المقدمات
الممهدات [كتاب الظهار]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا محمد وآله
كتاب الظهار الظهار تشبيه الرجل وطء من
تحل له من النساء بوطء من تحرم عليه منهن تحريما مؤبدا بنسب أو صهر أو
رضاع. وكانت العرب تكني عن ذلك بالظهر فتقول: امرأتي علي كظهر أمي، ولذلك
سمي ظهارا؛ لأنه مأخوذ من الظهر، وإنما اختص الظهر بالتحريم في الظهار دون
البطن والفرج وسائر الأعضاء وإن كانت أولى بالتحريم منه؛ لأن الظهر موضع
الركوب، والمرأة مركوبة عند الغشيان. فإذا قال الرجل لامرأته: أنت علي كظهر
أمي، فإنما أراد أن ركوبها للنكاح عليه حرام كركوب أمه للغشيان، فأقام
الركوب مقام النكاح؛ لأن الناكح راكب، وأقام الظهر مقام الركوب؛ لأنه موضع
الركوب. وهذا من لطيف الاستعارة للكناية. وهو على أربعة أوجه: تشبيه جملة
بجملة، وبعض ببعض، وبعض بجملة، وجملة ببعض. وهي كلها سواء في الحكم، إلا أن
يكون البعض الذي شبه من زوجته أو شبه به زوجته مما ينفصل عنها أو عن المشبه
بها من ذوات المحارم كالكلام أو الشعر، فيجري ذلك على الاختلاف فيمن طلق
ذلك من زوجته. وله صريح، وكناية. فصريحه عند ابن القاسم وأشهب وروايتهما عن
مالك أن يذكر الظهر في ذات محرم. وكناياته عند ابن القاسم أن لا يذكر الظهر
في ذات محرم أو يذكر الظهر في غير ذات محرم. ومن كناياته عند أشهب أن لا
يذكر الظهر في غير ذات محرم. ومن صريحه عند ابن الماجشون أن لا يذكر الظهر
في ذات محرم، وليس من كناياته عنده أن يذكر الظهر في غير ذات محرم، فلا
كناية عنده للظهار. والفرق بين
(1/599)
الصريح من الظهار وكناياته فيما يوجبه
الحكم أن كنايات الظهار إن ادعى أنه أراد به الطلاق صدق أتى مستفتيا أو
حضرته البينة، وأن صريح الظهار لا يصدق إن ادعى أنه أراد به الطلاق إذا
حضرته البينة، ويؤخذ من الطلاق بما أقر به ومن الظهار بما لفظ به، فلا يكون
له إليها سبيل وإن تزوجها بعد زوج حتى يكفر كفارة الظهار. وقد قيل: إنه
يكون ظهارا على كل حال ولا يكون طلاقا وإن نواه وأراده، وهي رواية أشهب عن
مالك وأحد قولي ابن القاسم.
فصل وكان الظهار في الجاهلية طلاقا وفي أول الإسلام إلى أن أنزل الله عز
وجل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا
وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ
اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ
مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا
اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ
وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة: 2] . فأخبر تعالى
أن لفظ الظهار الذي كانوا يطلقون به نساءهم منكر من القول وزور. والمنكر من
القول هو الذي لا تعرف حقيقته، والزور الكذب، وإنما قال تعالى فيه: إنه
كذب؛ لأنهم صيروا به نساءهم كأمهاتهم، وهن لا يصرن كأمهاتهم ولا كذوي
محارمهم؛ لأن ذوي المحارم لا يحللن له أبدا، وليس كذلك الأجنبيات. فأخرجه
الله عز وجل من باب الطلاق إلى باب الكفارة، ثم أعلمنا كيف يكون الحكم في
ذلك فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ
يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ} [المجادلة: 3] {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ
مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ
فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
[المجادلة: 4] .
(1/600)
فصل ونزلت سورة قد سمع الله قول التي
تجادلك في زوجها إلى آخر باب الظهار في امرأة من الأنصار اختلف في اسمها،
فقيل: خولة، وقيل: خويلة، وفي نسبها فقيل: إنها بنت ثعلبة، وقيل: بنت
الصامت، وقيل: بنت الدليح، [وقيل: بنت خويلد] .
فصل وكانت مجادلة هذه المرأة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في زوجها أوس بن الصامت مراجعتها إياه في أمره وما كان من قوله
لها: أنت علي كظهر أمي ومحاورتها إياه في ذلك. وذلك أنها «أتت رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعائشة تغسل شق رأسه فقالت: يا رسول
الله، طالت صحبتي مع زوجي، وأكل شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبر سني
وانقطع ولدي ظاهر مني، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: حرمت عليه، فقالت: أشكو إلى الله فاقتي إليه، ثم قالت: يا رسول الله،
طالت صحبتي مع زوجي ونفضت له بطني وظاهر مني، فقال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: حرمت عليه، فكلما قال لها ذلك رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هتفت وصاحت وقالت: إلى الله أشكو
فاقتي، فنزل الوحي وقد قامت عائشة تغسل شق رأسه الآخر، فأومأت إليها عائشة
أن اسكتي. فلما قضى الوحي قال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: ادعي لي زوجك، فتلا عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي
زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة: 1] ... إلى قوله:
{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا
قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3]
، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أتستطيع أن
تعتق رقبة؟ ، فقال: لا. قال: فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، أتستطيع أن
تصوم شهرين متتابعين؟ فقال: يا رسول الله، إني إذا لم آكل في اليوم ثلاث
مرات خشين أن يعشو بصري، قال: فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا، فهل تستطيع
أن تطعم ستين مسكينا؟ ، قال: لا يا رسول الله، إلا أن تعينني، فأعانه رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأطعم ستين مسكينا
(1/601)
وراجعها» . والأحاديث في هذه القصة كثيرة،
وفي بعضها «أن أوس بن الصامت لما ظاهر من امرأته قالت له: والله ما أراك
إلا قد أثمت في شأني لبست جدتي وأفنيت شبابي وأكلت مالي، حتى إذا كبرت سني
ورق عظمي واحتجت إليك فارقتني. قال: فما أكرهني بذلك اذهبي إلى رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فانظري هل تجدين عنده شيئا في أمرك،
فأتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت ذلك له فقال لها:
" ما أراك إلا قد بنت منه "، فقالت: إلى الله أشكو فاقتي إلى زوجي، فقالت
عائشة: سبحان من وسع سمعه الأصوات، فإني لأرجل رأس رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسمع بعض كلامها ويخفى علي بعضه إذ نزل
الوحي: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا
وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:
1] الآيات إلى آخره، فأمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- أن يعتق رقبة» إلى آخر الحديث.
فصل فالظهار تحريم ترفعه الكفارة، وهو حرام. والدليل على تحريمه أن الله
سماه منكرا من القول وزورا، والزور: الكذب، والكذب حرام بإجماع. ووصف نفسه
في آخر الآية بالعفو والغفران، ولا يغفر ولا يعفو إلا عن المذنبين.
والكفارة لا تجب بمجرد لفظ الظهار حتى تنضاف إليه العودة في قول جماعة
العلماء، حاشا مجاهد؛ فإنه أوجب الكفارة عن المظاهر بمجرد الظهار، وليس ذلك
بصحيح لقول الله عز وجل: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] .
فصل وقد اختلفوا في العودة الموجبة على المظاهر الكفارة على ستة أقوال:
أحدها: إرادة الوطء والإجماع عليه، وهو قول مالك في موطئه، أنه إذا أراد
الوطء وأجمع عليه فقد وجبت عليه الكفارة وإن مات أو طلقها.
(1/602)
والثاني: أنه إرادة الوطء والإجماع عليه مع
استدامة العصمة، فمتى انفرد أحدهما دون الآخر لم تجب الكفارة. فإن أجمع على
الوطء ثم قطع العصمة بطلاق فلم يستدمها أو انقطعت بموت سقطت الكفارة، وإن
كان قد عمل بعضها سقط عنه سائرها. وكذلك إن استدام العصمة ولم يرد الوطء
ولا أجمع عليه لم تجب عليه الكفارة، بل لا تجزئه إن فعلها وهو غير عازم على
الوطء ولا مجمع عليه. هذا قول مالك في المدونة، وعليه جماعة أصحابه، وهو
أصح الأقاويل وأجراها على القياس وأتبعها لظاهر القرآن؛ لأنه إذا أراد
الوطء وجب عليه تقديم الكفارة قبله؛ لقول الله عز وجل: {مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] ، ما لم تنقطع العصمة أو ترجع نيته عن إرادة
الوطء إلا أن يطأها، فإن وطئ لزمته الكفارة وترتبت في ذمته ككفارة اليمين
بالله تعالى إذا حنث فيها، إلا أن الحالف بالله مخير بين أن يقدم الكفارة
قبل الحنث أو يحنث قبل الكفارة، والظهار لا يجوز أن يطأها قبل الكفارة لقول
الله عز وجل: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] .
والثالث: أن العودة الوطء نفسه. وقد روي هذا القول عن مالك، حكى الثلاثة
الأقوال عنه عبد الوهاب. فعلى هذا القول: لا تجزئه الكفارة قبل الوطء، وإن
أراد الوطء وأجمع عليه واستدام العصمة، وله أن يطأ قبل الكفارة مرة، فإذا
وطئ وجبت عليه الكفارة إن أراد الوطء ثانية واستدام العصمة، فإن رجعت نيته
عن الوطء وانقطعت العصمة بموت أو فراق سقطت عنه الكفارة ما لم يطأها ثانية.
وقد حكى هذا القول أصبغ في العتبية عن أهل المشرق ومن يرتضى من أهل
المدينة.
والرابع: قول الشافعي ومن قال بقوله إن العودة استدامة العصمة وترك الفراق،
وأنه متى ظاهر من زوجته ولم يطلقها طلاقا متصلا بالظهار فقد وجبت عليه
الكفارة، وهو قول فاسد، يدل على فساده القرآن واللغة، على أن أصحابه يدعون
له علم اللغة. لأن الله تبارك وتعالى قال: {ثُمَّ يَعُودُونَ} [المجادلة:
3] ، وثم توجب التراخي عند جميع أهل اللغة، لا اختلاف بينهم أن الرجل إذا
قال: لقيت زيدا ثم عمرا، أن المفهوم من قوله لقي عمرا بعد زيد بزمان.
والعصمة لم تنفصل بالظهار، فكيف يصح أن يقال ثم يكون كذا لما لم يزل كائنا،
هذا محال. وقوله: هذا خطأ أيضا
(1/603)
من وجه آخر؛ لأنه إنما أوجب عليه الكفارة
بترك الطلاق، فيكون معنى قَوْله تَعَالَى على مذهبه: {ثُمَّ يَعُودُونَ}
[المجادلة: 3] ، بمعنى ثم لم يطلقوا، وقَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ يَعُودُونَ}
[المجادلة: 3] إيجاب، ولم يطلقوا نفي. ولو صح ذلك لكان الإيجاب نفيا والنفي
إيجابا وهذا محال. وقوله خطأ أيضا من وجه ثالث، وهو أن قَوْله تَعَالَى:
{ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] يوجب أن يحدث منهم شيء لم
يكن قبل، والمظاهر لم يطلق في حال الظهار ولا قبله، فإذا ظاهر ثم لم يطلق
بعد الظهار فهو كما كان قبل لم يحدث منه شيء بعد لا فعل ولا قول، فيستحيل
معنى قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ} [المجادلة: 3] لأن العائد إنما يعود لشيء
كان فارقه، والمظاهر لم يفارق زوجته بالظهار، وإنما فارق به المسيس، فهو
المعنى المقصود بالعودة إليه والله أعلم.
وقد احتج بعض أصحاب الشافعي له في أن العودة تركها زوجة لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ
بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [المائدة: 37] ، وقال تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا
أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [الحج: 22] ، فسمى
تعالى بقاءهم في النار وإقرارهم فيها إعادة. وهذا لا حجة فيه؛ لأنه يحتمل
أن يكونوا تحاملوا للخروج كاضطراب المجلود فتأخذه المقامع فترده إلى حالته
الأولى. ولو صح بما احتج به أن يكون البقاء إعادة لما كان في ذلك حجة؛ لأن
الله تبارك وتعالى إنما أوجب الكفارة بالعودة لما كان ممنوعا منه بالظهار
وهو الوطء. وأما العصمة فلم يكن ممنوعا منها بالظهار ولا منفصلا عنها. وروي
عن ابن نافع أن الكفارة تصح مع استدامة العصمة وإن لم ينو المصاب ولا
أراده، وهو شاذ خارج عن أقاويل العلماء لا وجه له إلا مراعاة قول من أوجب
عليه الكفارة بمجرد استدامة العصمة، وهو وجه ضعيف. كيف تصح له الكفارة
وينحل بها الظهار وهو لم يرد بها التحلل؛ إذ قد فعلها وهو لا يريد المصاب.
والخامس: أن العودة أن يعود فيتكلم بالظهار مرة أخرى، وهو مذهب داود وأهل
الظاهر، وروي مثله عن بكير بن الأشج، وهو قول فاسد بين الفساد لبعده من
النظر وخلافه للآثار. وحديث المظاهر على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد رواه بكير بن
(1/604)
الأشج وغيره، وكلهم ذكر أنه ظاهر مرة واحدة
فأمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالكفارة، فليس
معنى قول الله عز وجل: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] ،
أن يرجعوا إلى نفس القول بالظهار؛ لأن القول الأول لا يخلو من أن يكون أوجب
الظهار أو لم يوجبه. فإن كان أوجبه فالثاني تأكيد له، وإن كان لم يوجبه
فالثاني لا يوجبه أيضا لأنه مثله، وإنما معنى قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ
لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] أي يعودون في تحريم ما حرموه على أنفسهم من
أزواجهم بتظاهرهم وهو الوطء فيتحللونه بإرادة الوطء والإجماع عليه.
والسادس: ما ذهب إليه ابن قتيبة أن المعنى في قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ
لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] أنه العودة في الإسلام إلى نفس القول بالظهار
الذي كانوا يظاهرون به في الجاهلية ويعدونه طلاقا.
فصل وقد قيل: إن الآية فيها تقديم وتأخير، وتقديرها والذين يظهرون من
نسائهم فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون
خبير، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا، فمن لم يستطع
فإطعام ستين مسكينا، ثم يعودون لما قالوا.
فصل واختلف في قَوْله تَعَالَى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:
3] فحمله أكثر أهل العلم على عمومه فقالوا: لا يقبل المظاهر ولا يباشر ولا
يمس حتى يكفر، وهو مذهب مالك وأكثر أصحابه. وقال الحسن وعطاء والزهري
وقتادة: ليس على عمومه، والمراد به الوطء خاصة، فللمظاهر أن يقبل ويباشر
ويطأ في غير الفرج، وإنما نهي عن الجماع. واختلف الذين حملوا الآية على
عمومها في الوطء وما دونه إن قبل أو باشر في خلال الكفارة قبل أن يتمها،
فقال أصبغ وسحنون: يستغفر الله ولا شيء عليه، وقال مطرف: يبتدئ الكفارة.
(1/605)
فصل والامتناع مما عدا الوطء على مذهب مطرف
واجب، وعلى مذهب أصبغ وسحنون مستحب، وعلى مذهب الحسن ومن قال بقوله مباح.
وأما الوطء فلا خلاف في وجوب الامتناع منه إلا على مذهب من يرى أن العودة
الوطء فإنه أباح له الوطء مرة. وقد تقدم ذكر ذلك.
فصل وأصل الظهار في ذوات المحارم، فإذا ظاهر بشيء من ذوات المحارم وهو
مظاهر سمي [مظاهرا، سمى] الظهر أو لم يسمه، أراد بذلك الظهار أو لم تكن له
نية. فإن أراد بذلك الطلاق ولم يرد به الظهار فقول ابن القاسم في رواية
عيسى عنه من كتاب الأيمان بالطلاق أنه يكون طلاقا بتاتا ولا ينوى في واحدة
ولا اثنتين. وقال سحنون: ينوى فيما أراده من الطلاق، وهو الأظهر؛ لأنه لفظ
بما ليس من ألفاظ الطلاق، فوجب أن يوقف الأمر على ما نوى بذلك. هذا نص قول
ابن القاسم أنه إذا ظاهر بذات محرم وأراد بذلك الطلاق أنه طلاق سمى الظهر
أو لم يسمه.
ومساواته في هذا الوجه بين أن يسمي الظهار أو لا يسميه إنما يصح على مذهبه
فيما بينه وبين الله تعالى إذا أتى مستفتيا. وأما إذا حضرته البينة وطولب
بحكم الظهار فإن كان قد سمى الظهر حكم عليه بالظهار؛ لأن البينة قد حضرته
بالإفصاح به، ولم يصدق في طرح الكفارة عن نفسه وقضي عليه بالطلاق لإقراره
أنه نواه وأراده، وكان من حق المرأة إن تزوجها بعد زوج أن تمنعه نفسها حتى
يكفر كفارة الظهار. وإن كان لم يسم الظهر لم يحكم عليه بالظهار وصدق أنه لم
يرد الظهار إذا لم يصرح به. وهذا أصل من أصولهم أن من ادعى نية مخالفة
لظاهر لفظه لا يصدق فيها. وقول ابن الماجشون: أنه يكون ظهارا، ولا يكون
طلاقا وإن نواه وأراده. وحجته أن الذي ظاهر على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنزل الله فيه
(1/606)
الكفارة قد أراد الطلاق على ما كانوا
يعرفونه في الجاهلية فلم يكن ذلك طلاقا، فألزمه ابن الماجشون الظهار بمجرد
اللفظ دون النية وإن أتى مستفتيا فيما بينه وبين الله. ويلزمه مثل ذلك في
الطلاق، وهو قول مالك في المدونة فيمن قال لامرأته: أنت طالق، وقال: أردت
من وثاق.
والاختلاف في هذا قائم من المدونة. ولم يلزمه ابن الماجشون الطلاق وهو قد
أراده بلفظ أنت علي كظهر أمي؛ إذ ليس هو من ألفاظ الطلاق؛ لأن الله قد
أخرجه عن أن يكون من ألفاظه. فمن لفظ على مذهبه بحرف ليس من حروف الطلاق
وأراد به الطلاق لم يلزمه طلاق، وهو قول مطرف في الثمانية وروايته عن مالك.
وقال أشهب: إلا يلزمه الطلاق إلا أن يريد أنها طالق إذا فرغت من اللفظ، لا
طالق بنفس اللفظ، وهو قول لا وجه له. وروى أشهب، عن مالك أنه يكون طلاقا إن
لم يسم الظهر وظهارا إن سماه. وهذا الاختلاف كله إن نوى الطلاق. وأما إن لم
تكن له نية أو نوى الظهار فهو ظهار سمى الظهر أو لم يسمه. وقد فسر بعض
الشيوخ ما في المدونة برواية أشهب عن مالك، وحكى أبو إسحاق التونسي أنه
مذهب ابن القاسم في كتاب ابن المواز. والصواب أن تفسير ما في المدونة
برواية عيسى عن ابن القاسم، وعلى رواية أشهب عول أبو بكر الأبهري فقال: إن
صريح الظهار ظهار وإن نوى به الطلاق، كما أن صريح الطلاق طلاق وإن نوى به
الظهار. وهذا لا يصح على مذهب ابن القاسم في رواية عيسى عنه، بل يخالف في
الطرفين فيقول: إن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق، وقال: أردت بذلك
الظهار يلزمه الظهار بما أقر من نيته والطلاق بما أظهر من لفظه، وقد بينا
مذهبه في الظهار.
فصل وأما الظهار بالأجنبية فاختلف فيه على ثلاثة أقوال: أحدها قول ابن
الماجشون: أنه لا يكون مظاهرا بالأجنبية سمى الظهار أو لم يسمه، أراد بذلك
الظهار أو لم يرده، وتكون امرأته بتظاهره منها بالأجنبية طالقا إلا أن يريد
بقوله مثل فلانة في هوانها عليه ونحو هذا. فينوى في ذلك ولا يلزمه شيء. وقد
رأيت لبعض
(1/607)
الشيوخ أنه قال: معنى قول ابن الماجشون إنه
لا يكون مظاهرا بالأجنبية إذا لم تكن له نية وأراد الطلاق. وأما إن قال:
أردت بذلك الظهار فإن الظهار يلزمه إن تزوجها بعد زوج يؤخذ بالطلاق بقوله
وبالظهار بنيته. والصحيح من مذهبه أن الظهار لا يلزمه بالأجنبية وإن نواه
وأراده، كما لا يلزمه الطلاق بذوات المحارم وإن نواه وأراده؛ إذ لا فرق بين
الموضعين.
والثاني رواية أبي زيد عن أشهب أنه يكون مظاهرا بالأجنبية سمى الظهر أو لم
يسمه. والثالث قول ابن القاسم في المدونة: أنه إن سمى الظهر فهو مظاهر إلا
أن يريد بذلك الطلاق، وإن لم يسمه فهو طلاق، ولا يصدق أنه أراد الظهار بذلك
إلا إن أتى مستفتيا. فإن لم يأت مستفتيا وحضرته البينة ألزم الطلاق بما شهد
به عليه من لفظه، والظهار بما أقر به على نفسه من نيته، وإن تزوجها بعد زوج
لم يقربها حتى يكفر كفارة الظهار، وهو الذي يأتي على مذهبه ولا أعرف في ذلك
نصا.
فصل والظهار ينقسم على قسمين: ظهار مطلق غير مقيد، وظهار مقيد كالطلاق
سواء. فأما الظهار المطلق فهو قول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي. وأما
الظهار المقيد فإنه ينقسم على الأقسام التي قسمنا عليها الطلاق المقيد بصفة
فيما ذكرناه في كتاب الأيمان بالطلاق، ويجري الحكم فيه على ذلك في الأقسام
كلها. فما كان منها في الطلاق يمينا بالطلاق فهو في الظهار يمين بالظهار،
[وما لم يكن في الطلاق يمينا بالطلاق فلا يكون في الظهار يمينا بالظهار] ،
وما وجب منها تعجيل الطلاق فيه [وجب تعجيل الظهار فيه] ولم يكن له الوطء
إلا بعد الكفارة. وما لم يجب فيه تعجيل الطلاق لم يجب فيه تعجيل الظهار.
وما دخل فيه على الحالف بالطلاق الإيلاء دخل فيه على الحالف بالظهار
الإيلاء أيضا. فتدبر ذلك وقس عليه إن شاء الله.
(1/608)
فصل وقد قلنا: إن الظهار تحريم ترفعه
الكفارة، فإذا وجب بإطلاقه أو بحصول الصفة التي قيده بها فلا يسقطه زوال
العصمة ويعود عليه بعد الطلاق ثلاثا إن تزوجها، بخلاف ما إذا طلقها قبل
حصول الصفة التي علق الظهار بها، فهذا إن كان الطلاق ثلاثا ثم تزوجها بعد
زوج سقط عنه الظهار، وإن كان الطلاق أقل من ثلاث - واحدة أو اثنتين - رجع
عليه الظهار ووقع عليه بحصول الصفة. وما لم يتزوجها في الوجهين جميعا بعد
الطلاق فلا شيء عليه إلا أن يكون قد وطئ بعد وجوب الظهار عليه فتكون
الكفارة قد لزمته وترتبت في ذمته.
فصل والظهار يكون من كل من يحل وطؤها بنكاح أو بملك يمين وإن كان الوطء
ممتنعا في الحال لعارض لا يؤثر في صفحة الملك أو النكاح مثل الحيض والنفاس
والصغر والصوم والاعتكاف؛ لقول الله عز وجل: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ
مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 2] فعم جميع النساء التي يحللن له
بالملك والنكاح؛ لأن أمة الرجل من نسائه التي أحل الله له وطأها. وقال:
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المعارج: 29] {إِلا عَلَى
أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ
مَلُومِينَ} [المعارج: 30] ، وأجمع أهل العلم أن من وطئ أمة حرمت عليه أمها
وابنتها لقول الله عز وجل: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ
اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ
فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}
[النساء: 23] .
فصل فإن كان الوطء ممتنعا على كل حال كالرتقاء والشيخ الفاني الذي لا يقدر
على الجماع أو العنين أو الخصي المقطوع الذكر ففي لزوم الظهار في ذلك
اختلاف. فمن ذهب إلى أن الظهار يتعلق بالوطء وما دونه ألزمه الظهار، ومن
ذهب
(1/609)
إلى أنه إنما يتعلق بالوطء خاصة دون ما
دونه من دواعيه لم يلزمه الظهار. هذا على اختلافهم في تأويل قول الله عز
وجل: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] هل هو محمول على عمومه
في الوطء وما دونه أو مخصص في الوطء خاصة دون ما دونه. وقد تقدم ذكر ذلك.
وقد أجرى اللخمي قول الرجل لامرأته قبلتك أو ملامستك علي كظهر أمي على هذا
الاختلاف، فانظر في ذلك. وأما إن امتنع الوطء لعارض يؤثر في صحة الملك
كالكتابة أو عقد العتق إلى أجل، أو في صحة النكاح كالشروط التي تفسد النكاح
ويجب فسخه بها لم يلزمه الظهار فيها بقوله هي علي كظهر أمي إلا أن يريد في
المملوكة نكاحا فاسدا أو المعتقة إلى أجل إن تزوجها، أو في المكاتبة إن
عجزت أو تزوجها.
فصل وقد اختلف من هذا المعنى في مسألة وهي إذا أسلم المجوسي وله زوجة
مجوسية فظاهر منها ثم أسلمت بالقرب، فقال ابن القاسم: إن الظهار يلزمه؛
لأنها لما أسلمت بالقرب وبقيت معه على العصمة دل ذلك على أن ظهاره منها وقع
في حال العصمة، إلا أنه كان ممنوعا منها لعارض لم يؤثر في صحة النكاح،
فأشبه الحيض والاعتكاف. وقال أشهب: إن الظهار لا يلزمه، قال ابن يونس:
لأنها كانت حينئذ غير زوجة. وذلك غير صحيح؛ لأنها لو كانت غير زوجة لم ترجع
إليه إلا بنكاح جديد، بل هي في ذلك الوقت زوجة إلا أن لها أن تختار فراقه
باختيار دينها وثبوتها عليه، فليس كون الفراق بيدها مما يمنع وقوع الظهار
عليها. ألا ترى أن الرجل لو قال لامرأته: إن تزوجت عليك فأمرك بيدك ثلاثا
فتزوج عليها ثم ظاهر منها أن الظهار يلزمه.
فصل وانظر على مذهب ابن القاسم إن ظاهر منها بفور إسلامه في حين لو أسلمت
لبقيت معه على النكاح فعرض عليها الإسلام فأبت فوقعت الفرقة بينهما ثم
أسلمت فتزوجها هل يرجع عليها الظهار أم لا؟ فإن قلت إن إسلامه لا يقطع
العصمة إلا أن
(1/610)
يطول الأمد أو توقف فتأبى الإسلام، وهو
الظاهر من قول ابن القاسم، وقع عليها الظهار ولم يقربها إن تزوجها بعد
الإسلام حتى يكفر، وإن قلت إن حالها في ذلك الوقت مترقب لا يقال: إنها زوجة
ولا إنها غير زوجة لم يقع عليها الظهار. وأما أن يقال: إنها بإسلام الزوج
غير زوجة على ما علل به ابن يونس قول أشهب فلا يصح لما قدمناه.
فصل وقد رأيت لبعض القرويين أن الرجل إذا ظاهر من مكاتبته فعجزت أن الظهار
يلزمه قياسا على هذه المسألة. وقاله أيضا فيمن ظاهر من معتقته إلى أجل أو
من أمة له فيها شرك فتزوجها بعد عتقها، وهو غلط بين؛ لأن المكاتبة والمعتقة
إلى أجل والتي له فيها شرك لسن من نسائه؛ إذ ليس هن من ملك يمينه ولا
أزواجه، والله يقول: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ}
[المجادلة: 3] .
فصل والظهار ليس بطلاق إلا أنه يضارع الطلاق في بعض الوجوه واليمين بالله
على ترك الوطء في بعض الوجوه. فيضارع الطلاق في أنه يقع بيمين وبغير يمين،
وفي أن الاستثناء فيه بمشيئة الله غير عامل إلا أن يكون بيمين ويرد
الاستثناء إلى الفعل على أحد القولين. ويضارع اليمين بالله على ترك الوطء
في سقوطه بالكفارة قبل الوطء، وفي لزوم الكفارة بالحنث بالوطء. وإن كان.
ذلك ممنوعا في الظهار على الصحيح من الأقوال، بخلاف اليمين بالله على ترك
الوطء؛ إذ لا اختلاف أن الحنث في اليمين بالله تعالى مباح قبل الكفارة،
وإنما اختلفوا في جواز الكفارة قبل الحنث.
(1/611)
فصل فإذا وجب عليه الظهار بقول أو فعل لم
يسقطه عنه زوال العصمة بانقطاع جميع الملك، ويرجع عليه إن تزوجها بعد زوج
بلا خلاف. وأما إن طلقها ثلاثا بعد يمينه بالظهار وقبل الحنث ثم تزوجها بعد
زوج فلا يعود عليه الظهار.
فصل واختلف إذا ظاهر من زوجته وهي أمة بيمين ثم اشتراها قبل أن يحنث
باليمين هل تعود عليه اليمين أم لا؟ فذهب بعض الشيوخ إلى أن اليمين لا تعود
عليه؛ لأنه ملك يمين لا ملك عصمة، فهو غير الملك الأول كملك العصمة بعد
الطلاق ثلاثا. قال: إلا أن يبيعها ثم يتزوجها فإنه تعود عليه اليمين؛ لأنه
بقي له فيها طلقتان، واليمين تعود عليه ما بقي من طلاق ذلك الملك شيء. وذهب
بعضهم إلى أن اليمين بالظهار تعود إليه إذا اشتراها كما لو طلقها واحدة وقد
كان ظاهر منها بيمين أنها تعود عليه إن تزوجها. والذي أقول به أنه إن ورث
جميعها أو اشترى جميعا في صفقة واحدة فاليمين باقية عليه لا تسقط عنه؛ إذ
لم تحرم عليه بخروجها من عصمة النكاح إلى ملك اليمين، ولا أقول: إنها تعود
عليه؛ إذ لا يكون العود إلا بعد المفارقة. وأما إذا ورث بعضها أو اشترى
بعضها فحرمت عليه بذلك ثم اشترى بقيتها فحلت له بالملك فاليمين لا تعود
عليه؛ لأن ملك اليمين غير ملك العصمة، وملك اليمين من ملك العصمة أبعد من
ملك العصمة الثانية من ملك العصمة الأولى.
فصل وأما من ظاهر من أمته بيمين ثم باعها ثم اشتراها فإن اليمين ترجع عليه
على مذهب ابن القاسم؛ لأنه يتهم في إسقاط اليمين عن نفسه، وإن بيعت عليه في
الدين أو اشتراها ممن بيعت عليه في الدين، وإنما لا تعود عليه اليمين إذا
رجعت إليه بميراث بمنزلة. من حلف بجزية عبده ألا يفعل فعلا فباعه ثم
اشتراه. والاختلاف الذي في تلك يدخل في هذه.
(1/612)
فصل فإن وطئ المظاهر بعد وجوب الظهار عليه
بقول أو فعل أدب جاهلا كان أو عالما وترتبت الكفارة في ذمته ولم يسقطها عنه
موت ولا فراق على مذهب من رأى العودة الإجماع على الوطء مع استدامة العصمة.
وهو المشهور في المذهب وأما على مذهب من رأى أن العودة الوطء نفسه فلا تجب
عليه الكفارة بأول وطء، وله أن يطأ مرة فإذا وطئ لم يكن له أن يطأ مرة
ثانية حتى يكفر. وقد روي هذا القول عن مالك. وقد ذكر أصبغ في العتبية أنه
قول أهل المشرق وبعض من يرتضى من أهل المدينة.
وروي عن مجاهد أنه إذا وطئ قبل أن يشرع في الكفارة لزمته كفارة أخرى؛ إذ من
مذهبه أن المظاهر تلزمه الكفارة بمجرد لفظ الظهار، وإن ماتت المرأة أو
طلقها. فانظر هل يقال مثل هذا على ما روي عن مالك أن الكفارة تلزم المظاهر
بمجرد الإجماع على الوطء. وقد روي عن غير مجاهد أن المظاهر إذا وطئ قبل
الكفارة سقطت عنه الكفارة؛ لأنه قد فات موضعها لقول الله عز وجل: {مِنْ
قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] ، فيأتي فيمن وطئ قبل الكفارة
أربعة أقوال: أحدها: أنه لا يجب عليه شيء وتسقط الكفارة، والثاني: أن
الكفارة لا تجب عليه إلا مع إرادة العودة واستدامة العصمة، والثالث: أن
الكفارة تجب عليه وتترتب في ذمته أراد العودة أو لم يردها وإن ماتت أو
طلقها. والرابع: أنه تجب عليه كفارتان، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
(1/613)
|