المقدمات الممهدات

[كتاب الحضانة]
[فصل في الحضانة]
كتاب الحضانة
فصل في الحضانة الأصل في الحضانة كتاب الله تعالى وسنة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإجماع الأمة. فأما الكتاب فغير ما آية، منها قوله في الأبوين: {وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24] ، وفي الأمهات قَوْله تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] ، فالأم أحق برضاعة ابنها وكفالته إلى أن يستغني عنها بنفسه. وقال تعالى حاكيا عن أخت موسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنها قالت لآسية امرأة فرعون: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص: 12] {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ} [القصص: 13] ، وقال في مريم بنت عمران: (وَكَفَلَهَا

(1/562)


زَكَرِيَّاءُ) ، ويقرأ (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّاء) ، بتشديد الفاء. فمن قرأ وكفلها زكرياء قال معناه كفلها الله إياه، أي أوجب له كفالتها بالقرعة التي أخرجها له والآية التي أظهرها لخصومه فيها. وذلك أن زكرياء وخصومه فيها لما تنازعوا أيهم يكفلها تساهموا بقداحهم فرموا بها في نهر الأردن فقام قدح زكريا ثابتا في الماء، لم يجر كأنه في طين وجرى بقداح الآخرين، فجعل الله ذلك علما بأنه أحق المتنازعين فيها. وقيل: بل صعد قدح زكرياء في النهر وانحدرت قداح الآخرين، فكانت قداحهم التي استهموا بها أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة، فذلك قوله: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44] ، وكان زكرياء قد قال لهم: أنا أحق بها منكم؛ لأن عندي أختها أو خالتها على اختلاف في ذلك؛ لأنه قيل: إن زوجته أم يحيى كانت خالة مريم، وقيل: بل كانت أختها، فحكم الله بها لزكرياء لموضع أختها أو خالتها.
وعلى هذا أتى شرعنا؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بابنة حمزة بن عبد المطلب لجعفر بن أبي طالب؛ إذ تنازع فيها علي بن أبي طالب وجعفر وزيد بن حارثة، فقال علي: هي ابنة عمي وعندي بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأنا أحق بها، وقال جعفر: هي ابنة عمي وعندي خالتها فأنا أحق بها، وقال زيد: هي ابنة أخي وتجشمت لها السفر وكان قد خرج عنها حين أصيب حمزة فأقدمها» . وعلى هذا مذهبنا أن الحاضنة إذا كان زوجها وليا من أولياء المحضون فهي أحق به من سائر الأولياء وإن كان زوجها أبعد منهم.
فصل وإنما كفلها زكرياء؛ لأنها كانت يتيمة توفيت أمها بعد موت أبيها وهي صغيرة.
فصل وأما السنة فمنها «قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمرأة المطلقة من أبي الطفيل حين قالت له: إن

(1/563)


ابني هذا كان بطني له وعاء وثديي له سقاء وحجري له حواء وأنا له الفداء، فزعم أبوه أنه ينتزعه مني، فقال: أنت أحق به ما لم تنكحي» وقضاؤه بابنة حمزة لجعفر لموضع خالتها أسماء بنت عميس.

فصل وأما الإجماع فلا خلاف بين أحد من الأمة في إيجاب كفالة الأطفال الصغار؛ لأن الإنسان خلق ضعيفا مفتقرا إلى من يكفله ويربيه حتى ينفع نفسه ويستغني بذاته، فهو من فروض الكفاية لا يحل أن يترك الصغير دون كفالة ولا تربية حتى يهلك ويضيع. وإذا قام به قائم سقط عن الناس. ولا يتعين ذلك على أحد سوى الأب وحده، ويتعين على الأم في حولي رضاعه إذا لم يكن له أب ولا مال تستأجر له منه أو كان لا يقبل ثدي سواها فتجبر على رضاعه.

فصل وإنما اختلف الناس في الأولى من الأولياء إذا اختلفوا في كفالته، وتشاحوا في ذلك. والأولياء الذين لهم الحضانة عصبته من الرجال، وقرابته من النساء من قبل الأم ومن قبل الأب، وأوصياؤه من الرجال والنساء.

فصل فقراباته من النساء يستوجبن الحضانة بوصفين: أحدهما: أن يكن ذوات رحم منه. والثاني: أن يكن محرمات عليه. فإن كن ذوات رحم منه ولم يكن محرمات عليه كبنت الخالة وبنت العمة وما أشبههما لم يكن لهن حق في الحضانة. وكذلك إن كن محرمات عليه ولم يكن ذوات رحم منه كالمحرمات عليه بالصهر والرضاع وما أشبههن لم يكن لهن في الحضانة حق.
وأما عصبته من الرجال فإنهم يستوجبون الحضانة بمجرد التعصيب كانوا من ذوي رحمه المحرم كالجد والعم والأخ وابن الأخ، أو من ذوي رحمه الذي ليس

(1/564)


بمحرم كابن العم وإن سفل، أو لم يكونوا من ذوي رحمه كالمولى المعتق.
وأما أوصياؤه من الرجال والنساء فإنهم يستوجبون الحضانة بمجرد الولاية كانوا مقدمين من قبل الأب أو من قبل السلطان.

فصل وهي، أعني الحاضنة، مرتبة فيهم بحسب الحنان والرفق لا يراعى في ذلك قوة الولاية، كالنكاح وولاء الموالي، والصلاة على الجنائز، وولاء الميراث، فقد يحضن من لا يرث كالوصي والعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت، وقد يرث من لا يحضن مثل الزوج والزوجة، أعني زوج المحضونة وزوجته، إن كان رجلا، والمولاة المعتقة. فالمقدم منهم في الحضانة من يعلم بمستقر العادة أنه أشفق على المحضون وأرأف به وأقوم بمنافعه، وهي الأم لا اختلاف بين أحد من أهل العلم أن الأم أحق بالحضانة من الأب ومن سائر الأولياء من الرجال والنساء؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنت أحق به ما لم تنكحي» ، إلا أنه قد روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أسهم بينهما. وروي عنه أنه خير الابن بين أبويه فقضى به لمن اختار منهما. وفي بعض الآثار «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لهما: " استهما عليه "، فأبى الأب من ذلك، فخير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الابن بينهما» وفي بعضها أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لهما: " إن شئتما خيرتماه ". وذهب أبو جعفر الطحاوي إلى أن لا يحمل شيء من هذه الآثار على التعارض وأن يستعمل جميعها، فيدعو الإمام الأبوين إلى الاستهام عليه، فإن أجابا إلى ذلك أسهم بينهما، وإن أبيا أو أحدهما قال لهما: " إن شئتما خيرتماه "، فإن أبيا ذلك أو أحدهما حكم به للأم، وهو وجه حسن يصح به استعمال الآثار كلها، واستعمال جميعها أولى من طرح بعضها.

فصل وكما تكون الأم أحق من الأب فإن قراباتها أحق من قرابات الأب لا اختلاف

(1/565)


بين أهل العلم في ذلك. واختلفوا هل تكون قراباتها سوى الأم أو أم الأم أحق من الأب على قولين، فروى ابن وهب عن مالك أن الأب أحق من الخالة، والمشهور في المذهب أن قرابات الأم أحق من الأب. فعلى هذا إن لم تكن الأم أو كانت ولها زوج أجنبي فأمها وهي الجدة، فإن لم تكن فأم أمها أو أم أبيها، فإن اجتمعتا جميعا فأم الأم أحق من أم الأب. فإن لم تكن واحدة منهما فأم أم أمها، أو أم أم أبيها، أو أم أبي أمها، أو أم أبي أبيها، فإن اجتمع الأربع فأم أم الأم، ثم أم أب الأم وأم أم الأب بمنزلة سواء. ثم أم أب الأب. وعلى هذا الترتيب أمهاتهن ما علون.
فإن لم تكن واحدة منهن فأخت الأم وهي الخالة، فإن اجتمع أخت الأم لأبيها وأمها وأختها لأبيها وأختها لأمها فالشقيقة أولى ثم التي للأم ثم التي للأب؛ لأن الأم أمس رحما. فإن لم تكن منهن واحدة فأخت الجدة وهي خالة الأم وخالة الخالة، فإن اجتمع أيضا أخت الجدة لأبيها وأمها وأختها لأمها وأختها لأبيها، فالشقيقة أولى ثم التي للأم ثم التي للأب؛ لأن الأم أمس رحما من الأب على ما بيناه. فإن لم تكن واحدة منهن فأخت الجد للأم وهي عمة الأم وعمة الخالة. فإن اجتمع أيضا أخت الجد للأم لأبيه وأمه وأخته لأمه وأخته لأبيه، فالشقيقة أولى ثم التي للأم ثم التي للأب. وعلى هذا الترتيب ما بعد النسب من الأم وارتفع.

فصل فإن انقطعت قرابات الأم فقيل: إن الأب أحق من جميع قراباته؛ لأنهن إنما يدلين به فهو أحق منهن، وقيل: إنهن أحق منه؛ لأنه وإن كن يدلين به فإنه لا يحضن ويستنيب في الحضانة غيره من النساء، فقراباته أحق. حكى هذين القولين عبد الوهاب، وجعل في المدونة بعض قراباته أحق منه وهو أحق من بعضهن، فجعل الجدات من قبله أحق منه، وجعله هو أحق من سائر قراباته.

(1/566)


فصل وترتيب قرابات الأب من النساء في الحضانة كترتيب قرابات الأم على ما بيناه، فأحق الناس بالحضانة من قراباته أمه، فإن لم تكن أم أو كان لها زوج فأم أمه أو أم أبيه، فإن اجتمعتا فأم أمه أحق من أم أبيه. فإن لم تكن واحدة منهما فأم أم أمه أو أم أم أبيه، أو أم أم أبي أبيه أو أم أبي أمه. فإن اجتمع جميعهن فأم أم أمه أولى، ثم أم أبي أمه وأم أم أبيه بمنزلة سواء، ثم أم أم أبي أبيه. وعلى هذا الترتيب تكون أمهاتهن ما علون. فإن لم تكن واحدة منهن فبنت الأبوين أو بنت أحدهما وهي الأخت، فإن اجتمع الأخوات فالشقيقة أحق ثم التي للأم ثم التي للأب. فإن لم تكن واحدة منهن. فأخوات الأب وهن العمات للأب وللأم، وللأم دون الأب، وللأب دون الأم. فإن اجتمعن فالشقيقة أولى ثم التي للأم ثم التي للأب؛ لأن الأم أمس رحما من الأب على ما بيناه في الخالات.
فإن لم تكن واحدة منهن فأخوات الجد وهن عمات الأب وعمات العم للأب والأم، وللأم دون الأب، وللأب دون الأم. فإن اجتمعن أيضا فالشقيقة أولى ثم التي للأم ثم التي للأب. فإن لم تكن واحدة منهن فأخوات الجدة للأب والأم وللأم دون الأب وللأب دون الأم، وهن خالات الأب، فإن اجتمعن فالشقيقة أولى ثم التي للأم ثم التي للأب، وهن على هذا الترتيب ما بعد النسب من الأب وارتفع.
فإن لم تكن منهن واحدة فبنات الإخوة وبنات الأخوات للأب والأم وللأم دون الأب وللأب دون الأم وإن سفلوا الأقرب فالأقرب. وذهب ابن حبيب في الواضحة إلى أنه لا حضانة لبنات الأخوات، وهو بعيد خارج عما أصلناه؛ لأنهن ذوات رحم محرمات عليه، فلا فرق بينهن وبين سائر قراباته في وجوب الحضانة لهن. فإن اجتمعتا جميعا بنت الأخ وبنت الأخت قدمت بنت الأخ عليها في الحضانة مراعاة للخلاف الذي حكيناه، وهما في القياس سواء في المنزلة، ينظر الإمام في ذلك فيقضي به لأحرزهما وأكفاهما. فإن لم تكن منهن واحدة أو كانت ولها زوج أجنبي رجعت الحضانة إلى العصبة، ولا شيء فيها لبنات العمات ولا لبنات الخالات؛ لأنهن غير محرمات.

(1/567)


فصل وأحق الناس بالحضانة من العصبة الأخ، ثم الجد، ثم ابن الأخ، ثم العم، هكذا في كتاب ابن المواز. فيحتمل أن يريد أن الجد وإن علا أحق من ابن الأخ ومن العم، ويحتمل أن يريد أن أحق الناس بالحضانة من العصبة الأخ ثم الجد الأدنى ثم ابن الأخ، ثم العم، ثم ابن العم وإن سفل الأقرب فالأقرب، ثم أبو الجد، ثم عم العم ثم ابن عم العم وإن سفل الأقرب فالأقرب، ثم جد الجد ثم ولده، ثم والد جد الجد ثم ولده على هذا الترتيب أبدا. فترتيب الحضانة في العصبة ليس يجري على ميراث المال ولا على ميراث الولاء والصلاة على الجنائز؛ لأن الجد وإن علا أرفع مرتبة في الميراث من الأخ إذ لا ينقص معهم من الثلث شيئا، ولأن بني الإخوة والأعمام وبنيهم لا شيء لهم مع الجد وإن علا في ميراث المال، وابن الأخ في ميراث الولاء أحق من الجد.

فصل وأحق الناس بالحضانة على مذهب ابن القاسم في المدونة بعد الأم الجدة للأم وإن علت، فإن اجتمعت الجدات فعلى الترتيب الذي وصفناه [ثم الخالة فإن اجتمعت الخالات فعلى الترتيب الذي وصفناه] ، ثم خالة الأم فإن اجتمعن فعلى الترتيب الذي وصفناه ثم عمة الأم، فإن اجتمعت عماتها فعلى الترتيب الذي وصفناه. ثم الجدة للأب وإن علت، فإن اجتمع الجدات للأب فعلى الترتيب الذي وصفناه، ثم الأخت فإن اجتمعت الأخوات فعلى الترتيب الذي وصفناه، ثم العمة، ثم عمة الأب، ثم خالة الأب، ثم بنات الإخوة، ثم بنات الأخوات. وقيل: لا حضانة لبنات الأخوات، وقيل: إنهن أحق من بنات الإخوة، وقيل: إنهن بمنزلة سواء، ينظر الإمام في أحرزهن وأكفاهن.

(1/568)


فصل وقد تقدم أن الحاضنة إذا كان لها زوج أجنبي سقطت حضانتها، فإن كان زوجها ذا رحم من المحضون فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون محرما عليه، والثاني: أن لا يكون محرما عليه. فإن كان محرما عليه فسواء كان ممن له الحضانة كالعم والجد للأب أو ممن لا حضانة له كالخال والجد للأم لا تأثير له في إسقاط الحضانة. وأما إن كان غير محرم عليه فلا يخلو أن يكون ممن له حضانة كابن العم أو ممن لا حضانة له كابن الخال. فإن كان ممن له الحضانة فهي أحق به ما لم يكن للمحضون حاضنة أقرب إليه منها فارغة من زوج. وإن كان زوجها أبعد من الولي الآخر. وإن كان ممن لا حضانة له فإنه تسقط حضانتها بكل حال كالأجنبي سواء. وذهب ابن وهب إلى أن الزوج يسقط حضانة الحاضنة وإن كان ذا رحم من المحضون.

فصل واختلف بماذا يسقط الزوج الأجنبي حضانة زوجته، فقيل بالدخول وقيل بالحكم عليه بأخذ الولد منه. وعلى هذا يأتي اختلافهم فيمن طلق امرأته وله منها ولد فتزوجت ولم يعلم بتزويجها حتى طلقها الزوج أو مات عنها أو علم بذلك ولم تطل المدة، هل له أن يأخذ الولد منها بعد خلوها من الزوج أم لا؟ فأما إن علم بتزويجها ولم يعجل بأخذ الولد منها حتى طالت المدة ثم طلقها الزوج أو مات عنها؛ فليس له أن يأخذ الولد منها؛ لأنه يعد بذلك تاركا لحقه فيه على الاختلاف في السكوت هل هو بمنزلة الإقرار أم لا؟

فصل واختلف أيضا فيما يسقط من حضانتها بذلك، فقيل: إنه تسقط به حضانتها جملة، وهو ظاهر ما في المدونة، وقيل: إنما تسقط حضانتها في جهة من حضن المحضون في حال تزويجها، وقيل: إنه إنما تسقط حضانتها في حال تزويجها، فإن طلقها الزوج أو مات عنها رجعت في ولدها. وعلى هذه الثلاثة الأقوال تأتي

(1/569)


مسائلهم فمن قال: إن حضانتها تسقط جملة. فيأتي على مذهبه أن الحضانة لا تعود إليها أبدا وإن مات الحاضن للولد وهي فارغة من الزوج بموت أو طلاق. ومن قال: إن حضانتها إنما تسقط في جهة من حضن الولد في حال تزويجها فيأتي على مذهبه أن الحضانة لا تعود إليها وإن طلقها الزوج أو مات عنها ما دام الحاضن للولد على حضانته، فإن سقطت حضانته بموت أو ما أشبه ذلك مما تسقط به حضانتها وهي فارغة من زوج؛ رجعت الحضانة إليها. ومن قال: إن حضانتها إنما تسقط في حال تزويجها يقول: إنها ترجع في ولدها فتأخذه متى ما مات الزوج أو طلقها. وجه القول الأول أن تزويجها رضا منها بإسقاط حقها فيه. ووجه القول الثاني: أن تزويجها رضا منها بإسلام الولد إلى الذي يحضنه في حال تزويجها وليس برضا منها بإسقاط حقها فيه جملة. ووجه القول الثالث: أن تزويجها ليس برضا منها بترك الولد؛ لأن النكاح مما تمس الحاجة إليه كالطعام والشراب، فأشبه ما إذا مرضت وضعفت عن الحضانة أن الولد يؤخذ منها لهذه العلة، فإذا ارتفعت العلة عادت الحضانة إليها وأخذت ولدها.

فصل وهذه الثلاثة الأقوال إنما تتصور على مذهب من يرى أن الحضانة من حق الحاضن. وأما على مذهب من يرى أنها من حق المحضون، وهو مذهب ابن الماجشون، فلها أن تأخذ الولد متى ما خلت من الزوج. وعلى هذا الاختلاف يأتي اختلافهم في السكنى وأجر الحضانة، فمن رأى أن الحضانة من حق الحاضن لم ير له أجرة ولا كراء في سكناه معه؛ لأنه لا يستقيم أن يكون من حقه أن يكفله ويؤويه إلى نفسه ويجب له بذلك حق. ومن رأى أن الحضانة من حق المحضون أوجب للحاضن أجرة على حضانته إياه وكذلك سكناه معه، وهذا بين.
ولا اختلاف في أن على الأب النفقة والكسوة وأجر الرضاع إن كان رضيعا. واختلف قول مالك إذا وجد الأب من يرضعه له باطلا أو بدون ما يساوي رضاعه، قال في المدونة: إن من حق الأم أن ترضعه بأجرة مثلها، فقيل: إن ذلك من أجل حقها في حضانته، وقيل: إن ذلك من أجل رفقها به في إرضاعه وأن لبنها أنفع له على ما روي أن ما

(1/570)


من لبن يرضع به الصبي أعظم بركة عليه من لبن أمه. فمن علل ذلك بحقها في الحضانة يقول: إن الأب إن وجد من يرضعه له عند أمه باطلا لم يكن لها حجة. ومن علل بالعلة الأخرى فحجتها باقية. وروى ابن وهب عن مالك أن الأم إن لم ترد أن ترضعه باطلا أو بما وجد كان له أن يدفعه إلى من يرضعه باطلا أو بما وجد. ومعنى ذلك إذا أرضعته عند أمه ولم تخرجه من حضانتها. وهذا القول أشبه بظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] ، وأما إن أبت الأم أن ترضعه فيستأجر له الأب من يرضعه وليس عليه أن يكون في ذلك عند أمه. فعلى هذا تحمل الروايات الواردة في هذا إن شاء الله تعالى.

فصل وإذا قلنا: إن الحضانة من حق الحاضن فهل يملك الحاضن إسلامه إلى من شاء من الأولياء أم لا؟ في ذلك اختلاف. قيل: إن للحاضن أن يسلم الولد إلى من شاء من الأولياء وإن كان غيره أحق به منه، وهو ظاهر ما في المدونة؛ لأنه قال: إن المرأة إذا صالحت زوجها على أن يكون الولد عنده جاز ذلك وكان أحق بالولد، فظاهره وإن كان له جدة أو خالة؛ إذ لم يشترط ذلك. وقيل: إنه لا يملك ذلك، وإنما هو حقه، فإن شاء أخذه وإن شاء تركه، فإن تركه كان لمن يجب له بعده، كشفعاء في الشفعة ليس لمن كان منهم أحق بها أن يسلمها لمن شاء، وإنما هو حقه إن شاء أخذه وإن شاء تركه، فإن تركه كان لمن يجب له بعده.

فصل واختلف في حد الحضانة فقيل إلى البلوغ، وقيل إلى الإثغار، وهي رواية ابن وهب عن مالك، وبالله التوفيق.

(1/571)