والوجه الثاني: مخالفة عمر
بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله: أيما امرأة طلقت فحاضت حيضة
أو حيضتين ثم رفعتها حيضتها فإنها تنتظر تسعة أشهر، فإن بان بها حمل وإلا
اعتدت بعد التسعة أشهر بثلاثة أشهر ثم حلت، ولا مخالف له من الصحابة. ومن
ذلك أن الريبة لو كانت في الحكم لكانت ماضية ولكان حقها أن تكون " أن
ارتبتم " بفتح الألف من " أن ". فإذا قلت: إن اليائسة التي أوجب الله عليها
العدة ثلاثة أشهر هي التي ترتاب فلا تدري لم لم تحض، فدليل هذا أن لا تجب
عدة على من يعلم أنها ممن لا تحيض من صغر أو كبر ولا ترتاب في أمرها إلا
أنه لما لم يكن في ذلك حد يرجع إليه حمل الباب في ذلك محملا واحدا. وقد ذهب
ابن لبابة في كتابه إلى أن الصغيرة التي يئست في سن من تحيض ويؤمن الحمل
عليها أنها لا عدة عليها وإن كان يوطأ مثلها، وكذلك الكبيرة التي انقطع
عنها الحيض ويؤمن الحمل منها، وقال: إنه مذهب داود وإنه القياس؛ لأن العدة
إنما هي لحفظ الأنساب، فإذا أمن الحمل فلا معنى للعدة، وهو شذوذ من القول.
وإذا قلنا: إن اليائسة التي أوجب الله عليها العدة ثلاثة أشهر هي التي لا
(1/511)
ترتاب في الحيض إذ ليست في سن من تحيض، وهو
الذي ذهب إليه مالك في رواية أشهب عنه. فالتي ترتفع حيضتها بعد أن حاضت وهي
في سن من تحيض محمولة [عليها إذا قعدت سبعة أشهر فلم تر فيها حيضا ولا ظهر
بها حمل ولا كان لها عذر يمنعها من الحيض من مرض أو رضاع] على ما بيناه من
الاختلاف في المرض؛ لأنها بمعنى اليائسة، وللسنة الثابتة في ذلك عن عمر بن
الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فلا تحل المرأة المطلقة ولا حمل بها إذا
كانت في سن من تحيض أو قد حاضت مرة أو مرتين إلا بثلاثة قروء أو سنة بيضاء
لا دم فيها، تسعة أشهر لا دم فيها استبراء ينزل بلوغها إليها دون أن ترى
فيها دما بمنزلة اليائسة، ثم ثلاثة أشهر عدة، كما قال الله عز وجل.
فصل فإذا ارتفع عن المرأة الحيض واعتدت بالسنة ثم تزوجت فطلقها زوجها اعتدت
بثلاثة أشهر كاليائسة عن المحيض وكان هذا شأنها ما لم تعتد بالأقراء. فإن
اعتدت بالأقراء ثم طلقت ثانية فارتفع عنها الحيض اعتدت بتسعة أشهر استبراء
وثلاثة أشهر عدة.
فصل فإن كانت ممن لا تحيض إلا من سنة إلى سنة أو إلى أكثر من ذلك فإنها
تتربص في عدتها سنة، فإن جاء فيها وقت حيضتها فلم تحض حلت بتمامها، وإن لم
يأتها فيها وقت حيضتها انتظرت إلى أن يأتيها وقت حيضتها، فإن أتى وقتها ولم
تحض فيها حلت مكانها، وإن حاضت على عادتها تربصت سنة أخرى، فإن جاء فيها
وقت حيضتها ولم تحض حلت بتمامها. وإن لم يأتها فيها وقت حيضتها، انتظرت إلى
أن يأتي وقتها، فإن أتى وقتها ولم تحض فيها حلت [مكانها. وإن
(1/512)
حاضت تربصت سنة أخرى. فإن مر بها فيها ودت
حيضتها ولم تحض حلت] بتمامها. وإن لم تمر فيها وقت حيضتها تربصت حتى يأتي
وقت حيضتها، فإن أتاها وقت حيضتها ولم تحض حلت مكانها، وإن حاضت كانت عدتها
قد انقضت بالأقراء الثلاث. هذا قول محمد بن المواز - رَحِمَهُ اللَّهُ - في
كتابه ولا مخالف له من أصحابنا.
[فصل فيما تفترق به العدد من الأحكام]
فصل
فيما تفترق فيه العدد من الأحكام فعدة الوفاة مفارقة لعدة الطلاق، وتفترق
أيضا عدة الطلاق البائن من عدة الطلاق الرجعي في كثير من الأحكام. فتحصيل
القول في هذا أن العدة تنقسم على ثلاثة أقسام: عدة وفاة، وعدة طلاق رجعي،
وعدة طلاق بائن. فأما عدة الوفاة فأمدها أربعة أشهر وعشر إن لم تكن حاملا،
ووضع حملها إن كانت حاملا. قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ
مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ
أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] ، فكان ظاهر هذا العموم في الحامل وغير
الحامل، فخصص من ذلك الحامل بقوله عز وجل: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ
أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ، وبقيت الآية محكمة
فيما سوى الحامل. ومن أهل العلم من قال: إن قوله عز وجل: {وَأُولاتُ
الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ناسخ
لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:
234] ، وليس ذلك بصحيح، لأن النسخ إنما يكون فيما يتعارض ولا يمكن الجمع
بينه، فالصحيح أنها ليست بناسخة لها، وإنما هي مبينة لها ومخصصة لعمومها.
وذهب ابن عباس إلى حمل الآية على عمومها في الحامل وغير الحامل، ولم ير في
ذلك نسخا ولا تخصيصا، فأوجب على الحامل في العدة أقصى الأجلين باعتبار
الآيتين. وأما قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ
وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ
غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240]
(1/513)
، فإنها آية منسوخة بإجماع، نسخها قول الله
عز وجل: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:
234] ، وإن كانت قبلها في التلاوة، وهذا من الغريب؛ لأن حق الناسخ أن يكون
بعد المنسوخ، فلا شك أنها نزلت بعدها، وإن كانت في التلاوة قبلها. ولا يجب
للمرأة فيها نفقة ويجب لها فيها السكنى إن كانت الدار للميت أو كانت بكراء،
وقد نقد الكراء فيجب عليها المكث فيها أو في غيرها إن لم تكن الدار للميت
فأخرجت عنها حقا لله عز وجل لحفظ الأنساب، فليس يحل أن تبيت في غيرها ولا
أن تنتقل عنها إلا من أمر لا تستطيع القرار عليه. وكذلك الإحداد ليس لها أن
تفعل ما لا يجوز للحادة أن تفعله إلا من ضرورة. وقد اختلف فيما زاد على
الأربعة الأشهر والعشر للاستبراء إذا أحست من نفسها باتفاق أو تأخر عنها
المحيض أو لم يأتها فيها وقت حيضتها على الاختلاف؛ إذ قيل: إنها تبرأ
بالأربعة الأشهر والعشر في الوجهين، وقيل: إنها تتربص إلى تسعة أشهر في
الوجهين جميعا، وقيل: إنها تتربص بالأربعة الأشهر والعشر إذا لم يأتها فيها
وقت حيضتها، بخلاف التي تتأخر عنها، هل يجب عليها فيها الإحداد أم لا على
قولين. وهذا الاختلاف داخل في وجوب المقام عليها في بيتها. ومن أهل العلم
من جعل المسكن حقا لها فأجاز لها الانتقال من غير ضرورة والمبيت في غيره.
فصل وأما العدة من الطلاق الرجعي فأمدها ثلاثة أقراء إن كانت ممن تحيض، أو
ثلاثة أشهر إن كانت يائسة من المحيض، أو وضع حملها إن كانت حاملا. ولها
النفقة فيها والسكنى حقا لله عز وجل لحفظ النسب، وليس لها أن تنتقل عن
بيتها ولا أن تخرج عنه إلا من ضرورة. قال الله عز وجل: {لا تُخْرِجُوهُنَّ
مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ
مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] ، واختلف في الفاحشة المبينة ما هي، فقيل هي
الخروج من بيتها قبل انقضاء عدتها، وقيل: هي البذاء على زوجها
(1/514)
وأحمائها، وقيل: إنما هي أن تأتي بفاحشة من
زنى وتخرج لإقامة الحد عليها ولا إحداد عليها فيها.
فصل وأما العدة من الطلاق البائن فأمدها أمد العدة من الطلاق الرجعي. وقد
اختلف في وجوب النفقة والسكنى لها فيها على ثلاثة أقوال: أحدها: أن لها
السكنى ولا نفقة لها، وهو قول مالك وجميع أصحابه. والثاني: أن لها النفقة
والسكنى، والثالث: أنها لا نفقة لها ولا سكنى. والصحيح ما ذهب إليه مالك
وأصحابه من أن لها السكنى ولا نفقة لها. ودليلهم [من كتاب الله عز وجل] على
سقوط النفقة لها قول الله عز وجل: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ
فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] ، لأن
في ذلك دليلا على أن غير الحامل لا نفقة لها. وهو نص «قول النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث فاطمة بنت قيس: " ليس لك عليه نفقة
"؛ إذ طلقها ثلاثا فأرسل إليها شعيرا فسخطته فشكت ذلك إلى النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . ودليلهم على وجوب السكنى لها قول الله عز
وجل: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6]
، لأن المراد بذلك في اللائي قد بن من أزواجهن بدليل قول الله عز وجل:
{وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] لأن غير البائن لها النفقة حاملا كانت أو غير
حامل؛ إذ لم تخرج بعد من العصمة باتفاق.
فإن قيل: كيف يصح أن يكون المراد بذلك اللواتي قد بن عن أزواجهن وهن لم
يتقدم لهن في السورة ذكر وإنما تقدم ذكر اللواتي لم يبن عن أزواجهن بدليل
قوله: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}
[الطلاق: 1] .
قيل عن ذلك جوابان: أحدهما: أنه وإن لم يتقدم لهن في السورة ذكر فقد تقدم
لهن ذكر في سورة البقرة، وهو قوله عز وجل: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ
حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ،
(1/515)
فيعاد قوله: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ
سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] إليه؛ لأن القرآن كله كسورة واحدة
في رد بعضه إلى بعض وتفسير بعضه ببعض. والثاني: أن نقول: إنه قد تقدم لهن
في السورة ذكر؛ لأن قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا
طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] عام
فيمن لم تطلق بعد، وفيمن طلقت طلقة، وفيمن طلقت طلقتين وبقيت فيها طلقة؛
لأنها تبين بالطلقة الواحدة للسنة. فيرجع قوله: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ
حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] إليها دون من سواها ممن
عمه عموم اللفظ. واستدل من ذهب إلى أنها لا نفقة لها ولا سكنى، بما روي «عن
فاطمة بنت قيس أنها قالت: لم يجعل لي رسول الله نفقة ولا سكنى» . وهذا لا
حجة فيه؛ لأنها إنما قالت ذلك تأويلا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إذ أمرها أن تعتد عند ابن أم مكتوم. وفي أمر النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إياها أن تعتد عند ابن أم مكتوم دليل على أنه
نقلها عن العدة الواجبة عليها في بيت زوجها إلى حيث أمرها أن تعتد فيه بما
ذكر من استطالتها بلسانها على أحمائها، فقد أوجب لها النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها السكنى وجعله حقا عليها لله تعالى من حيث
لم تشعر؛ إذ لو لم يوجبه عليها لما أمرها به في موضع ما ولقال لها: اعتدي
حيث شئت، فلا سكنى لك. واستدل من ذهب إلى أن لها السكنى والنفقة بما روي من
أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لا ندع آية من كتاب ربنا
وسنة نبينا لقول امرأة سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- وهو يقول: لها السكنى والنفقة. وتأول والله أعلم أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قال لها: لا نفقة لك من أجل أنها سخطت ما
أرسل إليها به؛ إذ رأى أنه هو الواجب لها عليه لقول الله عز وجل: {وَمَنْ
قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7] ، وتأول أيضا أن النفقة
التي أمر الله بها للحوامل بقوله: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ
فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] ليس من
أجل الحمل إنما هو من أجل العدة؛ إذ لو كان من أجل الحمل لوجب له الرجوع
بها عليه إذا ولد حيا وقد مات أخ لأمه فورثه، كما لو أنفق عليه في حياته ثم
انكشف أن له مالا. واختلف الذين أوجبوا لها السكنى فيما يجب عليها فيه على
ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يجب عليها المقام فيه، وإنما هو حق لها إن شاءت
أخذته وإن
(1/516)
شاءت تركته. والثاني: أنه حق لله تعالى
فيلزمها أن لا تبيت إلا فيه، ولها أن تخرج في نهارها فتتصرف في حوائجها،
وهو قول مالك وأصحابه. والثالث: أنها ليس لها أن تبيت عنه ولا أن تخرج
بالنهار منه، قال ذلك من ذهب إلى أن النفقة لها فرأى أنه لا حاجة بها إلى
الخروج، وأن المتوفى عنها زوجها إنما كان لها الخروج بالنهار لتبتغي من فضل
الله؛ إذ لا نفقة لها. وهذا كله فيه نظر. والصحيح ما ذهب إليه مالك
وأصحابه. وكذلك اختلفوا أيضا في المبتوتة هل عليها إحداد في عدتها أم لا
على قولين: أحدهما قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أنه لا حداد
عليها وهو الصحيح. والثاني: أن عليها الإحداد قياسا على عدة الوفاة في
استبرائها، وفي وجوب المبيت عليهما في بيتهما طول عدتها، وبالله سبحانه
وتعالى التوفيق.
[فصل في بيان الأقراء ما هي]
فصل
في بيان الأقراء ما هي الأقراء هي الأطهار على مذهب أهل الحجاز، وهو مذهب
مالك وأصحابه لا خلاف بينهم في ذلك. وذهب أهل العراق إلى أنها الحيض.
والدليل على صحة قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قول الله عز وجل:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أي في مكان يعتددن فيه، كما قرأ ابن عمر
فطلقوهن لقبل عدتهن وهي قراءة تساق على طريق التفسير. وبين النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ذلك أن يطلقها في طهر لم يمسها فيه. فدل
ذلك على أن الطهر الذي يطلقها فيه تعتد به، وأنه من أقرائها. ولو كانت
الأقراء الحيض كما قال أهل العراق لكان المطلق في الطهر مطلقا لغير العدة،
ومن جهة المعنى أن القرء مأخوذ مع قريت الماء في الحوض أي جمعته فيه.
والرحم يجمع الدم في مدة الطهر ثم يمجه في مدة الحيض. وموضع الخلاف إنما هو
هل تحل المرأة بدخولها في الدم الثالث أو بانقضاء آخره. فمن قال: إن
الأقراء هي الأطهار يقول: إنما تحل بدخولها في الدم، ومن قال: إنها الحيض
يقول: إنها لا تحل حتى تتم الحيض.
(1/517)
فصل أو الطلاق للرجال، والعدة للنساء،
والعبيد في الحدود على النصف من الأحرار؛ لقول الله عز وجل: {فَإِنْ
أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ
الْعَذَابِ} [النساء: 25] ، والطلاق والعدة من الحدود لا من الحقوق، فوجب
بذلك أن يكون العبيد فيه على النصف من الأحرار، فكان طلاق العبيد طلقتين؛
إذ لم تنقسم الطلقة الثانية، كانت زوجته حرة أو أمة. وكانت عدة الأمة
حيضتين إذ لم ينقسم الطهر الثاني، حرا كان زوجها أو عبدا. وأما إن كانت ممن
لا تحيض من صغر أو كبر فعدتها ثلاثة أشهر كالحرة سواء؛ إذ لا يتبين الحمل
في أقل من ثلاثة أشهر.
وأما في الوفاة فعدتها شهران وخمس ليال، إلا أن تكون قد دخل بها وهي في سن
من تحيض ويمكن أن تحمل، فتتربص حتى تمر بها ثلاثة أشهر مخافة أن يكون بها
حمل، والحمل لا يتبين في أقل من ثلاثة أشهر. وقال مالك مرة في المرأة
المتوفى عنها زوجها، وهي ممن قد يئسن من المحيض: إنها تعتد بشهرين وخمسة
أيام، وقال مرة: إنها تعتد بثلاثة أشهر؛ لأن الحمل لا يتبين في أقل من
ثلاثة أشهر. ولا ينبغي أن يحمل ذلك على أنه اختلاف من قوله؛ لأنه إنما تكلم
في الرواية الأولى عن من يؤمن الحمل منها، وفي الرواية الثانية على من
الحمل لا يؤمن منها. ألا ترى أنه علل قوله بأن الحمل لا يتبين في أقل من
ثلاثة أشهر. فينبغي أن تعتد الأمة في الطلاق إذا كانت في سن من لا تحيض،
وأمن منها الحمل بشهر ونصف، نصف عدة الحرة. ولا أعرف لأحد من أصحابنا في
ذلك نصا، وإنما اختلف أصحاب مالك باختلاف من قبله في استبراء الأمة في
البيع إذ كانت ممن لا تحيض من صغر أو كبر، فقيل: استبراؤها شهر، وقيل: شهر
ونصف، وقيل: شهران، وقيل: ثلاثة أشهر، وهو أصح الأقاويل؛ لأن الحمل لا
يتبين في أقل من ثلاثة أشهر، وهو مذهب مالك، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
(1/518)
[فصل في
التزويج في العدة]
فصل
في التزويج في العدة أوجب الله تعالى العدة حفظا للأنساب وتحصينا للفروج،
ونهى عن عقد النكاح فيها نهي تحريم؛ لأن العقد لا يراد إلا للوطء، فكان ذلك
ذريعة إلى اختلاط الأنساب، فقال تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ
النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] ، وهو
انقضاء العدة، ونهى تبارك وتعالى عن المواعدة فيها فقال: {عَلِمَ اللَّهُ
أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلا
أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا} [البقرة: 235] ، والقول المعروف هو
التعريض بالمواعدة دون الإفصاح بها. وذلك مثل أن يقول: إنك علي لكريمة،
وإني فيك لراغب، وإن يقدر أمر يكن وما أشبه ذلك. فالفرق من جهة المعنى بين
المواعدة والقول المعروف أن العدة يستحب الوفاء بها، ويكره الخلف فيها،
فإذا لم يصرح بالعدة، وإنما عرض بها فلم يأت بما يستحب له فعله، ولا يكره
له تركه.
فصل والكلام في هذا الباب في فصول ثلاثة: أحدها: ما يجوز في العدة من معنى
الخطبة. والثاني: ما يكره له فيها والحكم فيمن أتاه. والثالث: ما يحرم عليه
والحكم فيمن أتاه.
فصل فأما الذي يجوز له فالتعريض بالعدة والمواعدة، وهو القول المعروف الذي
ذكره الله تعالى في كتابه. وصفته أن يقول لها أو يقول كل واحد منهما
لصاحبه: إن يقدر أمر يكن، وإني لأرجو أن أتزوجك، وإني فيك لمحب، وما أشبه
ذلك.
(1/519)
فصل وأما الذي يكره له فيها فوجهان:
أحدهما: العدة، والثاني: المواعدة. فأما العدة فهي أن يعد أحدهما صاحبه
بالتزويج دون أن يعده الآخر بذلك، وهي تكره ابتداء باتفاق مخافة أن يبدو
للمواعد منهما فيكون قد أخلف العدة، فإن وقع وتزوجها بعد العدة مضى النكاح
ولم يفسخ، ولا وقع به تحريم بإجماع.
فصل وأما المواعدة فهي التي نهى الله عنها بقوله: {وَلَكِنْ لا
تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلا أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا} [البقرة:
235] ، فنهى أن يعد كل واحد منهما صاحبه؛ لأنها مفاعلة فلا تكون إلا من
اثنين، وهي تكره ابتداء بإجماع. واختلف إذا وقعت ثم تزوجها بعد العدة هل
يفسخ النكاح أم لا؟ على قولين: أحدهما رواية أشهب عن مالك في المدونة أنه
يفسخ، والثاني رواية ابن وهب عنه فيها أنه لا يفسخ؛ لأنه استحب الفسخ فيها
ولم يوجبه في العدة، فالعدة لا تؤثر في صحة العقد بعدها، والمواعدة تؤثر
فيه؛ لأنها تشبه العقد على ما بيناه من كراهة الخلف في العدة.
فصل واختلف أيضا على القول الذي يرى أن العقد يفسخ إن لم يعثر عليه حتى وطئ
هل تحرم عليه للأبد أم لا؟ على قولين: فروى أشهب عن مالك أنها لا تحرم
عليه، وروى عيسى عن ابن القاسم أنها تحرم عليه إذا كان الوعد شبيها
بالإيجاب. فإن واعد وليها بغير علمها وهي مالكة أمر نفسها فهو وعد وليست
بمواعدة، فلا يفسخ النكاح ولا يقع تحريم بإجماع.
فصل وأما الذي يحرم عليه فيها فالعقد والوطء، فإن عقد النكاح فيها يفسخ متى
عثر عليه دخل أو لم يدخل، وكان لها إن دخل الصداق المسمى، وأجزأتها عدة
(1/520)
واحدة عن الزوجين جميعا، خلاف ما روي عن
عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أنها تعتد بقية عدتها من
الأول، ثم تعتد من الآخر.
فصل واختلف إذا فسخ النكاح هل تحرم عليه للأبد أم لا؟ على أربعة أقوال:
أحدها: أنها لا تحرم عليه وطئ أو لم يطأ، وهو قول ابن نافع وروايته عن عبد
العزيز بن أبي سلمة، خلاف ظاهر ما حكى عنه سحنون في المدونة من قوله: قال
مالك وعبد العزيز: هو بمنزلة من عقد في العدة ووطئ في العدة، وقد تؤول قوله
في المدونة خلاف قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فيها مثل رواية
ابن نافع عنه، وهذا تأويل محتمل والأول أظهر. والثاني: أنها تحرم عليه إن
وطئ في العدة، وهو قول المغيرة وغيره في المدونة. والثالث: أنها تحرم عليه
إن وطئ كان وطؤه في العدة أو بعد العدة، وهو قول مالك في المدونة، وظاهر
قول عبد العزيز فيها على ما بيناه. والرابع: أنها تحرم عليه بالعقد وإن لم
يطأ، حكى هذا القول عبد الوهاب ولم يسم قائله. واختلف في القبلة والمباشرة
في العدة هل تكون كالوطء فيها أم لا؟ على قولين: ففي المدونة: أنها كالوطء
يقع التحريم المؤبد بها، وروى عيسى عن ابن القاسم: أنها لا تحرم بذلك، قال:
لأن الوطء نفسه فيه من الاختلاف ما فيه، فكيف بالقبلة والمباشرة.
فصل والعدة من الطلاق والوفاة في ذلك سواء إن كان الطلاق بائنا بخلع أو
بتات. واختلف إذا كان رجعيا، ففي المدونة لغير ابن القاسم أن المتزوج متزوج
في عدة، وقيل: إن مذهب ابن القاسم أن المتزوج فيها كالمتزوج في العصمة،
لكون أسباب العصمة قائمة بينهما من الموارثة والنفقة وما أشبه ذلك، وأراه
في أصل الأسدية. ويحتمل أن يقال في المسألة قول ثالث: إنه إن راجعها لم يكن
متزوجا في عدة، وإن لم يراجعها حتى تنقضي العدة كان متزوجا في عدة، قياسا
على قول أحمد بن ميسر في النصرانية تسلم تحت النصراني فتتزوج في العدة: إن
النصراني إن لم يسلم حتى
(1/521)
تنقضي العدة كان متزوجا في عدة، وإن أسلم
لم يكن متزوجا في عدة.
فصل ولا يكون هو إن راجعها في بقية من عدتها بعد أن فرق بينها وبين الذي
تزوجها، وقيل الاستبراء ناكحا في عدة.
فصل والاستبراء بمنزلة العدة سواء في أن الوطء لا يجوز فيها بالملك ولا
بالنكاح لما يلزم من حفظ الأنساب، وإنما يفترق ذلك في وجوب التحريم المؤبد.
وافتراقه على ثلاثة أوجه: أحدها: يقع به التحريم باتفاق، أعني بين من رآه
في حال من الأحوال. والثاني: لا يقع به التحريم باتفاق. والثالث: يختلف فيه
على قولين.
فصل فأما الذي يقع به التحريم باتفاق فالوطء بنكاح أو بشبهة نكاح أو بملك
أو بشبهة ملك في عدة من نكاح أو من شبهة نكاح. وأما الذي لا يقع به التحريم
باتفاق فالوطء بملك اليمين أو شبهة ملك] ، في استبراء الإماء خاصة، أو في
عدة من غير نكاح كعدة أم الولد يموت عنها سيدها أو يعتقها كان استبراؤهن من
اغتصاب أو زنا أو بيع في الإماء أو هبة أو عتق. [وأما المختلف فيه فالوطء
بنكاح أو شبهة نكاح في الاستبراء والعدة من غير النكاح أيضا، كأم الولد
يموت عنها سيدها أو يعتقها، كان الاستبراء من اغتصاب أو من زنا أو من بيع
في الإماء أو هبة أو موت أو عتق] . أعني وقد وطئ البائع أو الواهب أو الميت
أو المعتق. وأما إن لم يطأ أحد منهم فلا اختلاف أن متزوجها قبل الاستبراء
ليس متزوجا في عدة إلا أن بعض هذه المواضع أخف من بعض والاختلاف فيها
(1/522)
أقل، فأخفها متزوج الأمة في استبرائها من
الزنا، ثم في استبرائها من الاغتصاب، ثم في استبرائها من البيع أو الهبة أو
الموت، ثم في استبرائها من العتق بخروجها منه إلى الحرية، ثم في استبراء أم
الولد من العتق، ثم في استبرائها من الموت؛ لأنه عدة على مذهب مالك، ثم في
استبراء الحرة من الزنا، ثم في استبرائها من الاغتصاب.
فصل وينبغي أن يكون تزويج الأمة حاملا من الزنا أخف من تزويجها في
الاستبراء منه؛ لأن في تزويجها في الاستبراء منه اختلاط الأنساب، وليس ذلك
في تزويجها حاملا. ألا ترى أنه قد أجاز بعض أهل العلم لمن زنت زوجته وهي
حامل منه ظاهرة الحمل أن يطأها قبل الوضع لأمنه من خلط الأنساب. وقد جعل
ابن القاسم في رواية أصبغ عنه تزويجها حاملا أشد من تزويجها في الاستبراء
لرواية يرويها ابن وهب عن مالك مجردة في الحمل: أنه لا يتزوجها أبدا.
فصل وكذلك متزوج النصرانية في عدة وفاة أو طلاق من النصراني يختلف في إيجاب
التحريم به؛ لأنه استبراء وليس بعدة. ألا ترى أنه لا عدة عليها في الوفاة
قبل الدخول، وعليها فيه بعد الدخول ثلاث حيض كالطلاق سواء، وقد كان مالك -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يقول قديما: تجزئها حيضة واحدة. وأما متزوج
النصرانية في عدة أو وفاة أو طلاق من زوجها المسلم فهو متزوج في عدة. ألا
ترى أنها تجب عليها في الوفاة قبل الدخول. وقد روي عن مالك أنه لا عدة
عليها في الوفاة قبل الدخول، وعليها بعده ثلاث حيض. فعلى هذه الرواية لم
يرها عدة وجعلها استبراء، فيدخل الاختلاف في التحريم على قياس هذه الرواية،
وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل واختلف أيضا إذا كانت العدة منه كالذي يتزوج المرأة تزويجا حراما لا
يقر عليه فيفسخ نكاحه بعد الدخول فيتزوجها قبل الاستبراء، وكالذي يطلق
المرأة ثلاثا
(1/523)
فيتزوجها في عدتها منه قبل زوج. فمن علل
التحريم بالتعجيل قبل بلوغ الأجل مع اختلاط الأنساب لم يوجب التحريم عليه،
ومن علل بالتعجيل من غير أن يضم إلى ذلك اختلاط الأنساب أوجب التحريم.
فصل ولا يكون من وطئ زانيا بغير شبهة نكاح ولا ملك في عدة واستبراء واطئا
في عدة يحرم به عليه نكاحها فيما يستقبل باتفاق، والله أعلم.
فصل ومن زوج أمته من رجل وهو يطؤها قبل أن يستبرئها، أو أم ولده قبل أن
يستبرئها، فلا يكون متزوجا في عدة، وهو كمن تزوج زوجة رجل في عصمته.
فصل فإن أتت الزوجة في العدة بولد لأقل من ستة أشهر فهو للأول، وتحل بالوضع
منهما جميعا. وكذلك إن أتت به لأكثر من ستة أشهر ما بينها وبين ما تلد
لمثله النساء، وكان تزوجها قبل حيضة. وأما إن كانت أتت به لأكثر من ستة
أشهر، وكان قد تزوجها بعد حيضة فالولد للآخر. واختلف هل تحل من الأول بوضع
الحمل أم لا؟ إن كانت من أهل الأقراء وكانت العدة من طلاق. والصواب أنها لا
تحل من الأول بوضع الحمل، ولا بد لها من استئناف ثلاث حيض بعد الوضع كما لو
حبسها عن الحيض مرض أو رضاع، وهو اختيار محمد بن المواز. وفي المدونة دليل
على القولين جميعا: قال في موضع إذا تزوجها في عدة الطلاق فأتت بولد: إن
الوضع يجزئها من الزوجين، ولم يفرق بين أن يكون الولد من الأول أو الثاني،
فإذا حملت الكلام على ظاهره من العموم استفدت منه أن الوضع يبرئها من الزوج
الأول، وإن كان الولد من الثاني. وقال في موضع آخر: إذا تزوجها في عدة
الوفاة بعد حيضة أو حيضتين فأتت بولد لستة أشهر فصاعدا: إن عدتها وضع
الحمل، وهو آخر الأجلين. ففي قوله: وهو آخر الأجلين، دليل على أنه اعتبر
انقضاء العدة من
(1/524)
الزوج الأول لما كان الحمل من الزوج
الثاني. فإذا اعتبر ذلك في عدة الوفاة وجب أن يعتبره في عدة الطلاق، وإذا
اعتبره في عدة الطلاق لم تبرأ بوضع الحمل ووجب أن تستأنف ثلاث حيض بعد
الوضع؛ إذ الوضع ليس بآخر الأجلين لكون الأقراء غير داخلة في مدة الحمل
والله أعلم.
قال في كتاب ابن المواز بعد ذكر الاختلاف المذكور: ولو كان الحمل من زنى لم
يبرئها ذلك بحال من عدة لزمتها، معنى ذلك إذا تقارر الزوجان بالزنا وانتفى
الولد بلا لعان أو أقرت المرأة بالزنا بعد اللعان، أو كان الزوج خصيا قائم
الذكر تجب العدة على زوجته ولا يلحقه الولد على الاختلاف في ذلك، وإنما
قلنا ذلك؛ لأن الزوج إن نفى الولد والتعن انقضت العدة بوضع الحمل، وإن لم
ينفه لحق به وانقضت العدة بوضعها أيضا؛ لأن فراشه قائم.
[فصل في عدة امرأة المفقود]
فصل
في المفقود فقد الشيء تلفه بعد حضوره، وعدمه بعد وجوده، قال الله عز وجل:
{قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ} [يوسف: 71] {قَالُوا
نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا
بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] ، فالمفقود هو الذي يغيب وينقطع أثره ولا يعلم
خبره. وهو على أربعة أوجه: مفقود في بلاد المسلمين، ومفقود في بلاد العدو،
ومفقود في صف المسلمين في قتال العدو، ومفقود في حرب المسلمين في الفتن
التي تكون بينهم.
فصل فأما المفقود في بلاد المسلمين فالحكم فيه إذا رفعت المرأة أمرها إلى
الإمام أن يكلفها إثبات الزوجية والمغيب، فإذا أثبتت ذلك عنده كتب إلى والي
البلد الذي يظن أنه فيه أو إلى البلد الجامع إن لم يظن به في بلد بعينه
مستبحثا عنه، ويعرفه في كتابه إليه باسمه ونسبه وصفته ومتجره، ويكتب هو
بذلك إلى نواحي بلده. فإذا
(1/525)
ورد على الإمام جواب كتابه بأنه لم يعلم له
خبر ولا وجد له أثر، ضرب لامرأته أجل أربعة أعوام إن كان حرا أو عامين إن
كان عبدا، وينفق عليها فيها من ماله. وفي مختصر ابن عبد الحكم أن الأجل
يضرب من يوم الرفع. وقال أبو بكر الأبهري: إنما ضرب لامرأة المفقود أجل
أربعة أعوام؛ لأنه أقصى أمد الحمل. وهو تعليل ضعيف؛ لأن العلة لو كانت في
ذلك هذا لوجب أن يستوي فيه الحر والعبد لاستوائهما في مدة لحوق النسب،
ولوجب أن يسقط جملة في الصغيرة التي لا يوطأ مثلها إذا فقد زوجها وقام عنها
أبوها في ذلك.
وأيضا فقد قال: إنها لو أقامت عشرين سنة ثم رفعت أمرها لضرب لها أجل أربعة
أعوام، وهذا يبطل تعليله إبطالا ظاهرا. وقيل: إنما ضرب لها أجل أربعة
أعوام؛ لأنها المدة التي تبلغ المكاتبة في بلد الإسلام مسيرا ورجوعا. وهذا
يبطل على القول بأن الأجل إنما يضرب بعد الكشف والبحث، وإنما يشبه أن يقال
على مذهب من يرى ضرب الأجل من يوم الرفع، وفيه أيضا نظر، وإنما أخذت
بالأربعة الأعوام بالاجتهاد؛ لأن الغالب أن من كان حيا لا تخفى حياته مع
البحث عنه أكثر من هذه المدة، ووجب الاقتصار عليها؛ لأن الزيادة فيها
والنقصان منها خرق الإجماع؛ لأن الأمة في المفقود على قولين: أحدهما: أن
زوجته لا تتزوج حتى يعلم موته أو يأتي عليه من الزمان ما لا يحيا إلى مثله.
والثاني: أنه يباح لها التزويج إذا اعتدت بعد تربص أربعة أعوام، فلا يجوز
إحداث قول ثالث.
والذي ذكر أبو بكر الأبهري من أن أكثر مدة الحمل أربعة أعوام هو ظاهر ما في
كتاب العتق الثاني من المدونة، ومذهب الشافعي. وذهب ابن القاسم إلى أن
أكثره خمسة أعوام. وروى أشهب عن مالك سبعة أعوام على ما روي أن امرأة ابن
عجلان ولدت مرة لسبعة أعوام. وذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري إلى أن أقصاه
عامان، واختاره الطحاوي استدلالا بقول الله عز وجل: {وَحَمْلُهُ
وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] ؛ لأنه جمع الحمل والفصال في
ثلاثين شهرا، فلا يصح أن يخرجا منها ولا واحد منهما. فلما خرجت عنها سائر
الأقوال لم يبق إلا القول الذي لم يخرج قائلوه بهما عنها، فكان هو أولاها
بالصواب.
(1/526)
فإن قال قائل: إذا كان الحمل والفصال لا
يخرجان عن ثلاثين شهرا وكان أكثر مدة الحمل عامين أفيكون الفصال ستة أشهر
وأبدان الصبيان لا تقوم بها ويحتاجون في الرضاع إلى أكثر منها؟
فالجواب عن ذلك أنه قد يحتمل أن تكون الستة الأشهر أدنى مدة الفصال، وأن
يكون المولود إذا ألطف له في الغذاء استغنى عن الرضاع بعد الستة الأشهر،
وهو الظاهر فيما روي عن ابن عباس من قوله: إذا وضعت المرأة لتسعة أشهر
كفاها من الرضاع أحد وعشرون شهرا، وإذا وضعت لسبعة أشهر كفاها من الرضاع
ثلاثة وعشرون شهرا، فإذا وضعت لستة أشهر فحولان كاملان؛ لأن الله تعالى
يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] . فعلى
قياس قوله: إذا وضعت في عامين فرضاعه ستة أشهر. ويحتمل أن يكون الله تعالى
قد جعل مدة الفصال والحمل ثلاثين شهرا لا أكثر منها على ما في الآية التي
تلوناها مما قد يحتمل أن تكون مدة الفصال قد ترجع إلى ستة أشهر، ثم زاد
الله تعالى في مدة الرضاع تمام الحولين لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفِصَالُهُ
فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] ، ولقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ
أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] ، وبقي مدة الحمل على
ما في الآية الأولى فلم يخرجه عن الثلاثين شهرا، وأخرج منه مدة الفصال إذا
كان الحمل أكثر من ستة أشهر.
والجواب الأول عندي أظهر؛ لأنه يعضد ما روي عن ابن عباس، فنقول على قياسه:
إن أقل مدة الفصال ستة أشهر وأكثرها عامان، كما أن أقل مدة الحمل ستة أشهر
وأكثرها عامان، وأن للمرأة أن تنقص من الحولين في رضاع ولدها ما بينها وبين
ستة أشهر إذا لم تنقص من الثلاثين شهرا بين الحمل والرضاع شيئا. وقد قيل:
إنه إنما ضرب له أربعة أعوام؛ لأنه جهل إلى أي جهة سار من الأربع جهات،
وهذا لا معنى له، فإن لم يأت حتى انقضت اعتدت عدة الوفاة، قيل بإحداد وقيل
بغير إحداد، ثم تزوجت إن شاءت على ما روي في ذلك عن عمر بن الخطاب وعثمان
بن عفان وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -،
ولا مخالف
(1/527)
لهم من الصحابة إلا رواية أخرى جاءت عن علي
بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنها لا تتزوج حتى يعلم موته أو
يأتي عليه من الزمان ما لا يحيا إلى مثله، تعلق بها أهل المشرق والشافعي في
أحد قوليه. والصحيح عن علي بن أبي طالب مثل ما روي عن عمر بن الخطاب ومن
ذكرنا معه، وهو الصواب الذي ذهب إليه مالك، لقول رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار» ، ولقوله: «عليكم بسنتي
وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ» ، فهذا هو
الأصل في الحكم بقطع العصمة بين المرأة وزوجها إذا فقد، وإباحة النكاح لها
مع جواز حياته من طريق الأثر. وأما من طريق النظر فإذا وجب أن يفرق بين
الرجل وامرأته من أجل العنة والإيلاء، وهي لم تفقد إلا الوطء فهو في
المفقود أوجب لفقدها للوطء والعشرة والتفقد، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل فإذا ضرب الإمام لامرأة المفقود الأجل بعد البحث عن خبره وانقضى فاعتدت
فقد بانت منه في الحكم الظاهر، وكان لها أن تتزوج إن شاءت ما لم ينكشف خطأ
ذلك الحكم بمجيئه أو علم حماته، وليس لها أن تبقى على عصمة الزوج؛ لأنها
أبيحت للأزواج ووجب الفراق بينها وبين زوجها بالحكم فهو ماض لا ينتقض إلا
بانكشاف خطئه.
ألا ترى أنها لو ماتت بعد العدة لم يوقف له ميراثه منها وإن كان لو أتى في
هذه الحال كان أحق بها. فلو بلغ هو من الأجل ما لا يحيا إلى مثله من السنين
وهي حية لم ترث منه، وإنما يكون لها الرضا بالمقام على العصمة ما لم ينقص
الأجل المضروب، وأما إذا انقضى واعتدت فليس ذلك لها. وكذلك إن مضت بعد
العدة. فإن رضيت بالمقام على العصمة قبل تمام
(1/528)
الأجل ثم بدا لها فرفعت أمرها استؤنف لها
الأجل من أوله. وحكى ابن حبيب في الواضحة أنه إذا اعتدت بعد ضرب الأجل ثم
لم تتزوج حتى بلغ من السنين ما لا يحيا إلى مثلها فموت أنها ترثه، وهو
بعيد.
فصل فإن انكشف أمر المفقود بإتيانه أو علم حياته أو موته قبل انقضاء الأجل
والعدة انتقض ذلك الحكم باتفاق، وعملت على ما ينكشف من أمره، فاعتدت من يوم
وفاته إن علم موته، وبقيت على عصمته إن علمت حياته. وكذلك إن انكشف بعد
انقضاء الأجل والعدة أنه مات قبل ذلك ينتقض ذلك الحكم وتعتد من يوم وفاته.
فإن كانت قد تزوجت فيها كان متزوجها متزوجا في عدة. وأما إن انكشف أنه مات
بعد انقضاء الأجل والعدة أو أنه حي ففي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الحكم ماضٍ لا ينتقض، فلا يكون له إليها سبيل، ولا يكون لها منه
ميراث. حكى هذا القول ابن عيشون في مختصره عن ابن نافع، وهو بعيد؛ لأن
الحاكم إذا حكم باجتهاد ثم بان له أو لغيره أنه أخطأ في حكمه خطأ متفقا
عليه نقض ذلك الحكم بإجماع. فلو قيل على قياس هذا: إن المفقود أحق بزوجته
أبدا وإن تزوجت ودخل بها الزوج كالمنعي لها لكان له وجه في القياس، ولكنهم
لم يقولوا ذلك، فأين هذا من قول ابن نافع؟ إلا أنه يشبه ما روي عن مالك
فيمن خرص الخارص عليه من نخله أربعة أوسق فجذ منها خمسة أوسق: أنه يعمل على
ما خرص عليه لا على ما وجد. والصحيح أن عليه الزكاة؛ لأنه قد انكشف خطأ
الخارص فوجب الرجوع إلى الحق.
والقول الثاني: أن الحكم ينتقض ما لم تتزوج، فيكون أحق بها إن انكشف أنه
حي، ويكون لها منه ميراثها إن انكشف أنه مات وتعتد من يوم وفاته.
والقول الثالث: أن الحكم ينتقض وإن تزوجت ولم يدخل بها الزوج، فترد إلى
الزوج الأول إن كان حيا وينفسخ النكاح، ويكون لها ميراثها إن كان ميتا. ثم
ينظر في النكاح، فإن كان قد وقع بعد موته وانقضاء عدتها منه ثبت ولم يفسخ،
وإن
(1/529)
كان وقع في العدة أو قبل الولاة فسخ. وهذان
القولان لمالك ومرويان عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
-. وقد روي عنه أيضا أن زوجها إن جاء وقد تزوجت خير في زوجته أو في صداقها،
وذلك والله أعلم ما لم يدخل بها الزوج، كمن استحق سلعة وهي قائمة بيد
المشتري، هو مخير إن شاء أن يأخذ سلعته وإن شاء أن يأخذ ثمنها، وهو في
القياس بعيد؛ لأن السلعة له أن يبيعها فكان له أن يجيز بيعها ويأخذ الثمن،
والزوجة ليس له أن يزوجها فلا يجوز له أن يجيزها ويأخذ الصداق. وقد ذكر
مالك في موطئه أنه أدرك الناس ينكرون الذي روي عن عمر بن الخطاب في ذلك،
ولم يختلفوا أنه إن أتى وقد دخل بها الزوج فلا سبيل له إليها، وأنه إن
انكشف أنه مات بعد دخول الزوج بها أنها لا ميراث لها منه ولا يفرق بينها
وبين الزوج الذي دخل بها، وبالله التوفيق.
فصل وإذا ردت إليه زوجته وإن كان ذلك بعد أن تزوجت على القول الذي يرى فيه
أنها لا تفوته إلا بالدخول فهي ترجع إليه على العصمة الأولى وتكون عنده على
جميع الطلاق أو على ما بقي منه إن كان طلقها قبل أن يفقد؛ لأن ذلك الحكم
كله ينتقض بما انكشف من أمره وعلم من حياته. وأما إذا لم ترد إليه لفواتها
وإمضاء الحكم الظاهر إما بالانقضاء وإما بالتزويج وإما بالدخول على
الاختلاف المذكور في ذلك، فيحسب عليه ذلك الفراق طلقة الذي ألزم إياه
بالحكم. فإن تزوجها بعد ذلك كانت عنده على طلقتين. واختلف متى تقع الطلقة
عليه، فقيل: إنها تقع عليه بالدخول أو بالعقد على الاختلاف في ذلك، وقيل:
بل إنها إنما تقع عليه يوم أبيحت للأزواج، ويكشف ذلك العقد أو الدخول.
وفائدة هذا الاختلاف أنه إذا كان الزوج قد طلقها قبل أن يعقد طلقتين ثم فقد
فأجل واعتدت ثم تزوجت، وقدم زوجها الأول بعد أن دخل بها هل يحلها هذا الزوج
لزوجها القادم؟ فمن قال: إن الطلقة الثالثة وقعت عليه بدخول الزوج الثاني
بها، لم ير أن يحلها للأول إلا زوج ثان،
(1/530)
وإلى هذا ذهب ابن حبيب. ومن قال: إن الطلقة
الثالثة وقعت عليها يوم أبيحت للأزواج وكشف ذلك دخول هذا الزوج بها أو عقده
عليها، رأى أنه يحلها، وإلى هذا ذهب أشهب ووقع قوله في السليمانية وهو
الصواب؛ لأن الطلقة الثالثة لو وقعت عليها بدخول الزوج بها أو بعقده عليها
لوجب عليها أن تعتد من حينئذ، وهذا ما لا يقوله أحد. وأما من ذهب إلى أنها
لا ترد إلى الزوج الأول إذا لم يقدم حتى تنقضي العدة، وإن لم تتزوج فيرى أن
هذا الزوج يحلها له؛ لأنها تزوجت عنده بعد وجوب الطلقة الثالثة عليه، وهذا
بين.
فصل فإن قدم الزوج بعد أن دخل بها الزوج الذي تزوجها وبنى بها على القول
الذي يرى أنها تفوت بالدخول، فأقر الزوج أنه لم يطأ لم تحل لواحد منهما؛
لأنها قد حرمت على الأول بما ظهر من دخوله بها، وعلى الثاني بإقراره أن
الأول أحق بها وأنها زوجته.
فصل وأما ماله فموقوف لا يورث عنه حتى يعلم موته أو يأتي عليه من الزمان ما
لا يحيا إلى مثله. واختلف في حد ذلك فروي عن ابن القاسم سبعون سنة، وقاله
مالك وإليه ذهب عبد الوهاب، واحتج له بقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين» ؛ إذ لا
معنى لقوله إلا الإخبار بما يتعلق به الحكم، والله أعلم.
وروي عن مالك ثمانون سنة وتسعون سنة، وقال أشهب: مائة سنة. وحكى الداودي عن
محمد بن عبد الحكم مائة وعشرون سنة، وهو مذهب أبي حنيفة، فإن فقد وهو ابن
سبعين سنة على مذهب من يرى السبعين ضرب له عشرة أعوام، وكذلك إن فقد وهو
ابن ثمانين أو تسعين على مذهب من يرى ذلك أو
(1/531)
ما دونه حد المفقود. وأما إن فقد وهو ابن
مائة عام على مذهب من يرى ذلك أو ما دونه حد المفقود فقيل: إنه يضرب له
عشرة أعوام، وقيل: إنه يتلوم له العام والعامين. وأما إن فقد وهو ابن مائة
وعشرين سنة فيتلوم له العام ونحوه، ولا اختلاف في ذلك.
واختلف إن فقد قبل أن يدخل بزوجته هل لها نفقة في الأربعة الأعوام أم لا؟
على قولين: أحدهما: أنه لا نفقة لها، وهو قول المغيرة في كتابه، قال: لأني
لا أدري ما عنده وما حاله في غيبته إلا أن يكون قد فرض لها قبل ذلك نفقة
فيكون سبيلها في النفقة سبيل المدخول بها. والصواب أن لها النفقة؛ لأنه
كالغائب، ولم يختلف أن من غاب عن زوجته قبل دخوله بها غيبة بعيدة أن النفقة
تفرض لها عليه في ماله إن سألت ذلك، وإنما اختلف في الغيبة القريبة. وظاهر
ما في سماع ابن القاسم من كتاب طلاق السنة أن لها النفقة إذ لم يفرق فيه
بين قرب الغيبة وبعدها.
فصل واختلف إذا انقضى الأجل واعتدت هل يقضى لها بصداقها أم لا؟ على ثلاثة
أقوال: أحدها قول ابن الماجشون: أنه لا يقضى لها بشيء منه حتى يأتي وقت لو
قدم لم يكن له إليها سبيل، يريد فيقضى لها حينئذ بنصف صداقها إلا أن ينكشف
أنه مات قبل ذلك أو يبلغ من السنين ما لا يحيا إلى مثلها فيقضى لها بجميعه،
وإن كانت قد تزوجت، قاله ابن الماجشون. وقال ابن وهب: لا يقضى لها إن كانت
تزوجت إلا بنصفه. ولكلا القولين وجه من النظر. والثاني: أنه يقضى لها
بنصفه، فإن بلغ من السنين ما لا يحيا إلى مثلها تزوجت أو لم تتزوج على أصل
ابن الماجشون، أو ثبتت وفاته ما بينه وبين أن تبين منه بالدخول أو التزويج
على الاختلاف المعلوم قضي لها ببقيته. حكى هذا القول ابن الجلاب في كتاب
التفريع، وحكاه ابن سحنون أيضا في كتابه، والثالث: أنه يقضى لها بجميعه،
وهو
(1/532)
قول مالك في سماع عيسى. واختلف على هذا
القول: إن قدم بعد أن تزوجت ودخل بها الزوج هل ترد نصفه أم لا؟ وفي سماع
عيسى أنها لا ترد شيئا، وفي سماع سحنون أنها ترد نصفه. وأما إن لم يقدم ولا
علمت حياته ولا موته حتى بلغ من السنين ما لا يحيا إلى مثلها، فلا ترد من
الصداق شيئا، وإن كانت قد تزوجت ودخل بها الزوج، وهذا ما لا اختلاف فيه
أعلمه. وإجماعهم على هذا يقضي بصحة قول ابن الماجشون المتقدم، وهذا إذا كان
الصداق حالا. وأما إن كان مؤجلا فاختلف في ذلك كالاختلاف في قضاء ما لم يحل
من ديونه.
فصل وأما المفقود في بلاد الحرب فحكمه حكم الأسير لا تتزوج امرأته ولا يقسم
ماله حتى يعلم موته، أو يأتي عليه من الزمان ما لا يحيا إلى مثله في قول
أصحابنا كلهم، حاشا أشهب فإنه حكم له بحكم المفقود في المال والزوجة جميعا.
واختلف فيمن قلع في البحر إلى بلاد الحرب ثم فقد فقيل: إنه كالمفقود في
بلاد المسلمين لإمكان أن تكون الريح قد ردته إلى بلاد المسلمين إلا أن يعلم
أنه صار في بعض جزائر الروم ثم فقد بعد ذلك، وقيل: إنه كالمفقود في بلاد
الحرب.
فصل وأما المفقود في صف المسلمين في قتال العدو ففي ذلك أربعة أقوال:
أحدها رواية ابن القاسم عن مالك في سماع عيسى: أنه يحكم له بحكم الأسير،
فلا تتزوج امرأته ولا يقسم ماله حتى يعلم موته أو يأتي عليه من الزمان ما
لا يحيا إلى مثله.
(1/533)
والثاني رواية أشهب عن مالك أنه يحكم له
بحكم المقتول بعد أن يتلوم له سنة من يوم يرفع أمره إلى السلطان ثم تعتد
امرأته وتتزوج ويقسم ماله، وإن كان لم يتكلم في الرواية على قسم ماله فهو
المعنى والله أعلم. وسواء كانت المعركة في بلاد الحرب أو في بلاد المسلمين
إذا أمكن أن يؤسر فيخفى أمره، فحمله ابن القاسم في رواية عيسى عنه على أنه
أسير، وحمله مالك في رواية أشهب عنه على أنه قتيل. وأما إن كانوا بموضع لا
يخفى أسره إن أسر فحكمه حكم المفقود في حرب المسلمين في الفتن التي تكون
بينهم، فيحتمل أن يحمل قول ابن القاسم على أن المعركة كانت بموضع يخفى فيه
أسره إن أسر، وقول مالك على أنها كانت بموضع لا يخفى فيه أسره إن أسر، فلا
تكون على هذا التأويل رواية عيسى مخالفة لرواية أشهب.
والقول الثالث: أنه يحكم له بحكم المفقود في جميع الأحوال، فيضرب له أجل
أربعة أعوام ثم تعتد امرأته وتتزوج ولا يقسم ماله حتى يأتي عليه من الزمان
ما لا يحيا إلى مثله، حكى هذا القول ابن المواز وعابه.
والقول الرابع: أنه يحكم له بحكم المقتول في الزوجة فتعتد بعد التلوم
وتتزوج، وبحكم المفقود في ماله فلا يقسم حتى يعلم بموته أو يأتي عليه من
الزمان ما لا يحيا إلى مثله. ذهب إلى هذا أحمد بن خالد وحكى أنه قول
الأوزاعي، وتأول رواية أشهب عن مالك على ذلك، وهو بعيد.
فصل وأما المفقود في حرب المسلمين في الفتن التي تكون بينهم ففي ذلك قولان:
أحدهما: أنه يحكم له بحكم المقتول في زوجته وماله، فتعتد امرأته ويقسم
ماله، قيل من يوم المعركة قريبة كانت أو بعيدة، وهو قول سحنون، وقيل: بعد
(1/534)
التلوم له على قدر ما ينصرف من هرب أو
انهزم. فإن كانت المعركة على بعد من بلاده مثل إفريقية من المدينة ضرب
لامرأته أجل سنة ثم تعتد وتتزوج ويقسم ماله. وقيل: إن العدة داخلة في
التلوم، اختلف في ذلك قول ابن القاسم. والصواب أن العدة داخلة في التلوم؛
لأنه إنما تلوم له مخافة أن يكون حيا، فإذا لم يوجد له خبر حمل أمره على
أنه قتل في المعركة فاعتدت امرأته من ذلك اليوم وقسم ماله على ورثته يومئذ.
وإن كانت بموضع لا يظن أن له بقاء لقربه واتضاح أمره اعتدت امرأته من ذلك
اليوم. وقيل: إن الأندلس كلها كبلدة واحدة، فلا يتلوم له وتعتد امرأته من
ذلك اليوم وتتزوج إن شاءت ويقسم ماله، وإنما يضرب له أجل سنة إذا كانت
المعركة بعيدة مثل إفريقية من مصر، ومصر من المدينة، قاله عيسى بن دينار.
والثاني رواية أشهب عن مالك أنه يضرب له أجل سنة ثم تعتد امرأته وتتزوج ولا
يقسم ماله حتى يأتي عليه من الزمان ما لا يحيا إلى مثله، وهو قول الأوزاعي
وتأويل أحمد بن خالد على رواية أشهب. والتأويل الصحيح فيها أنه يقسم ماله
بعد السنة، وهو قول ثالث في المسألة، وهذا كله إذا شهدت البينة العدلة أنه
شهد المعترك. فأما إن كانوا إنما رأوه خارجا في جملة العسكر ولم يروه في
المعترك فحكمه حكم المفقود في زوجته وماله باتفاق، والله سبحانه وتعالى
أعلم.
(1/535)
|