المقدمات الممهدات

 [كتاب اللعان]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا محمد وآله
كتاب اللعان الأصل في اللعان كتاب الله تعالى، وسنة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإجماع الأمة. فأما كتاب الله تعالى فهو قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6] {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 7] {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 8] {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 9] ، يقول الله عز وجل: والذين يقذفون من الرجال أزواجهم من النساء فيرمونهن بالزنا ولم يكن لهم شهداء يشهدون لهم بصحة ما رموهن به من الفاحشة إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله أي يحلف أحدهم أربع شهادات أيمان بالله إنه لمن الصادقين فيما رمى به زوجته من الفاحشة. ويدرأ عنها العذاب أي حد الزنا الرجم إن كانت ثيبا والجلد إن كانت بكرا؛ لأن العذاب معرف بالألف واللام معرفة، فالمراد به الحد المعلوم الذي أوجبه الله على الزناة في كتابه وعلى لسان رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

فصل فإذا نكلت المرأة عن اللعان حدت حد الزنا، وكذلك الزوج إذا نفى حمل امرأته أو قذفها برؤية أو بغير رؤية على الاختلاف في ذلك إن نكل عن اللعان حد

(1/629)


حد القذف. واختلف الفقهاء المتأخرون من القرويين إذا نكلت المرأة عن اللعان بعد لعان الزوج ثم أرادت أن ترجع إلى اللعان هل يكون ذلك لها أم لا؟ فمنهم من رأى ذلك لها وقال لا يكون نكولها عن اللعان أقوى من إقرارها بالزنا، وهي لو أقرت به ثم رجعت قبل رجوعها. ومنهم من لم ير ذلك لها لما تعلق به من حق الزوج.
والأول أصح. وانظر هل يدخل هذا الاختلاف في الزوج إذا نكل عن اللعان ثم أراد أن يرجع إليه هل يكون له ذلك أم لا، فقد قيل: إنه يدخل في ذلك، والصحيح أنه لا يدخل فيه. والفرق بين الرجل والمرأة في ذلك أن نكول المرأة عن اللعان كالإقرار منها على نفسها بالزنا، ولها أن ترجع عن الإقرار به. ونكول الرجل عن اللعان كالإقرار منه على نفسه بالقذف فليس له أن يرجع عن الإقرار به. وزعم العراقيون أن المرأة إذا نكلت عن اللعان لم تحد وحبست، وكذلك عندهم إذا نكل الزوج عن اللعان حبس ولم يحد، وتركوا قول الله عز وجل: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: 8] ، وقد تأول لهم متأول أن العذاب هو السجن، لقول الله عز وجل: {إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف: 25] ولم يعرف ما احتج به؛ لأن العذاب الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية هو غير السجن وليس بمعين، وإنما قالت كذا وكذا، هم يحكمون بالنكول في الحقوق بغير يمين من الطالب، وجعلوه بمنزلة الإقرار والملاعن قد تقدمت أيمانه على ما ادعى، ثم لا يحكمون على المرأة بنكولها وقد أنزل الله فيها من القرآن ما أنزل فتركوا فيما ذهبوا إليه في هذا النص والقياس جملة، إلا أنهم زعموا أن الحدود لا تؤخذ قياسا.

فصل وأما السنة فما ثبت في الآثار الصحاح من ملاعنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين عويمر العجلاني وزوجه، وبين هلال بن أمية الواقعي وزوجه أيضا. وأما الإجماع فلا خلاف بين المسلمين أن اللعان بين الزوجين من شرعنا، وأن الأحكام تتعلق به على الاختلاف الحاصل بينهم في بعض وجوه تفاصيله.

(1/630)


فصل وكان سبب نزول آية اللعان فيما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن الله تبارك وتعالى لما قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] ، قال سعد بن عبادة: هكذا أنزلت يا رسول الله، لو رأيت لكاع قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء فوالله ما آتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا معشر الأنصار، ألا تسمعون إلى ما يقول سيدكم، قالوا: لا تسلمه يا رسول الله، فإنه رجل غيور ما تزوج فينا قط إلا عذراء ولا طلق امرأة فاجترأ أحد منا أن يتزوجها، فقال سعد: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي. والله لأعرف أنها من الله وأنها حق ولكن عجبت لو وجدت لكاع قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء وإني لآتي بهم حتى يفرغ من حاجته، فما لبثوا إلا يسيرا حتى جاء هلال بن أمية من حديقة له، وقد رأى بعينيه وسمع بأذنيه، فأمسك حتى أصبح، فلما أصبح غدا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو جالس مع أصحابه فقال: يا رسول الله، إني جئت أهلي عشاء فوجدت رجلا معها رأيت بعيني وسمعت بأذني، فكره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أتاه به وثقل ذلك عليه جدا حتى عرف ذلك في وجهه، فقال هلال: والله يا رسول الله إني لأرى الكراهية في وجهك بما آتيتك به والله يعلم إني لصادق وما قلت إلا حقا، وإني لأرجو أن يجعل الله لي فرجا. قال: فاجتمعت الأنصار فقالوا: ابتلينا بما قال سعد يجلد هلال فتبطل شهادته في المسلمين، فهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بضربه، فبينما هو كذلك يريد أن يأمر بجلده ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع أصحابه إذ نزل عليه الوحي، فأمسك أصحابه عن كلامه حين عرفوا أن الوحي ينزل عليه حتى فرغ فأنزل الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] إلى قوله: {إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 9] ، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أبشر يا هلال فإن الله قد جعل لك فرجا، فقال: قد كنت أرجو ذلك من الله. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أرسلوا إليها. فجاءت، فلما اجتمعا عند

(1/631)


رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قيل لها فكذبته، فقال رسول الله: إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب، فقال هلال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما قلت إلا حقا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لاعنوا بينهما وقال لهلال: يا هلال اشهد فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين فقيل له عند الخامسة يا هلال اتق الله فإن عذاب الله أشد من عذاب الناس وإنها الموجبة التي توجب عليك العذاب فقال هلال: والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها رسول الله فشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم قيل لها: اشهدي فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، وقيل لها عند الخامسة اتقي الله فإن عذاب الله أشد من عذاب الناس وإن هذه هي الموجبة التي توجب عليك العذاب، فتلكأت ساعة حتى ظننا أنها سترجع ثم قالت: والله لا أفضح قومي سائر اليوم، فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ففرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما وقضى أن الولد لها وأن لا يدعى لأب وأن لا ترمى ولا يرمى ولدها» ويروى «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما لاعن بين العجلاني وزوجته قال لهما: حسابكما على الله واحد منكما كاذب لا سبيل لك عليها، قال: يا رسول الله مالي قال: لا مال لك إن كنت صدقت عليها فهو لما استحللت من فرجها، ون كنت كذبت عليها فذلك أبعد لك منه. ثم قال: انظروها فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظم الأليتين فلا أراه إلا قد صدق عليها، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة فلا أراه إلا كاذبا. قال فجاءت به على النعت المكروه فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لولا ما مضى من كتاب الله لكان لها ولي شأن» .

فصل فالحكم باللعان واجب على ما ورد به القرآن وحكم به الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنزله الله في كتابه وجعله شرعة لعباده رحمة بهم؛ إذ كان الأزواج لا يجرون مجرى غيرهم من سائر الناس الذين أوجب الله عليهم الجلد برمي المحصنات إلا أن يأتوا على ذلك بأربعة شهداء؛ إذ كان لا ضرر عليهم في أنفسهم فيما عاينوه، والزوج

(1/632)


يلزمه إظهار ما رأى؛ لأنه يخاف أن يلحقه نسب ليس منه، فجعل له إذا أنكر حملا لم يعرف له سببا أن ينكره، وجعل له إذا عاين الزنا وشاهده من زوجته أن يخبر به، ثم جعل له المخرج من ذلك باللعان لضرورته إليه، ولم يجعل ذلك لغيره إذ لا ضرورة به إلى ذلك.

فصل واللعان على مذهب مالك وجميع أصحابه وأكثر أهل العلم يكون بين كل زوجين إلا أن يكونا كافرين، كانا حرين أو عبدين أو محدودين أو ذمية تحت مسلم على ظاهر قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] ، ولم يخص حرا من عبد ولا محدودا من غير محدود ولا كافرا من مسلم، خلافا لأبي حنيفة وأصحابه في قولهم: إنه لا يلاعن العبد ولا المحدود في القذف، قالوا: لأن المراد من الآية من تجوز شهادته من الأزواج؛ لأن الله استثناهم من الشهداء بقوله: ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فسماهم شهداء بذلك؛ إذ المستثنى من جنس المستثنى منه، وقال: فشهادة أحدهم، فدل على أن اللعان شهادة، والعبد والمحدود لا تجوز شهادتهما. وليس ذلك بصحيح؛ لأن الاستثناء منقطع، والمعنى فيه ولو لم يكن لهم شهداء غير قولهم الذي ليس بشهادة، كما قالوا الصبر حيلة من لا حيلة له، والجوع زاد من لا زاد له. فاللعان يمين وليس من الشهادة بسبيل، وإنما أخذ من باب المشاهدة بالعين والقلب فسمي شهادة لهذه العلة، ولذلك قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في أحد أقواله: إن من قال لامرأته يا زانية ولم يقل رأيت ولا نفى حملا إنه يحد ولا يلاعن؛ لأن ذلك أحد من المشاهدة. فالرجل يقول في لعانه أشهد بالله لقد رأيتها تزني وأشهد بالله ما هذا الولد مني، فالأول مأخوذ من باب المشاهدة بالنظر، والثاني من باب المشاهدة بالقلب.
فشهادة الرجل على ما يدعي مشاهدته ومعرفته، وشهادة المرأة أيضا على ما تدعي علمه ومعرفته وهي عالمة بصدقه أو كذبه، فكل واحد منهما موكل إلى علمه، وإن كان أحدهما كاذبا لا محالة وكيف يصح أن يشبه اللعان بالشهادة ويقاس عليها والعدل لا تقبل شهادته لنفسه ولو حلف مائة يمين؛ لأنه خصم، ولا تجوز شهادته أيضا لغيره عند بعض العلماء إذا حلف

(1/633)


عليها لاتهامه فيها. ومن الدليل أيضا على أن المحدود والعبد يلاعنان أن كل من حكم عليه بيمين أو حكم له بها فالبر والفاجر والعبد والمسلم والذمي فيها سواء، فكذلك يجب في اللعان. وهو الظاهر من قول الله عز وجل في القرآن أيضا، فإن المعنى الذي فرق الله به بين الزوج والأجنبي في القذف وهو ضرورته إلى نفي الولد الذي ينكره ولا يعرف له سببا يستوي فيه الحر والعبد والمحدود وغير المحدود. وقد نقض أبو حنيفة وأصحابه أصلهم في هذا بقولهم: إن الفاسق المعلم بالفسق يلاعن وشهادته لا تجوز، وكذلك الأعمى يلاعن وشهادته عندهم لا تجوز، فبطل مذهبهم وصح مذهب مالك ومن تابعه، وإنما اللعان حكم على حياله شرعه الله رحمة لعباده فلا يحمل على الشهادة ولا يقاس عليها.

فصل واللعان على ستة أوجه، ثلاثة منها متفق عليها، وثلاثة مختلف فيها. فأما الثلاثة الأوجه التي يتفق على وجوب اللعان فيها، فأحدها: أن ينفي حملا لم يكن مقرا به ويدعي الاستبراء. والثاني: أن يدعي رؤية لا مسيس بعدها في غير ظاهرة الحمل. والثالث: أن ينكر الوطء جملة فيقول: لم أطأها قط أو منذ مدة كذا وكذا لما لا يلحق في مثله الأنساب. وأما الوجوه الثلاثة التي يختلف في وجوب اللعان فيها، فأحدها: أن يقذف زوجته ولم يدع رؤية. والثاني: أن ينفي حملا ولا يدعي استبراء. والثالث: أن يدعي رؤية لا مسيس بعدها في حامل بينة الحمل؛ لأن ابن الجلاب حكى عن مالك في هذه المسألة ثلاث روايات: إحداها إيجاب الحد ولا لعان. والثانية إيجاب اللعان وثبوت النسب. والثالثة إيجاب اللعان وسقوط النسب.
واختلف في التعريض قول ابن القاسم، فمرة رآه كالتصريح بالقذف وأوجب اللعان فيه، وهو قوله في كتاب القذف من المدونة وظاهر قوله في اللعان منها. ومرة قال يحد في التعريض ولا يلاعن، وهو قول أشهب في كتاب ابن المواز أنه يحد في التعريض ولا يلاعن إلا أن يكون تعريضا يشبه التصريح. وأما مثل قوله وجدتها مع رجل عريانين في لحاف أو وجدتها تحته فلا يلاعن في هذا ويؤدب، ولو قاله لأجنبية لتحد إلا في قوله رأيتها تقبل رجلا. فإن رجع لها أقيم عليه في التعريض

(1/634)


فقال رأيتها تزني لاعن، قاله عبد الملك، وهو عندي تفسير لقول من لم ير في التعريض اللعان.

فصل وأصل اللعان إنما جعل لنفي الولد، فيلاعن الرجل بمجرد نفي الحمل دون قذف في مذهبنا. والمخالف في هذا بعض أصحاب الشافعي، وهو بعيد؛ إذ قد تكون مغلوبة على نفسها. وله أن يلاعنها وهي حامل، وقد قيل: ليس له أن يلاعنها حتى تضع، روي ذلك عن مالك، وهو قول ابن الماجشون ومذهب أبي حنيفة. ويرده الأثر فإن «رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاعن بين العجلاني وزوجته وقال: إن جاءت به على نعت كذا فلا أراه إلا قد صدق عليها وإن جاءت به على نعت كذا فلا أراه إلا قد كذب عليها» . ويلاعن من ادعى رؤية لما يخاف أن يلحق به من الولد بإجماع إذا لم تك ظاهرة الحمل. وأما من قذف زوجته ولم يدع رؤية ولا نفى حملا فالأصح من الأقاويل أنه يحد ولا يلاعن. ومن أوجب اللعان فيه جعل العلة في ذلك دفع الحد عن نفسه مع أنه ظاهر القرآن قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] لم يذكر نفي حمل ولا رؤية زنا، وهذا ليس ببين؛ لأن الحكم إنما هو لمعاني الألفاظ لا لظواهرها.

فصل فإذا لاعن على الرؤية وادعى الاستبراء انتفى الولد بإجماع. وأما إن لم يدع الاستبراء فاختلف هل ينتفي الولد بذلك اللعان أم لا؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الولد ينفيه اللعان على كل حال وإن ولد لأقل من ستة أشهر وهو أحد قولي مالك في المدونة. والثاني: أنه لا ينفيه بحال وإن ولد لأكثر من ستة أشهر ويلحق به وهو قول عبد الملك وأشهب. والثالث التفرقة بين أن يولد لأقل من خمسة أشهر أو لأكثر منها، وهو القول الثاني لمالك في المدونة. فيأتي على هذا في جملة المسألة ثلاثة أقوال، وفي كل طرف منها قولان، إذا ولدته لأقل من ستة أشهر قولان وإذا ولدته لأكثر من ستة أشهر قولان. وهذا على مذهب من يتأول أن قوله في المدونة ألزمه

(1/635)


مرة ومرة لم يلزمه ومرة ينافيه وإن كانت حاملا راجع إلى قولين ويجعل قوله ومرة لم يلزمه ومرة ينفيه وإن كانت حاملا، شيئا واحدا. ومن الناس من يحملها على ثلاثة أقوال على ظاهرها، فيقول معنى قوله ينفيه وإن كانت حاملا أنه ينفيه بلعان ثان وإن لم يدع استبراء، فيقول في لعانه أشهد بالله ما حملها هذا مني. فيأتي على هذا في الطرف الواحد ثلاثة أقوال وفي الطرف الثاني قولان. وسواء كان الزوج عالما مقرا به أو لم يكن. وهذا بين في كتاب ابن المواز، وظاهر قول المخزومي في المدونة. وقد تأول بعض الناس قوله وهو مقر بالحمل أي بالوطء. وقد تأول بعض الشيوخ أن الاختلاف الواقع في قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المدونة إنما هو إذا لم يعلم الزوج بحملها ولا كان مقرا به، وإنما علم أنها كانت حاملا بما انكشف من وضعها قبل ستة أشهر، وهو تأويل بعيد لما حكيناه من وجوه الاختلاف في ذلك لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب ابن المواز، فاعلمه. فإن ادعى الاستبراء بعد أن ولدته وقال ليس الولد مني قد كنت استبرئت كان ذلك له في الوجوه كلها باتفاق وسقط نسب الولد، قيل بذلك اللعان وهو قول أشهب، وقيل بلعان ثان وهو قول أصبغ وعبد الملك، وفي المدونة ما يدل على القولين جميعا.

فصل وقد ذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن الولد المولود على فراش الرجل إذا نفاه لا ينتفي منه بلعان ولا بما سواه، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولد للفراش وللعاهر الحجر» . وروي عن الشعبي أنه قال: خالفني إبراهيم وابن معقل وموسى في ولد الملاعنة فقالوا تلحقه به فقلت ألحقه به بعد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ثم ختم بالخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، فكتبوا فيها إلى المدينة فكتبوا أن يلحق به، وهو شذوذ من القول، ولا حجة لقائله فيما احتج به من قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولد للفراش وللعاهر الحجر؛» لأنه إنما ورد في المدعي بالزنا

(1/636)


ما ولد على فراش غيره على ما جاء في حديث عتبة. وأما نفي أولاد الزوجات فليس من ذلك في شيء؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد قضى في ذلك بالملاعنة، ورد الولد الملاعن به إلى أمه دون المولود على فراشه، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل وقد اختلف في الاستبراء فعن مالك فيه روايتان: إحداهما أنه حيضة وهو أكثر المذهب، والثاني: أنه ثلاث حيض وهو مذهب ابن الماجشون وحكاه عبد الوهاب.

فصل ويجب بتمام لعان الزوج ثلاثة أحكام: أحدها سقوط نسب الولد، والثاني ترك الحد عن الزوج، والثالث رجوعه على المرأة إلا أن تلاعن. واختلف في الفرقة بماذا تجب، فالمشهور عن مالك وأصحابه أنها تجب بتمام لعان المرأة بعد الزوج. فعلى هذا إذا مات الزوج بعد أن التعن وقبل أن تلتعن المرأة أنها ترثه التعنت أو لم تلتعن، وهو قول ربيعة ومطرف واختيار ابن حبيب. وقد قيل: إنها تجب بتمام لعان الزوج وإن لم تلتعن المرأة، وهو مذهب الشافعي وظاهر قول مالك في موطئه وقول عبد الله بن عمرو بن العاص في المدونة وهو قول أصبغ في العتبية في الذي يتزوج المرأة في عدتها فتأتي بولد فيلاعن أحد الزوجين أنها تحرم للأبد على الذي لاعنها ولم تلاعنه. فعلى هذا إذا مات أحد الزوجين بعد تمام لعان الزوج أنهما لا يتوارثان، وهو قوله في المدونة إن ماتت المرأة ورثها الزوج وإن مات الزوج ورثته الزوجة إن لم تلاعن. فيأتي على هذا أن الفرقة تجب بتمام لعان الزوج إن التعنت المرأة. فاحفظ أنها مسألة يتحصل فيها ثلاثة أقوال.

فصل والفرقة في اللعان فسخ بغير طلاق، وهي مؤبدة لا يتراجع الزوجان بعده أبدا. هذا مذهب مالك وجميع أصحابه وأكثر أهل العلم. والدليل على ذلك قول

(1/637)


النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للزوج بعد تمام اللعان: «لا سبيل لك إليها؛» لأن ظاهره التأبيد إذ لم يقيد ذلك بشرط يحلها له به "؛ لأن التحريم إذا أطلق من غير تقييد محمول على التأبيد. ألا ترى أن المطلقة ثلاثا لولا قول الله عز وجل فيها {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ، لم تحل له أبدا بظاهر قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} [البقرة: 230] .

فصل فإذا قلنا: إنه فسخ وليس بطلاق فيلزم على هذا إذا لاعنها قبل الدخول لا يكون لها شيء من الصداق لا نصف ولا غيره، وكذلك في كتاب ابن الجلاب، وهو خلال قول مالك في موطئه وخلاف ما في المدونة. ووجه هذا أنا لا نعلم صدق الزوج فلعل الولد منه، وإنما أراد طلاقها وتحريمها باللعان للأبد لئلا يكون عليه صداق. فلما اتهم في ذلك ألزم نصف الصداق. وقد وقع في كتاب ابن الجلاب في الذي يشتري زوجته قبل البناء أنه يجب لها عليه نصف الصداق، وهو خلاف المعروف في المذهب، وقوله في المدونة: إن الملاعنة لا متعة لها صحيح على هذا التعليل، فتعليل سقوط المتعة في اللعان بأنه فسخ وإن الله لم يوجبها إلا على المطلقين أصح من العلة التي عللها في المدونة.

فصل وبتمام اللعان تقع الفرقة بين الزوجين وإن لم يفرق الإمام بينهما. وهذا موضع اختلف فيه أهل العلم اختلافا كثيرا. فمذهب مالك ما ذكرناه، وقال الشافعي: إن الفرقة تقع بتمام لعان الزوج ولا تحل له أبدا. وقال أبو حنيفة وبعض أصحابه: إن الفرقة لا تقع بين الزوجين حتى يفرق الإمام بينهما، فإذا فرق الإمام بينهما لم تحل له حتى يكذب نفسه، فإن كذب نفسه جلد الحد وكان خاطبا من الخطاب. وقيل: إنه إن أكذب نفسه جلد الحد وردت إليه امرأته. وقيل: اللعان

(1/638)


تطليقة بائنة، وهو قول عبيد الله بن الحسن. وقيل: إن اللعان لا ينقص شيئا من العصمة، وهو قول عثمان البتي، وطائفة من أهل البصرة أخذوا ذلك عنه. ولابن نافع في تفسير ابن مزين أنه استحب للملاعن أن يطلق ثلاثا عند الفراق من اللعان من غير أن يأمره الإمام بذلك كما فعل عويمر، فإن لم يفعل أغنى عن ذلك ما مضى من سنة المتلاعنين أنهما لا يتناكحان أبدا. وذهب ابن لبابة إلى أنه إن لم يطلق طلق عليه الإمام ثلاثا ولم يمنعه من مراجعتها من بعد زوج. وقيل: إنه ظاهر الحديث فلا يعدل عنه إلا بكتاب أو سنة أو إجماع. هذا معنى كلامه مختصرا. وقيل: إن فراق اللعان ثلاث تطليقات، وتحل له بعد زوج. ولم أر هذا القول إلا أنه أخبرني بعض أصحابنا أنه في كتاب ابن شعبان.

فصل واللعان يجب في كل نكاح يلحق فيه الولد وإن كان فاسدا أو حراما لا يقران عليه، خلافا لأبي حنيفة وأصحابه.

فصل ولا يكون اللعان إلا عند الإمام في المسجد وبمحضر من الناس؛ لأن اللعان الذي كان في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما كان عنده في المسجد وبمحضر من الناس، وذلك مروي في الأحاديث الصحاح. من ذلك حديث مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في موطئه في ملاعنة العجلاني زوجته. «قال سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .

فصل ويستحب أن يكون اللعان في دبر الصلاة وبعد صلاة العصر؛ لأنه أشد الأوقات في اليمين، لما جاء أن الأيمان بعد صلاة العصر ليس له توبة، وليس ذلك بلازم أعني في دبر الصلاة.

(1/639)


فصل وفي صفة اللعان اختلاف كثير بين أصحاب مالك غيرهم، إلا أنه اختلاف متقارب، فمن أراد الوقوف عليه تأمله في موضعه، وسيأتي الكلام عليه في موضعه من الكتاب.

فصل واختلف فيمن قذف أربع نسوة له في كلمة واحدة، فقال أبو بكر الأبهري: لست أعرفها منصوصة، والذي يجب على مذهبنا أن يلاعن لكل واحدة؛ لأن اللعان بمنزلة الشهادة، ولو أتى بالشهود للزم أن يقيم الشهادة على كل واحدة منهن منفردة. ويحتمل أن يكون يجزئه لعان واحد، قياسا على القذف إذا قذف جماعة في كلمة واحدة، وعلى الظهار إذا ظاهر منهن في كلمة واحدة أنه تجزئه كفارة واحدة. ثم قال وقد حكى الإصطخري عن إسماعيل القاضي أن جماعة ادعت على رجل دينا فحلف لهم يمينا واحدة. فعلى هذا يجب أن يكتفي بلعان واحد لهن كلهن.

(1/640)