المقدمات
الممهدات [كتاب إرخاء الستور] [فصل
فيما جاء في إرخاء الستور]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم
كتاب إرخاء الستور فصل
ما جاء في إرخاء الستور إرخاء الستور كناية عن تخلية الرجل مع امرأته
وخلوته بها، وإن لم يكن ثم غلق باب ولا إرخاء ستر. وأصل هذا الباب قول الله
عز وجل: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ
فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلا أَنْ يَعْفُونَ
أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] .
فصل فإذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها وقد سمى لها صداقا فليس لها إلا
نصفه، نصف العاجل ونصف الآجل إن كان فيه آجل، لا تستوجب جميعه إلا بالموت
أو الدخول، أو ما يقوم مقام الدخول بها عند مالك من طول المقام معها
والالتذاذ بها.
فصل فالصداق المسمى يجب للمرأة بعقد النكاح وجوبا غير مستقر، ويستقر لها
نصفه بالطلاق وجميعه بالموت أو الدخول. هذا الذي يصح أن يعبر به عن وجوب
(1/537)
الصداق. وأما من قال: إن الصداق يجب جميعه
بالعقد ويسقط عنه نصفه بالطلاق قبل الدخول فلا يستقيم؛ لأن الحقوق إذا
تقررت لأربابها لا تسقط إلا بما يصح به إسقاطها من بيع أو هبة أو صدقة أو
ما أشبه ذلك. فلو وجب للمرأة الصداق بعقد النكاح لما سقط جميعه بالفسخ
والارتداد ولا نصفه بالطلاق، أصله إذا وقع الطلاق أو الفسخ أو الارتداد بعد
الدخول. وكذلك قول من قال: إن الصداق يجب نصفه بالعقد، ونصفه الثاني
بالدخول، والاستمتاع لا يصح؛ لأنه لو وجب نصفه بالعقد لما بطل بالفسخ أو
الارتداد، ولو لم يجب النصف الثاني إلا بالدخول أو الاستمتاع لما وجب إذا
مات أحدهما قبل الدخول؛ لأن الموت لا يوجب في الذمة حقا لم يكن واجبا.
فصل وأما إن كان لم يسم لها صداقا وطلقها قبل البناء فليس لها إلا المتعة،
وإن مات عنها لم يكن لها إلا الميراث ولا صداق لها في مذهب مالك وأصحابه
إذا مات عنها قبل الدخول ولم يفرض لها.
فصل وحد المسيس الذي يوجب الصداق جميعه التقاء الختانين، وهو يوجب سبعة
أحكام: يوجب الصداق، ويوجب الغسل، ويوجب الحد، ويحصن الزوجين، ويحل المطلقة
ثلاثا للذي طلقها، ويفسد الحج، ويفسد الصوم.
فصل وإن طلقها قبل البناء فأقرا بالمسيس وجب للمرأة صداقها كاملا ولزمتها
العدة، فإن عرفت لهما خلوة أو ظهر بها حمل كانت له الرجعة وتوارثا إن مات
أحدهما في العدة، وإن لم تعرف لهما خلوة ولا ظهر بها حمل لم يكن له رجعتها؛
لأنها قد بانت منه في ظاهر الأمر فيتهمان على التزويج بغير ولي ولا صداق
ولا يتوارثان. وإن أنكرا المسيس ولم يدعه أحدهما لم يكن لها إلا نصف
الصداق، ولم
(1/538)
يجب عليها عدة إلا أن يعلم بينهما خلوة
فتجب عليها العدة ولا يكون للزوج فيها الرجعة ولا لأحدهما من صاحبه ميراث.
فصل فإن اختلفا فيه ولم يعلم بينهما خلوة فادعته المرأة على زوجها وأنكر
لزمته اليمين إن أشبه ما ادعته، فإن حلف برئ من نصف الصداق، وإن نكل عن
اليمين حلفت هي واستوجبت جميعه ولزمتها العدة ولم يكن للزوج رجعة. وإن
ادعاه الزوج وأنكرته هي لم يصدق عليها في العدة ولا في الرجعة وكان قد أقر
لها بجميع الصداق، فإن شاءت أخذت جميعه، وإن شاءت أخذت نصفه. وقال سحنون:
ليس لها أن تأخذ جميعه إلا بعد أن تكذب نفسها وترجع إلى تصديق الزوج. فإن
كذبت نفسها ورجعت إلى تصديق الزوج لزمتها العدة. وقول سحنون ليس بخلاف لما
في المدونة لابن القاسم في كتاب الرهون مثله ولأشهب في هذا الكتاب.
فصل وإنما لها أن ترجع إلى تصديقه ما دام باقيا على قوله. ولو أنه رجع إلى
تصديقها قبل أن ترجع إلى تصديقه لم يكن لها شيء، وإن رجعت إلى قوله بعد
رجوعه إلى قولها لم يجب عليه يمين. وكذلك لا يمين عليها إن رجع إلى قولها
بعد رجوعها إلى قوله وتأخذ جميع الصداق منه دون يمين.
وتحصيل هذا أن من سبق منهما إلى الرجوع إلى قول صاحبه صدق، إن كانت هي التي
سبقت بالرجوع إلى قوله وجب لها الصداق دون يمين، أقام على قوله أو نزع عنه.
وإن كان هو الذي سبق بالرجوع إلى قولها سقط عنه نصف الصداق، ولم يجب عليه
يمين، أقامت على قولها أو نزعت عنه. وقد قيل: إن لها أن تأخذ ما أقر لها
به، وإن كانت مقيمة على الإنكار، وهذا القول أحد قولي سحنون
(1/539)
في نوازله من كتاب الاستلحاق، وقيل: إنه لا
يحكم لها بأخذ ما أقر لها به إن رجعت إلى قوله: وصدقته إلا أن يشاء أن يدفع
ذلك إليها، قاله ابن القاسم في سماع عيسى من كتاب النكاح، وقاله أيضا في
سماع عيسى من كتاب الدعوى في الورثة ولا فرق.
فصل وأما إذا اختلفا في المسيس ولم يبن بها إلا أنه قد دخل بها وأرخيت
الستور عليها، فاختلف قول مالك في ذلك، فمرة قال: القول قولها في المسيس
حيث ما أخذ الزوجين الغلق كان ذلك في بيتها أو بيته على ظاهر قول عمر بن
الخطاب: إذا أرخيت الستور فقد وجب الصداق. وبذلك قال مطرف وابن الماجشون
وابن وهب وابن عبد الحكم وأصبغ. ومرة قال: إن كان دخوله عليها وخلوته بها
في بيته صدقت عليه، وإن كان في بيتها صدق عليها في قول سعيد بن المسيب،
وبذلك قال ابن القاسم.
وفي المسألة قول ثالث لعيسى بن دينار أن القول قول الزوج إذا أنكر المسيس
حيث ما أخذ الزوجين الغلق كان ذلك في بيته أو في بيتها، لا تصدق المرأة في
دعواها عليه ما لم يكن دخوله عليها وخلوه بها دخول اهتداء وهو البناء، وقول
رابع لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - من رواية ابن وهب عنه، أنها إن
كانت ثيبا فالقول قولها، وإن كانت بكرا نظر إليها النساء، فإن رأين بها أثر
افتضاض صدقت عليه، وإن لم يرين بها شيئا من ذلك لم يكن لها إلا نصف الصداق.
حكى هذه الرواية عن مالك عبد الوهاب.
فصل وأما إن دخل بها دخول اهتداء وهو البناء فلم يختلف قول مالك ولا أحد من
أصحابه أن القول قول المرأة في دعوى المسيس إذا أنكر الزوج.
فصل ولا توجب الخلوة وإن كانت خلوة بناء على مذهب مالك وجميع أصحابه الصداق
إلا مع دعوى المسيس، وإنما هي شبهة توجب أن يكون القول قولها،
(1/540)
كالرهن واليد ومعرفة العفاص والوكاء وشبه
ذلك. وعلى ذلك حمل ابن حبيب قول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
إذا أرخيت الستور فقد وجب الصداق. وظاهره خلاف ذلك أن إرخاء الستور يوجب
الصداق وإن لم يكن ثم مسيس، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه أن الخلوة الصحيحة
توجب المهر كله، وطئ أو لم يطأ، ادعته المرأة أو لم تدعه، إذا لم يكن ثم
مانع من الوطء من حيض أو إحرام أو صوم أو ما أشبه ذلك.
فصل وإذا وجب أن يكون القول قول المرأة في دعوى المسيس فهل تحلف أو تصدق
دون يمين، اختلف في ذلك. ففي كتاب ابن المواز أن القول قولها مع يمينها،
وكذلك في كتاب ابن الجهم، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب الحدود في
الذي يغيب على المرأة غصبا، ويثبت ذلك عليه فتدعي المسيس. وذهب بعض
المتأخرين إلى أنه لا يمين عليها قياسا على رواية أشهب عن مالك في كتاب
الغصب في الأمة الفارهة تتعلق برجل وهي تدمي تدعي أنه غصبها نفسها أن القول
قولها دون يمين، وذلك بعيد؛ لأنه إنما جعل القول قولها دون يمين لما بلغته
من فضيحة نفسها مع كونها تدمي. ووجه ذلك أنه أقام الشبهتين مقام شاهدين
فأسقط عنها اليمين؛ إذ لو انفردت واحدة منهما كانت كالشاهد يوجب لها
اليمين. والصحيح ما حكى ابن حبيب في الواضحة أن عليها اليمين، فالزوجة أحرى
أن يجب عليها اليمين؛ إذ لا عار عليها في دعوى المسيس على زوجها، سواء كانت
المرأة بكرا أو ثيبا، يتيمة أو ذات أب، حرة أو مملوكة، مسلمة أو نصرانية،
كبيرة أو صغيرة، إذا كانت قد بلغت مبلغا يوطأ مثلها، لا يجب لها الصداق إلا
بدعواها المسيس. فإن أقرت أنه لم يمسها جاز عليها قولها ولم يكن لها إلا
نصف الصداق إلا أن يقر الزوج بالمصاب وتنكره هي وهي أمة أو مولى عليها، فإن
مطرفا وسحنونا قالا: لا يقبل قولها في طرح نصدق الصداق، وللولي أو السيد أن
يأخذ ذلك منه بإقراره به.
(1/541)
فصل فإن كانت صغيرة لم تبلغ المحيض على
الصحيح من الأقوال أنها لا تستحق الصداق دون يمين، فإن ادعت المسيس حلف
الزوج وأدى نصف الصداق إلى أن تبلغ، فإذا بلغت حلفت وأخذت النصف الثاني،
فإن نكلت عن اليمين لم يحلف الزوج ثانية. وإن نكل الزوج أولا عن اليمين أدى
جميع الصداق ولم يكن له أن يحلفها إذا بلغت، كحكم الصغير يقوم له بحقه
شاهد. وقد قيل: إنه لا يمين عليها إذا كانت صغيرة بخلاف الكبيرة، وهو بعيد؛
إذ لا فرق بين الكبيرة والصغيرة إلا فيما ذكرناه من أن الصغيرة تؤخذ
باليمين حين تبلغ، وبالله التوفيق.
فصل وإيجاب اليمين عليها أظهر لما قدمناه من أن الخلوة دليل على صدقها
كالشاهد واليد ومعرفة العفاص والوكاء، وليس كالبينة التامة. ومن صدقها في
دعواها المسيس جعل الخلوة كالبينة التامة، وهو قول أحمد بن المعدل فيما حكى
عنه عبد الحق في كتابه الكبير، وهو قول بعيد ما له عندي وجه إلا مراعاة قول
من يوجب لها جميع الصداق بالخلوة وإن تقاررا على عدم المسيس.
فصل والعدة تجب على الزوجة بأحد وجهين: إما بخلوة تعرف، وإما بإقرارهما على
أنفسهما بالمسيس وإن لم تعرف له خلوة بها. وتجب للزوج الرجعة بأحد وجهين:
إما بتقاررهما على الوطء مع خلوة تعرف أو بادعاء الوطء إذا أنكرت في كل
موضع تصدق فيه المرأة عليه في دعوى الوطء إذا أنكر. وهذا أصل حيث ما كان
القول قول المرأة في دعوى الوطء كان القول قول الزوج في الرجعة وفي دعواه
دفع الصداق إليها. فهذا تلخيص هذا الباب، وبالله التوفيق.
(1/542)
[فصل في الرجعة]
فصل
في الرجعة الأصل في الرجعة قول الله عز وجل: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ
يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] ، أي يحدث في النفوس الندم
على الفرقة وإرادة الرجعة: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] ، وبلوغ الأجل
هاهنا المقاربة لا البلوغ على الحقيقة، وكذلك قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا
طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] ، بخلاف قَوْله
تَعَالَى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ
الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] ، بخلاف قوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ
النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ
أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232]
، نهى الأولياء إذا انقضت العدة وأرادت الرجوع إلى زوجها أن يعضلوها عن
الرجوع إليه؛ لأن بلوغ الأجل هو انقضاء العدة، وإذا انقضت العدة لم يكن
للزوج رجعة بإجماع، فسمى المقاربة بلوغا على عادة العرب في تسمية الشيء
باسم ما قرب منه. قال الله عز وجل: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ
فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] ، أي:
إذا أردت أن تقرأ القرآن. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن
بلالا ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم» . وكان ابن أم
مكتوم رجلا أعمى لا ينادي حتى يقال له أصبحت أصبحت، أي قاربت الصباح. وفي
الحديث: «صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة
الصبح على أثر سماء كانت من الليل؛» فسمى المطر سماء لما كان نزوله من
السماء. وهذا كثير في لسان العرب.
(1/543)
فصل فالرجعة يملكها الزوج في كل طلاق نقص
عدده عن الثلاث ما لم يكن معه فداء أو ما لم يكن على وجه المباراة أو
الفدية وإن لم يكن معه فداء على مذهب ابن القاسم إذا كانت الزوجة مدخولا
بها ما دامت في عدتها. والعدة ثلاثة أقراء، والأقراء الأطهار على مذهب مالك
وأهل المدينة. فإذا رأت المرأة أول قطرة من دم الحيضة الثالثة فقد انقضت
عدتها وبانت من زوجها وحلت للأزواج.
قال أشهب: إلا أنه استحب أن لا تعجل حتى تعلم أنها حيضة مستقيمة تتمادى بها
فيها؛ لأنها ربما رأت المرأة الدم الساعة والساعتين واليوم ثم ينقطع، فيجب
عليها الرجوع إلى بيتها ويكون لزوجها عليها الرجعة. ومثل ذلك في سماعه عن
مالك من كتاب طلاق السنة. وكان يمضي لنا عند من اختلفنا إليه من الشيوخ أن
قول أشهب تفسير لقول ابن القاسم، والصحيح أنه خلاف له؛ لأن أقل الحيض لا حد
له عند ابن القاسم، وقد يكون يوما وساعة ولمعة إذا كان قبله طهر فاصل
[وبعده طهر فاصل] . فإذا رأت المرأة أول قطرة من الحيضة الثالثة فقد انقضت
عدتها وحلت للأزواج ولم يكن للزوج عليها رجعة. ولا معنى لاستحباب تربصها
على مذهبه حتى يتمادى بها الدم أياما؛ إذ لو انقطع بعد ساعة أو ساعتين لما
كان للزوج عليها الرجعة ولا وجب عليها الرجوع إلى بيتها؛ إذ لا يخلو إذا
انقطع ثم عاد أن يعود على قرب أو بعد، فإن عاد على قرب قبل أن يمضي من
الأيام ما يكون طهرا فاصلا كان مضافا إلى الدم الأول وما بينهما من الأيام
ملغى، وعلم أن الدم الأول هو أول الحيضة الثالثة وأن العدة قد انقضت به.
وإن عاد على بُعد بَعد أن يمضي من الأيام ما يكون طهرا فاصلا كان هذا الدم
حيضة رابعة وعلم أن ذلك الدم الأول هي الحيضة الثالثة وأن العدة قد انقضت
بها، وإنما يلزم التربص عن النكاح على مذهب من يوقت لأقل الحيض وقتا ولا
يرى ما دون ذلك
(1/544)
حيضة تعتد به المرأة في أقرائها، كابن
الماجشون الذي يقول: إن أقل الحيض خمسة أيام، ومحمد بن مسلمة الذي يقول:
أقل الحيض ثلاثة أيام، فلا بد على مذهب ابن الماجشون إذا رأت قطرة من الحيض
أن تتربص عن النكاح حتى تمكث في الدم خمسة أيام، وعلى مذهب محمد بن مسلمة
ثلاثة أيام، لاحتمال أن ينقطع عنها الدم قبل بلوغ الحد فلا يعود إليها إلا
بعد مدة يكون طهرا فاصلا فيكون هذا الدم الذي عاد هو أول الحيضة الثالثة
والدم الأول دم علة وفساد. وعلى مذهبهما تقضي الصلاة التي تركت فيها.
فصل وإنما كانت له الرجعة ما لم تنقض العدة؛ لأن العصمة بين الزوجين لا
تنقطع بما دون الثلاث إذا لم يكن معه فداء ما لم تنقض العدة. ألا ترى أن
أسباب الزوجية كلها قائمة بينهما من النفقة والسكنى والموارثة ما عدا
الوطء. وارتفاع الوطء هو التأثير الذي حصل في النكاح بإيقاع الطلاق، فإذا
هو راجعها صلح ذلك الثلم برجعته وعادت إلى ما كانت عليه من عصمته.
فصل والرجعة تكون بالنية مع القول أو ما يقوم مقام القول فيما لا يصح فعله
إلا بعد المراجعة، مثل الوطء والقبلة والمباشرة باللذة وما أشبه ذلك، قاله
في كتاب ابن المواز وهو بيان لما في المدونة خلافا للشافعي في قوله: إن
الرجعة لا تكون إلا بالقول. وأما الدخول عليها والنظر إليها والأكل معها
فيجري على اختلاف قول مالك في جواز ذلك له قبل المراجعة، فيكون فعل ذلك
رجعة إذا نوى بها الرجعة على القول الذي منع منه، ولا يكون رجعة على القول
الذي أجازه وأجاز غسلها إن ماتت قبل المراجعة.
(1/545)
فصل فإذا انفردت النية في ذلك دون القول أو
ما يقوم مقامه في الوطء وما ضارعه لم تكن رجعة، قاله في كتاب ابن المواز.
والصحيح أن الرجعة تصح بمجرد النية؛ لأن اللفظ إنما هو عبارة عما في النفس.
فإذا نوى في نفسه أنه قد راجعها واعتقد ذلك في ضميره فقد صحت رجعته فيما
بينه وبين الله تعالى، فإن أظهر لنا بلفظه ما قد أضمر من ذلك في قلبه حكمنا
عليه به. ويجري على هذا الاختلاف في لزوم الطلاق بمجرد النية دون اللفظ.
ولو انفرد اللفظ دون النية لما صحت له بذلك رجعة فيما بينه وبين الله
تعالى، وإن حكمنا عليه بما ظهر من قوله ولم نصدقه فيما ادعاه من عدم النية
إلا على مذهب من رأى أن الطلاق لا يلزم المستفتي بمجرد القول دون النية،
وهو قائم من المدونة إلا أنه بعيد في المعنى.
فصل وقد اختلف هل يجوز له الوطء إذا ألزم الرجعة على القول الذي يرى أنها
لا تصح له فيما بينه وبين الله. وكذلك اختلف أيضا في جواز الوطء لمن طلق في
الحيض فأبى من الارتجاع فحكم عليه بالرجعة وألزم إياها. وقد ذكرت ذلك في
موضعه.
فصل وأما الوطء دون النية فلا يكون رجعة في الباطن ولا في الحكم الظاهر.
وقال الليث بن سعد: الوطء رجعة وإن لم ينو به الرجعة، يريد والله أعلم في
الحكم الظاهر، ولا يصدق أنه لم يرد بذلك الرجعة، وهو الأظهر قياسا على
مبتاع الأمة بالخيار أن وطأه في أيام الخيار اختيار، وإن زعم أنه لم يختر
لم يصدق؛ لأنه مخير في ارتجاع زوجته في العدة كما هو مخير في اختيار
الجارية التي ابتاعها بالخيار. وقد يفرق بينهما بأن المبتاع لو حبس الجارية
حتى مضت أيام الخيار وتباعدت عد
(1/546)
بذلك مختارا والزوج لو تمادى على إمساكها
حتى انقضت عدتها لبانت منه بخلاف انقضاء أيام الخيار، فدل أن وطأه أضعف من
وطء المختار، وهو تفريق لا يسلم من الاعتراض.
فصل فإن ادعى بعد العدة أنه راجعها في العدة بقول أو نية لم يصدق في ذلك
إلا أن يعلم أنه كان يخلو في العدة أو يبيت معها فيصدق أن خلوته بها ومبيته
معها إنما كان لمراجعته إياها. وكذلك إذا وطئها في العدة وقال: إنه أراد
بوطئها الرجعة فيصدق في ذلك. وهذا هو معنى قولهم إن الوطء رجعة إذا أراد به
الرجعة، أي أنه يصدق في إرادة الرجعة بما ظهر من الوطء.
فصل فمن وطئ ولم يرد بوطئه الرجعة فقد وطئ وطئا حراما خلافا لأبي حنيفة؛
لأنها جارية إلى البينونة. أصلها الكتابية إذا أسلمت بعد الدخول فإن أراد
مراجعتها فيما بقي من العدة راجعها بالقول والإشهاد دون الوطء؛ إذ لا يصح
وطؤها إلا بعد الاستبراء من الماء الفاسد. فإن لم يراجعها حتى انقضت عدتها
بانت منه ولم يحل له ولا لغيره نكاحها حتى ينقضي استبراؤها من ذلك الماء
الفاسد بثلاث حيض.
فصل واختلف إن تزوجها هو ودخل بها قبل تمام الاستبراء هل يكون ناكحا في عدة
وتحرم عليه أبدا أم لا؟ على قولين: فمن علل التحريم بتعجيل النكاح قبل بلوغ
أجله خاصة من غير أن يضم إلى ذلك اختلاط الأنساب أوجب التحريم لوجود العلة،
ومن علل التحريم بتعجيل النكاح قبل أوانه في موضع تختلط فيه الأنساب لم
يوجب التحريم؛ لأن الماء ماؤه فليس فيه اختلاط الأنساب. وعلى هذا المعنى
اختلفوا فيمن طلق امرأته ثلاثا فتزوجها قبل زوج في عدتها.
(1/547)
فصل واختلف في الإشهاد على الرجعة هل هو
واجب أو مستحب، فذهب عبد الوهاب إلى أنه مستحب قياسا على الإشهاد في البيع.
وذهب ابن بكير وغيره إلى أنه واجب لقول الله عز وجل: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ
عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ، والأمر على الوجوب حتى يقترن به ما يدل على
أنه ليس على الوجوب، ولم يقترن به ما يدل على ذلك كما اقترن في الأمر
بالإشهاد على البيع، وذلك قوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا
فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] .
فصل وإنما يجب الإشهاد عند من أوجبه أو يستحب عند من لم يوجبه لتحصين
الفروج وما يتعلق بالرجعة من أحكام النكاح كالموارثة ولحوق النسب وغير ذلك،
وليس مشترطا في صحة الرجعة عند من أوجبه، وإنما هو فرض على حياله يأثم
تاركه بتركه. والصحيح إن شاء الله أنه مندوب إليه وليس بواجب؛ إذ لو وجب
لافتقرت الرجعة إليه ولما صحت دونه.
[فصل في المتعة]
فصل
في المتعة المتعة إنما أمر المطلق بها تطييبا لنفس المرأة عما يرد عليها من
ألم الطلاق وتسلية لها على الفراق.
فصل والمطلقات في المتعة ينقسمن على ثلاثة أقسام: مطلقة قبل الدخول وقبل
(1/548)
التسمية، ومطلقة قبل الدخول وبعد التسمية،
ومطلقة بعد الدخول وقبل التسمية أو بعد التسمية. فأما المطلقة قبل الدخول
وقبل التسمية فإن الله تبارك وتعالى قد نص في كتابه على إمتاعها فقال: {لا
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ
أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] معناه ولم تفرضوا لهن
فريضة {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ
قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:
236] ، فقوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] أمر بالمتاع، والأمر
على الوجوب ما لم يقترن به قرينة تصرفه عن الوجوب إلى الندب. وقد اقترن
بهذا الأمر قرائن تدل على أن المراد به الندب، من ذلك تخصيصه بها المحسنين
من غير المحسنين بقوله تعالى: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236]
، ولا يعلم المحسنين من غير المحسنين غير الله تعالى؛ لأن الإحسان فيما بين
العبد وخالقه. فلما علق تعالى المتعة بصفة لا يعلمها غيره دل على أن الله
لم يوجب الحكم بها على الحكام؛ إذ لم يجعل لهم طريقا إلى تمييز المأمور بها
من غيره، وقيل للمطلق: متع إن كنت من المحسنين فكان حقا عليه أن يمتع ولا
يخرج نفسه من جملة المحسنين. وأيضا فإنها غير مقدرة ولا معلومة، والفرائض
لا بد أن تكون مقدرة معلومة. وأيضا فإن الله تبارك وتعالى لما خص المطلق
قبل الدخول وقبل التسمية برفع الحرج عنه دون غيره ممن طلق بعد الدخول أو
قبل الدخول وبعد التسمية بقوله: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ
النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً}
[البقرة: 236] ، دل ذلك على أنه إنما خصها بالذكر من أجل أنها تطلق ولا يجب
لها بالطلاق شيء بسبب من تحرج عن الطلاق في هذه الحال لهذا الوجه والله
أعلم. فلو وجب لها المتاع إذا طلقت في هذه الحال كما يجب للمطلقة قبل
الدخول وبعد التسمية نصف الصداق وكما يجب للمطلقة بعد الدخول جميعه لما
تحرج أحد عن طلاقها في هذه الحال كما لم يتحرج عن طلاقها في سائر الأحوال،
ولما كان لتخصيصها برفع الحرج عن المطلق لها في هذه الحال دون غيرها من
الأحوال معنى، والله أعلم.
(1/549)
فإن قيل: يحتمل أن يكون تحرج من طلاقها في
هذه الحال من لا يعلم وجوب المتعة لها.
قيل له: لو كان الأمر على ذلك لكانت التلاوة: لا جناح عليكم إن طلقتم
النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ولهن المتاع، كما قال في الآية
التي بعدها: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ
وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة:
237] ، ومن أهل العلم من أوجب المتاع لها وقال الآية عامة في أولها وآخرها؛
لأن كل مؤمن محسن، فكأنه قال متاعا بالمعروف حقا على المحسنين المطلقين؛
لأن الإيمان إحسان. قال الله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ
دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ
الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33] وهذا بعيد؛ لأن الإحسان التفضل وفعل المعروف،
فلا ينطلق اسم الإحسان على كل مؤمن؛ لأن منهم المسيء في أفعاله وإن كان
محسنا في إيمانه.
فصل وأما المطلقة قبل الدخول وبعد التسمية فإن الله تبارك وتعالى ذكرها عقب
المطلقة قبل الدخول وقبل التسمية فأوجب لها نصف الفريضة ولم يأمر لها
بالمتاع، فدل على أنه لم يجعل لها متاعا واجبا ولا مندوبا إليه، وهو مذهب
مالك وجميع أصحابه. ومن أهل العلم من أوجب لها المتاع بعموم قول الله عز
وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ
ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ
عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ
سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 49] ؛ إذ لم يفرق بين أن يكون سمى لها صداقا
أو لم يسم، ولعموم قوله عز وجل: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ
بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] ، وقال هي من
المطلقات فلها المتاع مع نصف الصداق كما للمدخول بها المتاع مع جميع
الصداق. ولو لم يكن لها المتاع من أجل أن لها نصف الصداق لوجب أن لا يكون
للمدخول بها متاع من أجل أن لها
(1/550)
جميع الصداق؛ لأن نصف الصداق للتي لم يدخل
بها كجميعه للتي دخل بها. وهذا غير صحيح؛ لأن المدخول بها قد وجب لها
الصداق بالوطء وجوبا مستقرا لا يسقطه فسخ ولا ارتداد، والتي لم يدخل بها لم
يجب لها بالعقد شيء من الصداق وجوبا مستقرا، ولو وجب لها نصفه وجوبا مستقرا
لما سقط بالفسخ أو الارتداد. فلما أوجبه الله تعالى لها ولم يكن واجبا قبل
ولم يأمر لها بالمتاع دل على أن لا شيء لها سواه، وهذا بين والحمد لله. ومن
أهل العلم من استحسن للزوج المتاع في هذه، ولم يوجبه لها للاحتمال، فهذه
ثلاثة أقوال.
فصل وأما المطلقة بعد الدخول وقد سمي لها الصداق أو لم يسم لها فلأهل العلم
فيها قولان: أحدهما: أن المتعة لها واجبة على الزوج يؤخذ بها ويجبر عليها
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا
عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] ، وقال كل مؤمن متق ولا تخصيص في
الآية. والثاني: أنه يؤمر بها ويندب إليها ولا يجبر عليها فيقال له: متع إن
كنت من المتقين على ما بيناه من قبل في قوله: إن كنت من المحسنين. وهو قول
مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وجميع أصحابه.
فصل وقد اختلف في متعة هذه المطلقة وفي التي طلقت قبل الدخول ولم يسم لها
صداق أيهما أوجب على أربعة أقوال: أحدها: أنهما سواء في إسقاط الوجوب، وهذا
مذهب مالك وجميع أصحابه. والثاني: أنهما سواء في ثبوت الوجوب لهما ووجوب
الحكم بهما. والثالث: أن المتعة للمدخول بها أوجب من التي لم يدخل بها؛ لأن
الله أوجب لها المتاع بغير لفظ الأمر المحتمل للوجوب والندب فقال:
{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}
[البقرة: 241] ، واستدل أيضا من ذهب إلى ذلك بقول الله عز وجل: {يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ
سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 28] ، فنص على إمتاعهن وهن
(1/551)
مدخول بهن. والرابع: أن المتعة للتي لم
يدخل بها ولم يسم لها أوجب؛ لأن الله تعالى نص في كتابه على المتعة لها
بالأمر، والأمر على الوجوب، ولم ينص على المتعة للمدخول بها إلا في تخيير
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أزواجه، وذلك حكم خص به النبي
دون المؤمنين، بدليل إجماعهم على أنه لا يجب على أحد أن يخير زوجته، وإنما
جعل الله لها المتعة بظاهر عموم اللفظ في قوله وللمطلقات، وليس ما وجب
بالظاهر والعموم كما نص عليه بالأمر الذي يقتضي الوجوب. ولكل قول منها حظ
من النظر، وأبينها وأصحها، ما ذهب إليه مالك وجميع أصحابه.
فصل فإذا قلنا: إن المتعة تسلية للمرأة على فراق زوجها فلا متعة في كل فراق
تختاره المرأة من غير سبب يكون للزوج في ذلك، كامرأة العنين والمجذوم
والمجنون تختار فراق زوجها، وكالأمة تعتق تحت العبد فتختار نفسها، ولا في
كل نكاح مفسوخ، قاله ابن القاسم. وقال ابن المواز: إذا فسخ [بغير طلاق]
وظاهر قول ابن القاسم أنه لا متعة فيه فسخ قبل الطلاق بطلاق أو بغير طلاق
أو طلق هو قبل الفسخ. وقد اختلف في المملكة والمخيرة. فقال ابن خويز منداد:
لا متعة لها؛ لأنها مختارة للطلاق. ومعلوم أن من اختارت فراق زوجها فلم
تشفق لذلك ولا حزنت له فلا يحتاج الزوج إلى تسليتها وتطييب نفسها. وروى ابن
وهب عن مالك أن لها المتعة. ووجه ذلك أن الطلاق فيهما إنما هو من الزوج
الذي جعل ذلك إليها، ولعلها تحتشم من اختياره وهو قد عرضها للفراق فتختار
نفسها وهي كارهة لذلك مريدة للبقاء مع زوجها. وأما المختلعة والمبارئة
والمصالحة فلا متعة لهن باتفاق؛ لأنهن رغبن في فراق أزواجهن واشترينه بما
بذلن إليه فلا يحتاج إلى تسليتهن. وكذلك الملاعنة لا متعة لها.
(1/552)
فصل والمتعة سواء في الطلاق البائن والرجعي
إن لم يرتجع حتى تبين منه بانقضاء العدة فلا يجب عليه المتاع حتى تنقضي
العدة. وقد اختلف إن لم يمتع حتى ماتت المرأة هل يجب عليه المتاع لورثتها
على قولين: أحدهما: أنه يجب ذلك عليه لورثتها؛ لأنه حق لها يورث عنها، وهو
مذهب ابن القاسم. والثاني: أنه لا يجب لها إلا ما دامت باقية، فإن ماتت لم
يجب لورثتها؛ لأن المراد بذلك عينها تسلية لها عن الفراق. وأما إن مات
الزوج قبل أن يمتع فالمتاع ساقط عنه ولا يؤخذ ذلك لها من ماله؛ لأنه ليس
بدين ثابت عليه. وللعبد أن يمتع امرأته وليس للسيد أن يمنعه من ذلك؛ لأنه
من حقوق النكاح الذي أذن له فيه، ولا حد للمتعة، وإنما هي على قدر حال
الزوجين. وقد قال ابن عمر: أعلاها رقبة وأدناها كسوة أو نفقة.
[فصل في الخلع]
فصل
في الخلع أباح الله تبارك وتعالى لعباده المؤمنين النكاح فقال:
{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ
وَرُبَاعَ} [النساء: 3] ، وقال: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ
وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] ، وأمر عز
وجل بحسن العشرة فيه فقال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]
، وقال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ
وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228] ، وملك الأزواج أمر
الزوجات بما جعل إليهم من الطلاق، ونهاهم أن يعتدوا فيما جعل إليهم من ذلك
فقال: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] ، وقال:
{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] ، فإن
أحب الرجل المرأة
(1/553)
أمسكها وإن كرهها فارقها، ولا يحل له إذا
كرهها أن يمسكها ويضيق عليها حتى تفتدي منه وإن أتت بفاحشة من زنا أو نشوز
أو بذاء لقول الله عز وجل: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ
زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ
شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 20]
{وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ
وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21] ، هذا مذهب مالك
وجميع أصحابه لا اختلاف بينهم فيه. ومن أهل العلم من أباح للرجل إذا اطلع
على زوجته بزنا أن يمسكها ويضيق عليها حتى تفتدي منه لقول الله عز وجل:
{وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ
يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] ، وتأول أن الفاحشة
المبينة هو الزنا هاهنا، وجعل الاستثناء متصلا، ومنهم من تأول أن الفاحشة
المبينة البغض والنشوز والبذاء باللسان، فأباح للزوج إذا أبغضته زوجته
ونشزت عليه وبذأت بلسانها عليه أن يمسكها ويضيق عليها حتى تفتدي منه.
ومنهم من حمل الفاحشة على العموم فأباح ذلك للزوج كانت الفاحشة التي أتت
بها زنا أو نشوزا أو بذاء باللسان أو ما كانت. والصحيح ما ذهب إليه مالك -
رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه إذا ضيق عليها حتى تفتدي منه فقد أخذ مالها بغير
طيب نفس منها، ولم يبح الله ذلك إلا عن طيب نفسها فقال: {فَإِنْ طِبْنَ
لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:
4] ، والآية التي احتجوا بها لا حجة لهم فيها؛ لأن الفاحشة المبينة من جهة
النطق أن تبذأ عليه وتشتم عرضه وتخالف أمره؛ لأن كل فاحشة أتت في القرآن
منعوتة بمبينة فهي من جهة النطق، وكل فاحشة أتت فيه مطلقة فهي الزنا،
والاستثناء المذكور فيها منفصل. فمعنى الآية: لكن إن نشزن عليكم وخالفن
أمركم حل لكم ما ذهبتم به من أموالهن، ومعناه إذا كان ذلك عن طيب أنفسهن،
ولا يكون ذلك عن طيب أنفسهن إلا إذا لم يكن منهم إليهن ضرر ولا تضييق. فعلى
هذا التأويل تتفق آي القرآن ولا تتعارض. وقد قيل في تأويل الآية غير هذا،
وهذا أحسن.
(1/554)
وذهب إسماعيل القاضي إلى أن الخلع يجوز،
ويسوغ للزوج ما أخذ منها على الطلاق إذا كان النشوز والكراهة منها. وإذا
خافا أن لا يقيما حدود الله فاشتركا في المخافة جميعا؛ لقول الله عز وجل:
{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا
فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] ، وليس قوله بخلاف لما حكيناه عن
مالك وأصحابه من أن الخلع لا يجوز للزوج وإن كرهته المرأة ونشزت عليه وأضرت
به إذا فارقها على بعض ذلك؛ لأنه إنما حمل المخافة على بابها، فأباح الفدية
قبل وقوع ما خافاه مخافة أن يقع. فإذا كره كل واحد منهما صاحبه فخاف هو إن
أمسكها أن لا يقيم حدود الله فيها من أجل كراهته إياها، وخافت هي أن لا
تقوم بما يلزمها من حقه فخالعته مخافة الإثم والحرج فقد أعطته مالها على
الطلاق طيبة به نفسها إذ لم يضطرها إلى ذلك باضطرار كان منه إليها.
فصل وأما ابن بكير فإنه حمل الخوف المذكور في الآية على العلم، إلا أنه ذهب
إلى أن الخطاب فيها إنما هو للولاة كآية التحكيم سواء، فقال: تقدير الكلام
فإن خفتم يا ولاة، أن لا يقيم الزوجان حدود الله فيما بينهما فلا جناح
عليكم فيما أخذتم من مالها وفرقتم بينهما. فالاختلاف بينه وبين ابن بكير
إنما هو في تأويل الآية في الموضع الذي يجوز فيه الخلع من الذي لا يجوز
فيه، لا اختلاف [في المذهب] أن الزوج لا يجوز له أن يأخذ من زوجته شيئا على
طلاقها إلا إذا كان النشوز من قبلها ولم يكن منه في ذلك ضرر إليها؛ إذ ليس
له أن يعارضها على نشوزها عليه بالإضرار لها والتضييق عليها حتى تفتدي منه
لقول الله عز وجل: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا
آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19] ، وإنما له أن يعظها، فإن اتعظت وإلا
(1/555)
هجرها في المضجع، فإن اتعظت وإلا ضربها
ضربا غير مبرح، فإن أطاعته فلا يبغي عليها سبيلا لقول الله عز وجل:
{وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي
الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا
عَلَيْهِنَّ سَبِيلا} [النساء: 34] ، فإن بذلت له شيئا على الفداء حل له أن
يقبله إذا لم يتعد أمر الله فيها.
فصل وأما إذا كان النشوز من قبله ولم ترض ذلك من فعله فالواجب عليه أن
يفارقها إلا أن يصطلحا [بأن يعطيها] على الرضا بالإثرة والبقاء معه عليها
أو تعطيه على أن لا يطلقها وتبقى معه على الإثرة أو على ترك الإثرة، وذلك
الصلح الذي قال الله عز وجل: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا
نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا
بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنْفُسُ الشُّحَّ}
[النساء: 128] .
فصل وأما إذا كان النشوز من قبلهما جميعا وأضر كل واحد منهما بصاحبه فلا
يجوز للزوج أن يأخذ منها شيئا على الطلاق على ما بيناه.
فصل فإن تداعيا في ذلك وتفاقم الأمر بينهما وارتفعا إلى الحاكم حكم بينهما
حكمين حكما من أهله وحكما من أهلها. قال الله عز وجل في كتابه حيث يقول:
{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ
وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] الآية معناه عند أهل العلم علمتم
ذلك وخفتم تزايده. فإن تبين لهما أن الضرر من قبل الزوج فرقا بينهما بغير
غرم تغرمه المرأة، ويكون لها نصف صداقها إن كان ذلك قبل الدخول وجميعه إن
كان بعد الدخول؛ لأن حكم نصف الصداق قبل الدخول
(1/556)
كجميعه بعد الدخول. وإن تبين لهما أن الضرر
من قبل المرأة أقراها تحته وائتمناه على غيبها وأذنا له في تأديبها كما
أمره الله تعالى.
وإن تبين لهما أن كل واحد منهما مضر بصاحبه فرقا بينهما بغرم بعض الصداق:
نصفه إن كان إضرار كل واحد منهما بصاحبه متكافئا، وأكثر من النصف إن كان
الإضرار منها أكثر، وأقل من النصف إن كان الإضرار منها أقل. هذا قول ربيعة
في المدونة، ومثله في كتاب ابن المواز، وهو مذهب مالك وأصحابه. وقال ابن
أبي زيد: إنه إن تبين لهما أن الضرر والنشوز من قبل المرأة جاز للزوج ما
أخذا له منها على الفراق، وإن كان ذلك أكثر مما أصدقها، قاله ابن الماجشون
في المبسوط، ظاهره أحبت أو كرهت إذا أحب هو الفراق. ومعنى ذلك عندي على ما
في المدونة إن طاعت به. وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل فإن قال قائل: إذا كان الزوج لا يجوز له أن يأخذ من زوجته شيئا على
فراقه إياها إذا أضر كل واحد منهما بصاحبه فكيف يجوز له أن يأخذ ما حكم به
الحكمان من صداقها إذا تبين لهما أن كل واحد منهما مضر بصاحبه وقد نص الله
تبارك وتعالى في كتابه على أن حكم الحاكم لا يحل مال أحد لأحد فقال: {وَلا
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى
الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188] وسأل عن الفرق بين الموضعين.
فالجواب عن ذلك أن الزوج في الخلع قد اختار الطلاق وأجبر الزوجة على أخذ
مالها بما كان من ضرره إليها، وذلك ما لا يجوز له، لقول الله عز وجل: {وَلا
تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19] ،
وفي حكم الحكمين لم يختر الطلاق بل أجبره عليه الحكمان كما أجبرا الزوجة
على إعطاء المال، وساغ له أخذه عوضا عن إخراج الزوجة عن ملكه حكما من الله
عز وجل.
(1/557)
فصل وحكم الحكمين بين الزوجين لا إعذار فيه
إلى أحدهما؛ لأنهما لا يحكمان بالشهادة القاطعة، وإنما يحكمان بما خلص
إليهما من علم أحوالهما بعد النظر والكشف.
فصل والخلع معاوضة عن البضع تملك به المرأة نفسها ويملك الزوج به العوض
عليها ملكا تاما لا يفتقر إلى حيازة؛ لأنه خرج على عوض، بخلاف الهبة
والصدقة وما أشبه ذلك مما خرج على غير عوض. هذا هو المشهور في المذهب. وقد
وقع في كتاب محمد بن المواز ما يدل على خلافه، وذلك أنه قال: إذا كان على
الزوج دين فأحال به على الزوجة فيما خالعها به، فماتت قبل أن يقبض المحال
دينه أن له أن يرجع على الزوج بدينه، فلم يحكم له بحكم الديون الثابتة في
الذمة؛ إذ جعل له الرجوع على الزوج ولم يجعلها حوالة ثابتة كالحوالة على
الديون إلا أن العوض الذي تأخذه المرأة به ليس بمال، وإنما هو راحة نفسها
وتخليصها من ملك الزوج، فلا يحكم له به إلا مع سلامة الحال. فإن كان في ذلك
حق لآخرين نظر في ذلك بحسب قوته وضعفه، فمنه ما يقدم على الخلع أو منه ما
يختلف في تقديمه على الخلع أو تقديم الخلع عليه.
فأما ما يقدم على الخلع، فحق السيد في مال أمته المأذون لها في التجارة،
وفي مال المكاتبة، لا اختلاف في المذهب أن الأمة المأذون لها في التجارة أو
المكاتبة إذا اختلعت من زوجها أن خلعها لا يجوز إلا بإذن السيد لقوة حقها.
واختلف في المديانة إذا اختلعت هل يجوز خلعها دون إذن الغرماء أم لا؟ على
قولين: أحدهما: أن ذلك لا يجوز؛ لأنها أعطته مالها فيما لا حظ لهم فيه
بخلاف النكاح. والثاني: أن ذلك جائز كالنكاح. وجه القول الأول في الفرق بين
الخلع والنكاح، أن النكاح مما تمس الحاجة إليه كالطعام والشراب، فقد دخل
الغرماء معه على ذلك، والخلع ليس مما تمس الحاجة إليه، وإنما يقع نادرا
(1/558)
لعارض يعرض فتريد المرأة أن تخلص نفسها من
الزوج بسببه فلم يدخل الغرماء معه على ذلك كما لو جنت جناية فيها قصاص
فصالحت على نفسها بمال أعطته وعليها دين، فقد قال في كتاب الصلح من المدونة
ليس لمن أحاط الدين بماله إذا جنى جناية فيها القصاص أن يصالح فيسقط القصاص
عن نفسه بأموال غرمائه. وقد قيل: إن معنى قوله ليس له ذلك ابتداء، فإذا وقع
نفذ ومضى.
فعلى هذا التأويل إذا خالعت المديانة نفذ فعلها ومضى. إلا أنه تأويل بعيد،
والصواب أنه لا يجوز إلا أن يجيزه الغرماء، وإنما وقع في هذا التأويل من
تأوله؛ لأن ظاهره معارض لما وقع في كتاب الرهون من أن المرتهن أحق بما
ارتهن في جناية العمد والخطأ من الغرماء. ومعنى ما وقع فيه من ذلك أنه
العمد الذي لا قصاص فيه والخطأ الذي لا تحمله العاقلة. فإذا حمل على هذا
صحت المسائل وسلمت من التعارض ولم يحتج إلى ذلك التأويل البعيد.
فصل والفرق بين العمد الذي فيه القصاص وبين العمد الذي لا قصاص فيه هو أن
العمد الذي لا قصاص فيه دين أوجبه الحق عليه لم يدخله هو على نفسه
باختياره، فكان للمجروح مخاصمة الغرماء كسائر الديون. والعمد الذي فيه
القصاص ليس بمال، وإنما للمجروح القصاص. فإن بذل له فيه مالا كان قد استهلك
أموال غرمائه باستنقاذ نفسه من القصاص، وذلك ما لا يجوز له إلا بإذن
غرمائه.
فصل وكذلك اختلف في خلع المريضة والحامل المثقل، قيل: إن خلعها جائز على
ورثتها إذا خالعت بخلع مثلها، روى ذلك ابن وهب عن مالك. فعلى هذه الرواية
غلب الخلع على حق الورثة. وقيل: إن خلعها لا يجوز من غير تفصيل، وهو ظاهر
قول مالك في المدونة وفي كتاب ابن المواز. وقيل: إن ذلك لا يجوز إن كانت
خالعت بأكثر من ميراثه منها، ويجوز إن كانت خالعت بمثل ميراثه منها فأقل،
وهو قول ابن القاسم. واختلف أيضا متى ينظر فيه إن كان يوم الخلع أو يوم
(1/559)
الموت، فقال ابن القاسم يوم الخلع، وقال
ابن نافع وأصبغ يوم الموت، على ما يأتي في مسائلهم. فعلى هذين القولين غلب
حق الورثة على الخلع.
فصل والخلع مأخوذ من الاختلاع وهو نزع الشيء عن الشيء، من ذلك الحديث أن
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يزد غرماء معاذ على أن
خلع لهم ماله، يريد أخرجه عن جميعه. وله عبارات هي الخلع، والصلح،
والمبارأة، والفدية، وكلها تئول إلى معنى واحد وهو بذل العوض عن الطلاق،
إلا أن اختلافها يرجع إلى اختلاف صفات وقوعها. فالخلع بذل جميع المال على
الطلاق. والصلح بذل بعضه، والافتداء بذل جميع الحق الذي أعطاها. والمبارأة
ترك ما لها عليه من الحق على الطلاق، أو ترك كل واحد منهما ما له على صاحبه
على الطلاق. وحكمها كلها سواء في أنها طلقة واحدة بائنة إذا لم يسميا شيئا
من الطلاق.
فصل ويجوز الخلع على جميع أعداد الطلاق إلا أنه يكره فيما زاد على الواحدة،
فإن وقع نفذ ومضى. وإن خالعته على أن يطلقها ثلاثا فطلقها واحدة لم تكن لها
حجة؛ لأنها قد نالت بالواحدة ما كانت تنال بالثلاث من ملكها أمر نفسها.
فصل وإن وقع الخلع دون تسمية طلاق فهي واحدة بائنة خلافا للشافعي في قوله:
إن الخلع فسخ بغير طلاق. وحجته أن الله ذكر الخلع بعد قوله: {الطَّلاقُ
مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] ، ثم قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ
مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ، فدل ذلك
على أن الخلع ملغى غير محسوب. وهذا لا حجة فيه؛ لأن
(1/560)
ذكر الفدية حكم على حياله، فلا فرق بين أن
يذكر بين ذكر الطلقتين والطلقة الثالثة أو في غير ذلك الموضع. وقد بين ذلك
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله لثابت بن قيس بن شماس:
" هي واحدة ". وهذا نص في موضع الخلاف. وذهب أبو ثور إلى أنها طلقة رجعية،
وذلك بعيد؛ لأنها إنما بذلت المال على إزالة الضرر، ولا يزول الضرر عنها
إلا بملكها نفسها. وقد اختلف إذا بارأها على أن يعطيها أو على أن لا تعطيه
ولا يعطيها، فقيل هي طلقة رجعية، وهو قول مطرف، وقيل هي طلقة بائنة، وهو
قول ابن القاسم، وقيل هي ثلاث تطليقات وهو قول ابن الماجشون.
فصل ويجوز الخلع على ما أعطاها وعلى أكثر من ذلك وأقل منه لقول الله عز
وجل: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] ولو
كان كما يقول بعض الناس: إنه لا يجوز للزوج أن يأخذ منها في الخلع أكثر مما
أعطاها لكان، فلا جناح عليهما فيما افتدت به منه؛ لأن القائل لو قال لا
تشتم فلانا إلا أن يشتمك فإن شتمك فلا جناح عليك فيما فعلت به، ولم يقل منه
أو من ذلك لكان قد أباح له أن يشتمه وأن يفعل به ما شاء من ضرب وغيره.
فصل ويجوز الخلع بالغرر والمجهول؛ لأنه ظاهر عموم قول الله عز وجل: {فَلا
جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] ، وإذ ليس طريقه
طريق المبايعات التي تبتغى فيها الأثمان، وإنما المبتغى فيه تخليص الزوجة
من ملك الزوج، فلا يضر الجهل بالعوض. ألا ترى أن النكاح لما لم يكن طريقه
طريق المبايعات المحضة وكان المبتغى فيه المكارمة والاتصال جاز على عبد غير
موصوف وعلى شوار بيت غير موصوف وما أشبه ذلك من الغرر اليسير الذي لا يذهب
جملة فيبقى البضع بلا صداق؛ لأن الصداق حق لله تعالى، فلا يجوز إسقاطه.
والخلع لا حق لله فيه فجاز
(1/561)
بالغرر الكثير من جميع جهاته وإن ذهب جملة فبقي الخلع بلا عوض. وقد قيل: إن
الخلع بالغرر والمجهول لا يجوز. والمشهور ما قدمناه، وأجازه ابن القاسم في
المدونة بالعبد الآبق والبعير الشارد وما أشبه ذلك، ومنع منه بالتزام نفقة
الولد أكثر من حولي الرضاع وما أشبه ذلك، فقيل: إنه قد فرق بين المسألتين،
وقيل: إنه خلاف من قوله. ولم يجز الصلح من دم العمد على غرر، فقيل: إن ذلك
على القول الذي منع من الخلع بالغرر، وقيل: إنه فرق بين الخلع والصلح عن دم
العمد، هو ظاهر ما في المدونة. والفرق بين الخلع ودم العمد أن دم العمد قد
قيل: إن لولي الدم أن يعفو على أخذ الدية، فإذا كان له أن يأخذها فكأنه قد
ملكها ووجبت له فلا يصالح عنها إلا بمعلوم. ويلزم على هذا أن لا يجوز الصلح
إلا بما يصح به بيع الدية. وهذا أصل مختلف فيه هل يكون من ملك أن يملك
كالمالك قبل أن يملك في الأحكام الجارية عليه أم لا؟ على قولين. |