المقدمات الممهدات

 [كتاب الأيمان بالطلاق] [ما جاء في الأيمان والطلاق]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم كتاب الأيمان بالطلاق ما جاء في الأيمان بالطلاق الأصل في وجوب الأيمان بالطلاق قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، يريد عقد اليمين وعقد النذر وسائر العقود اللازمة في الشرع.
فصل والأيمان تنقسم على ثلاثة أقسام: مباحة، ومكروهة، ومحظورة. فالمباحة اليمين بالله تعالى وبجميع أسمائه الحسنى وصفاته العلى؛ لأن الله تعالى أذن في الحلف باسمه لعباده وشرعه لهم في غير ما آية من كتابه، فقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: 109] ، وقال: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6] ، وقال: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ} [المائدة: 106] ، وقوله: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 107] ، وما روي أن عيسى ابن مريم كان يقول لبني إسرائيل: إن موسى كان ينهاكم أن تحلفوا بالله كاذبين وأنا أنهاكم أن تحلفوا بالله كاذبين أو صادقين،

(1/573)


ظاهره أن شرعه خلاف شرع موسى وخلاف شرعنا في إباحة الحلف بالله دون كراهية. ويحتمل أن يكون إنما كره لهم اليمين بالله صادقين مخافة أن يكثر ذلك منهم؛ فيكون ذريعة إلى حلفهم بالله على ما لم يعلموه يقينا أو يواقعوا الحنث كثيرا، أو يقصروا في الكفارة فيقعوا في الحرج، لا أن ترك اليمين بالله على الصدق أفضل من الحلف بها؛ لأن الله أمر نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باليمين باسمه في ثلاثة مواضع من كتابه فقال تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس: 53] ، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3] ، وقال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن: 7] ، «وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كثيرا ما يحلف لا والذي نفسي بيده، لا ومقلب القلوب» . ولا وجه لكراهة اليمين بالله على الصدق؛ لأن القصد إلى الحلف بالشيء تعظيم له، فلا شك أن في ذكر الله تعالى على وجه التعظيم له أجرا عظيما.

فصل واليمين بالله هي التي أمر الله بحفظها، وجعل لغو اليمين فيها، وأوجب الكفارة على من حلف بها فحنث بقوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] ، قيل معناه فحنثتم، [ويحتمل أن يكون معناه:

(1/574)


فحنثتم] ، أو أردتم الحنث على القول بجواز الكفارة قبل الحنث على ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه ويفعل الذي هو خير، أو يفعل الذي هو خير ويكفر عن يمينه، ثم قال: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] » ، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

فصل ويسقط الكفارة عمن حلف بهذه اليمين فحنث فيها الاستثناء بمشية الله تعالى إذا وصل ذلك بآخر كلامه وقصد به حل يمينه بإجماع أهل العلم. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حلف بالله فقال: إن شاء الله ثم لم يفعل الذي حلف عليه لم يحنث» .

فصل وأما اليمين المكروهة فهي اليمين بغير الله تعالى، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» . وهي على وجهين: أحدهما: أن يوجب على نفسه شيئا من الأشياء إن فعل فعلا أو إن لم يفعله، كقوله علي كذا وكذا إن فعلت كذا وكذا أو إن لم أفعله. والوجه الثاني: أن يحلف بحق شيء من الأشياء أن يفعل كذا وكذا أو أن لا يفعله، كقوله وأبي لأفعلن كذا وكذا وما أشبه ذلك. فأما ما يوجب الرجل على نفسه بشرط أن يفعل فعلا أو أن لا يفعله فإن ذلك ينقسم على ثلاثة أقسام: منها ما يلزمه باتفاق، ومنها ما لا يلزمه باتفاق، ومنها ما يختلف فيه.

(1/575)


فصل فأما ما يلزمه باتفاق فاليمين بالطلاق، لا اختلاف بين أحد من العلماء أن الرجل إذا حلف بطلاق امرأته على نفسه أو على غيره أن يفعل فعلا أو أن لا يفعله أن اليمين لازمة له وأن الطلاق واقع عليه في زوجته إذا حنث في يمينه؛ لأن الحالف بالطلاق أن لا يفعل فعلا وأن يفعله إنما هو مطلق على صفة ما، فإذا وجدت الصفة التي علق بها طلاق امرأته لزمه ذلك، إلا ما روي عن أشهب في الحالف على امرأته بطلاقها أن لا تفعل فعلا فتفعله قاصدة لتحنيثه أنه لا شيء عليها، وهو شذوذ، وإنما الاختلاف المعلوم فيمن قال لعبده أنت حر إن فعلت كذا وكذا ففعله.

فصل ولا يكون لغو في اليمين بالطلاق؛ لأن الله تعالى لم يذكره إلا في اليمين بالله عز وجل. وأما الاستثناء فيه بمشيئة الله فإن رده إلى الطلاق لم ينفعه، وإن رده إلى الفعل نفعه عند ابن الماجشون وأشهب، ولم ينفعه عند ابن القاسم. وقول ابن الماجشون وأشهب أظهر قياسا على الاستثناء في اليمين بالله أنه إن رده إلى اسم الله تعالى لم ينفعه وإن رده إلى الفعل الذي حلف عليه نفعه.
فصل وأما إن كان استثناؤه بمشيئة مخلوق فله استثناؤه باتفاق؛ لأن ذلك من تمام الصفة التي علق بها الطلاق.

فصل وأما ما لا يلزمه باتفاق فما يوجب على نفسه بشرط أن يفعل فعلا أو أن لا يفعله مما ليس لله بطاعة ولا يتقرب به إليه، كان مباحا أو معصية، كقوله في المعصية: علي ضرب فلان إن لم أفعل كذا وكذا، وفي المباح علي المشي إلى السوق إن لم أفعل كذا وكذا وما أشبه ذلك ما عدا الطلاق؛ فإن اليمين به تلزمه وإن

(1/576)


كان من المباح الذي ليس لله فيه طاعة ولا معصية للمعنى الذي قدمت ذكره وهو أن الحالف به مطلق على صفة ما.
فصل وأما الوجه الثالث المختلف فيه فهو يمينه بكل ما فيه طاعة وقربة أن يفعل فعلا أو أن لا يفعله من صلاة أو صيام أو مشي إلى بيت الله أو غزو أو حج أو ما أشبه ذلك، فذهب مالك وأصحابه إلى أن ذلك يلزمه باليمين إذا حنث فيها كما يلزمه بالنذر. وهذا أصل مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وقد شذت له مسائل يسيرة عنه، وخالفه في هذا الأصل جماعة من العلماء على اختلاف كثير في ذلك عنهم.
فصل فإن استثنى في ذلك بمشيئة مخلوق نفعه الاستثناء، وإن استثنى فيه بمشيئة الخالق جرى ذلك على الاختلاف المذكور، ولا لغو يمين في ذلك أيضا.

فصل وأما الوجه الثاني من وجوه اليمين بغير الله فهو أن يحلف بحق شيء من الأشياء أن يفعل فعلا أو أن لا يفعله، كقوله وأبي لأفعلن كذا وكذا، أو والنبي أو ومكة أو والصلاة والزكاة والطلاق لا أفعله وما أشبه ذلك، فهذا كله ليس بيمين ولا كفارة فيه على من حلف بشيء من الأشياء وحنث فيه، إلا أنه يكره ذلك له، لنهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن اليمين بغير الله، ولأن الحالف بالشيء قاصد إلى تعظيم المحلوف به، والله أحق من قصد إلى تعظيمه. وقد اختلف في قول الله عز وجل: والطور، والسماء، والطارق، والنجم، والتين، والزيتون، وما أشبه ذلك من الأيمان الواردة في القرآن، فقيل: إن ذلك من المجاز وأن المعنى فيه ورب الطور ورب السماء والطارق ورب النجم وما أشبه ذلك، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] ، وقيل: إن ذلك على الحقيقة لا

(1/577)


مجاز فيه، وهو أصح إن شاء الله؛ لأن الله تعالى هو المقسم بهذه الأشياء، وله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته ترفيعا لها على ما سواها وتنبيها على آثار الصنعة فيها، فلا حجة لمخلوق بهذا في إجازة الحلف بغير الله تعالى.

فصل وأما المحظورة فهي أن يحلف بالطواغيت وباللات والعزى أو بوثن من الأوثان التي تعبد من دون الله، أو بكنيسة من الكنائس، أو ببيعة من البيع، وما أشبه ذلك؛ لأن الحالف بالشيء قصد إلى تعظيمه، وتعظيم هذه الأشياء كفر بالله تعالى.

[فصل فيما ينقسم إليه الطلاق من الوجوه]
فصل
فيما ينقسم إليه الطلاق من الوجوه والطلاق ينقسم على قسمين: طلاق مطلق، وطلاق مقيد بصفة. فأما الطلاق المطلق فهو قول الرجل لامرأته: أنت طالق وما أشبه ذلك من صريح الطلاق وكناياته. وقد اختلف في صريحه ما هو على ثلاثة أقوال: أحدها: أن صريحه لفظ الطلاق خاصة، وأن كناياته ما عدا ذلك، مثل قوله خلية وبرية وحبلك على غاربك وما أشبه ذلك وهو مذهب عبد الوهاب. والثاني: أن هذه الألفاظ كلها صريح الطلاق، وبعضها أبين من بعض، وهو مذهب أبي الحسن بن القصار. والثالث: أن صريح الطلاق ما ذكره الله في كتابه وهو الطلاق والسراح والفراق، وهو مذهب الشافعي.
واختلف بماذا يلزم على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يلزم بمجرد [النية دون القول، وهي رواية أشهب عن مالك في كتاب الأيمان بالطلاق. والثاني: أنه يلزم بمجرد القول دون نية] . والثالث: أنه لا يلزم إلا باجتماع القول والنية، وهذا فيما بينه وبين الله، وأما في الحكم الظاهر فلا اختلاف بين أهل العلم أن الرجل يحكم عليه بما أظهر من صريح القول بالطلاق أو كناياته، ولا يصدق أنه لم ينوه ولا

(1/578)


أراده إن ادعى ذلك على مذهب من يرى أن الطلاق لا يلزم بمجرد القول حتى تقترن به النية.
وأما الطلاق المقيد بصفة فإنه ينقسم على وجهين: أحدهما: أن يقيد ذلك بلفظ الشرط، والثاني: أن يقيده بلفظ الوجوب. فأما إذا قيده بلفظ الشرط مثل أن يقول: امرأتي طالق إن فعلت كذا وكذا، أو إن لم أفعله، فإن الفقهاء يسمون ذلك يمينا بالطلاق على المجاز لما فيه من معنى اليمين بالله تعالى، وهو أن الطلاق يجب عليه بالشرط كما تجب الكفارة على الحالف بالله تعالى بالحنث، فاستويا جميعا في القصد إلى الامتناع مما يجب به الطلاق أو الكفارة دون القصد إلى الطلاق أو الكفارة.
ومن ذلك أيضا أنه ينعقد في المستقبل من الأزمان كما تنعقد الأيمان بالله تعالى ويكون في الماضي [إما واقع وإما ساقط كاليمين بالله التي تكون في الماضي] ، إما لغو أو حالف على صدق لا تجب فيه كفارة، وإما غموس أعظم من أن تكون فيه كفارة. ويأثم إذا حلف على الغيب أو على الكذب أو على الشك كما يأثم في اليمين بالله إذا حلف على شيء من ذلك وليس بحقيقة، وإنما حقيقة اليمين بالطلاق قول الرجل وحق الطلاق لا فعلت كذا وكذا.

[فصل فيما تنقسم إليه اليمين بالطلاق من الوجوه]
فصل
فيما تنقسم إليه اليمين بالطلاق من الوجوه وهو - أعني اليمين بالطلاق على ما ذكرته من المجاز - ينقسم على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يحلف بالطلاق على نفسه، والثاني: أن يحلف به على غيره، والثالث: أن يحلف به على مغيب من الأمور. فأما الأول وهو حلفه بالطلاق على نفسه فهو ينقسم على قسمين: أحدهما: أن يحلف بالطلاق أن لا يفعل فعلا فيقول: امرأتي طالق إن فعلت كذا وكذا. والثاني: أن يحلف به على أن يفعل فعلا فيقول: امرأتي طالق إن لم أفعل كذا وكذا. فأما الوجه الأول وهو أن يحلف بالطلاق أن لا يفعل فعلا فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون ذلك الفعل مما يمكنه فعله

(1/579)


وتركه. والثاني: أن يكون مما لا يمكنه تركه. والثالث: أن يكون مما لا يمكنه فعله. فأما إذا كان مما يمكنه فعله وتركه فلا خلاف في أنه لا طلاق عليه إلا إن فعل ذلك الفعل. مثال ذلك أن يقول: امرأتي طالق إن ضربت عبدي أو دخلت الدار أو ركبت الدابة أو ما أشبه ذلك إلا في مسألة واحدة، وهي أن يقول: امرأتي طالق إن وطئتك فإن لها تفصيلا وفيها اختلاف مذكور في الأمهات، وسيأتي تحصيل القول عليه في كتاب الإيلاء. وأما إذا كان مما لا يمكنه تركه فقيل: إنه يعجل عليه الطلاق، وهو قول سحنون، وقيل: إنه لا طلاق عليه حتى يفعل ذلك الفعل كالوجه الأول، وهو ظاهر قول ابن القاسم في المدونة.
مثال ذلك أن يقول: امرأتي طالق إن أكلت أو شربت أو صمت أو صليت وما أشبه ذلك. وأما إذا كان مما لا يمكنه فعله فقيل: إنه لا شيء عليه، وهو قول ابن القاسم في المدونة، وقيل: إن الطلاق يعجل عليه؛ لأنه يعد نادما، وهو قول سحنون، وروي مثله عن ابن القاسم. مثال ذلك أن يقول: امرأتي طالق إن مسست السماء أو ولجت في سم الخياط وما أشبه ذلك. وأما الوجه الثاني: وهو أن يحلف بالطلاق أن يفعل فعلا فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون ذلك الفعل مما يمكنه فعله وتركه، والثاني: أن يكون مما لا يمكنه فعله في الحال، والثالث: أن يكون مما لا يمكنه فعله على حال.

فصل فأما إذا كان مما يمكنه فعله وتركه، مثل قوله: أنت طالق إن لم أدخل الدار أو إن لم أضرب عبدي وما أشبه ذلك فإنه يمنع من الوطء؛ لأنه على حنث ولا يبر إلا بفعل ذلك الشيء. فإن رفعت امرأته أمرها ضرب له أجل المولي وطلق عليه عند انقضائه إلا أن يبر بفعل ذلك الفعل الذي حلف عليه ليفعلنه أو تحب البقاء معه بغير وطء. فإن اجترأ ووطئ سقط أجل الإيلاء واستؤنف لها ضربه إن رفعت ذلك.
ولا يقع عليه طلاق بترك ذلك الفعل الذي حلف عليه ليفعلنه؛ لأنه طلاق لا يكشفه إلا الموت. وإن أراد أن يحنث نفسه بالطلاق دون أن يطلق عليه الإمام بالإيلاء، كان ذلك له إلا أن يضرب أجلا فيقول: امرأتي طالق إن لم أفعل كذا وكذا إلى وقت كذا وكذا فلا يكون له أن يحنث نفسه بالطلاق ويطأ إلى الأجل على اختلاف من قول

(1/580)


ابن القاسم، ويضرب له أجل الإيلاء على القول الذي يقول: لا يطأ إذا كان الأجل أكثر من أربعة أشهر، فهذا حكم هذا القسم إلا في مسألتين: أحدهما: أن يقول: امرأتي طالق إن لم أطلقها. والثانية: أن يقول: امرأتي طالق إن لم أحبلها. فأما إذا قال: امرأتي طالق إن لم أطلقها ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أن الطلاق يعجل عليه ساعة حلف. ووجه ذلك أنه حمله على التعجيل والفور، فكأنه قال: أنت طالق إن لم أطلقك الساعة. والثاني: أن الطلاق لا يعجل عليه إلا أن ترفعه امرأته إلى السلطان وتوقفه على الوطء. والثالث: أنه لا يطلق عليه إن رفعته امرأته ويضرب له أجل الإيلاء، فإن طلقها وإلا طلق عليه بالإيلاء عند انقضاء أجله، ولم يمكن من الوطء؛ لأنه لا يجوز له من أجل أنه على حنث. وإن اجترأ فوطئ سقط عنه الإيلاء واستؤنف ضربه له ثانية إن رفعت امرأته أمرها إلى السلطان. وفائدة ضرب أجل الإيلاء على هذا القول وإن لم يمكن من الفيء بالوطء رجاء أن ترضى في خلال الأجل بالبقاء معه على العصمة دون وطء.
وأما إذا قال: امرأتي طالق إن لم أحبلها فإنه يطأ أبدا حتى يحبلها؛ لأن بره في إحبالها. وكذلك إن قال لامرأته: أنت طالق إن لم أطأك له أن يطأها؛ لأن بره في وطئها، فإن وقف عن وطئها كان موليا عند مالك والليث فيما روي عنهما. وقال ابن القاسم: لا إيلاء عليه، وهو الصواب.

فصل وأما إذا كان ذلك الفعل مما لا يمكنه فعله في الحال، مثل أن يقول: امرأتي طالق إن لم أحج، وهو في أول العام، ففي ذلك أربعة أقوال: أحدها: أنه يمنع من الوطء الآن وهو ظاهر قول ابن القاسم في كتاب الإيلاء من المدونة، ورواية عيسى عنه في الأيمان بالطلاق من العتبية. والثاني: أنه لا يمنع من الوطء حتى يمكنه فعل ذلك الفعل. والثالث: أنه لا يمنع من الوطء حتى يخشى فوات ذلك الفعل. والرابع: أنه لا يمنع منه حتى يفوت فعل ذلك الفعل.

(1/581)


فصل فإذا قلنا: إنه يطأ حتى يمكنه فعل ذلك الفعل فأمسك عن الوطء بإمكان الفعل له ثم فات الوقت، ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يرجع إلى الوطء أبدا. والثاني: أنه يطلق عليه. والثالث: أنه يرجع إلى الوطء حتى يمكنه الفعل مرة أخرى. وقد زدنا هذه الأوجه بيانا في كتاب الإيلاء. وأما إذا كان الفعل مما لا يمكنه فعله على حال لعدم القدرة عليه، مثل أن يقول: امرأتي طالق إن لم أمس السماء وإن لم ألج في سم الخياط وما أشبه ذلك، أو لمنع الشرع منه مثل أن يقول: امرأتي طالق إن لم أقتل فلانا أو إن لم أشرب الخمر وما أشبه ذلك فإنه يعجل عليه الطلاق إلا أن يجترئ على الفعل الذي يمنعه منه الشرع فيفعله قبل أن يعجل عليه الطلاق فإنه يبر في يمينه ويأثم في فعله، ولا اختلاف في هذا الوجه.

فصل وأما القسم الثاني وهو أن يحلف بالطلاق على غيره فإنه ينقسم أيضا على وجهين: أحدهما: أن يحلف عليه أن لا يفعل فعلا. والثاني: أن يحلف عليه ليفعلنه. فأما إذا حلف عليه أن لا يفعل فعلا مثل أن يقول: امرأتي طالق إن فعل فلان كذا وكذا فهو كالحالف على فعل نفسه سواء في جميع الوجوه، وقد تقدم تفسير ذلك. وأما إذا حلف أن يفعل فعلا مثل أن يقول: امرأتي طالق إن لم يفعل فلان كذا وكذا، ففي ذلك لابن القاسم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كالحالف على فعل نفسه أن يفعل فعلا يمنع من الوطء ويدخل عليه الإيلاء جملة من غير تفصيل.
والثاني: أنه يتلوم له على قدر ما يرى أنه أراد بيمينه. واختلف هل يطأ في هذا التلوم أم لا؟ على قولين جاريين على الاختلاف إذا ضرب له أجلا؛ لأن التلوم كضرب الأجل، فإن بلغ التلوم على مذهب من يمنعه من الوطء أكثر من أربعة أشهر دخل عليه الإيلاء. والثالث الفرق بين أن يحلف على حاضر أو غائب، وهو الذي يأتي على ما في سماع يحيى من كتاب الأيمان بالطلاق.

(1/582)


فصل وأما القسم الثالث وهو أن يحلف بالطلاق على مغيب من الأمور فإن كان مما له طريق إلى معرفته لم يعجل عليه بالطلاق حتى يعرف صدقه من كذبه، كالقائل: امرأتي طالق إن لم يجئ فلان غدا، فإن مضى الأجل ولم يعلم صدقه من كذبه حمل من ذلك ما تحمل. وإن كان مما لا طريق له إلى معرفته عجل عليه الطلاق ولم يستأن به. واختلف إن غفل عن الطلاق عليه حتى جاء على ما حلف عليه فيتخرج ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يطلق عليه. والثاني: أنه لا يطلق عليه. والثالث: أنه إن كان حلف على غالب ظنه لأمر توسمه مما يجوز له في الشرع لم تطلق عليه، وإن كان حلف على ما ظهر عليه بكهانة أو تنجيم أو على الشك أو على تعمد الكذب طلق عليه.

فصل وأما الوجه الثاني وهو أن يقيد طلاقه بالصفة بلفظ الوجوب، وهو أن يقول: امرأتي طالق إن كان كذا وكذا فإنه ينقسم على أربعة أقسام: أحدها: أن تكون الصفة آتية على كل حال. والثاني: أن تكون الصفة غير آتية على كل حال. والثالث: أن تكون مترددة بين أن تأتي وبين أن لا تأتي من غير أن يغلب أحد الوجهين على الآخر أو يكون الأغلب منهما أنها لا تأتي. والرابع: أن تكون مترددة بين أن تأتي أو لا تأتي والأغلب منهما أنها تأتي. فالأول يعجل عليه فيها الطلاق باتفاق. والثاني يتخرج على قولين. والثالث لا يعجل عليه الطلاق باتفاق. والرابع يختلف فيه عنى قولين منصوصين.

(1/583)