المقدمات
الممهدات [كتاب الصرف] [ما جاء في تحريم الربا في
الصرف]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب
الصرف
ما جاء في تحريم الربا في الصرف الربا
في الصرف وفي جميع البيوع وفيما تقرر في الذمة من الدين، حرام محرم بالكتاب
والسنة وإجماع الأمة؛ فأما الكتاب فقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ
الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ، وقوله {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً
وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 130] ؛ لأن قوله
{وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 231] وعيد، والنهي إذا قرن به الوعيد علم أن
المراد به التحريم. وقَوْله تَعَالَى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا
حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} [النساء: 160] {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ
نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161] ، يريد نهي تحريم لأنه عطف على ما نص على
تحريمه، إلا أن الاحتجاج بهذه الآية على تحريم الربا إنما يصح على مذهب من
يرى أن ما أخبر الله تعالى به من شرائع من قبلنا من الأنبياء لازم لنا، إلا
أن يأتي في شرعنا ما ينسخه عنا، وإلى هذا ذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -،
لأنه قد احتج في
(2/5)
موطئه بقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا
عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] ، يريد في
التوراة، وهو الصحيح، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا رقد أحدكم
عن الصلاة أو نسيها ثم فزغ إليها، فليصلها كما كان يصليها في وقتها، فإن
الله تبارك وتعالى يقول: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] »
والخطاب بهذا إنما هو لموسى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وهذا
بين، وقد اختلف في ذلك على أربعة أقوال، أحدها: أنها لازمة لنا جملة من غير
تفصيل، بدليل قول الله عز وجل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ
فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] . (والثاني) أنها غير لازمة لنا
جملة من غير تفصيل أيضا، بدليل قول الله عز وجل: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا
مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] . (والثالث) أنها غير لازمة
لنا إلا شريعة إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لقول الله عز وجل: {ثُمَّ
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}
[النحل: 123] ، وقوله: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] ، أي
الزموها (والرابع) أنها غير لازمة لنا إلا شريعة عيسى - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - لأنها آخر الشرائع المتقدمة، وكل شريعة ناسخة للتي قبلها،
وهذا القول أضعف الأقوال، لأن شريعة عيسى إذا كانت ناسخة لما قبلها من
الشرائع فشريعتنا ناسخة لشريعة عيسى، وهذا بين، والله
(2/6)
أعلم، وقَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي
يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275] ، يقول الله عز
وجل: الذين يربون في تجارتهم في الدنيا لا يقومون في الآخرة من قبورهم إلا
كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، أي يصرعه من الجنون. ويروى: إن
لأكلة الربا علما يعرفون به يوم القيامة أنهم أكلة الربا، يأخذهم خبل يشبه
الخبل الذي يأخذهم في الآخرة بالجنون الذي يكون في الدنيا، ويروى «أن رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حدث عن ليلة الإسراء فكان في
حديثه أنه أتى على سابلة فرعون حيث ينطلق بهم إلى النار يعرضون عليها غدوا
وعشيا، فإذا رأوها قالوا: ربنا لا تقومن الساعة؛ لما يرون من عذاب الله،
قال: وإذا أنا برجال بطونهم كالبيوت، يقومون فيقعون ببطونهم وظهورهم، فيأتي
عليهم آل فرعون فيثردونهم ثردا، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: هؤلاء أكلة
الربا، ثم تلا هذه الآية: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ
إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}
[البقرة: 275] » ، وفي البخاري عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، أنه قال: «رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة
فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم، وعلى وسط النهر رجل بين
يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج، رمى الرجل بحجر
في فيه فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان،
فقلت: ما هذا؟ فقال: الذي رأيت في النهر آكل الربا» .
وأما السنة فمنها ما رواه ابن مسعود أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لعن آكل الربا وموكله
(2/7)
وشاهده وكاتبه» ، وقال: هم سواء، ومن ذلك
تحريمه التفاضل بين الذهبين والورقين. وأن لا يباع من ذلك شيء غائب بناجز،
وما أشبه ذلك كثير. وأما الإجماع فمعلوم من دين الأمة ضرورة أن الربا محرم
في الجملة وإن اختلفوا في تفصيل مسائله وتبيين أحكامه وتعيين شرائطه، على
ما يأتي في مواضعه إن شاء الله، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق وهو الهادي
إلى أقوم طريق.
[فصل في معنى الربا وحكمه]
فصل في معنى الربا، وأصل الربا الزيادة والإضافة، يقال: ربا الشيء يربو:
إذا زاد وعظم، وأربى فلان على فلان: إذا زاد عليه، يربي إرباء، وكان ربا
الجاهلية أن يكون للرجل على الرجل الدين، فإذا حل قال له: أتقضي أم تربي؟
فإن قضاه أخذه، وإلا زاده في الحق وزاده في الأجل، فأنزل الله في ذلك ما
أنزل، فقيل للمربي: مرب، للزيادة التي يستزيدها في دينه لتأخيره به إلى
أجل.
فصل فمن استحل الربا فهو كافر حلال الدم، يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، قال
الله عز وجل: {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ} [البقرة: 275] ، يريد: عاد إلى الربا باستحلاله، لأن الخلود في
النار من صفات الكافرين. وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ
مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] ، أي إن لم تفعلوا وتقبلوا ذلك
وتقروا به، فأذنوا بحرب؛ أي فاعلموا أنكم محاربون من الله ورسوله لأنكم
مشركون.
(2/8)
فصل وأما من باع بيعا أربى فيه غير مستحل
للربا، فعليه العقوبة الموجعة إن لم يعذر بجهل، ويفسخ البيع ما كان قائما،
في قول مالك وجميع أصحابه، والحجة في ذلك «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر السعدين أن يبيعا آنية من المغانم من ذهب أو فضة،
فباعا كل ثلاثة بأربعة عينا، أو كل أربعة بثلاثة عينا، فقال لهما رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أربيتما فردا» .
فصل فإن فات البيع فليس له إلا رأس ماله، قبض الربا أو لم يقبضه، فإن كان
قبضه رده إلى صاحبه، وكذلك من أربى ثم تاب فليس له إلا رأس ماله، وما قبض
من الربا وجب عليه أن يرده إلى من قبضه منه، فإن لم يعلمه تصدق به عليه
لقول الله عز وجل: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ}
[البقرة: 279] الآية. وأما من أسلم وله ربا فإن كان قبضه فهو له، لقول الله
عز وجل: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا
سَلَفَ} [البقرة: 275] ، ولقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «من أسلم على شيء فهو له» ، وأما إن كان الربا لم يقبضه فلا
يحل له أن يأخذه، وهو موضوع عن الذي هو عليه، ولا خلاف في هذا أعلمه لقول
الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا
مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] ، نزلت
هذه الآية في قوم أسلموا ولهم على قوم أموال من ربا كانوا أربوه عليهم،
وكانوا قد اقتضوا بعضه منهم وبقي بعض،
(2/9)
فعفا الله لهم عما كانوا اقتضوه، وحرم
عليهم اقتضاء ما بقي منه، وقيل: نزلت في العباس بن عبد المطلب ورجل من بني
المغيرة، كانا يسلفان في الربا، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا،
فأنزل الله الآية بتحريم اقتضاء ما كان بقي لهما من الربا لم يقتضياه. وقال
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خطبته يوم عرفة في حجة
الوداع: «ألا إن كل ربا كان في الجاهلية فهو موضوع، وأول ربا يوضع ربا
العباس بن عبد المطلب» .
فصل وفي هذا ما يدل على إجازة الربا مع أهل الحرب في دار الحرب على ما ذهب
إليه أبو حنيفة وأبو يوسف، لأن مكة كانت دار حرب وكان بها العباس بن عبد
المطلب مسلما، إما من قبل بدر - على ما ذكره ابن إسحاق من أنه اعتذر إلى
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أسر يوم بدر، وأمره أن
يفتدي، فقال له: إني كنت مسلما ولم أخرج لقتالك إلا كرها، فقال له النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أما ظاهر أمرك فقد كان علينا فافد
نفسك» أو من قبل فتح خيبر - إن لم يصح ما ذكره ابن إسحاق، على ما دل عليه
حديت الحجاج بن علاط من إقراره للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- بالرسالة وتصديقه ما وعده الله به، وقد كان الربا يوم فتح خيبر محرما على
ما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بقلادة
وهو بخيبر من غنائمها فيها ذهب وخرز، فأمر بالذهب الذي في القلادة فنزع
وبيع وحده وقال: الذهب بالذهب وزنا بوزن» . فلما لم يرد رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما كان من رباه بعد إسلامه: إما من قبل بدر،
وإما من قبل فتح خيبر، إلى أن ذهبت الجاهلية بفتح مكة، وإنما وضع منه ما
كان قائما لم يقبض، دل ذلك على إجازته، إذ حكم له بحكم ما كان من الربا قبل
تحريمه، وبحكم الربا بين أهل الذمة والحربيين إذا
(2/10)
أسلموا. وحديث الحجاج بن علاط الذي دل على
أن العباس كان مسلما حين فتح خيبر، وما روى أنس بن مالك عنه أنه قال للنبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين فتح خيبر: إن لي بمكة أهلا
ومالا، وقد أردت أن آتيهم، فإن أذنت لي أن أقول فعلت، فأذن له رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك، فأتى مكة وأشاع بها أن أصحاب
محمد قد استبيحوا، وأني جئت لآخذ مالي فأبتاع من غنائمهم، ففرح بذلك
المشركون واختفى من كان بها من المسلمين، فأرسل العباس بن عبد المطلب غلامه
إلى الحجاج يقول له: ويحك ما جئت به؟ فما وعد الله به ورسوله خير مما جئت
به، فقال له: اقرأ على أبي الفضل السلام وقل له ليخل لي معه بيتا، فإن
الخبر على ما يسره، فلما أتاه الغلام بذلك، قام إليه فقبل ما بين عينيه! ثم
أتاه الحجاج بن علاط فخلا به في بعض بيوته وأخبره أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد فتحت عليه خيبر وجرت فيها سهام المسلمين،
واصطفى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها صفية لنفسه،
وأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أباح له أن يقول ما
شاء ليستخرج ماله، وسأله أن يكتم ذلك عليه ثلاثا حتى يخرج، ففعل، فلما أخبر
بذلك بعد خروجه، فرح المسلمون ورجع ما كان بهم من كآبة على المشركين،
والحمد لله رب العالمين. نقلت الحديث على المعنى واختصرت منه كثيرا لطوله،
وبالله التوفيق.
واحتج الطحاوي لإجازة الربا مع أهل الحرب في دار الحرب بحديث النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما دار قسمت في الجاهلية فهي على
قسم الجاهلية، الحديث» ، وإنما اختلف أهل العلم فيمن أسلم وله ثمن خمر أو
خنزير لم يقبضه: فقال أشهب والمخزومي: هو له حلال سائغ بمنزلة ما لو كان
قبضه، وقال ابن دينار وابن أبي حازم: يسقط الثمن عن الذي هو عليه كالربا،
وأكثر مذاهب أصحابنا على قول أشهب والمخزومي.
(2/11)
فصل وقد اختلف في لفظ الربا الوارد في
القرآن: هل هو من الألفاظ العامة التي يفهم المراد بها وتحمل على عمومها
حتى يأتي ما يخصها، أو من الألفاظ المجملة التي لا يفهم المراد بها من
لفظها وتفتقر في البيان إلى غيرها؟ على قولين، والذي يدل عليه قول عمر بن
الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كان من آخر ما أنزل الله على رسوله آية
الربا، فتوفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يفسرها
لنا، أنها من الألفاظ المجملة المفتقرة إلى البيان والتفسير، ولم يرد عمر
بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بقوله: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توفي قبل أن يفسرها، أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لم يفسر آية الربا ولا بين المراد بها، وإنما أراد - والله
أعلم - أنه لم يعم جميع وجوه الربا بالنص عليها، للعلم الحاصل أنه - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد نص على كثير منها، من ذلك: تحريمه -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التفاضل بين الذهبين والورقين، وأن
يباع من ذلك شيء غائب بناجز، ونهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
عن بيع وسلف، وعن بيع ما ليس عندك، وعن بيعتين في بيعة، وعن بيع الملامسة
والمنابذة، وعن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، وما أشبه ذلك، لأن هذه
الأحاديث تحمل على البيان والتفسير لما أجمل الله في كتابه من ذكر الربا
وما لم ينص عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وجوه الربا،
فإنه أحال فيه على طرق ذلك، أدلة الشرع وبين وجوهها، وما توفي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا بعد أن كمل الدين وبعد أن بين كل ما
بالمسلمين الحاجة إلى بيانه، قال الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] .
(2/12)
فصل ومما يدل على ما تأولنا عليه حديثه،
قوله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنكم تزعمون أنا نعلم أبواب الربا، ولأن
أكون أعلمها أحب إلي من أن يكون لي مثل مصر وكورها، ولكن من ذلك أبواب لا
تخفى على أحد: أن تباع الثمرة وهي معصفة لم تطب، وأن يباع الذهب بالورق
والورق بالذهب نسيئا، فأخبر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن من وجوه الربا ما
هو بين جلي، لنص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليه؛ وباطن
خفي لعدم النص فيه، وتمنى أن تكون جميع وجوه الربا ظاهرة جلية يعلمها بنص
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليها، ولا يفتقر إلى طلب
الأدلة في شيء منها، والله عز وجل لما أراد أن يمتحن عباده ويبتليهم فرق
بين طرق العلم، فجعل منه ظاهرا جليا، وباطنا خفيا؛ ليعلم الباطن الخفي
بالاجتهاد والنظر من الظاهر الجلي، فيرفع بذلك الذين آمنوا والذين أوتوا
العلم درجات، قال الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ
مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ
مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] .
[فصل في أنواع الربا]
فصل والربا على وجهين: ربا في النقد، وربا في النسيئة، فأما الربا في النقد
فلا يكون إلا في الصنف الواحد من نوعين، (أحدهما) : الذهب والورق،
(والثاني) ما كان من الطعام مدخرا مقتاتا أو مصلحا للقوت أصلا للمعاش
غالبا، في قول بعضهم، وأما الربا في النسيئة فيكون في الصنف الواحد وفي
الصنفين، فأما في الصنف الواحد فهو في كل شيء من جميع الأشياء، لا يجوز
واحد باثنين من صنفه
(2/13)
إلى أجل، من جميع الأشياء، طعاما كان أو
غيره، وأما في الصنفين فهو في نوعين: أحدهما الذهب والفضة، (والثاني)
الطعام كله، كان مما لا يدخر، أو مما يدخر
فصل وباب الصرف من أضيق أبواب الربا، فالتخلص من الربا على من كان عمله
الصرف عسير، إلا لمن كان من أهل الورع والمعرفة بما يحل فيه ويحرم منه،
وقليل ما هم؛ ولذلك كان الحسن يقول: إن استسقيت ماء فسقيت من بيت صراف فلا
تشربه، وكان أصبغ يكره أن يستظل بظل الصيرفي، قال ابن حبيب: لأن الغالب
عليهم الربا، وقيل لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أتكره أن يعمل
الرجل بالصرف؟ قال: نعم، إلا أن يكون يتقي الله في ذلك.
فصل ومما بين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وجوه الربا
أن الذهب بالذهب والورق بالورق لا يباع إلا مثلا بمثل يدا بيد، وأن الذهب
بالورق لا يباع إلا يدا بيد، ذكر مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موطئه عن
ابن شهاب، عن مالك بن أوس بن الحدثان النصري، أنه التمس صرفا بمائة دينار،
قال: فدعاني طلحة بن عبيد الله فتراوضنا حتى اصطرف مني وأخذ الذهب يقلبها
في يده، ثم قال: حتى يأتي خازني من الغابة، وعمر بن الخطاب يسمع فقال عمر
بن الخطاب: لا، والله لا تفارقه حتى تأخذ منه، ثم قال: قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء،
والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء، والشعير
بالشعير ربا إلا هاء وهاء» .
فصل فلا يجوز في الصرف ولا في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة مواعدة ولا
(2/14)
خيار ولا كفالة ولا حوالة، ولا يصح، إلا
بالمناجرة الصحيحة، لا يفارق صاحبه وبينه وبينه عمل، قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا
بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها شيئا غائبا بناجز» وقال
عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وإن استنظرك إلى أن يلج بيته فلا
تنظره، إني أخاف عليكم الرماء. والرماء هو الربا.
فصل والنظرة في الصرف تنقسم على ثلاثة أقسام، أحدها: أن ينعقد الصرف بينهما
على أن ينظر أحدهما صاحبه بشيء مما اصطرفا فيه، وإن قل، فهذا إذا وقع فسخ
جميع الصرف باتفاق لانعقاده على فساد. (والثاني) أن ينعقد الصرف بينهما على
المناجزة، ثم يؤخر أحدهما صاحبه بشيء مما اصطرفا فيه، فهذا ينتقض الصرف
فيما وقع فيه التأخير باتفاق، وإن كان درهما انتقض صرف دينار واحد ما بينه
وبين أن يكون الذي وقع فيه التأخير أكثر من صرف دينار، فينتقض صرف دينارين،
كذا أبدا على هذا الترتيب، واختلف هل يجوز من الصرف ما حصلت فيه المناجزة
ولم يقع فيه تأخير أم لا؟ على قولين (أحدهما) : إن ذلك لا يجوز، لأنهما
متهمان على القصد لذلك والعقد عليه، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة، وقول
محمد بن المواز. (والثاني) أن ذلك يجوز ولا يفسخ، وهو قول ابن القاسم في
كتاب ابن المواز. والقسم الثالث أن ينعقد الصرف بينهما على المناجزة فيتأخر
شيء مما وقع الصرف عليه بنسيان أو غلط أو سرقة من
(2/15)
الصراف، أو ما أشبه ذلك مما يغلبان عليه أو
أحدهما؛ فهذا يمضي الصرف فيما وقع فيه التناجز ولا ينتقض باتفاق؛ واختلف هل
ينتقض فيما حصل فيه التأخير إن تجاوز النقصان، مثل أن يصرف منه دينارا
بدراهم، فيجد من الدراهم درهما ناقصا فيقول: أنا أتجاوزه، فلا ينتقض من
الصرف شيء؟ على قولين، (أحدهما) قول ابن القاسم: إن ذلك لا يجوز وينتقض من
الصرف صرف دينار واحد، إلا أن يكون العدد الذي نقص أكثر من صرف دينار،
فينتقض صرف دينارين، كذا أبدا على هذا المثال والترتيب، (والثاني) قول
أشهب: إن الصرف يجوز ولا ينتقض منه شيء إن تجاوز النقصان، كالدانق إذا رضي
به، وقد روي عن ابن القاسم مثل قول أشهب في النقصان اليسير كالدانق
والدانقين، وقاله أصبغ في الدرهم من الألف درهم، وذلك لأن الموازين قد
تختلف في مثل هذا المقدار، وما تختلف عليه الموازين لا اختلاف عندي في جواز
تجاوزه، وليس ما روي عن ابن القاسم في هذا اختلافا من قوله وإنما المعنى في
ذلك أن الدانق والدانقين مرة رأى أن الموازين تختلف عليه، فأجاز التجاوز
عنه، ومرة رأى أن الموازين لا تختلف عليه فلم يجز التجاوز عنه.
فصل وأما إن أراد أن يرجع بالنقصان فيأخذه، فلا يجوز إلا على مذهب من أجاز
البدل في الصرف، ورأى أن الغلبة على التأخير فيه بالنسيان والغلط والسرقة
والتدليس وما أشبه ذلك، لا يبطل الصرف ولا يفسده، فإن وجد فيما صارفه فيه
بعد الافتراق زائفا أبدله، وإن وجد ناقصا أخذه، وإن استحق منه شيء، أخذ
(2/16)
عوضه، وهذا كله على مذهبهم في المجلس ما لم
يفترقا على معرفة ذلك.
فصل فإن قال قائل: وإذا كان التأخير على وجه الغلبة يبطل الصرف عند مالك
ولا يجوز أن يتجاوز النقصان، فكيف جاز أن يتجاوز الزائف وهو كالناقص إذ لم
يصارفه إلا على جياد، فقبضه الزائف كلا قبض؛ فالجواب عن ذلك أن الدنانير
والدراهم في الصرف على مذهب مالك وجمهور أصحابه، إن عينت تعينت، وإن لم
تعين فإنها تتعين إما بالقبض وإما بالمفارقة، فلذلك جاز الرضا بالزيوف،
لوقوع الصرف عليها بتعيينها بأحد الوجهين، وعلى هذا يأتي اختلافهم إذا
استحقت الدراهم ساعة صارفه، هل يلزمه أن يعطيه ما كان عنده صرفه مما بقي في
يده لم يستحق، أم لا يلزمه ذلك، فمن رأى أنها تتعين بالقبض لم يلزمه ذلك،
إلا أن يشاء، فيكون صرفا مستقبلا، ومن رأى أنها لا تتعين إلا بالمفارقة
ألزمه ذلك، بخلاف البيوع التي لا يتعين العين فيها إلا أن يعين، فيتعين على
اختلاف، ومن أجاز البدل، فمذهبه أن الدنانير والدراهم في الصرف لا تتعين
إلا أن تعين وأن الغلبة فيه على التأخير لا تفسد الصرف، وقد تقدم ذكر ذلك.
فصل وقد تقدم أنه لا يجوز في الصرف خيار ولا مواعدة ولا حوالة ولا رهن ولا
كفالة، فأما الخيار فلا اختلاف أن الصرف به فاسد، كانا جميعا بالخيار أو
أحدهما، لعدم المناجزة بينهما بسبب الخيار، وأما المواعدة فتكره، فإن وقع
ذلك وتم الصرف بينهما على المواعدة لم يفسخ عند ابن القاسم، وقال
(2/17)
أصبغ: يفسخ، فلعل قول ابن القاسم إذا لم
يتراوضا على السوم، وإنما قال له: اذهب معي أصرف منك، وقول أصبغ إذا راوضه
على السوم فقال له: اذهب معي أصرف منك ذهبك بكذا وكذا، وأما الحوالة إذا
صرف وأحال على الصراف من يقبض منه، فلا يجوز على مذهب ابن القاسم إلا أن
يقبض هو صرفه ويدفعه إلى من أحاله، وأما إن قبضه المحال، فلا يجوز وإن كان
بحضرته قبل أن يفارقه، بخلاف الوكالة إذا صار، ثم وكل على قبض الدراهم
فقبضها الوكيل بحضرتهما قبل أن يفارقه الذي وكله، جاز، وبخلاف الحوالة برأس
المال في الإقالة من الطعام، وذهب سحنون وأشهب إلى أنه إن قبض المحال قبل
أن يفارقه الذي أحاله بحضرة ذلك، جاز، كالإحالة برأس المال في الإقالة من
الطعام، وكالوكالة إذا قبض الوكيل قبل أن يفترقا، وأما إذا ذهب الموكل أو
المحيل قبل أن يقبض الوكيل أو المحال، فالصرف منتقض لا يجوز في الحوالة
باتفاق، وفي الوكالة على اختلاف؛ لأن أبا زيد روى عن ابن القاسم في الرجلين
يصرفان الدراهم تكون بينهما بدينار من رجل، فيذهب أحدهما ويتخلف الآخر على
قبض الدينار - أن ذلك جائز، ونحوه في سماع أصبغ، إلا أن يفرق بين المسئلتين
بسبب الاشتراك في الدراهم أو الدنانير، وذلك بعيد، لأنه قد ساوى في المدونة
بينهما، وأما الوكالة على قبض رأس المال في الإقالة من الطعام، فإنها تجوز
وإن افترقا إذا قبض الوكيل قبل أن يفارق المسلم إليه، وأما الحمالة فإن
كانت بالدنانير إن استحقت الدراهم أو بالدراهم إن استحقت الدنانير، جاز
ذلك، وإلا لم يجز، وكذلك الرهن، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
(2/18)
|