المقدمات
الممهدات [كتاب السلم]
[القول في السلم وأصل جوازه وتقسيم وجوهه
وتبيين الصحيح منه من الفاسد]
القول في السلم وأصل جوازه وتقسيم وجوهه
وتبيين الصحيح منه من الفاسد السلم- وإن سمي سلما فهو بيع من البيوع، لأن
البيع نقل الملك عن عوض، كما أن المصارفة والمراطلة والمعاوضة والمبادلة
وما أشبه ذلك من الأسماء التي اختصت ببعض البيوع وتعرفت بها دون سائرها -
بيوع كلها في الحقيقة. والأموال التي تنتقل الأملاك فيها بالمعاوضة عليها
على ثلاثة أوجه: عين حاضرة مرئية، وعين غائبة غير مرئية، وسلم ثابت في
الذمة.
فصل فأما العين الحاضرة المرئية فلا اختلاف بين أهل العلم في جواز بيعها،
وأما العين الغائبة فبيعها عندنا على الصفة جائز لازم، خلافا للشافعي في
قوله: إن بيعها على الصفة غير جائز، وخلافا لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى - في قوله بأن ذلك جائز وليس بلازم، وسيأتي القول على هذا في
موضعه من كتاب بيع الغرر، إن شاء الله. وأما السلم الثابت في الذمة، فيجوز
عندنا في كل ما يضبط بالصفة،
(2/19)
ويجوز قرضه على شروط يأتي وصفها، إن شاء
الله تعالى، خلافا لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في قوله: إن
السلم والقرض في الحيوان لا يجوز، ولداود وطائفة من أهل الظاهر في قولهم:
إن السلم فيما عدا المكيل والموزون لا يجوز.
فصل فمن الدليل على صحة قولنا في إجازة السلم في الحيوان والعروض وجميع ما
يضبط بالصفة: أن الله تبارك وتعالى أباح البيع لعباده وأذن لهم فيه إذنا
مطلقا وإباحة عامة في غير ما آية من كتابه، فقال تعالى: {وَأَشْهِدُوا
إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] وقال: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ
مِنْكُمْ} [النساء: 29] ، وقال: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً
تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} [البقرة: 282] ، وقال: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] ، يريد
التجارة هذا معنى الآية: لأنه قد قرئ ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من
ربكم في مواسم الحج، فتحمل هذه القراءة على التفسير، وقال تعالى:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] على أنه
قد اختلف في قول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ
الرِّبَا} [البقرة: 275] ، و {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}
[البقرة: 43] ، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ
إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] ، و {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}
[البقرة: 183] ، هل هي من الألفاظ العامة أو من الألفاظ المجملة؟ فمن أهل
العلم من ذهب إلى أنها كلها مجملة لا يفهم المراد بها من لفظها، وتفتقر في
البيان إلى غيرها، ومنهم من ذهب إلى أنها كلها عامة يجب حملها على عمومها
بحق الظاهر حتى يأتي ما يخصصها، وذهب أبو محمد بن نصر، وهو عبد الوهاب صاحب
الشرح من البغداديين، إلى أنها كلها مجملة إلا قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ
اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ،
(2/20)
فإنها عامة، وهو أظهر الأقوال، فإنما يصح
الاحتجاج بهذه الآية. أعني قوله {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ
الرِّبَا} [البقرة: 275] ، لجواز السلم في الحيوان والعروض على مذهب من ذهب
من العلماء إلى أنها عامة يجب حملها على عمومها في كل بيع إلا ما خصه
الدليل.
فصل وقد خص الله تبارك وتعالى من ذلك بمحكم كتابه البيع في وقت صلاة الجمعة
فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ
يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ}
[الجمعة: 9] ، وخص من ذلك أيضا على لسان نبيه بيوعا كثيرة، من ذلك نهيه -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الغرر، وعن بيع الملامسة
والمنابذة، وبيع حبل حبلة، وعن بيعتين في بيعة، وبيع الحصاة، وبيع العربان،
وبيع حاضر لباد وأن يبيع الرجل على بيع أخيه، وما أشبه ذلك من نواهيه، ولم
ينه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن السلم، فبقي على أصل الإباحة
الواردة في القرآن لعموم الألفاظ، لأنه بيع من البيوع على ما قدمناه، إلا
ما خص منه أيضا بالقياس والسنة والإجماع على ما سنبينه، إن شاء الله.
(2/21)
فصل فالسلم في الحيوان والعروض من جملة ما
بقي على أصل الإباحة إذ لم يخصه بجملته سنة ولا قياس ولا إجماع.
فصل
ومن الدليل أيضا على جواز السلم في الحيوان وما سواه مما يضبط بالصفة ويجوز
فيه القرض، قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]
، فلم يخص دينا من دين بل عم جميع الديون، والحيوان من ذلك لجواز تعلقه
بالذمة، يشهد لذلك استسلاف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
البكر، وقد قال ابن عباس: أشهد أن التسليف المضمون إلى أجل معلوم قد أحله
الله وأذن فيه، أما تقرؤون قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}
[البقرة: 282] فسواء باع طعاما واكتتب ذهبا أو أعطى ذهبا واكتتب طعاما،
قلت: أو ثيابا أو حيوانا، والله أعلم. ومن طريق القياس أن هذا شيء يصح
تعلقه بالذمة مهرا أو قرضا، فجاز تعلقه بها سلما، أصل ذلك الطعام، ثبت «أن
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استقرض الطعام وأنه قدم
المدينة وهم يسلمون في الثمار إلى السنتين والثلاث، فقال: أسلموا في كيل
معلوم ووزن معلوم، إلى أجل معلوم» .
(2/22)
فصل والسلم في مذهب مالك - رَحِمَهُ
اللَّهُ - وأصحابه جائز فيما ينقطع من أيدي الناس وفيما لا ينقطع من
أيديهم، إذا اشترط الأخذ فيما ينقطع من أيديهم في حين وجوده، فإن اشترط
الأخذ في حين عدمه لم يجز، ومن أهل العلم من لا يجيز السلم إلا فيما يكون
موجودا بأيدي الناس من حين عقد السلم إلى حين حلوله، ومنهم من لا يجيز
السلم إلا فيما يكون موجودا بأيدي الناس ولا ينقطع في وقت من الأوقات.
فصل فمن حجة من لا يجيز السلم إلا فيما يكون موجودا من حين عقد السلم إلى
حين حلول أجله، أن المسلم إليه قد يموت فيحل عليه السلم بموته، وربما كان
ذلك في حين انقطاعه فيئول ذلك إلى الغرر، ومن حجة من لا يجيز السلم إلا
فيما لا ينقطع قبل حلول السلم ولا بعده، أن القضاء قد يتأخر لعذر أو لغير
عذر بعد حلول الأجل حتى ينقضي الإبان فيرد إليه رأس ماله، أو يتأخر إلى
العام المقبل - وذلك غرر، وهذا كله لا يلزم، لأن العقود إذا صحت وسلمت من
الغرر، فلا يراعى ما يطرأ عليها بعد ذلك مما لم يقصد إليه، إذ لو روعي ذلك،
لما صح عقد ولا سلم بيع بوجه من الوجوه، بل السلم فيما له إبان على أن
يقتضى في إبانه، أجوز من السلم فيما لا ينقطع من أيدي الناس وإن كانا
جائزين جميعا؛ لأن السلم فيما لا ينقطع من أيدي الناس يحل بموت المسلم
إليه، وحياته إلى أن يحل الأجل غير مأمونة؛ وفي ماله إبان لا يحل بموت
المسلم إليه، وتوقف تركته إلى أن يأتي الإبان فيقضي حقه، وحينئذ يقسم ماله
بين ورثته، لقول الله عز وجل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ
دَيْنٍ} [النساء: 11] ، فهو أقل غررا.
(2/23)
فصل وإنما توقف تركته كلها - إذا خشي أن
يستغرقها ما عليه من السلم، وأما إذا كان السلم يسيرا وماله كثيرا، فإنما
يوقف منه ما يرى أنه يفي بما عليه من السلم، ويقسم بقية ذلك بين ورثته، إلا
على رواية أشهب عن مالك الذي يرى أن القسمة لا تجوز في شيء من المال - وعلى
الميت دين وإن كان يسيرا واستقام الأمر وجاء على العافية. فصل فإن كان عليه
ديون ضرب لصاحب السلم مع الغرماء بما يساوي سلمه بالنقد يوم الإبان على ما
عرف من قيمته بالعادة لا بما يساوي الآن، على أن يقبض في وقته، إلا على
مذهب سحنون القائل: إن صاحب السلم المؤجل يحاص بقيمة سلمه إلى الأجل لا
بقيمته الآن حالا، وهو بعيد.
فصل فإن جاء الإبان، وهو أغلى مما قوم به، لم يكن له على الغرماء رجوع؛ وإن
كان أرخص، لم يكن لهم عليه رجوع في الزيادة ما بينه وبين جميع حقه، فإذا
وجد حقه، فلا يزاد عليه ويرد الفاضل إليهم.
فصل فإذا قلنا: إن السلم فيما له إبان على أن يقبض في إبانه جائز، فإن
انقضى الإبان قبل أن يقبض صاحب السلم جميع سلمه، فلمالك وأصحابه -
رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في ذلك ثلاثة أقوال، القولان منها تتفرع على أربعة
أقوال، ففي جملة المسألة خمسة
(2/24)
أقوال؛ (أحدها) : قول مالك الأول في
المدونة، أن الذي يوجبه الحكم أن يتأخر الذي له السلم إلى عام مقبل، فإن
تراضيا واتفقا على المحاسبة، فعلى قولين، أحدهما أن ذلك لا يجوز لهما، لأنه
يدخله البيع والسلف، وهو قول مالك الأول في المدونة، والثاني أن ذلك جائز،
وهو قول مالك الآخر الذي رجع إليه، وهو قول سحنون: من طلب التأخير منهما
فذلك له، إلا أن يجتمعا على المحاسبة. (والقول الثاني) قول أشهب: إن الذي
يوجبه الحكم المحاسبة وأخذ بقية رأس المال، فإن اتفقا على أن يتأخر الذي له
السلم إلى سنة أخرى فعلى قولين، أحدهما أن ذلك لا يجوز - وهو قول أشهب،
لأنه يدخله فسخ الدين في الدين، والآخر أن ذلك جائز - وهو قول أصبغ، وهو
قول ضعيف لا يحمله القياس؛ فهذه أربعة أقوال يتفرع كل واحد من القولين
المذكورين إلى قولين كما حكيناه، والقول الخامس قول ابن القاسم في المدونة
وكتاب ابن المواز: إن الذي له السلم مخير، إن شاء أن يتأخر إلى سنة مقبلة،
وإن شاء أن يأخذ بقية رأس ماله، وهو قول ضعيف معترض أيضا من الوجه الذي
اعترض به قول أصبغ، وحكى فضل في كتابه أن الذي وقع في المدونة من قوله: من
طلب التأخير منهما فذلك له، إلا أن يجتمعا على المحاسبة، هو قول ابن
القاسم، والصحيح أنه من قول سحنون كما ذكرنا؛ لأن قوله: من طلب التأخير
منهما فذلك له، إلا أن يجتمعا على المحاسبة، لا يتسق مع قول ابن القاسم قبل
ذلك، أنه إن شاء أن يؤخر الذي له السلم إلى إبانه من السنة المقبلة، فذلك
له، بل يتنافى ويتدافع مع ما لابن القاسم مكشوفا في كتاب ابن المواز: أن
الذي له السلم مخير، وكذلك هو في بعض الأمهات من قول سحنون مكشوفا؛ وحكى
ابن حبيب عن مالك أن الذي له السلم مخير مثل قول ابن القاسم، فخلط قولي
مالك وجعلهما قولا واحدا فأفسدهما؛ وحكى فضل أيضا عن سحنون أنهما مجبوران
على
(2/25)
التأخير مثل قول مالك الأول خلاف ما وقع في
المدونة من قوله: من طلب التأخير منهما فذلك له إلا أن يجتمعا على
المحاسبة. وقوله هذا مفسر لقول مالك الذي رجع إليه، وكان من حقه أن يكون
متصلا به، فلو اتصل به لم يكن في المسألة إشكال - والله أعلم وبه التوفيق.
فصل في ذكر شرائط السلم التي لا يصح دونها، وللسلم خمسة شروط لا يصح إلا
بها، أحدها أن يكون مضمونا فيما يجوز ملكه وبيعه (والثاني) أن يكون موصوفا
صفة تحصر المسلم فيه لا يتعذر وجودها (والثالث) أن يكون معلوم القدر بكيل
فيما يكال، أو ذرع فيما يذرع، أو عدد فيما يعد، أو وزن فيما يوزن، أو ما
يقوم مقام الوزن من التحري المعروف (والرابع) أن يكون مؤجلا إلى أجل معلوم،
وفي حده اختلاف سأذكره إن شاء الله (والخامس) أن يعجل دفع رأس المال ولا
يؤخره بشرط فوق ثلاث، فإن وقع السلم على غير هذا لم يجز وفسخ.
فصل فسلم الدنانير والدراهم على هذا جائز في كل شيء من العروض والطعام
والرقيق والحيوان وجميع الأشياء، حاشا أربعة أشياء، أحدها: ما لا يصح
الانتقال به من الدور والأرضين، والثاني ما لا يحاط بصفته مثل تراب المعادن
والجزاف فيما يصح بيعه جزافا. والثالث: ما يتعذر وجوده من الصفة. والرابع:
ما لا يجوز بيعه بحال، نحو تراب الصواغين والخمر والخنزير وجلود الميتات،
وجميع النجاسات، وما أشبه ذلك من الغرر والحرام.
فصل فإن وقع السلم فاسدا، فالذي يتحصل في مسألة الكتاب فيمن أسلم في حنطة
سلما فاسدا، أن فساده إن كان متفقا عليه أو مختلفا فيه ففسخ بحكم جاز
(2/26)
للمسلم أن يأخذ في رأس ماله خلاف الجنس
الذي أسلم فيه، مثل تمر من قمح، وأن يؤخره برأس ماله، وأن يأخذ بعضه ويضع
عنه بعضه باتفاق، ولم يجز له أن يأخذ برأس ماله دنانير إن كان دراهم ولا ما
أشبه ذلك مما لا يجوز له أن يسلم رأس ماله فيه باتفاق أيضا، واختلف هل يجوز
له أن يأخذ منه من جنس سلمه شيئا أم لا؟ على ثلاثة أقوال، (أحدها) أنه لا
يجوز له أن يأخذ منه شيئا من ذلك، لا سمراء من سمراء ولا محمولة من سمراء
ولا قمحا من شعير، وهذا هو ظاهر الكتاب (والثاني) أنه يجوز له أن يأخذ منه
ما شاء من ذلك، وهو قول ابن لبابة (والثالث) أنه يجوز له أن يأخذ منه
محمولة من سمراء وقمحا من شعير، ولا يجوز له أن يأخذ منه محمولة من محمولة
ولا سمراء من سمراء، وهو قول الفضل. وأما إن كان الفساد مختلفا فيه فلا
يجوز له أن يأخذ منه قبل الحكم بالفسخ خلاف الجنس الذي أسلم إليه فيه، ولا
أن يؤخره برأس ماله، ولا أن يأخذ منه بعضه ويضع عنه بعضه، باتفاق، لأن ذلك
كله بيع الطعام قبل أن يستوفى، على قول من يجيزه، فإن أراد أن يأخذ منه
شيئا من جنس سلمه، فعلى الثلاثة الأقوال المذكورة بعد الحكم في الفساد
المتفق على تحريمه، وذهب عبد الحق إلى أن السلم إذا فسخ بالحكم جاز له أن
يأخذ برأس ماله دنانير وهو دراهم، وذلك بعيد غير صحيح، فلا يعد في الخلاف،
وتراضيهما بالفسخ كالحكم بالفسخ عند أشهب، وضعف ذلك ابن المواز.
فصل وإنما لم يجز السلم في الدور والأرضين، لأن السلم لا يجوز إلا بصفة،
ولا بد في صفة الدور والأرضين من ذكر موضعها، وإذا ذكر موضعها تعينت، فصار
السلم فيها كمن ابتاع من رجل دار فلان على أن يتخلصها له منه، وذلك من
الغرر الذي لا يحل ولا يجوز، لأنه لا يدري بكم يتخلصها منه، وربما لم يقدر
على أن يتخلصها منه، ومتى لم يقدر على أن يتخلصها منه رد إليه رأس ماله
فصار مرة بيعا ومرة سلفا وذلك سلف جر نفعا.
(2/27)
فصل وإنما لم يجز السلم فيما يتعذر وجوده
من الصفة، لأنه إن وجدت السلعة على الصفة المشترطة تم البيع؛ وإن لم توجد،
رجع إليه رأس ماله فصار مرة بيعا ومرة سلفا، وذلك أيضا سلف جر منفعة، وإنما
لم يجز السلم فيما لا تحصره الصفة، لأنه غرر وقد «نهى النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الغرر» .
فصل وإنما كان من شروط صحة السلم: أن يكون مضمونا موصوفا معلوم القدر إلى
أجل معلوم، لأنه متى أخل بشيء من ذلك كان من الغرر المنهي عنه في البيوع.
فصل وإنما كان من شروط صحته أن لا يتأخر رأس المال فوق ثلاث «لنهي النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الكالئ بالكالئ وتأخيره ثلاثة
أيام فما دونها بشرط جائز» وقد وقع في المدونة ما ظاهره أنه لا يجوز أن
يتأخر بشرط قليلا ولا كثيرا، والمشهور ما قدمناه أولا، وأما تأخيره فوق
الثلاث بشرط، فذلك لا يجوز باتفاق - كان رأس المال عينا أو عرضا؛ فإن تأخر
فوت الثلاث بغير شرط لم يفسخ إن كان عرضا، واختلف فيه إن كان عينا؛ فعلى ما
في المدونة أن السلم يفسد بذلك ويفسخ، وعلى ما ذهب إليه ابن حبيب أنه لا
يفسخ إلا أن يتأخر فوق الثلاث بشرط.
فصل وقد اختلف قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في حد أقل ما يجوز
إليه السلم من الآجال، فكان يقول أولا: أقل ما يجوز إليه السلم ما ترتفع
فيه الأسواق
(2/28)
وتنخفض، وذلك نحو الخمسة عشر يوما - وهو
قوله في المدونة، ثم أجازه إلى اليومين والثلاثة؛ ووقع اختلاف قوله هذا في
سماع ابن القاسم من جامع البيوع، وذكر الاختلاف عنه في ذلك ابن حبيب أيضا،
وكذلك اختلف في ذلك قول سعيد بن المسيب، فله في المدونة مثل قول مالك
الأول، وفي الواضحة مثل قوله الآخر، وأجاز السلم الحال إذا وقع على ما كان
يقيم منه من أدركناه من الشيوخ - وفيه نظر؛ وما في المدونة أصح، لأن إجازة
السلم الحال أو إلى اليومين ونحوهما من باب بيع ما ليس عندك، وقد روي «أن
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لحكيم بن حزام: يا
حكيم لا تبيعن إلا ما عندك» وقال رجل لسعيد بن المسيب: إني أبيع بالدين؟
قال له: لا تبع إلا ما آويت إلى رحلك.
فصل
وبيع ما ليس عندك ينقسم على ثلاثة أوجه، وجه متفق على جوازه، وهو أن يبيع
بنقد ما ليس عنده إلى أجل ترتفع فيه الأسواق وتنخفض، وهو السلم الذي جوزه
القرآن والسنة، ووجه متفق على كراهيته: وهو أن يبيع بثمن إلى أجل ما ليس
عنده نقدا أو إلى أجل، وشرح هذا الوجه وتفصيله يطول، وسأذكره في كتاب بيوع
الآجال، إن شاء الله. ووجه اختلف فيه فأجيز وكره - وهو أن يبيع ما ليس عنده
نقدا بنقد، ووجه كراهيته: أنه كأنه اشترى منه سلعة فلان على أن يتخلصها
منه، وإن كان هذا أكره، لأن فلانا قد لا يبيع سلعته، ومن أسلم إليه في سلعة
غير معينة حالة عليه، لا يتعذر عليه شراؤها في الأغلب من الحالات؛ وقال
أشهب: وجه الكراهية في ذلك أيضا أنه إذا أعطي دنانير في سلعة إلى يومين
ونحوهما، فكأنه قيل له: خذ هذه الدنانير فاشتر بها سلعة كذا، فما زاد فلك،
وما نقص فعليك، فدخلته المخاطرة والغرر - وإن كان ذلك في السلعة المعينة
أكره منه في غير المعينة، فاختلف فيه أيضا، في السلم الأول من الدونة أن
ذلك لا يجوز، وفي سماع يحيى من جامع
(2/29)
البيوع تخفيف ذلك إذا كان قد قاربه في
بيعها ورجا تمام ذلك، ونحوه في سماع ابن القاسم من كتاب السلم والآجال إذا
كانت البيعتان بالنقد.
فصل وأما حد أبعد آجال السلم، فحد ما يجوز إليه البيع على الاختلاف في ذلك.
فصل وأما تسليم العروض بعضها في بعض، كانت مما يكال أو يوزن، أو مما لا
يكال ولا يوزن، والحيوان بعضه في بعض، فذلك كله جائز في مذهب مالك وجميع
أصحابه إذا اختلفت الأصناف واختلفت المنافع والأغراض في الصنف الواحد، فبان
ألا اختلاف في المذهب في هذه الجملة، وإنما اختلفوا في تفصيلها على ما يأتي
في مسائلهم من الاختلاف في بعض الأشياء: هل هي صنف واحد أو صنفان؟ فرآه
بعضهم صنفا واحدا لتقارب المنافع بينهما عنده، ويراه بعضهم صنفين لتباعد
الأمد بينهما عنده على ما يؤديه الاجتهاد إلى كل واحد منهم.
فصل وإنما لم يجز سلم الصنف في مثله لورود السنة «عن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتحريم ما جر من السلف نفعا» وذلك على عمومه
في العين والعرض والطعام فيمن أسلم سلفا لمنفعة يبتغيها من زيادة في الكيل
أو فضل في الصفة، أو اغتفار الزيادة لابتغاء الضمان، فذلك كله حرام، ذكره
مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موطئه، أنه بلغه أن رجلا أتى عبد الله بن عمر
فقال له: يا أبا عبد الرحمن إني أسلفت رجلا سلفا واشترطت أفضل ما أسلفت،
فقال عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ذلك الربا - الحديث
بطوله.
وقال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: من أسلف سلفا فلا يشترط إلا قضاءه، وقال
عبد الله بن مسعود
(2/30)
: من أسلف سلفا فلا يشترط أفضل منه وإن كان
قبضة من علف، فهو ربا.
فصل
وتفسير ذلك مقيس على الربا المحرم بالقرآن، ربا الجاهلية؛ إما أن تقضي وإما
أن تربي؛ لأن تأخيره بالدين بعد حلوله على أن يربي له فيه سلف جر منفعة،
وإنما يجوز في السلف أن يأخذ أفضل مما أسلفه إذا كان ذلك من غير شرط، كما
«فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين استسلف من رجل
بكرا فقضاه جملا خيارا رباعيا وقال: "إن خيار الناس أحسنهم قضاء» ، وكره
مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أن يأخذ أكثر عددا في القرض في مجلس
القضاء، ولا بأس به بعد المجلس إذا لم يكن وأي ولا عادة، فإذا أسلم الصنف
من العروض والحيوان في مثله أكثر عددا أو أفضل في الصفة، فذلك حرام وربا؛
لأنه قد قرض بزيادة يشترطها في العدد والصفة، وإن كان أسلمه في أقل من عدده
أو أدنى من صفته، فإنما اغتفر كثرة العدد أو أفضل الصفة لابتغاء الضمان،
وذلك كله لا يجوز لنهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن
سلف جر منفعة، حتى إذا اختلفت الصفة اختلافا بينا فتباعدت، أشبهت الصنفين
وخرجت عن معنى القرض إلى البيع الجائز، فجاز أن يسلم بعضها في بعض، لجواز
نفاق كل واحد من الصنفين، وكساده دون الآخر، ولا يجوز ذلك في الصنف الواحد،
فإذا لم يجز ذلك فيه كان المسلم له في مثله على يقين من النفع الذي اشترطه
فلم يجز، بخلاف الصنفين اللذين لا يكون في سلم أحدهما في صاحبه المسلم ولا
المسلم إليه على يقين من النفع الذي يبتغيه، لجواز نفاق كل واحد من الصنفين
دون صاحبه.
فصل وأما تسليم العين بعضه في بعض: الذهب في الفضة أو الفضة في الذهب
(2/31)
أو الذهب في الذهب أو الفضة في الفضة، فذلك
لا يجوز بإجماع أهل العلم، وكذلك الطعام كله بجميع أصنافه. كان مما يكال أو
يوزن، أو مما لا يكال ولا يوزن، كان مما يدخر أو مما لا يدخر، لا يجوز سلم
بعضه في بعض.
فصل وأما السلم في الصناعات فينقسم في مذهب ابن القاسم على أربعة أقسام،
(أحدها) أن لا يشترط المسلم المستعمل - عمل من استعمله، ولا يعين ما يعمل
منه. (والثاني) أن يشترط عمله ويعين ما يعمل منه. (والثالث) أن لا يشترط
عمله ويعين ما يعمل منه. (والرابع) أن يشترط عمله ولا يعين ما يعمل منه؛
فأما الوجه الأول وهو أن لا يشترط عمله ولا يعين ما يعمل منه، فهو سلم على
حكم السلم لا يجوز إلا بوصف العمل وضرب الأجل وتقديم رأس المال؛ وأما الوجه
الثاني وهو أن يشترط عمله ويعين ما يعمله منه، فليس بسلم وإنما هو من باب
البيع والإجارة في الشيء المبيع؛ فإن كان يعرف وجه خروج ذلك الشيء من
العمل، أو تمكن بإعادته للعمل أو عمل غيره من الشيء المعين منه العمل،
فيجوز على أن يشرع في العمل وعلى أن يؤخر الشروع فيه بشرط ما بينه وبين
ثلاثة أيام أو نحو ذلك؛ فإن كان على أن يشرع في العمل، جاز ذلك بشرط تعجيل
النقد وتأخيره، وإن كان على أن يتأخر الشروع في العمل إلى الثلاثة أيام
ونحوها، لم يجز تعجيل النقد بشرط حتى يشرع في العمل؛ وأما الوجه الثالث وهو
أن لا يشرط عمله بعينه ويعين ما يعمل منه، فهو أيضا من باب البيع والإجارة
في المبيع، إلا أنه يجوز على تعجيل العمل وتأخيره إلى نحو ثلاثة أيام
بتعجيل النقد وتأخيره؟ وأما الوجه الرابع وهو أن يشرط عمله ولا يعين ما
يعمل منه، فلا يجوز على حال، لأنه يجتذبه أصلان متناقضان: لزوم النقد لكون
ما يعمل منه مضمونا، وامتناعه لاشتراط عمل المستعمل بعينه.
(2/32)
[فصل في القول
في الربا في العين والطعام وتقسيم وجوه وتبيين علله]
فصل في القول في الربا في العين والطعام وتقسيم وجوهه وتبيين علله، الربا
في بيع الطعام بعضه ببعض والعين بعضه ببعض، على وجهين: ربا في النقد، وربا
في النسيئة؛ فما كان من الطعام صنفا واحدا مدخرا مقتاتا أو مصلحا للقوت
أصلا للمعاش غالبا، فالربا فيه من وجهين، لا يجوز التفاضل فيه يدا بيد، ولا
بيعه بالنسيئة مثلا بمثل ولا متفاضلا؛ كالذهب بالذهب، والورق بالورق، فإذا
اختلف الصنفان من ذلك، جاز التفاضل فيهما يدا بيد، وحرمت فيهما النسيئة،
كالذهب بالورق والورق بالذهب، وكذلك إذا بيع ما يدخر ويقتات، بما لا يدخر
ولا يقتات، أو ما لا يدخر ولا يقتات، بما لا يدخر ولا يقتات، لم يكن الربا
فيه إلا في النسيئة خاصة؛ لأن العلة عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأصحابه
في منع جواز التفاضل في الصنف الواحد، هي أن يكون مطعوما مدخرا مقتاتا أو
مصلحا للقوت؛ وبعضهم يزيد في صفة العلة أصلا للمعاش غالبا على اختلاف بينهم
في مراعاة ذلك؛ والعلة في ذلك عند الشافعي الطعم بانفراده، فحرم التفاضل في
الصنف الواحد من كل ما يؤكل ويشرب. كان مما يدخر أو مما لا يدخر؛ كان مما
يكال أو يوزن، أو مما لا يكال ولا يوزن، حتى حرم التفاضل في السقمونيا
والطين الأرمني، والعلة في ذلك عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - الكيل
والوزن، فلم يجز التفاضل في الصنف الواحد مما يوزن أو يكال، كان مما يؤكل
أو يشرب، أو مما لا يؤكل ولا يشرب ومنع من رطل حديد برطلين حديد - يدا بيد
أو إلى أجل، لأنه مما يوزن، وأجاز تمرة بتمرتين، وجوزة بجوزتين، لأن ذلك
مما لا يكال، إذ لا يتأتى فيه الكيل، وذهب سعيد بن المسيب إلى أنه لا ربا
إلا في ذهب أو فضة، أو مما يوزن ويكال مما يؤكل ويشرب؛ فالعلة عنده في
الربا: الطعم مع الكيل والوزن، وقد روي مثل هذا القول عن الشافعي -
رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قول أبي ثور، فلا بأس عند سعيد بن المسيب
(2/33)
ومن ذهب مذهبه في بيع ما عدا الذهب والفضة،
وما يوزن أو يكال مما يؤكل أو يشرب متفاضلا يدا بيد ونسيئة، اتفق النوعان
أو اختلفا.
فصل وهذه العلة أخذت من طريق النظر والاجتهاد، إذ لم ينص النبي- عَلَيْهِ
السَّلَامُ - على العلة في ذلك، ولا نبه عليها، ولذلك اختلف فيها، فهي
مظنونة غير معلومة ولا مقطوع بها؛ والحكم بها عند من رآها علة بنظره
واجتهاده معلوم مقطوع عليه.
فصل والأصل الذي منه استثار العلماء هذه العلل، هو ما صح الخبر به عن
«النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى عن التفاضل في الصنف
الواحد من ستة أشياء، وهي: الذهب والفضة، والقمح والشعير، والتمر والملح» .
والآثار في ذلك كثيرة موجودة، منها حديث عبادة ابن الصامت وغيره أن رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الذهب بالذهب، والورق
بالورق، والبر بالبر، والشعير بالشعير والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلا
بمثل، يدا بيد؛ فمن زاد أو ازداد فقد أربى، وبيعوا الذهب بالورق كيف شئتم
يدا بيد» وزاد بعض رواة الحديث: «والبر بالشعير كيف شئتم يدا بيد» وبعض
الرواة يقول فيه: «فإذا اختلف الصنفان، فبيعوا كيف شئتم - يدا بيد» . وهو
مذهب عبادة بن الصامت راوي الحديث أن القمح والشعير صنفان، وإلى هذا ذهب
الشافعي وجماعة من أهل العلم، واحتج بعض من ذهب إلى ذلك أيضا بحديث مالك عن
ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحرثان النصري عن عمر بن الخطاب أنه قال: سمعت
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «الذهب بالورق ربا
إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء،
(2/34)
والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء، والشعير
بالشعير ربا إلا هاء وهاء» . ففصل بين البر والشعير بواو فاصلة كما فصل بين
البر والتمر.
فصل والذي ذهب إليه مالك وجميع أصحابه أن البر والشعير صنف واحد على ما روى
في موطئه عن سعد بن أبي وقاص، ومعيقب الدوسي، لأن قوله في حديث عبادة بن
الصامت: «وبيعوا البر بالشعير كيف شئتم» - زيادة لم يتفق عليها جميع رواته،
فيحتمل أن يكون ذلك من قول الراوي قياسا على قول النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإذا اختلف الصنفان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد» .
فصل فقاس مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - على القمح والشعير المذكورين في الحديث
ما كان في معناهما من جميع الحبوب والطعام المقتات المدخر، وقاس على التمر
ما كان في معناه من الطعام المدخر الذي يتفكه به في بعض الأحوال ويتقوت به
في بعض الأحوال كالزبيب والجوز واللوز وما أشبه ذلك، وقاس على الملح
المذكور في الحديث ما كان في معناه من الطعام المدخر لإصلاح القوت،
كالتوابل والبصل والثوم وما أشبه ذلك.
فصل وأما الذهب والفضة فلم يقس عليهما شيئا من العروض التي تكال أو توزن،
لأن العلة عنده في منع التفاضل في كل واحد منهما، هي أنهما أثمان للأشياء
وقيم للمتلفات، فهي علة واقفة لا تتعدى إلى ما سواهما. وكذلك الشافعي لم
يقس على الذهب والورق شيئا من العروض المكيلة والموزونة، وقاس على البر
والشعير والتمر والملح - جميع الطعام - كان مدخرا مقتاتا أو لم يكن، لأنه
رأى العلة في
(2/35)
المنع من التفاضل في ذلك، هو الطعم
بانفراده؛ وأما أبو حنيفة وأصحابه، فقاسوا على البر والشعير والتمر والملح
- جميع ما يكال من الطعام والعروض، لأن ذلك كله يجمعه الكيل، وهي العلة
عنده في منع التفاضل في ذلك؛ وقاسوا على الذهب والفضة جميع ما يوزن من
الطعام والعروض، لأن ذلك كله يجمعه الوزن، وهي العلة عنده في منع التفاضل
في ذلك.
فصل والقياس على الذهب والفضة لا يصح، لأنهم قد أجمعوا أنه لا بأس أن يشترى
بالذهب والفضة جميع الأشياء التي تكال أو توزن يدا بيد ونسيئة، فيلزم من
قياس الحديد والرصاص وما أشبه ذلك مما يوزن على الذهب والفضة، كما قاس ما
يكال من الطعام على البر والشعير والتمر والملح، أن لا يجيز شراء الحديد
والرصاص بالذهب والفضة نسيئة، كما لا يجيز شراء الحمص والعدس بالقمح
والشعير نسيئة، وقد أجمع الناس على إجازة ذلك، وقاس سعيد بن المسيب على
القمح والشعير والتمر والملح المذكور في الحديث المكيل والموزون من الطعام
خاصة، وشذ داود وأهل الظاهر فلم يروا الربا إلا في أربعة أشياء التي نص
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليها، واحتجوا لإجازة
التفاضل فيما سوى ذلك بعموم قول الله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ
وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] .
فصل فالطعام على مذهب مالك وأصحابه - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -
ينقسم على أربعة أقسام: طعام يدخر ويقتات به أو يصلح القوت. وهو أصل للمعاش
غالبا، وطعام يدخر ويقتات به أو يصلح القوت وليس بأصل للمعاش غالبا، وطعام
يدخر نادرا، وطعام لا يدخر أصلا، فأما ما يدخر ويقتات، أو يصلح القوت وهو
أصل للمعاش غالبا، فإن التفاضل في الصنف الواحد منه لا يجوز باتفاق في
المذهب، وأما ما يدخر ويقتات به وليس بأصل للمعاش غالبا مثل الجوز واللوز
والجلوز
(2/36)
وما أشبه ذلك، فاختلف قول مالك - رَحِمَهُ
اللَّهُ - وأصحابه في إجازة التفاضل في الصنف الواحد منه.
فصل وعلى هذا الاختلاف اختلف المعللون في تحرير العلة، فزاد في صفة علة
الربا أصلا للمعاش غالبا من أجاز التفاضل في ذلك، وكان شيخنا الفقيه ابن
رزق - رَحِمَهُ اللَّهُ - يذهب إلى أن ذلك المذهب في المدونة، وليس ذلك
عندي ببين منها، واقتصر في صفة العلة على قوله: مطعوما مدخرا مقتاتا، ولم
يزد فيه: أصلا للمعاش غالبا، من منع التفاضل في ذلك، وهو نص قول مالك -
رَحِمَهُ اللَّهُ - في موطئه، وقول ابن حبيب في الواضحة، وهو الظاهر عندي
من المدونة، وعلى هذا المعنى يأتي اختلاف قول مالك في إجازة التفاضل في
البيض، والاختلاف في إجازة التفاضل في التين، لأنهما يدخران وليسا بأصل
للمعاش غالبا، وأما ما كان من الأطعمة يدخر نادرا، فالتفاضل في الصنف
الواحد منه جائز على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأكثر أصحابه، كالخوخ
والكمثرى وما أشبه ذلك؛ وأما ما كان منهما لا يدخر أصلا، فالتفاضل في الصنف
الواحد منه جائز على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه.
فصل وأما بيع الطعام بالطعام نسيئة، أو بيعه قبل استيفائه، فلا يجوز بحال،
اتفقت أصنافه أو اختلفت، كان مما يدخر أو مما لا يدخر، والله ولي التوفيق
برحمته.
(2/37)
|