المقدمات الممهدات

 [كتاب التخيير والتمليك] [ما جاء في التخيير والتمليك]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد نبيه الكريم
كتاب التخيير والتمليك ما جاء في التخيير والتمليك قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 28] {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 29] ، وكان سبب نزول هذه الآية فيما روي «عن عائشة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنها سألته شيئا من متاع الدنيا إما زيادة في النفقة وإما غير ذلك من عرض الدنيا، فاعتزل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نساءه شهرا، فأمره الله أن يخيرهن بهذه الآيات بين الصبر عليه والرضا بما قسم لهن والعمل بطاعة الله، وبين أن يمتعهن ويفارقهن إن لم يرضين بالذي يقسم لهن» . وقيل: إن ذلك كان من أجل «غيرة كانت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - غارتها، فبدأ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعائشة وكانت أحبهن إليه، فقال لها: " إني ذاكر لك أمرا ولا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك "، قالت: وقد علم أن أبويَّ لم يكونا ليأمراني بفراقه، فخيرها وقرأ عليها القرآن فقالت له: هل بدأت بأحد من نسائك قبلي؟ قال: " لا "، قالت: ففي أي هذا أستأمر أبويَّ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة وأسألك أن لا تخبرهن بذلك، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إني لم أبعث معنتا، وإنما بعثت معلما ومبشرا، وإني لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها. ورئي الفرح في وجه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باختيار

(1/585)


عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - الله ورسوله والدار الآخرة، ثم تتبع سائر نسائه فجعل يقرأ عليهن من القرآن ويخيرهن ويخبرهن بما فعلت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - فتتابعن على ذلك، فقصره الله عليهن جزاء على فعلهن، فقال: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} [الأحزاب: 52] » ، وهن التسع نسوة أمهات المؤمنين التي توفي عنهن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عائشة، وحفصة، وزينب، وميمونة، وصفية، وأم حبيبة، وأم سلمة، وسودة، وجويرية؛ واختارت واحدة منهن نفسها وهي بنت الضحاك العامري، كذا وقع في المدونة. وقيل: إنه لم يكن عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين خير أزواجه إلا التسع نسوة التي توفي عنهن، وهو الصحيح والله أعلم. وسيأتي في الجامع بيان هذا، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

فصل وهذا التخيير الذي أمر الله به نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخير به أزواجه ليس فيه تمليكهن الطلاق ولا جعله الأمر إليهن في الفراق، وإنما خيرهن بين أن يخترنه والدار الآخرة ويمسكهن أو يخترن الحياة الدنيا فيمتعهن ويسرحهن، كمن قال لامرأته: إن كنت راضية بالمقام معي على ما أنت عليه فابقي، وإن كنت لا ترضين بذلك فأعلميني أطلقك، إلا أنه من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأزواجه إخبار لا حلف فيه؛ لأن الله تبارك وتعالى أمره به، فأشبه التخيير في وجوب الطلاق للمخيرة باختيارها نفسها. وأما من غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فليس ذلك بتمليك ولا تخيير ولا فيه شبه منه، وإنما هو عدة بالطلاق إن اختارته.

فصل وقد اختلف الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ومن بعدهم من التابعين وفقهاء المسلمين فيمن ملك امرأته أو خيرها اختلافا كثيرا؛ إذ لم يرد في ذلك نص في القرآن يرجع إليه، ولا روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك أثر يعول عليه. فمنهم من جعل

(1/586)


قضاء الزوجة [في ذلك بتاتا. ومنهم من جعله واحدة رجعية. ومنهم من جعله واحدة بائنة. ومنهم من جعله على ما قضت به] ، من واحدة أو ثلاث، ومنهم من جعله على ما نواه الزوج مع يمينه، ومنهم من قال: ليس لها من الطلاق شيء وإن خيرها زوجها أو ملكها، ومنهم من فرق بين قولها: أنا منك طالق أو أنت مني طالق، ومنهم من رأى الخيار فراقا والتمليك طلاقا قبلت أو ردت، روي ذلك عن جماعة من السلف، وعن ربيعة أنه قاله في التمليك. وهذا القول أضعف الأقاويل؛ لأن السنة ترد ذلك والإجماع على أن أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اخترنه إذ خيرهن فلم يكن ذلك فراقا. ومنهم من فرق بين التخيير والتمليك فلم ير التخيير شيئا ورأى التمليك واحدة بائنة، وهو مذهب أبي حنيفة. ولا حجة لأحد منهم على مذهبه من جهة الرأي إلا ويعارضها مثلها؛ إذ ليس في ذلك في الكتاب والسنة نص يجب التسليم له.

فصل وذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلى أن التمليك يفترق من التخيير بما رواه عن عبد الله بن عمر في موطئه حدث عن نافع أن عبد الله بن عمر قال: إذا ملك الرجل امرأته فالقضاء ما قضت إلا أن ينكر عليها فيقول: لم أرد إلا واحدة فيحلف على ذلك ويكون أملك لها ما دامت في عدتها، وهذا أبين ما قيل في ذلك؛ لأن الله تبارك وتعالى جعل أمر الزوجة إلى الزوج وملكه أن يطلقها ما شاء من الطلاق. فإذا قال الرجل لامرأته: أمرك بيدك، فقد جعل بيدها ما كان بيده من طلاقها. هذا ظاهر اللفظ. ويحتمل أن يريد به واحدة واثنتين وثلاثا، فإن كانت له نية في ذلك قبلت منه مع يمينه، وإن لم تكن له نية فالقضاء ما قضت به من واحدة أو ثلاث؛ لأنه الظاهر من لفظه ذلك. وذهب في التخيير إلى أنه لا يكون إلا ثلاثا في المدخول بها، فإن اختارت ثلاثا فهي ثلاث، وإن اختارت واحدة أو اثنتين فلا يكون شيئا؛ لأنه إذا خيرها فإنما خيرها في أن تقيم معه في العصمة أو تخرج عنها، ولا تخرج

(1/587)


عن العصمة إلا بالثلاث. هذا مفهومه عنده من قصد التخيير. وإن كانت غير مدخول بها كان حكمها حكم المملكة في المناكرة إن زادت على واحدة؛ لأنها تبين منه وتخرج عن عصمته بما دون الثلاث. وتابع مالكا على ذلك جميع أصحابه إلا ابن الماجشون فقال: إن المخيرة إذا قضت بواحدة أو ثلاث فهي ثلاث.

فصل وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أن الرجل إذا ملك امرأته أمرها أو خيرها فليس له أن يرجع عن ذلك. واختلف قوله في الحد الذي يكون إليه أمر المملكة والمخيرة بيدها، فكان أول زمنه يقول ذلك بيدها ما لم ينقض المجلس الذي ملكها أو خيرها فيه، فإن تفرقا منه سقط ما كان بيدها من ذلك إلا أن تقيده بالقبول في المجلس، وهو قول جل أهل العلم. ووجه أن هذا التمليك أمر يقتضي الجواب فوجب أن يكون ذلك بيدها ما داما في المجلس، كالمبايعة إذا قال الرجل للرجل: إن شئت سلعتي فهي لك بكذا وكذا، فهذا لا اختلاف فيه أن ذلك إنما يكون له ما داما في المجلس لم يتفرقا عنه. ثم قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في آخر زمانه: إن أمر المملكة والمخيرة بيدها وإن تفرقا من المجلس ما لم يوقفها السلطان أو تتركه يطأها. ووجه هذا القول أمر خطير يحتاج فيه إلى الاستخارة والاستشارة فافتقر إلى المهلة. وقد «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عند تخييره إياها: ولا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك» وهذا يدل على أن الأمر بيدها بعد انقضاء المجلس لو أحبت الاستئمار.

فصل واختلاف قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذا إنما هو إذا واجهها الزوج بالتمليك أو بالخيار أو من فوض الزوج ذلك إليه لاقتضاء ذلك منها الجواب. وأما إذا كتب إليها بذلك كتابا أو أرسل إليها رسولا أو جعل أمرها بيدها إن تزوج عليها أو غاب عنها مدة أو أضر بها أو ما أشبه ذلك فلم يختلف قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أن ذلك بيدها وإن لم تقض فيه ساعة وجب لها التمليك، قيل بيمين، وقيل بغير يمين، ما

(1/588)


لم يطل ذلك حتى يتبين أنها راضية بإسقاط حقها. والطول في ذلك أكثر من شهرين على ما في سماع ابن القاسم من كتاب التخيير والتمليك، إلا أن يكون الزوج حاضرا حين وجب لها التمليك فتمنعه نفسها فيكون ذلك بيدها وإن طال الأمر، كالأمة تعتق تحت العبد فلا ينقطع خيارها بطول المدة ما منعته نفسها؛ لأن امتناعها منه دليل على أنها باقية على حقها. وروى يحيى عن ابن وهب أن حقها يسقط إذا لم تقض فيه ساعة وجب لها التمليك حتى انقضى المجلس الذي وجب لها فيه قياسا على التمليك الذي تواجه به المملكة، وهو قول أشهب في سماع عبد الملك بن الحسن من الكتاب المذكور، وظاهر ما في سماع عيسى من كتاب النكاح في رسم شهد.

فصل والتمليك ينقسم على ثلاثة أقسام: تمليك مطلق، وتمليك مفوض، وتمليك مقيد. فأما المطلق وهو أن يقول: أمرك بيدك فإنه ينقسم على وجهين: أحدهما: أن يواجهها الزوج بذلك أو من يملكه ذلك. والثاني: أن لا يواجهها به هو ولا من فوض ذلك إليه، وإنما كتب إليها بذلك كتابا أو أرسل به إليها رسولا. وقد تقدم الكلام على هذا. وأما التمليك المفوض فهو أن يقول لها أمرك بيدك إن شئت أو إذا شئت أو متى شئت [أو متى ما شئت، أربعة ألفاظ بها يكون التفويض. وهي تختلف باختلاف معانيها. فأما متى شئت أو متى ما شئت] ، فلا يختلف أن الأمر بيدها ما لم توقف، وإنما يختلف هل يقطع ذلك الوطء أم لا يقطعه على قولين، فيقطعه على مذهب ابن القاسم ولا يقطعه على مذهب أصبغ. وأما إن شئت أو إذا شئت فيختلف فيه على ثلاثة أقوال: أحدها قول مالك أن ذلك كالتمليك المطلق سواء. والثاني قول ابن القاسم أن الأمر يكون بيدها ما لم توقف بخلاف مذهبه في التمليك المطلق. والثالث قول أصبغ أنه إن قال، إن شئت كان الأمر بيدها في المجلس، وإن قال: إذا شئت كان الأمر بيدها حتى توقف، ولا يقطع ذلك الوطء عنده في إذا بخلاف قوله إن. واختلف قول ابن القاسم إذا قال: أنت طالق إن

(1/589)


شئت، فله في المدونة أن ذلك تفويض والأمر إليها حتى توقف، وله في الواضحة أنه لا قضاء لها إلا في المجلس بخلاف قوله: أمرك بيدك إن شئت، وهو الصحيح. وقد تأول بعض الناس على ما لابن القاسم في المدونة أن أمرك بيدك إن شئت ليس بتفويض بخلاف قوله: أنت طالق إن شئت ووجه ذلك بتوجيه بعيد لا وجه له، حكى ذلك أبو النجاء في كتابه.

فصل وأما التمليك المقيد بصفة، فإنه ينقسم على وجهين: أحدهما: أن لا يكون مشترطا عليه في أصل عقد النكاح. والثاني يكون مشترطا عليه في عقد النكاح. فأما إذا لم يكن مشترطا عليه في عقد النكاح فإنه ينقسم على الأقسام التي قسمنا عليها الطلاق المقيد بصفة فيما ذكرناه في كتاب الأيمان بالطلاق، ويجري الحكم فيه على ذلك في الأقسام كلها، فما كان منها في الطلاق يمينا بالطلاق فهو في التمليك يمين بالتمليك، أو ما لم يكن منها في الطلاق يمينا فلا يكون في التمليك يمينا، وما وجب منها تعجيل الطلاق فيه وجب تعجيل التمليك فيه وكان للمرأة القضاء بما ملكت فيه من ساعتها، وما لم يجب فيه تعجيل الطلاق لم يجب فيه تعجيل التمليك، وما دخل فيها على الحالف بالطلاق الإيلاء دخل فيه على الحالف بالتمليك الإيلاء أيضا، حاشا يمينه بالتمليك على زوجته أن تفعل فعلا أو ألا تفعله، فإن الحكم في ذلك أن توقف من ساعتها، فإما أن تفعل ذلك الفعل إن كان قال لها: أمرك بيدك إن فعلت كذا وكذا أو تقول: لا أفعله إن كان قال لها: أمرك بيدك إن لم تفعلي كذا وكذا فيجب لها التمليك، أو تخالف ذلك فيسقط ما جعل لها منه قياسا على قوله في الكتاب أمرك بيدك إن أعطيتني كذا وكذا. وللزوج أن يناكر الزوجة في جميع ما يجب لها التمليك من ذلك إن قضت بأكثر من طلقة بنية يدعيها.

(1/590)


فصل وأما إذا كان ذلك مشترطا عليه في عقد النكاح فينقسم ذلك أيضا على الأقسام المذكورة ويكون الحكم فيها سواء إلا في وجهين: أحدهما: أن الزوج لا يناكرها، والثاني: أن التمليك لا يلزم إذا قيد بشرط يعلم أنه لا يكون أصلا باتفاق، وذلك مثل أن تشترط إن تزوج عليها فأمرها بيدها إن مس السماء وما أشبه ذلك. لأنها اشترطت ما لا منفعة لها فيه.

فصل والمناكرة تجب للزوج بثلاثة أوصاف: أحدها: أن لا يكون التمليك مشترطا عليه، والثاني: أن يدعي نية اعتقدها عند التمليك، والثالث: أن يناكرها في الحال، فإن لم يفعل حتى طال الأمر لم يكن له مناكرتها، ولا يدخل في ذلك اختلاف قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في المملكة، قاله أبو بكر بن عبد الرحمن.

فصل وإذا خير الرجل امرأته أو ملكها فقد جعل إليها ما كان بيده من الطلاق، فإن أجابته في المجلس أو بعده ما لم توقف أو تتركه يطأها على أحد قولي مالك فلا تخلو إجابتها إياه من عشرة أوجه: أحدها: أن تفصح بالطلاق واحدة أو ثلاثا. الثاني: أن تجيب بشيء من كناياته. والثالث: أن تجيب بشيء يحتمل أن تريد به الطلاق وأن لا تريد به الطلاق. والرابع: أن تجيب بما يحتمل أن تريد به الثلاث وأن تريد به الواحدة والاثنتين. والخامس: أن تجيب بما ليس من معنى الطلاق في شيء. والسادس: أن لا تجيب بشيء وتفعل فعلا يشبه الجواب. والسابع: أن تقيد الاختيار بشرط. والثامن: أن تقيد القبول. والتاسع: أن تفوض الأمر إلى غيرها. والعاشر: أن تفصح باختيار زوجها.

(1/591)


فصل فأما إذا أفصحت بالطلاق فهو على ما أفصحت به، فإن أفصحت بالثلاث مثل أن تقول: قد طلقت نفسي ثلاثا أو قبلت نفسي أو اخترت نفسي أو حرمت عليك أو برئت منك أو بنت منك؛ فهذا تكون به مطلقة ثلاثا في التخيير وفي التمليك قبل الدخول أو بعده، [إلا أن يناكرها في الخيار قبل الدخول وفي التمليك قبل الدخول وبعده] ، فيكون ذلك له إذا ادعى نية، ولا تسأل في ذلك عن شيء، ولا تصدق إن ادعت أنها لم ترد به الطلاق أو أنها لم ترد بذلك الثلاث. وكذلك إذا قالت: طلقت نفسي واحدة أو اثنتين لا تسأل عن شيء ولا تصدق إن ادعت أنها لم ترد الطلاق، ويكون كما قال في التمليك، إلا أن ينكر عليها فيما زادت على الواحدة، ولا يكون في التخيير شيئا. وأما إذا أجابت بشيء من كنايات الطلاق مثل أن تقول: قد خليت سبيلك أو تركتك أو فارقتك أو رددتك إلى أهلك وما أشبه ذلك فيحمل قولها في ذلك على ما يحمل عليه قول الزوج ابتداء فيما يكون من الطلاق وما ينوى فيه مما لا ينوى.
وأما إذا أجابت بما يحتمل أن تريد به الطلاق وأن لا تريد به الطلاق مثل أن تقول: قد قبلت أمري أو قد اخترت أو قد شئت أو قد رضيت فهذه تسأل عما أرادت بذلك، فما قالت قبل منها وجرى الحكم في التخيير والتمليك على حسب ذلك.
وأما إذا أجابت بما يحتمل أن تريد به الثلاث أو تريد به الواحدة أو الاثنتين ففي ذلك ثلاثة ألفاظ: أحدها: أن تقول قد طلقت نفسي. والثاني: أن تقول أنا طالق. والثالث: أن تقول قد اخترت الطلاق. فأما إذا قالت قد طلقت نفسي فاختلف في ذلك على خمسة أقوال: أحدها: أنها تسأل في المجلس وبعده في التخيير والتمليك كم أرادت بذلك؟ فإن لم تكن لها نية فهي ثلاث إلا أن يناكرها في التمليك. وهو مذهب ابن القاسم في المدونة. والثاني: أنها تسأل أيضا في المجلس وبعده في التخيير والتمليك أيضا، فإن لم تكن لها نية فهي واحدة تلزم

(1/592)


في التمليك وتسقط في الخيار. والثالث: أنها لا تسأل لا في التخيير ولا في التمليك، وهي واحدة تلزم في التمليك وتسقط في الخيار. فإن قالت في المجلس أردت ثلاثا فهي ثلاث إلا أن يناكرها في التمليك، وهو قول ابن القاسم في الواضحة. والرابع: أنها لا تسأل في التخيير ولا في التمليك وهي ثلاث إلا أن تقول في المجلس: أردت واحدة فتسقط في الخيار، وهو قول أصبغ في الواضحة. والخامس: أنها لا تسأل في التمليك وهي واحدة إلا أن تريد أكثر من ذلك فيكون للزوج أن يناكرها، وتسأل في التخيير فإن قالت: أردت ثلاثا صدقت وكانت ثلاثا، وإن قالت أردت واحدة أو اثنتين أو لم تكن لي نية أو افترقا من المجلس قبل أن تسأل سقط خيارها. وأما إن قالت أنا طالق فلا تسأل في تمليك ولا تخيير، وتكون واحدة تلزم في التمليك وتسقط في الخيار، إلا أن تقول في المجلس نويت ثلاثا فيلزم في الخيار، ويكون في التمليك للزوج أن يناكرها، ولا أحفظ في هذا نص خلاف.
وأما إن قالت قد اخترت الطلاق فالذي أرى فيه على أصولهم أنها تسأل في التمليك والتخيير؛ لأن هذه الألف واللام قد يراد بها الجنس فتكون ثلاثا، ويراد بها العهد وهو الطلاق السني المشروع فتكون واحدة. فإذا احتمل اللفظ الوجهين وجب أن تسأل أيهما أرادت، فإن قالت لم تكن لي نية كانت ثلاثا على قول أصبغ في الواضحة. ومذهب ابن القاسم في المدونة في التي تقول قد طلقت نفسي ولا نية لها أنها واحدة. ويحتمل أن تكون الألف واللام للعهد وهو الطلاق الذي ملكت إياه فيكون ثلاثا. وقد كان ابن زرب يتوقف عن الجواب في هذه المسألة إذ لم يجد فيها في المدونة والعتبية شيئا إلى أن وجد في زعمه في العتبية ما دله على

(1/593)


أنها تكون واحدة إلا أن تريد بذلك ثلاثا. وهذا الاختلاف الواقع بين ابن القاسم وابن وهب في الذي يحلف غريمه بالطلاق ليدفعن إليه حقه إلى أجل، فيقول صاحب الحق أردت ثلاثا، ويقول الغريم أردت واحدة. قال فلو كانت هذه اللفظة لا تقع إلا على ثلاث تطليقات عند ابن القاسم لما قال القول قول صاحب الحق ولقال هي ثلاث قال صاحب الحق: إنه نواها أو لم يقل. ولو كانت لا تقع أيضا عند ابن وهب إلا على ثلاث تطليقات لما قال القول قول الغريم. ولا دليل له فيما استدل به من ذلك على مذهبه؛ لأن اللفظ قد يراد بها الواحدة وقد يراد بها الثلاث على ما بيناه، فجعلها ابن القاسم ثلاثا على نية المحلوف له، وجعلها ابن وهب واحدة على نية الحالف، ولا إشكال في المسألة مع وجود النية بواحدة أو ثلاث، وإنما الإشكال عند عدمها. والصحيح على مذهب ابن القاسم في المدونة ما ذكرته. واستدل على مذهبه في ذلك بقول الله عز وجل: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] ، وبحديث زبراء قالت: فقلت هو الطلاق ثم الطلاق ثم الطلاق ففارقته ثلاثا. فأما الآية فلا متعلق له فيها، وأما الحديث فله فيه وجه من التعلق. قال اللخمي:
فإن قائل قائل: لأي شيء لا يكون التخيير ثلاثا إذا قالت قد اخترت الطلاق ولم تنو شيئا إذ لا خيار لها إلا في الثلاث؟
قيل له: يلزمك أن تقول هذا في قولها في التخيير قد طلقت نفسي ولا نية لها [أنها ثلاث؛ إذ لا خيار لها إلا في الثلاث. وهذا محال أن يجعل قولها قد طلقت نفسي ولا نية لها] ثلاثا.
قلت: ما هو بمحال، وأصبغ يرى أنها ثلاث في التمليك فكيف في الخيار، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة.

(1/594)


وأما إذا أجابت بما ليس من معنى الطلاق، مثل أن تقول أنا أشرب الماء وأنا أضرب عبدي وما أشبه ذلك فهذا يسقط خيارها ولا تصدق إذا ادعت أنها أرادت بذلك الطلاق. وأما إذا لم تجب بشيء وفعلت فعلا يشبه الجواب مثل أن تنقل متاعها أو تخمر رأسها وما أشبه ذلك فإنها تسأل ما أرادت بذلك، فإن قالت لم أرد بذلك الفراق صدقت، وإن قالت أردت بذلك الطلاق صدقت فيما قالت منه، فإن قالت أردت الثلاث كان في الخيار ثلاثا، وكان له في التمليك أن يناكرها إن ادعى نية. وإن قالت أردت بذلك الفراق ولم تكن لي نية في عدد الطلاق، فعلى قول محمد بن المواز هي في التمليك واحدة رجعية. وفي التفسير ليحيى عن ابن القاسم أنها ثلاث. فإن سكت ولم ينكر عليها فعلها ولا سألها عما أرادت حتى افترقا من المجلس فقالت بعد افتراقهما منه أردت بذلك ثلاثا فذلك لها إلا أن يناكرها بنية يدعيها وقت القول ويحلف على ذلك، قال أصبغ بيمينين: يمين أنه لم يعلم أن ما فعلته يلزمه به البتة ولا رضي بذلك، ويمين أنه نوى واحدة.
وقال ابن المواز: يجمع ذلك في يمين واحدة. وفي العشرة ليحيى عن ابن القاسم أن انتقالها وسكوته على ذلك دون أن يسألها في المجلس عما تريد بانتقالها يوجب عليه طلاق البتات بكل حال، ولا يناكرها إن قالت أردت الثلاث، ولا تصدق إن قالت أردت واحدة. وأما إذا قيدت الإجابة بشرط فإن الشرط ينقسم على أربعة أقسام: أحدها: أن يكون الشرط يحتمل أن يكون وأن لا يكون. والثاني: أن يكون محتملا أيضا والأغلب منه أن يكون. والثالث: أن يكون مما يعلم أنه لا بد أن يكون في المدة التي يمكن أن يبلغا إليها. والرابع: أن يكون مما يعلم أنه لا يكون. فأما الوجه الأول وهو مثل أن تقول قد اخترت نفسي إن دخلت على ضرتي أو إن قدم فلان وما أشبه ذلك ففيه قولان: أحدهما قول ابن القاسم في المدونة أن الأمر يرجع إليها فتقضي أو ترد. والثاني قول سحنون أن ذلك رد لما جعل لها ولا قضاء لها. وأما الوجه الثاني وهو مثل أن تقول: قد اخترت نفسي إذا حاضت فلانة فتكون طالقا مكانها على مذهب ابن القاسم، وعلى مذهب أشهب يرجع الأمر إليها فتقضي أو

(1/595)


ترد. وأما الوجه الثالث وهو مثل أن تقول قد اخترت نفسي إذا جاء العيد أو أهل الهلال وما أشبه ذلك فإنها تكون طالقا مكانها. وأما الوجه الرابع وهو أن تقول: قد اخترت نفسي إن مسست السماء فإنه يكون ردا لما جعل إليها ولا يكون لها أن تقضي، لا يختلف أصحابنا في جملة هذه الأقسام، ولهم في تفاصيلها اختلاف كثير على ما هو مذكور في الأمهات، فليس هذا موضع ذكره. وأما إذا قيدت القول بذلك مثل أن تقول: قد قبلت لأنظر في أمري فهذا يكون الأمر بيدها وإن انقضى المجلس حتى توقف بلا اختلاف.
وأما إذا فوضت الأمر إلى غيرها فذلك أن تقول: قد شئت إن شاء فلان أو قد فوضت أمري إلى فلان ففي ذلك قولان: أحدهما: أن ذلك جائز إن كان فلان حاضرا أو قريب الغيبة. قال في سماع عيسى مثل اليومين والثلاثة، وقال في الواضحة أصبغ عن ابن القاسم مثل اليوم وما أشبهه، وإن كان بعيد الغيبة رجع الأمر إليها. والثاني قول أصبغ: إنه ليس لها أن تحول الأمر إلى غيرها وإن كان حاضرا، ويرجع الأمر إليها فتقضي أو ترد. وقول أصبغ هذا يأتي على رواية علي بن زياد عن مالك في كتاب الخيار من المدونة، فتأمل ذلك. وأما الوجه العاشر وهو أن تفصح باختيارها زوجها فلا كلام فيه.

فصل هذا تفسير ألفاظ المرأة في الاختيار. وأما تقسيم ألفاظ الرجل في الطلاق فإنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: نص، وظاهر، ومحتمل. فالنص ما نص على عدد الطلاق فيه، والظاهر ما لا ينوى فيه مع قيام البينة عليه لادعائه خلاف ظاهر لفظه، وذلك ينقسم على قسمين: أحدهما: أن يأتي بلفظ ظاهره الطلاق [فيقول لم أرد به الطلاق. والثاني: أن يأتي بلفظ ظاهره الثلاث فيقول لم أرد الثلاث. فأما إذا أتي بلفظ ظاهره الطلاق، فيقول لم أرد به الطلاق] ، وقد حضرته البينة فلا يصدق قبل الدخول ولا بعده. وذلك مثل أن يقول: امرأتي طالق ثم يقول لم أرد به الطلاق، وإنما أردت أنها طالق من وثاق وما أشبه ذلك، فإنه لا يصدق إلا أن يأتي بما يدل

(1/596)


على صدقه فيما ادعى من النية، وذلك مثل أن يكون الكلام خرج على سؤال إطلاقه إياها من وثاق كانت فيه. واختلف إن علم أنها كانت في وثاق هل يكون ذلك دليلا على صدقه أم لا؟ على قولين. وإن أتى مستفتيا صدق على كل حال إلا على مذهب من يرى أن مجرد اللفظ دون النية يوجب الطلاق. والقولان قائمان من المدونة. فإن أتى بلفظ ظاهره الثلاث فيقول لم أرد به الثلاث فإنه ينقسم على وجهين: أحدهما لا يصدق فيه قبل الدخول ولا بعده، وذلك مثل أن يقول أنت بائنة. والثاني يصدق قبل الدخول ولا يصدق بعده، وذلك مثل أن يقول أنت خلية أو برية أو حبلك على غاربك وما أشبه ذلك.
وأما المحتمل فهو ما ينوى فيه بكل حال، وإن لم تكن له نية حكم على أظهر محتملاته. وذلك ينقسم على خمسة أقسام: أحدها: لفظ يحتمل أن يراد به الطلاق، ويحتمل أن لا يراد به الطلاق، [والأظهر أن لا يراد به الطلاق] ، فيحمل عليه إن لم تكن له نية. والثاني: لفظ يحتمل أن يراد به الطلاق ويحتمل أن لا يراد به الطلاق، والأظهر أن يراد به الطلاق، فيحمل عليه إن لم تكن له نية. والثالث: لفظ يحتمل أن يراد به الثلاث ويحتمل أن يراد به الواحدة، والأظهر منه أن يراد به [واحدة قبل الدخول وبعده فيحمل عليه إن لم تكن له نية. والرابع: لفظ يحتمل أن يراد به الثلاث ويحتمل أن يراد به الواحدة والأظهر أنه يراد به] الثلاث قبل الدخول وبعده، فيحمل عليه إن لم تكن له نية. والخامس: لفظ يحتمل أن يراد به الثلاث ويحتمل أن يراد به الواحدة والأظهر منه قبل الدخول الواحدة وبعد الدخول الثلاث، فيحمل على ذلك إن لم تكن له نية.
فالأول مثل أن يقول لامرأته: لست لي بامرأة أو ما أنت لي بامرأة. والثاني مثل أن يقول لامرأته: لا نكاح بيني وبينك أو لا ملك لي عليك. والثالث مثل أن يقول لامرأته: قد طلقتك أو أنت طالق أو ما أشبه ذلك. والرابع مثل أن يقول لامرأته: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. والخامس مثل أن يقول لامرأته: قد خليت سبيلك أو قد خليتك أو قد فارقتك. وهذا تقسيم صحيح

(1/597)


ليس يشذ عنه شيء من ألفاظ الطلاق إلا رواية عيسى عن ابن القاسم فيمن قال لأهل امرأته: شأنكم بها أنها قبل الدخول واحدة إلا أن ينوي ثلاثا، وبعد الدخول ثلاثا ولا ينوى. وما يوجد من الاختلاف في المذهب في بعض ألفاظ الطلاق إنما هو لاختلافهم في ذلك اللفظ من أي قسم هو من الأقسام التي ذكرناها، فقد روي عن أشهب في سرحتك أنها واحدة في المدخول بها، فيأتي من القسم الثالث على مذهبه. فافهم هذا وتدبره تجده صحيحا إن شاء الله تعالى، وبه التوفيق.

(1/598)