المقدمات الممهدات

 [كتاب الإيلاء] [فصل في معرفة اشتقاق اسم الإيلاء]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد وآله
كتاب الإيلاء فصل
في معرفة اشتقاق اسم الإيلاء الإيلاء والتألي هو الامتناع من فعل الشيء أو تركه باليمين على ذلك، يقال من ذلك آلى يولي إيلاء وآلية وتألى تأليا وائتلاء وائتلى يأتلي ائتلاء. قال الله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النور: 22] إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22] نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وذلك أن الله تبارك وتعالى لما أنزل عذر عائشة وبراءتها مما كانت قذفت به حلف أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أن لا ينفق على مسطح بن أثاثة، وكان ابن خالته، وعلى غيره من قرابته لما كانوا خاضوا فيه وتكلموا به في ابنته عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فأنزل هذه الآية، فقال أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما نزلت: والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إليهم النفقة وقال لا أقطعها عنهم أبدا. وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التألي: «تألى أن لا يفعل خيرا» في الذي حلف أن لا يضع عن صاحبه ولا يقيله في تمر كان باعه منه فوضع فيه. قال الشاعر في الإيلاء:
فآليت لا آتيك إن كنت مجرما ... ولا أبتغي جارا سواك مجاورا

(1/615)


فهذا هو الإيلاء في اللغة. وهو في الشرع على ما هو عليه في اللغة إلا أنه قد تعرف في الشرع في الحلف على اعتزال الزوجات وترك جماعهن حيث ذكره الله في كتابه ونص على الحكم فيه. وأصل ذلك أن الرجل كان في الجاهلية إذا كره المرأة وأراد تقييدها أن لا تنكح زوجا غيره حلف عليها أن لا يقربها فيتركها لا أيما ولا ذات بعل إضرارا بها، وفعل ذلك في أول الإسلام، فحد الله للمولي من امرأته حدا لا يتجاوزه، وخيره بين أن يفيء فيرجع إلى وطء امرأته أو يعزم على طلاقها فقال تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227] .

فصل معنى الكلام للذين يحلفون أن يعتزلوا من نسائهم تربص أربعة أشهر. والتربص التوقف والتنظر. وترك ذكر أن يعتزلوا في التلاوة اكتفاء بدلالة ما ظهر من الكلام عليه. ومثل هذا في القرآن كثير، من ذلك قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] معناه فأفطر فعدة من أيام أخر. وقوله: " فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فانفلق " معناه فضرب فانفلق. ومن ذلك قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا} [الرعد: 31] ؛ لأن المعنى في ذلك لكان هذا القرآن أو لما آمنوا به، فحذف الجواب لدلالة الكلام عليه. وذلك أن «الكفار قالوا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: باعد لنا بين جبال مكة حتى نجعل بينها بساتين أو قرب لنا الشام فإن متجرنا إليها، أو أحي لنا فلانا وفلانا حتى نسألهم إن كان ما تقول حقا، فأنزل الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد: 31] » فحذف الجواب لدلالة

(1/616)


الكلام عليه. وقد قيل: إن الجواب مقدم، وهو قوله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد: 30] {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا} [الرعد: 31] ، الآية. والأول أولى أن الجواب محذوف على عادة العرب في حذف ما يستغنى عنه من الكلام إيجازا واختصارا. وقال الفراء: معنى {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] : على نسائهم. وكذا في قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المعارج: 29] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المعارج: 30] أن معنى ذلك من أزواجهم، فأقام " على " مقام " من " في الموضع الواحد، و" من " مقام " على " في الموضع الآخر. وما قدمته، أولى من أن المعنى في الآية إضمار أن يعتزلوا لدلالة الكلام عليه مع ورود الآية على سبب يقتضيه وهو ما كانوا يفعلونه من الحلف على اعتزال نسائهم إضرارا بهن.

فصل والفيء الرجوع. يقال: فاء فلان يفيء فيئا وفيئة مثل الجيئة، وفاء الظل يفيء فيأ وفيوءا. وقيل في الأول فيوءا. فمعنى قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة: 226] أي: فإن رجعوا إلى ما كانوا حلفوا عليه ألا يفعلوه من وطء نسائهم ففعلوه.

فصل. واختلف في قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة: 226] هل المراد بذلك في الأربعة الأشهر أو بعدها. وعلى هذين التأويلين يأتي الاختلاف الواقع بين أهل العلم في حكم المولي بعد انقضاء الأجل، فذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المشهور عنه وجميع أصحابه إلى أنه يقع عليه طلاق وإن مرت له سنة حتى يوقف، فإما فاء وإما طلق.
[ويروى هذا القول عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وابن عمر، وعائشة، وأبي الدرداء] . قال سهيل بن أبي صالح عن أبيه: سألت اثني عشر من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عن الرجل يولي من امرأته فكلهم يقول: ليس

(1/617)


عليه شيء حتى تمضي أربعة أشهر فيوقف؛ فإما فاء وإما طلق. وهو مذهب أهل المدينة وقول الشافعي وأبي ثور وأبي عبيد وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه؛ لأن المعنى عندهم في قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة: 226] أي بعد الأربعة الأشهر، وقد اختلفت الرواية عن مالك في ذلك والمشهور عنه ما قدمناه من أن الأربعة الأشهر توسعة وأن الإيقاف بعدها.
وروي عنه أن الفيء في الأربعة الأشهر توسعة فإذا انقضت طلق عليه ولم يؤمر بالفيئة بعدها، وهو قول ابن شبرمة. وروي مثله عن سعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن ومكحول وابن شهاب، حكى الروايتين عن مالك ابن خويز منداد في كتاب أحكام القرآن له. وروى أشهب عن مالك في العتبية أنه إذا وقف بعد انقضاء الأربعة الأشهر فقال أنا أفيء أمهل حتى تنقضي عدتها، فإن لم يفعل بانت منه بانقضاء عدتها، وهي قولة بين القولين على طريق الاستحسان غير جارية على قياس.

فصل فإن وقف على المشهور عنه فلم يفئ ولا طلق؛ طلق عليه الإمام طلقة يملك فيها الرجعة. وقال غير هؤلاء يحبس حتى يفيء أو يطلق. وقال أهل العراق: يقع على المولي بانقضاء أجل الإيلاء طلقة بائنة، وهو قول ابن مسعود من الصحابة وزيد بن ثابت. وروي مثله عن عثمان وعلي، فجعل هؤلاء قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة: 226] على أن المراد بذلك قبل تمام الأربعة الأشهر.

فصل وقوله {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] معناه على قولهم غفور لهم فيما اجترموا من الحلف على ترك وطء نسائهم وتحنيث أنفسهم بالفيء إلى ذلك، رحيم بهم وبغيرهم من عباده المسلمين. وقيل: إنما معنى غفور فيما بعد الأربعة الأشهر؛ لأن الله تعالى قد أباح للمولي التربص أربعة أشهر، والغفران إنما يكون فيما هو محظور لم تتقدم فيه إباحة. وهذا التأويل يشد مشهور قول مالك ومن تابعه عليه في أن

(1/618)


المولي لا يقع عليه طلاق ما لم يوقف وإن مكث سنة أو أكثر. وقيل: إن الفيء يسقط عنه الكفارة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] ، وهو مذهب الحسن والنخعي وغيرهما ممن يرى أن كل حانث في يمين هو في المقام عليها حرج فلا كفارة عليه في حنثه، وأن كفارتها الحنث فيها. والذي عليه جمهور الفقهاء وعامة العلماء إيجاب الكفارة على من حنث في يمينه برا كان الحنث فيها أو غير بر.

فصل وقوله عز وجل: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227] عزيمة الطلاق على مذهب مالك ومن قال بقوله إيقاعه، كما أن عزيمة النكاح في قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] إيقاع عقده. والدليل على ذلك أيضا قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227] ، وسميع لا يكون إلا في النطق؛ لأن الكلام هو الذي يسمع. قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] ، وأما انقضاء أجل الإيلاء فليس بمسموع إنما هو معلوم، فلو كان عزم الطلاق في قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البقرة: 227] هو وقوعه بانقضاء أجل الإيلاء كما قال أهل العراق لما كانت الآية مختومة بذكر إخبار الله عن نفسه أنه سميع عليم، كما لم يختم الآية التي ذكر فيها الفيء إلى طاعة الله في مراجعة وطء زوجته بذكر الخبر عن الله أنه شديد العقاب؛ إذ لم يكن موضع وعيد على معصية، وإنما كان موضع وعد منه بالرحمة والغفران لمنيب أناب إلى طاعته، فذلك ختم الآية التي فيها القول بصفة نفسه أنه سميع عليم؛ لأنه للكلام سميع وبالفعل عليم، فقال تعالى وإن عزم المولون على طلاق من آلوا منهن فإن الله سميع لطلاقهم إياهن عليم بما آتوا إليهن مما يحل لهم ويحرم عليهم.

(1/619)


فصل والإيلاء يكون بثلاثة أشياء: أحدها اليمين على ترك الوطء، والثاني ما كان بمعنى اليمين على ترك الوطء، والثالث اليمين بالطلاق التي يكون الحالف فيها على حنث.

فصل فأما اليمين على ترك الوطء فإنه ينقسم على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يحلف على ذلك بالله أو بما كان في معنى اليمين بالله مما يوجبه على نفسه إن وطئ كالصلاة والصدقة وما أشبه ذلك مما فيه قربة، أو طلاق غير المولى منها أو عتق بعينه أو بغير عينه. والثاني: أن يحلف على ذلك بطلاق المولى منها. والثالث: أن يحلف على ذلك بما ينعقد عليه بالحنث فيه حكم ولا يلزمه بمجرده شيء. فأما إذا حلف على ذلك باليمين بالله أو بما كان في معناه مما ذكرناه فإنه على وجهين: أحدهما: أن يقول: والله لا أطأ امرأتي [أو علي صدقة أو مشي أو ما أشبه ذلك إن وطئتها أبدا أو إلى كذا وكذا مما هو أكثر من أربعة أشهر] . والثاني: أن يقول: والله لا أطأها حتى أفعل كذا وكذا. فأما الوجه الأول فإنه مول من يوم حلف ويوقف إذا حل الأجل؛ فإما فاء بالوطء وإما طلق عليه. وأما الوجه الثاني فإنه لا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك الفعل الذي حلف أن لا يطأ حتى يفعله مما يمكنه فعله. والثاني: أن يكون مما لا يمكنه فعله ليمنع الشرع منه أو عدم القدرة عليه. فأما إذا كان مما يمكنه فعله فإن كان مما لا مؤنه فيه فليس بمول إلا أنه لا يترك، ويقال له طأ امرأتك إن كنت صادقا أنك لست بمول. وإن كان إنما يتكلف فيه مؤنة فإنه مول أيضا من يوم حلف ويوقف، فإذا حل الأجل ويخير بين أن يفيء بالوطء أو يبر بفعل الشيء الذي حلف أن لا يطأ حتى يفعله، فإن أبى من ذلك طلق عليه وأما إذا كان الفعل مما لا يمكنه فعله لمنع الشرع منه أو عدم القدرة عليه فإنه

(1/620)


يوقف إذا حل الأجل، فإما فاء بالوطء وإما طلق عليه، ولم يمكن من البر بما لا يبيحه له الشرع من قتل أو شرب خمر وما أشبه ذلك.

فصل وأما إذا حلف على ذلك بطلاق المولى منها فلا يخلو من أن يكون الطلاق ثلاثا أو ما دون الثلاث واحدة أو اثنتين. فإن كان ما دون الثلاث واحدة أو اثنتين وقف إذا حل الأجل وقيل له: فئ على أن تنوي في مصابك الرجعة وإن لم تكن مدخولا بها؛ لأنها تصير مدخولا بها بالتقاء الختانين فيخرج من الاختلاف هذا الوجه، فإن أبى من ذلك طلق عليه بالإيلاء فإن ارتجع في المدخول بها وصدق رجعته بوطء ينوي بباقية الرجعة صحت رجعته وبقيت عنده على طلقتين، وإن لم يرتجع حتى انقضت العدة فتزوجها رجع عليه الإيلاء من يوم تزوجها ما لم تنقض الثلاث بثلاث تطليقات. وإن كان الطلاق ثلاثا ففي ذلك اختلاف كثير، تحصيله أن في ذلك قولين: أحدهما: أنه مول والثاني: أنه ليس بمول. فإذا قلت: إنه مول فلا يطلق عليه حتى يحل أجل الإيلاء. واختلف على هذا القول في حكمه إذا حل الأجل على أربعة أقوال: أنه يطلق عليه ولا يمكن من الفيء؛ لأنها تبين منه بالتقاء الختانين فيصير النزع حراما، وهو مذهب ابن الماجشون على أصله فيمن طلع عليه الفجر في رمضان وهو يطأ امرأته أنه يقضي ذلك اليوم؛ لأن إخراج الفرج من الفرج وطء. والثاني: أنها لا تطلق عليه إلا أن يأتي الفيء، فإن لم يأباه وأراد الفيء مكن من التقاء الختانين لا أكثر، روي هذا القول عن مالك، ويكون النزع على مذهبه هذا واجبا وليس بحرام، كما لو طلق امرأته ثلاثا في تلك الحال. والثالث: أنه يمكن من جميع لذته حتى يفترأ وينزل، ولا ينزل فيها مخافة أن يكون الولد ولد زنا، وهو قول أصبغ. والرابع: أنه يمكن من الفيء بوطء كامل ولا يقع عليه الحنث إلا بتمامه، وهو قول ابن القاسم في أصل الأسدية وظاهر قوله في المدونة، وما يوجد له من خلاف ذلك فقد قيل: إنه من إصلاح سحنون. وإذا قلت: إنه غير مول ففي ذلك قولان: أحدهما: أنه يعجل عليه الطلاق من يوم حلف وهو

(1/621)


قول مطرف. والثاني: أن الطلاق لا يعجل عليه حتى ترفعه امرأته إلى السلطان وتوقفه.

فصل وأما إذا حلف على ذلك بما ينعقد عليه بالحنث فيه حكم فاختلف هل يكون به موليا أم لا؟ على قولين قائمين في المدونة: أحدهما: أنه لا يكون موليا، والثاني: أنه يكون به موليا. وذلك مثل أن يقول: إن وطئت امرأتي فكل عبد اشتريته من الفسطاط فهو حر، ووالله لا أطأ امرأتي في هذه السنة إلا يوما واحدا أو مرة واحدة، والله لا أطأ إحدى امرأتي ولا نية له. ومن ذلك أيضا أن يقول: إن وطئت امرأتي فهي علي كظهر أمي أو إن وطئتها فوالله لا أطأها على مذهب من يقول في الحالف بالطلاق ثلاثا إن لا يطأ أنه يمكن من الوطء. وأما على مذهب من يرى أنه لا يمكن من الوطء أصلا فتطلق عليه إذا انقضى أجل الإيلاء وإذا قامت به امرأته على الاختلاف الذي ذكرناه فهو مول على كل حال. وأما على مذهب من يرى أنه يمكن من التقاء الختانين لا أكثر فيتخرج ذلك على الاختلاف فيمن حلف أن يعزل عن امرأته هل يكون موليا أم لا فهذا الوجه الثالث من الأوجه الثلاثة.

فصل ولا يكون الحالف بترك الوطء موليا إلا بشرط أن يكون حلفه في حال الغضب إرادة الضرر، فإن لم يكن على وجه الضرر وكانت يمينه على وجه الإصلاح كالذي يحلف أن لا يطأ امرأته حتى تفطم ولدها أو حتى يبرأ من مرضه وما أشبه ذلك لم يكن موليا عند مالك وأصحابه. وقال ذلك علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وذهب الشافعي وأبو حنيفة ومن تبعهما إلى أنه مول بكل حال، وحجتهم عموم قول الله عز وجل في الآية وأنه لم يخص فيها غاضبا من راض ولا محسنا من مسيء. ومن أهل العلم من ذهب إلى أنه لا يكون موليا إلا من حلف بالله تعالى. وهذا لا يصح إلا على مذهب من يرى أن الأيمان كلها بغير الله غير لازمة؛ لقول

(1/622)


النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» وهو بعيد. والثاني قلنا فيه: إنه ما كان بمعنى اليمين على ترك الوطء، وهو المظاهر يترك الكفارة ضررا؛ لأن الوطء يوجب عليه كفارة الظهار ولم تكن واجبة قبل، كما يوجب الوطء الكفارة، على من حلف أن لا يطأ ولم تكن واجبة قبل. والثالث قلنا فيه: إنه اليمين بالطلاق التي يكون الحالف فيها على حنث، وهو أن يقول الرجل: امرأتي طالق إن لم أفعل كذا وكذا. وهو ينقسم على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون ذلك الفعل مما يمكنه فعله مثل أن يقول: امرأتي طالق إن لم أدخل الدار وما أشبه ذلك. والثاني: أن يكون ذلك الفعل مما لا يمكنه فعله في الحال ويمكنه في وقت آخر، وذلك مثل أن يقول: امرأتي طالق إن لم أحج وهو في أول السنة حيث لا يجد سبيلا إلى الحج. والثالث: أن يكون ذلك الفعل مما لا يمكنه فعله، لعدم الإمكان، مثل أن يقول: امرأتي طالق إن لم أمس السماء أو إن لم أشرب الخمر أو ألج في سم الخياط وما أشبه ذلك.

فصل فأما الوجه الأول فيمنع فيه من الوطء من وقت اليمين. فإن طالبته امرأته بذلك ضرب له أجل الإيلاء ووقف عند تمامه فإما فاء بفعل ذلك وإما طلق عليه وليس له أن يفيء بالوطء؛ لأنه ممنوع منه لكونه على حنث، فإن اجترأ ووطئ سقط ما مضى من أجل الإيلاء واستؤنف ضربه مرة أخرى إن قامت بذلك المرأة وطلبته. فإن فاء بفعل ذلك الفعل سقط عنه الإيلاء ولم يلزمه الطلاق، وإن طلق لم تلزمه طلقة أخرى بفوات ذلك الفعل المحلوف عليه إن كان مما يفوت في حياته على مذهب ابن القاسم، خلافا لابن المواز في قوله: إنه يقع عليه طلقة أخرى بفوات الفعل؛ لأن فواته كانقضاء الأجل. فإن أبى من ذلك طلق عليه الإمام بالإيلاء. وإن طلق عليه الإمام به فارتجع لم تصح رجعته إلا أن يفيء بفعل ذلك الفعل قبل

(1/623)


انقضاء العدة، بخلاف ما إذا طلق هو دون أن يطلق عليه الإمام بالإيلاء [لأنه إذا طلق فقد حنث نفسه وانحلت عنه اليمين. وإذا طلق الإمام عليه بالإيلاء فاليمين باقية عليه] فإن تزوجها بعد انقضاء العدة رجع عليه الإيلاء وكان لها أن توقفه؛ لأنه ممنوع من الوطء لكونه على حنث، ويضرب له أجل الإيلاء ثانية ويوقف عند تمامه، فإما فاء بفعل ذلك الفعل وإما طلق، فإن طلق انحلت عنه اليمين، وإن لم يفعل طلق عليه الإمام ثانية بالإيلاء وبقيت عليه اليمين، فإن ارتجع لم تصح رجعته أيضا إلا أن يفيء بفعل ذلك الفعل، وإن تزوجها بعد انقضاء العدة رجع عليه الإيلاء وكان لها أن توقفه فإن وقفته ضرب له أجل الإيلاء فإذا انقضى وقف أيضا فإن أبى أن يفيء أو يطلق طلق عليه الإمام بالإيلاء ثالثة وانحلت يمينه فلم تعد عليه لانقضاء ذلك الملك. فهذا حكم هذا الوجه إلا في مسألتين: إحداهما أن يقول: امرأتي طالق إن لم أطلقها. أو الثانية: أن يقول: امرأتي طالق إن لم أطأها، وقد ذكرت الحكم فيها في كتاب الأيمان بالطلاق.

فصل وأما الوجه الثاني ففيه أربعة أقوال: أحدها: أنه يمنع من الوطء من يوم حلف، وإن كان الفعل غير ممكن له في الحال، وهو ظاهر قول ابن القاسم في المدونة ورواية عيسى عنه في العتبية أنه يقال له أحرم واخرج وإن كان ذلك في المحرم قال غير ابن القاسم في المدونة إذا تبين ضرره بها، ولابن القاسم في مراعاة الضرر مثله في الظهار. والثاني: أنه لا يمنع من الوطء حتى يمكنه الفعل بمجيء إبان الخروج إلى الحج. والثالث: أنه لا يمنع منه حتى يخشى فواته. والرابع: أنه لا يمنع منه حتى يفوته جملة. فإن طالبته امرأته بالوطء إذا يمنع منه على مذهب من يرى المنع منه في ذلك الموضع ضرب له أجل الإيلاء، فإن ضرب له على القول الأول حين حلف، أو على القول الثاني حينه أمكنه الخروج فخرج فأدرك الحج قبل انقضاء أجل الإيلاء فحج بر وسقط عنه الإيلاء، وإن لم يحج طلق عليه بالإيلاء

(1/624)


عند انقضاء أجله. وإن انقضى أجل الإيلاء قبل وقت الحج لم تطلق عليه حتى يأتي وقت الحج، فإن أتى وقت الحج فحج بر وسقط عنه الإيلاء. وإن ضرب له أجل الإيلاء على القول الثالث حين خشي الفوات فخرج فأدرك الحج بإسراع السير بر وسقط عنه الإيلاء، وإن لم يدرك الحج طلق عليه بالإيلاء إن كان قد انقضى أجله أو عند انقضائه إن كان لم ينقض بعد. وإن ضرب له أجل الإيلاء على القول الرابع بعد فوات الحج فخرج من العام المقبل لم يطلق عليه بانقضاء أجل الإيلاء حتى يأتي وقت الحج، فإن أتى وقت الحج [فحج بر وسقط عنه الإيلاء، وإن أتى وقت الحج فلم يحج طلق عليه بالإيلاء.
وإن لم يخرج حتى انقضى أجل الإيلاء] طلق عليه به. وإن لم تطالبه المرأة باليمين وترك هو الحج في ذلك العام ثم قامت عليه في العام الثاني استؤنف لها الحكم فيه كالعام الأول، وجرى ذلك على الاختلاف المذكور فيه، يتمادى في القول الأول على الامتناع من الوطء ويضرب له أجل المولي. وإن قامت قبل أن يمكنه الخروج ويرجع في القول الثاني إلى الوطء حتى يمكنه الخروج فيضرب له حينئذ أجل الإيلاء، وهو قول أشهب، ويرجع في القول الثالث إلى الوطء حتى يخشى فوات الحج فيضرب له حينئذ أجل الإيلاء. وقد روي عن ابن القاسم أنه إذا لم يحج ذلك العام حنث ووقع عليه الطلاق. ووجه هذا القول أنه حمل يمينه على أن يحج في ذلك العام. فعلى هذا القول: لا يدخل عليه الإيلاء؛ لأنه أجل مؤقت يحنث بمضيه فله أن يطأ؛ لأنه على بر. وقد قيل ليس له أن يطأ ويدخل عليه الإيلاء على هذا القول ويطلق عليه به إن انقضى قبل أن يفوته الحج.

فصل وأما الوجه الثالث فيعجل عليه فيه الطلاق ولا يضرب له فيه أجل الإيلاء؛ لأن الفيء لا يقدر عليه فيما لا يمكنه فعله ولا يمكن منه فيما لا يجوز له مما يمنعه الشرع منه، غير أنه إن بادر وفعل بر في يمينه وسقط عنه الطلاق وباء بالإثم.

(1/625)


فصل ويختلف ما يكون المولي به فائيا باختلاف أيمانه، فما كان منها لا يقدر على إسقاطه عن نفسه قبل الحنث لم يكن له أن يفيء فيه إلا بالجماع، وما كان منها يقدر أن يسقطه عن نفسه قبل الحنث ظاهرا وباطنا قبلت منه الفيئة بإسقاط اليمين عن نفسه [وما كان منها يقدر أن يسقطه عن نفسه في الظاهر ولا يعلم حقيقة ذلك في الباطن إلا من قبله فيختلف هل يقبل منه الفيئة بإسقاط اليمين عن نفسه] في الظاهر على قولين. فإن كان للمولي عذر يمنعه من الجماع من مرض أو سفر أو حيض أو دم نفاس أو ما أشبه ذلك لم تخل يمينه من الثلاثة الأوجه المذكورة: أحدها: أن يكون مما لا يقدر على إسقاطه قبل الحنث، مثل أن تكون يمينه بعتق غير معين أو صدقة شيء بغير عينه أو ما أشبه ذلك.
والثاني: أن يكون مما يقدر على إسقاطه قبل الحنث ظاهرا فيعلم بذلك أن اليمين قد انحلت عنه بفعل ما حلف به، وذلك مثل أن يحلف بعتق عبد بعينه أن لا يطأ امرأته أو بطلاق امرأة له أخرى ثلاثا وما أشبه ذلك. والثالث: أن يقدر على إسقاط اليمين عن نفسه في الباطن من غير أن يعلم ذلك في الظاهر إلا من قبله، وذلك مثل أن تكون يمينه بالله تعالى أو ما تكون كفارته كفارة يمين بالله تعالى. فإذا كانت يمينه لا يقدر على إسقاطها عن نفسه قبل الحنث كحلفه بعتق غير معين أو ما أشبه ذلك من صدقة أو مشي أو صيام أو ما أشبه ذلك، فالفيئة له بالقول إلى أن يزول العذر فيوقف، فإما أن يفيء وإما أن يطلق؛ إذ لا تسقط عنه اليمين ولا ينحل عنه الإيلاء يما يعتق ويتصدق به قبل الوطء إذا لم يكن ذلك بعينه. هذا هو المشهور الذي يوجبه النظر والقياس. وقد روي عن مالك فيمن آلى بعتق غير معين فأعتق لذلك رقبة قبل الحنث أنه يجزئه وقع ذلك في كتاب الظهار من المدونة، ومثله في كتاب ابن المواز، وهو بعيد.
وأما إن كانت يمينه بعتق عبد بعينه أو صدقة شيء بعينه أو ما أشبه ذلك من المعينات فلا يقبل منه فيئة بالقول دون أن يعتق العبد الذي حلف بعتقه أو يتصدق

(1/626)


بالشيء الذي حلف بالصدقة به؛ لأنه إذا أعتق ذلك العبد وتصدق بذلك الشيء سقطت عنه اليمين وانحل عنه الإيلاء، ولأن فيئته التي يسألنا أن ننظره إليها توجب عليه ذلك. هذا قول أصحابنا كلهم حاشا ابن الماجشون فإنه يرى الفيئة بالقول إذا كان له عذر يمنعه من الوطء وإن كانت اليمين مما يقدر على إسقاطها، وإنما نقول بقولهم: إن الفيئة لا تكون إلا بإسقاط اليمين إذا طلق عليه بالإيلاء فارتجع، ولا يرى السفر عذرا.
وأما إن كانت يمينه بالله تعالى فاختلف هل تقبل منه فيئة بالقول دون أن يكفر أو لا تقبل منه حتى يكفر. فقيل: إنها لا تقبل منه دون أن يكفر لسقوط اليمين عنه بالكفارة قبل الحنث، وقيل: إنها تقبل منه دون أن يكفر؛ لأنا لا ندري إن كفر هل نوى بكفارته تلك اليمين أم لا؟

فصل وقال جماعة من أهل العلم: الفيء الجماع إلا أن يكون له عذر يمنعه منه فيكون له الفيء باللسان إذا أشهد على ذلك. وقال آخرون: الفيئة له بالقول على كل حال. وهذان القولان إنما يتصوران عندي على مذهب من يرى أن الطلاق يقع على المولي بانقضاء أجل الإيلاء إن لم يفئ فيه.

فصل وأما إن لم تكن يمينه على ترك الوطء ففيئته فعل الشيء الذي حلف أن يفعله على مذهب مالك وأصحابه إذا كان قادرا على ذلك الفعل. واختلف إذا لم يكن قادرا عليه في الحال على ما تقدم ذكره وتحصيل الاختلاف فيه. وأما إن لم يكن قادرا عليه بحال فيعجل عليه الطلاق ولا يضرب له أجل الإيلاء حسب ما مضى القول فيه.

فصل واختلف أهل العلم في حد المدة التي يكون الحالف بترك الوطء فيها موليا

(1/627)


على أربعة أقوال: أحدها: أنه لا يكون موليا إلا من حلف أن لا يطأ زوجته على التأبيد أو أطلق اليمين ولم يقيدها بمدة مخصوصة مؤقتة وإلا فليس بمول، حكى هذا القول أهل الخلاف عن ابن عباس: أنه لا يكون موليا إلا أن يحلف على أكثر من أربعة أشهر ولو بيوم، وهو مذهب مالك ومن تبعه. وقد تأول على هذا المذهب أنه لا يكون موليا حتى يزيد على الأربعة أشهر أكثر مما يتلوم به عليه إذا قال أنا أفيء، وهو غلط؛ لأن التلوم إنما يكون إذا وقف فقال: أنا أفيء ولم يفعل. وأما إذا وقف فأبى أن يفيء فإن الطلاق يعجل عليه ولا معنى للتلوم عليه. فمن حق المرأة أن يوقف لها زوجها المولي وإن لم يزد على الأربعة الأشهر [إلا يوما واحدا؛ إذ لعله يأبى الفيء فتطلق عليه. والثالث: أن يكون موليا من حلف على أربعة أشهر] فصاعدا، ولا يكون موليا إن حلف على أقل منها، وهو مذهب أبي حنيفة وأهل العراق. والرابع: أنه يكون موليا إذا حلف على كثير من الأوقات أو قليل أن لا يجامع فتركها أربعة أشهر من غير جماع، وهو قول ابن أبي ليلى وطائفة من أهل الكوفة.

فصل والإيلاء ينقسم على ثلاثة أقسام: قسم يكون فيه موليا من يوم حلف، وقسم لا يكون فيه موليا إلا من يوم ترفعه امرأته إلى السلطان وتوقفه، وقسم اختلف فيه فقيل: إنه مول من يوم حلف، وقيل: من يوم ترفعه إلى السلطان. فأما الذي يكون فيه موليا من يوم حلف فهو الذي يحلف على ترك الوطء. وأما الذي لا يكون فيه موليا إلا من يوم ترفعه فهو الذي يحلف بطلاق امرأته أن يفعل فعلا. وأما الوجه الثالث المختلف فيه فهو الإيلاء الذي يدخل على الظهار، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

(1/628)